للصبا ذكريات لايمكن تجاهلها ... كنت بصباي أحصل على ميزة لم تتوفر لأقراني بقريتي .. كان أبي معدما من المال ولكنه لم يعدم الفكر والمعرفة ... لم يكن يملك منزلا يسكنه ولكن بالريف يالإمكان تدبر السكن .. ولكنه كان يملك مكتبة زاخرة بشتى أنواع المعرفة الثابتة منها والمتجددة ككتب الحوليات مثل مجلة الهلال أو المختار التي تقدم نسخة عربية عن المطبوعة العالمية " ريردر دايجست " كان أصدقائه وزملائه يحرصون على المجلات والجرائد القديمة ويرفقونها بمطبوعات جديدة ويرسلونها له فتكن أقيم هدية لديه .. وكان والدي حظيظا بتلك الأيام حيث أن الرقابة على المطبوعات لم تكن قد وصلت للحدة التي هي عليها الآن والتي تخلق بيئة تشجع على الإنزواء والأمية .... وحتى الهلال لم يعد هلالا ولاحتى نجمة .. وغيره مثله ..
كان يشجعني للجلوس بهذه المكتبة والتطلع حتى لصور الحيوانات وصورا هزلية ( كرتون) .. وبفترة زارني بمكاني النائي البعيد عن الحضارة زميلي وقريبي نسبا ... الإثنان كنا تحت سن العاشرة .. وكان لنا نفس الميول حيث أن صديقي لم يتحمل المشاق ويسافر ليوم كامل على أقدامه إلا ليستمتع بما تحويه مكتبة أبي ..
كان لنا ميلا للإطلاع على القصص الرومانسية مثل ماقام بترجمته الأديب العظيم الراحل مصطفى لطفي المنفلوطي .. كانت قصة ( بول وفرجيني ) للكاتب الفرنسي برناردين دي سانبيير والتي رواها من جزيرة موريشيوس بالمحيط الهندي والتي ترجمها المنفلوطي للعربية تحت عنوان " الفضيلة " وبالطبع كان لنا نقاشات مع أبي عن بيئة القصة ولم أختارها الفرنسيين موطنا ،، ثم تفضيل بطلة القصة (فرجيني) الموت غرقا حتى لايلامس جسدها جسم منقذها بولس العاري .. ولهذا السبب أطلق المنفلوطي إسم الفضيلة على الرواية ..
وفي خلال تواجد قريبي معي جآت والدي دعوة من زميل قديم ليزوره بمدينة اللحية الساحلية .. إقترح أبي علينا مرافقته رغم أن المسافة حوالي أربع مراحل أي أربعة أيام مع قوافل الجمال ..
كنا نسير ليلا لئن القيض بساحل تهامة شديد القسوة علينا نحن سكان الجبال المعتدلة المناخ .. ولم يكن قضاء الليل مملا حيث كان زميلي رديفي على كور الجمل.. وكانت الليالي مقمرة ولم يطل الوقت حتى يهاجمنا النعاس على أرجوحتنا الرائعة ... رغم عدو قطعان الظباء اللامتناهية العدد والتي لن يصدق مأساتها جيل اليوم الذي يغالط نفسه بينما يقبع بأتون كارثة مأسوية لثقافته الوطنية وشخصيته الإعتبارية ،، البيئة كانت تظم علاوة على الظباء الوعول العربية المشرقية والتهامية ... وظبي المها ( البقرة الوحشية ) كما كانوا يطلقون عليها والنمر العربي اليمني قلبا وقالبا ،،، والذي أورثنا فقده ترك الساحة لقرود البابون المدمرة والتي تكاثرت أعدادها بشكل جنوني هدد كل مليحة باليمن ماسوى القات ... ألا ليت هذه القرود تخزن فتريح وتستريح .... ولكن قد يأتي الفرج بكثير من الحرج فهاهي الطرق الإرتجالية التخطيط والتنفيذ بما تحويه من هفوات هندسية لاينبغي أن تفوت على لذي لب مثلا : إنسياب الماء وميول الطبقات الإسفلتية ... هذه الخطوط يتبين أنها مع ما سبق عبارة عن مأساة كبرى يكن بذيل قائمتها تراب مدرجاتنا اليمنية التي بناها أجدادنا من سباء وحمير ومن قبلهما ... فيصل الأمر لعهد النضال فنخسر الثقافة والبيئة والتراب ويالله من عجب العجاب ... أما الإنسان فمنظره يخزي العين اللهم لاشماته ..
وصلنا اللحية ليلا ... ومكثنا بمقهى يقبع خلف كثيب رمل ... كنا مجهدين فلم نتحرك ، لكن زميلي كان يستهويه منظر إنعكاس ضؤ القمر على الكثيب .. فيستذكر أشعارا ويندب دارا ويثير حنينا وأشجانا .... وكما أسلفت كنا حينها دون العاشرة لكن مكتبة أبي كان لها فعل السحر ..
لم نقوى أو نصمد أمام العياء والتعب والإرهاق ... فأستسلمنا للنوم ... لنستيقض على صوت أبي ينادينا للصلاة فجرا ... سألت أبي وهل البحر قريبا فأجاب نعم ... عندها تحركنا مسرعين لنرى البحر ولأول مرة ..
كانت الشمس بالشرق ترسل حزما مستطيلة من الشعاع الذهبي وهي تتسلق السماء بتثاقل .. خلف الجبال الداكنة الخضرة والتي مالبثت عند بروز قرص الشمس أن توشحت بثوب الصباح الذهبي وحلله الزاهية .. كل ما بالجوار يحتفل باليوم الجديد وكأنه يوم عيد ..
تسلقنا الكثيب لنطل على البحر غربا ... لنفتتن بمنظر مياهه الفيروزية النقية وعليها مجموعة القوارب الخشبية كانت تنشر أشرعتها البيضاء ... ويختلط أصوات زقزقات العصافير بجوارنا بصيحات الطيور البحرية .. توقفنا مشدوهين بالمنظر ... ولكن منظر صديقي تغير ،، و مالبث أن دعاني لجمع الحجارة ... ولما إستفسرته عن السبب ؟ أجاب فورا ....: هل تتذكر رواية الفضيلة للمنفلوطي ،، فقلت نعم ... إستطرد ،، كما ترى أن هذا الأزرق الجميل هو الذي غدر بفرجيني وكان بإمكانه دفعها لتصل للشاطئ سالمة ... وبدون مراجعة وافقت زميلي ... وذهبنا نؤدب البحر بالحجارة ونصيح بعبارات لم ينهها سوى سماعنا لشخص يتسلل خلفنا خلسة ... نتأمل ملامحه فإذا به والدي والذي مالبث أن أصدر قهقهات عالية ومسموعة حتى أننا خشينا أن يسخر الصبية المتواجدين بمكان قريب بالشاطئ مني ومن زميلي ..
كان والدي يعزينا ... ويواسينا بعد أن شاهدنا نبكي بكاء حارا على فقيدتنا فرجيني التي رحلت قبل ثلاثة قرون حسب رواية الكاتب الفرنسي برناردين دي سانبيير الذي عاصر الثورة الفرنسية ونابليون وغيره ..
شهد أبي تلك الدموع الغزار في مقليتنا ... وبعد صمت أبي قمنا بإحتضان بعضنا للمواساة .. فعلى ضحك أبي ثانية ليفسر لنا أن أولئك الكتاب ربما إخترعوا شخصيات وهمية لا وجود لها ليروجوا لأدابهم وأفكارهم .. ثم إستطرد أن ذلك الأمر إن تم لايعتبر عيبا فذاك شأن الأدب والرواية .. ثم إستشهد بالقول العربي القديم ( أعذب الشعر أكذبه ) ... لكنه رحمه الله لم يخف غبطته وسروره بما إنعكس علينا من ثمار مكتبته اليانعة ..
زمن الصبا .. وأرتال الظباء ،، وندوب الزمن الردئ .
-
- مشترك في مجالس آل محمد
- مشاركات: 668
- اشترك في: السبت أغسطس 07, 2004 3:39 pm
- اتصال:
سيدي الفاضل بهذا الزمن اصبحت الثقافة الحقة معدومة واصبح الصبيان يتوهون باتون العولمة وثقافة القرية الواحدة التي لم تستغل منها فضائياتنا ومكاتبنا الابارذل ما يمكن ان يشاهد او يقرأ.
اصبحت الثقافة هي معرفة الفتانين وليس الفنانين ومحاكاتهم بلبسهم وخلاعاتهم حتى ان المسابقات التي تسمى بالثقافية والتي تبين انحطاط مستوى التفكير لم تعد الا عنهم...
نادرا ما نجد الان ابا يحتفظ بمكتبة قيمة يبحر بها اطفالة وتنمي ثقافتهم قد يكون مستوى الدخل احد الاسباب ولكن ليس اقواها بقدر ما يمكن اعتبار غياب مفهوم التثقيف المتوارث للاجيال
اصبحت الثقافة هي معرفة الفتانين وليس الفنانين ومحاكاتهم بلبسهم وخلاعاتهم حتى ان المسابقات التي تسمى بالثقافية والتي تبين انحطاط مستوى التفكير لم تعد الا عنهم...
نادرا ما نجد الان ابا يحتفظ بمكتبة قيمة يبحر بها اطفالة وتنمي ثقافتهم قد يكون مستوى الدخل احد الاسباب ولكن ليس اقواها بقدر ما يمكن اعتبار غياب مفهوم التثقيف المتوارث للاجيال