من كتاب الإعتبار وسلوة العارفين
للإمام
الموفق بالله الحسين بن إسماعيل الجرجاني
المتوفى سنة 430هـ رحمه الله آمين
باب في الزهد في الدنيا وهوانها على الله
* قال اللّه تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأْرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا﴾[الكهف:45].
* وقال تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآْخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت:64].
* وقال تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأْمْوَالِ وَالأْوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآْخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [الحديد:20].
* وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَ يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ﴾ [لقمان:33].
(16) أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد، أخبرنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد، حدثني: أحمد بن يحيى بن زهير، حدثني: أحمد بن إسحاق، حدثني: أبو أحمد الزبيري، حدَّثنا سفيان[الثوري]، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: أخذ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ببعض جسدي فقال: (( كن في الدنيا كأنك غريب ، أو عابر سبيل، وعد نفسك في أهل القبور - ثم [ قال لي : يا ابن عمر ] إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح، وخذ من صحتك لسقمك، ومن حياتك قبل مماتك، فإنك يا عبد الله ما تدري ما اسمك غداً )).
* وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: من جمع ست خصال لم يدع للجنة مطلباً، ولا عن النار مهرباً، أوله عرف اللّه فأطاعه، وعرف الشيطان فعصاه، وعرف الحق فاتبعه، وعرف الباطل فاتقاه، وعرف الدنيا فرفضها، وعرف الآخرة فطلبها.
* وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام: إن الدنيا أهون عليَّ من عفطة عنز في فلاة.
* وقال: حبلك على غاربك اذهبي فقد طلقتك.
* وعنه أيضاً: أخبرنا أبو حاتم أحمد بن الحسن، حدَّثنا زيد بن عبد الله بن مسعود الهاشمي، حدَّثنا المعتمر ابن الخطاب أبو الدنيا، قال: قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: الدنيا تغر، وتضر، وتمر.
* ولبعضهم: الدنيا خمرة الشيطان فمن سكر منها لم يفق إلا في عسكر الموتى، نادماً بين الخاسرين.
(17) وعن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا )).
* وعن بعض الحكماء عن طريق عائشة: إنما الدنيا بمنزلة الماء يكفيك الري وما زاد على ذلك فهو بلاءٌ وهمٌ.
وفي بعض مواعظ أهل البيت عليهم السلام، عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: الدنيا كمثل الماء الملح، كلما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتى يقتله.
* وعن المسيح عليه السلام أنه قال: من هوان الدنيا على اللّه أنها لا يعصى إلا فيها، ولا ينال ما عند الله إلا بتركها.
* وعن الحسن [البصري]: يا ابن آدم، نهارك ضيفك فأحسن إليه، وإلا ارتحل يذمك، وكذلك ليلُك.
* وعن بعض الحكماء: الدنيا حانوت المؤمنين، والليل والنهار رؤوس أموالهم، وصالح الأعمال بضاعتهم، وجنة الخلد أرباحهم، ونار الأبد خسرانهم.
* مُصَنِّفُه: لو لم يكن فيها إلا أن صديقها المشغوف بها والواله بزخرف غرورها، والناد عنها المنكب على بهجتها يذمها لا تحلى طعمة إلا وتَمُرُّ ضعفيها.
كما قال أمير المؤمنين عليه السلام:
فلا تأكل الشهد إلا بسمفما يقطع الدهر إلا بهم حلاة دنياك مسمومةهمومك بالعيش مقرونة
* وعنه عليه السلام: إذا اعذوذب جانب منها وحلى، مرَّ جانب [وولّى].
* وقد نظمه بعضهم شعراً فقال:
ومن عادة الأيام أن صروفها إذا سرَّ منها جانب ساءَ جانبُ
* ولبعضهم:
إن المسرَّة للمساءة موعدٌ *** أُختان رهن للعشية أو غد
وإذا سمعت بهالك فلتعلمن *** أن السبيل سبيله فتزود
* وعن حاتم الأصم، وفضيل، وغيرهما: مثل الدنيا مثل ظلك، إن تركته تتابع، وإن طلبته تمانع.
* وعن بعضهم: الدنيا خراب، وأخرب منها قلب من يعمرها، والآخرة دار عمران، وأعمرُ منها قلب من يطلبها.
* وروي في بعض مواعظ أهل البيت عليهم السلام: أنه سئل أبو ذر رحمة اللّه عليه: ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنكم عمرتم الدنيا وأخربتم الآخرة فتكرهون الانتقال من العمران إلى الخراب.
* وفيه أيضاً: ملك ينادي كل يوم: يا ابن آدم، لد للموت، واجمع للفنا، وابن للخراب.
* وما هو أوقع وألخص وآخذ للقلب قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام:44].
* وعن المسيح عليه السلام: الدنيا قنطرة، فاعبروها ولا تعمروها.
* وفي بعض كتب أهل البيت عليهم السلام: كان فيما وعظ لقمان ابنه: يابني، إن الناس قد جمعوا قبلك لأولادهم، فلم يبق ما جمعوا، ولم يبق من جمعوا له، وإنما أنت عبد مستأجر، قد أمرت بعمل ووعدت عليه أجراً، فأوف عملك، واستوف أجرك، ولا تكن في هذه الدنيا بمنزلة شاة في زرع أخضر تأكله حتى إذا سمنت فكان حتفها عند سمنها، ولكن اجعل الدنيا بمنزلة قنطرة على نهر جزت عليها، وتركتها فلم ترجع عليها آخر الدهر، جزها ولا تعمرها فإنك لم تؤمر بعمارتها، واعلم أنك ستسأل غداً عن أربع: شبابك فيما أبليته؟ وعمرك فيما أفنيته؟ ومالك من أين اكتسبته؟ وفيما أنفقته؟ فتأهب لذلك وأعد له جواباً، ولا تأس على ما فاتك من الدنيا، فإن أباطيل الدنيا لا يدوم بقاؤها، وكثرتها لا يؤمن بلاؤها، فخذ حِذْرك، وجُدَّ في أمرك، واكشف الغطاء عن وجهك، وتعرف لمعروف ربك، وانكمش في فراغك قبل أن يقصد قصدك، ويفصل قضاءك، ويُحَالُ بينك وبين ما تريد.
* وقال الباقر أبو جعفر محمد بن علي عليه السلام، لجابر الجعفي: يا جابر أنزل الدنيا كمنزل نزلته ثم أردت التحول من يومك ذاك، أو كَمَالٍ اكتسبته في منامك فاستيقظت وليس في يدك شيء، وإذا كنت في جنازة فكن كأنك سألت الرجعة إلى الدنيا لتعمل عمل من عاين الموت، فإن مثل الدنيا عند العلماء كفييء الظلال.
* لمُصَنِّفِه:
ألا إنما الدنيا كظلة راكب *** رويد ظلال الركب ذروة دابر
* وعن زين العابدين عليه السلام:
أحلام نوم أو كظل زائل *** إن اللبيب بمثلها لا يخدع
(18) أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد، حدَّثنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله، حدَّثنا علي بن الحسين بن إسماعيل، حدَّثنا الربان بن الزغلي، أخبرنا عبدالكريم بن روح، حدَّثنا [أبو] المقدام، عن الحسن [البصري]، إن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: (( مالي وللدنيا مالي ولها ، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب مرَّ بشجرة فاستظل في ظلها ساعة من نهار، ثم راح وتركها )).
(19) وأخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد، حدَّثنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله، حدَّثنا القاسم بن عباد الخطابي، حدَّثنا إسحاق بن إسرائيل، حدَّثنا مسلم بن خالد، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر )).
* وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام: الدنيا دار عناء، وفناء، وبكاء.
* وعن زيد بن علي عليه السلام: الدنيا دار عناء، وفناء، وغير، وعبر، فمن العناء أن الدهر موتر قوسه، لا تخطي سهامه، ولا تأسو أجراحه، يرمي الحي بالموت، والصحيح بالعطب، آكل لا يشبع، وشارب لا يروى، ومن العناء أن المرء يجمع ما لا يأكل، ويبني ما لا يسكن، ثم يخرج إلى اللّه سبحانه فلا مال نقل، ولا بناء حمل.
أخبرني أبو الحسن علي بن أحمد، أخبرنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد، أخبرنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي، عن عمه، قال: حججت، ونزلت صربة في يوم الجمعة، وإذا أعرابي قد كَوَّرَ عمامته، ونكب قوسه، فصعد المنبر، وأثنى على اللّه، ثم قال: أيها الناس إنما الدنيا دار ممر، والآخرة دار مقر، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم، فإنه لن يستقبل أحد يوماً من عمره إلا بفراق آخر من أجله، وإن أمس موعظةٌ، واليومَ غنيمةٌ، وغداً لا ندري من أهله، فاستصلحوا ما تقدمون عليه، وراقبوا ما ترجعون إليه، وأخرجوا من الدنيا قلوبكم قبل أن تُخْرَجَ منها أبدانكم، ففيها خلقتم وإلى غيرها ندبتم، وأنه لا قوي أقوى من الخالق، ولا ضعيف أضعف من المخلوق، فلا مهرب من اللّه إلا إليه، وكيف يهرب من يتقلب في يد طالبه؟ و﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾[آل عمران:185] .
* وروي أن هارون بن محمد الملقب بالرشيد لما فتح أنقرة، وجد على بابها حجراً منصوباً عظيماً، عليه كتاب باليونانية ترجمته: يا ابن آدم غافص الفرصة عند إمكانها، وكِلِ الأمور إلى وليها، ولا يحملك إفراط السرور على مأثم، ولا تحملن على نفسك هم يوم لم يأتك، إن يكن من أجلك يأتك اللّه فيه برزقك، لا تكن أسوة المغرورين في جمع المال فكم رأينا من جامع لبعل حليلته، و(من) تقتير المرء على نفسه توفيره لخزانة غيره، ينبغي لحكماء اليونانية أن ينظروا في هذا الكتاب كل صباح.
* لمُصَنِّفِه:
أعاذل فارفضن سبل الملام
*** غرامي القصد من همم الغرام
لمحت رواغب الأيام طراً
*** فما هي غير أحلام المنام
زممت مطامعي عنها لعلمي
*** بأن زمامها يرخي زمامي
وإن فضول زينتها غرور
*** وروح الروح في دار المقام
وإن جميع منيتها خداع
*** وريحان المنى دار السلام
فلا تقدم لمعصية تذكر
*** صراعك مرغماً تحت الرغام
ولا تقدح هواك بكل نبل
*** وراقب ما تجازى في الختام
فكل مزارع لا بد يوماً
*** سيحصد زرعه عند الصرام
ستجني ما غرست بلا ارتياب
*** فغرس الخير أنجح في الفصام
لقد حسرت يداك على اغترار
*** ببارق خلب مر الفطام
* وكان أمير المؤمنين عليه السلام يتمثل:
ومن يصحب الدنيا يكن مثل قابض *** على الماء خانته فروج الأصابع
* وكان سفيان الثوري يقول: الدنيا دار إلتواء لا دار إستواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، من عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء.
* وعن بعضهم:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت *** له عن عدو في ثياب صديق
* الأصمعي قال: سمعت أبا عمرو بن العلاء، يقول: كنت أدور في ضيعة لي فسمعت إنساناً يقول:
وإن امرءاً دنياه أكبر همه *** لمستمسك منها بحبل غرور
قال: فنقشه أبو عمرو على فص خاتمه.
* الأصبغ بن نباته، قال: كنت جالساً عند أمير المؤمنين عليه السلام، فجاء إليه رجل فشكى إليه الدنيا. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار غناء لمن تزود منها، ودار عافية لمن فهم عنها، مسجد أحبَّاء الله، ومهبط وحيه، ومصلَّى ملائكته، ومُتَّجَرُ أوليائه، كسبوا فيها الجنة، وربحوا فيها الرحمة، فمن ذا يذمها وقد آذنت ببينها، ونادت بانقطاعها، ونعت نفسها وأهلها، فمثلت ببلائها البلاء، وشوقت بسرورها إلى السرور، راحت بفجيعة، وابتكرت بعافية، تحذيراً وترغيباً وتخويفاً، فذمها رجال غداة الندامة، وحمدها آخرون، ذكرتهم فذكروا، وحدثتهم فصدَّقوا، فيا أيها الذام للدنيا المغتر بغرورها، متى استدنت إليك الدنيا؟ متى غرتك؟ أبمنازل آبائك من الثرى؟ أم بمصارع أمهاتك من البلى؟ كم مرَّضْتَ بكفيك؟ وكم علّلتَ بيديك؟ تبتغي لهم الشفاء، وتستوصف لهم الأطباء، لم تنفعه بشفاعتك، ولم تستعف له بطلبك، مثلت لك به الدنيا نفسك، وبمصرعه مصرعك، غداة لا يغني بكاؤك، ولا ينفع أحبَّاؤك.
أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد، أخبرنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله، أخبرنا أبو بكر بن دريد، حدَّثنا أحمد بن عبد الله بن سويد بن منجوف، حدَّثنا أحمد بن عبد الله القرشي، حدَّثنا يحيى بن عبد الله بن حسن، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، في هذه الرواية: ثم التفت إلى الحسن بن علي عليه السلام فقال: إن الناس يذمون الدنيا، وهي راحلتهم إلى الآخرة.
أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد، أخبرنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله، أخبرنا أبو بكر بن دريد، حدَّثنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة، قال: قال رجل لأمير المؤمنين علي عليه السلام: صف لنا الدنيا؟ فقال: ما أصف لك من دار من صَحَّ فيها أمن، ومن سقم ندم، ومن أفتقر حزن، ومن أستغنى فتن، حلالها حساب، وحرامها عذاب.
* وعن بعضهم: الدنيا جمة المصائب، رنقة المشارب، لا تمتع صاحباً بصاحب.
(20) أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد، قال: أخبرنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله، قال: حدَّثنا ابن منيع، حدَّثنا أبو نصر التمار، حدَّثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات )).
أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد، أخبرنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله، حدَّثنا القاسم بن الحسن الزبيدي، أخبرني محمود الوراق، عن عبدالمجيد، عن أبيه، قال: قيل للباقر محمد بن علي عليه السلام: من أعظم الناس قدرا؟ قال: من لم يبل الدنيا في يد من كانت.
أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد، أخبرنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله، حدَّثنا محمد بن عمرو التستري، حدَّثنا الحارث بن محمد التميمي، حدَّثنا المدائني، عن سعيد بن أبي سعيد، قال: قال محمد بن الحنفية: من كرمت نفسه عليه صغرت الدنيا في عينيه.
* مُصَنِّفُه: ولو لم يكن فيها إلا متابعة الأنذال الأرذال، ومصاحبة المتسفهة، الأدنياء الأغفال لكفى.
كما قيل عن بعضهم: من أراد الدنيا صحب الأدنياء، فإن خالقها ذمها، وإن من رغب عنها رغب فيه الناس وتحابوه، ومن مال إليها مال عنه الناس [وتحاشوه] ، وحبها رأس كل خطيئة، حلوتها مرَّة الآخرة، ومرَّتها حلوة الآخرة، ومن هوانها أنه لا يعصى اللّه إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها، والمطلوب من الأمور خواتمها، وهي لا شيء عند خواتيمها، وعظم مقصودها الأخبثان منوط بهما نهاية المذمة، كما قال أمير المؤمنين متمثلا شعراً:
فإنك مهما تعط بطنك سؤله *** وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
* وكما حكي عن بعضهم: وقد سئل عن الدنيا [فأشار] إلى مزبلة براز فقال: هذه الدنيا ونهمتها، فهل تبدل بنعيم الأبد، والروح السرمد؟ والانسلال عن كدرها إلى غاية الأماني والآمال، تبدل ذهباً بخزف، وبدرة بمدرة، لإِيْثَارِكَ العاجل الخسيس، ورفضك الآجل النفيس؟
(21) فما عند اللّه سبحانه إلا كما أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن فضالة، أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن إسماعيل، حدَّثنا مكحول بن الفضل، حدَّثنا عبد الله بن محمود المروزي، حدَّثنا الخلال، عن ابن المبارك، عن مجالد، عن قيس بن أبي حازم، عن المستورد بن شداد، قال: كنت في الركب الذين وقفوا مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على السخلة الميتة فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( هذه هانت على أهلها ))؟ قالوا: من هوانها ألقوها يا رسول اللّه؟ قال: (( الدنيا أهون على اللّه من هذه على أهلها )).
(22) وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( لو كانت الدنيا تزن عند اللّه جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة من ماء )).
(23) أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد، أخبرنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله، أخبرنا سيران بن محمد إجازة، حدَّثنا محمد بن مرزوق، حدَّثنا عبيدالله بن حرب، حدَّثنا عدة من أهل الجزيرة، عن محمد بن آدم، عن قنبر مولى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( من في الدنيا ضيف وما في يده عارية فالضيف مرتحل والعارية مردودة )) (مؤدَّاة) .
* وعن بعض الحكماء: الدنيا مزرعة الآخرة، فواحد يزرع الدرجات، وواحد يزرع الدركات.
* وعن غيلان: حلوٌ رضاعها، مُرٌ فطامها، الحق فيها مهجور، والباطل متبوع.
* وعن بعضهم: يا ابن آدم، إنك في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك، وإنك لتطأ أرضاً عما قليل هي قبرك.
* وعن الحسن: إن أردت أن تنظر إلى الدنيا بعدك، فانظر إليها بعد موت غيرك. وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
* وكان الفضيل يقول: اجعل الشر في بيت، واجعل مفاتحهُ النظر، لا تنظروا إلى خفض عيش الملوك ولين لباسهم، ولكن انظروا إلى: سرعة ضعنهم، وسوء منقلبهم.
* مُصَنِّفُه: من عجائب حال الدنيا أن الجماهير في ذمها ودرها كما قال بعضهم:
يذمون دنياهم ويحلوندرها *** فلم أْرَ كالدنيا تُذَمُّ وتُحْلَبُ
* كل إنسان في طلب الدنيا والدنيا عن قليل تصير إلى لا شيء .
* وروي في بعض مواعظ أهل البيت عليهم السلام: أنها تتزين يوم القيامة فتقول: يا رب، هبني من بعض أوليائك. فيقول اللّه تعالى: (( إنك أهون عليَّ من أن أشركك في شيء من أمر أوليائي تلاشي )). وما هي إلا حديث حس، وأحلام نوم، فكأنك عند مقيل القبر لم تكن. كما قال القائل:
كأنك لم تكن في الدهر يوماً *** إذا ما حان في القبر المقيل
* وكما قال آخر:
وما الدنيا بباقية لحيٍ *** ولا حي على الدنيا بباقي
* مُصَنِّفُه: فالخبير البازل، والمسترشد المستحظي العاقل، لا يمنح عنان هواه، ولا يساعد داعية مُنَاةُ الغرور، وهي سحاب عارضة عن قريب تتقشع، ومخيلة سراب عن سريع تتقطع، فيؤثرها على الأبدية السرمدية التي ﴿لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ﴾ [الحجر:48] ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾ [فصلت:31، 32].
(24) وقد روي أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كان وجَّه شاة إلى بيت عائشة، وأمر أن يتصدق بها فسألها عنها. فقالت: ما بقي إلا العنق. فقال عليه السلام: (( بقي الجميع إلا العنق )). تنبيهاً على أن ما تقرب به إلى اللّه جل جلاله دام وتَأبَّدَ، وما يؤكل يبلى ولا يتخلد، ولذلك قال تعالى: ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾ [ الكهف:46 ] .
* وروي أن اللّه تعالى أوحى إلى الدنيا: (( من خدمك فاتعبيه، ومن خدمني فاخدميه )).
(25) أخبرنا أبو الحسن علي بن [محمد] بن أحمد، أخبرنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله، أخبرنا بكر بن أحمد ، حدَّثنا ابن الأشعث، حدَّثنا هشيم، حدَّثنا يحيى بن إسحاق، عن أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( كان تحت الجدار الذي ذكر اللّه في القرآن لوح من ذهب فيه: بسم اللّه الرحمن الرحيم عجباً لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجباً لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجباً لمن يوقن بالنار كيف يضحك، وعجباً لمن يرى زوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه )) .
* قال أنس: والذهب لا يصدى ولا يبلى. وقد أسند إلى الصادق هذا الخبر في بعض مواعظه.
* وعنهما، أخبرنا العلكي، حدَّثنا حاتم بن قبيصة المهلبي ، حدَّثنا أبي، قال: كان زيد بن علي بن الحسين بن علي عليهم السلام يدعو في تهجده فكان من دعائه: اللهم، إني اسألك سلُوَّا عن الدنيا، وبغضاً لها ولأهلها، فإن خيرها زهيد، وشرها عتيد، وصفوها يرنق، وجديدها يخلق، وخيرها ينكد، وما فات منها حسرة، وما أصيب منها فتنة، إلا من نالته منك عصمة، فاسألك العصمة منها، وأن لا تجعلني كمن رضي بها واطمأن إليها، فإن من اطمأن إليها خذلته، ومن وثق بها خانته.
(26) أخبرنا أبو الحسين [الحسن بن] علي بن محمد بن جعفر الوبري ، أخبرنا القاضي أبو بكر محمد بن عمر الجعابي الحافظ، حدَّثنا القاسم بن محمد، حدَّثنا أبي، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن الحسين، عن الحسين عليهم السلام، قال: رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قام خطيباً على أصحابه فقال: (( أيها الناس، كأن الموت فيها على غيرنا [كتب] ، وكأن الحق فيها على غيرنا وجب، وكأن الذي نُشَيِّع من الأموات قوم سفر عما قليل إلينا راجعون، نبوئهم أجداثهم، ونأكل تراثهم، كأنا مخلدون بعدهم، نسينا كل واعظة، وأمنَّا كل جائحة، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، طوبى لمن طاب كسبه، وصلحت سريرته، وحسنت علانيته، واستقامت خليقته، طوبى لمن تواضع في غير منقصة، وأنفق مما جمعه من غير معصية، وخالط أهل الفقه والحكمة، ورحم أهل الذل والمسكنة، طوبى لمن أنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله، ووسعته السنة ولم يشذ عنها إلى بدعة )) ثم نزل.
أخبرنا أبو الحسين الحسن بن علي بن محمد بن جعفر الوبري، حدَّثنا القاضي أبو بكر محمد بن عمر بن محمد الجعابي، حدثني: القاسم، حدثني: أبي، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن الحسين، عن الحسن بن علي عليه السلام قال: كأني انظر إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام وهو قائم يخطب، فقال: يا أيها الناس، إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد تحمَّلت مقبلة، ألا وإن لكل واحدة منهما بنين، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، وكونوا من الزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة، واتخذوا [من] الأرض فراشاً، ومن التراب بساطاً، والماء طيباً، وقَوِّضُوا الدنيا تقويضاً، ألا ومن اشتاق إلى الجنة سلى عن الشهوات، ومن أشفق من النار لهى عن المحرمات، ألا ومن ترقب الموت سارع في الخيرات، ألا ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ألا وإن لله عباداً فمن عمل منهم عمل أهل النار فهم في النار معذبين، ومن عمل منهم للجنة دخل الجنة مخلدين، قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وحوائجهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، صبروا أياماً قصاراً، والعقبى راحة طويلة.
أما الليل فصافون أقدامهم، تجري دموعهم على خدودهم، يجأرون ويبكون إلى ربهم، يسألونه فكاك رقابهم من النار.
وأما النهار فحكماء علماء رحماء أتقياء، بررة خاشعين، كأنهم الفراخ، ينظر إليهم الناظر فيقول: مرضى. وما بالقوم من مرض، أو يقال: أنهم قد خولطوا. ولقد خالط القوم أمر عظيم من ذكر النار وما فيها.
* وروي أن أمير المؤمنين عليه السلام خطب، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إنكم على ظهر سفر، وإنكم في دار هدنة، والسير بكم سريع، وقد رأيتم الليل والنهار يبليان كل جديد، ويُقرِّبان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود، فأعدوا الجهاز ليوم المعاد.
* وعن بعضهم: عجباً لك يا ابن آدم ألا ترفض الدنيا وتهرب منها؟ عجباً لك يا ابن آدم لقد حببت إليك الدنيا كأنك جاهل بها، يا ابن آدم مالك تبكي على الدنيا وأنت عاشق لها؟ أف لك يا ابن آدم ما أقبح ما يأتي منك، أنت ساهٍ، لاهٍ، غافل، مغرور، أنت ظالم لنفسك. ارحل خميصاً، تغبط غداً ويحمد أمرك.
* ابن السماك في كلام له: لقد أمهلكم، حتى كأنه أهملكم، أما تستحيون من اللّه كما تستحيون من طول مالا تستحيون.
* مُصَنِّفُه: الموت في أعناق العباد، والدنيا تطوى من خلفهم، فمن عمل لدنياه أَضَّرَ بآخرته، ومن عمل لآخرته أضر بدنياه، وهي به أولى لأنها فانية، والأخرى باقية، ولأن الآخرة كالأم، والدنيا كالظئر ، وإن من آثر آخرته ربح دنياه، ومن آثر دنياه خسرهما.
* لمُصَنِّفِه شعراً:
فهب صارت لك الدنيا جميعا *** أليس الموت عاقبة الجميع؟
* لبعضهم شعراً:
هب الدنيا تساق إليك عفواً *** أليس مصير ذاك إلى انتقال ؟
* وفي بعض مواعظ أهل البيت عليهم السلام: كان المسيح يقول: يا ابن آدم كانت الدنيا ولم تكن، وتكون الدنيا ولست فيها، وإنما لك منها أيام حياتك، فإياك وأن تضيع نفسك، فإن المغبون من غبن أيام حياته.
* وعن أمير المؤمنين عليه السلام: إنما أنت عدد أيامك فكلما مضى منك يوم فقد مضى بعضك.
* وعن الباقر عليه السلام: فكأنك قد صرت الحبيب المفقود والخيال المخترم.
· مُصَنِّفُه: لقد جاوزت منازل عمرك، من الطفولة، والترعرع والشباب والكهولة، وأنخت بساحة الشيخوخة، فما تنتظر؟ فلا منزل بعدها إلا القبر، وانقطاع الآمال، وفوات التلافي، أما حان الانتباه عن الغفلة، والاغترار بالمهلة؟ أهــ
-----------
# من كتاب سلوة العارفين بتصرف
الكتاب موجود على الشبكة http://hamidaddin.net/ebooks/
الزهد في الدنيا
-
- مشترك في مجالس آل محمد
- مشاركات: 2745
- اشترك في: الأحد إبريل 18, 2004 3:47 am
- اتصال:
الزهد في الدنيا

يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون
