} لا أظنُّ أني سأضيفُ جديداً على ما قاله الأستاذُ/ حسن محمد زيد عن الحُـكم الصادر ضدَّ العَالِـمَينِ الجليلَينِ العلاَّمة/ يحيى حسين الديلمي، والعلامة/ محمد مفتاح، فقد قال فيه وأوفى، ولهذا جعلتُ حديثي مجردَّ هوامش على الحُـكم تنبِّهُ على تفاصيلَ لم يتسع البحثُ الرصين للأستاذ/ زيد لها.
إعداد: أحمد الوادعي
الهامش (١)
> لن يجدَ المتابعُ المنصفُ لمقدمات الحكم الصادر عن المحكمة الابتدائية المتخصصة في حق العَالِـمَينِ المذكورَين أن الحكمَ جاء في سياق حرب ذات بُعد ثقافي ومذهبي طويلة الأمد، وحرب عسكرية ذات مدى قصير وحاسم على المذهب الزيدي وأتباعه وضد الهاشميين.
أما بدايةُ الحرب الأولى فكانت عقبَ الإطاحة بالنظام الملكي عام ٢٦٩١م وإنْ على نحو خفيف وأحياناً عرضي، ثم اشتدت بعدَ ذلك خلال السبعينيات وتأججت في عقدَي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وما زالت تستعرُ إلى اليوم، وأما الحربُ العسكرية ضد أولئك فهي المسماة "حرب صعدة" هذه المحافظة التي شاءت أقدارُها أن تكونَ أولَ انطلاق الزيدية، وشـُيء لها اليومَ أن تكونَ مقبرتها!!.
وخلاصةُ هذا الهامش: إن أية دراسة للحكم المذكور لن تكن شاملة ما لم تضعه في سياقه العام، وهذا ليس موضعه هنا، وإنما في مكان لاحق من هذه الهوامش.
الهامش (٢)
> أول ما يلفتُ النظرَ في هذا الحكم أن العَالِـمَينِ المذكورَين حُوكما أمام المحكمة المتخصصة، وهي في الحقيقة والراجح عند غالبية المحامين ورجال القانون، محكمة غير دستورية نشأت بالمخالَفة للمبدأ الدستوري الذي يحظـُرُ إنشاءَ محاكم استثنائية، والطابعُ الاستثنائي لهذه المحاكم ظاهرٌ من اختصاصها بالجرائم المتعلقة بأمن الدولة، ومن الإجراءات المتبعة أمامَها، وهي تتسمُ بالإيجاز والسرعة، وإهدار حقوق الدفاع!.
ومُحاكَمَةُ العَالِـمَينِ الجليلَينِ أمام هذه المحكمة لدلالة لا تخفى على أحد، إذ معنى ذلك أن محاكمتـَهما وتوقيعَ العقوبة عليهما وحجْزَ حريتهما كُلُّ ذلك جاء من وراء الدستور، ومن وراء القانون تبعاً لذلك، وقد صارَ من المفاهيم الشائعة في الوسط القانوني أن النظامَ القائمَ إذا أراد إنزالَ عُقوبة قاسية على أحد خُصومه أو المغضوب عليهم عندَه فإنه يُحالُ إلى المحاكم المتخصصة.
كما أن الطابعَ الاستثنائيَّ لما تعرض له هذان العالمان أنهما يُحاكَمان أمامَ غير قاضيهما الطبيعي!.
ويشهدُ المحامون الذين ترافعوا أمام هذه المحكمة على طابعها البوليسي، وأن هذا ظاهرٌ فيها من خلال:
أولاًً: جلساتـُها سريةٌ، وبالأقل شبهُ سرية، فلا يُسمَحُ للجمهور بدخولها، وحضور الجلسات -كما يفترض القانون- إلا في حدود ضيِّقة وبإجراءات مهينة تزهد الناس من دخولها إذ يتعرضُ الداخلُ إليها -بمَن في ذلك المحامون- لتفتيش دقيق، ومستفز، وبسؤاله عن غرضه من الدخول وتسجيل اسمه لدى مندوب من المخابرات مع عنوانه، وغرضه من الدخول، وسائر المعلومات الشخصية عنه، وتسحَبُ منه بطاقتُه الشخصيةُ أو العائلية وعُلبة الدخان و"الولاعة" وجهاز الهاتف والقلم، وكُلُّ متعلقاته عدا النقود، ولا يتمكنُ من استعادة ما أُخذ منه عند الخروج إلا بصعوبة وامتهان، وعند خروجه يكتشفُ أن مسؤولَ المخابرات صَوَّرَ بطاقتـَه، وسجَّلَ أرقامَ الهاتف المخزونة في هاتفه الجوال.
ثانياً: إختلافُ إجراءات وطبيعة حراسة المحكمة المتخصصة عن سائر المحاكم الأخرى، فهي محاطة بحراسة مشددة وخاصة، فخلال الجلسات التي تعقدها تكون محاطة بعدد كبير من الضباط والجنود لا تجده في أية محكمة، وهؤلاء مدججون بالسلاح الناري والقنابل التي يتمنطقها الجنودُ، ومع ذلك عدةُ أطقم عسكرية مزودة بأسلحة رشاشة، وكُلُّ هؤلاء ليسوا من الشرطة القضائية، وإنما من القوات الخاصة برئاسة الجمهورية، ويوزعون في الشوارع المحيطة بالمحكمة من الجهات الأربع، وفي سطح المحكمة وحوشها وسلالمها، وفي قاعة الجلسة، ويمنـَعُ مرورُ السيارات من الشوارع المحيطة.. وصفوةُ القول تمت عسكرةُ المحكمة فأنت تدخلـُها وكأنك دخلت معسكراً في حالة استنفار قصوى، والتعامُلُ مع الناس يتم بغلظة واستفزاز سواء من العسكر أو من العاملين بالمحكمة جميعهم دون استثناء، فإذا دخلت المحكمةَ المتخصصةَ تشعُرُ بالرعب، وأنك أخطأتَ الهدفَ فلست في قلعة من قلاع العدالة كما يفترَضُ، وإنما دخلتَ خطأً إدارةَ استخبارات.
ثالثاً: والطابعُ الاستثنائي لهذا النوع من المحاكم لا يتمثل في شبه السرية لجلساتها فقط وإنما له مظاهرُ أخرى أكثرُ إيغالاً في الاستثنائية تتصلُ بإجراءات الترافـُع أمامَها وبالأحكام الصادرة عنها، فالإجراءاتُ أمامَها مختصرةٌ وسريعةٌ، فالجلساتُ غالباً تكونُ أسبوعيةً، وأحياناً أدنى من ذلك وهذا لا يوجدُ في المحاكم العادية التي تكونُ الجلسات فيها غالباً شهريةً أو أكثرَ من ذلك خاصةً في القضايا الجنائية الكُبرى، وكُلُّ القضايا التي تـُعرَّضُ على المحاكم المتخصِّصة كُبرى سواء من حيث موضوعها أو أطرافها، والتحقيقاتُ الأوليةُ في القضايا يتولاها "الأمنُ السياسيُّ" في تكتـُّم وسرية لا يتوفرُ فيها أدنى حقوق الدفاع التي كفلها القانونُ، أو الدستورُ، وغالباً ما يكون المتهَمُ (أو المتهَمون) الذي تحاكمُه موقوفاً في زنازن "الأمن السياسي"، وبعلم وأوامر المحكمة، وهذا الإجراء ُيَحرِمُه من حقَين قانونيَين هما: حريتـُه في الإدلاء بأقواله دون خوف من عواقب سيئة مما يجيدُه هذا الجهازُ، كما أن ذلك يَحرِمُه من الاتصال بمحاميه، والجلوس إليه بحرية ودون خوف لتحضير دفاعه.
وعندَ حضور المتهَم إلى المحكمة يُمنـَعُ على المحامي أن يتحدثَ معه وهو في قفص الإتهام خلال الجلسة، وإذا تعدد المحامون للمتهَم تمنعُ المحكمةُ عليهم خلال الجلسة التداوُلَ همساً بينهم في شأن من الشؤون، وأذكُرُ أني حضرتُ إحدى الجلسات الأولى في محاكَمة القاضي العلامة/ محمد لقمان منضماً إلى هيئة الدفاع المكونة من عدة زملاء من المحامين، وخلال الجلسة حدث ما يتعين عليَّ التداوُلُ بشأنه مع موكلي، وهمْساً أيضاً، فصرخ القاضي في وجهي مانعاً لي نهائياً من التحدث إلى موكلي، وأمرني بالجلوس وإلا سوف يخرجني من الجلسة، رغم أن ما فعلته مألوفٌ ومعتادٌ أمام المحاكم العادية، وبعدَ دقائق طرأ في الجلسة ما اضطرني التداوُل بشأنه مع زميلي رئيس هيئة الدفاع عن العلامة/ محمد لقمان فتهامست مع الزميل لبُرهة، ولكن صرخ في وجهي رئيس المحكمة يوبخني، ويعتبرُ ذلك عملاً مشيناً، ما حملني على الانسحاب نهائياً فقد تبينت لي صحةُ الروايات السيئة التي رواها زملاءٌ محامون سبق أن ترافعوا أمامَها قبلي، وكنت أظنُّ أنهم مبالغون في غرائب ما يروونه عن هذه المحكمة، وكانت تجربتي هذه كافيةً جداً ليس لتصديق تلك الروايات، وإنما أقنعتني بالتجربة أن ترافـُعَ المحامي أمامَ هذه المحكمة نافلةٌ لا ثمرةَ وراءَها غيرُ لزوم كمال الديكور حتى تستطيع السلطة التي تسوقُ هؤلاء الأبرياءَ إلى المجزرة أن تفاخرَ بعدالة قضائها أمامَ الدول الغربية المعنية بالشأن اليمني ويحتاجُ النظامُ إلى شهادة إيجابية من هذه الدول!!.
والطابعُ الاستثنائي لهذا اللون من المحاكم له مظاهرُ أخرى أهمُّ مما سبق في دلالته، وتبرز في اتسام أحكامها عادةً بالقسوة إذا ما كانت السلطةُ تريدُ ذلك، وخيرُ نموذج على ذلك الحكمُ الذي نناقشُه الآنَ، وستتضحُ ملامحُ هذا النموذج لاحقاً.
الهامش (٣)
> أول ما يدهشُ الدارس لهذا الحكم أن الاتهامَ الذي رمت به النيابةُ هذين العَالِـمَينِ مبهمٌ، وينطوي على جهالة، ومعلومٌ أن من شروط قبول الدعوى أن تكونَ الدعوى واضحةً، وأنه إذا لابستها جهالةٌ تعين على المحكمة عدمُ قبولها حتى يزيلَ المدعي ما بها من جهالة، لكن المحكمة المتخصصة لها طابعٌ استثنائي، ولهذا كان من الطبيعي أن تـُقبَلَ الدعوى رغم جهالتها!.
وأما الجهالةُ والغموضُ في هذه الدعوى فهذا بيانـُه:
١- التهمةُ الأولى كما في لائحة اتهام النيابة:
(سعيا بالإتصال غير المشروع [لاحظ سعيا بالإتصال] بدولة أجنبية وتخابَرَا مع مَن يعملون لمصلحتها، وكان من شأن ذلك الإضرارُ بمركز الجمهورية السياسي والدبلوماسي، وعلى النحو المبين تفصيلاً في الأوراق).
وهذا النصُّ ينسبُ إلى العلامتـَين (الديلمي ومفتاح) عدةَ وقائع غير محددة على نحو واضح:
الأولى: الإتصالُ بدولة أجنبية.
الثانية: التخابُرُ مع مَن يعملون لمصلحة هذه الدولة.
الثالثة: الإضرارُ بمركز الجمهورية السياسي والدبلوماسي.
وجهالةُ هذه الوقائع لا يمكنُ أن تنجليَ عنها إلا بالإجابة عن الأسئلة التالية:
متى وقع هذا الاتصال؟، وأين حدث؟، وما طبيعة الإتصال المزعوم؟، ثم: مَن هي الدولة الأجنبية التي تم الإتصالُ بها؟، ومَن الشخص (أو الأشخاص) الذي مثـَّلَ هذه الدولةَ؟، وما مركزُه فيها؟، وهل هذه الدولةُ صديقةٌ أم عدوَّةٌ؟، وإذا كانت عدوةً هل هي في حالة حرب مع اليمن أم لا؟.
ثم ما نوعُ التخابُر المنسوب إليهما؟، وما هي المعلوماتُ التي كانت موضوعَ التخابر، عسكرية؟ اقتصادية؟ سياسية؟ دينية؟، أم أنها معلوماتُ تتعلق بفن "البَرَع" في البلاد؟.
ثم ما هي الأضرارُ السياسيةُ التي لحقت بالمركز السياسي للجمهورية؟، وما هي التي أضرت بمركزها الدبلوماسي؟، وما معنى المركز الدبلوماسي والمركز السياسي؟، ثم ما نوعُ هذا الضرر؟، هل هو ضرر مادي أم أدبي أم من نوع ثالث؟.
ثم ما حجمُ هذا الضرر؟، هل من النوع البسيط أم المتوسط أم الجسيم؟..
إن قرارَ الاتهام لا يقدِّمُ إجابةً عن أيٍّ من هذه الأسئلة، وإنما أحال المحكمةَ والدفاعَ بشأنها على الأوراق قائلاً: (وعلى النحو المبين تفصيلاً في الأوراق) وما لم يقل حتى أية أوراق يقصُدُ؟.
ومن الناحية القانونية لا تكفي الإحالةُ في تحديد الجُرم المسنـَد إلى الشخص؛ لأن قرارَ الاتهام وبعبارة أخرى الدعوى الجنائية يجبُ أن تكونَ بينةً بذاتها، حتى يمكنَ القولُ بخلوِّها من الجهالة، وهذه قاعدة معروفةٌ لكل مَن له أدنى إلمامٌ بأصول الترافع ومبادئ الإجراءات، ولأسباب عديدة تجاهلتها النيابة (المدعي) والمحكمة، وننوِّهُ بأهمها إن كانا يجهلانها وهي:
كُلُّ دعوى مهما كانت طبيعتـُها يجبُ إثباتـُها بطرُق الإثبات المحددة في القانون، والواقعة المجهولة يستحيلُ إثباتـُها، ثم لتعلـُّق الأمر بحقوق الدفاع، وحقوقُ الدفاع جوهرُ العدالة الجنائية في كلِّ الشرائع بما فيها قانونُ الإجراءات الجزائية اليمنية، ومن حق الدفاع أن يمكَّنَ من الدفاع عن نفسه دونَ عوائق، ولا شك أن غموضَ الوقائع الجرمية المسندة إليه سيعيقـُه من تحضير دفاعه بتمكـُّن، إذ الوضوحُ شرطٌ ضروري لدفاع قوي ومتمكن، وكلُّ هذه القواعد والمبادئ معروفةٌ مشهورةٌ ومثبتةٌ في القوانين ومسلـَّمٌ بها من فقهاء القانون.
وقد يُقبَلُ من النيابة العامة أن تعمَدَ إلى تجهيل المتهم بالوقائع والتهم المسندة إليه؛ لأنها في التحليل الأخير خصمٌ، خاصةً في هذه البلاد حيث درجت النيابةُ في عملها ليس على البحث عن الحقيقة كما يفترَضُ منها، وإنما على تكريس جُهدها كلـِّه لشيء واحد هو إدانةُ المتهم، متخليةً عن الحيدة وفكرة (الخصم الشريف)، ولكن لا يُقبلُ ذلك من القضاء مهما تكاثرت العللُ التي تنخز جسدَه؛ لأن ذلك في مستوى ألف باء العمل القضائي فهو متعلقٌ بالدعوى، ومعلومٌ أن الدعوى هي التي تؤسِّسُ للخصومة وتحدد إطارَها، ولذلك لا بد أن تكونَ الدعوى واضحةً بيِّنَةً خاليةً من اللبس والغموض، ولكن المدهشَ أن هذه المحكمةَ قبلت الدعوى مجهولةً غامضةً، وبذلك أثبتت تحيُّزَها وطبيعتـَها الاستثنائيةَ منذ الخطوة الأولى في القضية، وسنرى أن هذا المسلكَ المعيبَ سيتوالى حتى نهاية القضية.
٢- التهمةُ الثانيةُ ونـَصُّها:
((إشتركا في اتفاق جنائي للإعتداء على السلطات الدستورية القائمة، وأنشئا لذلك تنظيماً سُمِّي [شباب صنعاء]...الخ)).
وهذه التهمة لا تقل غموضاً عن السابقة، فالتهمة هنا هي (الإتفاق الجنائي) والإتفاق الجنائي في القانون يكون إذا (اتحد شخصان فأكثر على ارتكاب جناية) بصرف النظر عن الغرض، والتهمة في نص قرار الاتهام هي الإتفاق الجنائي، ولكن لم يحدد الجناية التي تم الاتفاق عليها، فهو يذكر الوصف القانوني للفعل وهو (الإتفاق الجنائي) ثم يذكر الغاية منه وهي (الإعتداء على السلطات).
ولكن لا يذكُرُ الجريمةَ ذاتها أي الفعل الموصوف بأنه جريمة إذ لا يكون اتحادُ الإرادتين من نوع الإتفاق الجنائي إلا إذا انصبت إرادة المتفقين منصبةَ جريمة جنائية.
وعبارةٌ (للإعتداء على السلطة) الواردة في هذه التهمة ليست الفعلَ الجرمي موضوع الإتفاق المزعوم وذلك لسببَين:
أولـُهما: أنها الغايَةَ من الإتفاق وليس موضوعه بدليل أن قرارَ الإتهام قال:
(للإعتداء) باللام، واللام هنا للغاية.
وثانيهما: أن عبارةَ (الإعتداءُ على السلطة) ليست من الجرائم الواردة في قانون العقوبات إذ لم يستعمل القانون هذا الوصف.
وإذا شئنا استخدامَ التعبير القانوني والمصطلحات الفقهية في ذلك فصفوةُ القول هو أن دعوى النيابة في هذه القضية هي دعوى جنائيةٌ، لكنها تفتقرُ إلى سببها ذلك أن لكل دعوى -جنائيةً كانت أو مدنيةً- سبباً، وهو في الحالتين الواقعةُ التي يستندُ إليها المدعي (وهو هنا النيابةُ) في الحق الذي يطالبُ به، أي أن الواقعةََ هي سببُ الدعوى، فسببُ الدعوى الجنائية هي الجريمةُ المسندةُ إلى المتهم المرادِ معاقبتـُه من أجلها.
فالجريمةُ هي الواقعة التي أنشأت حقَّ المجتمع (وتمثله النيابة) في عقاب المتهَم أي السند الذي ترتكن عليه النيابةُ في طلبها تجريمَ المتهم ومعاقبتـَه، فلا يمكنُ أن يكونَ توجيهُ التهمة صحيحاً إلا ببيان الواقعة الجُرمية، وبيانُ الواقعة الجُرمية يقصَدُ به (بيان ُأركان الجريمة بياناً كافياً من فعل مادي وقصْد جنائي) [راجع مبادئ الإجراءات. د. رؤوف ص ٤٤٦، ود. محمود نجيب في شرح قانون الإجراءات ص٥٥٢].
وكُلُّ هذه البيانات تخلو منها الدعوى الجنائيةُ الموجَّهَةُ ضدَّ العلامتـَينِ الجليلينِ الديلمي ومفتاح، كما سبق البيانُ، وكما أن المحكمةَ المتخصصةَ لم تكلف نفسَها عناءَ استكمال هذه البيانات من النيابة وقبلت الدعوى على علاتها اتساقاً مقصوداً مع مسلك النيابة حين قدمتها مجهولةً، وهذا الإتساقُ لا يجوزُ أن يكونَ وليدَ جهل الطرفين بأصول الإجراءات لواحدية المخرج وحبكته؛ لأن كلاً من النيابة العامة والمحكمة لا يجوز الجهلُ في حقهما، خاصة إذا تعلق الأمر بأبجديات الدعوى الجنائية، كما هو حال هذه القضية، فالجهالةُ واقعةٌ على البيانات التي لا تستقيمُ الدعوى بدونها، وهذه البياناتُ يعرفـُها مَن له صلةٌ بالقانون أدنى من صلة النيابة العامة فهي مدرَكَةٌ للمبتدئ في القانون.
ولكن لماذا كانت الدعوى مجهولةً على هذا النحو؟.
السببُ لا يرجعُ إلى جهل المدعي (النيابة) أو المحكمةُ كما قد يفترضُ مَن لم يقفْ على القضية عن كَثَبٍ وعن بصر وبصيرة، وإنما يرجَعُ إلى الخلفية التي وراء القضية، وهذه معالمُ تلك الخلفية:
وأولُ أسباب الجهالة يرجعُ إلى طابع التكلـُّف والتحكـُّـم للدعوى بمعنى أن منشأَ الدعوى ليس وجودَ وقائع جُرمية بعناصرها القانونية المعروفة، وإنما كان المطلوبُ قمعَ ومعاقبةَ العَالِـمَينِ الجليلين الديلمي ومفتاح وإقصاءَهما عن ساحة العمل العام!!.
فهناك أمرٌ -بالتأكيد- من جهة عُـليا بحسب التعبير الجاري في بلاد (واق الواق) صدَرَ عن قصد وتدبير بزج هَذَين العَالِـمَينِ في دائرة الإجرام، ثم بعدَ الأمر كُلفت الأجهزةُ التابعةُ للجهة العُليا بالتنفيذ ابتداءً من جهاز "الأمن السياسي"، مروراً بالنيابة العامة والمحكمة المتخصصة حتى السجان وعشماوي اليمن!!، فأولاً: جاءت الفكرةُ ثم تلتْها التدابيرُ، وهذه نشأةٌ شاذةٌ وغيرُ صحية للتهمة؛ لأن المعتادَ والطبيعي في باب الجرائم أن تحدُثَ أولاً الواقعة الجرمية ثم تتلوها المحاكمةُ، والعقابُ.
كما أن مدارَ الدعاوى الجنائية وجوهرَها الفعلُ الجُرمي وليس شخصَ المتهَم بها.
وبسبب هذه النشأة الشاذة عن طبيعة الأمور كان من البديهي أن يلُفَّ الشذوذُ القضيةَ برمتها بما في ذلك الدعوى التي جاءت غامضةً ومجهولةً.
إن الصنعةَ والإفتعالَ فيما واجهه العالمان الجليلان من اتهام وعقاب هما المسؤولان عن جهالة الدعوى وسائر ما لابس هذه القضية من الشذوذ، وسوف نتقصَّى هذا الشذوذَ في مناسبته من هذا الحديث.
وما هو جدير بالحديث هنا هو معلم آخر بالغ الأهمية من معالم الخلفية الواقعة وراء هذه القضية، وأهميته تكمن في السياق العام الذي تقع فيه القضية برمتها، إذ من المعروف أن قذفَ هَذَين العَالِـمَينِ الجليلَينِ تمَّ في سياق حملة منظمة ممنهجة يشُنـُّها النظامُ ضد الهاشميين وضد المذهب الزيدي عبرت عن نفسها بعنف في حرب صعدة الأولى والثانية، وتمظهرت في إجراءات غير حربية، وتفوق الحرب في القسوة، وفي التأثير، ومنها الإعتقالاتُ والملاحقاتُ والمحاكَماتُ والإحتجازُ التي طاولت المئات بل الألوفَ من الهاشميين والهاشميات والزيديين والزيديات في عدد من محافظات الجمهورية، وإلى ذلك تم إغلاقُ عدد هائل من المدارس والمعاهد والزوايا التي تدرِّسُ كُتـُبَ الزيدية، واُستكتتب العشراتُ من علماء ومدرِّسي هذا المذهب سيء الحظ تعهدات خطيةً بعدم تدريس المذهب، والامتناع عن الخطاب والوعظ به، كما تم فصلٌ أو إحالةٌ للتقاعُد لعدد من مدرِّسي المذهب، ومَن كان من المعلمين في العلوم الأخرى لدى المدارس الرسمية وينتمون إلى المذهب الزيدي أو هاشميون تم نقلهم من محافظات صعدة وعمران والجوف وحجة إلى مدارس أخرى في المحافظات النائية مثل المهرة وحضرموت وريمة، وصادرت الأجهزةُ الحكومية والأمنيةُ الآلافَ من كتب الزيدية المعروضة للبيع من المكتبات التجارية!!، كما تم سحب مثل هذه الكتب من المكتبات الحكومية كوزارة العدل، ومعهد القضاء، وما شابه.. ومنعت المكتبات ودور النشر اليمنية والعربية من عرض كتب الزيدية خلال دورتين لمعرض الكتاب السنوي دورة ٤٠٠٢م، ودورة سبتمبر ٥٠٠٢م، واقتحمت أجهزةُ الاستخبارات منزلَ العلامة/ محمد مفتاح وكان يخزنُ في جزء منه الكتبَ التي يتاجرُ بها ليعتاشَ هو وأسرتـَه، وأخذت جميعَ ما وجدته على ست عربيات نقل كبيرة.
وأخذت الحملةُ ضد الهاشميين وضد الزيديين أياً كانوا مظاهرَ أخرى غير السابقة من أهمها:
> حملة إعلامية متصلة (وما زالت) تولتها صحف الحكومة والصحف المستنسخة، وتلك الصادرة بأسماء أشخاص يعتاشون من كرم النظام وفضلات موائده، واستهدف الإعلامُ في حملته أن يرسخ في ذهن الناس وواعيتهم صورةً مقيتةً قاتمةً عن الهاشميين وعن المذهب الزيدي خلال نشر جملة من الأغاليط والزيف، أبرزُها:
١- أن الهاشميين من يحيى المتوكل، وهو من أبرز ضباط سبتمبر إلى أحمد العماد -رئيس الدائرة التنظيمية في الحزب الحاكم جميعَهم مجرد ضيوف في اليمن السعيد، وعليهم العودةُ من حيث أتوا قبل ألف عام، وأنهم ومعهم الزيديون غير الهاشميين حاقدون على الثوابت اليمنية (الثورة، والوحدة)، ويريدون إعادةَ الإمامة التي قضى عليها الضباط الأحرار قبل خمسة وأربعين عاماً، وأنهم يسبون أمهات المؤمنين (زوجات الرسول) وصحابة النبي صلى اللهُ عليه وآلـَه وسلم.
٢- الحرمانُ من حُقوق المواطـَنة ضمن سياسة صامتة، ولكنها جاريةٌ على أرض الواقع، وضمن هذا السياق وقع اعتقالُ العَالِـمَينِ الديلمي ومفتاح ومحاكمتُهما ومعاقبتُهما الأولُ لهاشميته وزيديته، والثاني لزيديته وتشيعه لآل بيت النبي صلى اللهُ عليه وآلـَه وسلم، وكلٌّ من الهاشميين والزيديين مطلوبون لهذه الحملة وهم هدفـُها، وما جعلهما هدفاً على هذا النحو مقامُهما، فهما ليسا من آحاد الناس، وإنما هما عالمان كبيران، وعلى مستوى عالٍ من الفاعلية والتأثير، ولهما شغفٌ قوي، والتزامٌ قاطعٌ بعقائد وأفكار المذهب الزيدي.
وبسبب ذلك كله كان من الطبيعي أن يتعرضا لما تعرضا له، فلا بد أن يُحاكما ويُدانا ويُعاقبا لاعتناقهما مذهباً وعقائدَ يُرادُ اجتثاثـُهما من البلاد سواء حدث منهما ما يقع تحت طائلة القانون أو لم يحدُثْ.
ولعل خيرَ دليل على هذا الاستنتاج أنهما يُحاكمان على أفعال قديمة ومشروعة جرى استحضارُها من قبَل السلطات المعنية بعد أن عجزت عن العثور في سيرتهما الخيِّرة والنبيلة ما يمكن اعتبارُه عن حقٍّ فعلاً جُرمياً، فمثلاً عُوقبا على اشتراكهما في مظاهرة جماهيرية ضخمة قامت في أوائل عام ٣٠٠٢م احتجاجاً على غزو العراق، وتضامُناً مع الشعب الفلسطيني في محنته، والمظاهرةُ مشروعةُ قانوناً فضلاً عن قدمها، ولم يُحاكم أحدٌ من المئات الذين اشتركوا فيها غيرُ هَذَين العَالِـمَينِ، وذلك لذاتهما لا لاشتراكهما في المظاهرة، وشيء آخر هو فعل مشروع قانوناً ومع ذلك يُحاكمان ويُدانان بسببه وهو زيارةُ أحد موظفي سفارة إيران والتحدُّث إليه، ومعلومٌ أن القانونَ لا يمنعَ المواطنَ اليمني من الإتصال بالمبعوثين الدبلوماسيين للدول الأجنبية في صنعاء، وهناك المئاتُ من المواطنين على صلة بهؤلاء ولبعضهم صداقاتٌ مع العاملين في السفارات يضيفونهم ويتزاورون ويجتمعون بهم في "مقايل قات" دون أي حرج.
وقد فعل العالمان شيئاً من ذلك ولمرة واحدة وقبل سنوات من بدء الحملة على الزيدية؛ ولأن السلطات لم تعثر على جُرم تمكنُ محاكمتـُهم به جعلت الزيارةَ اليتيمَ جريمةَ تخابُرٍ مع دولة أجنبية.
وتقبلت المحكمةُ المتخصصةُ هذا العبثَ السياسي شأنـُها شأنُ أية محكمة من محاكم أمن الدولة التي عرفتها الشعوبُ العربيةُ في النصف الثاني من القرن المنصرم، إلا أن المحاكمَ المتخصصة تفترقُ عن تلك المحاكم بمساحة واسعة، فقد أُنشئت محاكمُ أمن الدولة آنذاك للدفاع عن الثورة وحماية (الشرعية الثورية) واليمنُ دخلت مرحلةَ الشرعية الدستورية وتجاوزت مرحلةَ الشرعية الثورية قبل عقد ونصف العقد من إنشاء المحكمة المتخصصة وحلت محل محاكم أمن الدولة التي عرفتها اليمن المحكمة الدستورية ووظيفتها حماية الشرعية الدستورية بعد أن نـُكب النظامُ اليمني بالديمقراطية التي جَلبت له الوحدةُ، وعاضدها المدُّ الديمقراطي الذي اجتاح كُلَّ الأنظمةً في البلدانِ الشبيهةِ باليمن!.
} وخير دليل على الطابع الإستثنائي لهذه المحكمة تبرزه واقعة تكشف تبعيتها الكاملة للسطة السياسية والجهاز الأمني في البلاد تتلخص في الآتي:
في الجلسة الثانية للمحكمة من نظرها هذه القضية والمؤرخة 2004/12/20م طلبت هيئة الدفاع عن هذين العالمين نسخة من ملف القضية (المحاضر والأدلة)، ويرأس المحكمة وقتها القاضي/ أحمد الجرموزي الذي استجاب للطلب وأمر -في نهايه الجلسه- "تمكين هيئة الدفاع بصورة من ملف القضيه" (ص9 من الحكم).
وقبل أن يتمكن الدفاع من تصوير الملف صدر قرار رئيس الجمهورية بعد يومين من قرار المحكمة بالتصوير، وبالذات في 2/28 تضمن تعيين/ نجيب قادري -رئيساً للمحكمة بدلاً عن القاضي/ الجرموزي الذي نقله الرئيس إلى محافظة بعيدة وناشئة حديثاً هي محافظة ريمة، وبعد يومين أو ثلاثة أيام من قرار التعيين ذهبت هيئة الدفاع إلى قلم كتاب المحكمة، وطلب تصوير الملف تنفيذاً لقرار المحكمة ففوجئ المحامون أن القاضي الجديد وجه قلم المحكمه شفوياً عدم تصوير الأدلة المستندية المقدمة من النيابة العامة ومحاضر التحقيق الذي أجراه الأمن السياسي (الإستخبارات) وتصوير المحاضر الأخرى فقط.
فطلب المحامون مقابلة القاضي الجديد بأمل إقناعه تصويرَ كامل ملف القضية تنفيذاً لقرار المحكمة برئاسة القاضي السلف للقاضي الجديد فرفض القاضي الجديد مقابلة المحامين، وقيل لهم إن موعد الجلسة القادمة يوم 2005/9/1م، وفي الجلسة المذكورة كرر محامو الدفاع طلبهم تصوير الملف، فاتخذ القاضي القرار التالي

إن الوقائعَ السابقة ليست بلا دلالات ودلالات خطيرة على صعيد قضية العالمين الجليلين (الديلمي ومفتاح) فك الله أسرهما، ويجدر بنا الإشارة إلى هذه الدلالات:
1-أول ما تسوق إليه تلك الوقائع من دلائل يتصل بواقعة تغيير القاضي الذي أجاز للدفاع تصوير ملف القضيه كاملاً، فقد تم تغييرُه فورَ أن أمر بذلك واستبداله بقاضٍ آخر (نجيب قادري)، وكان أولُ ما فعله الأخير في القضية إلغاء قرار التصوير، وقد فعل قبل أن يعقدَ الجلسة الأولى، وهذا معناه أن سبب تغيير القاضي الأول يرجعُ إلى استجابته لطلب الدفاع بتصوير كامل أوراق الملف، ورفضه لإلحاح النيابة الشديد بحرمان الدفاع من هذا الحق.
بدلالة أن أولَ إجراء فعله القاضي الخلف في القضية إلغاءُ قرار سلفه بالتصوير.
٢- وثاني ما لتلك الوقائع من دلالة هو أن منعَ الدفاع من تصوير كامل الملف كان مطلباً للسلطة السياسية في البلاد بقصد حرمان المتهَمَين الكريمَين من حقهما القانوني في الحصول على دفاع متمكن، ولهذا تم تغييرُ القاضي بقرار جمهوري، كما عوقب القاضي الذي أمر بالتصوير بنقله فجأةً إلى محكمة ناشئة وقليلة القيمة وتقع في منطقة نائية وينفر منها القضاة، ويعتبرون التعيينَ فيها أشبه بالنفي.
وتتأكد هذه الأدلة بواقعة أخرى وهي أن القاضي الذي أقصي من المحكمة المتخصصة قضى مدة غير قصيرة في المحكمة المذكورة وفصل في عدد من القضايا وهو محل رضى من قبل السلطة التي أنشأت هذا اللون من المحاكم ولم يتم إبعاده من هذا المنصب إلا بمناسبة قضية العالمين »الديلمي ومفتاح« وقد قدمت القضية إليه وهو محل رضا وترحاب ولم ينحسر عنه ذلك وينقلب حاله إلى الرضا إلى السخط إلا بمناسبة قراره حق الدفاع في تصوير كامل الملف.
٣- كما تدل الوقائع تلك على أن القاضي البدل أطوع لسلطة الإتهام والسلطة التي خلفها مما كان حال القاضي المبدل، وأنه أكفأ من الأخير في تنفيذ محاكمة هذين العالمين على النحو المرسوم وبما يحقق الهدف المطلوب سلفاً من هذه المحاكمة.
٤- وتؤكد الوقائع السابقة الطابع الاستثنائي للمحاكم المتخصصة والذي لحظه فيها منذ نشأتها أوفر عدد من المحامين ورجال القانون وحمل نقيب المحامين في صنعاء الأستاذ/ عبدالله راجح على مناشدة المحامين مقاطعة هذه المحاكم وعدم الترافع أمامها، واعتبرها صيغة محسنة لمحاكم أمن الدولة التي عرفتها اليمن في القرن الماضي، وحتى عشية الوحدة.
٥- وأخيراً تدل الواقعة على شيء آخر مخصوص بمحاكمة العالمين المذكورين وهو أن عدم تمكين هيئة الدفاع عنهما ومنع الوكيل والأصيل معاً من الأدلة المقدمة في القضية والتي قام عليها حكم الإدانة هو أمر مقصود متعمد، وجاء من خارج المحكمة، وأن الغرض من ذلك ليس إلا تجريد العالمين المغضوب عليهما من أي سلاح للدفاع عن نفسيهما في مواجهة التهم الملفقة والظالمة التي رميا بها وحتى يسهل على المحكمة إدانتهما وعقابهما بأشد العقوبات التي يوفرها القانون بسخاء كما سنرى لاحقاً.
إن بسط الأدلة بشفافية ومنح هيئة الدفاع الفرصة الكاملة لتقديم دفاع قانوني متمكن تناقش فيه هذه الأدلة بالمعايير القانونية وبعد دراسة وتمحيص كما يحدث في القضايا المعروضة على القضاء العادي كل ذلك ما كان للمحكمة أن تتمكن معه من إصدار حكم كالذي صدر عنها وكان محل استغراب معظم مَن سأل عنه.
http://www.al-balagh.net/index.php?opti ... 58&Itemid=