سخط الذات المبرر....على استسلام الآخر.

مجلس للمشاركات الأدبية بمختلف أقسامها...
أضف رد جديد
علي أحمد شرف
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 22
اشترك في: الأربعاء ديسمبر 22, 2004 7:52 pm
اتصال:

سخط الذات المبرر....على استسلام الآخر.

مشاركة بواسطة علي أحمد شرف »

سخط الذات المبرر
على استسلام الآخر. :!:
كتبه:
علي أحمد شرف الدين.
أبو فراس الأمير الأسير، الذي شعر بالعتب على أحبابه بعد طول مقامه أكثر مما توقع في سجنه عندما أسره الروم، حيث ظل في خرشنة فترة ثم نقل إلى القسطنطينية، وعند هذه القراءة التي تقف على أعتاب مناجاة الأسير للحمامة النائحة -من وجهة نظره- سوف نحاول أن ندخل في أعماق الذات الشاعرة لنرى الواقع بعينها، من خلال ما أتاحته لنا اللغة المستخدمة والأساليب الواردة في القطعة التالية:
أقولُ وقدْ ناحتْ بقربي حمامةٌ
أياجارتا لو تعلمينَ بحالي!

معاذ الهوى؛ ما ذقتِ طارقة الهوى
ولا خطرتْ منكِ الهموم ببالي

أتحمل محزون الفؤاد قوادمٌ
على غصنٍ نائي المسافةِ عالي

أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا
تعالِي أقاسمْكِ الهمومَ، تعالِي

تعالي، تري روحاً لديّ ضعيفة
تردد في جسمٍ يعذب بالي

أيضحك مأسور! وتبكي طليقة!
ويسكتُ محزونٌ! ويندبُ سالي!

لقد كنتُ أولى منك بالدمع مقلة
ولكنّ دمعي في الحوادث غالي

ما أرق أبي فراس وهو يناجي الحمامة الباكية على فروع الدوح، قائلا لها: ليتك تشعرين بي! أنت لم تذوقي طعم الهوى والهمّ فلماذا تحملين قلباً حزينا! الدهر لم يعدل في قسمته بيننا، فتعالي وشاركيني الهموم، فجسمي المعذب يحمل روحا عليلة. كيف يبكي الطليق و الأسير باكٍ؟! بل كيف ينوح السالي والحزين ساكت؟! فلولا أن الدموع للضعفاء لكنت أولى بها منك.
 هذا النص في مستواه التركيِْبيّ يحمل تشكيلة واسعة من الجمل الفعلية، والتي بلغت 18 ثمان عشرة جملة، ولم توجد فيه سوى جملتين اسميتين -لو صح اعتبار جملة ÷كان× جملة اسمية كما هو مذهب بعض النحويين- مما أضفى على النص إيحاء قويا بعدم السكون والركود.
ونجد أن النص مزيج من الجمل الإنشائية والخبرية، حيث بلغت هذه الأخيرة 11 إحدى عشرة جملة، جميعها جمل ابتدائية خالية من أدوات التوكيد، تشكل سلسلة من المعطيات التي تختم بجملة ذات طابع إنكاري، حيث تعددت فيها أساليب التوكيد «لقد كنتُ أولى منك بالدمع مقلة» وكأن الشاعر أراد أن يقرر النتيجة التي توصل إليها بما لا يدع مجالا للشك أو الاعتراض لوجهة النظر الأخرى التي تتمثل في موقف الطرف الآخر من الحياة.
وكذا نجد الجمل ذات البنية الإنشائية تناظر الجمل ذات البنية الخبرية، فقد بلغت 12 اثنتا عشرة جملة، منها ما يحمل رفضه للواقع من خلال دلالتها على الانكار والتعجب، حيث انزاحت الجمل الاستفهامية وما عطف عليها من معناها الأصلي إلى ذلك المعنى المذكور، وهي: ÷أتحمل، أيضحك، يبكي، يسكت، يندب×. وكذا استخدام الأداة المخصصة لنداء البعيد ÷أيا× في نداء الحمامة يوحي بإحساس الذات الشاعرة ببعد الآخر عنها منالاً، وعليه سوف نفهم أن أساليب الأمر ÷تعالي، ...× قد انزاحت من دلالتها الحقيقية إلى الدعاء والرجاء.
إذن؛ فهذه الذات في معرفتها لعدم قدرتها على تغيير هذا الواقع المرفوض منها تواجه الآخر بالسخط واللوم على تفريطه في الحياة، ومن بين ثنايا هذا اللوم تخرج لنا رغبتها الشديدة في رفض هذا الواقع، والأمل بالتغيير، ولو كانت تعرف أن التغيير أمر مستحيل في ظل هذه الظروف المحيطة بها في الأسر عند الروم، فجاءت الأمنية ÷لو تشعرين× باستخدام أداة غير الأداة الأصلية في التمني، وذلك لما تتضمنه ÷لو× من معنى تعليق أمر معدوم بأمر معدوم.
ومن اللافت للاهتمام عند النظر للتركيبة للنص أن الذات الشاعرة تظهر فيه ممثلة بالضمائر الدالة عليها، أو على ما يتصل بها، عشر مرات مقابل سبع مرات للآخر الذي ترمز له الحمامة، وهذا تمثيل مباشر لطغيان الذات على مستوى النص الموازي لسخطها على الآخر المستلهم من المعنى.
 التصوير في النص واستخدامه هو ما يفاضل بين الشعراء، والحمداني قد استخدم الصورة في النص بطريقة وإن لم تكن واسعة التشكيل إلا أنها كانت عميقة التأثير، عالية القيمة، فعلى مستوى الصورة البيانية نجد الاستعارة المكنية والكناية ولا غير، فالحمامة تتماهى في هيئة إنسانية تشكلها عديد الاستعارات ÷أيا جارتا، تشعرين، ذقت، تعالي، أولى منك بالدمع×، وفي هذا التعبير انعكاس لكيفية رؤية الذات الشاعرة للحمامة، فهي ليست كما سمتها بل هي إنسان، وكأنها رمز للآخر الذي قد يكون سيف الدولة الحمداني، أو أي صديق حميم أبطأ عن نجدته دون مسوّغ. أما قوله ÷أقاسمك الهموم× فيعمق إحساس الذات الشاعرة بالهموم كعوائق حسية بما تحمله من تجسيد للهموم.
ووردت الكناية في التعبير التالي: ÷أتحمل محزون الفؤاد قوادمٌ×، حيث يتراءى أمامنا ما يحمل مدلولين، والشكل الآتي يوضح تركيب الكناية:

حيث أن المدلول الثاني لازم من المدلول الأول، والصورة هكذا موظفة لتخدم الاستفهام الوارد إنكارا في بداية الجملة، فتوضح مقدار الجهد اللازم لحمل الفؤاد المثقل بالهموم.
أما الصورة الحرة فهي موجودة يعبر عنها الزمان والمكان والحوار مع الآخر الصامت في مشهد عام، يضع المتلقي في حالة من الانفعال الذي ينقله إلى حالة وجدانية تقارب حالة الذات الشاعرة.
 ويجرنا هذا للحديث عن الحقول الدلالية في النص، حيث نجد حقلين اثنين، الأول يحمل في طياته وحدة دلالية تعبر عن الأسى لكن الذات الشاعرة تقتسمه مع الآخر، فللآخر منه ÷ناح، تبكي، تندب، تحمل محزون الفؤاد×، والمتوقع أن مبررها هو أن صاحبها ÷مهموم، مأسور، حزين، معذب×، ولكن المفارقة أن الذات الشاعرة هي من نسبت إليها هذه المفردات في النص. وبالعكس في الوحدة الثانية، التي تعبر عن وحدة دلالية يمكن تحديدها بالأمل، للذات الشاعرة من مفردات هذه الوحدة: ÷يضحك، يسكت، دمعي غالٍ×، ولكن ÷الطليق، الحر، السالي× هو الآخر في هذا النص الشعري.
 وبهذا تقدم الذات الشاعرة سخطها على الآخر في قالب مبرر، لا يدعو إلا إلى التعاطف معها، وقد وظفت فيه البحر الطويل كي تستعرض في تفعيلاته المتنوعة هذه المقارنة، والتي تبلغ مداها في المقابلة في البيت الأخير، وكذا استغلال القافية المكونة من النون المكسورة، التي تسمح من خلال بنيتها الصوتية لضمير المتكلم (الذات الشاعرة) بالتضخم تارة، ولضمير المؤنثة المخاطبة (الآخر) بالتجلي تارة أخرى، مما يخلق وجدانا مدفوعا برفق نحو مشاركة الذات الشاعرة في سخطها على الآخر، فكيف يمكن أن يحمل مفردات الأمل من اعتكف على الحزن! وكيف يمكن أن يحمل مفردات الأسى من يعيش الأمل! هذا التناقض يولد في الوجدان سخطا على المستسلم لحزنه رغم قدرته على تغيير واقعه، وتثير التعاطف مع الذات الشاعرة الرافضة لهذا الواقع.
أخيرا ؛ لا نملك إلا أن نقف أعجابا بالموهبة الأصيلة التي أبدعت هذا النص العالي بما فيه من إمكانيات فنية، وليس غريبا أن نجد ذلك من أحد فرسان هذه اللغة العظيمة.. ألأمير/ أبو فراس الحمداني، متجاهلين ما ذكره اللغويون من نقد حيال قوله «تعالي» بكسر اللام في حين المفترض به فتحها لأنها مبنية.
لن يبرح الطغيان ذئبا ضاريا = مادام يعرف أنكم أغنامُ

أضف رد جديد

العودة إلى ”مجلس الأدب“