
أ / عبد الله حميد الدين
قراءة سير الصالحين عادة من العادات الحميدة التي حث عليها كتاب الله تعالى {فبهداهم اقتده} ففي سلوكهم برهان ساطع ودليل قاطع على أن ما جاء به الوحي من عظيم الوصايا وجليل الارشاد يمكن أن يتجسد في واقع البشر وفي حياة وسلوك الإنسان المجبول على الضعف والغفلة.
وقد وضِعت في ذلك كتب كثيرة فصلت في صلاتهم وقيامهم وصيامهم وحجهم وبكائهم وخشيتهم لله تعالى وتصدقهم وزهدهم وتحريهم طاعة الله تعالى وحذرهم من معصيته وصبرهم على البلاء وشكرهم على النعم وغير ذلك من الأعمال. ونحن إذ نقرأ عن تلك الأعمال نطمح كثيراً أن نعمل مثل ما عملوا.
ومما يلاحظ هو أننا إذ نهتم بتلك الأعمال وتفاصيل كيفياتها ودقائق حيثياتها، فإننا نهمل إلى حد كبير النظر إلى طريقة التفكير لديهم، والتي هي الدافع الأساسي من وراء تلك الأعمال. وعليه فإننا نجد أن في أدبيات الوعظ والإرشاد وكتب السير والتراجم والطبقات الإكثار من ذكر المواقف والأعمال النبيلة والسامية والصعبة التي مارسها الصالحون على حساب التنبيه على الأسس المعرفية والفكرية التي تستند عليها تلك الأعمال .
ومعلوم أن العمل التام إنما يكون انعكاساً صادقاً وأميناً للقناعات الفكرية وبقدر ما يكون العمل كذلك بقدر ما نقول عنه: إنه عمل ذو معنى، بخلاف العمل الذي نقول عنه: إنه لا معنى له، وهو العمل الذي يخالف ظاهره باطنه، أو هو العمل التام في شكله ولكنه انعكاس لفكرة باهتة أو مشوشة. وهذا الأخير هو ما يعنينا هنا. فنحن إذ نقتدي بأعمال الصالحين دونما الاقتداء بأفكارهم نصدر أعمالاً قد تكون تامة في مظهرها، ولكنها ناقصة كثيراً في مضمونها، وهذا له آثار سلبية على الواقع الاجتماعي، وأكثر من ذلك على عملية التربية الروحية وتأسيس العلاقة العميقة بالله جل وعلا.
وقد عبر عن ما سبق، وأكثر، المصطفى صلوات الله عليه وعلى أهل بيته في قوله: ((إنما الأعمال بالنيات)).
وإضافة إلى كون الاقتداء بأفعال الصالحين بغير معرفة وقناعة بصحة وتبن للأسس الفكرية لتلك الأفعال يؤدي إلى فقدان تلك الأعمال لمعناها التام، ويحول الفعل إلى شكل لا معنى له وجسداً لا روح له، إضافة لذلك فإنه أيضاً يصعِّب الاستمرار على الفعل. إذ إن الاستمرار سيعتمد على نوع من الاكراه الذاتي بسبب ضعف الأسس الفكرية التي يستند عليها الفعل، إلى أن يضجر المرء من الفعل أو يعتاد عليه.
ثم إن هذه الممارسة في العبادات ترسخ لظاهرة اجتماعية سلبية، وهي التركيز على ظواهر الأعمال وحجمها وقدرها دون النظر في مضامينها وما ورائها. ولعل سبب وجود مثل هذا في الواقع الإسلامي يعود إلى عقلية التقليد التي سادت طويلاً، فأصل التقليد هو أخذ النتائج دون النظر في المقدمات، وهذا كما قد يكون في الآراء فإنه كذلك في الأفعال.
فالمقصود أن علينا أن نولي اهتماماً كبيراً بطرائق التفكير ودوافع السلوك التي ينطلق منها الصالحون ، لأن أعمالهم هي نتيجة لطريقة تفكيرهم، ولذلك فالاقتداء بهم ينبغي أن يبدأ من معرفة طريقة التفكير لديهم، ثم الاقتداء بها عن تفكر وتدبر وقناعة. وبخلاف الفعل الذي يتبع تقليداً، من دون نظر إلى أسسه فإن الفعل الذي نشأ تعبيراً عن معنى معين وقناعة محددة تكون له فائدة مزدوجة:
• فهو من ناحية تجسيد عملي لحالة فكرية نفسية.
• من ناحية أخرى فإن ممارسة الفعل الذي شأنه مثل هذا سيكون أخف بكثير من ممارسة الفعل تقليداً حيث إن الجهد النفسي المرافق لأي فعل سيكون أقل بكثير من الحالة الأولى.
والكلام السابق يفترض ضمناً التسليم بأن السلوك إلى الله تعالى يستند على التفكير مثله مثل أي فعل آخر. وأن الأعمال الظاهرة أو الباطنة هي انعكاس لحالة فكرية معينة عن الله تعالى والإنسان. وأن تلك الحالة الفكرية يمكن تحصيلها من أي إنسان بإعمال العقل في الوجود مسترشداً بدلالات القرآن الكريم التي بينت وميزت الصراط إلى الله عن السبل المتعددة التي تذهب بالمرء يميناً وشمالاً. وأن بداية السلوك إلى الله تعالى إنما تكون من العقل والفكر، ثم يواكبها العمل الذي يوازي تلك القناعة العقلي، والذي يرسخ تلك القناعة العقلية، ففرق بين بين أن أعلم الشيء وبين أن أعيشه. ثم يعود العقل ليعمل أكثر، ويستظهر المزيد عن عظمة الله جل وعلا وتتكشف له حقائق ضعفه وعجزه هو الإنسان، لينعكس عن هذا سلوك وعمل آخر، وهكذا دواليك. فكرة فعمل، ففكرة فعمل.
ولكن إذا اعتبرنا أن السلوك إلى الله عملية تبدأ بمعرفة وقناعة إجماليتين، مصدرها التلقين وليس إعمال العقل، ويتبعها سلوك محدد ضمن إطاري تصفية الباطن والظاهر، وتحليتهما بالملكات والأعمال الفاضلة، وضمن تصاعد متدرج، بحيث تكون عمليتي التصفية والتحلية هما الأساس في التقرب إلى الله تعالى، وهما مفتاح المزيد من المعارف الإلهية التي تأتي على الإنسان فيضاً أو إلهاماً، إذا اعتبرنا ذلك فإن الاقتداء بأفعال الأولياء بغير معرفة أصولها الفكرية سيكون له مسوغاً. وسيكون مهماً لنا أن نعرف قدر ما استطاعوا أن يعملوه لنستلهم من ذلك العزائم لنصل إلى ما وصلوا إليه. وسيكون الكلام السابق لغواً.
ولكنني هنا أذهب إلى الرؤية الأولى وهي أن عبادة الله تتأسس على العقل والتفكير، بل أكثر من هذا، فيُذهب إلى إن أبرز وأجلى مظاهرها إنما هي مظاهر عقلية، وأن جميع المظاهر السلوكية تأتي في درجة بعيدة للغاية عنها. فأبرز وأهم عناصر العلاقة مع الله تعالى نحو خشيته، وتسبيحه، وحمده، والشهادة له بالأحدية وقيامه بالقسط، كلها مظاهر عقلية لعبادة الله تعالى. فالخشية انفعال ناشيء عن العلم بجلال الله وفقر الإنسان.
والتسبيح والتحميد ترديد لساني معبر عن علم بما لله تعالى من الكمالات، وما يتنزه عنه من النقائص. وكذلك الشهادة، تلفظ منعكس عن قناعة فكرية محددة هي أن الله تعالى واحد أحد في ذاته، وقائم بالقسط في تعامله مع خلقه.
وقد جاء في الآثار " أن تفكر ساعة خير من عبادة سنة " ولهذا ما يؤيده من العقل والتجربة . فأن أعرف أكثر أهم من أن أعمل أكثر. ورد أن عبادة العالم خير من عبادة الجاهل. إذ ركعتين من عالم يكون لها المضمون الأساسي الذي بسببه أصلاً شرعت الصلاة وغيرها من العبادات. وإذا أخذنا عبادة سيد الأولين والأخرين الرسول الخاتم صلوات الله عليه وعلى آله فإننا سنجد أنفسنا أمام عبادة قليلها خير من عبادة الجن والإنس. وعبادة النبي لم تتقدم على عبادة غيره من حيث كميتها وإنما من حيث مضمونها حيث إنها كانت عبادة عالم بالله تعالى عارف به. ويمكن أن نتصور عباداً فاقوا النبي صلوات الله عليه وعدد الركعات اليومية، أو الصيام، أو الحج، أو الصدقة والزكاة، ولكن لا يمكن أن تصدر تلك الأعمال عن فكر كفكر النبي صلى الله عليه.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن العالم الذي عبادته خير من الجاهل، وأيضاً أولوا العلم الذين شهدوا لله تعالى، هم ليسوا فقط الفقهاء والمجتهدين وعلماء أصول الفقه. بل كم من فقيه مجتهد فحل في الأصول وغيرها من علوم الشريعة وهو يجهل تلك القضايا. وبالتالي فإن العلم الذي به صار أولو العلم، ليس الفقه، فالفقه من أوله إلى آخره لا يقدم علماً بالله تعالى، ولا يعزز علاقة مع الله تعالى، ولا يقوي الخشية منه تعالى، إذ هو في آخر الأمر مواد قانونية لا أكثر ولا أقل. وليس هذا تقليلا من شأنه، ولا من أهميته، ولا من فضل وأجر العاملين فيه وبه، ولا أنكر أنه قد ورد في طلب العلم الشرعي فضل خاص، ولكن هذا أمر، وأن نجعل ذلك العلم مرادفاً أو جزءاً للعلم الشرعي الفقهي أمر غير دقيق.
إن أولو العلم أولئك هم كل من أعمل عقله في الوجود، باختلاف التخصصات العلمية التي ينتمون إليها، والمشترك بينهم كلهم هو العقل، والتميز بينهم إنما في القدرة إلى إعماله، وعلى الاسترشاد بالقرآن الكريم في ذلك.
وهنا لا أريد أن يُظن أنني أنكر دور الالهام الرباني، ولكن الإلهام إما فكرة، وإما ترسيخ لفكرة، وتعميق لها. فإذا كان فكرة، فلا بد من أن يكون لتلك الفكرة مستنداً عقلياً تُقيم وفقه، وإلا لما تميزت عن الوسوسة أو الخاطر. وإذا كان الإلهام ترسيخ لفكرة وتعميق لأثرها فهي ليست علماً لأنها لا تضيف معلومة، وإنما هي رحمة إلهية زادت بها شدة تمثل الفكرة في نفس وقلب المرء.
ثم إن المعارف عموماً قسمين: معارف نظرية، وأخرى عملية. المعارف النظرية هي مجموعة افكار تعكس للواقع كما هو. وأما المعارف العملية فهي أفكار تُشكِّل للواقع وفق تصور معين. الأولى وصفية ووالأخرى معيارية. الأولى يعبر عنها بجمل خبرية نحو: "أ" هو "ب"، والأخرى بجمل إنشائية نحو: يجب على "أ" أن يكون "ب". النظرية معرفة ما هو كائن، والعملية معرفة الواقع كما ينبغي أن يكون.
وكذلك فالمعارف التي نستند عليها في علاقتنا بالله جل وعلا على القسمين السابقين. وبقسميها تقدم لنا رؤية محددة عن الله تعالى وعن أنفسنا، وعن علاقة الله تعالى بنا، وعن علاقتنا بالله تعالى كما هي، وكما يجب أن تكون، وعن دورنا في هذه الحياة، ومآلنا بعد الممات.
1. فالمعارف النظرية عن الله تعالى تُجمل في: معرفة الله، والإنسان، وعلاقة الله تعالى به، وموقعه من الله، وسبب وجوده ودوره في الحياة، ومآله. ويمكن تفصيل بعض عناصرها فيما يلي:
أ. معرفة الله تعالى وتكون بمعرفة صفاته تعالى الذاتية وهي: أنه العالم، القادر، الحي، الغني، ملك الدنيا والآخرة.
ب. معرفة صفاتنا الذاتية: وهي المملوكية لله، والفقر إلى الله، ومعرفة أن هذه الصفات ذاتية لنا لا تنفك عنا أبداً. وفي الوقت نفسه معرفة أن فينا نفخة إلهية بها كان لدينا قدرة على الفعل والخلق والابداع والتغيير.
ت. المقابلة بين أنفسنا وبين الله جل جلاله. فالله تعالى هو الغني، ونحن الفقر. الله هو الكمال ونحن النقص. الله هو العلم ونحن الجهل، ونحوها.
ث. معرفة أفعال الله تعالى فينا وإنعامه علينا، وأن كل ما يفعله بنا يقوم على العدل والقسط والحكمة والرحمة.
ج. معرفة أفعالنا نحو الله تعالى، من تقصير وإعراض.
ح. المقارنة بين أفعالنا وبين أفعال الله فينا.
خ. معرفة أن الحياة ليست إلا رحلة ومسيرة إلى الله تعالى، مسيرة ضرورية لا مهرب منها ولا مفر، فإن المنتهى إلى الله، وإننا كادحون إليه كدحاً، وراجعون إليه.
د. معرفة أن نهاية هذه المسيرة مغفرة من الله ورضوان، أو عذاب شديد أليم.
ذ. ومعرفة أن المآل الذي سنؤول إليه أبدي لا نهاية له.
هذه المعارف نظرية لأنها تصف واقعاً كما هو بدون أن تعطينا أي حكم على الكيفية التي يجب أن يكون عليها. هي معارف وصفية.
ولكنها معارف وصفية تختلف عن غيرها من المعارف الوصفية، إذ تختلف طبيعة المعارف الوصفية عن الله تعالى وعن الإنسان عن غيرها من المعارف. فإن العلم بعدد النجوم، أو بالجاذبية، أو علوم الأحياء والفيزياء، وغيرها من العلوم، كلها نظرية وصفية، ولكنها لا تؤثر تأثيراً مباشراً على تقييمنا الأخلاقي، ولا على سلوكنا الأخلاقي، ولا يتوقع منها ذلك، بخلاف تلك العلوم. فإنها متى عُرفت فإنها تغير كثيراً من المعادلة الأخلاقية لدينا. بحيث ينتج عنها تلقائياً مجموعة من المعايير، والقناعات عن ما يجب أن يكون، وبالتالي ينشأ عنها مجموعة من المعارف العملية التي تصاغ بعبارة: يجب أن يكون. إضافة إلى ذلك فإنها تؤثر على مشاعرنا نحو الواقع بحيث تخلق حالة شعورية جديدة لم تكن قبل العلم بتلك الأمور.
فمتى ما عرفنا الله والإنسان... إلخ فإنه يتوقع أن تنتج مجموعة من المعارف العملية والحالات الشعورية نحو:
1. الشعور بقدرة الله علينا، وعجزنا عن مواجهته وعن الفرار منه.
2. الشعور بمراقبته تعالى، وبأننا مكشوفون له تماماً وما ينتج عن هذا الشعور بالعجز التام أمامه جل وعلا.
3. الشعور بأن أملنا الوحيد في الفلاح هو في الله وأن بغيره لا نجاة ولا فوز بل تعاسة وشقاء.
4. الشعور بالامتنان نحو الله تعالى لنعمه التي لا تحصى وعلى رأسها أن جل جلاله يتقرب إلينا وهو غني عنا. ومنها أنه أذن لنا بدعائه، وبذكره، وأن فتح لنا أبواب رحمته ومغفرته، وأن ستر علينا، وأمهلنا، وجعل لنا التوبة سبيلاً إلى مجاوزة معاصينا.
5. الشعور بالخجل الشديد والاستحياء العظيم من الله تعالى الكريم الحليم المنعم الغني وذلك لأننا قابلنا هذا الإله بالمعاصي والتقصير وقلة الخير.
6. تصغير أمر وشأن الحياة الدنيا مما يعني الصبر، وعدم الجزع، وعدم الحرص.
7. النفور من المعاصي التي فيها مخالفة الإله الكريم الجليل الحليم، والتي فيها خسارة مراتب أخروية، واقتراب من النار.
8. الشعور بالمسؤولية ، فمع القدرة والتمكن تأتي مسؤولية متناسبة معها.
تلك المعارف التي يجب أن تقف خلف أي عمل صالح... وأما العمل الصالح الذي يأتي بعيداً عنها، فهو عمل ناقص مضموناً. والصالحون الذين يقتدى بهم هم من أظهر أعمالاً صالحة، وفي الوقت نفسه أظهر فهما واستيعاباً لتلك المعارف.
ولكن كيف نتعرف على رؤيتهم لتلك القضايا؟
وإذا عرفناها فكيف يمكن لنا أن نستفيد منها؟
المصدر :
http://www.yemenhurr.com/modules.php?na ... e&sid=1948
---------
يتبع ...