بين أهل الجيل والديلم وطبرستان الأشداء، وفي تلك المناطق الواقعة جنوبي بحر قزوين، والتي جعلتها الجبال مناطق معزولة، استقر الكثير من العلويين الهاربين من بطش بني العباس وجورهم، فنشروا الإسلام ومذهب آل البيت عليهم السلام، وأقاموا دولة طبرستان الطالبية، العلوية، الزيدية، التي كان لها شأن كبير في نشر الإسلام في تلك المناطق، حيث دامت الدولة حوالي مائتي سنة، ونشرت الإسلام في بلاد كثيرة، وبنت المساجد، وأقامت حلقات العلم، وتوجهت للإصلاح الشامل، فأشاعت العدل، وقضت على الظلم، وكانت مأوى لكل طالب حق وطالب علم، وهاجر إليها العشرات من الطالبيين وغيرهم.
وفي القرن الرابع الهجري، كان من أقطاب علماء الزيدية هناك مسند الآل أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن الحسن الحسني، الذي جمع إسناد أهل اليمن وإسناد أهل الجيل والديلم، وورث علم الهادي، وعلم الناصر الاطروش، وكان من تلامذته الإمامين الشهيرين، العلمين، صاحبي المؤلفات الغزيرة، الأخوين المؤيد بالله أحمد بن الحسين بن هارون، وأبي طالب الناطق بالحق يحيى بن الحسين بن هارون الهاروني.
يأتي بعدهما في العلم والشهرة الإمام الموفق بالله أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل، مؤلف كتاب الاعتبار وسلوة العارفين، وعشرات العلماء من أصحابهم، وتلاميذهم، الذين أحالوا تلك البلاد قبلة لطلاب العلم، والأدب، والفضائل، وكانوا من أئمة العلم والعمل، وفرسان الرواية، وطلاَّب الحق، والفضيلة، خلفوا تراثاً عظيماً في كل فنون العلم، وكانت لهم الزعامة السياسية، والدينية، والمواقف التاريخية المشرفة في الذبِّ عن الدين، والدفاع عن المستضعفين.
نسبه
هو الإمام الموفق بالله أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل بن زيد بن الحسن بن جعفر بن الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الرحمن الشجري بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، عُرف بالشجري، والجرجاني، والموفق بالله، يلتقي مع الإمامين الأخوين المؤيد بالله وأبي طالب عند القاسم بن الحسن بن زيد.
مولده ونشأته
لم تحدثنا المصادر كثيراً عن مولده ونشأته، وأغلب الظن أنه من مواليد النصف الأول من القرن الرابع الهجري ، فمن مشائخه الذين روى عنهم، إسماعيل بن العباس بن الوراق المتوفى سنة 333هـ، كما أن من أقرانه، الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين، والإمام الناطق بالحق يحيى بن الحسين، المولودين تباعاً سنة 333 هـ و 340 هـ، ونشأ في جرجان، وتربى في أحضان أسرة علوية كريمة، تقدِّس العلم، وتعشق مكارم الأخلاق، تحت رعاية أبوين كريمين، كانا أول من أرضعاه التقوى، وغذياه بالفضائل، وأنشآه في كنف العلم، والحكمة، والتقوى، فطلب العلم من صباه، وما أن بلغ سن الرشد، ومرحلة الشباب، حتى أصبح ممن يشار إليهم بالبنان في ميدان العلم، والمعرفة، وقرأ في شتَّى فنون العلم، فأحاط بعلم الكلام، وأحتوى فرائده، ودرره، وقرأ الفقه، وأصوله، والعربية، وعلومها، والأدب، والتأريخ، وجمع بين العلم، والفضل، والورع، والزهد، والتقوى، والعبادة، والاجتهاد، وصحب العلماء والفضلاء، ولعله ممن جاهد مع الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني وأخيه الإمام أبي طالب.
علمه
قال الإمام عبد الله بن حمزة في الشافي 2/330 ، عن أتباع الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني: فقد كان من جملة أتباعه الإمام الموفق بالله أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل الحسني الجرجاني، وسُئل أبو عتاب السندي، وهو من كبار أهل العلم، عن الموفق بالله وعلمه، فقال: هو أفقه من القاسم بن إبراهيم، فما ظنك بمتبوع يكون تابعه بهذه المنزلة، قلت: ولمعرفة فقه القاسم بن إبراهيم، روى السيد أبو طالب في كتاب الإفادة عن أبي العباس الحسني بسنده إلى جعفر بن حرب، أنه دخل على القاسم بن إبراهيم فجاراه في دقائق علم الكلام فلمَّا خرج من عنده، قال لأصحابه: أين كنا عن هذا الرجل، فو الله ما رأيت مثله، ومن أحب أن يعلم براعته في الفقه، ودقة نظره في طرق الاجتهاد، وحسن غوصه في انتزاع الفروع، وترتيب الأخبار، ومعرفته باختلاف العلماء، فلينظر في أجوبته عن المسائل التي سُئِل عنها، نحو مسائل جعفر بن محمد النيروسي، وعبد الله بن الحسن الكلاري، ومضى يعدد مؤلفات القاسم بن إبراهيم. انظر الشافي 1/262 .
وفي نسخة كتاب الاعتبار الخطية (ج) قال في مناقب البستي، المسماة بالمراتب في سياق ما خص الله سبحانه علياً عليه السلام من الذرية الطيبة: (ونحن عندنا في من يعد في الشباب من ولد الحسين بن علي، وهو في النحو والآداب بارع، وهو في الشعر مقدم، وفي الخطب في أعلى رتبه، وفي الكتابة والخطابة ممن يذكر بالبلاغة والفصاحة، ثم هو في علم الكلام وأصول الدين أعلم من كل متجرد، وللفقه من علماء الأمة وفقهائها المحققين، ثم هو أعلم بأصول الفقه منهم، ثم قرأ فقه الشافعي على الشافعية، وفقه أبي حنيفة على أصحاب أبي حنيفة، وعلق كل فقه على حده، ثم أحاط علماً بألفاظ الأئمة، وسادات العترة، في فروع الشريعة، ومن أحب أن يعلم محله، فلينظر في مؤلفاته، حتى يعلم مصداق ما نقول، وهو السيد الجليل أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل الجرجاني) نفس هذا الكلام، قاله الإمام عبد الله بن حمزة، في الشافي 1/337، قال: (بلغ في علم الأدب من النحو، واللغة، ما لم يبلغه أحد من أهل عصره، وفي الشعر مقدم، وفي الخطب في أعلى رتبه، وفي الكتابة والرسائل في أرفع درجة، ثم هو في علم الكلام وأصول الدين في النهاية، وله في أصول الفقه البسطة الواسعة، وكان عليه السلام أعلم بفقه الحنفية والشافعية والمالكية من فقهائهم المحققين، ولا ينازعونه في ذلك، ومصنفاته شاهدة بذلك، وهي مشهورة). ومثل ذلك قيل في التحف شرح الزلف ص92 وفي طبقات الزيدية.
مؤلفاته
1- كتاب (الإحاطة) يدل على تبحر في أصول الدين، ومسائل الاعتقاد، وامتلاك لعلم الكلام، وقدرة على إيراد الأدلة على الخالق، ووحدانيته، وعلى النبوة، وغير ذلك مما يتعلق بعلم الكلام، وهو كتاب كبير في عدة أجزاء، رأيت منه جزءاً في مجلد مخطوط مصور، بمكتبة السيد محمد بن عبد العظيم الهادي، بضحيان-صعدة.
2- كتاب (الاعتبار وسلوة العارفين).
مشائخه
هذه قائمة بأهم مشائخه في كتاب الاعتبار وسلوة العارفين، تدل على سعة أفقه، وتنوع مصادره وهم:
1- أبو حاتم، أحمد بن الحسن، وهو الواسطة بينه وبين الشريف زيد بن عبد الله بن مسعود الهاشمي، المعروف بالشريف السيلقي، صاحب الأربعين حديث المعروفة بالسيلقية.
2- أبو حذيفة، أحمد بن سعيد، روى بواسطته عن نصر بن داوود .
3- أحمد بن عبد الله البزار.
4- إسماعيل بن العباس بن عمر بن مهران الوراق ( 240 – 333)
5- أبو الحسن، علي بن محمد بن أحمد، روى عنه الكثير عن الحسن بن عبد الله بن سعيد أبي أحمد العسكري، الشهير صاحب المؤلفات المشهورة، وكما يروي أبو الحسن هذا عن علي بن محمد بن طاهر. وابن منيع، والحسن بن علي بن عاصم، وعن أبيه، وعن ابن الليث، وعن يحيى بن جعفر النسائي، وعن محمد بن يزداد، ومحمد بن داوود الوراق، وغيرهم.
6- أبو محمد، عبد الملك بن أحمد بن يحيى الجرجرائي، وكان الواسطة بينه وبين أبي بكر محمد بن أحمد بن المفيد الجرجرائي.
7- أبو الحسن، الحسن بن علي بن محمد الجوهري، وكان الواسطة بينه وبين الحافظ الشهير محمد بن أبي بكر الجعابي، المتوفى سنة 355هـ.
8- أبو الحسين، الحسن بن علي بن محمد بن جعفر الوبري، روى المؤلف الكثير عنه عن الجعابي .
9- أبو الحسن، علي بن أحمد عن أبي أحمد الحسن بن عبد الله العسكري، ولعله علي بن أحمد بن الحسن البصري، المعروف بالنعيمي .
10- أبو علي، عبد الرحمن بن محمد بن فضالة النيسابوري، ويروي عن أبي بكر أحمد بن محمد بن إسماعيل عن مكحول بن الفضل النسفي .
11- والده أبو حرب، إسماعيل بن زيد الحسني، روى عنه عن أبي محمد الحسين بن زيد بن صالح الحسني الزيدي.
12- ابن عفير، لعله أبو طالب، عبد الله بن الحسين بن محمد الأنصاري، ولعله الحسين بن محمد بن عفير الأنصاري، ويروي عن محمد بن عاصم وعن ابن منيع .
13- أبو صالح، محمد بن الحسن بن المهلب الأصبهاني .
14- أبو محمد، الحسن بن الحسن بن زيد بن صالح عن أبي بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي الجرجاني .
15- أبو بكر محمد بن القاسم بن محمد بن بشار الأنباري، يروي عن محمد بن يونس .
16- الحسن بن محمد، عن أحمد بن علي بن محمد.
17- عبد الله بن أحمد، عن عثمان بن أبي شيبه .
18- عبد الله بن أحمد بن موسى بن زياد العسكري عبدان، عن يحيى بن المغيرة.
19- أبو القاسم، عبد الواحد بن أحمد بن عبد الله الكرماني، عن أبي أحمد العسكري .
20- أبو جعفر، محمد بن الحسن، عن علي بن محمد، عن أبي الحسين محمد بن يحيى عن يحيى بن الحسين .
21- أبو جعفر، محمد بن القاسم الحسني النسابة، عن محمد عبد الحميد الطبري، وعلي بن محمد بن مهدي الطبري، ومحمد بن عبد الله الروياني، عن الإمام الناصر الأطروش.
22- الإمام الناطق بالحق يحيى بن الحسين بن هارون، أخبره إجازة عن مشائخ.
23- قاضي القضاه عبد الجبار بن أحمد، ذكر روايته عنه في طبقات الزيدية.
تلاميذه
1- ولده الإمام المرشد بالله يحيى بن الحسين الهاروني، مؤلف الأمالي الإثنينية والخميسية، ومؤلف سيرة الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني، وقد صرح بروايته عن أبيه في أماليه .
2- الشيخ الإمام الزاهد الحسن بن علي بن إسحاق الفرزادي، لعله المترجم في أعيان الشيعة باسم أبو علي، الحسن بن علي بن أبي طالب الفرزادي هموسه، قال: (ذكره في الرياض وكان من مشائخ منتجب الدين بن بابويه، صاحب الفهرست، ويروي عنه قراءة عليه، وهو يروي عن السيد المرشد بالله أبي الحسين يحيى بن الحسين بن إسماعيل الحسني الحافظ، كما يظهر من إسناد بعض أحاديثه في كتاب الأربعين، قال: ولكنه لم يورد له ترجمة في كتاب الفهرس، وهو غريب، ولذلك قد يظن كونه من مشائخ العامة، وإن كان الراوي عنه والمروي عنه من الخاصة) .(1/11)
وفاته
لم يؤرخ أحد وفاته، كما لم يؤرخ مولده، ويظهر أنه عاش النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، وشطراً من النصف الأول من القرن الخامس الهجري، فقد كان مولد ولده الإمام المرشد بالله يحيى بن الحسين سنة 412هـ، وصرح بالسماع من والده، فيحتمل أنه سمع عليه بعد العشر تقريباً، فتكون وفاته بعد العشرين والأربعمائة تقريباً.
المصدر: مقدمة محقق كتاب الاعتبار وسلوة العارفين للمؤلف (بتصرف)
الكتب المتوفرة: