زيد علي الفضيل
على الرغم، بداية، من رفضي القاطع لكل الممارسات العسكرية التي صدرت عن حركة الشباب المؤمن، او حركة الحوثي في اليمن، ورغم إيماني بخطأ توجههم السياسي، واختلافي مع كثير من توجهاتهم الفكرية، إلا أنني أرفض أن يزج بالمجتمع بأكمله في أتون معركة ملتهبة، الخاسر فيها هو اليمن بمقوماته، ومرتكزاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وقبل هذا، وفوق ذاك، مرتكزاته الوجدانية، التي امتزجت، وتلاحمت طوال قرون عدة من التعايش المشترك، والتفاعل الواحد، مع مختلف صيغ الحياة المادية والمعنوية، وهو ما تؤكده الكثير من الدراسات التاريخية، الانثرو بيولوجية، وغيرها، وقام بترجمته العديد من رموز حركة التغيير والنضال اليمني بدمائهم، وأعمارهم، سواء خلال مقاومة الغزو العثماني، أو حين مقاومة حالة الاستبداد والجهل التي استشرت حبائلها خلال العهد الملكي في اليمن (1904 ـ 1962)، عبر تضافر الجهود الوطنية المشتركة في حركة ثورة الدستور سنة 1948، مرورا بثورة المقدم الثلايا سنة 1955، وصولا إلى ثورة حركة الضباط الأحرار سنة 1962 .
أتصور أن المشكلة في اليمن راجعة إلى علائق ما يثار في بعض الكتابات الصحافية من بعد طائفي، فئوي، ناتج عن القراءة المتشنجة للفترة السياسية السابقة للنظام الجمهوري بشكل عام، ودون تحديد بيِّن لمرحلة الخلاف الإشكالي، الكأمنة في حكم آل يحيى حميد الدين، الذي شارك في مقاومته ورفضه، فئات المجتمع المختلفة، من هاشميين وقحطانيين، وأطيافه المتنوعة سواء كانت زيدية أو شافعية، أو غير ذلك، فكان أن انساق الهجوم إجمالا على المرحلة التاريخية السالفة بأكملها، وتمدد ليشمل لهيبه الهاشميين على وجه الخصوص، باعتبار ارتباطهم التاريخي بنظام الإمامة (الذي كان يتوافق مع مرحلة تاريخية سابقة، وكان سقوطه فعليا على عهد الإمام يحيى حميد الدين)، وإلى الفكر الزيدي، باعتباره المذهب الرسمي لدولة الإمامة، ودون النظر إلى الاعتبارات المجتمعية الأخرى، والشرائح الفئوية المتنوعة، التي كان لها الدور الرئيس إبان حكم دولة الأئمة التاريخية، باعتبار مرجعياتهم الاجتماعية، والمناطقية، والفكرية. الأمر الذي حدا بالعديد من الزعامات الوطنية إلى إعلان رفضها لكل مناحي التفرقة الطائفية والعصبية، والتأكيد على وحدة الهوية اليمنية لأطياف المجتمع وتركيباته، ومن ذلك ما صرح به المناضل والأديب القاضي محمد محمود الزبيري رحمه الله، الذي قال وبصراحته المعهودة في كتابه «مأساة واق الواق»: «.. وأنا لا أعتبر الهاشميين إلا جزءا أصيلا من أبناء الشعب، لو نازعتني الدنيا كلها عليهم لقاتلت في سبيل الاحتفاظ بهم، كما أقاتل من ينازعني على جزء من أرض بلادي، وأعتبر هذا وذاك غاصبا معتديا أثيما».
وإذا كان مقبولا وبشكل محدود، أمر تفشي ظاهرة الصراع الطائفي والعصبي خلال مرحلة الستينات، بسبب تأجج وتيرة الحرب الأهلية في اليمن، والتي لن يختلف معي أحد من المنصفين، على اختلاط أوراقها الاجتماعية، والفئوية، والطائفية أيضا، بحيث توجد كل طرف وبقوة في كلا المعسكرين الملكي والجمهوري، فإن الأمر مختلف تماما خلال هذه المرحلة السياسية، المصطبغة ملامحها بقيمية الوحدة الوطنية، التي تحققت بفضل جهود الوطنيين من أبناء اليمن بقيادة الرئيس علي عبد الله صالح، الذي لم يأل جهدا في سبيل تثبيت أركان ملامحها بين جنبات ربوع اليمن.
إننا في حاجة ماسة لأن يصدح صوت العقل والحكمة، الداعي إلى تشكيل ما نتمناه ونسعى إليه، من مؤسسات وطنية تندمج فيها وخلالها شرائح المجتمع اليمني ضمن قوالب مؤسساتية، يكون للعمل فيها وليس للمرجعية الاجتماعية أو الطائفية، أو حتى الدينية، الدور الرئيس في الرقي والتقدم، باعتبار قدسية المرجعية الوطنية، وفي حينه يمكن للمجتمع اليمني النهوض من كبوته، والتقدم بخطى ثابتة نحو آفاق المستقبل.
* كاتب في التاريخ والشؤون اليمنية
الشرق الأوسط - الاثنين 16/ 5/ 2005
أقوال الصحف والكتاب
-
- مشترك في مجالس آل محمد
- مشاركات: 1041
- اشترك في: السبت مارس 19, 2005 9:03 pm
أقوال الصحف والكتاب
آخر تعديل بواسطة ابن المطهر في الثلاثاء مايو 17, 2005 9:22 am، تم التعديل مرة واحدة.
عندما نصل إلى مرحلة الفناء على المنهج القويم ، أعتقد أنا قد وصلنا إلى خير عظيم .


-
- مشترك في مجالس آل محمد
- مشاركات: 1041
- اشترك في: السبت مارس 19, 2005 9:03 pm
العفو المفاجأة في اليمن
عادة لا آخذ كل تصريحات الرسميين على محملها، مثل تصريحات من صنعاء ان وراء معركة الحوثيين مؤامرة لإعادة الإمامة التاريخية اليمنية. انها لا تزيد في حقيقتها عن اخبار الأطباق الطائرة الآتية من المريخ. فإذا كنتم على استعداد ان تصدقوا بهبوط مخلوقات فضائية على كوكبنا، فانا على استعداد ان أصدق ان محاولة انقلاب لإعادة إمامة الخمسينات. فالإمامة اندثرت منذ 45 عاما، ولم يسجل لها الى نهاية الحرب الاهلية اليمنية أي مسعى واحد جاد للعودة، فكيف تحيا فجأة.
ظهور الحوثي وأتباعه في اليمن ليس بالغريب، فأمثاله كثر، خرجوا في العالم الاسلامي وتنادوا جهارا بشق عصا الطاعة وحملوا السلاح من اندونيسيا الى المغرب، فلماذا يبرأ الحوثيون ويلام غيرهم؟ هل هي وسيلة لإطفاء الحريق بإلقاء اللوم على أشباح الماضي؟ أو تبرير العفو عنهم؟ ربما تمرد الحوثي دام فترة من الزمن كافية لإيصال رسائله، وحقيقة مواقفه، وتوجهات اتباعه، ومن الصعب ابتداع رواية بديلة.
المفاجأة الثانية ان صنعاء قررت إعلان العفو عن زعيم التمرد، بعد ان تسبب في قتل مئات من المواطنين ورجال الأمن وأتباعه كذلك. كانت المعركة معه اكبر اشتباك عرفه اليمنيون منذ حرب الشمال والجنوب في مطلع التسعينات. بل هي أول حرب غير حكومية منذ نهاية الحرب الأهلية في الستينات.
مع هذا نتفهم ان العفو، المفاجأة، يساير طبيعة العمل السياسي اليمني الذي يقدم حفظ الرابطة المحلية على ملاحقة ومعاقبة الافراد، وظروف اليمن التي تقتضي تطويق الفتن حتى لا تنتشر قبليا، حتى لو كسرت القوانين.
وعسى ان تكون بادرة الرئيس في محلها، ويكون عفوه سيد الموقف، وخاتمة هذه الأزمة غير المألوفة في الحياة اليمنية، خاصة انها اعتمدت التشدد الديني الذي لم يعرف به اليمنيون من قبل. لكن العفو لا يفترض تسامحا أمام ثقافة العنف بمراجعة الروابط الثقافية الموصلة بتنظيمات العنف، وإنهاء حاضنات التحريض التي تتخذ كل مرة مبررات لمهاجمة السلطة المركزية.
أزمة اليمن صادفت اعتقالات سلطنة عمان، وهي البلد الآخر الذي لم يعرف عنه عنف محلي منذ نهاية مواجهات ظفار اليسارية. في اليمن قاد الفتنة ابن زعيم قبيلة، وفي عمان ملامحها مماثلة لازمة كل المنطقة ظهرت من اول محاكمة لثلاثة هم مدرس بكلية التربية، وإمام مسجد الجامعة، وموظف حكومي.
الصورة اكثر وضوحا اليوم، بعد ان كانت قبل عشر سنوات مجرد معركة في ضواحي العاصمة الجزائر. تقريبا صارت كل ضواحي العواصم العربية ساحات للمتعصبين المنظمين من حملة السلاح. وبات واضحا للجميع ان الخطر ليس من تنظيم مركزي بعينه، بل من الفكرة التي انتشرت في المنطقة بسبب اللامبالاة بمحاربتها، حيث اعتبرتها كل دولة افكارا بعيدة، ولاحقا افكارا دخيلة، ترفض مواجهة جذورها الفكرية.
alrashed@asharqalawsat.com
http://www.aawsat.com/leader.asp?sectio ... issue=9667
الشرق الأوسط - الثلاثاء 17/ 5/ 2005
عادة لا آخذ كل تصريحات الرسميين على محملها، مثل تصريحات من صنعاء ان وراء معركة الحوثيين مؤامرة لإعادة الإمامة التاريخية اليمنية. انها لا تزيد في حقيقتها عن اخبار الأطباق الطائرة الآتية من المريخ. فإذا كنتم على استعداد ان تصدقوا بهبوط مخلوقات فضائية على كوكبنا، فانا على استعداد ان أصدق ان محاولة انقلاب لإعادة إمامة الخمسينات. فالإمامة اندثرت منذ 45 عاما، ولم يسجل لها الى نهاية الحرب الاهلية اليمنية أي مسعى واحد جاد للعودة، فكيف تحيا فجأة.
ظهور الحوثي وأتباعه في اليمن ليس بالغريب، فأمثاله كثر، خرجوا في العالم الاسلامي وتنادوا جهارا بشق عصا الطاعة وحملوا السلاح من اندونيسيا الى المغرب، فلماذا يبرأ الحوثيون ويلام غيرهم؟ هل هي وسيلة لإطفاء الحريق بإلقاء اللوم على أشباح الماضي؟ أو تبرير العفو عنهم؟ ربما تمرد الحوثي دام فترة من الزمن كافية لإيصال رسائله، وحقيقة مواقفه، وتوجهات اتباعه، ومن الصعب ابتداع رواية بديلة.
المفاجأة الثانية ان صنعاء قررت إعلان العفو عن زعيم التمرد، بعد ان تسبب في قتل مئات من المواطنين ورجال الأمن وأتباعه كذلك. كانت المعركة معه اكبر اشتباك عرفه اليمنيون منذ حرب الشمال والجنوب في مطلع التسعينات. بل هي أول حرب غير حكومية منذ نهاية الحرب الأهلية في الستينات.
مع هذا نتفهم ان العفو، المفاجأة، يساير طبيعة العمل السياسي اليمني الذي يقدم حفظ الرابطة المحلية على ملاحقة ومعاقبة الافراد، وظروف اليمن التي تقتضي تطويق الفتن حتى لا تنتشر قبليا، حتى لو كسرت القوانين.
وعسى ان تكون بادرة الرئيس في محلها، ويكون عفوه سيد الموقف، وخاتمة هذه الأزمة غير المألوفة في الحياة اليمنية، خاصة انها اعتمدت التشدد الديني الذي لم يعرف به اليمنيون من قبل. لكن العفو لا يفترض تسامحا أمام ثقافة العنف بمراجعة الروابط الثقافية الموصلة بتنظيمات العنف، وإنهاء حاضنات التحريض التي تتخذ كل مرة مبررات لمهاجمة السلطة المركزية.
أزمة اليمن صادفت اعتقالات سلطنة عمان، وهي البلد الآخر الذي لم يعرف عنه عنف محلي منذ نهاية مواجهات ظفار اليسارية. في اليمن قاد الفتنة ابن زعيم قبيلة، وفي عمان ملامحها مماثلة لازمة كل المنطقة ظهرت من اول محاكمة لثلاثة هم مدرس بكلية التربية، وإمام مسجد الجامعة، وموظف حكومي.
الصورة اكثر وضوحا اليوم، بعد ان كانت قبل عشر سنوات مجرد معركة في ضواحي العاصمة الجزائر. تقريبا صارت كل ضواحي العواصم العربية ساحات للمتعصبين المنظمين من حملة السلاح. وبات واضحا للجميع ان الخطر ليس من تنظيم مركزي بعينه، بل من الفكرة التي انتشرت في المنطقة بسبب اللامبالاة بمحاربتها، حيث اعتبرتها كل دولة افكارا بعيدة، ولاحقا افكارا دخيلة، ترفض مواجهة جذورها الفكرية.
alrashed@asharqalawsat.com
http://www.aawsat.com/leader.asp?sectio ... issue=9667
الشرق الأوسط - الثلاثاء 17/ 5/ 2005
عندما نصل إلى مرحلة الفناء على المنهج القويم ، أعتقد أنا قد وصلنا إلى خير عظيم .


عندما حادثني الرئيس
جريدة 26 سبتمبر الاسبوعية عدد رقم: 1155 التاريخ7-10-2004
عندما حادثني الرئيس
زيد علي الفضيل
باحث في الشؤون التاريخية
عضو جمعية المؤرخين الخليجيين
ماكنت اتصور ان هاتفي سينقل لي تحيات رئيس عربي يشكرني على رأي تاريخي بثثته! وما كنت انتظر ذلك! أو يجري في مخيلتي أمر كذلك..! ولولا أن ماكنت استبعده قد حصل فعلا،
لما صدقته أبدا...!!
لم أعرف نفسي وأنا ألتقط انفاس محدثي الأستاذ القدير عبده بورجي حين اخبرني بمتابعة فخامة رئيس الجمهورية الأخ علي عبدالله صالح لحديثي المبثوث عبر برنامج قناة
المستقلة اللندنية حول تاريخ اليمن، وماكدت أعرفها وهو يحدثني عن تأييده لمداخلاتي حول ذلك التاريخ، حينها امتزجت بين جوانحي وفي وقت واحد كل علامات الفرحة
والدهشة.
الفرحة لحديث فخامته الذي يعكس وجدانا إنسانيا، وروحا متماهية مع احداث الشارع ومتغيراته، والدهشة من اهتمامه لإيصال رأيه لي في وقت قد تشاغل فيه الكثير من الرؤساء
عن تطلعات شعوبهم بقضاياهم الخاصة، ونأوا بانفسهم في مغالق ابراجهم عن هموم ومتغيرات زمانهم.
إنها الحقيقة التي ماكان عليَّ ان اخفيها، ومايكون عليَّ أن احجبها عن عيون القراء والباحثين اليمنيين بوجه خاص، الذين حق لهم الافتخار بقيادتهم الحكيمة، البصيرة بأمور
ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وعن عيون الباحثين العرب بوجه عام، الذين طال بهم الأمد في انتظار تهنئة من زعيم عربي على عمل بحثي لايعبأ به الجميع، في عصر تغلبت فيه القيم المادية على القيم المعنوية، وهي في نفس الوقت رسالة واضحة اشد بها على يد فخامة الرئيس الإنسان للدلالة على
أهمية مايقوم به من تفعيل للتواصل بين الحاكم والمحكوم بالشكل الذي ينسجم مع حركة بناء المجتمع المدني في اليمن.
لقد تعودنا في العالم العربي ومنذ قرون طويلة بوجه عام، وفي اليمن ومنذ بدايات احقب الملكية في مطلع القرن العشرين الميلادي بوجه خاص، على ان ندور في فلك من يحكمنا، باعتباره النواة والقطب لهذا الكون، مطبقين، ودونما إرادة منَّا مقولة الملك الشمس لويس الرابع عشر
«أنا الدولة والدولة أنا».
ولهذا فانه من الصعوبة انتزاع هذه الفكرة من ذهن العقل الجمعي العربي الذي رسخت بين حبائله ثقافة العمل الأوحد، وتوثقت بين جنباته خصائص المجتمع الفردي الأنوي، إلا أن تتضافر من أجل ذلك الجهود المضنية من قبل المفكرين والكتاب الهادفة الى توعية المجتمع، وبث روح العمل
المؤسسي بين جنابته بالصورة التي ينعكس أثرها بعد ذلك على سلوكه الاجتماعي والثقافي والسياسي.
وهو ماحرصت عليه اليمن خلال حقبة ما يمكنني تسميته بالجمهورية الرابعة التي كان مبدأها بتوقيع الوحدة المباركة بين شطري اليمن، ومن ثم تفعيل النشاط المؤسسي للمجتمع المدني اليمني المتمثل في بروز العديد من الأحزاب والجمعيات ذات التوجهات المتنوعة، والآراء المتغايرة في ظل مايكفله القانون والدستور من حرية وانضباط.
غير ا نه ومع ايماني بالدور الكبير الذي يقع على كاهل المثقفين في سبيل تعميق تلك الثقافة المؤسسية في وجدان الشارع العربي، إلا أن الدور الأكبر، من وجهة نظري، يعود لآلية العمل التي ينتهجها السياسي الحاكم خلال مدة حكمه، إذ أنه القادر على ان يعكس بسلوكه وفعله جوهر النظرية
بكل شفافية وصدق، وهو ماحرص على تجسيده العديد من الزعماء التاريخيين الغربيين الذين قعدوا بسلوكهم نهج الديمقراطية، وثبتوا بأفعالهم خصائص المجتمع المدني المؤسسي في وجدان مجتمعاتهم افرادا وجماعات.
فالحاكم السياسي البارع هو الذي يتلاحم مع هموم شعبه وآماله ورغباته بالصورة التي تجعله دائماً قريبا من مخيلة وجدان امته، وهو مانحتاج اليه في وطننا العربي الذي افتقد انسانه طوال عقود بل وقرون ماضية لشخصية الحاكم الأب.. والأخ.. والابن..، الحاكم الانسان القادر على تلمس معاني حيثيات أفعال الآخرين بغض النظر عن مدى موافقتها لتوجهه من عدمه، وهو مايمكننا أن نستشفه من خطى الرئيس علي عبدالله صالح الذي لم يألوا جهدا ليحيل رومانسية التلاحم الوجداني بين السلطة والشعب الى واقع يمكن استشعاره وادراك ابعاده المعنوية بين جنبات مجتمعنا العربي- اليمني.
نعم، إنها الحقيقة التي كنت أدركها معاينة من بعيد، والتي تلمستها عن كثب في الآونة الاخيرة، ذلك انه وعلى الرغم من وعورة المسلك الديمقراطي إلا أنه قد آثر ولوجه في وقت كان الجميع من أقرانه بمنأى عن ذلك. وهو أمر ولاشك يحسب له، ويصب في خانة حسناته التاريخية.
منقول من جريدة 26 سبتمبر الاسبوعية عدد رقم: 1155 التاريخ7-10-2004
عندما حادثني الرئيس
زيد علي الفضيل
باحث في الشؤون التاريخية
عضو جمعية المؤرخين الخليجيين
ماكنت اتصور ان هاتفي سينقل لي تحيات رئيس عربي يشكرني على رأي تاريخي بثثته! وما كنت انتظر ذلك! أو يجري في مخيلتي أمر كذلك..! ولولا أن ماكنت استبعده قد حصل فعلا،
لما صدقته أبدا...!!
لم أعرف نفسي وأنا ألتقط انفاس محدثي الأستاذ القدير عبده بورجي حين اخبرني بمتابعة فخامة رئيس الجمهورية الأخ علي عبدالله صالح لحديثي المبثوث عبر برنامج قناة
المستقلة اللندنية حول تاريخ اليمن، وماكدت أعرفها وهو يحدثني عن تأييده لمداخلاتي حول ذلك التاريخ، حينها امتزجت بين جوانحي وفي وقت واحد كل علامات الفرحة
والدهشة.
الفرحة لحديث فخامته الذي يعكس وجدانا إنسانيا، وروحا متماهية مع احداث الشارع ومتغيراته، والدهشة من اهتمامه لإيصال رأيه لي في وقت قد تشاغل فيه الكثير من الرؤساء
عن تطلعات شعوبهم بقضاياهم الخاصة، ونأوا بانفسهم في مغالق ابراجهم عن هموم ومتغيرات زمانهم.
إنها الحقيقة التي ماكان عليَّ ان اخفيها، ومايكون عليَّ أن احجبها عن عيون القراء والباحثين اليمنيين بوجه خاص، الذين حق لهم الافتخار بقيادتهم الحكيمة، البصيرة بأمور
ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وعن عيون الباحثين العرب بوجه عام، الذين طال بهم الأمد في انتظار تهنئة من زعيم عربي على عمل بحثي لايعبأ به الجميع، في عصر تغلبت فيه القيم المادية على القيم المعنوية، وهي في نفس الوقت رسالة واضحة اشد بها على يد فخامة الرئيس الإنسان للدلالة على
أهمية مايقوم به من تفعيل للتواصل بين الحاكم والمحكوم بالشكل الذي ينسجم مع حركة بناء المجتمع المدني في اليمن.
لقد تعودنا في العالم العربي ومنذ قرون طويلة بوجه عام، وفي اليمن ومنذ بدايات احقب الملكية في مطلع القرن العشرين الميلادي بوجه خاص، على ان ندور في فلك من يحكمنا، باعتباره النواة والقطب لهذا الكون، مطبقين، ودونما إرادة منَّا مقولة الملك الشمس لويس الرابع عشر
«أنا الدولة والدولة أنا».
ولهذا فانه من الصعوبة انتزاع هذه الفكرة من ذهن العقل الجمعي العربي الذي رسخت بين حبائله ثقافة العمل الأوحد، وتوثقت بين جنباته خصائص المجتمع الفردي الأنوي، إلا أن تتضافر من أجل ذلك الجهود المضنية من قبل المفكرين والكتاب الهادفة الى توعية المجتمع، وبث روح العمل
المؤسسي بين جنابته بالصورة التي ينعكس أثرها بعد ذلك على سلوكه الاجتماعي والثقافي والسياسي.
وهو ماحرصت عليه اليمن خلال حقبة ما يمكنني تسميته بالجمهورية الرابعة التي كان مبدأها بتوقيع الوحدة المباركة بين شطري اليمن، ومن ثم تفعيل النشاط المؤسسي للمجتمع المدني اليمني المتمثل في بروز العديد من الأحزاب والجمعيات ذات التوجهات المتنوعة، والآراء المتغايرة في ظل مايكفله القانون والدستور من حرية وانضباط.
غير ا نه ومع ايماني بالدور الكبير الذي يقع على كاهل المثقفين في سبيل تعميق تلك الثقافة المؤسسية في وجدان الشارع العربي، إلا أن الدور الأكبر، من وجهة نظري، يعود لآلية العمل التي ينتهجها السياسي الحاكم خلال مدة حكمه، إذ أنه القادر على ان يعكس بسلوكه وفعله جوهر النظرية
بكل شفافية وصدق، وهو ماحرص على تجسيده العديد من الزعماء التاريخيين الغربيين الذين قعدوا بسلوكهم نهج الديمقراطية، وثبتوا بأفعالهم خصائص المجتمع المدني المؤسسي في وجدان مجتمعاتهم افرادا وجماعات.
فالحاكم السياسي البارع هو الذي يتلاحم مع هموم شعبه وآماله ورغباته بالصورة التي تجعله دائماً قريبا من مخيلة وجدان امته، وهو مانحتاج اليه في وطننا العربي الذي افتقد انسانه طوال عقود بل وقرون ماضية لشخصية الحاكم الأب.. والأخ.. والابن..، الحاكم الانسان القادر على تلمس معاني حيثيات أفعال الآخرين بغض النظر عن مدى موافقتها لتوجهه من عدمه، وهو مايمكننا أن نستشفه من خطى الرئيس علي عبدالله صالح الذي لم يألوا جهدا ليحيل رومانسية التلاحم الوجداني بين السلطة والشعب الى واقع يمكن استشعاره وادراك ابعاده المعنوية بين جنبات مجتمعنا العربي- اليمني.
نعم، إنها الحقيقة التي كنت أدركها معاينة من بعيد، والتي تلمستها عن كثب في الآونة الاخيرة، ذلك انه وعلى الرغم من وعورة المسلك الديمقراطي إلا أنه قد آثر ولوجه في وقت كان الجميع من أقرانه بمنأى عن ذلك. وهو أمر ولاشك يحسب له، ويصب في خانة حسناته التاريخية.
منقول من جريدة 26 سبتمبر الاسبوعية عدد رقم: 1155 التاريخ7-10-2004
الذهنية المسبقة وإشكالات الزمن
جريدة 26 سبتمبر الاسبوعية عدد رقم: 1156 - التاريخ 14/10/2004
الذهنية المسبقة وإشكالات الزمن
زيد علي الفضيل
باحث في الشؤون التاريخية
عضو جمعية المؤرخين الخليجيين
كان ولايزال الناقد والأديب الدكتور عبدالعزيز المقالح محوراً للثقافة اليمنية بوجه خاص، التي تفاعلت مع اطروحته الفكرية ذات الصبغة الحداثية التنويرية فكانت مثار نقاش دائم، وتداول مستديم، بين أروقة الباحثين، وداخل منتديات الكلمة، وكيف لا يكون ذلك! وهو الناقد الذي فجر بآرائه حصون الأدب المهترئة، أثار بأفكاره زوبعة، تطاير أريجها من بين رماد متقادم، فكان أن شارك بمعية رفقاء دربه من مفكري عصر النهضة الثاني في النصف الآخر من القرن العشرين (إن جاز القول)، في صناعة نهضة علمية ثقافية تعتمد العقل والمنهج في مناحي حركتها، وتهدف بالخروج بالأمة من أزمتها التاريخية والفكرية التي تجمدت عند حدود معينة من القراءات والأحكام المسلمة.
ومع كل ذلك الجهد المبذول من قبلهم لتحقيق ما سبق، إلا أن الوصول بالمجتمع لهذا الحد من التحرر والانطلاق ليس بالأمر اليسير، ويحتاج إلى جهد كبير تتكاثف فيه كل العقول النيرة، لا سيما وأن عوائق تكوين ذلك التحرر من سلطة القراءات السابقة، القابضة بيد من حديد على منافذ الفكر، كامن في خلفيات المجتمع الفكرية، التي تجذرت بين كواهله، وفي أروقة مساجده، مفاهيم دينية تشكلت بذرتها من داخل اروقة القصر، وتأكدت شرعيتها حال تأييد السلطة لها، فكان من الصعب عبر مختلف العصور على أحد التشكيك فيها، أو العمل لمقاومتها، لتحل تدريجياً بقيمها واحكامها وآليات عملها محل المفاهيم الربانية العدلية التي قررها الله على لسان نبيه الخاتم عليه الصلاة والسلام.
ولا أدري حقيقة، فيما إذا كان بوسع احدنا أن يفرغ ذهنه بصورة متجردة من لائحة الأحكام المسبقة بشكل سلس وفعال، وأن يتعامل مع الحدث، أياً كان نوعه، وأيا كانت هويته، بشكل علمي، ودون أن تتكالب على الذهن صورة خفية، يمكن أن يكون لها الأثر السلبي أو الإيجابي خلال تكوين الانطباع الأول، والذي غالباً ما يكون غير دقيق!!
إنها إشكالية البشر عبر القرون، وهي نابعة من غريزة فطرية لا يمكن التخلص منها، لكن، يمكن تهذيبها، وتقليصها وضبط أطرها، عبر الانخراط المستمر في آلة المعرفة، والتحليق بالنفس ضمن إطارها العرفاني، وبالعقل ضمن آفاقه المنطقية، وصولا للشفافية التي تساعد على فهم كثير من القضايا، وتعمل على تصفية النفس والعقل من شوائب الزمن بصورة مستمرة، وهو ما حرص عليه الكثير من العلماء والفلاسفة العرفانيين.
وبالرغم من أني لست من أولئك، ولست من الجادين للعمل على ذلك، وأرجو أن يهم بي الشوق أكثر لتفعيل ما ذكرت، حتى لا أكون ممن عناهم الله بقوله: «كبرمقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون»، بالرغم من ذلك، إلا أني قد عشت وخلال المرحلة السابقة أرق تلك التجربة، القاضية بتجريد النفس والعقل من أزمة القراءات المسلمة، والإنطباع الخفي، والإيمان الكلي بالنصوص التاريخية، وقطعية الاجتهادات التراثية، التي انتجت في حينه لتواكب مرحلة معينة، ولتحقق احتياجاً محدداً، ولتلبي رغبة زمنية..
وأصدق نفسي وأصدقكم القول، أنني ومنذ بدايات تلك اللحظة، أخذت أشعر بنعيم الحرية ولذة الحياة، ومتعة الفكر.
إن أي مراجعة جادة لحصيلة الذهن المعرفية، لا تستدعي بالضرورة نبذ كل ما انتجه العقل والحكمة البشرية من حكمة واجتهاد، كما أن جمود العقل عن التفكير الجاد، والمناقشة المنطقية للعلة الحكمية بشكل مستمر، كفيل بتكريس قواعد وآليات التخلف والجهل بين ظهرانينا، وكفيل أيضاً بتحويل الحكم الإلهي ذي الصفة العدلية والطابع الخيري القيمي، إلى أغلال تتصفد في حلقاتها المستحكمة عقولنا وانفاسنا.
وهو وللأسف ما يعيشه عدد من علماء أمتنا في وقتنا هذا، الذين توقفت مداركهم الفقهية عند حدود معينة من الأحكام، وتجمدت آراؤهم أمام تلك النصوص الصفراء، على مختلف مذاهبهم (سنة وشيعة)، الأمر الذي أوقعهم في موقع الصدام مع متغيرات مجتمعاتهم الحياتية والكفرية، الذي تتسارع فيه الحركة ضمن سياقات متنوعة من الآراء، والأفكار السياسية والاجتماعية والفكرية بشقيها اللبرالي ،والراديكالي، الهادفة إلى تحقيق مفاهيم الحرية والمساواة على مختلف الأصعدة، وفي مختلف البقاع، ومن خلال العديد من الشعارات السياسية والثقافية، التي تعكس منظومة كل توجه، في الوقت الذي لا يزال البعض من فقهائنا منغمس بفكره في تحليل وتحريم المصطلح، باعتبار عدم مرجعيته الإسلامية من جهة، أو لمخالفته توجهه الذي يراه حقاً كلاً ، من جهة اخرى، إلى غير ذلك.
................
لقد كانت الزيدية ولقرون طويلة النموذج الأمثل للفكر الحر، والساحة الرحبة لإنطلاق العقل، والمكان الأجمل لتفتق خلايا الابداع، بما كفلته من حرية منضبطة، وآليات واضحة للحركة، وكان النظام السياسي آلتها لتحقيق ذلك، بحكم مرجعية الإمام الحاكم، العلمية والفكرية، وإيمانه القطعي بمنطلقات فكره المنتمي إليه، ولهذا فلم يعمل الأئمة، وخلال عقود طويلة، على إقصاء الآخر المخالف، أو تذويبه ضمن خصائص المجتمع الزيدي، بمنع كتبه ومصادرتها.
لكن ذلك تغير بتغير المنهج السياسي لنظام الإمامة والذي وضح بشكل جلي خلال حكم الإمام يحيى حميد الدين، الذي عمد إلى تذويب أسس المجتمع الحر القائم على منهج الشورى، في مقابل تعزيز ثقافة السلطة القيصرية المؤمنة بالإله الفرد.
وهي القضية التي رفضها كل مثقف حر، ورفضها الدكتور المقالح، ووافقه علماء المذهب الاحرار، الذين عملوا على الخلاص منها، كما أنها هي الإشكالية العظمى التي اسقطت الفكر الزيدي في مهاوي التيه، لتبني ذلك الإمام (الإمام يحيى) السلطوي المتفرد الفكر الزيدي مرجعاً له، مما ربط الفكر بالقهر في أذهان العامة والدهماء فتوجهت سهام نقدهم صوب الفكر بالدرجة الأولى، بالرغم من براءته من ذلك كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب، وبالرغم من مبادرته العلمية لإسقاط الإله الفرد خلال أحداث ثورة الدستور سنة 1948م.
أتصور أنه قد آن الأوان للتوقف ومراجعة كثير من أفكارنا إزاء بعضنا البعض، وإزاء قضايانا التاريخية والفكرية، بشكل شفاف منهجي، بعيداً عن الذهنية العربية القائمة على الإقصاء، المنغلقة ضمن آفاق محددة، وزوايا ثابتة، بالشكل الذي حجبها عن نورانية الحياة الحرة المرتكزة على خاصية ثقافة التنوع والتعايش.
منقول من جريدة 26 سبتمبر الاسبوعية عدد رقم: 1156 - التاريخ 14/10/2004
الذهنية المسبقة وإشكالات الزمن
زيد علي الفضيل
باحث في الشؤون التاريخية
عضو جمعية المؤرخين الخليجيين
كان ولايزال الناقد والأديب الدكتور عبدالعزيز المقالح محوراً للثقافة اليمنية بوجه خاص، التي تفاعلت مع اطروحته الفكرية ذات الصبغة الحداثية التنويرية فكانت مثار نقاش دائم، وتداول مستديم، بين أروقة الباحثين، وداخل منتديات الكلمة، وكيف لا يكون ذلك! وهو الناقد الذي فجر بآرائه حصون الأدب المهترئة، أثار بأفكاره زوبعة، تطاير أريجها من بين رماد متقادم، فكان أن شارك بمعية رفقاء دربه من مفكري عصر النهضة الثاني في النصف الآخر من القرن العشرين (إن جاز القول)، في صناعة نهضة علمية ثقافية تعتمد العقل والمنهج في مناحي حركتها، وتهدف بالخروج بالأمة من أزمتها التاريخية والفكرية التي تجمدت عند حدود معينة من القراءات والأحكام المسلمة.
ومع كل ذلك الجهد المبذول من قبلهم لتحقيق ما سبق، إلا أن الوصول بالمجتمع لهذا الحد من التحرر والانطلاق ليس بالأمر اليسير، ويحتاج إلى جهد كبير تتكاثف فيه كل العقول النيرة، لا سيما وأن عوائق تكوين ذلك التحرر من سلطة القراءات السابقة، القابضة بيد من حديد على منافذ الفكر، كامن في خلفيات المجتمع الفكرية، التي تجذرت بين كواهله، وفي أروقة مساجده، مفاهيم دينية تشكلت بذرتها من داخل اروقة القصر، وتأكدت شرعيتها حال تأييد السلطة لها، فكان من الصعب عبر مختلف العصور على أحد التشكيك فيها، أو العمل لمقاومتها، لتحل تدريجياً بقيمها واحكامها وآليات عملها محل المفاهيم الربانية العدلية التي قررها الله على لسان نبيه الخاتم عليه الصلاة والسلام.
ولا أدري حقيقة، فيما إذا كان بوسع احدنا أن يفرغ ذهنه بصورة متجردة من لائحة الأحكام المسبقة بشكل سلس وفعال، وأن يتعامل مع الحدث، أياً كان نوعه، وأيا كانت هويته، بشكل علمي، ودون أن تتكالب على الذهن صورة خفية، يمكن أن يكون لها الأثر السلبي أو الإيجابي خلال تكوين الانطباع الأول، والذي غالباً ما يكون غير دقيق!!
إنها إشكالية البشر عبر القرون، وهي نابعة من غريزة فطرية لا يمكن التخلص منها، لكن، يمكن تهذيبها، وتقليصها وضبط أطرها، عبر الانخراط المستمر في آلة المعرفة، والتحليق بالنفس ضمن إطارها العرفاني، وبالعقل ضمن آفاقه المنطقية، وصولا للشفافية التي تساعد على فهم كثير من القضايا، وتعمل على تصفية النفس والعقل من شوائب الزمن بصورة مستمرة، وهو ما حرص عليه الكثير من العلماء والفلاسفة العرفانيين.
وبالرغم من أني لست من أولئك، ولست من الجادين للعمل على ذلك، وأرجو أن يهم بي الشوق أكثر لتفعيل ما ذكرت، حتى لا أكون ممن عناهم الله بقوله: «كبرمقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون»، بالرغم من ذلك، إلا أني قد عشت وخلال المرحلة السابقة أرق تلك التجربة، القاضية بتجريد النفس والعقل من أزمة القراءات المسلمة، والإنطباع الخفي، والإيمان الكلي بالنصوص التاريخية، وقطعية الاجتهادات التراثية، التي انتجت في حينه لتواكب مرحلة معينة، ولتحقق احتياجاً محدداً، ولتلبي رغبة زمنية..
وأصدق نفسي وأصدقكم القول، أنني ومنذ بدايات تلك اللحظة، أخذت أشعر بنعيم الحرية ولذة الحياة، ومتعة الفكر.
إن أي مراجعة جادة لحصيلة الذهن المعرفية، لا تستدعي بالضرورة نبذ كل ما انتجه العقل والحكمة البشرية من حكمة واجتهاد، كما أن جمود العقل عن التفكير الجاد، والمناقشة المنطقية للعلة الحكمية بشكل مستمر، كفيل بتكريس قواعد وآليات التخلف والجهل بين ظهرانينا، وكفيل أيضاً بتحويل الحكم الإلهي ذي الصفة العدلية والطابع الخيري القيمي، إلى أغلال تتصفد في حلقاتها المستحكمة عقولنا وانفاسنا.
وهو وللأسف ما يعيشه عدد من علماء أمتنا في وقتنا هذا، الذين توقفت مداركهم الفقهية عند حدود معينة من الأحكام، وتجمدت آراؤهم أمام تلك النصوص الصفراء، على مختلف مذاهبهم (سنة وشيعة)، الأمر الذي أوقعهم في موقع الصدام مع متغيرات مجتمعاتهم الحياتية والكفرية، الذي تتسارع فيه الحركة ضمن سياقات متنوعة من الآراء، والأفكار السياسية والاجتماعية والفكرية بشقيها اللبرالي ،والراديكالي، الهادفة إلى تحقيق مفاهيم الحرية والمساواة على مختلف الأصعدة، وفي مختلف البقاع، ومن خلال العديد من الشعارات السياسية والثقافية، التي تعكس منظومة كل توجه، في الوقت الذي لا يزال البعض من فقهائنا منغمس بفكره في تحليل وتحريم المصطلح، باعتبار عدم مرجعيته الإسلامية من جهة، أو لمخالفته توجهه الذي يراه حقاً كلاً ، من جهة اخرى، إلى غير ذلك.
................
لقد كانت الزيدية ولقرون طويلة النموذج الأمثل للفكر الحر، والساحة الرحبة لإنطلاق العقل، والمكان الأجمل لتفتق خلايا الابداع، بما كفلته من حرية منضبطة، وآليات واضحة للحركة، وكان النظام السياسي آلتها لتحقيق ذلك، بحكم مرجعية الإمام الحاكم، العلمية والفكرية، وإيمانه القطعي بمنطلقات فكره المنتمي إليه، ولهذا فلم يعمل الأئمة، وخلال عقود طويلة، على إقصاء الآخر المخالف، أو تذويبه ضمن خصائص المجتمع الزيدي، بمنع كتبه ومصادرتها.
لكن ذلك تغير بتغير المنهج السياسي لنظام الإمامة والذي وضح بشكل جلي خلال حكم الإمام يحيى حميد الدين، الذي عمد إلى تذويب أسس المجتمع الحر القائم على منهج الشورى، في مقابل تعزيز ثقافة السلطة القيصرية المؤمنة بالإله الفرد.
وهي القضية التي رفضها كل مثقف حر، ورفضها الدكتور المقالح، ووافقه علماء المذهب الاحرار، الذين عملوا على الخلاص منها، كما أنها هي الإشكالية العظمى التي اسقطت الفكر الزيدي في مهاوي التيه، لتبني ذلك الإمام (الإمام يحيى) السلطوي المتفرد الفكر الزيدي مرجعاً له، مما ربط الفكر بالقهر في أذهان العامة والدهماء فتوجهت سهام نقدهم صوب الفكر بالدرجة الأولى، بالرغم من براءته من ذلك كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب، وبالرغم من مبادرته العلمية لإسقاط الإله الفرد خلال أحداث ثورة الدستور سنة 1948م.
أتصور أنه قد آن الأوان للتوقف ومراجعة كثير من أفكارنا إزاء بعضنا البعض، وإزاء قضايانا التاريخية والفكرية، بشكل شفاف منهجي، بعيداً عن الذهنية العربية القائمة على الإقصاء، المنغلقة ضمن آفاق محددة، وزوايا ثابتة، بالشكل الذي حجبها عن نورانية الحياة الحرة المرتكزة على خاصية ثقافة التنوع والتعايش.
منقول من جريدة 26 سبتمبر الاسبوعية عدد رقم: 1156 - التاريخ 14/10/2004
-
- مشترك في مجالس آل محمد
- مشاركات: 112
- اشترك في: السبت إبريل 09, 2005 10:23 pm
- مكان: صنعاء