(إرتقاء.......وألم)
دورة الزمان كانت تمرُّ بالأيام والسنوات بسرعة مذهلة ...(وزيدٌ) ؛لم بفتأ يَدرس ، ويذاكر ‘ ويطالع ؛ بعزيمة الشاب ؛ المرتبط بالله ، والواثق من قدراته الذاتية ..وسواءٌ الدراسة الجامعية ، والدراسة العلمية المسجدية ؛ فقد أكمل دراسته الجامعية بامتياز ، وتأهل في دراسته العلمية ؛ ليتصعد دست التدريس ، ويصبح خطيباً في إحدى المساجد ....
فقد صار (زيد) صاحب فكرٍ واعي ..ونظرةٍ واسعة ؛ أكسبته المعرفة التامة بهذه الأمة ..وبما يحدث فيها ؛ من تيهٍ ،وضياع ، وتمزق وشتات ، وظلالٍ وتباعدٍ مخيف عن هداية ربها ..وصراطه المستقيم ؛ حتى جعلت القرآن وراءها ظهريّا ؛ لتحتكم إلى الجبت والطاغوت ..من دون الله!!!
وبدأ يتطلع لى الافق البعيد ؛ إلى اليوم الذي سينهض فيه الإسلام على قدميه ؛ ليستعيد خطاه الواثقة من جديد ؛ فيمسح عن المسلمين غبار الذلة والمسكنة ..ويعيد لهم مجدهم المسروق ...!!!
حتىبدأت الآهات تتصعد من قلبه المجروح ؛ وهو يتذكر تفرق المسلمين ، وتشتتهم ،..
فقد تقهقر فكره إلى الوراء ليتذكر أصعب مشهدٍ مرَّ عليه في حياته ؛ مشهد ذلك الخطيب الذي بدا في مسجدهم المجاور بهيأة شيخٍ ؛يحمل لحيةً كثة ؛ قد تدلت بأطرافها إلى صدره ..ممتزجةً ببعض حمرةٍ ، ويرتدي قميصاً ؛ لم يتجاوز نصف الساق ‘ بالإضافة إلى تلك الصماطة الحمراء التي يضعها فوق رأسه ‘..أما وجهه فلم يتبينه ؛ لإن لحيته الكثة كانت قد أخفت ملامح وجهه..!!! وهو يحث بخطاه المتأرجح بجسمه السمين ؛ إلى داخل المسجد ..ليستدرك خطيب المسجد ؛ رافعاً صوته :
-أين خطيب هذا المسجد ؟!!
-أنا ...أنا ...خطيب المسجد !!!
-أنا مرسلٌ من الجهات الخاصة ..!!! وسأكون من اليوم خطيباً لهذا المسجد !!!!!!!
-!!!!!!!!!!!!!!
وما إن أكمل المؤذن : لا إله إلا الله ..
حتى قام ؛ وبدء خطبته بهدوء تام ؛ خافتاً صوته ؛ حتى لا يكاد يُسمع بعض ما يقول من شدة الخفوت ..لكن صوته بدء يرتفع حيناً فحيناً ؛ متحدثاً عن الإسلام ..حتى تطرق إلى مذاهبها ..لكنه تعداها بكل سهولة ..
ليستقر عند المذهب الزيدي ؛ الذي بدء يتحدث عنه بتشنجٍ شديد ؛ حتى اختُطف وجهه بالحمرة ، وكادت عيناه أن تنتقل من مكانهما ..
يكيل الزيدية كيلاً ..ويتهمها زوراً ؛ فتارةً يصمها بالرفض ...وتارةً بالتمرد ...وتارةً بالزندقة !!!
وما من لفظة تتناهى في القبح إلا أضافها إلى الزيدية ..وما من فعل يتناهى في الشناعة ..إلا أظافها إلى رموزه ..وعلماءه ..وهكذا ..هكذا ..حتى انتهى من الخطبة ..وهو لا يدري ..ماذا يريد ..لكنه أدرك أنه استطاع أن يوصل رسالته للمصلبن !!!!!!!!
وهكذا ظلت هذه الخواطر المؤلمة تراود فكره التائه .. حتى فا جئه صوت التلفون ؛ فالتفت إليه بوجهٍ قداختطفته كل معاني الإستفهام ..ومزقته كل معاني التعجب ..هامساً في نفسه :
-من يتصل في هذا الوقت المتأخر من الليل !!!!!!
فوثب إلى سماعة التلفون ..فما إن رفعها ؛ حتى ابتدره المتصل :
-زيد.....زيد!!!
-نعم..نعم ... أنا زيد !!!
-لقد اختفى اثنان من المدرسين!!!
- أين ..ومتى ..!!!
-ربما أن الأمن قد أخذوهم إلى السجن ..!!!
-متى كان ذلك ..متى ..متى!!!
كان المتصل قد أغلق السماعة ...
وهنا بدء القلق يتسرب إلى كيانه بشدة ...وبدأت الهواجس الحادة تتسرب إلى فكره المتعب ....لكنه أخذ ينقل مكانه من الغرفة إلى الحجرة ؛ علَّ هذا القلق أن يهدأ ..والأفكار أن تسكن ؛ فيجد تفسيراً مناسباً لما يجرى ...
لكن اباه ؛ -الذي تعود ان يستيقظ في ذلك الوقت المتأخر من الليل –كان قد ادرك (زيداً) وهو يدور بخطواته يميناً وشمالاً ؛ واضعاً كفيه خلف ظهره ...كأنما يفكر في شيئٍ قد امتنع عليه ..فشعر (الأب) بقلقٍ بدأ يتسرب إلى كيانه من حال (زيد) ..فاقترب إليه ببطءٍ ..حتى همس بهدوءٍ :
-زيد ...زيد !!
التفت (زيد) بشدة :
-نعم ..نعم ..أبي ..!!
-مالي أراك على هذه الحالة ..وفي هذا الوقت المتأخر من الليل ..!!!
-لا شيء ..لا شيء ..ياابي ..إطمئن !!
- وكيف أطمئن ..وأنا أرى ما أرى ...فأرجوك ؛أخبرني إن كان قد حصل شيئٌ..
فأجاب (زيد) ؛وقد لاحت عليه كل معاني الأسف :
لقد اتصل بي أحد أصدقائي ...وأخبرني أن الأمن قد أخذوا اثنين من المدرسين ..واقتادوهم إلى السجن !!!
تبسم (الأب) على غير عادته ...وأخذ يطمئن (زيداً ) بنيرته الواثقة:
-(زيد) ..لقد اعتدنا على هذا المشهد المتكرر ..والمدروس ...فما إن تنشب الحرب بين الطائفتين ؛ حتى تتجند الأجندة ؛المختلفة أهوائها ..المترامية أطرافها ؛لتحارب المذهب الزيدي..وأتباعه ؛ مستغلين مثل هذه الأجواء –التي تهيئ له الأجواء الملائمة- ليشنوا الحرب على هذا المذهب العظيم ؛ بمختلف الأسلحة المتاحة لهم ؛
فتارةً بالدعاية أنه يحمل غطاءً جعفرياً بإسم الزيديه ليحقق مشروعاً إيرانياً ، وتارةً بأنه يريد أن يردَّ عقارب الساعة إلى الوراء ليسترجع الامامة البائدة ..وتارةً يصورونه بأنه مذهب مهمش :فقهه حنفي ، وأصوله معتزلي ..وتارةً باستنقاص أئمته وأعلامه ..كا الإمام الهادي ..والإمام عبد الله بن حمزة ..وتتبع ثغراتهم ..حتى وصل الأمر إلى سبهم ..ونبش قبورهم ..بل وصل الامر أن يستنقصوا من الإمام علي(ع) ويجعلون ذكره ذنباً لا يغتفر ...!!!!!!!!!!
ومن الطبيعي بعد هذا كله أن من يلتحق بالمدرسة الزيدية ..أن يشنوا عليه الدعايات الكاذبة ؛ حتى يأخذوه ..ويقتادوه إلى السجن ..ولو بتهمة باردة !!!!!
ولعمري إن أمير المؤمنين قد أشار إلى هذا بقوله ( إن أمرنا هذا لصعبٌ مستصعب ..لا يناله إلا من امتحن الله قلبه للإيمان )!!!!..
ولهذا من دخل في هذه المدرسة ؛فلا بد وأن يجتاز اختبار القبول ؛ حتى يقبله الله عنده ، ويحشره الله في نظم الإئمة الهداة ..!!!!
بني ..أرى أن تدع هذا القلق ، وتستغل ما تبقى من الليل ؛في الصلاة والمناجاة لمولاك ..!!
فهيَّا ...يابني ...هيّأ ...
انهالت هذه الكلمات الربانية على قلب (زيد) ؛وكأنها برد اليقين ، وزلالة الماء المعين ؛ فقد غسلت قلبه من كل همٍّ وكدر ..وجعلته يصفو، ويستعيد ثقته المطلقة بوعد الله الصادق ؛ لمن يستجيب لله ورسوله ..ويمشي بخطاه من أجل الله ..وعلى صراطه المستقيم ...
فقال ؛ وكيانه يكاد يتعثر حياءً من هذا الكهل الرباني :
-سمعاً وطاعةً ...ياأبي !!!!
فلم يبرح(زيد) ان توظأ ..وأخذ سجادته ؛ وبات بين يدي ربه ساجداً وراكعاً ..يناجي ربه –المطلع على أحواله-بصوتٍ تكاد لشجوه أن تتقطع له القلوب ..وتذرف له الآماق !!!!!
والأب المؤمن يراقب (ابنه) من طرفٍ خفيٍ ؛بصمتٍ يحمل في طياته وقار الكهول العارفين .....يسترجع في مخيلته ذلك المسلسل القديم :من وقوفه امام النافذة ، إلى الحوار الذي دار بينهما في طريقهما إلى المسجد ، إلى تلك الطلعة المؤمنةالتي استقبلت (زيداً) فكانت له عوناً لإن يصل إلى درجة العلماء العارفين ...وهكذا حتى أخذته نهدةٌ ؛ يكاد أن يُسمع لها نحيب ؛ لولا أنه استدكرها بنغمته المتصاعدة : الحمدلله .....الحمد لله ... الحمد لله!!!!!!!!!