بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه..
لقد مورس في الكثير من الأوساط "السنية" العلمية والحديثية على كل طلبة العلم والمعرفة سياسة الخجل من ذكر إخواننا الزيدية والحق الذي دعوا إليه منذ فجر دعوتهم على يد الإمام زيد عليه السلام.. .
كان هذا الخجل ضروريا لأي منصف من "أهل السنة والجماعة" لتمرير مقولة من مقولات مذهب من مذاهب المسلمين انفرد أصحابه بالقول الفصل في قضاياه ليكون مصير هذا المرور النسيان.. ما دام انتصارك لهذا المذهب سياسيا لن يعني أكثر من أنك قد صرت زيديا صرفا.
إنه الخوف حين يجلجل في قلوب علماء "أهل السنة والجماعة" الذين تركوا أساس قيام جماعة المسلمين بتركهم لجهاد الظالم المتغلب، والذين أهملوا سنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بإهمالهم لأساسها وهو قول الحق ولو كان مرا.
فأهل السنة والجماعة على الحقيقة ومن الناحية السياسية لم يكونوا على ممر التاريخ غير إخواننا الزيدية أولا ثم كل عالم من "أهل السنة والجماعة" لم توصده فتاوى القعود عن الجهاد المحرمة للخروج على الظالم المتغلب.
ولكن للأسف الشديد صار في كتابات بعض علماء هذا العصر التقرير في المجال السياسي عقيدة من جملة العقائد.. ليستولي ميدان العقيدة على ميدان السياسة بسيف التكفير والتبديع فالأصل عند هؤلاء حماية نظام الاستبداد وليس جهاد الظالمين والمستبدين.
وللبدء في مثل هذه الدراسة كان من المفيد أن نستهل بقول جليل لأحد علماء إخواننا الزيدية يحكي عن دعوة الإمام زيد عليه السلام.
قال العلامة الفقيه العزي محمد بن يحيى مداعس رضي الله عنه في كتابه الكاشف الأمين عن جواهر العقد الثمين عن الإمام زيد بن علي عليه السلام:
فكان بدعوته إلى الله وجهاد أعداء الله تمهيد قواعد الدين وتألف هذه العصابة المباركة فيها واهتدائهم بهدية الصالح واستباقهم إلى ذلك المتجر الرابح، ولم يزل منهم إمام بعد إمام في منابذة الظالمين وإخافة القاسطين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون شرائع الدين وأحكامه على مر الدهور وتعاقب العصور كله ببركة هذا الإمام السعيد وسعيه الصالح الحميد، فمن ذلك قيام الإمام الهادي إلى الحق وإبادته للقرامطة ومن دعا بعده من الأئمة في قطر اليمن إلى يومك هذا، وكذلك الإمام الناصر للحق الحسن بن علي في الجيل والديلم، وإسلام الجماهير من المشركين وما عقبه من قيام الأئمة هنالك وما نشروا من العلوم الدينية وما استقام عليه فريقهم من العصابة المرضية كما شهد به من أنصف من علماء الأمة كالدامغاني وغيره. هـ.
ثم بعد هذا البيان أظهر العلامة والفقيه العزي بطلان من رأى أن قيام الإمام زيد عليه السلام خطأ ليته لم يرتكب كما ذهب إلى ذلك الذهبي ومن نحا نحوه، فقال:
ومن هاهنا يظهر أن ما ذكره الذهبي في ترجمة الإمام عليه السلام بقوله: خرج على هشام فليته لم يخرج، غباوة عن مدارك الحق وبناء على أصل منهار وهو تحريم الخروج على الظالم المتغلب، وفساد هذا المذهب أوضح من أن يقام عليه الدليل وهو مبسوط في موضعه، وذكرنا في ترجمة أبي خالد طرفاً من ذلك، وما ذلك إلا كقول من أطلق التخطئة للحسين بن علي عليه السلام في الخروج على يزيد، ولم يزل اعتقاد ذلك سهلاً عند بعض من انتحل العلم حتى قال قائل منهم: إنه قتل بسيف جده، فإنا لله وإنا إليه راجعون. هـ.
إن حكم التحريم الذي طال الخروج على الظالم المتغلب عند أغلب فقهاء أهل السنة والجماعة من أفسد الأحكام الفقهية المتخاذلة عن المنهاج النبوي في تقويم الحكم ومعارضته بعدما يكون انحرافه عن جادة الحق والعدل قد أخذ مجرى خطيرا لا يحمد نقلا ولا عقلا.
لقد صدق العلامة العزي رحمه الله عندما قال: ولم يزل اعتقاد ذلك سهلا عند بعض من انتحل العلم..، ذلك أن من سيقول بوجوب القيام في وجه الظلمة من الحكام ـ أي سيتجه في الحكم على هذه القضية على نقيض التحريم ـ سيكون معرضا أولا للإهانة من طرف الحاكم الظالم المتجبر وسيكون ثانيا مطالبا بنصرة من قام من آل البيت عليهم السلام المطالبة التي ستجرده من المزايا والعطايا السلطانية التي منحها له سكوته عن الظلم وأهله.
إن إمامنا زيد بن علي عليه السلام هو المرجعية الشرعية والتاريخية لكل الحركات الإسلامية المعاصرة التي تعارض أنظمة الحكم الفاسد. حتى حركات التمسلف الثائر على وضع الجبرية المعطل للحكم بما أنزل الله والتي يشم من أفكار أصحابها ومؤطريها رائحة النصب على اختلاف دركاته لن تجد في سلف الأمة أحسن من الإمام زيد بن علي منزلة وعلما وتقوى وقربا من معين النبوة حالا وزمنا.
فالثورة التي قادها محمد بن عبد الوهاب مثلا لم يكن لها من أساس ترتكز عليه غير منهج تكفير المسلمين.. لأنهم ما داموا في نظر علماء "الأمة" من جملة من أسلم فلن يكون حسب منظومة أهل السنة والجماعة بمقدور ثورة أهل نجد أن تقتل وتسفك دماء أهل المدينة وقادة أهل المدينة دون أن يكون مسوغ التكفير قد أخذ تأثيره في عقول العامة ممهدا للثورة العمياء التي وإن نجحت في الاستيلاء على الحكم والسلطة فإن إثم تكفير أخيك المسلم ولو كان ظالما لن تجد له عذرا يوم الوقوف بين يدي الله عز وجل.
وهاهو سيدنا الإمام زيد إمام المبيضة يعطي نموذجا فذا للقومة التي يتقى فيها الله عز وجل والتي كانت وفاءا لقول الله وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. كتب عليه السلام رسالة للعلماء يقول لهم:
إني أوصيكم مَعْشَر العلماء بحظِّكم من اللّه في تقواه وطاعته، وأن لا تبيعوه بالمَكْس من الثَّمَن، والحقير من البَدَل، واليسير من العِوَض، فإن كل شيء آثرتموه وعَمِلتم له من الدُّنيا ليس بخَلَفٍ ممازيَّن اللّه به العلماء من عباده الحافظين لرعاية ما استرعاهم واستحفظهم من أمره ونهيه، ذلك بأن العاقبة للمتقين، والحَسْرَةَ والنَّدامة والويل الدائم للجائرين الفاجرين.
فتفكروا عباد اللّه واعتبروا، وانظروا وتَدَبَّروا وازدجروا بما وعظ اللّه به هذه الأمَّة من سوء ثنائه على الأحْبَار والرُّهبان.
إذ يقول: ﴿لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الَّربانِيُّوْن وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوْا يَصْنَعُون﴾ [المائدة: 63].
وإنما عاب ذلك عليهم بأنهم كانوا يشاهدون الظَّلمة الذين كانوا بين ظهرانيهم يأمرون بالمنكر، ويعملون الفساد، فلا ينهونهم عن ذلك، ويرون حق اللّه مُضَيَّعاً، ومالَ اللّه دُولة يؤكل بينهم ظلماً، ودولة بين الأغنياء، فلا يَمْنعون من ذلك، رغبةً فيما عندهم من العَرَض الآفل، والمنزل الزائل، ومُدَاهنة منهم على أنفسهم.
وقد قال اللّه عز وجل لكم: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِيْنَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيْراً مِنَ الأَحْبارِ وَالرُّهْبَانِ ليَأْكُلُوْنَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيْلِ اللَّهِ وَالَّذِيْنَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُوْنَهَا فِي سَبِيْلِ اللَّهِ َفبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيْمِ﴾[التوبة: 34]،كيما تحذروا.
وإذا رأيتم العَالِم بهذه الحالة والمَنْزِلة فأنزلوه منزلة من عَاثَ في أموال الناس بالْمُصَانَعة، والمُدَاهنة، والمُضَارعة لِظَلَمَهِ أهل زمانهم، وأكابر قومهم، فلم ينهوهم عن منكر فعلوه؛ رغبة فيما كانوا ينالون من السُّحْت بالسكوت عنهم.
وكان صُدُودُهم عن سبيل اللّه بالاتِّباع لهم، والاغترار بإدْهَانهم، ومقارنتهم الجائرين الظالمين المفسدين في البلاد؛ ذلك بأن أتباع العلماء يختارون لأنفسهم ما اختار علماؤهم، فاحذروا علماء السوء الذين سلكوا سبيل من ذَمَّ اللّه وباعوا طاعة اللّه للجائرين. هـ.
أرأيت أخي القارئ كيف يتقي السيد الإمام زيد بن علي عليه السلام تكفير المسلمين دون أن يجعل من أمر فساد الحكم قضية متجاوزة ومسموح بها.. .
نعم، إنها الجريمة التاريخية التي تبلس بها بعض فقهاء من أهل السنة والجماعة، ما دام الناس لهم تبع يميلون إلى ما مالوا إليه، بعدما كان لهم سلف من الأمة قالوا بجواز السكوت عن ظلم الظالم مع تحريم القيام في وجه الظالمين وتجريم منابذتهم ومحاربتهم.
ذلك لأن السكوت ومداراة الظالم شيء وموالاته وتحريم القيام في وجهه شيء آخر.
قـال محمـد بن عبيدالله رحمة الله عليه:
سـألت الهادي إلى الحـق صلوات الله عليه عن موالاة الظالمين؛ فقال:
لا تجوز موالاة الظالمين لأحد من المؤمنين. وموالاتهم فهي مودتهم ومحبتهم؛ لأن الله سبحانه يقول: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾[المجادلة: 22] الآية، فحرم الله تعالى موالاتهم ومحبتهم، ولم يطلق للمؤمنين الانطواء على شيء من إضمار المودة لهم، وفي ذلك يقول عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ﴾[الممتحنة: 1] الآية، فمن انطوى وأضمر محبة ظالم فقد خرج من دين الله، وليس من المؤمنين بالله، ولا تجتمع معرفة الله ومحبته وموالاته مع مودة أعداء الله ومحبتهم؛ لأن الله عدو للظالمين، والظالمون أعداء لرب العالمين، ولن يجتمع ضدان معاً في قلب مسلم.
فأما المداراة للظالمين باللسان، والهبة والعطية، ورفع المجلس، والإقبال بالوجه عليهم، فلا بأس بذلك؛ لأن الله قد فعل في أمرهم وهم أعداؤه ما فعل، من جعله لهم جزءاً من الصدقات يتألفهم به على الحق، ويكسر به بعض بلائهم وظلمهم عن الإسلام، وذلك قوله عز وجل: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ﴾[التوبة:60] الآية، فجعل للمؤلفة جزأً وهم أعداء الله وأعداء الإسلام؛ يكسر حدهم عن المؤمنين، ويصليهم به نار جهنم وبئس المصير، ويجعله عليهم وبالاً في الآخرة، ولهم عذاب أليم. وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل بالمنافقين الظالمين، يؤثرهم على من معه من إخوانه المؤمنين، ويكِلُ إخوانه على إيمانهم، من ذلك ما فعل في غنائم حنين فرقها كلها على المؤلفة قلوبهم - ولم يعط المؤمنين منها درهما واحداً، ولا شاة واحدة، ولا بعيراً - يتألّفهم بذلك ويكسر عن المؤمنين شر حدهم، وكذلك كان يفعل بكبراء المشركين إذا كاتبوه وأتوه، يكاتبهم أحسن المكاتبة، ويفرش لهم ثوبه إذا أتوه يجلسهم عليه، نظراً منه للإسلام، ومداراة لهؤلاء الطغام، عن غير موالاة ولا محبة. هـ.
على أن لا تؤول هذه المداراة إلى استحلال المجاورة لأهل الظلم نظرا لما في ذلك من المفاسد النفسية والخلقية والاجتماعية.
قال الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي عليه السلام في كتابه هجرة الظالمين:
أو ليس بمعلوم فيما فطر الله من العقول، وفي أقل ما يوجد بها من فهم كل معقول، أن مَن جاور لأحد عدواً فحآلًّه، فضلاً أن يقاعده ويعامله، فقد أغضبه وأساءه، وكثرَّ بشخصه أعدآءه، كذلك من جاور أعدآء الله، فهو من المُغْضِبين لله، بغير ما شكٍ في حجة الألباب، وقبل ما نزَّل الله في ذلك من الكتاب.
فكيف بمن اغتر وخدم ؟! وجالس وحدَّث وكلَّم، وجاء وذهب، وأجلب وركب، وتفقد المجالس والخلوات، وألَمَّ بحواضر الحفوات، فراح وبكَّر واغتدى، وظل وبات ساهراً كمداً، مراقباً في مجالسهم ومقاعدهم للقوت، قد أغفلته مراقبة ذلك عن كل سقم أو موت، فكأنه لا يخطر بباله للدنيا زوالٌ ولا فناءٌ، ولا يتوهم أنه يكون له إلا من الظالمين سعة وغناء، فهو متدِّلهٌ إليهم حرَّآن، متأوه عليهم لهفان، قد شغله ما هو فيه من الحسرة، عما هو سائر إليه من دار الآخرة، يروح دائباً ويبكر، ويقبل أبداً ويدبر، في مواكب الظلم والظلمة، لا يتكلم في إنكار ظلمهم بكلمة، يضحك معهم إن ضحكوا، ويتباكى لهم إن بكوا، غرق في الغفلة غرقهم، يرى في كل حين فسقهم.
أَفَيُعدَّ هذا لله ولياً ؟! أو من الظلم لنفسه برياً، ما يبريه من ذلك، أو يعده كذلك، إلا مَن جَهِلَ أمر ربه، وضَّللَ الله صميمَ قلبه، فما جهلٌ بعد توحيد الله أعظم، ولا جرمٌ في دين الله أجرم، مِنْ جهل مَنْ جهل ما حكم به من هجرة الظالمين، ونهى عنه جل ثناؤه من مجاورة المعتدين، لما وكد الله من ذلك في وحي الكتاب، وما أقام به وفيه وعليه من حجة الألباب، وما هاجر قوماً مَنْ حآلَّهم في بلدهم، وكان مكثرِّاً بشخصه فيها لعددهم، فيأوي منها وفيها مأواهم، ويروح ويغتدي مقبلاً ومدبراً مُغَدَّاهم، فكلهم في بلد العدوان معه، قد جمعهم من مأوى الطغيان ما جمعه، يجمعه من أكثر الأمور فيها ما جمعهم، منتفع بحلول دار الظالمين بما نفعهم، عامرٌ لها من الحلول فيها بما عمروا، ومكثر لعدد أهلها بما فيها كما كثروا، وبحلول مَن حلَّها وأوى إليها، كثرت معاصي الله سبحانه فيها، فبلد أهل الطغيان لكلهم بلد، وجميعهم في حلولها وتبوئها فواحد، وقد ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (من كثر سواد قوم فهو منهم) . ومن ذلك حكم الله على المؤمنين بالهجرة للكافرين والزوال عنهم. هـ.
فلكل من شاهد وعاين مأساة حكامنا في القضية الأخيرة التي هزت العالم بعدما تجرأ الصحفي الدانماركي لإرادة الاستهزاء بسيد الأولين صلى الله عليه وآله وسلم أن يتأملوا معي قصة الإمام زيد عليه السلام مع الملك الطاغية هشام بن عبد الملك.
قال العلامة العزي في كتابه الكاشف الأمين:
وروى الإمام المهدي في منهاجه والسيد أبو طالب في أماليه بإسناده إلى جابر الجعفي أنه قال لزيد بن علي حين أزمع على الخروج بكلام ذكره له محمد الباقر من صفة خروج الإمام زيد بن علي وأنه مقتول، فقال الإمام زيد بن علي أأسكن وقد خولف كتاب الله وتحوكم إلى الجبت والطاغوت وذلك أني شهدت هشام ورجل عنده يسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت للساب له: ويلك يا كافر أما أني لو تمكنت منك لاختطفت روحك وعجلتك إلى النار، فقال هشام: مه عن جليسنا يا زيد، فوالله لو لم نكن إلا أنا ويحيى ابني لخرجت عليه وجاهدته حتى أفنى، وروى هذه القصة الإمام أبو العباس الحسني في المصابيح، وفيه أن الرجل الساب كان يهودياً، وزاد في روايته فخرج عليه السلام وهو يقول: من استشعر البقاء استدثر الذل إلى الفناء، فذلك الذي هاجه إلى الخروج على هشام انتهى.
وقال الإمام أحمد بن يحيى عليه السلام في فصل المداهنة من كتابه تكملة الأحكام والتصفية من بواطن الآثام:
[تحريم تعظيم الكافر والفاسق لمصلحة خاصة]
فـرع: فأما تعظيمه لمصلحة خاصة بالمعظم من تحصيل منفعة دنيوية، أو دفع مضرة في نفس أو مال، فالأقرب أن الشرع لم يبحه لذلك إذ عتاب الله تعالى للمؤمنين في قوله تعالى:﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾ [الممتحنة:1]، وسبب نـزولها وعموم لفظ أولها لكل عدو لله يقتضي تحريم ذلك، إذ نـزلت معاتبة على مداهنتهم رجاء منفعتهم، ولفظها عام لكل موادة، فلا يقصر على سببها، وقد نبهنا الله سبحانه على ذلك في قوله تعالى:﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ﴾[التوبة:24]. إلى قوله تعالى:﴿وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾[التوبة:24]، فنبه سبحانه على أن خوف المضرة من منابذة الظالمين في النفس أو المال، ومفارقة الأحباب ليس وجهاً مرخصاً في ترك جهادهم حيث وجب، وإذا لم يكن كذلك لم يكن رجاء نفعهم وخوف مضرتهم سبب ترخيص في جواز تعظيمهم، سيما وقد قرب من التصريح بذم من فعل ذلك، حيث قال تعالى:﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾[النساء:97]، وكفى بظاهر قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((القوا الفساق بوجوه مكفهرة))، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من مشى إلى ظالم وهو يعلم أنه ظالم، فقد برئ من الإسلام))، فلا يخرج من هذا العموم إلا ما خصته دلالة واضحة شرعية، ولم يخصص هذا الوجه بالجواز دلالة، ولا يمكن قياس المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، مع أن الآيات التي قدمنا في حكم المصرحة في الفرق بين المصلحتين، [ والخبر روي عن ابن عباس عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن أناساً من أمتي يقرأون القرآن، ويتفقهون في الدين، يأتيهم الشيطان فيقول: لو أتيتم الملوك فأصبتم من دنياهم واعتزلتموهم في دينكم))] والخبر الذي رواه [الفقيه العالم علي بن محمد القرشي الصنعاني] في الشمس في ذم العلماء المواصلين للأمراء حيث قال: (فأصبتم من دنياهم، واعتزلتموهم في دينكم) مصرح بتحريم ذلك بلا إشكال، فأما ما اشتهر من مواصلة الحسن بن علي عليه السلام لمعاوية وزين العابدين رضي الله عنه لعبد الملك بن مروان، فمن بحث السير والآثار، علم يقيناً أنهم لم يصلوا إليهم وصول تعظيم، في مجرد قصد زيارة أو تهنئة أو وداع، وإنما وصلوا في الروايات المذكورة إما مطلوبين إلى حضرتهم، أو لطلب حاجة عامة، فإذا عرض خطاب، أو فعل ظهر منهم الاستخفاف الكلي بهم بالقول، أو بالفعل، ومنه القصة المشهورة للحسن بن علي مع معاوية وأخيه عتبة، وعمرو بن العاص، وما سجل عليهم في ذلك المجلس كل واحد وحده، ومنه ما روى أنه دخل على معاوية في بعض الحوائج، فانقطع معاوية في مشورة بعض أصحابه في جانب المجلس ساعة، فكتب الحسن بن علي في دواة معاوية هذين البيتين:
إليك وجوها لم تَشِنْهَا المطالبُ
لأفضلُ مما أنت معطٍ وواهـــــــــــبُ
لنا الفضل يا هذا عَلَيك ببذلنـا
وإِنَّ الذي يعطيك من حر وجهــــــــــــه
وكفى بما حكاه ابن عبد ربه في عقده والمسعودي في مروجه: أن معاوية بعد عقد الصلح قال للحسن عليه السلام: قم فاعلم الناس أنك قد سلمت إلي هذا الأمر، فقام وخطب وشكا من أهل العراق، وكان مما قاله: إنما الخليفة من عمل بكتاب الله وسنة نبيه، وأما صاحبكم هذا فإنما هو رجل ملك ملكاً يتمتع به قليلاً، ويعذب بسببه طويلاً:﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ [الأنبياء:111]، أو كما قال، وكذلك قل ما نقل من مواصلة العلماء الراشدين لبعض الظلمة، فإنما كان لطلب حاجة أو إجابة طالب، لا لمجرد تعظيم بتسليم، أو تهنئة، أو وداع، نعم ربما نقل عمن مال قلبه إلى الدنيا، واتبع هواه من العلماء مواصلتهم تعظيماً، فقال فيه زين العابدين: (أكل من حلواهم فمال في هواهم)، فلا يحتج بفعل مثلهم إلا ضال عن الطريق. هـ.
***
إن من مجاهل التراث السياسي في الإسلام مذهب ساداتنا آل البيت الزيدية في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع إيجاب القيام في وجه الظلمة ونبذ الاستبداد في الحكم.
ولقد شكل هذا التجاهل من بعض دارسي التراث السياسي عقبة في فهم أساس قيام الحركة الإسلامية المعاصرة التي تعتمد في تحقيق مشروعها من أجل النهوض والتقدم على كتابات الآداب السلطانية ملوحة بمخزون رمزي لا يمثل إلا قاعدة للاستبداد ومنطلقا للاستعباد.
فمن رأى اجتهادات فقهاء الإسلام في المجال السياسي محصورة ومحدودة في كتابات الآداب السلطانية "السنية" فقد حكم على العودة الجديدة إلى استحضار الذاكرة التراثية واستعمالها كآلية مفاهيمية للتغلب على تحدي الديمقراطية في الداخل والعولمة في الخارج بالفشل مطلقا.
وقف الحركيون الإسلاميون لمخاصمة مشروع الحداثة المتغربة مستعملين رأسمال تراثي لا ربح من ورائه ولا ريع يفضل من استثماره، بل سيكون الإفلاس الدنيوي مصير أصحابه والخسران الأخروي مآل أتباعه.
ووظائف تراثنا السياسي التاريخية لا تقف عند مداراة الحكام ومجرد نصحهم النصيحة المتلونة بلون مجلس الحكم والسياسة بل إنه يشمل أيضا اجتهادات إخواننا الزيدية في منابذة الظلم والظالمين والاستبداد والمستبدين ومهاجرتهم ومحاربتهم المحاربة العلنية المباشرة.
ويطلب من الحركة الإسلامية المعاصرة أن تعيد النظر في أمر التفكير في استعادة تراث موالاة الظلمة والمستبدين وتحريم الخروج على الظالم المتغلب.
إنها بذلك ـ أي باحتمائها بهذا التراث البائد ـ تعرض حركتها للفشل الذريع، ذلك لأن الحداثيين المتغربين لا يرون في الإسلاميين إلا وجها جديدا للاستبداد كما كان في عصور الملك العضوض: ملك بني أمية وملك العباسيين والعثمانيين.. .
إن الاستيعاب التاريخي والنقدي المطلوب لتراث المسلمين السياسي يعتمد على الاعتراف بفضل دعوة آل البيت إلى منابذة الظلمة ومحاربتهم بدءا من دعوة سيدنا الحسين عليه السلام ودعوة سيدنا زيد بن علي ودعوة باقي العترة النبوية الطاهرة.. .
وهذا النوع من الاستيعاب التاريخي والنقدي لتراث المسلمين السياسي وإن كسر قيد الاتباع الأبله لما كان عليه آباؤنا نحن أهل السنة والجماعة فإننا سنعيش في ظله عصر تجديد نتجاوز من خلاله اجتهادات "سلفنا" الخاطئة من أجل بديل حضاري مبني على منهاج النبوة ومنهاج آل بيت النبوة.
إننا بهذا الأسلوب من تناول تراث أجدادنا من آل البيت نحمي أوساطنا الفكرية المعاصرة من البلبلة وسوء الفهم ولغة المفارقات بين النظر والتاريخ.
فنحن بحاجة ليس فقط إلى إعادة قراءة التراث السياسي الإسلامي ولكن أيضا إلى إعادة تحديده وإبراز كل مكوناته على اختلاف مشاربها ومنابعها.. .
أليس فقه آل البيت الزيدية في المجال السياسي من جملة تراثنا السياسي ؟!!
أم أن الفقه الإسلامي حكر فقط على مذاهب "أهل السنة والجماعة" ؟!!
إن الاستعادة التجييشية الوجدانية للمنتوج التراثي الزيدي لن يزيد أوساطنا السياسية إلا وضوحا في الرؤية واستقامة في المنهج.
ومعارك الحاضر السياسية كما يبدو للدارس الفطن ما هي إلا توظيف لمخزون تراثي ملتبس لا يميز بين الاستبداد والحكم بما أنزل الله، حتى راح بعضهم يكفر الديمقراطيين لا لأنهم علمانيين ولكن لأنهم ينادون بحكم الشعب نفسه بنفسه، وما الحكم إلا لله العلي القدير كما يردده هؤلاء الموهمون.
لقد بات كل ديموقراطي كافر في نظرهم ليكون في نظر خصومهم من الديمقراطيين كل إسلامي مستبد.
فتراث "أهل السنة والجماعة" في المجال السياسي عموما يحتاج إلى تعيين سقفه النظري الذي لا يمكن تصوره إلا في حدود اللحظة التاريخية التي نشأ فيها. فزمانيته محدودة وبالتالي لا يستطيع أن ينوب عن وعي الحاضر بوعيه البائد.
إن تفسير ظاهرة التحرك باسم الإسلام لا يقف عند مسألة غياب الفهم التاريخي للتراث أو مسألة غياب قراءات نقدية ولكنه يصل أيضا إلى مسألة تغييب فهم نبوي ورثه آل بيت النبوة من إخواننا الزيدية.
فمن تحريم الخروج على الظالم المتغلب إلى إيجاب الخروج والقيام في وجهه ومحاربته نكون قد انتقلنا بـ 180 درجة أي باستدارة كاملة واستدبار تام لبعض تراثنا المتخلف.
لقد عمد الاستشراقيون إلى اعتبار الآداب السلطانية "السنية" حلقة من حلقات الفكر السياسي الإنساني ليحكموا عليه بقصوره ومحدوديته التاريخية والنظرية. وحق لهم ذلك.. .
كيف لا ومرجعية هذه الآداب السلطانية نفسها كانت في الكثير من الكتابات من معين أدب الملوك الفارسي والتراث اليوناني والصيني.. .
فالفكر النابض في كتابات الآداب السلطانية "السنية" لم يخرج إلا من القصور الأموية والعباسية.. فميلاده لم يكن في المسجد كما كان ميلاد أي دعوة نبوية.
وشتان ما بين فكر القصر وفكر المسجد.. بعدما افترق السلطان والقرآن منذ عهد معاوية وأمرنا الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم أن ندور حيثما دار القرآن.. .
يتبع..
مع إخواننا الزيدية عليهم السلام
-
- مشترك في مجالس آل محمد
- مشاركات: 12
- اشترك في: الاثنين مايو 15, 2006 11:07 pm
- مكان: طنجة - المغرب
-
- مشترك في مجالس آل محمد
- مشاركات: 12
- اشترك في: الاثنين مايو 15, 2006 11:07 pm
- مكان: طنجة - المغرب
بارك الله فيكم
بارك الله فيكم..
فبمجهودات إخواننا آل البيت الزيدية من أجل نشر تراث أجدادنا من العترة النبوية الطاهرة في المشرق نتمكن نحن المغاربة من الاستشراف على حقائق تاريخية هامة..
لا بالنسبة لنا كأفراد ولكن أيضا بالنسبة لنا كجماعات وتكتلات..
أجدد لكم تحياتي ودعواتي لكم بالتوفيق والسداد..
فبمجهودات إخواننا آل البيت الزيدية من أجل نشر تراث أجدادنا من العترة النبوية الطاهرة في المشرق نتمكن نحن المغاربة من الاستشراف على حقائق تاريخية هامة..
لا بالنسبة لنا كأفراد ولكن أيضا بالنسبة لنا كجماعات وتكتلات..
أجدد لكم تحياتي ودعواتي لكم بالتوفيق والسداد..
-
- مشترك في مجالس آل محمد
- مشاركات: 2745
- اشترك في: الأحد إبريل 18, 2004 3:47 am
- اتصال:
الحسن المتوكل كتب:بارك الله فيكم وأحسن إليكم سيدي الكريم / الحسين اشبوكي
طرحٌ محكم ومميز
تابعوا سيدي
وهذا تسجيل نقطة متابعة لبحثكم
تحياتي



سعيد بوجودكم كثيرا ... سوف نستفيد منكم سيدي الحسين ... وانتظر البقية بشوق ..!
أخوكم / الغيل محمد


يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون
