في خطابه التاريخي الهام الذي ألقاه في الذكرى الـ27 لتوليه مقاليد الحكم تحدث فخامة الأخ علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية أمام حشد كبير من أعيان البلاد وقادة الرأي فيها معلناً لهم عدم ترشيح نفسه للرئاسة، وبغض النظر عن الدوافع والأسباب وراء هذا الإعلان، وكذلك مقدار الجدية فيه فإنه سيظل مثاراً للجدل والتساؤل والحيرة والشكوك... الخ.
وبقراءة متأنية لمعطيات الواقع يمكن القول إن هذا الإعلان جاء في غير وقته المناسب خصوصاً والبلد تعيش حالة من الغليان الشعبي جراء السياسات الفاشلة للحزب الحاكم «المؤتمر الشعبي العام» بعد تفرده بالسلطة لما يزيد عن ثمانية أعوام، عجز خلالها عن إحراز أي تقدم يذكر على كافة الأصعدة، بالرغم من الحملة الإعلامية الشاملة التي تروج لإنجازاته ومكاسبه خلال الفترة الماضية من عمر الثورة، وتحت القيادة المباشرة لفخامة الأخ الرئيس باعتباره رئيس المؤتمر الشعبي العام.وحتى لا نجحد الجميل دعونا نذكّر بأن فخامة الرئيس علي عبدالله صالح قد حقق الكثير من الإنجازات الوطنية والتي سجلها التاريخ في أنصع صفحاته، ولكنها بالمقابل غدت ألغاماً موقوتة قد اجتمعت أزرّة فتائلها تحت يديه، وقد انفجر البعض منها ولازال البعض قابلاً للانفجار في أي لحظة بناءً على حاجة صاحب التحكم.
وقد يقول البعض إن هذا الكلام ينقصه الدليل فإليكم استعراضاً سريعاً لأهم تلك الإنجازات وما آلت إليه أوضاعها أو ستؤول بحسب الأحوال:-
أولاً: منجز الوحدة: وهو بلاشك وبإجماع وطني وعربي ودولي إنجاز عظيم كان لفخامة الرئيس شرف تحقيقه مع كوكبة كبيرة من أبناء هذا الوطن، ولكنه بمقدار ضخامته كإنجاز كان كذلك لغماً هائلاً قوض أرجاء الوطن بهزة عنيفة بدأت شرارتها الأولى في يوم 27 أبريل عام 1994م عندما تصادمت دبابات الجيشين في معسكر عمران معلنة بداية ألف ساعة حرب شملت أرجاء الوطن ومخلفة وراءها خسائر فادحة في العباد والعتاد ومصالح البلاد.
ثانيا: التعددية السياسية: وهي بلاشك منجز عظيم يتفاخر به اليمن أمام دول العالم وبالذات الدول الداعية إلى توسيع نطاق الممارسة الديمقراطية، ولكنه غدا لغماً موقوتاً بدأ تفجيره بزرع بذور الفتنة داخل صفوف الأحزاب والتنظيمات السياسية، حيث أصبح العديد منها منقسماًً إلى أكثر من ثلاثة أقسام ولازالت الخطى حثيثة للوصول إلى ما تبقى منها.
ثالثاً: دولة النظام والقانون: وهذا مكسب تتغنى به وسائل الإعلام لإيهام الرأي العام الداخلي والخارجي بما تم الوصول إليه من الإصدارات الورقية لكمِّ هائل من القوانين واللوائح، ومع ذلك فهو لغم موقوت لأن الواقع المعاش يؤكد عدم الالتزام بالدستور والقوانين وأن أمور الدولة تسير وفق معايير الولاءات الشخصية والحزبية والمصالح الذاتية.
رابعاً: بناء المؤسسات العسكرية والأمنية: وهذا منجز كبير من حيث النظر إلى حجم التكوينات ومستوى التسليح والتدريب ولكنه لغم موقوت قابل للانفجار، إذ أن أسس ومعايير القيادة والتحكم في تلك المؤسسات الهامة قائمة على الطاعة العمياء للأشخاص القائمين عليها وهم من ذوي القربى والولاءات الشخصية وليس لهم همّ إلا خدمة «الفنادم».
خامسا: إنشاء وتكوين المؤتمر الشعبي العام: وهو حزب الرئيس وبدون منازع ولكنه لا يستند إلى أسس تنظيمية تمكنه من مواصلة العمل نحو قيادة رشيدة للدولة والمجتمع لأن شروط الانتماء إليه قائمة على جلب المصالح فقط، وسيكون من الصعب عليه التفريط في السلطة، إذا ما قدر فخامة الرئيس ترك السلطة حسبما هو حاصل من خطابه المشار إليه.
سادساً: مظاهر الحب والولاء لفخامة الرئيس، والتي تلاحظ من خلال علاقته المباشرة مع أعداد هائلة من الوجاهات السياسية والاجتماعية والعسكرية بالاعتماد التام على الهبات والعطايا والمواقع القيادية في مختلف هياكل الدولة الأمر الذي سيشكل عوائق كبيرة أمام حركة محاربة الفساد المالي والإداري.
وقد يسأل سائل ما علاقة الرئيس بهذه الأمور لو أنه قرر ترك السلطة ومغادرة القصر؟ ولكن المنطق المعقول يفرض الإجابة بطرح عدد من الأسئلة الجديرة بالإجابة ممن لديه العلم والدراية في شؤون إدارة الدولة والمجتمع حيث سيكون أول سؤال: كيف يستطيع الرئيس الجديد الوصول إلى دار الرئاسة في ظل وجود قوة عسكرية خاصة لا تعرف إلا اسم القائد الرمز لأنها جبلت على ذلك وتأصلت لديها روح الولاء المطلق وتجسدت هذه الروح بتعيين الابن البار قائداً لها؟ وسؤال ثانٍ كيف يستطيع الرئيس الجديد توجيه أجهزة الدولة المختلفة من دار الرئاسة عبر هياكل وقنوات معطلة تماماً ولا توجد أي قناة رسمية للتواصل عدا التوجيهات المباشرة والتي دأبت عليها خلال عقود من الزمن؟ وسؤال ثالث كيف يمكن أن تدار القوات المسلحة وقوات الأمن عبر القيادة العليا في ظل وجود ازدواجية في القيادة وربط مباشر بالفندم الكبير تجاوزاًً للقنوات وطرق التوصيل وتنفيذ المهام؟
وبالجملة فإن قرار الأخ الرئيس بعدم ترشيح نفسه للرئاسة يعني إدخال البلاد في دوامة من الصراعات والمشاكل انطلاقاً من مقر اللجنة الدائمة للمؤتمر الشعبي العام والتي لا تعرف إلا التوجيه المباشر بما يراد تنفيذه من إجراءات وبدون اعتبار لتلك الأطر والهياكل القيادية، وأكبر دليل على ذلك أن قرار الأخ الرئيس لم يدرس في أي إطار داخل المؤتمر وكان قراراً مفاجئاً لجميع أعضاء الحزب الحاكم بدون استثناء وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عدم المؤسسية والنظام عند اتخاذ مثل هذه القرارات.
وخلاصة القول فإنه يتوجب على الأخ الرئيس أن يسلك عدداً من الطرق خلال فترة رئاسته الحالية إذا كان جاداً في تنفيذ قراره بعدم الترشح للرئاسة حتى ترتبط هذه القناعة بوسائل أكثر إيجابية في تمهيد الطريق للتبادل السلمي للسلطة ومن هذه الوسائل:-
1- التوجيه بإزالة جميع الصور والمجسمات الخاصة به من جميع الأماكن العامة ومكاتب الوزارات والمصالح الحكومية ومنع تعليقها نهائياً، أو أن يتخذ قراراً بإعداد وجمع صور جميع الرؤساء الذين سبقوه إلى كراسي الرئاسة لكلا الشطرين ووضعها في لوحة واحدة كتقليد يشمل الجميع.
2- إزالة جميع المقربين الذين وصلوا إلى مراكز صنع القرار في مختلف المستويات ومنحهم التقاعد عن ممارسة وظائف وصلوا إليها في عهد فخامته حتى تتهيأ لمن سيخلفه إدارة الأمور وفق مؤسسية النظام والقانون عندما يجد الوظائف قد شغرتها عناصر جديدة ذات ولاء للوطن قبل غيره.
3- إزاحة جميع الفاسدين الذين أهدروا المال العام بدون وجه حق وتقديمهم للعدالة، حتى يجد الرئيس الجديد فرصة سانحة لمباشرة مهام عمله على قاعدة صلبة تمكن من محاسبة من يفسدون في عهده بشكل مباشر.
4- تدشين مبدأ الفصل بين السلطات بتقديم استقالته عن رئاسة السلطة القضائية حتى تصبح مستقلة تباشر مهام الفصل في جميع القضايا بدون أي تأثير أو توجيه أو ضغوط من السلطة التنفيذية.
5- تقديم الاستقالة من عضوية الحزب الحاكم والتخلي التام عن ممارسة المهام القيادية فيه، لأنه لا يليق بالرئيس ترك السلطة في دار الرئاسة والعودة لممارستها من جديد في الشوارع والأزقة ترويجاً لأي مرشح أو مرشحين جدد سواء للرئاسية أو النيابية أو المحلية، ولكي يصبح مرجعية للجميع بدون استئثار من طرف ضد طرف آخر.
هذا ما نرجو تنفيذه كبداية صادقة لتنفيذ القرار يا فخامة الرئيس، وإلا لا تفعلها بالبلاد والعباد في آخر مراحل العمر...