مكـوك السعير ..(قصــة)
-
- مشترك في مجالس آل محمد
- مشاركات: 65
- اشترك في: الخميس مارس 11, 2004 7:38 pm
- مكان: الحــرف
- اتصال:
مكـوك السعير ..(قصــة)
مكّـوك السعيـر
عـز العياني
تهيجت السماء. أفرغت قطراً نشورياً. أرسلته غيثاً ينساب من مخازنها بتريث، ينهمر على الأرض بخشوع فتستقبله ارتشافاتها المتعطشة بالأحضان وتتفتح أمامه مسامات رحمها الضيقة بانقياد عجيب وطاعة عمياء.
لم يكن بمقدوره تحديد الزمان أو حتى الإخبار بالوقت الذي بدا وكأنه ما قبل الغروب، ما بعد الشروق أو قبله بهنيهة تتميز بصحو الرؤية دون ما شمسٍ بادية كما لو كانت متدثرة بالسحاب أو مندثرة في السديم.
كان نائماً، أو كأنه كان كذلك، أو هكذا تراءى لـه الموقف في وهلته البكر. لا يذكر بأي حالة كانها آن ذاك وإن كان يميل لتغليب حالة من الإغفاء هب منها وجلا على صوت جهوري لا يعرف مصدره أو مكمن انبعاثه وهو يدوي في الآفـاق (قامت ..قامت). نداء زلزل كيانه وجعله يرتجف بغلو ويرتعش بتطرف. ركض خائراً، حاسراً خلف شيء تدافعت إليه أحاسيسه تستشعر كيفيته بالكفر وتصب مجاهرة إيمانها بمقدار وحجم الكم الذي يمكن أن تجنيه من الفرصة الباقية للطهر المسموح والمتاح كآخر مقام من حالٍ يذوب ويتطاير حسرة رهيبة مقترنة بندم يتسارع بتسارع أفول الحاضر وموات ماضٍ قريب مر وتلاشى سرابا.
* * *
اندفع يجتاز المسافات بهوس أبطال الجري في تحطيم الأرقام القياسية. فتح الباب، تهللت أساريره لحظة أن وقع بصره على حفرة بمحاذاته امتلأت بالمياه. استبشر بها خيراً وكأنه عثر على آلية الهدف الذي تجند كل شيء فيه لتحقيقه. شمر عن ذراعيه وما كاد يمد يده ليغترف منه حتى تراجع بهلع تاركاً المكان ليهوي عليه حجر من أحجار بناء الدار شتت تجمع المياه وشتت آخِر أمل راوده في النجاة وفي بريق تفاؤل تأجج غصة وهو يعيد المحاولة فيعيد الحجر الكرة. ركض لا يدري إلى أين ?!? الحسرة تعصره والندم يعصف به ودوي الصوت الجهوري يلفه ويلتف حول عنقه تاركاً لفلول الرجاء المريض مهمة سقي شتلات حلقه بحشرجة ندم مبحوح يتمتم بيأس وقنوط: - أين المفر:
- أين المفر؟!.
* * *
أوسع في خطاه على غير هدى. أصداء الصيحة المجلجلة تطارده بترصد وتلسعه بلا رحمة.
مشاهد تكرار سقوط الأحجار تدمي مواجيده، واستحالة تأدية الهدف تسقيه مرارة استشعار المآل وحسرة تذوق عفانة ثمر الغراس. لم يكن قادراً على التوقف. لم يكن باستطاعته عمل شيء غير شق طريقه بحزن وهو يذرع عرصات أرض مستوية يذكره تهلهلها بـ (جزيرة الفاو العراقية) عقب حرب الثمان السنوات العجاف.
كل الأمكنة كانت قد أصبحت في مستوى واحد. مكان واحد يشبه التل المنبسط لم يدك بعد ولا زال صامداً .. لا لا .. هاهو يتزلزل، هو ذا يتفتت ويعري مكنونه بتلذذ، وهاكه يستقبل ودق السماء بثورة من النماء البشري الذي لا يحصى نسله ولا يسمع لـه إلا هدوء يطبق على كل شيء، وإنصات يؤمّن لتدفقات الأنفاس البشرية وهي ترسل شهقات مشدوهة وزفرات سكرانة لا تسمعك إلا بمقدار ما تسمعه النفس لنفسها من تجليات ويحها العازف عن أي شيء لن يغنيها عن شأنها الذي تطوي إليه مسافات تشابه البحر في أفقه الشاسع واتساع مداه المتضائل رويداً رويداً وهو كغيره يسيرون إليه مجبولين ومرغمين على لقائه بصمت.
* * *
بدأت أعاليه تطفو عن بعد وهو يدنو منه. تكشفت تقاطيع ملامحه لديه وتبينت تقاسيم سيمائه عنده. هو إياه وإياه هو، وكلاهما تتغشاهما غبرة وتتلبسهما بشاعة مساحيق قنوط سوداوي جامد تتكسر عليه تمتمات حانية ومفجوعة تتساءل:
- ما صنعت؟!?ما جنيت ?!(ما سويت؟!).
لم يتح لـه شأنه شفاعة الرد عليها. صوته الضائع تهتك، وبصره الزائغ تحنط على شبك الانتظار الحديدي لا يزيغ عنه. اختلس نظرة تحسرية على شبك يلاصق شبكه يعرف ذات صاحبه المتألقة بهاء وغبطة والمشتعلة سحراً وابتساماً باشا يحوم حول أساريره وأسارير تراحيب مرافقيه.
بتر آخر الإختلاسات بإشفاق وتقدم مع ثنائي اليمين والشمال ليختتم خلاصة سفر الانتهاء وبداية رحلة الخلود في عالم آخر بدأ تاريخ تدوينه عنده وهما يجذبانه من زنزانة انتظاره بقسوة ويحشرانه بينهما على " مكوكٍ مكشوف كالبساط.. كله عبارة عن تجويف عرضي مستطيل يتسع لثلاثة رواد يشبه إلى حد كبير المقعد الخلفي لبعض سيارات ملاهي الأطفال ".
تهالك بينهما بيأس مسلماً للقضاء وراضياً بمصير بدأت تباشيره والمكوك يرتفع آلياً عدة أمتار عن مستوى سطح الأرض وينطلق يمخر أجواء مشبعة بالرطوبة الكريهة وملبدة بطبقات دخانية لاذعة تدر تقيؤ الأحشاء بسرعة تساوي سرعة المكوك المتنامية بصورة مهولة عجز عن تقبلها وهو يرزح بين مخلوقين يستحيل وصف بشاعتهما وقبحهما المحاكي لتعرجات وتشعبات ما لا يحصى من انفاق خانقة الأجواء قطعها المكوك بسرعة هائلة ضمرت معها رؤية البصر والبصيرة لديه وتعطلت عنده حركة الشهيق وما يزال على ضفاف زفير يتلظى شوقاً إليه من بعيد وهو يتأهب مع رفيقيه لدخول آخر الأجواء المؤدية إلى الهول العظيم الذي لم يستطع أن يتخيل رهبته الخانقة، فصرخ.. صرخ.. ومات مختنقاً على ضفاف السعير.
أما والله لو صلبوا يقيـني * * * ونُصّب للسكوت على لساني
لأنطق نطفة للصمت حبي * * * لحيــدرة بأرحـام الزواني
لأنطق نطفة للصمت حبي * * * لحيــدرة بأرحـام الزواني