إذا أمكن إرسال نسخة من بحثك القيم إلي أو نشره في هذا المنتدى لتعم الفائدة
وقفة مع التاريخ
-
- مشترك في مجالس آل محمد
- مشاركات: 625
- اشترك في: الأربعاء أكتوبر 06, 2004 10:39 pm
- اتصال:
بسم الله الرحمن الرحيم
وقف الإمام زيد بن عليّ (عليهما السّلام) قبل المعركة الَّتي استشهد فيها خطيباً فقال:
(عباد الله :-لا تقاتلوا عدوَّكم على الشَّك فتضلوا عن سبيل الله ، ولكن البصيرة البصيرة ثمَّ القتال ، فإنَّ الله يجازي عن اليقين أفضل جزاء يجزي به على حق ،إنَّه من قتل نفساً يشكُّ في ضلالتها كمن قتل نفساً بغير حق)
[مجموع كتب ورسائل الإمام زيد بن علي [ع] دار الحكمة اليمانية:- الأولى1422هـ2001 تحقيق محمد عزان]
مقدمة
قبل الحديث يجب التّنويه إلى أنَّ الجهل بأحكام الجهاد أدى في الغالب إمّا إلى أداء الواجب بصورة تتناقض مع الحكمة أو الغاية من تشريعه، أو تبني وجهات نظر معادية لأداء هذا الواجب،ورغم خطورة هذا الواجب وأهميته، إلا أنّه لا يعطى حقَّه من الاهتمام، فالكتابة عنه تتسم بالعمومية والتَّحريض أو التَّثبيط.
والتفكير في موضوع الجهاد يطرح الكثير من الأسئلة منها:-
هل ما يحدث من عمليات القتل الّتي يذهب ضحيتها المسلمون الآمنون من مختلف الجنسيات (باسم الجهاد) يمكن أن يكون مقبولاً من وجهة نظر شرعيّة؟
متى يكون القتال جهاداً ؟وهل للجهاد شروط ؟ وما هي هذه الشّروط؟ وهل كلّ قتال يخوضه المسلمون في مواجهة غيرهم هو جهاد؟ (بمعنى آخر هل هو العبادة التي أطلق عليها المولى جلّ وعلا عبادة ؟) وهل الجهاد عنوان شامل يندرج تحته القتال أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر؟ أم أنّ هنالك فرقاً بين الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر والجهاد ؟ وما هو الفرق إن وجد؟
متى يجوز القتال جهاداً؟ ومتى يجب؟ وعلى من يجب؟.......إلخ ،الأسئلة المتعلقة بالموضوع .
لمحاولة الإجابة عدت إلى ماتوفر لي من كتب الحديث والفقه لمختلف المذاهب الإسلامية ومن ذلك كتب شيخ الإسلام ابن تيمية والسَّيد محمد بن إسماعيل الأمير وشيخ الإسلام محمد بن علي الشَّوكاني وابن كثير والصَّابوني لأنها معتمد التيار الجهادي ومعها الجهاد للدُّكتور محمد سعيد رمضان البوطي والدِّراسة التي نشرها الأستاذ الدّكتور يوسف القرضاوي بعنوان مفاهيم جهادية.
كما عدت إلي ما توفر لدي من كتب حديثة عن الجهاد من أهمها، كتاب بعنوان الجهاد قرره السَّيد محمد حسين فضل الله، وكتابيْ جهاد الأمة وفقه العنف المسلَّح للشّيخ محمد مهدي شمس الدِّين،
بالإضافة إلى كتب المذهب الزَّيدي (شرح الأزهار والبحر الزِّخار والتّاج المذهب وضوء النهار والاعتصام والأحكام للإمام الهادي إلى الحق) ومن كتب الإمامية تحرير الوسيلة للسَّيد الخميني والمنهاج للسَّيد الخوئي وتفسير محمد جواد مغنية و الميزان للطَّباطبائي .
وغيرها من الكتب العامة كالكشَّاف للزَّمخشري وفي ظلال القرآن لسيد قطب..
ولبيان دلالة النُّصوص المتعلقة بأحكام القتال عرفنا الجهاد القتالي أستعرضنا بعض أحكامه وشروط وناقشنا في الأخير مسئلة الباعث إلى الجهاد
*****
إنَّ من يصلي المغرب أربعا عامداً متعمداً مع معرفته بأنَّه ثلاث فقط ترتدُّ عليه صلاته ولا يقبل الله منه كما يقول الجميع لا عدلاً ولا صرفاً ومن يتزيَّد في أيِّ عبادة مع اعتقاد وجوب الزِّيادة يوصم بالمبتدع.
لأنَّ العبادة من شرطها الالتزام بالشُّروط والأركان التي نُصَّ عليها من الله سبحانه وتعالى مع أنَّ الصَّلاة والصِّيام والحجَّ إنْ خالف المسلم السُّنة فيها ولم يلتزم بالنَّصِّ لن يضرَّ أحداً إلا نفسه إنْ فعلها تزيدًا وعناداً بينما أمر الجهاد والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر أخطر عند المخالفة لأنَّ موضوع الجهاد والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر مجالها الآخرون والانحراف في أدائها يؤدي إلي القتل وما هو أعظم وهو الفتنة التي بات المسلم يعيشها كأقسى ما تكون.
إن قيام بعض من ينتسبون إلي الدين بما يسمونه جهادًا بصورة مخالفة لشروط وأركان الجهاد، إمَّا جهلاً منهم بالأحكام أو تجاهلاً لانسياقهم وراء النَّزعة العبثيَّة للقتل هروباً من الحياة التي أُعطيت لهم من الله فكفروها سَّبب في كثير من الفتن التي عاشتها الأمة على مدار تاريخها
*****
لقدكتب هذا البحث على مراحل
الأولى: كتبت بعض المقالات في جريدة الأمة والوحدوي و26سبتمبر تعليقاً على أحداث عنف راح ضحيتها من أعتقدت أنه معصوم الدم
والثانية:كتبت مقالات عن موضوع الجهاد في المقرر المدرسي للمعاهد العلمية والمدارس العامة في محاولة لمعرفةجذور الغلو والتشدد
ومن خلال القرائة لاحظت أن من أسباب الجهل بالشُّروط والأحكام أنَّ الشباب حرضوا على القتال في المقررات الدراسيةوالمحاضرات العامة ومن خلال كتب السير والتراجم والأعمال الأدبيةكمالُقِّنوا في الحلقات والخلايا الحزبية ما يخالف أحكام الجهاد وشروطه أي أن التحريض والتلقين كان يهدف إلى إعداد الجيل للقتال بدون فقه بأحكامه أو بمعنى أدق من خلال تجهيلهم بضوابطه وشروطه، ولذلك فقد وجدت أن المدخل للحدِّ من العنف والتطرف لن يكون إلا بالحد من تنامي الجهل بالجهاد لأن الوعي بالضوابط والشروط سيتم الحد من ثكاثر أعداد تيار العنف.
و بالوعي بأحكام ٍالجهاد وشروطه وسننه وآدابه سيميِّز الجهاد عن أفعال القتل الوحشية التي تسلب الأمن وتمزق الأمة شرَّ ممزَّق،ونعتقد إن جهدنا هذا المتواضع سيثير من هم أقدر منا على إثراء الموضوع كما نرجو أن يتم الإهتمام بفقه الجهاد ويدرج في المقررات الدراسية في مختلف المراحل الدراسية ليزال الجهل ويزداد الوعي وبالتالي يقل حدة الغلو والتطرف وتجفف منابعه الفكرية والثقافية
وجوب الجهاد
اتَّفق المسلمون على اختلاف مذاهبهم أنّ الجهاد القتاليّ واجب إسلاميّ وضرورة واقعية ونصوص القرآن قاطعة بوجوبه وهى كثيرة جدا وكذلك السُّنة النَّبويَّة، إلا أنَّ العلماء اختلفوا في بعض الأحكام الفرعية -كالغاية منه أو الباعث إليه و في بعض الشّروط الموجبة له .
..ولتعدد التعريفات تجنبنا مناقشتها وقد اكتفينا بذكر بعضها من خلال عرض أنواع الجهاد القتالي كما دُوِّنت في بعض كتب الفقه المختلفة مع تحفظنا على دلالة بعض التَّعريفات التي تختلف باختلاف الموقف من الباعث على الجهاد .
التعريف :- الجَهدُ والجُهدُ
الجهاد في اللُّغة
الجهاد،على وزن فَِعَال مأخوذ من (الجُهد)-بالضَّم ،وهو المشقَّة البالغة.ومنه :-(جَهَد البئر)إذا بالغ في استخراج مائها و(جَهَد اللبن) إذا بالغ في إخراج زبده.و(اللَّبن المجهود):هو الذي أُخِذ زُبدُه.
و(الجََهْد)-بالفتح- :الأرض الصَّلبة. وبالفتح والضَّم :الطَّاقة.ومنه قول الله تعالى {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ.. } الآية [التوبة/79 ] والأوَّل بمعنى المشقَّة ،والثَّاني بمعني الطَّاقة ،يقال:- اجتهد في حمل الرحا، ولا يقال اجتهد في حمل خردلة، والجهاد يستلزم المشقَّة وبذل الوسع وقد جاء في الذٍّكر الحكيم بالمعنى العام {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت/ الآية 69]وفي قوله تعالى {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً}[ لقمان / 15 ]
وقد ذهب الفقهاء إلى تعريف الجهاد بأنَّه (بذل الوسع في مدافعة العدو) أو (المبالغة واستفراغ الوسع والطَّاقة من قول أو فعل،أو ما أطاق من شيء في قتال العدو)( ) .
وقد جاء عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم [جاهدوا في سبيل الله بأيديكم فإن لم تقدروا فجاهدوا بألسنتكم ، فإن لم تقدروا فجاهدوا بقلوبكم] وعنه أيضاً [إنَّ أوَّل ما تغلبون عليه من الجهاد، الجهاد بأيديكم ثم بألسنتكم ثم بقلوبكم فمن لم يعرف بقلبه معروفاً ولم ينكر منكراً قُلب فجعل أعلاه أسفله] .
وبهذا عرَّف بعضهم الجهاد بأنَّه (بذل النَّفس وما يتوقف عليه من المال في محاربة المشركين أو الباغين على نحو مخصوص أو بذل النَّفس والمال والوسع في إعلاء كلمة الله وإقامة شعائر الإيمان)( ) .
وهو مستوحى من جملة من الآيات في كتاب الله التي تعرضت للجهاد .منها قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ....} [الأنفال ]
وقوله تعالى {الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [ سورة التوبة - الآية 20 ]
وقوله تعالى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه}[ سورة الأنفال - الآية 39 ]
وقوله تعالى {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} [سورة التوبة- الآية 36 ]
وقوله تعالى { قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [ سورة التوبة - الآية 29 ]
وقال تعالى {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [ سورة الحجرات - الآية 9 ]
وقال تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة - الآية 216 ]
وقال تعالى {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [ سورة البقرة - الآية190/191 ] وقال تعالى {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [ سورة التوبة - الآية 41 ] ، وقال عزَّ من قائل {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [سورة التَّحريم - الآية 9 ]
وكما يلاحظ فإنَّ التَّعريف اللغوي لم يتطرق إلى ما يجب بذله ولكنَّ الاصطلاح الشرعيّ هو الَّذي حدَّد مضمون المصطلح -والآيات الكريمة تناولت الجهاد بمعانٍ متعددة الجامع بينها (بذل الجهد أو الوسع ) فقد يكون هذا الجهد مادي (مالي) أو طاقة نفسية في شكل ضغوط كالجهد المبذول من الوالدين المشركين الهادف إلى زعزعة إيمان الولد المسلم
وكذلك مجاهدة الغرائز والشَّهوات المسمَّى (جهاد النَّفس والّذي أطلق عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:- الجهاد الأكبر كما جاء في الخبر [رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر] وقد يكون مجرد كلمة حق أو تعبيراً عن موقف مبدأي يحتاج إلى جهد وشجاعة للتَّعبير عنه كما يدلُّ على ذلك الحديث [إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر]( ) ومنه القتال الذي جاء صريحا في الآيات الأخر التي استخدمت فيها دلالة القتال .
والآية الكريمة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} مثلاً لا تعني القتال بدليل فعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع المنافقين لأنَّه لو فهم منها ذلك لقاتل المنافقين وهو ما لم يفعله إلا إذا سلَّمنا بأنَّ القتال ليس القتل (وهو كذلك أي ليس القتل ) فالقتال يعني المدافعة أو بذل الجهد لردِّ العدوان بجنسه ولما كان عدوان المنافقين (أوجهاد المنافقين ضدَّ الإسلام والمسلمين بالتَّشكيك والطَّعن في العقيدة) كان الجهاد بفضح أعمالهم.
أقسام الجهاد
(جهاد الكفار والبغاة مع الإمام المجمع على إمامته فرض )( )
حاول الفقهاء تقسيم الجهاد إلى أنواع عدة وباستعراضنا لها سيتحدَّد لنا حكمه ومن حيث المبدأ يمكن القول بأنَّ الجهاد "فرض "
والفرض قد يكون عينياً أي على كلِّ مكلَّف وقد يكون فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الآخرين وبصورة عامة يمكن القول أنَّ الجهاد فرض على الكفاية وفي القضية تفصيل سنعرض له من خلال عرضنا لأقسام الجهاد .
وينقسم في كلمات الفقهاء إلى تقسيمات عدة :-
أ:- الأول: جهاد ابتدائي أو طلب .
والثاني: الجهاد الدفاعي أو الوقائي .
ب:-الأول:-جهاد من يريد قتل نفس محترمة(وهو أقرب إلى موضوع دفع المنكر) .
الثاني:-الجهاد دفاعاً عن النَّفس كدفع الأسير عن نفسه (وهو يندرج تحت عنوان دفع الصَّائل أو حق الدِّفاع الشَّرعي عن النَّفس).
الثالث:- جهاد البغاة على السُّلطة الشَّرعية.( )
الرابع :- جهاد المحاربين .
و يقسم بحسب معتقد المُقاتلْ وحاله إلى :-
أ:-جهاد الكفَّار عندما يكون أحد الأطراف المعتدية أو المقاتلة غير مسلم .
ب:-جهاد البغاة عندما يكون طرفا القتال مسلمين مؤمنين يتنازعون على الشَّرعية أو المحاربين مع الخلاف .
ولكلٍّ منهما شروط وأحكام خاصة به تميِّزه عن غيره إلا أنَّ ذلك لا يعنينا هنا، بل يعنينا الأحكام العامة للجهاد القتالي بصورة عامة لنميِّزه عن القتل عبثاً وفساداً وحرابة
الجهاد الابتدائي
حقيقة الجهاد الابتدائي
{الجهاد الابتدائي هو القتال المُبْتَدَأْ من المسلمين لأجل الدعوة إلى الإسلام بإدخال الكفار فيه وحملهم على اعتناقه لأنَّه يتم بدون عدوان مسبق من قِبَل الكفار على المسلمين}( ) ويعرِّفه القرضاوي بقوله: (أمَّا المقصود بجهاد الطَّلب، فهو: الجهاد الذي يكون فيه الكفَّار في أرضهم، والمسلمون هم الذين يغزونهم ويطلبونهم في عقر دارهم، توقياً لخطرهم في المستقبل، أو تأمينا للأمة من شرِّهم، أو لإزاحة الحواجز أمام شعوبهم، لتبليغها دعوة الإسلام، وإسماعها كلمة الإسلام، أو لمجرد إخضاعها لسلطان الدولة الإسلامية، ولسيادة النِّظام الإسلامي الذي يحكم الحياة بتشريعاته العادلة وتوجيهاته الفاضلة.) ( )
واعتقاد مشروعيته لدى من يؤمنون بمشروعيته مبني على أنَّ علَّة الجهاد هو مجرد الكفر استناداً إلى أدلة سنناقشها من وجهة النَّظر الأخرى تحت عنوان الباعث إلى الجهاد .
ويحدِّد الدُّكتور القرضاوي أسباب جهاد الطَّلب:
1.(تأمين حرية الدَّعوة، ومنع الفتنة في الدِّين، وإزالة الحواجز المادية التي تحول بين جماهير النَّاس وبين بلوغ دعوة الإسلام إليهم، وعلى هذا كانت فتوح الرَّاشدين والصِّحابة ومن تبعهم بإحسان، لإزالة القوى الطَّاغية التي تتحكم في رقاب البشر وضمائرهم، وتقول ما قال فرعون لمن آمن من أبناء شعبه: "آمنتم له قبل أن آذن لكم"؟. وهذا الهدف تجسيد لقوله تعالى: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة".
2. تأمين الدَّولة الإسلامية، وسلامة حدودها، إذا كانت مهددة من قبل أعدائها الذين يتربصون بها ويكيدون لها، وهو ما يسمونه في عصرنا الحاضر: (الحرب الوقائية).
وهذه من ضرورات الملك، ومقتضى سنة (التَّدافع). ومعظم الفتوحات الإسلامية كانت من هذا النَّوع، بعد أن اصطدمت الدَّولة الإسلامية -مبكراً- منذ عهد الرَّسول بالدَّولتين الكبيرتين في العالم (الفرس والرُّوم)، وبدأ الصِّراع مع الرُّوم منذ سريَّة مؤتة، وغزوة تبوك. وبدأ الصِّراع يدور مع الفرس منذ أن مزَّق كسرى كتاب النبي (صلى الله عليه وسلم) إليه، وتوعده بما توعد.
3. إنقاذ المستضعفين من أُسارى المسلمين، أو من أقلياتهم التي تعاني التَّضييق والاضطهاد والتَّعذيب من قبل السُّلطات الظَّالمة المستكبرة في الأرض بغير الحق، كما قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً}[النساء: 75].
بل إن الدَّولة الإسلامية إذا استغاث بها هؤلاء المستضعفون المضطهدون، ولو كانوا من غير المسلمين، وكانت تملك القدرة على إنقاذهم مما هم فيه، وجب عليها أن تستجيب لدعوتهم وتغيث لهفتهم إذا طلبوا نجدتها، فإنَّ نصرة المظلوم وإعانة الضَّعيف وردع الظَّالم عن ظلمه واجب شرعي، بل هو واجب أخلاقي في كلِّ دين وكلِّ مجتمع يقوم على الفضائل ورعاية القيم العليا، سواء أكان المظلوم مسلماً أم غير مسلم.
4. إخلاء جزيرة العرب من الشِّرك، واعتبارها وطناً حرّاً خالصاً للإسلام وأهله، وبهذا يكون للإسلام معقله الخاص، وحماه الذي لا يشاركه فيه أحد.
ولله حكمة في ذلك، وهي أن يكون الحجاز وما حوله من أرض الجزيرة هو الملاذ والمحضن لهذا الدين، الذي يلجأ إليه الإسلام كلَّما نزلت المحن والشَّدائد بأطرافه المختلفة. وهذا ما أثبت لنا التَّاريخ جدواه وأهميته خلال العصور والأزمات الَّتي مرَّ بها تاريخ الأمة.
وفي هذا نزلت آيات سورة التَّوبة في البراءة من المشركين وتأجيلهم أربعة أشهر، يسيحون خلالها في الأرض ثم يختارون لأنفسهم: الإسلام، أو الرحيل من هذه الأرض أو القتال.
وهذه الأشهر الأربعة هي التي سُمِّيت (حُرُماً) لتحريم قتالهم فيها، ثم قال تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} (التوبة:5)، وشاء الله أن يختار العرب الدُّخول في الإسلام، قبل أن تمرَّ الأشهر الأربعة، وتصبح الجزيرة خالصة للإسلام، ويصبح العرب عصبة الإسلام، وجنده الأولين، وحملة رسالته إلى العالم.)( )ومع إحترامنا وتقديرنا لرأي الدكتور القرضاوي إلا أننا من حيث المبدأ نعتقد بأن بواعث الجهاد القتالي ليست إلا دفعاً عن المستضعفين وحماية الأمة من العدوان وضمان الحرية، والبراءة لم تكن من كل المشركين بل كانت لمن عرفوا بعدم الإلتزام بالعهد مع المسلمين وهذا ماسيذهب اليه الدكتور نفسه في عرضه القيم لغزوات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما سيرد علينا وأيضاً خلال نقده لمن أسماهم أصحاب النزعة الهجومية وسوف نورده عند مناقشتنا لموضوع الباعث إلى الجهاد،والملاحظ أن السبب الثاني (الحرب الوقائية) هو عنوان الحرب الأمريكية على العراق و كما أنه غير مقبول من أمريكاء فيجب أن لايكون مقبولاً تحت أي دعوى،لأن الأدلة توجب عدم الإعتداء إلا عند وقوع عدوان والحرب الوقائية عدوان،والوقاية تتحقق بالإعداد والاستعداد،قال الله تعالى( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ(55)الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ(56)فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ(57)وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ(58)وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ(59)وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ(60)وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(61)وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ(62)( )والآية واضحة على خلاف ماذهب إليه الدكتور لأن الأمر بالجنوح إلى السلام مع من يحتمل أنهم يريدون الخديعة ممن دأبهم نفض العهود والخيانة دليل على عدم جواز الأبتداء بالحرب الوقائية،ومثل هذا يمكن القول عن السبب الأول والرابع وإن أختلف المسمى،فلم يدلل الدكتور على مشروعيتها كما فعل بالنسبة للثالث لعدم وجود دليل إلا مما حدث تاريخياً من الدولة الإسلامية في العصر الأموي والعباسي،ومعلوم أن سيرة هذه الدول ليست بحجة على الإسلام ولم يقل بحجيتها أحد إلا بناء على الإجماع السكوتي على ماصدر منها، وحجيته إن صح وقوعه محل خلاف بل الواقع خلافه {أي أن الواقع عدم وجود الإجماع حتى السكوتي لأن من يشترطون عدالة الإمام وينفون العدالة عمن تولى من الملوك هم الأكثر بل أن الإجماع منعقد على عدم عدالة الملك العضوض} وسوف يثبت الدكتور في قرائته للسيرة النبوية نقيض ماذهب إليه هنا فليتأمل
الجهاد الدِّفاعي
معنى الدِّفاع في اللغة:
1(:-الرَّدُّ على عدوان واقع أو في سبيله إلى الوقوع،وذلك برفعه ودفعه.
2:-درء العدوان قبل وقوعه.) ( )
ويطلق على الأول دفاعي والثاني وقائي .
والفرق بين الدِّفاعي والوقائي أرض المعركة لأنَّ الاثنين (دفاعيان ) ولكن أرض الأول وطن المدافعين والثَّاني قد يكون أرض من يتوقع وقوع العدوان منه ومنه كما يقول القرضاوي: (جهاد المقاومة والتَّحرير لأرض الإسلام من الغزاة المحتلين الذين هاجموها واحتلوا جزءا منها مهما تكن مساحته، فهذا النوع من الجهاد لا خلاف في فرضيته على المسلمين، لم ينازع في ذلك عالم في القديم أو الحديث، فالأمة -بجميع مذاهبها ومدارسها وفرقها- مجمعة على وجوب الجهاد بالسِّلاح وبكل ما تقدر عليه، لطرد العدو المحتل، وتحرير دار الإسلام من رجس هذا العدو، وهذا النوع من الجهاد والمقاومة: متفق على مشروعيته بين أمم الأرض جميعا.) ( )
وجوب الجهاد الدِّفاعي:
لا ريب في وجوبه لقوله تعالى {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} البقرة {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِم أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً} [النساء /75 ]
حالات أو صور أو موارد الجهاد الدِّفاعي:
يذكر الشَّيخ شمس الدِّين ثلاثة موارد:-
الأوَّل:- أن يعتدي الكفار على المسلمين، أو يهموا به.
و قد يكون من صور هذه الحالة العدوان الاقتصادي،بإرهاب الطرق الدَّولية لتجارة المسلمين ومحاصرة وارداتهم أو صادراتهم من المواد الخام ومصادر الطاقة وتغيير مجاري الأنهار ومنابع المياه وما أشبه ذلك.
الثَّاني:- إحداث الكفار الفتنة بين المسلمين بتحزيب الأحزاب وتفرقة الكلمة والتسبب في ما يمكن أن يؤدي إلى إشعال نار الحرب الدَّاخلية بين أبناء المجتمع الواحد المسلم أو مجتمعات المسلمين أو إحداث ما يوجب ضعف قوة المسلمين واستنزاف طاقاتهم .
الثَّالث:- أن يعتدي الكفار على شعب مستضعف إمَّا مسلم في مجتمع آخر أو كافر كذلك،ودليل وجوب نصرة الشَّعب المسلم عند تعرضه لعدوان من مجتمع سياسي آخر الآية75 من سورة النساء {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ.....} ،والآية72من الأنفال {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
وعندما يكون المعتدى عليه مستضعف غير مسلم فيمكن الاستدلال على الوجوب فيه بما هو معلوم من نهج الإسلام في محاربة الطَّاغوت بجميع أشكاله السِّياسية والاقتصادية واعتبار محاربة الطَّاغوت حرباً في سبيل الله.
ومن النُّصوص الدَّالة على ذلك قوله تعالى {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [سورة النساء-الآية76]
فالكفَّار بحسب النُّصوص على قسمين :-
الأول أهل الطَّاغوت
والقسم الثَّاني المستضعفين
وهذا يعني عدم تطابق عنوان الكفر مع عنوان الطَّاغوتية.فعندما يتعرض المستضعف الكافر للعدوان تجب نصرته حتى لو كان المعتدي عليه مسلماً .
شرائط الجهاد
لكي يكون القتال جهاداً مشروعاً لا بدَّ من توفُّر شروط منها ما هو مجمع عليه ومنها ما انفرد بعضهم بالتَّركيز عليه ومنها ما سكت البعض عنه ومنها وهو الأقل ما اختلف فيه والذي يهمنا المجمع عليها وهو الأغلب .
وقبل أن نتناول هذه الشروط بالشَّرح نودُّ التَّذكير بأنَّ الأصل في القتال المنع وليس الإباحة وهذا معلوم من الدِّين بالضرورة لأنَّ القتال فيه إزهاق أرواح هي معصومة في الأصل ولذلك جاء النَّص بالإذن بالقتال {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}وكذلك جاء عن الرسول الأكرم كما أخرج البخاري في صحيحه [كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا لم يقاتل أول النهار أخَّر القتال حتى تزول الشمس وقد قام في الناس خطيباً فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أيها الناس لا تتمنوا لقاء عدوكم وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف] ونصُّ النبي صلى الله عليه وآله بالنهي عن تمني لقاء العدو يدلُّ على ما ذهبنا إليه.
أولاً:- وجود أمَّة لها متولٍ شرعي.
هل يجب الجهاد على الأفراد حتى في عدم وجود جماعة أو أمَّة منظَّمة لأعمالهم الجهادية ؟بل هل يجوز أن يتصدى آحاد المسلمين للقيام بواجب القتال ضدَّ العدو ؟وهل أفعال القتال التي يقوم بها آحاد المسلمين تسمى جهاداً؟
إنَّ ما يميز الجهاد القتالي عن أنواع القتال المشروعة إسلامياً كالقتال عند من يقول به دفعاً للمنكر أو دفعاً للصَّائل هو أنَّ الجهاد القتالي فعل جماعي كصلاة الجمعة يجب أن تكون من جماعة في يوم محدَّد لها أركان وشروط
منها أن يكون من جماعة لها إمام يؤمُّها ومكان خاص بها يبعد مسافة معينة وكذلك الجهاد يجب أن يكون من أمَّة لها إمام أو قائد معروف ومعلن عنه وأن تكون هذه الجماعة مميَّزة عن غيرها ، ولها أرض ونظام يحكم علاقتها ببعض على أن يكون المتولي شرعيّ معلن عنه معروف للجماعة نفسها وللجماعات الأخرى وهو بهذا يتميز عن الحرابة لله وللرَّسول كما ذكر الفقهاء ولكي يكون المتولي شرعياً يجب أن يكون معلناً عنه ويمارس إمرته في الظاهر ومعترفاً بسلطته وله سلطة على مجموعة من المسلمين لهم أرض محددة تتميَّز عن غيرها يطلق عليها دار السِّلم أو دار الإسلام أو هي كذلك بالنسبة لمن يعيش فيها في مقابل دار العهد ودار الحرب أو دار البغي ولا يكفي ذلك بالنسبة للبعض بل لا بدَّ من أن يكون عادلاً والأكثر على جواز الجهاد مع البرِّ والفاجر .
أي يجب أن يكون للأمَّة :
[ 1:- أرض خاصة بها.
2:-أن تكون الجماعة متماسكة ومتميِّزة وبحسب تعبير وثيقة المدينة (أمَّة واحدة من دون الناس)
3:-أن يكون لهم نظام اجتماعي وسياسي يضبط علاقتهم الدَّاخلية ويحدِّد واجباتهم والحقوق التي لهم وعليهم ،وعلاقاتهم مع الجماعات المغايرة، ويرشد هذا النِّظام ويديره الإمام أو من يقوم مقامه] . ( )
باختصار لابد أن يكون لهم دولة ونظام وأرض محددة لهم عليها السِّيادة تسمى دار السِّلم وغيرها إمَّا دار عهد أو حرب ، ولأداء واجب الجهاد القتالي بشروطه لابد من وجود دولة لها قيادة معلنة ظاهرة أي غير مستترة و كيان جغرافي وحدود سياسية تتميز بها عن دار العهد والحرب والبغي .
وقد استُدِل على لزوم وجود المتولي الشَّرعي بأنَّ الجهاد لم يؤذن به للمسلمين إلا في السَّنة الثَّانية للهجرة بعد وجود الدَّولة الإسلامية، ولم يبح القتال إلا بإذن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو بأمره صلى الله عليه وآله وسلم حتى لو كان دفاعاً عن النَّفس وأوَّل آية نزلت على الأشهر {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ.....} [الحج 38-39]
وشرط وجود إمام أو أمير أو متولٍ ، شرط مجمع عليه في جهاد الطَّلب أو الابتدائي واستدل عليه بالكثير من النصوص منها ما روي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم [الجهاد ماضٍ في أمتي لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل حتى يقاتل رجل من أمتي المسيح الدجال]( )
ـ حدثنا سعيد بن منصور، ثنا أبو معاوية، ثنا جعفر بن برقان، عن يزيد بن أبي نُشْبة، عن أنس بن مالك قال:
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "ثلاثٌ من أصل الإِيمان: الكفُّ عمَّن قال لا إله إلا اللّه، ولا نكفِّره بذنبٍ، ولا نخرجه من الإِسلام بعملٍ؛ والجهاد ماض منذ بعثني اللّه إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لايبطله جور جائرٍ، ولا عدل عادلٍ؛ والإِيمان بالأقدار".
حدثنا أحمد بن صالح، ثنا ابن وهب، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن مكحول، عن أبي هريرة قال:
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "الجهاد واجبٌ عليكم مع كل أميرٍ، براً كان أو فاجراً؛ والصلاة واجبةٌ عليكم خلف كلِّ مسلمٍ، براً كان أو فاجراً وإن عمل الكبائر؛ والصلاة واجبةٌ على كل مسلمٍ، براً كان أو فاجراً وإن عمل الكبائر [والصيام واجب على كل مسلم براً كان أو فاجراً وإن عمل الكبائر]".[ ]
وهو ضعيف السَّند وله شواهد [الجهاد ماض مع كلَّ برٍّ وفاجر]( ) رواية مكحول عن أبي هريرة ولم يسمع منه .
وروى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال[إنَّما الإمام جُنَة يُقَاتَل من ورائه ويُتَّقى به،فإن أمر بتقوى الله عز وجل وعدل .....كان له بذلك أجر ، وإن يأمر بغيره كان عليه منه ] الحديث [1841]
و قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم [أربع إلى الولاة الجهاد والحدود والجمع وحمل النَّاس على أداء الواجب] وينصُّ الإمام الهادي إلى الحق يحيي بن الحسين(ع) [ لا يجوز عندنا الجهاد إلا مع إمام عادل فإما بغير إمام فلا] ( )
وفي مذهب الإمام الشافعي إنما وجب نصب إمام لتجهيز الجيوش في جهاد الكفار ،وينصّ في مذهب الإمام الشافعي على أن المميِّز للباغي عن قاطع الطريق والمحارب هو وجود إمام، أي (من شروط البغاة ليعاملوا كبغاة (أن ينصِّبوا إماماً) وإذا لم ينصِّبوا إماماً كانوا لصوصاً وقُطاعاً للطَّريق ) . ( )
والشَّاهد هنا أنَّه اعتبر الإمام ضرورة لأنَّ الجهاد لا يمكن أن يكون بدونه جهاداً واعتُبِر وجود إمام هو المميِّز بين البغاة وقطاع الطرق .
والإمام المقصود به رمز الدَّولة أو الجماعة المتميِّزة بأرضٍ خاصةٍ بها لها حدود معلومة وأن يكون معروفاً مكانُ إقامته ليمكن الوصول إليه والحوار معه للاتفاق أو الاختلاف ينشيء الاتفاقات ويقرُّ المواثيق والعهود ويوقعها ....الخ أي يمثل الشَّعب أو الأمة أو الدَّولة أمام الآخرين ويلتزم عنهم ...الخ وفي هذا السياق يجزم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه (الجهاد في الإسلام) بقوله: (لا أعلم أيَّ خلاف في أنَّ سياسة الجهاد ،إعلاناً،وتيسيراً،وإنهاءً،داخل في أحكام الإمامة وأنَّه لا يجوز لأي من أفراد المسلمين أن يستقل دون إذن الإمام ومشورته ، في إبرام شيءٍ من هذه الأمور) وينقل عن ابن قدامة في المغني قوله : (وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده ،ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك).
وينقل عن كشف القناع للتَّهانوي قوله :{وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده .لأنَّه أعرف بحال الناس وبحال العدو ونكايتهم وقربهم وبعدهم } وعن القرافي قوله: (إنَّ الإمام هو الذي فُوِّضت إليه السِّياسة العامة في الخلائق وضبط معاقد المصالح ودرء المفاسد وقمع الجناة وقتل الطُّغاة وتوطين العباد في البلاد إلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس ). ( )
ويروي الشِّيعة الإمامية الكثير من النُّصوص الدَّالة على أنَّ الجهاد مشروط بوجود إمام وإذنه ننقل منها ما يلي:-
(الحديث الأول:
بشير عن أبي عبد الله -عليه السَّلام-،قال:( قلت له:إنِّي رأيت في المنام أنِّي قلتُ لك:إنَّ القتال مع غير الإمام المفترض طاعته حرام مثل الميتة والدَّم ولحم الخنزير،فقلت لي نعم ،هو كذلك
فقال أبو عبد الله -عليه السَّلام -: هو كذلك،هو كذلك ،وهو ضعيف الإسناد
الحديث الثاني:
عبد الملك بن عمرو،(قال لي أبو عبد الله عليه السَّلام: يا عبد الملك ، ما لي لا أراك إلى هذه المواضع التي يخرج إليها أهل بلادك؟
قال قلت:وأين؟
قال جدة وعبدان،والمصيصة،وقزوين .
فقلت:انتظاراً لأمركم والإقتداء بكم.
فقال :إي والله لو كان خيراً ما سبقونا إليه.......) وهو ضعيف الإسناد .
الحديث الثَّالث:
سماعة عن أبي عبد الله- عليه السَّلام - قال:
لقي عبَاد البصري عليَّ بن الحسين -عليه السَّلام- في طريق مكة،فقال له يا عليَّ بن الحسين، تركت الجهاد وصعوبته،وأقبلت على الحج ولينه،إنَّ الله عزَّ وجل يقول { إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ...}الآية[سورة التَّوبة- 111]
فقال عليًّ بن الحسين عليه السَّلام: أتم الآية
فقال { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ ...}الآية [التَّوبة -112]
فقال عليُّ بن الحسين :إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم ، فالجهاد معهم أفضل من الحج وهو معتبر الإسناد .
الحديث الرابع:
عبد الله بن المغيرة ،قال: قال محمد بن عبد الله للرِّضا عليه السَّلام وأنا أسمع:
حدثني أبي عن أهل بيته،عن آبائه أنَّه قال له بعضهم :إنَّ في بلادنا موضع رباط يقال له :- قزوين، وعدواً يقال له :الدَّيلم ،فهل من جهاد أو هل من رباط؟
فقال: عليكم بهذا البيت فحجُّوه .
فأعاد عليه الحديث فقال:عليكم بهذا البيت فحجُّوه، أما يرضى أحدكم أن يكون في بيته ينفق على عياله من طوله،ينتظر أمرنا فإن أدركه كان كمن شهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدراً،فإن مات ينتظر أمرنا،كان كمن كان مع قائمنا صلوات الله عليه هكذا في فسطاطة،وجمع بين السَّبَّابتين ولا أقول:هكذا وجمع بين السَّبَّابة والوسطى فإن هذه أطول من هذه فقال أبو الحسن عليه السَّلام صدق ، وهو صحيح .
الحديث السَّادس:
أبو حمزة الثّمالي،قال: قال رجل لعليٍّ بن الحسين عليه السَّلام:أقبلت على الحجِّ وتركت الجهاد،فوجدت الحجَّ أيسر عليك،والله يقول،(( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم....الآية))فقال علي بن الحسين عليه السَّلام :- اقرأ ما بعدها .
قال :-فقرأ { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ..} إلى قوله {الْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ}
فقال علي بن الحسين:إذا ظهر هؤلاء، لم نؤثر على الجهاد شيئاً . وهو ضعيف السند .
ويستفاد من مجموع الأحاديث أنَّ الجهاد لا يكون إلا من جماعة لها قيادة تنظم أمورها وتتحدث باسمها تصالح من دعت الضَّرورة والمصلحة مصالحته وتقاتل من فرض عليها مقاتلته وتعاهد من عاهدها وتسالم من سالمها وتؤمِّن من طلب الأمان أو من عقد له أحد المسلمين الأمان وتمنع الأمان عمَّن ترى عدم وجود مصلحة أو وجدت ضرورة لعدم منحه الأمان ،
وما لم تكن هنالك قيادة معلنة تتمتع بشرعية معترف بها على رقعة جغرافية محدَّدة لها السِّيادة عليها وتنفذ أحكامها بها فإنَّ القتال لا يمكن أن يكون جهاداً حتى لو كان المقاتلون عُبَّاداً زُهَّاداً أتقياء لأنَّهم لن يكون لهم أمان ولا يمكن أن يفوا بعهد عاهده فريق منهم ويستحيل الوصول معهم إلى صلح أو سلم ، بل سيكونون كمن قال الله عنهم في مقام الذَّم: {كلما عاهدوا عهداً نقضه فريق منهم } .
زد على ذلك أنَّ النُّصوص المتعلقة بالحثِّ على الجهاد موجهة إلى الجماعة (الطَّائفة) وبضمير الجمع باستثناء الآية {لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}[ النِّساء/84] وهذه خاصة بالرَّسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم كوليِّ أمر وفي مقام التَّرويح عنه لتقاعس بعض المسلمين الذين أطلق المولى عليهم اسم النِّفاق .
ونصوص فقهاء الشِّيعة الإمامية تقطع بأنَّ من شروط الجهاد الابتدائي وجود الإمام العادل ننقل منها ما يلي:
( ومن وجب عليه الجهاد،إنَّما يجب عليه عند شروطه،وهي :أن يكون الإمام العادل الذي لا يجوز لهم القتال إلا بأمره،ولا يسوغ لهم الجهاد من دونه،ظاهراً،أو يكون من نصبه الإمام للقيام بأمر المسلمين حاضراً،ثمَّ يدعوهم للجهاد، فيجب عليهم حينئذٍ القيام به.فإذا لم يكن الإمام ظاهراً،ولا من نصبه حاضراً،لم يجز مجاهدة العدو.والجهاد مع أئمَّة الجور أو من غير إمام خطأ يستحق فاعله الإثم،وإن أصاب لم يؤجر عليه،وإن أصيب كان مأثوماً ) وقريب منه ما ذكره في المبسوط .
وقال أبو الصَّلاح الحلبي في الكافي:وإن كان الداعي غير من ذكرناه -ويعني به الإمام المعصوم أو نائبه- وجب التَّخلف عنه مع الاختيار،فإن خيف جانبه جاز النّفور لخدمة الدِّين دونه .
*وقال القاضب ابن البراج في المهذب: -(....ويكون مأموراً به من قبل الإمام العادل أو من نصبه الإمام.....وإنَّما ذكرنا أن يكون مأموراً بالجهاد من قبل الإمام أو من نصبه،لأنه متى لم يكن واحداً منهما،لم يجز له الخروج إلى الجهاد......والجهاد مع أئمَّة الكفر،ومع غير أصلي أو من نصبه قبيح،يستحق فاعله العقاب،فإن أصاب كان مأثوماً،وإن أصيب لم يكن على ذلك أجر.
*وإلى هذا ذهب ابن إدريس في السَّرائر، ..
*وقال ابن حمزة في الوسيلة:لا يجوز الجهاد بغير الإمام،ولامع أئمَّة الجور.
*وقال العلامة في التَّحرير:- (الجهاد قد يكون للدعاء إلى الإسلام وقد يكون للدفع بأن يدهم المسلمين عد.ويُشتَرط في الأول إذن الإمام العادل أو من يأمره الإمام).
*وقال في القواعد:وإنَّما يجب بشرط الإمام أو نائبه.
وشرحه المحقق الكركي بقوله:المراد نائبه المنصوب بخصوصه حال ظهور الإمام وتمكنه،لا مطلقاً) ( )
،وللإمام (الخميني )و(الجويني )إمام الحرمين قول يفهم منه أن شرط الإذن لا يعتدُّ به حال الجهاد دفاعاً عن الوطن لأنَّه في هذه الحالة واجب عيني ،وقد صرَّح (الجويني ) بأنَّ على المسلمين تأمير أحدهم لتنظيم الدِّفاع عن دار المسلمين،ورأي الجويني والخميني يؤكد الإجماع على أن الجهاد موكول إلى ذي الولاية العامة وفي حال عدم وجوده ينصب من يكون كذلك لكي ينتظم أمر الأمة في جهادها على رأي واحد ويناط القرار بالقتال أو السِّلم إلى مصدر واحد ملزم لجميع المجاهدين، ما لم يكن فإن الفوضى والاقتتال الدائم الذي لا تقيده غاية أو هدف سيكون هو المصير ويستحيل السَّلام وينعدم الأمن .
و (لا يجوز الفعل إلا بإذن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم و الإمام قائم مقامه )( ) والرَّئيس أو الملك أو من يقوم مقامهما في هذا المقام فيما يتعلق بالجهاد وكذلك ما يُنصُّ عليه في القوانين المنظمة لعلاقات أفراد المجتمع ببعضهم وبالسُّلطة وبالآخرين .
بدليل قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} .
وكذلك لا يجوز الجهاد إلا بأمر ذوي الولاية العامة الموكول إليه أمر إعلان حالة الحرب وقد يكون في هذه الحالة مقيَّد بموافقة مجموع أهل الحلِّ والعقد أو المجالس النِّيابية كما تنصُّ بعض الدَّساتير ،
ويجب طاعة المجاهدين لأميرهم ما لم يأمر بمعصية.
يستدل على وجوب طاعة الأمير بالأحاديث الآتية :-
1:- [عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:- الغزو غزوان فأمَّا من ابتغى وجه الله وأطاع الأمام وأنفق الكريمة وياسر الشَّريك واجتنب الفساد فإنَّ نومه ونبهه أجر كلّه وأما من غزا فخراً ورياءً وسمعة وعصى الأمام وأفسد في الأرض فإنَّه لن يرجع بالكفاف. ] ( )
2:-وعن أبي هريرة أنَّ النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:- [من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني .]( )
3:- وعن ابن عباس في قوله تعالى[ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ]قال: نزلت في عبد الله بن حُذافة بن قيس بن عدي بعثه رسول الله في سرية ). ( )
4:-وعن عليٍّ رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فعصوه في شيءٍ فقال (اجمعوا لي حطباً) فجمعوا ثم قال: (أُوقدوا ناراً) فأوقدوا ثم قال: ( ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تسمعوا وتطيعوا ) قالوا: بلى، قال :فادخلوها فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا إنَّما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من النَّار ......فلما رجعوا ذكروا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : لو دخلوها لم يخرجوا منها أبداً وقال لا طاعة في معصية الله إنما الطَّاعة في المعروف.) متفق عليه. ( )
ثانياً :- يجب الإنذار بالحرب قبل القتال
ويعبر عن هذا القيد أو الضَّابط بعدم جواز التبييت أي الأقدام على القتال بغتة بدون إعلان .
والأصل مجمع عليه وفي فرعياته ثلاثة مذاهب:-
( الأول :- يجب تقديم الدعاء للكفار إلى الأسلام من غير فرق بين من بلغته الدعوة منهم ومن لم تبلغه
الثاني:- أنه لايجب مطلقاً
الثالث :- أنه يجب لمن لم تبلغهم الدعوة ولا يجب إن بلغتهم لكن يستحب) ( )
ويستدل على ذلك بالأحاديث التالية :-
(كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوصي عساكره ويقول كثيراً من هذا الكلام: ((بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله لا تقاتلوا القوم حتى تحتجوا عليهم، فإن أجابوكم إلى الدخول في الحق والخروج من الباطل والفسق، ودخلوا في أمركم فهم إخوانكم لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، وإن هم أبوا ذلك فقاتلوهم واستعينوا بالله عليهم، ولا تقتلوا وليداً ولا امرأةً ولا شيخاً كبيراً ولا يطيق قتالكم، ولا تعوروا عيناً، ولا تعقروا شجراً إلا شجراً يضر بكم، ولا تمثلوا بآدمي ولا بهيمةٍ، ولا تغلوا ولا تعتدوا، وأيما رجلٍ من أقصاكم أو أدناكم أشار إلى رجلٍ بيده فأقبل إليه بإشارته فله الأمان حتى يسمع كلام الله، وهو كتابه وحجته، فإن قبل فأخوكم في الدين، وإن أبى فردوه إلى مأمنه واستعينوا بالله، ولا تعطوا القوم ذمة الله ولا ذمة رسوله ولا ذمتي اعطوا القوم ذمتكم وفوا بها.)[ ]
1:- عن ابن عباس قال :( ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوماً قط إلا دعاهم) رواه أحمد.
2:-وعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال : (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال اغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تُمثلوا ولا تقتلوا وليدة وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهنَّ أجابوك فاقبل منهم وكفَّ عنهم ، ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكفَّ عنهم ، ثم ادعهم إلى التَّحول من دارهم إلى دار المهاجرين واخبرهم أنَّهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا منها فاخبرهم أنَّهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم الذي يجري على المسلمين ، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أوبوا فسلهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكفَّ عنهم، وإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم ،وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمَّة الله وذمَّة نبيه ،فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ،ولكن اجعل لهم ذمَّتك وذمَّة أصحابك ،فإنكم إن تخفروا ذمَّتكم وذمَّة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمَّة الله وذمَّة رسوله ،وإذا حاصرت أهل حصن وأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا) ( )
(وهو حجَّة في أنَّ قبول الجزية لا يختصُّ بأهل الكتاب ....وفيه المنع من قتل الولدان ومن التَّمثيل) ( )
3:-وعن سهل بن سعد أنه سمع النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر ، فقال أين علي؟فقيل إنه يشتكي عينيه فأمر فدعيَ له فبصق في عينيه فبرأَ مكانه حتى كأن لم يكن به شيء فقال (أي علي) نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا فقال (أي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ) على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم فوالله لأن يهتدي بك رجل واحد خير لك من حُمر النِعم.) متفق عليه .
4:-وعن فروة بن مسيك قال:- (قلت يا رسول الله أقاتل بمقبل قومي ومدبرهم قال نعم ، فلما وليت دعاني فقال لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام) رواه أحمد.
(إذا وجه الإمام واليه لمحاربة عدوه وجب عليه أن يوصيه)
وما يهمنا هنا هو التأكيد على عدم جواز الغدر أو الغيلة أو الحرب المفاجئة ، والذين يقومون بالعمليات الانتحارية أو التَّفجيرات أو تنسب إليهم ويسكتون فرحاً بالتهمة ليسوا دولة ولا تعرف لهم دار وهم كما يدَّعون ينتمون إلى البلدان التي يستهدفون أمنها ويقتلون أهلها فإنَّ أفعالهم تفتقر إلى أي شرط من شروط الجهاد ولا يتقيَّدون بأيِّ قيد من قيوده.
والجهاد القتالي لكي يكون مشروعاً لابدَّ أن يتقيَّد فاعلوه بالمحددات الشَّرعية له لأنَّه كالصَّلاة فكما لا يجوز أن يصلي المسلم إلي غير القبلة وهو يشاهدها وبدون طهارة وهو متمكن منها وبدون ثياب وهو قادر على الحصول عليها وكما لا يجوز أن يصوم اللَّيل في رمضان ويفطر بالنَّهار ويتعمد صيام يوم العيد مع معرفته به فإن مخالفة النُّصوص المنظِّمة للجهاد كمخالفة أركان الصَّلاة وشروطها وكذلك الصِّيام والحجّ
والغريب أن يقاتل المسلمون على ما يعتبره بعضهم بدعة في الصَّلاة والصِّيام والحجِّ حتى ولو كان للفاعل لها سند شرعي مع أنَّ الصَّلاة والصِّيام والحجَّ عبادات لو انحرف المسلم في طريقة أدائها لن يضر إلا نفسه إن كان غير معذور بينما الانحراف في أداء فريضة القتال تجر على الأمة الويلات ومع هذا يسكت العلماء عنهم وكأنَّ الفتنة لا تعنيهم .
ثالثا:- حرمة قتل المُؤمَن حتى ولو كان حربياً مقاتلاً
قال تعالى(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ...)(1)من سورة المائدة
وقال تعالى(...............وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا(34) من سورة الأسرىوقال تعالى(وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ(58)الأنفال وقال تعالى( وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ(25)سورة الرعد
ماذا نعني بالأمان؟ ومن هوالمؤَمَّن؟ وكيف ينعقد الأمان؟
(الأمان لغة من الأمن والأمن ضدّ الخوف ولهذا فإن منح الأمان لأحدٍ من الناس هو بمثابة رفع لخوفه من كلِّ ما من شأنه أن يخاف عليه،من نفس أو عرض أو مال ..الخ وما ذلك إلا لأنَّ المُؤمَّن يدخل في أمن المُؤمِّن،ويصبح بالتالي جزءاً من أمنه الخاص،وكأنهما فرد واحد.
وبهذا المعنى فإنَّ الأمان يستلزم توقيفاً للخصومة والعداوة،مادام المؤمَّن في أمان المؤمِّن.
كما أنَّ من لوازمه أيضاً عدم الخيانة والغدر،لأنَّ مع توقع أحدهما أو كليهما فإن معنى الأمان ينفرط. ولذا وجب أن يكون الأمان نوعاً من أنواع العقود أو العهود الملزمة،و إلا مع تصور عدم الإلزام،فإن إمكان الغدر أو الخيانة يبقى قائماً وبالتَّالي يصبح معنى الأمان ناقصاً ولا يتحقق المراد منه في الواقع.
وكونه عقداً،أي أمراً معقوداً بين طرفين المؤمَّن والمؤمِّن،فهو يعقد أو يربط أو يوثق أمن كلٍّ منهما مع الآخر،ولذا قلنا،إن المؤمَّن يصبح أمنه جزءاً من أمن المؤمِّن.) ( )
عقد الأمان
كيف ينعقد الأمان؟ وماهي الأثار المترتبة على عقده؟
ينعقد الأمان (بإشارة أشار بها المسلم للكافر [الحربي أمّا غير الحربي من معاهد أو ذمي فهو آمن بالعهد والذمة ] ولو قال له تعال إلينا فإن ذلك يكون أماناً للمدعو وولده الصغير ،كما لو قال أمَّنتك أو أنت آمن أو مؤمن أو في أماني أو أنت جاري أو رفيقي أو لا خوف عليك أو قف أو يعطيه خاتمه أو سبحته أو وقع الأمان من غير أهله ثم أجازه وكذا السَّلام عليك ...الخ ما يفهم منه عدم نيَّة القتل أو كلّ ما أفاد التَّأمين من الأقوال والأفعال (وإذا عقد الأمان لمشرك ..حُقِنَ بذلك دمه وماله ،كما يُحقَنُ ذلك بالإسلام )( ) .
(روي أن الهرمزان لما حمله أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : تكلم ، فقال الهرمزان : كلام حيٍ أو ميت؟ فقال له عمر لا تفزع ، لابأس عليك ، مترسٌ فتكلم به الهرمزان ، ثم أراد عمر رضي الله عنه قتله،فقال له أنس بن مالك : ليس لك قتله فقال : كيف أتركه وقد قتلَ البراء بن مالك ؟ فقال :قد أمنته،فتركه )( )
ويصحُّ الأمان بالإشارة التي يفهم منها الأمان ، لما روي : ( أن عمر رضي الله عنه قال: والذي نفس عمر بيده: لو أنَّ أحدكم أشار بإصبعه إلى مشرك ، ثم نزل إليه على ذلك ثم قتله لقتلته)( )
بل إنه إذا أشار المسلم إلى المشرك بشيءٍ ، فنزل المشرك إليه ظناً منه أنَّه أشار إليه بالأمان ، فإن اعترف المسلم أنه أراد بالإشارة الأمان له ..كان آ مناً وإن قال : لم أرد الأمان .. قبل قوله، لأنه أعلم بما أراد ويعرف المشرك أنَّه لا أمان له، فلا يحلُّ قتله حتى يرجع إلى مأمنه ، لأنه دخل على شبهة أمان )( )
حتى إن اختل قيد من قيود الأمان كأن يكون المؤُمَّن منهي عن تأمينه من ولي الأمر مع علم المؤمِّن أو المؤمَّن فلا يقتل بل يردُّ إلى مأمنه .
والأحاديث النبوية المتعلقة بهذا الباب كثيرة جداً ننقل منها [يجير على المسلمين بعضهم ]
و عن عائشة رضي الله عنها (أنَّ أبا العاص لما وقع في الأسر..قالت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد أجرته فخُلِيَ لها) ( )
وفي رواية زيادة على ذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (ذمَّة المسلمين واحدة فإذا أجارت جارية ..فلا تخفروها ، فإن لكلِّ غادرٍ لواء ً من نار يوم القيامة) ( )
(وبهذا المعنى حديث الإمام علي عند أحمد وأبي داود والنسائي والحاكم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:) ذمَّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم)ولفظه عند أبي داود (المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمَّتهم أدناهم)ومن ذلك ما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً بلفظ : (يد المسلمين على من عداهم تتكافأ دماؤهم ويجير عليهم أدناهم ،ويردُّ عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم) وعن أبي هريرة بلفظ: (ذمَّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم ..فمن أخفرها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ..ولا يقبل الله منه يوم القيامة عدلاً ولا صرفاً) ( )
حرمة نقض الأمان أو العهد
وإذا انعقد الأمان (فلا يجوز لأحد من المسلمين خرمه لأن الوفاء بالذِّمَّة واجب إجماعاً فمن استحل نقضها كفر ومن خرمها غير مستحل فسق وتحريم نقضها عدَّه البعض أشهر وأظهر من تحريم الزِّنا ونحوه)( )
ويصرِّح الشَّوكاني على(عدم وجود خلاف بين أهل الإسلام على عدم جواز خرم الأمان بل هو من ضروريات الدِّين ويؤكد هذا مارواه ابن الأمير نقلاً عن صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:- [ من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً ] وفي لفظ البخاري [من قتل نفساً معاهداً له ذمَّة الله وذمَّة رسوله ].( )
وهو عند أبي داود والنِّسائي بغير حلها وعند التِّرمذي من حديث أبي هريرة وعند البيهقي من رواية صفوان بن سليم عن ثلاثين من أبناء الصحابة بلفظ (سبعين خريفاً) وعند الطَّبراني من حديث أبي مسيرة مائة عام ،وفيه من حديث أبي بكرة خمسمائة عام وهو في الموطأ من حديث آخر وفي مسند الفردوس عن جابر [إنَّ ريح الجنة ليدرك من مسيرة ألف عام ..] كلُّ ذلك للدِّلالة على الخطر العظيم الذي تمثله جريمة خرم الذمَّة وقد جاء في الحديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:[ سمعت النبَّي صلى الله عليه وآله وسلم يقول :لكلِّ غادر لواءٌ يوم القيامة] قاله صلى الله عليه وآله يوم فتح مكة ( ).
وجاء في حديث نسبه الفقيه يوسف إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله [الأيمان قيد الفتك] وفُسِّر بأنَّه القتل غيلة حتى قيل أنَّ المسلم بعد هذا كان إذا وجد الكافر نائماً أيقظه ليقتله). ( )
(ويحرم عقد الأمان للغدر بالمستأمن بالإجماع) ( )
كما أنَّ (أمان الحربيين لمسلم أمان لهم منه فإذا أمَّن الكفار (المحاربون) مسلماً كانوا آمنين من جهته فلا يجوز له أخذ شيء عليهم ولا أن يغنم من أموالهم ولا أنفسهم فلو أخذ عليهم شيئاً وجب ردُّه وإن تلف ضمنه )( )
وهذا يعني أنَّ من يعيش في بلد غير بلده الواجب عليه أن لا يهدِّد أمنهم لأنَّ تأمينهم له يلزمه معاملتهم بالمثل ويحرم عليه الغدر بهم حتى لو كان المسلمون يعيشون حرباً معهم .
(ويستحب منه لهم الوفاء بالمال حتى ولو كان لحرب المسلمين ).( )
تأمين الرُّسل
ويؤكد الشَّوكاني على أنَّ (تأمين الرُّسل ثابت في الشَّريعة الإسلامية ثبوتاً معلوماً فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يصل إليه الرُّسل من الكفار فلا يتعرض لهم أحد من أصحابه وكان ذلك طريقة مستمرة وسنة ظاهره .وهكذا كان الأمر عند غير أهل الإسلام من ملوك الكفر .فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يراسلهم من غير تقدم أمان منهم لرسله فلا يتعرض لهم معترض
والحاصل أنَّه لو قال قائل إن تأمين الرُّسل قد اتفقت عليه الشَّرائع لم يكن بعيداً وقد كان أيضاً معلوماً عند المشركين أهل الجاهلية عبدة الأوثان ،ولهذا أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: [لولا أنَّ الرسل لا تقتل لضربت أعناقهما ] .( )
ومثل هذا ما ثبت في حديث آخر أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لرسوليْ مسيلمة [ لو كنت قاتلاً رسولاً لقتلتكما ].( )
وكلُّ من دخل البلد بصورة مشروعة أو دخل بغير قصد القتال حتى لو كان من بلد تعيش حالة حرب مع البلد التي دخل إليها فهو مشمول بعقد الأمان لأن مجرد قول مواطن له السَّلام عليك عقد أمان له حتى يرد مأمنه أما السُّفراء وأعضاء البعثات والوفود فإنهم كالرُّسل بل هم رسل،وفي قصة مجيء أبي سفيان إلى المدينة المنورة بعد نقض قريش لصلح الحديبية دليل على عدم جواز المساس بمن دخل البلد وهو غير قاصد القتال لأن أبا سفيان كان رأس المحاربين لله وللرَّسول آنذاك ورغم أنه بحث عمَّن يجيره ولم ينجح في مسعاه كما تقول الرِّويات إلا أنَّه لم يمس.
ويضع الشَّيخ محمد مهدي شمس الدِّين سؤالاً مباشراً حول مشروعية العنف ضد الأجانب في بلاد المسلمين،ويجيب عليه بالقول: (المراد بالأجانب هنا هم الأشخاص، والسِّفارات،والهيئات الأخرى،والشَّركات التِّجارية وغيرها الموجودون في البلاد الإسلامية بإجازات دخول وإقامة وعمل من قبل حكومات البلاد الإسلامية.ولا تضر إقامتهم وعملهم بالمسلمين،ولا توجد حالة حرب فعلية بين المسلمين وبينهم.
إن هؤلاء الأجانب(كفَّار) بالمصطلح الشَّرعي ، وقد دخلوا إلى البلاد الإسلامية بمقتضى إجازات دخول وإقامة وعمل من قبل السُّلطات التي تمثل البلاد الإسلامية ذات العلاقة.
وبهذا الاعتبار ينطبق عليهم ما ذكره الفقهاء جميعاً، وأجمعت عليه المذاهب الإسلامية من كونهم أهل عهد، وأهل الأمان،وأهل الذِّمَّة وهم ليسوا – بهذا الاعتبار- موضوعاً للجهاد قطعاً وهذا العنوان يوجب شرعاً حمايتهم وحفظ أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ويعصمهم من كلِّ اعتداء عليهم وهذا واجب على الدَّولة وعلى سائر المسلمين.
ولا شكَّ في أنَّ كلَّ ما دلَّ من الكتاب والسُّنة على وجوب حماية وحفظ من دخل وأقام في بلاد المسلمين من الكفار الأجانب،يشمل الأجانب غير المسلمين الموجودين الآن في البلاد الإسلامية بإجازة من حكومات هذه البلاد.
والقول ـ بأنَّ أنظمة البلاد الإسلامية الآن في البلاد لا ذمَّة لها،ولا يعتبر عهدها وعقدها شرعاً في أمثال هذه الأمور بالنسبة إلى الأجانب غير المسلمين الذين لا توجد حالة حرب فعلية بين المسلمين ـ قول مردود،فإن عدم شرعية هذه الأنظمة من النَّاحية الفقهية لا ينفي (صلاحيتها)لإجازة دخول وإقامة وعمل هؤلاء الأجانب مادامت عقودها وعهودها سليمة عن إيقاع الضَّرر بالمسلمين أو تقتضيها مصلحتهم على أساس المعاملة بالمثل،هذا من جهة ومن جهة أخرى،فإن الأشخاص الرَّسميين الذين أعطوا إجازات الدُّخول والعمل والإقامة مسلمون فلهم ذمَّة محترمة عند الشَّارع تشملها الأدلة الدَّالة على أنَّ المسلمين (يسعى بذمَّتهم أدناهم) ( ).
ويستدل على ذلك بماأنفرد الشيعة الإمامية بحجيته فيقول( على أنَّ السِّيرة القطعية من جميع المسلمين في عصر أئمَّة أهل البيت المعصومين عليهم السَّلام قد جرت على تصحيح هذه الذِّمة وترتيب الآثار التَّكليفية والوضعية عليها.
وهذه السِّيرة دليل على أن هذه الذِّمَّة صالحة لترتب الأثر الشَّرعي الوضعي بالنِّسبة إلى الأجانب بصرف النَّظر عن شرعية أو عدم شرعية النِّظام الحاكم صاحب الذِّمَّة، الذي أعطى لهؤلاء الأجانب إجازات الدُّخول والإقامة في بلد المسلمين)( )ويستفاد من هذا أن الإجماع منعقد على تصحيح ذمة الحكومات التي حكمت الأمة الإسلامية حتى من قبل من لم يسلم بشرعيتها
(وكون هؤلاء الأجانب ينتمون إلى حكومات تتبع سياسة مخالفة لمصالح المسلمين، لا يجعلهم مسئولين عن سياسة حكوماتهم بنحو يبرِّر قتلهم أو جرحهم أو أسرهم أو مصادرة أموالهم، وهم بالنِّسبة إلى حكومات بلادهم على قسمين :
أحدهما: الأشخاص والهيئات والشَّركات التِّجارية والصِّناعية الَّذين يحملون جنسية البلد الأجنبي ،ولكن لا علاقة لهم بالنِّظام الحاكم وليسوا من أعضاء الهيئة الحاكمة في ذلك البلد.
ثانيهما: الأشخاص والهيئات الذين هم جزء من الهيئة الحاكمة،من قبيل أعضاء السِّفارات والبعثات العسكرية ،وما إلى ذلك.
فأمَّا من كان من الأجانب غير المسلمين من القسم الأول، فلا يجوز الاعتداء عليهم بالقتل والجرح والأسر ومصادرة الأموال، بل يجب الوفاء لهم بالعهد والأمان بحفظهم وحمايتهم، ولا وجه لتحميلهم وزر حكوماتهم.
وهؤلاء من أظهر مصاديق الاستثناء في الآية الكريمة(...إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ(4)( ) وأمَّا من كان منهم من القسم الثَّاني واقتضت مصلحة المسلمين قطع العلاقة مع حكومتهم ومخاصمتها، فإنَّ غاية ما يقتضيه ذلك هو إخراجهم من البلد المسلم بالطُّرق والأساليب المتعارف عليها في المجتمع الدولي، وفي المهل المتعارفة حسب المعاهدات والمواثيق الدُّولية التي تنظم العلاقات بين الدُّول ، والمسلمون في عصرنا ملزمون بمراعاتها من جهة التزامهم بالمواثيق المذكورة وعلاقتهم بمنظَّمة الأمم المتحدة والمنظَّمات الدُّولية الأخرى.
ولا يوجد أيُّ مبرِّر شرعي لمعاملة هؤلاء الأجانب بالقتل والجرح والأسر والضَّرب ، وإتلاف الأموال ومصادرتها ، في حالة عدم ارتكابهم لجرائم تقتضي معاقبتهم وفي هذه الحالة فإن مرجعهم هو القضاء لمحاكمتهم والحكم عليهم من دون فرق بين أن تكون سياسة حكوماتهم ملائمة أو غير ملائمة لمصالح المسلمين.
ويؤيد ما ذكرنا بل يدلُّ عليه أنَّنا لم نجد السِّيرة النَّبوية وسيرة أئمَّة أهل البيت المعصومين عليهم السَّلام أيَّة ممارسة للاغتيال السِّياسي والإرهاب السِّياسي مع توفر الدَّواعي إلى ذلك وتوفر أسباب التَّمكن، منه والقدرة عليه ، ومع طول الزمان واختلاف الأحوال ولو كان هذا الأسلوب مشروعاً لمارسه النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم ولمارسه أئمَّة أهل البيت عليهم السَّلام ، فعدم وقوعه دليل على عدم مشروعيته.) ( )
رابعاً :- عدم جواز استهداف الأماكن التي لا تخلوا ممن لا جوز قتله :-
إذا حدثت المعركة وبدأ القتال فما هي قيود وحدود القتال؟ هل له ضوابط وحدود؟؟ أم أنَّه حرب مفتوحة يستهدف فيها بالقتل كل من يقع في دار العدو أو دار الحرب بالتَّعبير الفقهي؟؟
المقطوع به أنَّ الإسلام قيَّد المسلمين وحرَّم عليهم استهداف الأماكن التي لا تخلوا من وجود المدنيين (النِّساء والشُّيوخ والأطفال بل وكلُّ من لا يقاتل أو حتى من يقاتل مكرهاً لأنَّ القتل لا يجوز إلا لمن يباشر القتال والقتل لايجوز إ لا لمن يستحقه واستهداف الأماكن التي لاتخلوا ممن لايجوز قتله إقدام على ما لايؤمن قبحه وهو قبيح .
والأدلة على ذلك كثيرة فمن الآيات القرآنية:
1- قوله تعالى:{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ }[البقرة -190]
2- قوله تعالى: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [التوبة -13]
3- قوله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة 8-9].
وقد رُوِيَتْ الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة التي تصل حد التَّواتر المعنوي ونُصَ فيها (النَّهي) صراحة عن قتل من لا يقاتل من الكفار كالأطفال والنساء والرجل الكبير والمختلي للعبادة في صومعته كالرُّهبان والعبيد وأُجراء الأرض (العسيف).
1- عن الإمام زيد بن عليّ عن أبيه عن جدِّه عن الإمام عليّ عليهم السَّلام قال: (كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- إذا بعث جيشاً من المسلمين قال انطلقوا بسم الله وبالله ، وفي سبيل الله وعلى ملَّة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- أنتم جند الله تقاتلون في سبيل الله ادعوا إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، إلى أن يقول: فإن أظهركم الله عليهم فلا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا رجلاً كبيراً لا يطيق قتالكم ، ولا تغوروا عيناً ، ولا تقطعوا شجراً إلا شجراً يضرُّكم ، ولا تمثلوا بآدمي ولا بهيمة ولا تظلموا ، ولا تعتدوا ، وأيّما رجل من أقصاكم أو أدناكم من أحراركم أو عبيدكم أعطى رجلاً منهم أماناً أو أشار بيده فأقبل إليه بإشارته فله الأمان حتى يسمع كلام الله ، فإن قبله فأخوكم في الدين ، وإن لم يقبل فردُّوه إلى مأمنه واستعينوا بالله تعالى عليه ...) الحديث.
2- في تيسير المطالب للسَّيد أبي طالب بسنده عن الإمام زيد بن علي على نفس الحديث ولكن بدل : (ولا تظلموا ولا تعتدوا) ، (ولا تغلوا ولا تغدروا) وقد أخرجه البيهقي عن الإمام زيد بن علي .
3- وروى الشِّيعة الإمامية عن الإمام الحسين بن علي عليهما السَّلام ، قال: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- يقول: [.... ولا تغلوا ، ولا تمثلوا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة ولا تقطعوا شجرة ..] الحديث. وفي رواية أخرى : ولا متبتلاً في شاهق .( )
4- وروى أبو داود .. من حديث أنس بن مالك : [أنَّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- قال : انطلقوا باسم الله ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً صغيراً ولا امرأة ..] الحديث.
5- وأخرج البيهقي من طريق أنس بن مالك أنَّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- قال: (انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملَّة رسول الله ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً.... ) الحديث.
6- وأخرج البيهقي عن أبي بكر الصِّديق رضي الله عنه في حديث طويل أنَّه قال ليزيد بن أبي سفيان حين بعثه إلى الشَّام إنَّك ستجد أقواماً زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما زعموا أنَّهم حبسوا أنفسهم لَه ، وإنِّي موصيك بعشر ، لا تقتلن امرأة ولا صبياً ولا كبيراً هرماً ولا تقطعن شجراً...) الخبر .
ويعلق العلامة الحسين بن أحمد السِّياغي مؤلف الرَّوض النَّضير في شرح مسند الإمام زيد بن علي بقوله: (إن النَّهي عن قتل الوليد والمرأة فقد ثبت ما يؤيده في المتفق عليه من حديث ابن عمر ، نهى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- عن قتل النِّساء والصِّبيان ، .. وعند أحمد بن حنبل والحاكم وابن حبان وأبي داود والبيهقي والنِّسائي من حديث رباح بن الرَّبيع أنَّ النَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- مرَّ بامرأة مقتولة فقال: (ما بال هذه تقتل ولا تقاتل)، ثم قال لرجل : (انطلق إلى خالد وقل له إنَّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- يأمرك أن لا تقتل ذرية ولا عسيفاً )، لأن القتل إنما كان لدفع الضرَّ وحيث لا ضرر لا يجوز فعله ، وهو الوجه في عدم قتل الشَّيخ الكبير وقد أشار الحديث إلى أن العلَّة عدم قدرته على القتل كالأعمى والمقعد).( )
وقد حدَّد شرح الأزهار هذا الموقف في صيغة قانونية واضحة (وإذا ظفر المسلمون بالكفار فإنه لا يجوز أن يُقتل شيخ كبير فإنه لا يطيق المقاتلة ولا مُخْتَلٍ للعبادة لا يقاتل كرهبان النَّصارى ولا الأعمى ولا مقعد ولا صبي صغير لا يقاتل مثله ولا امرأة ولا عبد مملوك،).
ويؤكد هذا المبدأ السَّيد محمد حسين فضل الله بقوله : (كاد الإجماع ينعقد على عدم جواز قتل من لا يقاتل من الكفار حتى لو كان قادراً على القتال.. وقد حكي عن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قوله: اتَّقوا الله في الفلاحين الذين لا يبغون لكم الحرب).( )
وقد عدَّ أهل السُّنة (عدم جواز قتل من لا يقاتل من جزئيات الأصل العام؛ لأن الأصل الأول هو عصمة الأحياء وإبقاء الكفار وتقريرهم لأن الله تعالى ما أراد إفناء الخلق ولا خلقهم ليقتلوا ، وإنما أباح قتلهم لعارض ضرٍّ وجد منهم ، وليس جزاء على كفرهم لأن دار الدنيا ليست دار جزاء بل الجزاء في الآخرة)، فضل الله نقلاً عن ابن الصلاح
فلا يجوز استهداف المدنيين (الأطفال والنِّساء والشُّيوخ والرُّهبان وأجراء الأرض ) حتى لو كانوا حربيين أي نساء الكفار المحاربين وشيوخهم وأطفالهم وعبيدهم وأجرائهم لعدم جواز استهداف قتل من لا يقاتل وهذا مجمع عليه والخلاف في حكم الترس وسنعرض له .
كما أنه لا يجوز تبييت العساكر التي فيها تجار المسلمين وأسرهم وضعفاؤهم لأنَّ الله بين العلَّة في كفِّ المسلمين يوم الحديبية بقوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[الفتح -24:25]
وأولئك الذين منع الله المسلمين من قتلهم قوم من المسلمين كانوا بمكة عجزوا عن الهجرة ، فلو سلَّط الله المؤمنين على أهل مكة لقتلوا من بينهم من المسلمين لعدم العلم بهم فيصيب المسلمين بذلك معرَّةٌ .
مع أن كفَّار قريش كما جاء في الآية التَّالية { إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}[الفتح-26]
فإذا كان المؤمنون وعلى رأسهم الرسول منعوا من قتل من لا يعلمون ممَّن يخفي إيمانه في مكة لطفاً من الله لرسوله و المؤمنين من الوقوع في المعرَّة برغم تعنُّت الكفَّار الذين كفروا وصدُّوا المسلمين عن المسجد الحرام وقبل ذلك عذبوا و أخرجوا الرَّسول منها وأعلنوا الحرب عليه في كلِّ موطن مع كلِّ ذلك لطف الله بمنع الحرب بإنزال سكينته على الرَّسول وعلى المؤمنين وإلزامهم كلمة التَّقوى .
ومن المقطوع به أنَّ استهداف المدن الإسلامية أو الآمنة بالعبوات شديدة الانفجار التي تقتل في العادة أكثر من شخص يتناقض مع التَّقوى التي أُلزم المسلمون بها فليس من التَّقوى تعريض من لا يجوز قتله للقتل مهما كان المبرِّر لأن الإقدام على ما لا يؤمن قبحه قبيح وقتل من لا يجوز قتله أطلق عليه عدوان والله لا يحب المعتدين وتجاوز العدو بقتل من لا يقاتل من المسلمين لا يمنح المسلم المبرِّر ليفعل مثله لأنَّ القاتل المجرم لا يمثل إلا نفسه فالله سبحانه وتعالى .
*****
حكم التِّرس
قد يلجأ العدو إلى الاختلاط بالمدنيين في حالة هجومه على المسلمين ويستخدمهم كترس له يحتمي بهم، فالتِّرس هو استخدام المحاربين للأطفال والنساء وكبار السِّن درعاً بشرياً ليتحرَّج المجاهدون من رمايتهم.
والتِّرس قد يكون باستخدام المقاتلين أطفالهم أو نساءهم أو عجزتهم دروعاً بشرية حال الهجوم على المسلمين.
أو قد يكون المسلمون مهاجمين لمدينة يختلط فيها المحاربون بأطفالهم ونسائهم ....ممن لا يجوز قتلهم .
وقد يكون بالأسرى المسلمين أو الأطفال والنِّساء والعجزة من المسلمين كأن يختلط الأعداء بالمدنيين المسلمين .
في الحالة الأولى حدَّد شرح الأزهار الحكم في صيغة واضحة قاطعة بقوله: (إذا اتَّقى الكفَّار بصبيانهم أو نسائهم أو عبيدهم أو شيوخهم أو عميانهم أو مقعدهم جاز قتل التِّرس للضَّرورة وهي إن لم يقتل التِّرس استولوا على من صالوا عليه). ( )
بمعنى أنه لا يجوز قتلهم إلا إذا خشينا الاستئصال بالمسلمين، سواء كان التِّرس ممن لا يقاتل من المحاربين أو كان التِّرس من المسلمين وقد ذكر الإمام مالك أنَّه لاتحرق سفينة فيها كفَّار محاربون ومعهم أسير من المسلمين .
وإذا جاز قتل التِّرس للضَّرورة المتمثِّلة في خشية الاستئصال فقد شرط الغزالي أن تكون خشية الاستئصال معلومة علماً ضرورياً بأن يقصدوا كلية و بأن يخُشى على الجملة لا على واحد ،وأن تكون قطعية بأن نعلم نكايتهم لنا ولا يكفي الظن .
وإذا جوَّزنا ذلك للضَّرورة أو فعل ذلك في دار الحرب من غير ضرورة وجبت الدِّية والكفَّارة لعموم قوله تعالى {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [ النساء :92]
أما لو تعمَّد قتل مؤمن في دار الحرب فقال الشَّافعي :يجب القود في العمد وأبو طالب أوجب الديَّة مع الكفارة في العمد والخطأ وكذلك أبو حنيفة إلا أنَّه أسقطها في حال الدَّفع أي عندما يكون الكفَّار قاصدين لا مقصودين .
وحجَّة من أوجب الديَّة عموما قوله تعالى {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}.
وكذا احتج من أوجب الديَّة بقوله تعالى :(( فتصيبكم معرَّة )) والمعنى لو لم نمنعكم لقتلتم المشركين ومن بينهم ضعفاء المسلمين فتصيبكم معرَّة .
وعن جار الله الزَّمخشري: المعرَّة مع عدم العلم وجوب الديَّة والكفَّارة ، ومعناها ولولا كراهة أن تهلكوا قوماً مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عالمين بهم فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقَّة ، لما كفَّ أيديكم عنهم .
ثم بين سبحانه أنَّ الكفَّ ( عن قتل المشركين بمكة ) لهذا الغرض لا لكونهم غير مستحقين للقتل فهم الذين كفروا ثم أضافوا إلى كفرهم أن صدُّوا عن المسجد الحرام[ بالإضافة إلى ما سبق منهم من عدوان إخراج الرسول من مكة وإعلانهم الحرب عليه وتأليبهم القبائل في الأحزاب ...] وأنَّهم لو تزيلوا عن المؤمنين لما كففناكم عنهم ، بل يعذبون عذاباً أليما ).( )
وكما يلاحظ فالإجماع منعقد على تسمية قتل من لا يقاتل (قتلاً) والخلاف في العقوبة عليه (القود عند الشَّافعي )أو الديَّة عند غيره مع الكفَّارة .
وقد سماه المولى (عدواناً) وظلماً كما نصَّت الآية (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يُحب المعتدين ،واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ) والعدوان كما فُسِّر هو قتل من لا يقاتل من نساء وأطفال وشيوخ ورهبان وعبيد المحاربين وسيأتي بيانه لاحقاً) .
وإذا كان هذا الحال مع غير المسلمين وأيضاً مع عدم معرفة وجود مسلمين ومع كفَّار قريش الذين ناصبوا الرَّسول صلى الله عليه وآله وسلم العداء وعذَّبوا المستضعفين من المسلمين حتى القتل. والإسلام آنذاك لما يزل بعد عوده طرياً وقريش محكومة بحمية الجاهلية، فكيف الحال بمن يستهدف مدناً آمنة مسالمة بالمتفجرات التي يذهب ضحيتها الأطفال والنِّساء والشِّيوخ المؤمنون المسالمون الآمنون ؟؟ بدون غاية وبدون أن يكون محكوماً بالضَّرورة وبدون أن يدفع عن نفسه أو عن عقيدته الخطر بل يضاعفه ودافعه الوحيد هو الرَّغبة في القتل للقتل، قتل أيٍاً كان ومن كان كما حدث في الرِّياض والمغرب وأندونيسيا واسطنبول وغيرهما من المدن الآهلة بالسُّكان التي لا يخلو فيها من وجود المسلم والطِّفل والمرأة والعاجز والمعاهد والنَّاسك وبدون إنذار !!!!! أي القتل غيلة بل وكلّ مدينة في العالم لا تخلوا من وجود مسلمين نعلم بوجودهم ويعلم كلُّ من يدعي العمل للإسلام .
وكما هو ظاهر من نصِّ الآية (أُذن للذين يقاتلون) فالأصل كان المنع من القتال والإذن به معللاً بأنهم يقاتلون ظلماً وأخرجوا من ديارهم وكما هو معلوم من الدِّين بالضَّرورة فإنَّ الأصل في الدِّماء والفروج الحظر وليس الإباحة .
لأن القتال فيه إزهاق أرواح وهذا نقيض مقصد الشَّريعة حفظ الحياة، وحفظ الحياة المقصود به حفظ حياة المؤمن والكافر الإنسان والحيوان إلا ما أبيح إزهاقه لعارض ضرٍّ صدر منه أو منفعة من إزهاقه كالأنعام التي أبيحت بشرط المحافظة على النَّوع.
ولم نؤمر بقتل الكافر أو العاصي بل أُمرنا بالعمل على فتح أبواب الرَّحمة أمامه ،ولكي تظلَّ أبواب الرَّحمة أمام الكافر والعاصي مفتوحة حتى آخر لحظة من عمره لا بدَّ من العمل على المحافظة على حياته وإذا جاز قتله فللضرورة التي قد تكون نابعة من الدِّفاع عن حقِّ غيره في الهداية أي عندما تكون حياته خطراً مؤكداً على حياة غيره أو عائقا أمام حرية الغير في الاختيار الحرِّ (الهداية أو الهلاك) .
لقد خلق الله الإنسان وهو يعلم أنه سيكفر ويطغى ،والحياة هي هبة الله التي لا تعدلها هبة ومن أهدرها أو سلبها بدون وجه حقٍّ فإنَّه اعتدى على حرمة من حرمات الله بل أعظم الحرمات لأنَّ قتل النَّفس الواحدة بنصِّ القرآن كقتل النَّاس جميعا لأنَّنا جميعاً من نفس واحدة {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ ر َقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} .[النِّساء -92:94]
لقد جوَّز بعض العلماء قتل من لا يجوز قتله عرضاً أي عندما لا يكون قتل معصوم الدَّم مقصوداً لذاته وهذا يقتضي جهل القاتل وجود من لا يجوز قتله من محترم الدَّم أو كان عالماً ولكنَّه مقيد بخشية الاستئصال وفي حال الدِّفاع وليس الهجوم أي عندما يكون المسلمون مقصودين بالقتل لا قاصدين واشترط الغزالي ووافقه الأغلب على أن تكون الخشية معلومة لعدم كفاية الظَّن وبدون هذا فإنَّ القتل يكون عمداً .
والاستئصال المقصود به إبادة المسلمين المقصودين بالهجوم أو إبادة أغلبهم أو إبادة المقاتلين منهم أو أغلبهم /لكن استهداف المدن الإسلامية أو غيرها من المدن التي لا تعيش الأمة حالة حرب معلنة معها ويعيش المسلمون فيها وهم آمنون على حريتهم في التعبُّد وحقوقهم المالية مصانة وينعمون بحق المساواة مع غيرهم أمام القانون حتى لو كانت الغالبية غير مسلمة و قتل محترم الدَّم عدوان وبغي و حرابة وخفر للذِّمَّة( ذمَّة الله ورسوله التي أوجبت الوفاء بالعهد ،
ومن شروط الوفاء احترام شروط الإقامة وعدم الغدر بمن يقيم المسلم معهم
ولقد ثبت أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وآله وسلم قال محذراً أمته [لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض] وقال أيضاً [إذا تقابل المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النَّار ] وعندما سئل صلى الله عليه وآله ما بال المقتول أجاب لأنَّه أراد قتل صاحبه( )
وروي عنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم [ ما يزال المسلم أو المرء في فسحة من دينه أو من أمره ما لم يسفك دماً حراماً ]
كما رويت عنه الكثير من الأحاديث والأقوال التي تنصُّ بوضوح تام على أن أكبر الكبائر بعد الشِّرك بالله أو مع الشِّرك بالله أو المعبِّرة عن الشِّرك والكفر بالله هي قتل النَّفس التي حرَّم الله ونصُّ الآية العظيمة {ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطئاً } نصٌّ صريحٌ على أنَّ قاتل النَّفس المعصومة لا يمكن أن يكون مؤمناً { ومن قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها }
( عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما )[أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من حمل علينا السِّلاح فليس منا]( )
( عن سالم عن أبيه ،قال بعث النبيَ صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة ،فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا ،فجعلوا يقولون صبأنا ،صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر،ودفع إلى كلِّ واحد منَّا أسيره وحتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كلُّ رجل منَّا أسيره، فقلت والله لا أقتل أسيري ،ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره حتى قدمنا على النَّبيَ ،صلى الله عليه وآله وسلم فذكرناه فرفع النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم يده فقال: اللهم إنِّي أبرأُ اليك ممَّا صنع خالد ،مرتين) . ( ) (وعن ابن عباس : أنَّ النَّبيَ صلى الله عليه وآله وسلم قال:[أبغض النَّاس إلى الله ثلاثة :ملحد في الحرم ،ومبتغ في الإسلام سُنة الجاهلية ،ومُطًلِبُ دمِ أمرىءٍ بغير حق ليهريق دمه]. ( )
{وذُكر (أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال لمن قتل الرجلين من بني سليم
وقف الإمام زيد بن عليّ (عليهما السّلام) قبل المعركة الَّتي استشهد فيها خطيباً فقال:
(عباد الله :-لا تقاتلوا عدوَّكم على الشَّك فتضلوا عن سبيل الله ، ولكن البصيرة البصيرة ثمَّ القتال ، فإنَّ الله يجازي عن اليقين أفضل جزاء يجزي به على حق ،إنَّه من قتل نفساً يشكُّ في ضلالتها كمن قتل نفساً بغير حق)
[مجموع كتب ورسائل الإمام زيد بن علي [ع] دار الحكمة اليمانية:- الأولى1422هـ2001 تحقيق محمد عزان]
مقدمة
قبل الحديث يجب التّنويه إلى أنَّ الجهل بأحكام الجهاد أدى في الغالب إمّا إلى أداء الواجب بصورة تتناقض مع الحكمة أو الغاية من تشريعه، أو تبني وجهات نظر معادية لأداء هذا الواجب،ورغم خطورة هذا الواجب وأهميته، إلا أنّه لا يعطى حقَّه من الاهتمام، فالكتابة عنه تتسم بالعمومية والتَّحريض أو التَّثبيط.
والتفكير في موضوع الجهاد يطرح الكثير من الأسئلة منها:-
هل ما يحدث من عمليات القتل الّتي يذهب ضحيتها المسلمون الآمنون من مختلف الجنسيات (باسم الجهاد) يمكن أن يكون مقبولاً من وجهة نظر شرعيّة؟
متى يكون القتال جهاداً ؟وهل للجهاد شروط ؟ وما هي هذه الشّروط؟ وهل كلّ قتال يخوضه المسلمون في مواجهة غيرهم هو جهاد؟ (بمعنى آخر هل هو العبادة التي أطلق عليها المولى جلّ وعلا عبادة ؟) وهل الجهاد عنوان شامل يندرج تحته القتال أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر؟ أم أنّ هنالك فرقاً بين الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر والجهاد ؟ وما هو الفرق إن وجد؟
متى يجوز القتال جهاداً؟ ومتى يجب؟ وعلى من يجب؟.......إلخ ،الأسئلة المتعلقة بالموضوع .
لمحاولة الإجابة عدت إلى ماتوفر لي من كتب الحديث والفقه لمختلف المذاهب الإسلامية ومن ذلك كتب شيخ الإسلام ابن تيمية والسَّيد محمد بن إسماعيل الأمير وشيخ الإسلام محمد بن علي الشَّوكاني وابن كثير والصَّابوني لأنها معتمد التيار الجهادي ومعها الجهاد للدُّكتور محمد سعيد رمضان البوطي والدِّراسة التي نشرها الأستاذ الدّكتور يوسف القرضاوي بعنوان مفاهيم جهادية.
كما عدت إلي ما توفر لدي من كتب حديثة عن الجهاد من أهمها، كتاب بعنوان الجهاد قرره السَّيد محمد حسين فضل الله، وكتابيْ جهاد الأمة وفقه العنف المسلَّح للشّيخ محمد مهدي شمس الدِّين،
بالإضافة إلى كتب المذهب الزَّيدي (شرح الأزهار والبحر الزِّخار والتّاج المذهب وضوء النهار والاعتصام والأحكام للإمام الهادي إلى الحق) ومن كتب الإمامية تحرير الوسيلة للسَّيد الخميني والمنهاج للسَّيد الخوئي وتفسير محمد جواد مغنية و الميزان للطَّباطبائي .
وغيرها من الكتب العامة كالكشَّاف للزَّمخشري وفي ظلال القرآن لسيد قطب..
ولبيان دلالة النُّصوص المتعلقة بأحكام القتال عرفنا الجهاد القتالي أستعرضنا بعض أحكامه وشروط وناقشنا في الأخير مسئلة الباعث إلى الجهاد
*****
إنَّ من يصلي المغرب أربعا عامداً متعمداً مع معرفته بأنَّه ثلاث فقط ترتدُّ عليه صلاته ولا يقبل الله منه كما يقول الجميع لا عدلاً ولا صرفاً ومن يتزيَّد في أيِّ عبادة مع اعتقاد وجوب الزِّيادة يوصم بالمبتدع.
لأنَّ العبادة من شرطها الالتزام بالشُّروط والأركان التي نُصَّ عليها من الله سبحانه وتعالى مع أنَّ الصَّلاة والصِّيام والحجَّ إنْ خالف المسلم السُّنة فيها ولم يلتزم بالنَّصِّ لن يضرَّ أحداً إلا نفسه إنْ فعلها تزيدًا وعناداً بينما أمر الجهاد والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر أخطر عند المخالفة لأنَّ موضوع الجهاد والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر مجالها الآخرون والانحراف في أدائها يؤدي إلي القتل وما هو أعظم وهو الفتنة التي بات المسلم يعيشها كأقسى ما تكون.
إن قيام بعض من ينتسبون إلي الدين بما يسمونه جهادًا بصورة مخالفة لشروط وأركان الجهاد، إمَّا جهلاً منهم بالأحكام أو تجاهلاً لانسياقهم وراء النَّزعة العبثيَّة للقتل هروباً من الحياة التي أُعطيت لهم من الله فكفروها سَّبب في كثير من الفتن التي عاشتها الأمة على مدار تاريخها
*****
لقدكتب هذا البحث على مراحل
الأولى: كتبت بعض المقالات في جريدة الأمة والوحدوي و26سبتمبر تعليقاً على أحداث عنف راح ضحيتها من أعتقدت أنه معصوم الدم
والثانية:كتبت مقالات عن موضوع الجهاد في المقرر المدرسي للمعاهد العلمية والمدارس العامة في محاولة لمعرفةجذور الغلو والتشدد
ومن خلال القرائة لاحظت أن من أسباب الجهل بالشُّروط والأحكام أنَّ الشباب حرضوا على القتال في المقررات الدراسيةوالمحاضرات العامة ومن خلال كتب السير والتراجم والأعمال الأدبيةكمالُقِّنوا في الحلقات والخلايا الحزبية ما يخالف أحكام الجهاد وشروطه أي أن التحريض والتلقين كان يهدف إلى إعداد الجيل للقتال بدون فقه بأحكامه أو بمعنى أدق من خلال تجهيلهم بضوابطه وشروطه، ولذلك فقد وجدت أن المدخل للحدِّ من العنف والتطرف لن يكون إلا بالحد من تنامي الجهل بالجهاد لأن الوعي بالضوابط والشروط سيتم الحد من ثكاثر أعداد تيار العنف.
و بالوعي بأحكام ٍالجهاد وشروطه وسننه وآدابه سيميِّز الجهاد عن أفعال القتل الوحشية التي تسلب الأمن وتمزق الأمة شرَّ ممزَّق،ونعتقد إن جهدنا هذا المتواضع سيثير من هم أقدر منا على إثراء الموضوع كما نرجو أن يتم الإهتمام بفقه الجهاد ويدرج في المقررات الدراسية في مختلف المراحل الدراسية ليزال الجهل ويزداد الوعي وبالتالي يقل حدة الغلو والتطرف وتجفف منابعه الفكرية والثقافية
وجوب الجهاد
اتَّفق المسلمون على اختلاف مذاهبهم أنّ الجهاد القتاليّ واجب إسلاميّ وضرورة واقعية ونصوص القرآن قاطعة بوجوبه وهى كثيرة جدا وكذلك السُّنة النَّبويَّة، إلا أنَّ العلماء اختلفوا في بعض الأحكام الفرعية -كالغاية منه أو الباعث إليه و في بعض الشّروط الموجبة له .
..ولتعدد التعريفات تجنبنا مناقشتها وقد اكتفينا بذكر بعضها من خلال عرض أنواع الجهاد القتالي كما دُوِّنت في بعض كتب الفقه المختلفة مع تحفظنا على دلالة بعض التَّعريفات التي تختلف باختلاف الموقف من الباعث على الجهاد .
التعريف :- الجَهدُ والجُهدُ
الجهاد في اللُّغة
الجهاد،على وزن فَِعَال مأخوذ من (الجُهد)-بالضَّم ،وهو المشقَّة البالغة.ومنه :-(جَهَد البئر)إذا بالغ في استخراج مائها و(جَهَد اللبن) إذا بالغ في إخراج زبده.و(اللَّبن المجهود):هو الذي أُخِذ زُبدُه.
و(الجََهْد)-بالفتح- :الأرض الصَّلبة. وبالفتح والضَّم :الطَّاقة.ومنه قول الله تعالى {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ.. } الآية [التوبة/79 ] والأوَّل بمعنى المشقَّة ،والثَّاني بمعني الطَّاقة ،يقال:- اجتهد في حمل الرحا، ولا يقال اجتهد في حمل خردلة، والجهاد يستلزم المشقَّة وبذل الوسع وقد جاء في الذٍّكر الحكيم بالمعنى العام {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت/ الآية 69]وفي قوله تعالى {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً}[ لقمان / 15 ]
وقد ذهب الفقهاء إلى تعريف الجهاد بأنَّه (بذل الوسع في مدافعة العدو) أو (المبالغة واستفراغ الوسع والطَّاقة من قول أو فعل،أو ما أطاق من شيء في قتال العدو)( ) .
وقد جاء عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم [جاهدوا في سبيل الله بأيديكم فإن لم تقدروا فجاهدوا بألسنتكم ، فإن لم تقدروا فجاهدوا بقلوبكم] وعنه أيضاً [إنَّ أوَّل ما تغلبون عليه من الجهاد، الجهاد بأيديكم ثم بألسنتكم ثم بقلوبكم فمن لم يعرف بقلبه معروفاً ولم ينكر منكراً قُلب فجعل أعلاه أسفله] .
وبهذا عرَّف بعضهم الجهاد بأنَّه (بذل النَّفس وما يتوقف عليه من المال في محاربة المشركين أو الباغين على نحو مخصوص أو بذل النَّفس والمال والوسع في إعلاء كلمة الله وإقامة شعائر الإيمان)( ) .
وهو مستوحى من جملة من الآيات في كتاب الله التي تعرضت للجهاد .منها قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ....} [الأنفال ]
وقوله تعالى {الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [ سورة التوبة - الآية 20 ]
وقوله تعالى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه}[ سورة الأنفال - الآية 39 ]
وقوله تعالى {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} [سورة التوبة- الآية 36 ]
وقوله تعالى { قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [ سورة التوبة - الآية 29 ]
وقال تعالى {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [ سورة الحجرات - الآية 9 ]
وقال تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة - الآية 216 ]
وقال تعالى {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [ سورة البقرة - الآية190/191 ] وقال تعالى {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [ سورة التوبة - الآية 41 ] ، وقال عزَّ من قائل {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [سورة التَّحريم - الآية 9 ]
وكما يلاحظ فإنَّ التَّعريف اللغوي لم يتطرق إلى ما يجب بذله ولكنَّ الاصطلاح الشرعيّ هو الَّذي حدَّد مضمون المصطلح -والآيات الكريمة تناولت الجهاد بمعانٍ متعددة الجامع بينها (بذل الجهد أو الوسع ) فقد يكون هذا الجهد مادي (مالي) أو طاقة نفسية في شكل ضغوط كالجهد المبذول من الوالدين المشركين الهادف إلى زعزعة إيمان الولد المسلم
وكذلك مجاهدة الغرائز والشَّهوات المسمَّى (جهاد النَّفس والّذي أطلق عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:- الجهاد الأكبر كما جاء في الخبر [رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر] وقد يكون مجرد كلمة حق أو تعبيراً عن موقف مبدأي يحتاج إلى جهد وشجاعة للتَّعبير عنه كما يدلُّ على ذلك الحديث [إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر]( ) ومنه القتال الذي جاء صريحا في الآيات الأخر التي استخدمت فيها دلالة القتال .
والآية الكريمة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} مثلاً لا تعني القتال بدليل فعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع المنافقين لأنَّه لو فهم منها ذلك لقاتل المنافقين وهو ما لم يفعله إلا إذا سلَّمنا بأنَّ القتال ليس القتل (وهو كذلك أي ليس القتل ) فالقتال يعني المدافعة أو بذل الجهد لردِّ العدوان بجنسه ولما كان عدوان المنافقين (أوجهاد المنافقين ضدَّ الإسلام والمسلمين بالتَّشكيك والطَّعن في العقيدة) كان الجهاد بفضح أعمالهم.
أقسام الجهاد
(جهاد الكفار والبغاة مع الإمام المجمع على إمامته فرض )( )
حاول الفقهاء تقسيم الجهاد إلى أنواع عدة وباستعراضنا لها سيتحدَّد لنا حكمه ومن حيث المبدأ يمكن القول بأنَّ الجهاد "فرض "
والفرض قد يكون عينياً أي على كلِّ مكلَّف وقد يكون فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الآخرين وبصورة عامة يمكن القول أنَّ الجهاد فرض على الكفاية وفي القضية تفصيل سنعرض له من خلال عرضنا لأقسام الجهاد .
وينقسم في كلمات الفقهاء إلى تقسيمات عدة :-
أ:- الأول: جهاد ابتدائي أو طلب .
والثاني: الجهاد الدفاعي أو الوقائي .
ب:-الأول:-جهاد من يريد قتل نفس محترمة(وهو أقرب إلى موضوع دفع المنكر) .
الثاني:-الجهاد دفاعاً عن النَّفس كدفع الأسير عن نفسه (وهو يندرج تحت عنوان دفع الصَّائل أو حق الدِّفاع الشَّرعي عن النَّفس).
الثالث:- جهاد البغاة على السُّلطة الشَّرعية.( )
الرابع :- جهاد المحاربين .
و يقسم بحسب معتقد المُقاتلْ وحاله إلى :-
أ:-جهاد الكفَّار عندما يكون أحد الأطراف المعتدية أو المقاتلة غير مسلم .
ب:-جهاد البغاة عندما يكون طرفا القتال مسلمين مؤمنين يتنازعون على الشَّرعية أو المحاربين مع الخلاف .
ولكلٍّ منهما شروط وأحكام خاصة به تميِّزه عن غيره إلا أنَّ ذلك لا يعنينا هنا، بل يعنينا الأحكام العامة للجهاد القتالي بصورة عامة لنميِّزه عن القتل عبثاً وفساداً وحرابة
الجهاد الابتدائي
حقيقة الجهاد الابتدائي
{الجهاد الابتدائي هو القتال المُبْتَدَأْ من المسلمين لأجل الدعوة إلى الإسلام بإدخال الكفار فيه وحملهم على اعتناقه لأنَّه يتم بدون عدوان مسبق من قِبَل الكفار على المسلمين}( ) ويعرِّفه القرضاوي بقوله: (أمَّا المقصود بجهاد الطَّلب، فهو: الجهاد الذي يكون فيه الكفَّار في أرضهم، والمسلمون هم الذين يغزونهم ويطلبونهم في عقر دارهم، توقياً لخطرهم في المستقبل، أو تأمينا للأمة من شرِّهم، أو لإزاحة الحواجز أمام شعوبهم، لتبليغها دعوة الإسلام، وإسماعها كلمة الإسلام، أو لمجرد إخضاعها لسلطان الدولة الإسلامية، ولسيادة النِّظام الإسلامي الذي يحكم الحياة بتشريعاته العادلة وتوجيهاته الفاضلة.) ( )
واعتقاد مشروعيته لدى من يؤمنون بمشروعيته مبني على أنَّ علَّة الجهاد هو مجرد الكفر استناداً إلى أدلة سنناقشها من وجهة النَّظر الأخرى تحت عنوان الباعث إلى الجهاد .
ويحدِّد الدُّكتور القرضاوي أسباب جهاد الطَّلب:
1.(تأمين حرية الدَّعوة، ومنع الفتنة في الدِّين، وإزالة الحواجز المادية التي تحول بين جماهير النَّاس وبين بلوغ دعوة الإسلام إليهم، وعلى هذا كانت فتوح الرَّاشدين والصِّحابة ومن تبعهم بإحسان، لإزالة القوى الطَّاغية التي تتحكم في رقاب البشر وضمائرهم، وتقول ما قال فرعون لمن آمن من أبناء شعبه: "آمنتم له قبل أن آذن لكم"؟. وهذا الهدف تجسيد لقوله تعالى: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة".
2. تأمين الدَّولة الإسلامية، وسلامة حدودها، إذا كانت مهددة من قبل أعدائها الذين يتربصون بها ويكيدون لها، وهو ما يسمونه في عصرنا الحاضر: (الحرب الوقائية).
وهذه من ضرورات الملك، ومقتضى سنة (التَّدافع). ومعظم الفتوحات الإسلامية كانت من هذا النَّوع، بعد أن اصطدمت الدَّولة الإسلامية -مبكراً- منذ عهد الرَّسول بالدَّولتين الكبيرتين في العالم (الفرس والرُّوم)، وبدأ الصِّراع مع الرُّوم منذ سريَّة مؤتة، وغزوة تبوك. وبدأ الصِّراع يدور مع الفرس منذ أن مزَّق كسرى كتاب النبي (صلى الله عليه وسلم) إليه، وتوعده بما توعد.
3. إنقاذ المستضعفين من أُسارى المسلمين، أو من أقلياتهم التي تعاني التَّضييق والاضطهاد والتَّعذيب من قبل السُّلطات الظَّالمة المستكبرة في الأرض بغير الحق، كما قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً}[النساء: 75].
بل إن الدَّولة الإسلامية إذا استغاث بها هؤلاء المستضعفون المضطهدون، ولو كانوا من غير المسلمين، وكانت تملك القدرة على إنقاذهم مما هم فيه، وجب عليها أن تستجيب لدعوتهم وتغيث لهفتهم إذا طلبوا نجدتها، فإنَّ نصرة المظلوم وإعانة الضَّعيف وردع الظَّالم عن ظلمه واجب شرعي، بل هو واجب أخلاقي في كلِّ دين وكلِّ مجتمع يقوم على الفضائل ورعاية القيم العليا، سواء أكان المظلوم مسلماً أم غير مسلم.
4. إخلاء جزيرة العرب من الشِّرك، واعتبارها وطناً حرّاً خالصاً للإسلام وأهله، وبهذا يكون للإسلام معقله الخاص، وحماه الذي لا يشاركه فيه أحد.
ولله حكمة في ذلك، وهي أن يكون الحجاز وما حوله من أرض الجزيرة هو الملاذ والمحضن لهذا الدين، الذي يلجأ إليه الإسلام كلَّما نزلت المحن والشَّدائد بأطرافه المختلفة. وهذا ما أثبت لنا التَّاريخ جدواه وأهميته خلال العصور والأزمات الَّتي مرَّ بها تاريخ الأمة.
وفي هذا نزلت آيات سورة التَّوبة في البراءة من المشركين وتأجيلهم أربعة أشهر، يسيحون خلالها في الأرض ثم يختارون لأنفسهم: الإسلام، أو الرحيل من هذه الأرض أو القتال.
وهذه الأشهر الأربعة هي التي سُمِّيت (حُرُماً) لتحريم قتالهم فيها، ثم قال تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} (التوبة:5)، وشاء الله أن يختار العرب الدُّخول في الإسلام، قبل أن تمرَّ الأشهر الأربعة، وتصبح الجزيرة خالصة للإسلام، ويصبح العرب عصبة الإسلام، وجنده الأولين، وحملة رسالته إلى العالم.)( )ومع إحترامنا وتقديرنا لرأي الدكتور القرضاوي إلا أننا من حيث المبدأ نعتقد بأن بواعث الجهاد القتالي ليست إلا دفعاً عن المستضعفين وحماية الأمة من العدوان وضمان الحرية، والبراءة لم تكن من كل المشركين بل كانت لمن عرفوا بعدم الإلتزام بالعهد مع المسلمين وهذا ماسيذهب اليه الدكتور نفسه في عرضه القيم لغزوات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما سيرد علينا وأيضاً خلال نقده لمن أسماهم أصحاب النزعة الهجومية وسوف نورده عند مناقشتنا لموضوع الباعث إلى الجهاد،والملاحظ أن السبب الثاني (الحرب الوقائية) هو عنوان الحرب الأمريكية على العراق و كما أنه غير مقبول من أمريكاء فيجب أن لايكون مقبولاً تحت أي دعوى،لأن الأدلة توجب عدم الإعتداء إلا عند وقوع عدوان والحرب الوقائية عدوان،والوقاية تتحقق بالإعداد والاستعداد،قال الله تعالى( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ(55)الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ(56)فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ(57)وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ(58)وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ(59)وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ(60)وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(61)وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ(62)( )والآية واضحة على خلاف ماذهب إليه الدكتور لأن الأمر بالجنوح إلى السلام مع من يحتمل أنهم يريدون الخديعة ممن دأبهم نفض العهود والخيانة دليل على عدم جواز الأبتداء بالحرب الوقائية،ومثل هذا يمكن القول عن السبب الأول والرابع وإن أختلف المسمى،فلم يدلل الدكتور على مشروعيتها كما فعل بالنسبة للثالث لعدم وجود دليل إلا مما حدث تاريخياً من الدولة الإسلامية في العصر الأموي والعباسي،ومعلوم أن سيرة هذه الدول ليست بحجة على الإسلام ولم يقل بحجيتها أحد إلا بناء على الإجماع السكوتي على ماصدر منها، وحجيته إن صح وقوعه محل خلاف بل الواقع خلافه {أي أن الواقع عدم وجود الإجماع حتى السكوتي لأن من يشترطون عدالة الإمام وينفون العدالة عمن تولى من الملوك هم الأكثر بل أن الإجماع منعقد على عدم عدالة الملك العضوض} وسوف يثبت الدكتور في قرائته للسيرة النبوية نقيض ماذهب إليه هنا فليتأمل
الجهاد الدِّفاعي
معنى الدِّفاع في اللغة:
1(:-الرَّدُّ على عدوان واقع أو في سبيله إلى الوقوع،وذلك برفعه ودفعه.
2:-درء العدوان قبل وقوعه.) ( )
ويطلق على الأول دفاعي والثاني وقائي .
والفرق بين الدِّفاعي والوقائي أرض المعركة لأنَّ الاثنين (دفاعيان ) ولكن أرض الأول وطن المدافعين والثَّاني قد يكون أرض من يتوقع وقوع العدوان منه ومنه كما يقول القرضاوي: (جهاد المقاومة والتَّحرير لأرض الإسلام من الغزاة المحتلين الذين هاجموها واحتلوا جزءا منها مهما تكن مساحته، فهذا النوع من الجهاد لا خلاف في فرضيته على المسلمين، لم ينازع في ذلك عالم في القديم أو الحديث، فالأمة -بجميع مذاهبها ومدارسها وفرقها- مجمعة على وجوب الجهاد بالسِّلاح وبكل ما تقدر عليه، لطرد العدو المحتل، وتحرير دار الإسلام من رجس هذا العدو، وهذا النوع من الجهاد والمقاومة: متفق على مشروعيته بين أمم الأرض جميعا.) ( )
وجوب الجهاد الدِّفاعي:
لا ريب في وجوبه لقوله تعالى {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} البقرة {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِم أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً} [النساء /75 ]
حالات أو صور أو موارد الجهاد الدِّفاعي:
يذكر الشَّيخ شمس الدِّين ثلاثة موارد:-
الأوَّل:- أن يعتدي الكفار على المسلمين، أو يهموا به.
و قد يكون من صور هذه الحالة العدوان الاقتصادي،بإرهاب الطرق الدَّولية لتجارة المسلمين ومحاصرة وارداتهم أو صادراتهم من المواد الخام ومصادر الطاقة وتغيير مجاري الأنهار ومنابع المياه وما أشبه ذلك.
الثَّاني:- إحداث الكفار الفتنة بين المسلمين بتحزيب الأحزاب وتفرقة الكلمة والتسبب في ما يمكن أن يؤدي إلى إشعال نار الحرب الدَّاخلية بين أبناء المجتمع الواحد المسلم أو مجتمعات المسلمين أو إحداث ما يوجب ضعف قوة المسلمين واستنزاف طاقاتهم .
الثَّالث:- أن يعتدي الكفار على شعب مستضعف إمَّا مسلم في مجتمع آخر أو كافر كذلك،ودليل وجوب نصرة الشَّعب المسلم عند تعرضه لعدوان من مجتمع سياسي آخر الآية75 من سورة النساء {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ.....} ،والآية72من الأنفال {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
وعندما يكون المعتدى عليه مستضعف غير مسلم فيمكن الاستدلال على الوجوب فيه بما هو معلوم من نهج الإسلام في محاربة الطَّاغوت بجميع أشكاله السِّياسية والاقتصادية واعتبار محاربة الطَّاغوت حرباً في سبيل الله.
ومن النُّصوص الدَّالة على ذلك قوله تعالى {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [سورة النساء-الآية76]
فالكفَّار بحسب النُّصوص على قسمين :-
الأول أهل الطَّاغوت
والقسم الثَّاني المستضعفين
وهذا يعني عدم تطابق عنوان الكفر مع عنوان الطَّاغوتية.فعندما يتعرض المستضعف الكافر للعدوان تجب نصرته حتى لو كان المعتدي عليه مسلماً .
شرائط الجهاد
لكي يكون القتال جهاداً مشروعاً لا بدَّ من توفُّر شروط منها ما هو مجمع عليه ومنها ما انفرد بعضهم بالتَّركيز عليه ومنها ما سكت البعض عنه ومنها وهو الأقل ما اختلف فيه والذي يهمنا المجمع عليها وهو الأغلب .
وقبل أن نتناول هذه الشروط بالشَّرح نودُّ التَّذكير بأنَّ الأصل في القتال المنع وليس الإباحة وهذا معلوم من الدِّين بالضرورة لأنَّ القتال فيه إزهاق أرواح هي معصومة في الأصل ولذلك جاء النَّص بالإذن بالقتال {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}وكذلك جاء عن الرسول الأكرم كما أخرج البخاري في صحيحه [كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا لم يقاتل أول النهار أخَّر القتال حتى تزول الشمس وقد قام في الناس خطيباً فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أيها الناس لا تتمنوا لقاء عدوكم وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف] ونصُّ النبي صلى الله عليه وآله بالنهي عن تمني لقاء العدو يدلُّ على ما ذهبنا إليه.
أولاً:- وجود أمَّة لها متولٍ شرعي.
هل يجب الجهاد على الأفراد حتى في عدم وجود جماعة أو أمَّة منظَّمة لأعمالهم الجهادية ؟بل هل يجوز أن يتصدى آحاد المسلمين للقيام بواجب القتال ضدَّ العدو ؟وهل أفعال القتال التي يقوم بها آحاد المسلمين تسمى جهاداً؟
إنَّ ما يميز الجهاد القتالي عن أنواع القتال المشروعة إسلامياً كالقتال عند من يقول به دفعاً للمنكر أو دفعاً للصَّائل هو أنَّ الجهاد القتالي فعل جماعي كصلاة الجمعة يجب أن تكون من جماعة في يوم محدَّد لها أركان وشروط
منها أن يكون من جماعة لها إمام يؤمُّها ومكان خاص بها يبعد مسافة معينة وكذلك الجهاد يجب أن يكون من أمَّة لها إمام أو قائد معروف ومعلن عنه وأن تكون هذه الجماعة مميَّزة عن غيرها ، ولها أرض ونظام يحكم علاقتها ببعض على أن يكون المتولي شرعيّ معلن عنه معروف للجماعة نفسها وللجماعات الأخرى وهو بهذا يتميز عن الحرابة لله وللرَّسول كما ذكر الفقهاء ولكي يكون المتولي شرعياً يجب أن يكون معلناً عنه ويمارس إمرته في الظاهر ومعترفاً بسلطته وله سلطة على مجموعة من المسلمين لهم أرض محددة تتميَّز عن غيرها يطلق عليها دار السِّلم أو دار الإسلام أو هي كذلك بالنسبة لمن يعيش فيها في مقابل دار العهد ودار الحرب أو دار البغي ولا يكفي ذلك بالنسبة للبعض بل لا بدَّ من أن يكون عادلاً والأكثر على جواز الجهاد مع البرِّ والفاجر .
أي يجب أن يكون للأمَّة :
[ 1:- أرض خاصة بها.
2:-أن تكون الجماعة متماسكة ومتميِّزة وبحسب تعبير وثيقة المدينة (أمَّة واحدة من دون الناس)
3:-أن يكون لهم نظام اجتماعي وسياسي يضبط علاقتهم الدَّاخلية ويحدِّد واجباتهم والحقوق التي لهم وعليهم ،وعلاقاتهم مع الجماعات المغايرة، ويرشد هذا النِّظام ويديره الإمام أو من يقوم مقامه] . ( )
باختصار لابد أن يكون لهم دولة ونظام وأرض محددة لهم عليها السِّيادة تسمى دار السِّلم وغيرها إمَّا دار عهد أو حرب ، ولأداء واجب الجهاد القتالي بشروطه لابد من وجود دولة لها قيادة معلنة ظاهرة أي غير مستترة و كيان جغرافي وحدود سياسية تتميز بها عن دار العهد والحرب والبغي .
وقد استُدِل على لزوم وجود المتولي الشَّرعي بأنَّ الجهاد لم يؤذن به للمسلمين إلا في السَّنة الثَّانية للهجرة بعد وجود الدَّولة الإسلامية، ولم يبح القتال إلا بإذن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو بأمره صلى الله عليه وآله وسلم حتى لو كان دفاعاً عن النَّفس وأوَّل آية نزلت على الأشهر {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ.....} [الحج 38-39]
وشرط وجود إمام أو أمير أو متولٍ ، شرط مجمع عليه في جهاد الطَّلب أو الابتدائي واستدل عليه بالكثير من النصوص منها ما روي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم [الجهاد ماضٍ في أمتي لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل حتى يقاتل رجل من أمتي المسيح الدجال]( )
ـ حدثنا سعيد بن منصور، ثنا أبو معاوية، ثنا جعفر بن برقان، عن يزيد بن أبي نُشْبة، عن أنس بن مالك قال:
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "ثلاثٌ من أصل الإِيمان: الكفُّ عمَّن قال لا إله إلا اللّه، ولا نكفِّره بذنبٍ، ولا نخرجه من الإِسلام بعملٍ؛ والجهاد ماض منذ بعثني اللّه إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لايبطله جور جائرٍ، ولا عدل عادلٍ؛ والإِيمان بالأقدار".
حدثنا أحمد بن صالح، ثنا ابن وهب، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن مكحول، عن أبي هريرة قال:
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "الجهاد واجبٌ عليكم مع كل أميرٍ، براً كان أو فاجراً؛ والصلاة واجبةٌ عليكم خلف كلِّ مسلمٍ، براً كان أو فاجراً وإن عمل الكبائر؛ والصلاة واجبةٌ على كل مسلمٍ، براً كان أو فاجراً وإن عمل الكبائر [والصيام واجب على كل مسلم براً كان أو فاجراً وإن عمل الكبائر]".[ ]
وهو ضعيف السَّند وله شواهد [الجهاد ماض مع كلَّ برٍّ وفاجر]( ) رواية مكحول عن أبي هريرة ولم يسمع منه .
وروى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال[إنَّما الإمام جُنَة يُقَاتَل من ورائه ويُتَّقى به،فإن أمر بتقوى الله عز وجل وعدل .....كان له بذلك أجر ، وإن يأمر بغيره كان عليه منه ] الحديث [1841]
و قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم [أربع إلى الولاة الجهاد والحدود والجمع وحمل النَّاس على أداء الواجب] وينصُّ الإمام الهادي إلى الحق يحيي بن الحسين(ع) [ لا يجوز عندنا الجهاد إلا مع إمام عادل فإما بغير إمام فلا] ( )
وفي مذهب الإمام الشافعي إنما وجب نصب إمام لتجهيز الجيوش في جهاد الكفار ،وينصّ في مذهب الإمام الشافعي على أن المميِّز للباغي عن قاطع الطريق والمحارب هو وجود إمام، أي (من شروط البغاة ليعاملوا كبغاة (أن ينصِّبوا إماماً) وإذا لم ينصِّبوا إماماً كانوا لصوصاً وقُطاعاً للطَّريق ) . ( )
والشَّاهد هنا أنَّه اعتبر الإمام ضرورة لأنَّ الجهاد لا يمكن أن يكون بدونه جهاداً واعتُبِر وجود إمام هو المميِّز بين البغاة وقطاع الطرق .
والإمام المقصود به رمز الدَّولة أو الجماعة المتميِّزة بأرضٍ خاصةٍ بها لها حدود معلومة وأن يكون معروفاً مكانُ إقامته ليمكن الوصول إليه والحوار معه للاتفاق أو الاختلاف ينشيء الاتفاقات ويقرُّ المواثيق والعهود ويوقعها ....الخ أي يمثل الشَّعب أو الأمة أو الدَّولة أمام الآخرين ويلتزم عنهم ...الخ وفي هذا السياق يجزم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه (الجهاد في الإسلام) بقوله: (لا أعلم أيَّ خلاف في أنَّ سياسة الجهاد ،إعلاناً،وتيسيراً،وإنهاءً،داخل في أحكام الإمامة وأنَّه لا يجوز لأي من أفراد المسلمين أن يستقل دون إذن الإمام ومشورته ، في إبرام شيءٍ من هذه الأمور) وينقل عن ابن قدامة في المغني قوله : (وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده ،ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك).
وينقل عن كشف القناع للتَّهانوي قوله :{وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده .لأنَّه أعرف بحال الناس وبحال العدو ونكايتهم وقربهم وبعدهم } وعن القرافي قوله: (إنَّ الإمام هو الذي فُوِّضت إليه السِّياسة العامة في الخلائق وضبط معاقد المصالح ودرء المفاسد وقمع الجناة وقتل الطُّغاة وتوطين العباد في البلاد إلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس ). ( )
ويروي الشِّيعة الإمامية الكثير من النُّصوص الدَّالة على أنَّ الجهاد مشروط بوجود إمام وإذنه ننقل منها ما يلي:-
(الحديث الأول:
بشير عن أبي عبد الله -عليه السَّلام-،قال:( قلت له:إنِّي رأيت في المنام أنِّي قلتُ لك:إنَّ القتال مع غير الإمام المفترض طاعته حرام مثل الميتة والدَّم ولحم الخنزير،فقلت لي نعم ،هو كذلك
فقال أبو عبد الله -عليه السَّلام -: هو كذلك،هو كذلك ،وهو ضعيف الإسناد
الحديث الثاني:
عبد الملك بن عمرو،(قال لي أبو عبد الله عليه السَّلام: يا عبد الملك ، ما لي لا أراك إلى هذه المواضع التي يخرج إليها أهل بلادك؟
قال قلت:وأين؟
قال جدة وعبدان،والمصيصة،وقزوين .
فقلت:انتظاراً لأمركم والإقتداء بكم.
فقال :إي والله لو كان خيراً ما سبقونا إليه.......) وهو ضعيف الإسناد .
الحديث الثَّالث:
سماعة عن أبي عبد الله- عليه السَّلام - قال:
لقي عبَاد البصري عليَّ بن الحسين -عليه السَّلام- في طريق مكة،فقال له يا عليَّ بن الحسين، تركت الجهاد وصعوبته،وأقبلت على الحج ولينه،إنَّ الله عزَّ وجل يقول { إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ...}الآية[سورة التَّوبة- 111]
فقال عليًّ بن الحسين عليه السَّلام: أتم الآية
فقال { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ ...}الآية [التَّوبة -112]
فقال عليُّ بن الحسين :إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم ، فالجهاد معهم أفضل من الحج وهو معتبر الإسناد .
الحديث الرابع:
عبد الله بن المغيرة ،قال: قال محمد بن عبد الله للرِّضا عليه السَّلام وأنا أسمع:
حدثني أبي عن أهل بيته،عن آبائه أنَّه قال له بعضهم :إنَّ في بلادنا موضع رباط يقال له :- قزوين، وعدواً يقال له :الدَّيلم ،فهل من جهاد أو هل من رباط؟
فقال: عليكم بهذا البيت فحجُّوه .
فأعاد عليه الحديث فقال:عليكم بهذا البيت فحجُّوه، أما يرضى أحدكم أن يكون في بيته ينفق على عياله من طوله،ينتظر أمرنا فإن أدركه كان كمن شهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدراً،فإن مات ينتظر أمرنا،كان كمن كان مع قائمنا صلوات الله عليه هكذا في فسطاطة،وجمع بين السَّبَّابتين ولا أقول:هكذا وجمع بين السَّبَّابة والوسطى فإن هذه أطول من هذه فقال أبو الحسن عليه السَّلام صدق ، وهو صحيح .
الحديث السَّادس:
أبو حمزة الثّمالي،قال: قال رجل لعليٍّ بن الحسين عليه السَّلام:أقبلت على الحجِّ وتركت الجهاد،فوجدت الحجَّ أيسر عليك،والله يقول،(( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم....الآية))فقال علي بن الحسين عليه السَّلام :- اقرأ ما بعدها .
قال :-فقرأ { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ..} إلى قوله {الْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ}
فقال علي بن الحسين:إذا ظهر هؤلاء، لم نؤثر على الجهاد شيئاً . وهو ضعيف السند .
ويستفاد من مجموع الأحاديث أنَّ الجهاد لا يكون إلا من جماعة لها قيادة تنظم أمورها وتتحدث باسمها تصالح من دعت الضَّرورة والمصلحة مصالحته وتقاتل من فرض عليها مقاتلته وتعاهد من عاهدها وتسالم من سالمها وتؤمِّن من طلب الأمان أو من عقد له أحد المسلمين الأمان وتمنع الأمان عمَّن ترى عدم وجود مصلحة أو وجدت ضرورة لعدم منحه الأمان ،
وما لم تكن هنالك قيادة معلنة تتمتع بشرعية معترف بها على رقعة جغرافية محدَّدة لها السِّيادة عليها وتنفذ أحكامها بها فإنَّ القتال لا يمكن أن يكون جهاداً حتى لو كان المقاتلون عُبَّاداً زُهَّاداً أتقياء لأنَّهم لن يكون لهم أمان ولا يمكن أن يفوا بعهد عاهده فريق منهم ويستحيل الوصول معهم إلى صلح أو سلم ، بل سيكونون كمن قال الله عنهم في مقام الذَّم: {كلما عاهدوا عهداً نقضه فريق منهم } .
زد على ذلك أنَّ النُّصوص المتعلقة بالحثِّ على الجهاد موجهة إلى الجماعة (الطَّائفة) وبضمير الجمع باستثناء الآية {لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}[ النِّساء/84] وهذه خاصة بالرَّسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم كوليِّ أمر وفي مقام التَّرويح عنه لتقاعس بعض المسلمين الذين أطلق المولى عليهم اسم النِّفاق .
ونصوص فقهاء الشِّيعة الإمامية تقطع بأنَّ من شروط الجهاد الابتدائي وجود الإمام العادل ننقل منها ما يلي:
( ومن وجب عليه الجهاد،إنَّما يجب عليه عند شروطه،وهي :أن يكون الإمام العادل الذي لا يجوز لهم القتال إلا بأمره،ولا يسوغ لهم الجهاد من دونه،ظاهراً،أو يكون من نصبه الإمام للقيام بأمر المسلمين حاضراً،ثمَّ يدعوهم للجهاد، فيجب عليهم حينئذٍ القيام به.فإذا لم يكن الإمام ظاهراً،ولا من نصبه حاضراً،لم يجز مجاهدة العدو.والجهاد مع أئمَّة الجور أو من غير إمام خطأ يستحق فاعله الإثم،وإن أصاب لم يؤجر عليه،وإن أصيب كان مأثوماً ) وقريب منه ما ذكره في المبسوط .
وقال أبو الصَّلاح الحلبي في الكافي:وإن كان الداعي غير من ذكرناه -ويعني به الإمام المعصوم أو نائبه- وجب التَّخلف عنه مع الاختيار،فإن خيف جانبه جاز النّفور لخدمة الدِّين دونه .
*وقال القاضب ابن البراج في المهذب: -(....ويكون مأموراً به من قبل الإمام العادل أو من نصبه الإمام.....وإنَّما ذكرنا أن يكون مأموراً بالجهاد من قبل الإمام أو من نصبه،لأنه متى لم يكن واحداً منهما،لم يجز له الخروج إلى الجهاد......والجهاد مع أئمَّة الكفر،ومع غير أصلي أو من نصبه قبيح،يستحق فاعله العقاب،فإن أصاب كان مأثوماً،وإن أصيب لم يكن على ذلك أجر.
*وإلى هذا ذهب ابن إدريس في السَّرائر، ..
*وقال ابن حمزة في الوسيلة:لا يجوز الجهاد بغير الإمام،ولامع أئمَّة الجور.
*وقال العلامة في التَّحرير:- (الجهاد قد يكون للدعاء إلى الإسلام وقد يكون للدفع بأن يدهم المسلمين عد.ويُشتَرط في الأول إذن الإمام العادل أو من يأمره الإمام).
*وقال في القواعد:وإنَّما يجب بشرط الإمام أو نائبه.
وشرحه المحقق الكركي بقوله:المراد نائبه المنصوب بخصوصه حال ظهور الإمام وتمكنه،لا مطلقاً) ( )
،وللإمام (الخميني )و(الجويني )إمام الحرمين قول يفهم منه أن شرط الإذن لا يعتدُّ به حال الجهاد دفاعاً عن الوطن لأنَّه في هذه الحالة واجب عيني ،وقد صرَّح (الجويني ) بأنَّ على المسلمين تأمير أحدهم لتنظيم الدِّفاع عن دار المسلمين،ورأي الجويني والخميني يؤكد الإجماع على أن الجهاد موكول إلى ذي الولاية العامة وفي حال عدم وجوده ينصب من يكون كذلك لكي ينتظم أمر الأمة في جهادها على رأي واحد ويناط القرار بالقتال أو السِّلم إلى مصدر واحد ملزم لجميع المجاهدين، ما لم يكن فإن الفوضى والاقتتال الدائم الذي لا تقيده غاية أو هدف سيكون هو المصير ويستحيل السَّلام وينعدم الأمن .
و (لا يجوز الفعل إلا بإذن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم و الإمام قائم مقامه )( ) والرَّئيس أو الملك أو من يقوم مقامهما في هذا المقام فيما يتعلق بالجهاد وكذلك ما يُنصُّ عليه في القوانين المنظمة لعلاقات أفراد المجتمع ببعضهم وبالسُّلطة وبالآخرين .
بدليل قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} .
وكذلك لا يجوز الجهاد إلا بأمر ذوي الولاية العامة الموكول إليه أمر إعلان حالة الحرب وقد يكون في هذه الحالة مقيَّد بموافقة مجموع أهل الحلِّ والعقد أو المجالس النِّيابية كما تنصُّ بعض الدَّساتير ،
ويجب طاعة المجاهدين لأميرهم ما لم يأمر بمعصية.
يستدل على وجوب طاعة الأمير بالأحاديث الآتية :-
1:- [عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:- الغزو غزوان فأمَّا من ابتغى وجه الله وأطاع الأمام وأنفق الكريمة وياسر الشَّريك واجتنب الفساد فإنَّ نومه ونبهه أجر كلّه وأما من غزا فخراً ورياءً وسمعة وعصى الأمام وأفسد في الأرض فإنَّه لن يرجع بالكفاف. ] ( )
2:-وعن أبي هريرة أنَّ النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:- [من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني .]( )
3:- وعن ابن عباس في قوله تعالى[ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ]قال: نزلت في عبد الله بن حُذافة بن قيس بن عدي بعثه رسول الله في سرية ). ( )
4:-وعن عليٍّ رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فعصوه في شيءٍ فقال (اجمعوا لي حطباً) فجمعوا ثم قال: (أُوقدوا ناراً) فأوقدوا ثم قال: ( ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تسمعوا وتطيعوا ) قالوا: بلى، قال :فادخلوها فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا إنَّما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من النَّار ......فلما رجعوا ذكروا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : لو دخلوها لم يخرجوا منها أبداً وقال لا طاعة في معصية الله إنما الطَّاعة في المعروف.) متفق عليه. ( )
ثانياً :- يجب الإنذار بالحرب قبل القتال
ويعبر عن هذا القيد أو الضَّابط بعدم جواز التبييت أي الأقدام على القتال بغتة بدون إعلان .
والأصل مجمع عليه وفي فرعياته ثلاثة مذاهب:-
( الأول :- يجب تقديم الدعاء للكفار إلى الأسلام من غير فرق بين من بلغته الدعوة منهم ومن لم تبلغه
الثاني:- أنه لايجب مطلقاً
الثالث :- أنه يجب لمن لم تبلغهم الدعوة ولا يجب إن بلغتهم لكن يستحب) ( )
ويستدل على ذلك بالأحاديث التالية :-
(كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوصي عساكره ويقول كثيراً من هذا الكلام: ((بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله لا تقاتلوا القوم حتى تحتجوا عليهم، فإن أجابوكم إلى الدخول في الحق والخروج من الباطل والفسق، ودخلوا في أمركم فهم إخوانكم لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، وإن هم أبوا ذلك فقاتلوهم واستعينوا بالله عليهم، ولا تقتلوا وليداً ولا امرأةً ولا شيخاً كبيراً ولا يطيق قتالكم، ولا تعوروا عيناً، ولا تعقروا شجراً إلا شجراً يضر بكم، ولا تمثلوا بآدمي ولا بهيمةٍ، ولا تغلوا ولا تعتدوا، وأيما رجلٍ من أقصاكم أو أدناكم أشار إلى رجلٍ بيده فأقبل إليه بإشارته فله الأمان حتى يسمع كلام الله، وهو كتابه وحجته، فإن قبل فأخوكم في الدين، وإن أبى فردوه إلى مأمنه واستعينوا بالله، ولا تعطوا القوم ذمة الله ولا ذمة رسوله ولا ذمتي اعطوا القوم ذمتكم وفوا بها.)[ ]
1:- عن ابن عباس قال :( ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوماً قط إلا دعاهم) رواه أحمد.
2:-وعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال : (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال اغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تُمثلوا ولا تقتلوا وليدة وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهنَّ أجابوك فاقبل منهم وكفَّ عنهم ، ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكفَّ عنهم ، ثم ادعهم إلى التَّحول من دارهم إلى دار المهاجرين واخبرهم أنَّهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا منها فاخبرهم أنَّهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم الذي يجري على المسلمين ، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أوبوا فسلهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكفَّ عنهم، وإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم ،وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمَّة الله وذمَّة نبيه ،فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ،ولكن اجعل لهم ذمَّتك وذمَّة أصحابك ،فإنكم إن تخفروا ذمَّتكم وذمَّة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمَّة الله وذمَّة رسوله ،وإذا حاصرت أهل حصن وأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا) ( )
(وهو حجَّة في أنَّ قبول الجزية لا يختصُّ بأهل الكتاب ....وفيه المنع من قتل الولدان ومن التَّمثيل) ( )
3:-وعن سهل بن سعد أنه سمع النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر ، فقال أين علي؟فقيل إنه يشتكي عينيه فأمر فدعيَ له فبصق في عينيه فبرأَ مكانه حتى كأن لم يكن به شيء فقال (أي علي) نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا فقال (أي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ) على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم فوالله لأن يهتدي بك رجل واحد خير لك من حُمر النِعم.) متفق عليه .
4:-وعن فروة بن مسيك قال:- (قلت يا رسول الله أقاتل بمقبل قومي ومدبرهم قال نعم ، فلما وليت دعاني فقال لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام) رواه أحمد.
(إذا وجه الإمام واليه لمحاربة عدوه وجب عليه أن يوصيه)
وما يهمنا هنا هو التأكيد على عدم جواز الغدر أو الغيلة أو الحرب المفاجئة ، والذين يقومون بالعمليات الانتحارية أو التَّفجيرات أو تنسب إليهم ويسكتون فرحاً بالتهمة ليسوا دولة ولا تعرف لهم دار وهم كما يدَّعون ينتمون إلى البلدان التي يستهدفون أمنها ويقتلون أهلها فإنَّ أفعالهم تفتقر إلى أي شرط من شروط الجهاد ولا يتقيَّدون بأيِّ قيد من قيوده.
والجهاد القتالي لكي يكون مشروعاً لابدَّ أن يتقيَّد فاعلوه بالمحددات الشَّرعية له لأنَّه كالصَّلاة فكما لا يجوز أن يصلي المسلم إلي غير القبلة وهو يشاهدها وبدون طهارة وهو متمكن منها وبدون ثياب وهو قادر على الحصول عليها وكما لا يجوز أن يصوم اللَّيل في رمضان ويفطر بالنَّهار ويتعمد صيام يوم العيد مع معرفته به فإن مخالفة النُّصوص المنظِّمة للجهاد كمخالفة أركان الصَّلاة وشروطها وكذلك الصِّيام والحجّ
والغريب أن يقاتل المسلمون على ما يعتبره بعضهم بدعة في الصَّلاة والصِّيام والحجِّ حتى ولو كان للفاعل لها سند شرعي مع أنَّ الصَّلاة والصِّيام والحجَّ عبادات لو انحرف المسلم في طريقة أدائها لن يضر إلا نفسه إن كان غير معذور بينما الانحراف في أداء فريضة القتال تجر على الأمة الويلات ومع هذا يسكت العلماء عنهم وكأنَّ الفتنة لا تعنيهم .
ثالثا:- حرمة قتل المُؤمَن حتى ولو كان حربياً مقاتلاً
قال تعالى(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ...)(1)من سورة المائدة
وقال تعالى(...............وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا(34) من سورة الأسرىوقال تعالى(وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ(58)الأنفال وقال تعالى( وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ(25)سورة الرعد
ماذا نعني بالأمان؟ ومن هوالمؤَمَّن؟ وكيف ينعقد الأمان؟
(الأمان لغة من الأمن والأمن ضدّ الخوف ولهذا فإن منح الأمان لأحدٍ من الناس هو بمثابة رفع لخوفه من كلِّ ما من شأنه أن يخاف عليه،من نفس أو عرض أو مال ..الخ وما ذلك إلا لأنَّ المُؤمَّن يدخل في أمن المُؤمِّن،ويصبح بالتالي جزءاً من أمنه الخاص،وكأنهما فرد واحد.
وبهذا المعنى فإنَّ الأمان يستلزم توقيفاً للخصومة والعداوة،مادام المؤمَّن في أمان المؤمِّن.
كما أنَّ من لوازمه أيضاً عدم الخيانة والغدر،لأنَّ مع توقع أحدهما أو كليهما فإن معنى الأمان ينفرط. ولذا وجب أن يكون الأمان نوعاً من أنواع العقود أو العهود الملزمة،و إلا مع تصور عدم الإلزام،فإن إمكان الغدر أو الخيانة يبقى قائماً وبالتَّالي يصبح معنى الأمان ناقصاً ولا يتحقق المراد منه في الواقع.
وكونه عقداً،أي أمراً معقوداً بين طرفين المؤمَّن والمؤمِّن،فهو يعقد أو يربط أو يوثق أمن كلٍّ منهما مع الآخر،ولذا قلنا،إن المؤمَّن يصبح أمنه جزءاً من أمن المؤمِّن.) ( )
عقد الأمان
كيف ينعقد الأمان؟ وماهي الأثار المترتبة على عقده؟
ينعقد الأمان (بإشارة أشار بها المسلم للكافر [الحربي أمّا غير الحربي من معاهد أو ذمي فهو آمن بالعهد والذمة ] ولو قال له تعال إلينا فإن ذلك يكون أماناً للمدعو وولده الصغير ،كما لو قال أمَّنتك أو أنت آمن أو مؤمن أو في أماني أو أنت جاري أو رفيقي أو لا خوف عليك أو قف أو يعطيه خاتمه أو سبحته أو وقع الأمان من غير أهله ثم أجازه وكذا السَّلام عليك ...الخ ما يفهم منه عدم نيَّة القتل أو كلّ ما أفاد التَّأمين من الأقوال والأفعال (وإذا عقد الأمان لمشرك ..حُقِنَ بذلك دمه وماله ،كما يُحقَنُ ذلك بالإسلام )( ) .
(روي أن الهرمزان لما حمله أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : تكلم ، فقال الهرمزان : كلام حيٍ أو ميت؟ فقال له عمر لا تفزع ، لابأس عليك ، مترسٌ فتكلم به الهرمزان ، ثم أراد عمر رضي الله عنه قتله،فقال له أنس بن مالك : ليس لك قتله فقال : كيف أتركه وقد قتلَ البراء بن مالك ؟ فقال :قد أمنته،فتركه )( )
ويصحُّ الأمان بالإشارة التي يفهم منها الأمان ، لما روي : ( أن عمر رضي الله عنه قال: والذي نفس عمر بيده: لو أنَّ أحدكم أشار بإصبعه إلى مشرك ، ثم نزل إليه على ذلك ثم قتله لقتلته)( )
بل إنه إذا أشار المسلم إلى المشرك بشيءٍ ، فنزل المشرك إليه ظناً منه أنَّه أشار إليه بالأمان ، فإن اعترف المسلم أنه أراد بالإشارة الأمان له ..كان آ مناً وإن قال : لم أرد الأمان .. قبل قوله، لأنه أعلم بما أراد ويعرف المشرك أنَّه لا أمان له، فلا يحلُّ قتله حتى يرجع إلى مأمنه ، لأنه دخل على شبهة أمان )( )
حتى إن اختل قيد من قيود الأمان كأن يكون المؤُمَّن منهي عن تأمينه من ولي الأمر مع علم المؤمِّن أو المؤمَّن فلا يقتل بل يردُّ إلى مأمنه .
والأحاديث النبوية المتعلقة بهذا الباب كثيرة جداً ننقل منها [يجير على المسلمين بعضهم ]
و عن عائشة رضي الله عنها (أنَّ أبا العاص لما وقع في الأسر..قالت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد أجرته فخُلِيَ لها) ( )
وفي رواية زيادة على ذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (ذمَّة المسلمين واحدة فإذا أجارت جارية ..فلا تخفروها ، فإن لكلِّ غادرٍ لواء ً من نار يوم القيامة) ( )
(وبهذا المعنى حديث الإمام علي عند أحمد وأبي داود والنسائي والحاكم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:) ذمَّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم)ولفظه عند أبي داود (المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمَّتهم أدناهم)ومن ذلك ما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً بلفظ : (يد المسلمين على من عداهم تتكافأ دماؤهم ويجير عليهم أدناهم ،ويردُّ عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم) وعن أبي هريرة بلفظ: (ذمَّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم ..فمن أخفرها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ..ولا يقبل الله منه يوم القيامة عدلاً ولا صرفاً) ( )
حرمة نقض الأمان أو العهد
وإذا انعقد الأمان (فلا يجوز لأحد من المسلمين خرمه لأن الوفاء بالذِّمَّة واجب إجماعاً فمن استحل نقضها كفر ومن خرمها غير مستحل فسق وتحريم نقضها عدَّه البعض أشهر وأظهر من تحريم الزِّنا ونحوه)( )
ويصرِّح الشَّوكاني على(عدم وجود خلاف بين أهل الإسلام على عدم جواز خرم الأمان بل هو من ضروريات الدِّين ويؤكد هذا مارواه ابن الأمير نقلاً عن صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:- [ من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً ] وفي لفظ البخاري [من قتل نفساً معاهداً له ذمَّة الله وذمَّة رسوله ].( )
وهو عند أبي داود والنِّسائي بغير حلها وعند التِّرمذي من حديث أبي هريرة وعند البيهقي من رواية صفوان بن سليم عن ثلاثين من أبناء الصحابة بلفظ (سبعين خريفاً) وعند الطَّبراني من حديث أبي مسيرة مائة عام ،وفيه من حديث أبي بكرة خمسمائة عام وهو في الموطأ من حديث آخر وفي مسند الفردوس عن جابر [إنَّ ريح الجنة ليدرك من مسيرة ألف عام ..] كلُّ ذلك للدِّلالة على الخطر العظيم الذي تمثله جريمة خرم الذمَّة وقد جاء في الحديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:[ سمعت النبَّي صلى الله عليه وآله وسلم يقول :لكلِّ غادر لواءٌ يوم القيامة] قاله صلى الله عليه وآله يوم فتح مكة ( ).
وجاء في حديث نسبه الفقيه يوسف إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله [الأيمان قيد الفتك] وفُسِّر بأنَّه القتل غيلة حتى قيل أنَّ المسلم بعد هذا كان إذا وجد الكافر نائماً أيقظه ليقتله). ( )
(ويحرم عقد الأمان للغدر بالمستأمن بالإجماع) ( )
كما أنَّ (أمان الحربيين لمسلم أمان لهم منه فإذا أمَّن الكفار (المحاربون) مسلماً كانوا آمنين من جهته فلا يجوز له أخذ شيء عليهم ولا أن يغنم من أموالهم ولا أنفسهم فلو أخذ عليهم شيئاً وجب ردُّه وإن تلف ضمنه )( )
وهذا يعني أنَّ من يعيش في بلد غير بلده الواجب عليه أن لا يهدِّد أمنهم لأنَّ تأمينهم له يلزمه معاملتهم بالمثل ويحرم عليه الغدر بهم حتى لو كان المسلمون يعيشون حرباً معهم .
(ويستحب منه لهم الوفاء بالمال حتى ولو كان لحرب المسلمين ).( )
تأمين الرُّسل
ويؤكد الشَّوكاني على أنَّ (تأمين الرُّسل ثابت في الشَّريعة الإسلامية ثبوتاً معلوماً فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يصل إليه الرُّسل من الكفار فلا يتعرض لهم أحد من أصحابه وكان ذلك طريقة مستمرة وسنة ظاهره .وهكذا كان الأمر عند غير أهل الإسلام من ملوك الكفر .فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يراسلهم من غير تقدم أمان منهم لرسله فلا يتعرض لهم معترض
والحاصل أنَّه لو قال قائل إن تأمين الرُّسل قد اتفقت عليه الشَّرائع لم يكن بعيداً وقد كان أيضاً معلوماً عند المشركين أهل الجاهلية عبدة الأوثان ،ولهذا أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: [لولا أنَّ الرسل لا تقتل لضربت أعناقهما ] .( )
ومثل هذا ما ثبت في حديث آخر أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لرسوليْ مسيلمة [ لو كنت قاتلاً رسولاً لقتلتكما ].( )
وكلُّ من دخل البلد بصورة مشروعة أو دخل بغير قصد القتال حتى لو كان من بلد تعيش حالة حرب مع البلد التي دخل إليها فهو مشمول بعقد الأمان لأن مجرد قول مواطن له السَّلام عليك عقد أمان له حتى يرد مأمنه أما السُّفراء وأعضاء البعثات والوفود فإنهم كالرُّسل بل هم رسل،وفي قصة مجيء أبي سفيان إلى المدينة المنورة بعد نقض قريش لصلح الحديبية دليل على عدم جواز المساس بمن دخل البلد وهو غير قاصد القتال لأن أبا سفيان كان رأس المحاربين لله وللرَّسول آنذاك ورغم أنه بحث عمَّن يجيره ولم ينجح في مسعاه كما تقول الرِّويات إلا أنَّه لم يمس.
ويضع الشَّيخ محمد مهدي شمس الدِّين سؤالاً مباشراً حول مشروعية العنف ضد الأجانب في بلاد المسلمين،ويجيب عليه بالقول: (المراد بالأجانب هنا هم الأشخاص، والسِّفارات،والهيئات الأخرى،والشَّركات التِّجارية وغيرها الموجودون في البلاد الإسلامية بإجازات دخول وإقامة وعمل من قبل حكومات البلاد الإسلامية.ولا تضر إقامتهم وعملهم بالمسلمين،ولا توجد حالة حرب فعلية بين المسلمين وبينهم.
إن هؤلاء الأجانب(كفَّار) بالمصطلح الشَّرعي ، وقد دخلوا إلى البلاد الإسلامية بمقتضى إجازات دخول وإقامة وعمل من قبل السُّلطات التي تمثل البلاد الإسلامية ذات العلاقة.
وبهذا الاعتبار ينطبق عليهم ما ذكره الفقهاء جميعاً، وأجمعت عليه المذاهب الإسلامية من كونهم أهل عهد، وأهل الأمان،وأهل الذِّمَّة وهم ليسوا – بهذا الاعتبار- موضوعاً للجهاد قطعاً وهذا العنوان يوجب شرعاً حمايتهم وحفظ أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ويعصمهم من كلِّ اعتداء عليهم وهذا واجب على الدَّولة وعلى سائر المسلمين.
ولا شكَّ في أنَّ كلَّ ما دلَّ من الكتاب والسُّنة على وجوب حماية وحفظ من دخل وأقام في بلاد المسلمين من الكفار الأجانب،يشمل الأجانب غير المسلمين الموجودين الآن في البلاد الإسلامية بإجازة من حكومات هذه البلاد.
والقول ـ بأنَّ أنظمة البلاد الإسلامية الآن في البلاد لا ذمَّة لها،ولا يعتبر عهدها وعقدها شرعاً في أمثال هذه الأمور بالنسبة إلى الأجانب غير المسلمين الذين لا توجد حالة حرب فعلية بين المسلمين ـ قول مردود،فإن عدم شرعية هذه الأنظمة من النَّاحية الفقهية لا ينفي (صلاحيتها)لإجازة دخول وإقامة وعمل هؤلاء الأجانب مادامت عقودها وعهودها سليمة عن إيقاع الضَّرر بالمسلمين أو تقتضيها مصلحتهم على أساس المعاملة بالمثل،هذا من جهة ومن جهة أخرى،فإن الأشخاص الرَّسميين الذين أعطوا إجازات الدُّخول والعمل والإقامة مسلمون فلهم ذمَّة محترمة عند الشَّارع تشملها الأدلة الدَّالة على أنَّ المسلمين (يسعى بذمَّتهم أدناهم) ( ).
ويستدل على ذلك بماأنفرد الشيعة الإمامية بحجيته فيقول( على أنَّ السِّيرة القطعية من جميع المسلمين في عصر أئمَّة أهل البيت المعصومين عليهم السَّلام قد جرت على تصحيح هذه الذِّمة وترتيب الآثار التَّكليفية والوضعية عليها.
وهذه السِّيرة دليل على أن هذه الذِّمَّة صالحة لترتب الأثر الشَّرعي الوضعي بالنِّسبة إلى الأجانب بصرف النَّظر عن شرعية أو عدم شرعية النِّظام الحاكم صاحب الذِّمَّة، الذي أعطى لهؤلاء الأجانب إجازات الدُّخول والإقامة في بلد المسلمين)( )ويستفاد من هذا أن الإجماع منعقد على تصحيح ذمة الحكومات التي حكمت الأمة الإسلامية حتى من قبل من لم يسلم بشرعيتها
(وكون هؤلاء الأجانب ينتمون إلى حكومات تتبع سياسة مخالفة لمصالح المسلمين، لا يجعلهم مسئولين عن سياسة حكوماتهم بنحو يبرِّر قتلهم أو جرحهم أو أسرهم أو مصادرة أموالهم، وهم بالنِّسبة إلى حكومات بلادهم على قسمين :
أحدهما: الأشخاص والهيئات والشَّركات التِّجارية والصِّناعية الَّذين يحملون جنسية البلد الأجنبي ،ولكن لا علاقة لهم بالنِّظام الحاكم وليسوا من أعضاء الهيئة الحاكمة في ذلك البلد.
ثانيهما: الأشخاص والهيئات الذين هم جزء من الهيئة الحاكمة،من قبيل أعضاء السِّفارات والبعثات العسكرية ،وما إلى ذلك.
فأمَّا من كان من الأجانب غير المسلمين من القسم الأول، فلا يجوز الاعتداء عليهم بالقتل والجرح والأسر ومصادرة الأموال، بل يجب الوفاء لهم بالعهد والأمان بحفظهم وحمايتهم، ولا وجه لتحميلهم وزر حكوماتهم.
وهؤلاء من أظهر مصاديق الاستثناء في الآية الكريمة(...إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ(4)( ) وأمَّا من كان منهم من القسم الثَّاني واقتضت مصلحة المسلمين قطع العلاقة مع حكومتهم ومخاصمتها، فإنَّ غاية ما يقتضيه ذلك هو إخراجهم من البلد المسلم بالطُّرق والأساليب المتعارف عليها في المجتمع الدولي، وفي المهل المتعارفة حسب المعاهدات والمواثيق الدُّولية التي تنظم العلاقات بين الدُّول ، والمسلمون في عصرنا ملزمون بمراعاتها من جهة التزامهم بالمواثيق المذكورة وعلاقتهم بمنظَّمة الأمم المتحدة والمنظَّمات الدُّولية الأخرى.
ولا يوجد أيُّ مبرِّر شرعي لمعاملة هؤلاء الأجانب بالقتل والجرح والأسر والضَّرب ، وإتلاف الأموال ومصادرتها ، في حالة عدم ارتكابهم لجرائم تقتضي معاقبتهم وفي هذه الحالة فإن مرجعهم هو القضاء لمحاكمتهم والحكم عليهم من دون فرق بين أن تكون سياسة حكوماتهم ملائمة أو غير ملائمة لمصالح المسلمين.
ويؤيد ما ذكرنا بل يدلُّ عليه أنَّنا لم نجد السِّيرة النَّبوية وسيرة أئمَّة أهل البيت المعصومين عليهم السَّلام أيَّة ممارسة للاغتيال السِّياسي والإرهاب السِّياسي مع توفر الدَّواعي إلى ذلك وتوفر أسباب التَّمكن، منه والقدرة عليه ، ومع طول الزمان واختلاف الأحوال ولو كان هذا الأسلوب مشروعاً لمارسه النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم ولمارسه أئمَّة أهل البيت عليهم السَّلام ، فعدم وقوعه دليل على عدم مشروعيته.) ( )
رابعاً :- عدم جواز استهداف الأماكن التي لا تخلوا ممن لا جوز قتله :-
إذا حدثت المعركة وبدأ القتال فما هي قيود وحدود القتال؟ هل له ضوابط وحدود؟؟ أم أنَّه حرب مفتوحة يستهدف فيها بالقتل كل من يقع في دار العدو أو دار الحرب بالتَّعبير الفقهي؟؟
المقطوع به أنَّ الإسلام قيَّد المسلمين وحرَّم عليهم استهداف الأماكن التي لا تخلوا من وجود المدنيين (النِّساء والشُّيوخ والأطفال بل وكلُّ من لا يقاتل أو حتى من يقاتل مكرهاً لأنَّ القتل لا يجوز إلا لمن يباشر القتال والقتل لايجوز إ لا لمن يستحقه واستهداف الأماكن التي لاتخلوا ممن لايجوز قتله إقدام على ما لايؤمن قبحه وهو قبيح .
والأدلة على ذلك كثيرة فمن الآيات القرآنية:
1- قوله تعالى:{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ }[البقرة -190]
2- قوله تعالى: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [التوبة -13]
3- قوله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة 8-9].
وقد رُوِيَتْ الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة التي تصل حد التَّواتر المعنوي ونُصَ فيها (النَّهي) صراحة عن قتل من لا يقاتل من الكفار كالأطفال والنساء والرجل الكبير والمختلي للعبادة في صومعته كالرُّهبان والعبيد وأُجراء الأرض (العسيف).
1- عن الإمام زيد بن عليّ عن أبيه عن جدِّه عن الإمام عليّ عليهم السَّلام قال: (كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- إذا بعث جيشاً من المسلمين قال انطلقوا بسم الله وبالله ، وفي سبيل الله وعلى ملَّة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- أنتم جند الله تقاتلون في سبيل الله ادعوا إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، إلى أن يقول: فإن أظهركم الله عليهم فلا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا رجلاً كبيراً لا يطيق قتالكم ، ولا تغوروا عيناً ، ولا تقطعوا شجراً إلا شجراً يضرُّكم ، ولا تمثلوا بآدمي ولا بهيمة ولا تظلموا ، ولا تعتدوا ، وأيّما رجل من أقصاكم أو أدناكم من أحراركم أو عبيدكم أعطى رجلاً منهم أماناً أو أشار بيده فأقبل إليه بإشارته فله الأمان حتى يسمع كلام الله ، فإن قبله فأخوكم في الدين ، وإن لم يقبل فردُّوه إلى مأمنه واستعينوا بالله تعالى عليه ...) الحديث.
2- في تيسير المطالب للسَّيد أبي طالب بسنده عن الإمام زيد بن علي على نفس الحديث ولكن بدل : (ولا تظلموا ولا تعتدوا) ، (ولا تغلوا ولا تغدروا) وقد أخرجه البيهقي عن الإمام زيد بن علي .
3- وروى الشِّيعة الإمامية عن الإمام الحسين بن علي عليهما السَّلام ، قال: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- يقول: [.... ولا تغلوا ، ولا تمثلوا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة ولا تقطعوا شجرة ..] الحديث. وفي رواية أخرى : ولا متبتلاً في شاهق .( )
4- وروى أبو داود .. من حديث أنس بن مالك : [أنَّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- قال : انطلقوا باسم الله ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً صغيراً ولا امرأة ..] الحديث.
5- وأخرج البيهقي من طريق أنس بن مالك أنَّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- قال: (انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملَّة رسول الله ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً.... ) الحديث.
6- وأخرج البيهقي عن أبي بكر الصِّديق رضي الله عنه في حديث طويل أنَّه قال ليزيد بن أبي سفيان حين بعثه إلى الشَّام إنَّك ستجد أقواماً زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما زعموا أنَّهم حبسوا أنفسهم لَه ، وإنِّي موصيك بعشر ، لا تقتلن امرأة ولا صبياً ولا كبيراً هرماً ولا تقطعن شجراً...) الخبر .
ويعلق العلامة الحسين بن أحمد السِّياغي مؤلف الرَّوض النَّضير في شرح مسند الإمام زيد بن علي بقوله: (إن النَّهي عن قتل الوليد والمرأة فقد ثبت ما يؤيده في المتفق عليه من حديث ابن عمر ، نهى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- عن قتل النِّساء والصِّبيان ، .. وعند أحمد بن حنبل والحاكم وابن حبان وأبي داود والبيهقي والنِّسائي من حديث رباح بن الرَّبيع أنَّ النَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- مرَّ بامرأة مقتولة فقال: (ما بال هذه تقتل ولا تقاتل)، ثم قال لرجل : (انطلق إلى خالد وقل له إنَّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- يأمرك أن لا تقتل ذرية ولا عسيفاً )، لأن القتل إنما كان لدفع الضرَّ وحيث لا ضرر لا يجوز فعله ، وهو الوجه في عدم قتل الشَّيخ الكبير وقد أشار الحديث إلى أن العلَّة عدم قدرته على القتل كالأعمى والمقعد).( )
وقد حدَّد شرح الأزهار هذا الموقف في صيغة قانونية واضحة (وإذا ظفر المسلمون بالكفار فإنه لا يجوز أن يُقتل شيخ كبير فإنه لا يطيق المقاتلة ولا مُخْتَلٍ للعبادة لا يقاتل كرهبان النَّصارى ولا الأعمى ولا مقعد ولا صبي صغير لا يقاتل مثله ولا امرأة ولا عبد مملوك،).
ويؤكد هذا المبدأ السَّيد محمد حسين فضل الله بقوله : (كاد الإجماع ينعقد على عدم جواز قتل من لا يقاتل من الكفار حتى لو كان قادراً على القتال.. وقد حكي عن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قوله: اتَّقوا الله في الفلاحين الذين لا يبغون لكم الحرب).( )
وقد عدَّ أهل السُّنة (عدم جواز قتل من لا يقاتل من جزئيات الأصل العام؛ لأن الأصل الأول هو عصمة الأحياء وإبقاء الكفار وتقريرهم لأن الله تعالى ما أراد إفناء الخلق ولا خلقهم ليقتلوا ، وإنما أباح قتلهم لعارض ضرٍّ وجد منهم ، وليس جزاء على كفرهم لأن دار الدنيا ليست دار جزاء بل الجزاء في الآخرة)، فضل الله نقلاً عن ابن الصلاح
فلا يجوز استهداف المدنيين (الأطفال والنِّساء والشُّيوخ والرُّهبان وأجراء الأرض ) حتى لو كانوا حربيين أي نساء الكفار المحاربين وشيوخهم وأطفالهم وعبيدهم وأجرائهم لعدم جواز استهداف قتل من لا يقاتل وهذا مجمع عليه والخلاف في حكم الترس وسنعرض له .
كما أنه لا يجوز تبييت العساكر التي فيها تجار المسلمين وأسرهم وضعفاؤهم لأنَّ الله بين العلَّة في كفِّ المسلمين يوم الحديبية بقوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[الفتح -24:25]
وأولئك الذين منع الله المسلمين من قتلهم قوم من المسلمين كانوا بمكة عجزوا عن الهجرة ، فلو سلَّط الله المؤمنين على أهل مكة لقتلوا من بينهم من المسلمين لعدم العلم بهم فيصيب المسلمين بذلك معرَّةٌ .
مع أن كفَّار قريش كما جاء في الآية التَّالية { إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}[الفتح-26]
فإذا كان المؤمنون وعلى رأسهم الرسول منعوا من قتل من لا يعلمون ممَّن يخفي إيمانه في مكة لطفاً من الله لرسوله و المؤمنين من الوقوع في المعرَّة برغم تعنُّت الكفَّار الذين كفروا وصدُّوا المسلمين عن المسجد الحرام وقبل ذلك عذبوا و أخرجوا الرَّسول منها وأعلنوا الحرب عليه في كلِّ موطن مع كلِّ ذلك لطف الله بمنع الحرب بإنزال سكينته على الرَّسول وعلى المؤمنين وإلزامهم كلمة التَّقوى .
ومن المقطوع به أنَّ استهداف المدن الإسلامية أو الآمنة بالعبوات شديدة الانفجار التي تقتل في العادة أكثر من شخص يتناقض مع التَّقوى التي أُلزم المسلمون بها فليس من التَّقوى تعريض من لا يجوز قتله للقتل مهما كان المبرِّر لأن الإقدام على ما لا يؤمن قبحه قبيح وقتل من لا يجوز قتله أطلق عليه عدوان والله لا يحب المعتدين وتجاوز العدو بقتل من لا يقاتل من المسلمين لا يمنح المسلم المبرِّر ليفعل مثله لأنَّ القاتل المجرم لا يمثل إلا نفسه فالله سبحانه وتعالى .
*****
حكم التِّرس
قد يلجأ العدو إلى الاختلاط بالمدنيين في حالة هجومه على المسلمين ويستخدمهم كترس له يحتمي بهم، فالتِّرس هو استخدام المحاربين للأطفال والنساء وكبار السِّن درعاً بشرياً ليتحرَّج المجاهدون من رمايتهم.
والتِّرس قد يكون باستخدام المقاتلين أطفالهم أو نساءهم أو عجزتهم دروعاً بشرية حال الهجوم على المسلمين.
أو قد يكون المسلمون مهاجمين لمدينة يختلط فيها المحاربون بأطفالهم ونسائهم ....ممن لا يجوز قتلهم .
وقد يكون بالأسرى المسلمين أو الأطفال والنِّساء والعجزة من المسلمين كأن يختلط الأعداء بالمدنيين المسلمين .
في الحالة الأولى حدَّد شرح الأزهار الحكم في صيغة واضحة قاطعة بقوله: (إذا اتَّقى الكفَّار بصبيانهم أو نسائهم أو عبيدهم أو شيوخهم أو عميانهم أو مقعدهم جاز قتل التِّرس للضَّرورة وهي إن لم يقتل التِّرس استولوا على من صالوا عليه). ( )
بمعنى أنه لا يجوز قتلهم إلا إذا خشينا الاستئصال بالمسلمين، سواء كان التِّرس ممن لا يقاتل من المحاربين أو كان التِّرس من المسلمين وقد ذكر الإمام مالك أنَّه لاتحرق سفينة فيها كفَّار محاربون ومعهم أسير من المسلمين .
وإذا جاز قتل التِّرس للضَّرورة المتمثِّلة في خشية الاستئصال فقد شرط الغزالي أن تكون خشية الاستئصال معلومة علماً ضرورياً بأن يقصدوا كلية و بأن يخُشى على الجملة لا على واحد ،وأن تكون قطعية بأن نعلم نكايتهم لنا ولا يكفي الظن .
وإذا جوَّزنا ذلك للضَّرورة أو فعل ذلك في دار الحرب من غير ضرورة وجبت الدِّية والكفَّارة لعموم قوله تعالى {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [ النساء :92]
أما لو تعمَّد قتل مؤمن في دار الحرب فقال الشَّافعي :يجب القود في العمد وأبو طالب أوجب الديَّة مع الكفارة في العمد والخطأ وكذلك أبو حنيفة إلا أنَّه أسقطها في حال الدَّفع أي عندما يكون الكفَّار قاصدين لا مقصودين .
وحجَّة من أوجب الديَّة عموما قوله تعالى {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}.
وكذا احتج من أوجب الديَّة بقوله تعالى :(( فتصيبكم معرَّة )) والمعنى لو لم نمنعكم لقتلتم المشركين ومن بينهم ضعفاء المسلمين فتصيبكم معرَّة .
وعن جار الله الزَّمخشري: المعرَّة مع عدم العلم وجوب الديَّة والكفَّارة ، ومعناها ولولا كراهة أن تهلكوا قوماً مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عالمين بهم فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقَّة ، لما كفَّ أيديكم عنهم .
ثم بين سبحانه أنَّ الكفَّ ( عن قتل المشركين بمكة ) لهذا الغرض لا لكونهم غير مستحقين للقتل فهم الذين كفروا ثم أضافوا إلى كفرهم أن صدُّوا عن المسجد الحرام[ بالإضافة إلى ما سبق منهم من عدوان إخراج الرسول من مكة وإعلانهم الحرب عليه وتأليبهم القبائل في الأحزاب ...] وأنَّهم لو تزيلوا عن المؤمنين لما كففناكم عنهم ، بل يعذبون عذاباً أليما ).( )
وكما يلاحظ فالإجماع منعقد على تسمية قتل من لا يقاتل (قتلاً) والخلاف في العقوبة عليه (القود عند الشَّافعي )أو الديَّة عند غيره مع الكفَّارة .
وقد سماه المولى (عدواناً) وظلماً كما نصَّت الآية (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يُحب المعتدين ،واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ) والعدوان كما فُسِّر هو قتل من لا يقاتل من نساء وأطفال وشيوخ ورهبان وعبيد المحاربين وسيأتي بيانه لاحقاً) .
وإذا كان هذا الحال مع غير المسلمين وأيضاً مع عدم معرفة وجود مسلمين ومع كفَّار قريش الذين ناصبوا الرَّسول صلى الله عليه وآله وسلم العداء وعذَّبوا المستضعفين من المسلمين حتى القتل. والإسلام آنذاك لما يزل بعد عوده طرياً وقريش محكومة بحمية الجاهلية، فكيف الحال بمن يستهدف مدناً آمنة مسالمة بالمتفجرات التي يذهب ضحيتها الأطفال والنِّساء والشِّيوخ المؤمنون المسالمون الآمنون ؟؟ بدون غاية وبدون أن يكون محكوماً بالضَّرورة وبدون أن يدفع عن نفسه أو عن عقيدته الخطر بل يضاعفه ودافعه الوحيد هو الرَّغبة في القتل للقتل، قتل أيٍاً كان ومن كان كما حدث في الرِّياض والمغرب وأندونيسيا واسطنبول وغيرهما من المدن الآهلة بالسُّكان التي لا يخلو فيها من وجود المسلم والطِّفل والمرأة والعاجز والمعاهد والنَّاسك وبدون إنذار !!!!! أي القتل غيلة بل وكلّ مدينة في العالم لا تخلوا من وجود مسلمين نعلم بوجودهم ويعلم كلُّ من يدعي العمل للإسلام .
وكما هو ظاهر من نصِّ الآية (أُذن للذين يقاتلون) فالأصل كان المنع من القتال والإذن به معللاً بأنهم يقاتلون ظلماً وأخرجوا من ديارهم وكما هو معلوم من الدِّين بالضَّرورة فإنَّ الأصل في الدِّماء والفروج الحظر وليس الإباحة .
لأن القتال فيه إزهاق أرواح وهذا نقيض مقصد الشَّريعة حفظ الحياة، وحفظ الحياة المقصود به حفظ حياة المؤمن والكافر الإنسان والحيوان إلا ما أبيح إزهاقه لعارض ضرٍّ صدر منه أو منفعة من إزهاقه كالأنعام التي أبيحت بشرط المحافظة على النَّوع.
ولم نؤمر بقتل الكافر أو العاصي بل أُمرنا بالعمل على فتح أبواب الرَّحمة أمامه ،ولكي تظلَّ أبواب الرَّحمة أمام الكافر والعاصي مفتوحة حتى آخر لحظة من عمره لا بدَّ من العمل على المحافظة على حياته وإذا جاز قتله فللضرورة التي قد تكون نابعة من الدِّفاع عن حقِّ غيره في الهداية أي عندما تكون حياته خطراً مؤكداً على حياة غيره أو عائقا أمام حرية الغير في الاختيار الحرِّ (الهداية أو الهلاك) .
لقد خلق الله الإنسان وهو يعلم أنه سيكفر ويطغى ،والحياة هي هبة الله التي لا تعدلها هبة ومن أهدرها أو سلبها بدون وجه حقٍّ فإنَّه اعتدى على حرمة من حرمات الله بل أعظم الحرمات لأنَّ قتل النَّفس الواحدة بنصِّ القرآن كقتل النَّاس جميعا لأنَّنا جميعاً من نفس واحدة {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ ر َقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} .[النِّساء -92:94]
لقد جوَّز بعض العلماء قتل من لا يجوز قتله عرضاً أي عندما لا يكون قتل معصوم الدَّم مقصوداً لذاته وهذا يقتضي جهل القاتل وجود من لا يجوز قتله من محترم الدَّم أو كان عالماً ولكنَّه مقيد بخشية الاستئصال وفي حال الدِّفاع وليس الهجوم أي عندما يكون المسلمون مقصودين بالقتل لا قاصدين واشترط الغزالي ووافقه الأغلب على أن تكون الخشية معلومة لعدم كفاية الظَّن وبدون هذا فإنَّ القتل يكون عمداً .
والاستئصال المقصود به إبادة المسلمين المقصودين بالهجوم أو إبادة أغلبهم أو إبادة المقاتلين منهم أو أغلبهم /لكن استهداف المدن الإسلامية أو غيرها من المدن التي لا تعيش الأمة حالة حرب معلنة معها ويعيش المسلمون فيها وهم آمنون على حريتهم في التعبُّد وحقوقهم المالية مصانة وينعمون بحق المساواة مع غيرهم أمام القانون حتى لو كانت الغالبية غير مسلمة و قتل محترم الدَّم عدوان وبغي و حرابة وخفر للذِّمَّة( ذمَّة الله ورسوله التي أوجبت الوفاء بالعهد ،
ومن شروط الوفاء احترام شروط الإقامة وعدم الغدر بمن يقيم المسلم معهم
ولقد ثبت أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وآله وسلم قال محذراً أمته [لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض] وقال أيضاً [إذا تقابل المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النَّار ] وعندما سئل صلى الله عليه وآله ما بال المقتول أجاب لأنَّه أراد قتل صاحبه( )
وروي عنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم [ ما يزال المسلم أو المرء في فسحة من دينه أو من أمره ما لم يسفك دماً حراماً ]
كما رويت عنه الكثير من الأحاديث والأقوال التي تنصُّ بوضوح تام على أن أكبر الكبائر بعد الشِّرك بالله أو مع الشِّرك بالله أو المعبِّرة عن الشِّرك والكفر بالله هي قتل النَّفس التي حرَّم الله ونصُّ الآية العظيمة {ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطئاً } نصٌّ صريحٌ على أنَّ قاتل النَّفس المعصومة لا يمكن أن يكون مؤمناً { ومن قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها }
( عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما )[أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من حمل علينا السِّلاح فليس منا]( )
( عن سالم عن أبيه ،قال بعث النبيَ صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة ،فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا ،فجعلوا يقولون صبأنا ،صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر،ودفع إلى كلِّ واحد منَّا أسيره وحتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كلُّ رجل منَّا أسيره، فقلت والله لا أقتل أسيري ،ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره حتى قدمنا على النَّبيَ ،صلى الله عليه وآله وسلم فذكرناه فرفع النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم يده فقال: اللهم إنِّي أبرأُ اليك ممَّا صنع خالد ،مرتين) . ( ) (وعن ابن عباس : أنَّ النَّبيَ صلى الله عليه وآله وسلم قال:[أبغض النَّاس إلى الله ثلاثة :ملحد في الحرم ،ومبتغ في الإسلام سُنة الجاهلية ،ومُطًلِبُ دمِ أمرىءٍ بغير حق ليهريق دمه]. ( )
{وذُكر (أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال لمن قتل الرجلين من بني سليم
إن مع العسر يسرا،إن مع العسر يسرا
-
- مشترك في مجالس آل محمد
- مشاركات: 625
- اشترك في: الأربعاء أكتوبر 06, 2004 10:39 pm
- اتصال:
وإذا جاز قتل التِّرس للضَّرورة المتمثِّلة في خشية الاستئصال فقد شرط الغزالي أن تكون خشية الاستئصال معلومة علماً ضرورياً بأن يقصدوا كلية و بأن يخُشى على الجملة لا على واحد ،وأن تكون قطعية بأن نعلم نكايتهم لنا ولا يكفي الظن .
وإذا جوَّزنا ذلك للضَّرورة أو فعل ذلك في دار الحرب من غير ضرورة وجبت الدِّية والكفَّارة لعموم قوله تعالى {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [ النساء :92]
أما لو تعمَّد قتل مؤمن في دار الحرب فقال الشَّافعي :يجب القود في العمد وأبو طالب أوجب الديَّة مع الكفارة في العمد والخطأ وكذلك أبو حنيفة إلا أنَّه أسقطها في حال الدَّفع أي عندما يكون الكفَّار قاصدين لا مقصودين .
وحجَّة من أوجب الديَّة عموما قوله تعالى {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}.
وكذا احتج من أوجب الديَّة بقوله تعالى :(( فتصيبكم معرَّة )) والمعنى لو لم نمنعكم لقتلتم المشركين ومن بينهم ضعفاء المسلمين فتصيبكم معرَّة .
وعن جار الله الزَّمخشري: المعرَّة مع عدم العلم وجوب الديَّة والكفَّارة ، ومعناها ولولا كراهة أن تهلكوا قوماً مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عالمين بهم فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقَّة ، لما كفَّ أيديكم عنهم .
ثم بين سبحانه أنَّ الكفَّ ( عن قتل المشركين بمكة ) لهذا الغرض لا لكونهم غير مستحقين للقتل فهم الذين كفروا ثم أضافوا إلى كفرهم أن صدُّوا عن المسجد الحرام[ بالإضافة إلى ما سبق منهم من عدوان إخراج الرسول من مكة وإعلانهم الحرب عليه وتأليبهم القبائل في الأحزاب ...] وأنَّهم لو تزيلوا عن المؤمنين لما كففناكم عنهم ، بل يعذبون عذاباً أليما ).( )
وكما يلاحظ فالإجماع منعقد على تسمية قتل من لا يقاتل (قتلاً) والخلاف في العقوبة عليه (القود عند الشَّافعي )أو الديَّة عند غيره مع الكفَّارة .
وقد سماه المولى (عدواناً) وظلماً كما نصَّت الآية (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يُحب المعتدين ،واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ) والعدوان كما فُسِّر هو قتل من لا يقاتل من نساء وأطفال وشيوخ ورهبان وعبيد المحاربين وسيأتي بيانه لاحقاً) .
.
وكما هو ظاهر من نصِّ الآية (أُذن للذين يقاتلون) فالأصل كان المنع من القتال والإذن به معللاً بأنهم يقاتلون ظلماً وأخرجوا من ديارهم وكما هو معلوم من الدِّين بالضَّرورة فإنَّ الأصل في الدِّماء والفروج الحظر وليس الإباحة .
لأن القتال فيه إزهاق أرواح وهذا نقيض مقصد الشَّريعة حفظ الحياة، وحفظ الحياة المقصود به حفظ حياة المؤمن والكافر الإنسان والحيوان إلا ما أبيح إزهاقه لعارض ضرٍّ صدر منه أو منفعة من إزهاقه كالأنعام التي أبيحت بشرط المحافظة على النَّوع.
ولم نؤمر بقتل الكافر أو العاصي بل أُمرنا بالعمل على فتح أبواب الرَّحمة أمامه ،ولكي تظلَّ أبواب الرَّحمة أمام الكافر والعاصي مفتوحة حتى آخر لحظة من عمره لا بدَّ من العمل على المحافظة على حياته وإذا جاز قتله فللضرورة التي قد تكون نابعة من الدِّفاع عن حقِّ غيره في الهداية أي عندما تكون حياته خطراً مؤكداً على حياة غيره أو عائقا أمام حرية الغير في الاختيار الحرِّ (الهداية أو الهلاك) .
لقد خلق الله الإنسان وهو يعلم أنه سيكفر ويطغى ،والحياة هي هبة الله التي لا تعدلها هبة ومن أهدرها أو سلبها بدون وجه حقٍّ فإنَّه اعتدى على حرمة من حرمات الله بل أعظم الحرمات لأنَّ قتل النَّفس الواحدة بنصِّ القرآن كقتل النَّاس جميعا لأنَّنا جميعاً من نفس واحدة {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ ر َقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} .[النِّساء -92:94]
وبهذا يمكن القول بأن استهداف المدن الإسلامية أو غيرها من المدن التي لا تعيش الأمة حالة حرب معلنة معها ويعيش المسلمون فيها وهم آمنون على حريتهم في التعبُّد وحقوقهم المالية مصانة وينعمون بحق المساواة مع غيرهم أمام القانون حتى لو كانت الغالبية غير مسلمة عدوان وبغي و حرابة وخفر للذِّمَّة( ذمَّة الله ورسوله التي أوجبت الوفاء بالعهد ،بل أن إستهداف المدن حتى التي تعيش الأمة حالة حرب معها جريمة غير مبررة لأن استهدافها استهداف للمدنيين غير المحاربين
ومن شروط الوفاء احترام شروط الإقامة وعدم الغدر بمن يقيم المسلم معهم
وحرمة المؤمن من غير المسلمين كحرمة المسلم ولقد ثبت أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وآله وسلم قال محذراً أمته [لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض] وقال أيضاً [إذا تقابل المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النَّار ] وعندما سئل صلى الله عليه وآله ما بال المقتول أجاب لأنَّه أراد قتل صاحبه( )
وروي عنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم [ ما يزال المسلم أو المرء في فسحة من دينه أو من أمره ما لم يسفك دماً حراماً ]وهذا النص عام يشمل المسلم وغير المسلم
كما رويت عنه الكثير من الأحاديث والأقوال التي تنصُّ بوضوح تام على أن أكبر الكبائر بعد الشِّرك بالله أو مع الشِّرك بالله أو المعبِّرة عن الشِّرك والكفر بالله هي قتل النَّفس التي حرَّم الله ونصُّ الآية العظيمة {ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطئاً } نصٌّ صريحٌ على أنَّ قاتل النَّفس المعصومة لا يمكن أن يكون مؤمناً { ومن قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها }
( عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما )[أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من حمل علينا السِّلاح فليس منا]( )
( عن سالم عن أبيه ،قال بعث النبيَ صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة ،فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا ،فجعلوا يقولون صبأنا ،صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر،ودفع إلى كلِّ واحد منَّا أسيره وحتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كلُّ رجل منَّا أسيره، فقلت والله لا أقتل أسيري ،ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره حتى قدمنا على النَّبيَ ،صلى الله عليه وآله وسلم فذكرناه فرفع النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم يده فقال: اللهم إنِّي أبرأُ اليك ممَّا صنع خالد ،مرتين) . ( ) (وعن ابن عباس : أنَّ النَّبيَ صلى الله عليه وآله وسلم قال:[أبغض النَّاس إلى الله ثلاثة :ملحد في الحرم ،ومبتغ في الإسلام سُنة الجاهلية ،ومُطًلِبُ دمِ أمرىءٍ بغير حق ليهريق دمه]. ( )
{وذُكر (أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال لمن قتل الرجلين من بني سليم [بئس ما صنعت] ووداهما صلى الله عليه فهذا الحديث يدلُّ على أنَّه لا يجوز الفعل إلا بإذن من الرسول عليه السلام والإمام قائم مقامه ،وإن فعل عصى ووجبت الدِّية لما ورد من نهي في هذين الرجلين ،وقد جاء مثل هذا في إيجاب الدِّية أنَّ والد حذيفة ابن اليمان قتله المسلمون يوم أحد ظنُّوه كافراً فأوجب النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم الدِّية.
وفي حديث المسلمين أنَّه وداهما ،وحديث خالد بن الوليد وفعله مع الذين اعتصموا بالسِّجود فقتلهم وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يديهم ووداهم ،.
وقد شدَّد بعض الفقهاء .......فأوجب كما سبق القول: القود كالشَّافعي إذا اعتقد القاتل أنَّ المقتول على صفة وانكشف على غيرها كأن يظنّه كافراً وينكشف أنه مسلم أو يظنّه قاتل أبيه وانكشف أنَّه غير ..وعلَّل ذلك بأنَّ القتل لايستباح بالظَّن فكان متعدياً فيجب القود ).( )
*****
متى يتعين الجهاد؟
الأصل في الجهاد أنَّه فرض على الكفاية إذا قام به من يكفي لأداء الغرض منه سقط عن الباقين،
ولكنه كأيِّ واجب آخر يصبح فرضاً على معين في إحدى الحالات التَّالية:
1-( إذا قصد الكفَّار ديار المسلمين ولم يوجد من يكفي لدفع العدوان على القادر عليه بشرطه وكان النفير عاماً .
2-وكذلك بأمر المتولي الشَّرعي على شخص بعينه مع خلو الموانع .
3:-إذا شهد المسلم المكلَّف القادر القتال مع الكفَّار .
4:- النَّذر واشباهة كالعهد واليمين والإجارة أي العمل بأجر للجهاد كالجنود) .( )
ويشترط لوجوبه
أولا:- التكليف
والمكلَّف هو:-
ا:- العالم بالخطاب لأنَّ الجاهل معذور ومهمَّة الأنبياء والدُّعاة من بعدهم إزالة الجهل .
ب:- المستطيع والمتمكن من القيام بالمطلوب {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}.
ج:- الحرُّ لجهة الاستجابة لما يطلب منه أو عدمها ،والسَّلامة من الضَّرر أو العاهة قال تعالى { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا}[الفتح-17] (21)
وقال تعالى :-{لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} 22)[التوبة-91]
ثانيا:- الذُّكورة :-
لأنَّ جهاد المرأة حدَّدته الشَّريعة الإسلامية عن عائشة رضي الله عنها قالت ((قلت يا رسول الله نرى الجهاد أفضل الأعمال أفلا نجاهد ؟ قال لكن أفضل الجهاد وأجمله حجٌّ مبرور ثم الحصر _{تعني البيوت والحصر جمع حصيره} _ قالت فلا أدع الحجَّ بعد إذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ))( ) وعنها أيضا قالت قلت يا رسول الله هل على النِّساء جهاد ؟قال عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة))( ) وعن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جهاد الكبير والضعيف والمرأة الحج والعمرة).( )
والغاية من إعفاء الشَّريعة للمرأة من الجهاد القتالي حفظ الحياة حتى لاتتعرض للقتل لأنَّها أصل الحياة ، ولهذا كان النَّهي عن الإسراف في ذبح إناث الأنعام ولهذا ثبت النَّهي عن قتل المرأة المشركة .
ثالثا:- رضاء الأبوين
لا يجب عليه (والصحيح لا يجوز له ) الجهاد بدون إذن الأبوين إلا للضَّرورة بشرط أن لا يتضرَّر الوالدان أو أحدهما كأن يكون المنفق عليهما حتى لو كان الوالدين ذميين فيحرم خروجه للجهاد إجماعا ما لم يكونا (حربيين) لأنَّ النَّفقة ليست واجبة عليهما .
وقد استدل على ذلك بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله و سلم (إن رجلا هاجر إلى النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم من اليمن، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: هل لك أحد في اليمن ؟ فقال :أبواي،. فقال(ص)أَذنا لك؟ فقال لا، فقال (أي الرسول صلى الله عليه وآله )ارجع إليهما فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد و إلاَ فبرهما))( )
عن عبد الله بن عمرو قال جاء رجل إلى النَّبي فاستأذنه في الجهاد فقال صلى الله عليه وآله وسلم أحيٌ والداك ؟فقال نعم ، قال: ففيهما فجاهد رواه البخاري والنسائي وأبو داود والترمذي وصححه))( )
وفي رواية أتى رجلٌ فقال يا رسول الله إنِّي جئت أريد الجهاد معك ولقد أتيت وأن والديَ يبكيان قال[ صلى الله عليه واله وسلم] ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة) ( )
وعن معاوية بن جاهمة السلمي أنَّ جاهمة أتى النبيَ صلى الله عليه واله وسلم فقال يا رسول الله أردت الغزو وجئتك استشيرك فقال (أي النبي [ص])هل من أم ؟ قال نعم فقال الزمها فإنَّ الجنة عند رجليها )) رواه احمد والنسائي ،( )
ويؤكد الشَّوكاني على [أنَّ برَّ الوالدين قد يكون أفضل من الجهاد ..وفيه دليل على أنه يجب استئذان الابوين في الجهاد وبذلك قال الجمهور وجزموا بتحريم الجهاد إذا منع منه الابوان أو أحدهما لأن برَّهما فرض عين والجهاد فرض كفاية.]( )
لأنَّ ترك الواجب أهون من فعل المحرَّم أو المحظور وعقوق الوالدين محرَّم والجهاد واجب على الكفاية في الأصل ما لم يتعين الجهاد بأمر المتولي الشرعي وبشرط عدم تضرُّر الوالدين أو أحدهما .
رابعا:- عدم انشغال ذمَّته بدين حال الأداء أو واجب متعين عليه لا يقوم به غيره.
وقد جاء في ذلك عن أبي قتادة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قام فيهم خطيباً فذكر لهم أنَّ الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال فقام رجل فقال يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نعم إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب تكفر مقبل غير مدبر ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف قلت؟قال أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي ، ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدَّين، فإن جبرائيل عليه السلام قال لي ذلك) ( )
وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يغفر الله للشَّهيد كلَّ ذنب إلا الدَّين فإن جبريل عليه السَّلام قال لي ذلك.رواه أحمد ومسلم ) ( )
وعن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القتل في سبيل الله يكفِّر كلَّ خطيئة فقال جبريل إلا الدَّين فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا الدين .رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب ) ( )
..وفي حالة الدَّين المؤجل قولان؛:
- جواز الخروج للجهاد .
- و المنع منه.
وقد اختار المؤيد بالله يحيى بن حمزة(ع) في الانتصار المنع لخطر الحرب.
ويكره لمن في خروجه إضرار بأولاده ومن تجب عليه النفقة عليهم إلا للضَّرورة و إذا ضمن وجود من يؤدي عنه واجبه المتعين عليه بالإنفاق أو قضاء الدَّين ، والمسألة هنا راجعة إلى باب التزاحم (أي تزاحم الواجبات ) وفي حال الدِّفاع عن البيضة يصبح الجهاد فر ض عين على كل قادر عليه .
خامسا:- أن لا يكون ملتزماً بعهد أو أمان للمقاتلين من الكفار.
لأنَّ الوفاء بالعهود من أوكد الواجبات و روي أنَّ حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه التزم لقريش في غزوة بدر أن لا يقاتلهم مع النبي إن هم تركوه يذهب إليها وعندما أخبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عقب وصوله المدينة قبل معركة بدر أمره الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالوفاء بما التزم به . ويضيف الأمام أحمد بن يحيى المرتضى ووافقه عليه جمهور العلماء أنَّ حرمة خفر المسلم المُؤمَن من المحاربين لعهده معهم لأنَّ أمانهم له أمان لهم منه ولذلك لا يجوز له المشاركة في قتالهم ويحرم عليه (حتى شراء ماغنم منهم ) ويجب عليه ردُّه بل وأكثر من ذلك عليه الوفاء بشرط تأمينهم له مثل إعانتهم بالمال للحرب على المسلمين والذي لا يجوز له هو مشاركتهم قتال المسلمين وقد استدلَّ على هذا بأصل ونصٍّ أمَّا الأصل فهو واجب الوفاء بالعهود وحرمة الغدر والخيانة والنُّصوص المؤكدة لهذا الأصل كثيرة وقاطعة.
وقد جاء في صحيح البخاري (أنَّ النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:الغادر يُرفع له لواء يوم القيامة ،يقال هذه غدرت فلان بن فلان.)[ ]
لأنَّ ترك الواجب أهون من فعل المحرَّم أو المحظور وعقوق الوالدين وكذلك خفر الذِّمة أو نقض العهد أو خلف الوعد وعدم الوفاء بالعهد، محرم والجهاد واجب على الكفاية في الأصل ما لم يتعين بأمر ولي الأمر.
وتلخيصاً لما سبق نحدد الأحكام المتعلقة بموضوع الجهاد في النقاط التالية:
أن يكون بإذن المتولي الشَّرعي أو بأمره والمتولي الشَّرعي اليوم هو رئيس الجمهورية في البلدان الرِّئاسية ورئيس الوزراء في البلدان البرلمانية والملك في البلدان الملكية وهكذا أي ممثل السلطة المعترف بشرعيته دولياً أو من يؤدي دوره وقد يكون مقيداً بموافقة البرلمان
وأن يسبق بإعلان حالة الحرب تعلن أهدافه والغاية منه .
1-ويجب إذن الأبوين بل ويحرم إلا بإذنهما إذا كان المنفق عليهما .
2:-ولا يجوز للمدين بدين حال الأداء إلا بإذن الدائن .
3:-ويجب إعلان الحرب و الدَّعوة إلى السَّلام قبل القتال .
4:-ويحرَّم قتل النِّساء والأطفال والشِّيوخ -إلا للضَّرورة والمحدَّدة بخشية الاستئصال وعندما يكون المسلمون مقصودين لا قاصدين ويشترط الغزالي أن تكون الخشية معلومة لا مظنونة لأنَّ الظَّن لا يكفي لإهدار دم معصوم حتى ولو كان كافراً -
5:-وتحرم المثلة .
6:-ويحرم الإحراق بالنار أو التجويع وقطع الماء وحرق الأشجار إلا للضَّرورة .
7:-والرمي بالمنجنيق (ومن باب أولى ما هو أعظم ) إلا عند خلو المكان المرمي ممَّن لا يجوز قتله من الأطفال والنِّساء والشِّيوخ والرُّهبان والعسيف مسلمين كانوا أو مشركين معاهدين كانوا أو محاربين .
8:-ويحرَّم قتل الرُّسل ، والسُّفراء وأعضاء البعثات الدِّبلوماسية ومن في حكمهم ،فحكمهم حكم الرُّسل بل هم رسل مقيمون .
9:-كما يحرَّم قتل (المُؤُمَن ) من الحربيين المقاتلين، وحرمة قتل غيرهم من باب أولى وحرمة قتلهم أشهر وأعظم من حرمة الزِّنا ، وهي محل اتفاق بين المسلمين ومعلوم أنَّ التَّأشيرة التي توضع على الجواز عند الدُّخول إلى البلد المسلم أو الإذن بالإقامة أو المجيء بدعوة من مواطن له حقُّ الإقامة المشروعة تعتبر أماناً ملزماً لكلِّ مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر.
مراحل التكليف بالجهاد
في السَّنة الثَّانية للهجرة (فرض الله القتال وأوجبه بقوله تعالى { كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لاتعلمون} {14}
نجد ان من يجوزون القتال الابتدائي يحددون له مراحل مكن أن نستخلصها مع سيد قطب نقلاً عن ابن قيم الجوزية كما ذكر في كتابه الأشهر معالم في الطريق المراحل التَّالية:-
الأولى :-الكفّ والإعراض والصَّبر على الأذى مع الاستمرار في الدَّعوة .
الثانية:-إباحة القتال من غير فرضه (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ(39)
الثالثة :-فرض القتال على المسلمين لمن يقاتلهم فقط:
قال تعالى (((وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(190)( ) روى ابن كثير أن ((هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة فكان رسول الله صلىالله عليه وآله وسلم بعد نزولها يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه حتى نزلت سورة براءة ونقل عن عبد الرحمن بن أسلم القول بأن هذه منسوخة بقوله تعالى (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(5)( ) وفي هذا نظر (والكلام لابن كثير) لأن قوله تعالى (الذين يقاتلونكم ) إما هو تهييج وإغراء بالأعداء الذين همَّتهم قتال الإسلام وأهله أي كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم كما قال ( وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ) ولهذا قال في هذه الآية (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ) أي لتكون همتكم منبعثة على قتالهم كما همتهم منبعثة على قتالكم وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها قصاصاً .
قوله تعالى {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } أي قاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا في ذلك ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي كما قاله الحسن البصري من المثلة والغلول وقتل النِّساء والصِّبيان والشِّيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم والرهبان وأصحاب الصَّوامع وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة كما قال ذلك عن ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومقاتل بن حيان ولهذا جاء في صحيح مسلم عن بريده أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول [اغزوا في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولاتقتلوا وليداً ولا أصحاب الصوامع ] رواه الإمام أحمد وعن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا بعث جيوشه قال اخرجوا باسم الله قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله لا تعتدوا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع )) رواه الإمام أحمد ولأبي داود عن أنس مرفوعاً نحوه وفي الصحيحين عن ابن عمر قال وجدت امرأة في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قتل النساء والصبيان ....وعن حذيفة ضرب لنا رسول الله مثلاً فقال [إنَّ قوماً كانوا أهل ضعف ومسكنة قاتلهم أهل تجبر وعداوة فأظهر الله أهل الضعف عليهم فعمدوا إلى عدوهم فاستعملوهم وسلطوهم فأسخطوا الله عليهم إلى يوم القيامة ] وهو عند أحمد وهو حسن الإسناد.
{ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاءُ الكافرين} يقول في تفسيرها فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعاً للصَّائل كما بايع النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه يوم الحديبية تحت الشَّجرة على القتال لمَّا تألبت عليه بطون قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ ثم كفَّ الله القتال بينهم فقال {ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء ، لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا ً أليما }
وقوله تعالى {فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} عمَّا هم فيه من الشِّرك وقتال المؤمنين فكفُّوا عنهم فإن قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم ولا عدوان إلا على الظالمين وهذا معنى قول مجاهد أن لا يُقاتَلْ إلا من قَاتَل ....والخلاصة التي نودُّ الخروج منها أنَّ ابن كثير يؤكِّد على أنَّ من المناهي قتل النِّساء والولدان والشِّيوخ الذين لا يقاتلون والرُّهبان وأنَّ هذه الآية نصٌّ في أنَّ القتال هو لردِّ العدوان وأنَّ على المسلمين أن لا يعتدوا بقتل من لا يجوز قتله سواءً من لا يقاتل وهو باقٍ على الكفر وقادر على القتال ولكنَّه لا يفعل أو النِّساء والولدان والشِّيوخ وأصحاب الصَّوامع الرُّهبان)( )
وهنا يثار إشكال وهو إذا تجاوز العدو فقتل الطِّفل والمرأة والشِّيخ منَّا هل من حقِّنا أن نتجاوز فنقتل منه من لا يجوز لنا أن نقتلهم !!!؟
و هذا الإشكال طرح ويطرح من قبل من ينظرون إلى أنفسهم وكأنَّهم (كمسلمين قبيلة كأي قبيلة أو قومية كأي قومية غير مقيدين بقيم الإسلام التي لن يكونوا مسلمين إلا عندما يلتزمون بها وإذالم يفعلوا فإنَّ حربهم كحرب غيرهم وهم أسوأ لأنَّهم يخالفون الرِّسالة التي يدعون الالتزام بها )
الإسلام حرَّم على المسلم قتل من لا يقاتله وإذا تجاوز العدو - ومن المتوقع أن يفعل ذلك لأنَّه غير مسلم - فإنَّنا إذا تجاوزنا مثله فإنَّنا نعتدي على غير القاتل فالقاتل ليس الطِّفل وليست المرأة وليس الشَّيخ أو الرَّاهب ولذلك فإنَّ قتلهم بنصِّ الكتاب الكريم ( عدوان وظلم ) وهو بالإضافة إلى ذلك سقوط وتشبه بإخلاق من لا دين له وإذا كنَّا مثلهم في الفعل فبماذا نحن أفضل منهم كمسلمين ، لقد ضرب الله لنا مثلاً بخبر ابني آدم فمن هو قدوتنا منهما ؟؟
الرابعة :-قتال الكفَّار ابتداءً: وهي محل خلاف لأنَّ من يقول به فبناء على القول بأن الباعث إلى القتال الكفر بصرف النَّظر عن الحرابة ومن يقول بأنَّ الحرابة هي الباعث إلى القتال بصرف النَّظر عن وجود الكفر من عدمه لا يرى هذا الرأي (أي القول بالقتال ابتداءً) ويستدلُّ من قال بها بقوله تعالى { انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} التوبة41) وهذا ما سنتعرض له لاحقاً .
وقفة مع غزوات النَّبي
لما كانت أكثر أحكام الجهاد تأخذ من السِّيرة النَّبوية فإنَّ الضَّرورة تقضي استعراض غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولو بصورة موجزة وقبل أن ننقل ملخص للبحث الذي نشره العلامة الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي ونشر في جميع أنحاء العالم عن طريق شبكة الإنترنت والصُّحف والمجلات قبل ذلك نودُّ أن نؤكِّد على أنَّ السِّيرة النَّبوية الشَّريفة لم تدوَّن إلا بعد زمن من وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والرِّوايات لم تخضع لنفس المنهجية الصَّارمة التي خضعت لها الأخبار المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ،وكتابها أسقطوا عليها من ثقافتهم التي كانت تخلع على الإنسان الكامل ممثلاً في المصطفى عليه وآله الصلاة والتسليم من صفاتها (الشَّجاعة كأبرز صفة تغنى بها العربي وتتجلى في مقارعته للخصوم،والحزم والشدَّة كصفة كانت محتاج إليها في الخليفة أو الملك كما تجسدت في الحسم الذي اتصف به بعض الولاة كالحجَّاج وزياد ....الخ من الصِّفات ولذلك فإنَّ الواجب الحذر من التَّسليم بصحة كلِّ ما روي عن السيرة فالكثير منه بحاجة للنَّقد والتَّقويم والعرض على القرآن فقد كان صلى الله عليه وآله خلقه القرآن)
(ومما استدل به (الهجوميون) على دعواهم في وجوب قتال العالم ما زعموه من أنَّ الرَّسول في أكثر غزواته كان هو البادئ بالهجوم، والطَّالب للعدو، والغازي له في عقر داره.
وهي دعوى مبنية على قصر النَّظر وضيق الأفق في تقويم أحداث السِّيرة، والنَّظر إليها من الزاوية القريبة دون النَّظر إلى جميع الزَّوايا والأبعاد، وعدم استيعاب ما ورد في أسباب الغزوات وملابساتها استيعابًا يضيء السَّبيل للباحث الذي ينشد الحقَّ، وليس المتعصب لرأي ولا يريد أن يتزحزح عنه.
لا شكَّ في أنَّ من غزوات الرسول -صلى الله عليه(وآله) وسلم- ما كان هجومًا من المشركين على المسلمين، كما في أحد والخندق، وبعض ما قد يحسب أنه ابتداء من المسلمين، هو عند التأمل دفاع أو وقاية.
(فمن قال إنَّ الرسول هو البادئ بالقتال بدون سبب يوجبه من المشركين، فقد أعظم الفرية عليه، وقال بما لم يحط به علمه، ويخشى من تعدي غلطه إلى بعض من يسمعه من جهلة العوام، وضعفة العقول والأفهام، فيظنُّونه حقا، وهو بالحقيقة باطل.
فمن دلائل القرآن قوله سبحانه: "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ..." [الحج: 39- 40].
فأثبت سبحانه في هذه الآية بداية المشركين بالاعتداء بالقتال على الذين أسلموا من أصحاب النبي -صلى الله عليه(وآله) وسلم- وأنهم ساموهم سوء العذاب ليردوهم عن دينهم كما قال سبحانه: "وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا" [البقرة: 217] وهذا القتال يشمل الضَّرب والتَّجريح.
فقد كان الصحابة يأتون إلى رسول الله -صلى الله عليه(وآله) وسلم- منهم المضروب، ومنهم المجروح، وقد توفيت سميَّة أم عمَّار تحت التَّعذيب لصدِّها عن دينها، كما توفي زوجها ياسر. وكان رسول الله -صلى الله عليه(وآله) وسلم- يمرُّ عليهما وهما يعذبان ويقول: "صبراً يا آل ياسر فإنَّ موعدكم الجنة"، وقد كانوا يحمون الحجارة ويضعونها على بطن بلال وظهره ويقولون له: قل واللات والعزى، ويقول هو: أحد أحد.
ولهذا قال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}. فأثبت ظلم المشركين في تعذيبهم للمؤمنين بفنون التَّعذيب والأذى، ولا ذنب لهم إلا أنَّهم يقولون: ربنا الله ونبينا محمد. {وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ}
فقد أحرجوا الصِّحابة حتى أخرجوهم من بلدهم، والإخراج من البلد نظير القتل في كتاب الله، فقد خرج فوق الثَّمانين من الصِّحابة ما بين رجال ونساء إلى الحبشة، يمشون على أرجلهم حتى أتوا ساحل البحر، فراراً بدينهم من الفتنة، وبأبدانهم من التَّعذيب، وخرج بعضهم مهاجرًا إلى المدينة.
والنَّبي -صلى الله عليه(وآله) وسلم- خرج مهاجرًا خائفًا مختفيًا يقول (مخاطبًا مكة): "والله إنَّك لأحبُّ بلاد الله إلي، ولولا أنَّ قومي أخرجوني منك لما خرجت"، وكان أهل مكة يصادرون أموال كلِّ من هاجر إذا لم تكن له قبيلة تحمي ماله، كما صادروا أموال صهيب الرومي، وأنزل الله فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207]. ولهذا قال الصِّحابة: ربح البيع صهيب.
ومنها قوله سبحانه: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحشر: 8].
فأثبت سبحانه أنَّ المشركين أخرجوا المستضعفين من بلادهم وأموالهم، في سبيل هجرتهم ونصرتهم لرسول الله يبتغون بذلك فضلا من الله ورضوانا، ولا ذنب لهم إلا أنهم آمنوا بالله ورسوله.
ومنها قوله سبحانه: {إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُون} [الممتحنة: 2]. فبسط اليد بالسوء هو الضَّرب والتَّجريح والشّجاج وبسط الألسنة بالسوء أي بالسبِّ واللَّعن والسُّخرية وسائر الأذية.
ومنها: أنَّ الله سبحانه أكَّد ابتداء المشركين بالاعتداء على النَّبي -صلى الله عليه(وآله) وسلم- وعلى أصحابه في بداية الأمر ونهايته، فقال سبحانه:[أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 13 – 15]. فأثبت سبحانه بداية المشركين بالاعتداء على الرَّسول وأصحابه في بداية الأمر ونهايته، وأنَّهم نكثوا أيمانهم وعهودهم التي أبرموها مع الرًَّسول في صلح الحديبية، وأنَّهم همُّوا بإخراج الرَّسول كما حصروه مع عمه أبي طالب في الشِّعب، يطالبون أبا طالب بتسليمه إليهم ليقتلوه. وهذا معنى قول أبي طالب في قصيدته:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوسَّد في التراب دفينا
وإنَّما اشتد الأذى بالرَّسول بعد موت أبي طالب، بل وهمُّوا بقتله حيث اتفقوا أن يدفعوا لكلِّ رجل سيفًا فيضربوه جميعا بسيوفهم، فيضيع دمه بينهم، فأطلع الله رسوله على ذلك، وأذن له بالهجرة، وأنزل الله: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
ومنها قوله سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ} [الممتحنة: 1]. أي لأجل إيمانكم بربِّكم.
فأثبت سبحانه شدَّة عداوة المشركين لله ورسوله وعباده المؤمنين وأنَّه يحرم على المؤمنين موالاتهم بإظهار المودَّة لهم، وقد كفروا بما جاءكم من الحق الذي هداكم الله إليه. ثم قال: يخرجون الرَّسول من بلده، لأنَّه خرج من مكة مكرهاً وخائفاً مختفياً، كما خرج المؤمنون فراراً بدينهم من الفتنة، وبأبدانهم من التَّعذيب؛ لأجل إيمانهم بربِّهم.
مثله قوله سبحانه: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 9] فأثبت سبحانه قتال المشركين للمؤمنين على الدِّين لأجل إيمانهم بربِّهم، ليردُّوهم بطريق الإكراه إلى ملَّة الكفر التي أنقذهم الله منها.
فهذه كلُّها آيات محكمات لا نسخ فيها ولا تبديل ولا تخصيص، ولا يجوز لأحد تغييرها ولا النَّظر في رأي يخالفها.
وأما الاستدلال بفقه السِّيرة مما يثبت ابتداء الاعتداء من المشركين على رسول الله وأصحابه، وأنَّه إذا قاتل فإنَّما يقاتل لصدِّ العدوان عن الدِّين، وكفِّ الأذى والاعتداء عن المؤمنين، فليس هذا بالظَّن ولكنَّه اليقين.)( )
(أما مسألة الجهاد بالدِّفاع عن الدِّين وعن أذى المعتدين، فقد اعتنى العلماء المتأخرون[ ] بتصحيحها وتمحيصها أشدّ من اعتناء الفقهاء المتقدمين حتى ارتفعت عن مجال الإشكال والغموض إلى حيز التَّجلي والظُّهور. فضعف فيها الخلاف وكاد ينعقد عليها الإجماع. وإن غزوات الرَّسول كلَّها دفاع عن الدِّين وكفُّ أذى المعتدين على المؤمنين، وليس هذا بالظَّن ولكنَّه اليقين)( ).
ونشير الآن إلى غزواته وأسبابها التي أشار بعضهم بأنها وقعت من الرَّسول بطريق الابتداء بدون سبق عدوان من المشركين، فمنها:
(حديث العير والنَّفير حيث خرج رسول الله -صلى الله عليه(وآله) وسلم- في بعض أصحابه يريدون عير قريش. ومن المعلوم أنَّ قريشًا هم الأعداء الألداء والبادئون بالاعتداء على الرسول وأصحابه، وقد استباحوا تعذيب الصِّحابة وأخذ أموالهم، فهم أئمَّة الكفر، الحلال دمهم وأموالهم، أفَيُلام رسول الله وأصحابه عندما حاولوا أخذ العير ليتقووا بها على حرب عدوِّهم، كما كان عدوُّهم يفعل ذلك بهم فيأخذون أموال المهاجرين؟ إذ هذا من باب المقاضاة بالمثل، وقد قيل: الشَّرُّ بالشَّرِّ والبادئ أظلم. يقول تعالى: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [النحل: 126]. وقال: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40]، وقال:{وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيل}[الشورى: 41].
أما وقعة بدر فقد حدثت على غير ميعاد سبق، وكان الرَّسول قد كره وقوعها. وقد نزل مع أصحابه بالعدوة الدُّنيا مما يلي المدينة، ونزل المشركون بالعدوة القصوى مما يلي مكة، وقد أرسل أبو سفيان إليهم يطلب منهم أن يرجعوا قائلا: إنَّ عيركم وأموالكم قد سلمت، فارجعوا إلى بلادكم، لكنَّهم كما أخبر الله عنهم خرجوا بطراً ورئاء الناس، ويصدُّون عن سبيل الله، ومعلوم قرب بدر من المدينة، فهم قصدوا حرب الرَّسول وأصحابه بطريق التَّحرش بهم. وكان سبب بداية القتال: أن أبا البختري قال: "والله لأردنَّ حوض مياه محمد، ولأكسرن حوضهم. وفعلا اندفع يريد أن يهدم الحوض، فتلقاه حمزة بسيفه فقطع رجله، ثم انعقد سبب القتال بين الفريقين.
فقتال الرَّسول لهم في بدر هو قتال لدفع شرِّهم وعدوانهم، فهو جهاد بالدِّفاع. ولم يكن قتاله لهم لإكراههم على الدين حسب ما يظنُّه الكاتب، ولم يكن وقع ابتداء من الرَّسول بدون عدوان يوجبه منهم، بل هم البادئون بالاعتداء والمعلنون بالحرب لله ورسوله والمؤمنين. )( )
(ومثله قتال الكفَّار المشركين للرَّسول وأصحابه يوم أحد حيث غزوا الرَّسول وأصحابه في بلادهم فقتلوا سبعين من أصحاب رسول الله، وهل كان قتال الرَّسول لهم إلا دفعًا لشرِّهم. ثم إنَّهم تحزبوا على حرب رسول الله وأصحابه يوم الأحزاب، ومعهم عرب الحجاز ونجد، ونقضت اليهود العهد الذي بينهم وبين رسول الله، ودخلوا مع قريش في حرب الرسول فتبعهم يهود بني قريظة لظنهم أنها الفاصلة المستأصلة للرَّسول وأصحابه، حتى ضرب النَّبي على المدينة خندقاً يمنع تجاوز الخيل. وبلغ الخوف مع الرَّسول وأصحابه إلى نهاية الشدَّة، وأنزل الله فيه صدر سورة الأحزاب وفيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 9 – 10] إلى قوله: {وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} [الأحزاب: 25، 26].
أيقال إنَّ الرسول هو البادئ بالقتال لكفرهم، وهم لم يبقوا للصُّلح موضعاً، مع الرَّسول وأصحابه، ولم يألوا جهداً في فتنتهم للمؤمنين وتعذيبهم {إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 2].)( )
(وأمَّا قضية هوازن حيث صرَّح الكاتب عنها قائلا: "إنَّ حروب الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لهوازن وحصاره للطَّائف، حيث كان الرَّسول هو البادئ للقتال لنشر هذا الدِّين بين النَّاس، ولم تكن الغزوات منه، لأنَّهم قاتلوه أو اعتدوا عليه، فإنَّهم لم يسبق لهم ذلك إلا في نادر الأحوال".)( )
(و سبب هذه الغزوة التي أنزل الله في شأنها: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 25، 26].
وقد ذكر ابن إسحاق وغيره أنَّه لمَّا فتح الله مكة على رسوله والمؤمنين، وسمعت هوازن بذلك، فشرقوا بهذا الفتح حنقاً وبغضاً للرَّسول وأصحابه، وولاء ومحبة منهم لقريش، فعزموا أن ينتقموا من الرَّسول وأصحابه، فجمعهم ملكهم (مالك بن عوف النَّضري) فاجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلُّها على بكرة أبيها، واجتمع إليه نضر وجشم كلُّها، وسعد بن بكر، وناس من بني هلال، وكثير من شتى القبائل، ومن عرب الحجاز ونجد، ومعه يومئذ دريد بن الصُّمة، وهو كبير يحمل في هودج، ليأخذ من رأيه، حيث إنه مجرِّب في الحروب، فزحفوا بجمعهم من عوالي نجد بأهلهم وعيالهم وأموالهم لقصد الحفيظة حتى لا يفُّروا عن القتال، ونزلوا بعسفان بين مكة والطَّائف، ليفاجأ الرَّسول وأصحابه بالهجوم عليهم من قريب، لظنِّه أنَّ أهل مكة المغلوبين سيكونون عوناً له على القتال معه.
ولما سمع رسول الله بخبرهم، خرج إليهم بمن معه من أصحابه، وبعض أهل مكة، ومنهم مسلمون، وبعضهم باقون على شركهم، فوصل إليهم رسول الله في عماية الصُّبح، بعد فتح مكة بعشرة أيام. وقد كانت هوازن قد كمنوا في الشِّعاب والمضايق، وقد تهيئوا لينفروا جميعا. ولم يرع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه(وآله) وسلم- إلا والكتائب قد شدَّت عليهم شدة رجل واحد، فشمَّر الصِّحابة راجعين، لا يلوي منهم أحد على أحد، وانحاز رسول الله ذات اليمين، وهو يقول: "إليّ أيها الناس هلموا إليّ أنا رسول الله"، وقد بقي معه نفر من المهاجرين وأهل بيته، منهم أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي والعباس وأبو سفيان بن الحارث والفضل بن عباس وربيع بن الحارث، وأسامة بن زيد وأيمن بن أم أيمن، وقتل يومئذ.
ولم يتراجع القوم إلا وبعض الأسرى عند رسول الله، ولم يقتل أحد منهم بعد أسرهم، وتفرَّقت هوازن ومن معهم، وفرَّت ثقيف إلى بلدهم. أفيصدق أن يقال -والحالة هذه- إنَّ الرَّسول هو البادئ بقتال هوازن بدون سبب يوجبه منهم؟ وهل بقي من هوازن إلا هجومهم على الرَّسول في مكة؟ ولا يدري عن سوء عاقبة هذا الهجوم، فإنَّه ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلّوا وساءت حالهم، وقد قيل: كلُّ محصور مأخوذ.)( )
(وأما حصاره للطَّائف، فإنَّ ثقيفاً على بكرة أبيهم كانوا مع هوازن في الحرب على رسول الله، فلما نصر الله رسوله والمؤمنين فروا إلى بلدهم، وتحصَّنوا فيها، فهم مستحقون للقتل والقتال لثلاثة أمور:
أحدها: مشاركتهم لهوازن على حرب رسول الله فهم محاربون لله ورسوله وعباده المؤمنين والله يقول: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به". وقال: "ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل".
والأمر الثاني: أنَّ الرَّسول جاءهم قبل الهجرة وطلب منهم أن يُؤووه وينصروه حتى يبلغ رسالة ربِّه، وقد قيل: إنه مكث عندهم عشرة أيام، فلما أحسُّوا أنَّ بعض ثقيف مال إليه وصدق دعوته أرسلوا عليه سفهاءهم، فكانوا يرمونه بالحجارة، ورؤساؤهم ينظرون إليهم ويضحكون من فعلهم، وهم يقولون: مجنون كذاب. وزيد بن حارثة يقيه ببدنه عن وقع الحجارة فيه، حتى رجع كئيباً حزيناً من فعلهم.
والأمر الثَّالث: أنَّه بعدما فرغ رسول الله من أمر هوازن ذهب إلى ثقيف رجاء أن يثوب إليهم عقلهم، فيفتحوا له الباب، ويسهلوا له الجناب، حتى يبلغ رسالة ربِّه في بلدهم، كما فعل أهل مكة. ومن سيرته: أنه لا يعاقب أحدًا بجريمة سلفت منه مهما عظمت متى خلّوا بينه وبين نشر دعوته في بلدهم، لكنَّهم عصوا وتمرَّدوا، وناصبوه العداء، فرماهم بالمنجنيق ونصب عليهم الدَّبابة، فكانوا يحمون النِّبال بالحديد، ويرمون بها من في الدَّبابة ويرمون الصِّحابة من وراء الجدران، وفي السُّطوح، حتى قتلوا سبعة من أصحاب النبي، فانصرف عنهم وتركهم حتى هداهم الله للإسلام، وأتوا إليه طائعين.
وأما غزوه لتبوك ...فإنَّ سببه: أنَّه بلغ رسول الله -صلى الله عليه(وآله) وسلم- أنه اجتمع جنود من بلخ وجزام وغسان، وبعض متنصِّرة العرب، وقد اجتمعوا في تبوك، يريدون غزو رسول الله وأصحابه، وقد قدموا مقدماتهم إلى البلقاء وذلك عام 9 من الهجرة، فندب رسول الله -صلى الله عليه(وآله) وسلم- أصحابه عام العسرة، أي زمن جهد ومجاعة وانقطاع ظهر، فخرج في ثلاثين ألفًا من أصحابه، فكانوا يمرُّون على قبائل العرب من الحضر والبدو بوادي القرى، والذين لم يدخلوا في الإسلام بعد، حتى وصلوا إلى بلدة تبوك، وبها من بها من الناس، فلم يرع أحدا منهم بقتل ولا قتال؛ لأنَّه إنَّما قصد الذين ظاهروه بالعداوة، وبرزوا لحربه وأصحابه، لكنَّه في سفره لم يلق كيدا، ووجدهم قد تفرقوا. فرجع إلى بلده مؤيداً منصوراً. فهذه المقدِّمة نشير فيها إلى بعض الفقرات من المقتطفات التي ذكرها الكاتب، وكلها مفصلة بأسبابها في ضمن الكتاب)( )
(الأسباب التي دفعت إلى معركة مؤتة معروفة، ولعل كتَّاب السِّيرة المحدثين، أقدر على تصوير هذه الأسباب من الكتَّاب القدامى، فقد أرسل النَّبي -صلى الله عليه(وآله) وسلم- واحداً من رجاله بكتاب إلى أحد الأمراء الغساسنة يدعوه إلى الإسلام، وهؤلاء الأمراء كانوا موالين للرُّوم، يدينون دينهم وينفذون سياستهم، وقد شعروا مع سادتهم بالقلق للدِّين الجديد وللنَّجاح الذي يلقاه، فماذا يصنعون؟ عمد الأمير الذي جاءه كتاب النَّبي إلى الكتاب فطوح به، وإلى حامله فقتله!! واستعد مع الرومان لمواجهة تبعات هذا الموقف الآثم...!
ماذا تفعله أي دولة تهان دعوتها ويقتل رجلها على هذا النَّحو؟ لا بدَّ أن تقاتل! والقتال الذي فرضته الظُّروف صعب، فإن الرُّومان شدُّوا أزر الأمير القاتل بعشرات الألوف من جيشهم الكثيف.
وواجه الرِّجال الذين قاتلوا في (مؤتة) معركة قاسية، استشهد فيها القادة الثَّلاثة الذين التحموا مع الرومان وحلفائهم، واستطاع خالد بن الوليد أن ينسحب بالجيش، وأن يجنبه خسائر لا آخر لها.
إنَّ التَّوسع الإسلامي لا يعتمد على القتل، وحروب العدوان، إن العملة المتداولة في ميدان الدَّعوة الإسلامية هي الفكر الحر!!.
ومقاتلة الإسلام للرُّومان كانت أشرف قتال عرفته الدُّنيا؛ لأنَّ الإمبراطورية العجوز استهلكت شعوباً كثيفة داخل سجونها قروناً طويلة.)( )
(عندما تعرض الحق على النَّاس في بيئة جاهلة به، فلن يقول لك المستمعون: أهلا وسهلا! سيكون هناك مستغربون، وسيكون هناك رافضون! وربما آمن البعض على عجل، وربما قاوم بعضهم بضراوة، ولن تتحدد المواقف إلا بعد آماد طوال يصبر فيها الدُّعاة، يقابلون الهزء بالسَّكينة، والاستفزاز بالحلم.
كذلك كان الأنبياء على امتداد العصور، وكذلك كانت سيرة خاتمهم محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام- مع ما تميزت به رسالاتهم من وضوح وتجرد وإشراق)( ).
(أما اليوم فالدَّعوة مثقلة بما يضيرها أو يزهِّد فيها.. هناك من يدعو إلى الشَّكل قبل الموضوع، وإلى النَّافلة قبل الفريضة، وإلى الحكم الفرعي قبل القاعدة الكلِّية، وإلى ما فيه خلاف قبل ما لا خلاف فيه! ثم يدقُّ طبول الحرب وهو صفر اليدين من سلاح يجدي، فإذا الغبار ينجلي عن هزيمة مضاعفة للحقِّ، إنه انهزم مرتين، مرة في ميدان الدَّليل، ومرة في ميدان القتال!
وبهذا الفكر المعتل يكتب دعاة عن قيام الإسلام على السَّيف، واجتياحه للخصوم، ورغبته في الهجوم!
ويرجعون إلى الكتاب الكريم والسُّنة المطهَّرة، كي يحرفوا الكلم عن مواضعه، أو يقلبوا النُّصوص رأساً على عقب.)( )
ويرد على من يقول بأن غزوات الرسول حروب هجومية بالقول:
(إنَّ النَّبي –عليه(وعلى آله) الصلاة والسلام- أخرج من مكة هو ومن آمن به بعد ثلاث عشرة سنة حافلة بالآلام والأحزان.
ولم تهدأ عداوة قريش ضد الإسلام بعد الهجرة، بل وثبت على كل من شرح بالإسلام صدرًا من أهل مكة، فنكلت به، وكان دعاء المستضعفين والمفتونين: { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا} [النساء: 75].
فهل يوصف قتال المسلمين لقريش بأنه حرب هجومية بعد هذه الأحداث الواضحة؟ )[ ]
**********
واجتهادات (أبو الأعلى المودودي) ومن وافقه كالشَّهيد (سيد قطب)موضوعها الخروج على الظَّالم باعتبار أنَّ القتال الذي حثَّ عليه أو أجازه موجَّه ضدَّ الدَّولة الحاكمة بغير حكم الله في المجتمعات المسلمة ولا يعدوا من قلَّدهما هذا الموقف لذلك لم يتعرضا بالذِّكر لشرط إذن المتولي الشرعي،
وهنا نصل إلى سؤآل هل مايحدث في المدن الإسلامية والمدن بشكلٍ عام من عمليات تفجير وقتل جهاداً؟
لقد حاولنا البحث ما أمكن عن كل نص في الكتاب الكريم أو السنة النبوية أو في كتب الفقه لمختلف المذاهب الإسلامية يمكن أن يكون سنداً ولو بتأويل متعسف يبرر للآمر والمخطط والمنفذ الإقدام على هذه الأفعال التي تستهدف المدن المسالمة الأمنة إلا أننا لم نجد
مما يؤكد أن ما يحدث هو قتل للقتل لايمكن أن يبرر على الإطلاق حتى بقيم الجاهلية الأولى
وهو ليس خروجاً على الحاكم الظالم لأن الخروج محكوم بشروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
كما أنه ليس دفاعا عن النفس لأن الجماعات التي تقوم بمثل هذه العمليات أو التي تنسب اليها لاتقاتل من يقاتلها وإنما تقتل من لايقاتلها في الغالب
ولذلك فنحن نعتقد أن من يفعل هذه الأ فعال سواءً التي في الرياض وقبل ذلك في المغرب واليمن ومصر وأندنوسيا وبعد ذلك في تركياأو أي مدينة في العالم من المدن الآهلة بالسكان الآمنين بصرف النظر عن دينهم ومذهبهم لايمكن أن يكون مسلماً سوياً لأن هذه الأعمال بالإضافة إلى عدم شرعيتها الدينية إسلاميا ً تمثل عدوانا ً على أمن الأمة ومصالحها وإقتصادها ووحدتها ويشوه صورة الإسلام والمسلمين ويسبب للمسلمين في العالم (حرجا ً كبيرا ً لأن قتل المدنيين في المدن الآمنة االمسالمة باسم الإسلام ومن قبل إسلاميين يخيف كل عاقل من كل إسلامي ملتزم )
*****
*****
لقد كان الإسلام ينتشر في أمريكا وأوربا(قبل 11سبتمبر2001) انتشار الرياح ويتمتع الإسلاميون بحرية ليس للدعوة فقط بل وامتلاك المواقع الاقتصادية بشكل متنامي
*****
**********
ولكي لايظن جاهل أن في أحكام الإسلام ما يبرر ماحدث ولما لاحظناه من جهل بأحكام الجهاد فقد بادرنا إلىكتابة هذه الأسطر عن الجهاد في الاسلام بهدف نشرها لإثارة من يملك القدرة والوقت أكثر منا على المشاركة ليُميز الجهاد عن أفعال القتل التي تنسب إليه، ونرجو بهذا أن نفتح الباب لمن هو أقدر وأجدر منا بالكتابة على التصدي للموضوع بصورة أعمق وأوضح مما هو عليه في هذه المحاولة الخجولة ومن خلال التعريف بالجهاد وبيان أحكامه سيتضح لنا أن أغلب ما ينسب إلي الجهاد ليس منه في شيء بل إنه حرابة وفساد في الأرض لم تعرفه الانسانية من قبل، لأنه مجرد قتل عبثي يفتقر لأي شرط من شروط الفعل الإنساني حتى في صورته العدائية البشعة وأبشع ما فيه أنه يشوه ملامح الرسالة الإسلامية ويحول بين الناس وبين معرفة الإسلام (الرحمة)
لقد كان بالإمكان معرفة دوافع وأهداف ومقاصد وغايات قطاع الطرق وحدود عنفهم ويمكن التنبؤ بسلوكهم لأن قاطع الطَّريق (المحارب أو الباغي أو الخارجي) محكوم بالعرف العام الذي وضع حدوداً لأي عنف وحدد قيماً أخلاقية يجب إحترامها وقد عبر عن ذلك الإمام علي عليه السلام بالقول(لقد كنا في الجاهلية نتحاشا قتل النساء حتى إن قاتلننا فكيف نفعل ذلك ونحن مسلمون !!!
وهذا ما فقد في سلوك (المجاهدين!!! ) الذين أظهروا أن فهمهم للجهاد لا يعدوا أن يكون فعلاً للقتل قتل أكبر عدد ممكن من النَّاس الأبرياء المسالمين قبل المحاربين ،المسلمين قبل الكفَّار، الأصدقاء قبل الأعداء ،القتل للقتل، والبحث عن الشِّهادة ، القتل من أجل مزيد من القتل .
لأنَّ المناهج المدرسية والكتب الحركية والخطب في المناسبات الدِّينية تدعو "للقتل" تحت مسمى "الجهاد"قتل من يستطاع قتله بصرف النَّظر عن هوية المقتول وجنسه وعمره ودينه .
ولذلك طال القتل زهَّاداً في المساجد وهم في التسعينيات (كالشيخ الحبشي)( ) وأطفالاً رضعاً ونساءً حوامل ......الخ من المسلمين قبل غيرهم لأنَّ ساحات القتل هي البلدان والمجتمعات الإسلامية قبل غيرها وهذا ما تعبِّر عنه فتاوى قادة الحرب الإسلاميين الذين يعيشون لاجئين في عواصم الغرب (فتوى جواز قتل الذُّرية والنِّسوان)والعقيدة الغريبة في أنَّ دماء أهل الكتاب مباحة وليست محرمة .
وأوضح من ذلك استهداف المدنيين العزَّل بوضع المتفجرات على أبواب المساجد والكنائس والمعابد بل وتحويل الأبرياء إلي قنابل تقتل من يتواجد بالصُّدفة لحظة انفجار العبوة أو الصَّاروخ الموجَّه بدون تحديد للوجهة والهدف إلي مدينة ككابول"كما شاهدنا من يوجه إلقذيفة إلى كابول بدون جهاز توجيه وكأن الهدف إصابة أي مكان في المدينة هذا بعد سقوطها بيد المجاهدين" وأخيراً الطَّائرات المدنية التي استخدمت كصواريخ تقتل من فيها ومن تصدم به من الأبرياء الآمنين(كما حدث في 11سبتمبر2001م في نيويورك) حتى بات المدني في أيِّ مكان هدف للقتل أو أداة له دون أن يدري ما سبَّب حالة من الإرهاب والرُّعب يعاني منها كلُّ مدني وهذا زرع للخوف بدون معنى سوى الرَّغبة في زرع الرُّعب .
وإذا جوَّزنا ذلك للضَّرورة أو فعل ذلك في دار الحرب من غير ضرورة وجبت الدِّية والكفَّارة لعموم قوله تعالى {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [ النساء :92]
أما لو تعمَّد قتل مؤمن في دار الحرب فقال الشَّافعي :يجب القود في العمد وأبو طالب أوجب الديَّة مع الكفارة في العمد والخطأ وكذلك أبو حنيفة إلا أنَّه أسقطها في حال الدَّفع أي عندما يكون الكفَّار قاصدين لا مقصودين .
وحجَّة من أوجب الديَّة عموما قوله تعالى {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}.
وكذا احتج من أوجب الديَّة بقوله تعالى :(( فتصيبكم معرَّة )) والمعنى لو لم نمنعكم لقتلتم المشركين ومن بينهم ضعفاء المسلمين فتصيبكم معرَّة .
وعن جار الله الزَّمخشري: المعرَّة مع عدم العلم وجوب الديَّة والكفَّارة ، ومعناها ولولا كراهة أن تهلكوا قوماً مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عالمين بهم فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقَّة ، لما كفَّ أيديكم عنهم .
ثم بين سبحانه أنَّ الكفَّ ( عن قتل المشركين بمكة ) لهذا الغرض لا لكونهم غير مستحقين للقتل فهم الذين كفروا ثم أضافوا إلى كفرهم أن صدُّوا عن المسجد الحرام[ بالإضافة إلى ما سبق منهم من عدوان إخراج الرسول من مكة وإعلانهم الحرب عليه وتأليبهم القبائل في الأحزاب ...] وأنَّهم لو تزيلوا عن المؤمنين لما كففناكم عنهم ، بل يعذبون عذاباً أليما ).( )
وكما يلاحظ فالإجماع منعقد على تسمية قتل من لا يقاتل (قتلاً) والخلاف في العقوبة عليه (القود عند الشَّافعي )أو الديَّة عند غيره مع الكفَّارة .
وقد سماه المولى (عدواناً) وظلماً كما نصَّت الآية (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يُحب المعتدين ،واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ) والعدوان كما فُسِّر هو قتل من لا يقاتل من نساء وأطفال وشيوخ ورهبان وعبيد المحاربين وسيأتي بيانه لاحقاً) .
.
وكما هو ظاهر من نصِّ الآية (أُذن للذين يقاتلون) فالأصل كان المنع من القتال والإذن به معللاً بأنهم يقاتلون ظلماً وأخرجوا من ديارهم وكما هو معلوم من الدِّين بالضَّرورة فإنَّ الأصل في الدِّماء والفروج الحظر وليس الإباحة .
لأن القتال فيه إزهاق أرواح وهذا نقيض مقصد الشَّريعة حفظ الحياة، وحفظ الحياة المقصود به حفظ حياة المؤمن والكافر الإنسان والحيوان إلا ما أبيح إزهاقه لعارض ضرٍّ صدر منه أو منفعة من إزهاقه كالأنعام التي أبيحت بشرط المحافظة على النَّوع.
ولم نؤمر بقتل الكافر أو العاصي بل أُمرنا بالعمل على فتح أبواب الرَّحمة أمامه ،ولكي تظلَّ أبواب الرَّحمة أمام الكافر والعاصي مفتوحة حتى آخر لحظة من عمره لا بدَّ من العمل على المحافظة على حياته وإذا جاز قتله فللضرورة التي قد تكون نابعة من الدِّفاع عن حقِّ غيره في الهداية أي عندما تكون حياته خطراً مؤكداً على حياة غيره أو عائقا أمام حرية الغير في الاختيار الحرِّ (الهداية أو الهلاك) .
لقد خلق الله الإنسان وهو يعلم أنه سيكفر ويطغى ،والحياة هي هبة الله التي لا تعدلها هبة ومن أهدرها أو سلبها بدون وجه حقٍّ فإنَّه اعتدى على حرمة من حرمات الله بل أعظم الحرمات لأنَّ قتل النَّفس الواحدة بنصِّ القرآن كقتل النَّاس جميعا لأنَّنا جميعاً من نفس واحدة {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ ر َقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} .[النِّساء -92:94]
وبهذا يمكن القول بأن استهداف المدن الإسلامية أو غيرها من المدن التي لا تعيش الأمة حالة حرب معلنة معها ويعيش المسلمون فيها وهم آمنون على حريتهم في التعبُّد وحقوقهم المالية مصانة وينعمون بحق المساواة مع غيرهم أمام القانون حتى لو كانت الغالبية غير مسلمة عدوان وبغي و حرابة وخفر للذِّمَّة( ذمَّة الله ورسوله التي أوجبت الوفاء بالعهد ،بل أن إستهداف المدن حتى التي تعيش الأمة حالة حرب معها جريمة غير مبررة لأن استهدافها استهداف للمدنيين غير المحاربين
ومن شروط الوفاء احترام شروط الإقامة وعدم الغدر بمن يقيم المسلم معهم
وحرمة المؤمن من غير المسلمين كحرمة المسلم ولقد ثبت أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وآله وسلم قال محذراً أمته [لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض] وقال أيضاً [إذا تقابل المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النَّار ] وعندما سئل صلى الله عليه وآله ما بال المقتول أجاب لأنَّه أراد قتل صاحبه( )
وروي عنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم [ ما يزال المسلم أو المرء في فسحة من دينه أو من أمره ما لم يسفك دماً حراماً ]وهذا النص عام يشمل المسلم وغير المسلم
كما رويت عنه الكثير من الأحاديث والأقوال التي تنصُّ بوضوح تام على أن أكبر الكبائر بعد الشِّرك بالله أو مع الشِّرك بالله أو المعبِّرة عن الشِّرك والكفر بالله هي قتل النَّفس التي حرَّم الله ونصُّ الآية العظيمة {ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطئاً } نصٌّ صريحٌ على أنَّ قاتل النَّفس المعصومة لا يمكن أن يكون مؤمناً { ومن قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها }
( عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما )[أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من حمل علينا السِّلاح فليس منا]( )
( عن سالم عن أبيه ،قال بعث النبيَ صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة ،فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا ،فجعلوا يقولون صبأنا ،صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر،ودفع إلى كلِّ واحد منَّا أسيره وحتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كلُّ رجل منَّا أسيره، فقلت والله لا أقتل أسيري ،ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره حتى قدمنا على النَّبيَ ،صلى الله عليه وآله وسلم فذكرناه فرفع النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم يده فقال: اللهم إنِّي أبرأُ اليك ممَّا صنع خالد ،مرتين) . ( ) (وعن ابن عباس : أنَّ النَّبيَ صلى الله عليه وآله وسلم قال:[أبغض النَّاس إلى الله ثلاثة :ملحد في الحرم ،ومبتغ في الإسلام سُنة الجاهلية ،ومُطًلِبُ دمِ أمرىءٍ بغير حق ليهريق دمه]. ( )
{وذُكر (أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال لمن قتل الرجلين من بني سليم [بئس ما صنعت] ووداهما صلى الله عليه فهذا الحديث يدلُّ على أنَّه لا يجوز الفعل إلا بإذن من الرسول عليه السلام والإمام قائم مقامه ،وإن فعل عصى ووجبت الدِّية لما ورد من نهي في هذين الرجلين ،وقد جاء مثل هذا في إيجاب الدِّية أنَّ والد حذيفة ابن اليمان قتله المسلمون يوم أحد ظنُّوه كافراً فأوجب النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم الدِّية.
وفي حديث المسلمين أنَّه وداهما ،وحديث خالد بن الوليد وفعله مع الذين اعتصموا بالسِّجود فقتلهم وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يديهم ووداهم ،.
وقد شدَّد بعض الفقهاء .......فأوجب كما سبق القول: القود كالشَّافعي إذا اعتقد القاتل أنَّ المقتول على صفة وانكشف على غيرها كأن يظنّه كافراً وينكشف أنه مسلم أو يظنّه قاتل أبيه وانكشف أنَّه غير ..وعلَّل ذلك بأنَّ القتل لايستباح بالظَّن فكان متعدياً فيجب القود ).( )
*****
متى يتعين الجهاد؟
الأصل في الجهاد أنَّه فرض على الكفاية إذا قام به من يكفي لأداء الغرض منه سقط عن الباقين،
ولكنه كأيِّ واجب آخر يصبح فرضاً على معين في إحدى الحالات التَّالية:
1-( إذا قصد الكفَّار ديار المسلمين ولم يوجد من يكفي لدفع العدوان على القادر عليه بشرطه وكان النفير عاماً .
2-وكذلك بأمر المتولي الشَّرعي على شخص بعينه مع خلو الموانع .
3:-إذا شهد المسلم المكلَّف القادر القتال مع الكفَّار .
4:- النَّذر واشباهة كالعهد واليمين والإجارة أي العمل بأجر للجهاد كالجنود) .( )
ويشترط لوجوبه
أولا:- التكليف
والمكلَّف هو:-
ا:- العالم بالخطاب لأنَّ الجاهل معذور ومهمَّة الأنبياء والدُّعاة من بعدهم إزالة الجهل .
ب:- المستطيع والمتمكن من القيام بالمطلوب {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}.
ج:- الحرُّ لجهة الاستجابة لما يطلب منه أو عدمها ،والسَّلامة من الضَّرر أو العاهة قال تعالى { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا}[الفتح-17] (21)
وقال تعالى :-{لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} 22)[التوبة-91]
ثانيا:- الذُّكورة :-
لأنَّ جهاد المرأة حدَّدته الشَّريعة الإسلامية عن عائشة رضي الله عنها قالت ((قلت يا رسول الله نرى الجهاد أفضل الأعمال أفلا نجاهد ؟ قال لكن أفضل الجهاد وأجمله حجٌّ مبرور ثم الحصر _{تعني البيوت والحصر جمع حصيره} _ قالت فلا أدع الحجَّ بعد إذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ))( ) وعنها أيضا قالت قلت يا رسول الله هل على النِّساء جهاد ؟قال عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة))( ) وعن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جهاد الكبير والضعيف والمرأة الحج والعمرة).( )
والغاية من إعفاء الشَّريعة للمرأة من الجهاد القتالي حفظ الحياة حتى لاتتعرض للقتل لأنَّها أصل الحياة ، ولهذا كان النَّهي عن الإسراف في ذبح إناث الأنعام ولهذا ثبت النَّهي عن قتل المرأة المشركة .
ثالثا:- رضاء الأبوين
لا يجب عليه (والصحيح لا يجوز له ) الجهاد بدون إذن الأبوين إلا للضَّرورة بشرط أن لا يتضرَّر الوالدان أو أحدهما كأن يكون المنفق عليهما حتى لو كان الوالدين ذميين فيحرم خروجه للجهاد إجماعا ما لم يكونا (حربيين) لأنَّ النَّفقة ليست واجبة عليهما .
وقد استدل على ذلك بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله و سلم (إن رجلا هاجر إلى النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم من اليمن، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: هل لك أحد في اليمن ؟ فقال :أبواي،. فقال(ص)أَذنا لك؟ فقال لا، فقال (أي الرسول صلى الله عليه وآله )ارجع إليهما فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد و إلاَ فبرهما))( )
عن عبد الله بن عمرو قال جاء رجل إلى النَّبي فاستأذنه في الجهاد فقال صلى الله عليه وآله وسلم أحيٌ والداك ؟فقال نعم ، قال: ففيهما فجاهد رواه البخاري والنسائي وأبو داود والترمذي وصححه))( )
وفي رواية أتى رجلٌ فقال يا رسول الله إنِّي جئت أريد الجهاد معك ولقد أتيت وأن والديَ يبكيان قال[ صلى الله عليه واله وسلم] ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة) ( )
وعن معاوية بن جاهمة السلمي أنَّ جاهمة أتى النبيَ صلى الله عليه واله وسلم فقال يا رسول الله أردت الغزو وجئتك استشيرك فقال (أي النبي [ص])هل من أم ؟ قال نعم فقال الزمها فإنَّ الجنة عند رجليها )) رواه احمد والنسائي ،( )
ويؤكد الشَّوكاني على [أنَّ برَّ الوالدين قد يكون أفضل من الجهاد ..وفيه دليل على أنه يجب استئذان الابوين في الجهاد وبذلك قال الجمهور وجزموا بتحريم الجهاد إذا منع منه الابوان أو أحدهما لأن برَّهما فرض عين والجهاد فرض كفاية.]( )
لأنَّ ترك الواجب أهون من فعل المحرَّم أو المحظور وعقوق الوالدين محرَّم والجهاد واجب على الكفاية في الأصل ما لم يتعين الجهاد بأمر المتولي الشرعي وبشرط عدم تضرُّر الوالدين أو أحدهما .
رابعا:- عدم انشغال ذمَّته بدين حال الأداء أو واجب متعين عليه لا يقوم به غيره.
وقد جاء في ذلك عن أبي قتادة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قام فيهم خطيباً فذكر لهم أنَّ الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال فقام رجل فقال يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نعم إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب تكفر مقبل غير مدبر ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف قلت؟قال أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي ، ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدَّين، فإن جبرائيل عليه السلام قال لي ذلك) ( )
وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يغفر الله للشَّهيد كلَّ ذنب إلا الدَّين فإن جبريل عليه السَّلام قال لي ذلك.رواه أحمد ومسلم ) ( )
وعن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القتل في سبيل الله يكفِّر كلَّ خطيئة فقال جبريل إلا الدَّين فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا الدين .رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب ) ( )
..وفي حالة الدَّين المؤجل قولان؛:
- جواز الخروج للجهاد .
- و المنع منه.
وقد اختار المؤيد بالله يحيى بن حمزة(ع) في الانتصار المنع لخطر الحرب.
ويكره لمن في خروجه إضرار بأولاده ومن تجب عليه النفقة عليهم إلا للضَّرورة و إذا ضمن وجود من يؤدي عنه واجبه المتعين عليه بالإنفاق أو قضاء الدَّين ، والمسألة هنا راجعة إلى باب التزاحم (أي تزاحم الواجبات ) وفي حال الدِّفاع عن البيضة يصبح الجهاد فر ض عين على كل قادر عليه .
خامسا:- أن لا يكون ملتزماً بعهد أو أمان للمقاتلين من الكفار.
لأنَّ الوفاء بالعهود من أوكد الواجبات و روي أنَّ حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه التزم لقريش في غزوة بدر أن لا يقاتلهم مع النبي إن هم تركوه يذهب إليها وعندما أخبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عقب وصوله المدينة قبل معركة بدر أمره الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالوفاء بما التزم به . ويضيف الأمام أحمد بن يحيى المرتضى ووافقه عليه جمهور العلماء أنَّ حرمة خفر المسلم المُؤمَن من المحاربين لعهده معهم لأنَّ أمانهم له أمان لهم منه ولذلك لا يجوز له المشاركة في قتالهم ويحرم عليه (حتى شراء ماغنم منهم ) ويجب عليه ردُّه بل وأكثر من ذلك عليه الوفاء بشرط تأمينهم له مثل إعانتهم بالمال للحرب على المسلمين والذي لا يجوز له هو مشاركتهم قتال المسلمين وقد استدلَّ على هذا بأصل ونصٍّ أمَّا الأصل فهو واجب الوفاء بالعهود وحرمة الغدر والخيانة والنُّصوص المؤكدة لهذا الأصل كثيرة وقاطعة.
وقد جاء في صحيح البخاري (أنَّ النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:الغادر يُرفع له لواء يوم القيامة ،يقال هذه غدرت فلان بن فلان.)[ ]
لأنَّ ترك الواجب أهون من فعل المحرَّم أو المحظور وعقوق الوالدين وكذلك خفر الذِّمة أو نقض العهد أو خلف الوعد وعدم الوفاء بالعهد، محرم والجهاد واجب على الكفاية في الأصل ما لم يتعين بأمر ولي الأمر.
وتلخيصاً لما سبق نحدد الأحكام المتعلقة بموضوع الجهاد في النقاط التالية:
أن يكون بإذن المتولي الشَّرعي أو بأمره والمتولي الشَّرعي اليوم هو رئيس الجمهورية في البلدان الرِّئاسية ورئيس الوزراء في البلدان البرلمانية والملك في البلدان الملكية وهكذا أي ممثل السلطة المعترف بشرعيته دولياً أو من يؤدي دوره وقد يكون مقيداً بموافقة البرلمان
وأن يسبق بإعلان حالة الحرب تعلن أهدافه والغاية منه .
1-ويجب إذن الأبوين بل ويحرم إلا بإذنهما إذا كان المنفق عليهما .
2:-ولا يجوز للمدين بدين حال الأداء إلا بإذن الدائن .
3:-ويجب إعلان الحرب و الدَّعوة إلى السَّلام قبل القتال .
4:-ويحرَّم قتل النِّساء والأطفال والشِّيوخ -إلا للضَّرورة والمحدَّدة بخشية الاستئصال وعندما يكون المسلمون مقصودين لا قاصدين ويشترط الغزالي أن تكون الخشية معلومة لا مظنونة لأنَّ الظَّن لا يكفي لإهدار دم معصوم حتى ولو كان كافراً -
5:-وتحرم المثلة .
6:-ويحرم الإحراق بالنار أو التجويع وقطع الماء وحرق الأشجار إلا للضَّرورة .
7:-والرمي بالمنجنيق (ومن باب أولى ما هو أعظم ) إلا عند خلو المكان المرمي ممَّن لا يجوز قتله من الأطفال والنِّساء والشِّيوخ والرُّهبان والعسيف مسلمين كانوا أو مشركين معاهدين كانوا أو محاربين .
8:-ويحرَّم قتل الرُّسل ، والسُّفراء وأعضاء البعثات الدِّبلوماسية ومن في حكمهم ،فحكمهم حكم الرُّسل بل هم رسل مقيمون .
9:-كما يحرَّم قتل (المُؤُمَن ) من الحربيين المقاتلين، وحرمة قتل غيرهم من باب أولى وحرمة قتلهم أشهر وأعظم من حرمة الزِّنا ، وهي محل اتفاق بين المسلمين ومعلوم أنَّ التَّأشيرة التي توضع على الجواز عند الدُّخول إلى البلد المسلم أو الإذن بالإقامة أو المجيء بدعوة من مواطن له حقُّ الإقامة المشروعة تعتبر أماناً ملزماً لكلِّ مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر.
مراحل التكليف بالجهاد
في السَّنة الثَّانية للهجرة (فرض الله القتال وأوجبه بقوله تعالى { كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لاتعلمون} {14}
نجد ان من يجوزون القتال الابتدائي يحددون له مراحل مكن أن نستخلصها مع سيد قطب نقلاً عن ابن قيم الجوزية كما ذكر في كتابه الأشهر معالم في الطريق المراحل التَّالية:-
الأولى :-الكفّ والإعراض والصَّبر على الأذى مع الاستمرار في الدَّعوة .
الثانية:-إباحة القتال من غير فرضه (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ(39)
الثالثة :-فرض القتال على المسلمين لمن يقاتلهم فقط:
قال تعالى (((وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(190)( ) روى ابن كثير أن ((هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة فكان رسول الله صلىالله عليه وآله وسلم بعد نزولها يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه حتى نزلت سورة براءة ونقل عن عبد الرحمن بن أسلم القول بأن هذه منسوخة بقوله تعالى (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(5)( ) وفي هذا نظر (والكلام لابن كثير) لأن قوله تعالى (الذين يقاتلونكم ) إما هو تهييج وإغراء بالأعداء الذين همَّتهم قتال الإسلام وأهله أي كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم كما قال ( وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ) ولهذا قال في هذه الآية (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ) أي لتكون همتكم منبعثة على قتالهم كما همتهم منبعثة على قتالكم وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها قصاصاً .
قوله تعالى {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } أي قاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا في ذلك ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي كما قاله الحسن البصري من المثلة والغلول وقتل النِّساء والصِّبيان والشِّيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم والرهبان وأصحاب الصَّوامع وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة كما قال ذلك عن ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومقاتل بن حيان ولهذا جاء في صحيح مسلم عن بريده أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول [اغزوا في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولاتقتلوا وليداً ولا أصحاب الصوامع ] رواه الإمام أحمد وعن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا بعث جيوشه قال اخرجوا باسم الله قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله لا تعتدوا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع )) رواه الإمام أحمد ولأبي داود عن أنس مرفوعاً نحوه وفي الصحيحين عن ابن عمر قال وجدت امرأة في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قتل النساء والصبيان ....وعن حذيفة ضرب لنا رسول الله مثلاً فقال [إنَّ قوماً كانوا أهل ضعف ومسكنة قاتلهم أهل تجبر وعداوة فأظهر الله أهل الضعف عليهم فعمدوا إلى عدوهم فاستعملوهم وسلطوهم فأسخطوا الله عليهم إلى يوم القيامة ] وهو عند أحمد وهو حسن الإسناد.
{ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاءُ الكافرين} يقول في تفسيرها فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعاً للصَّائل كما بايع النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه يوم الحديبية تحت الشَّجرة على القتال لمَّا تألبت عليه بطون قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ ثم كفَّ الله القتال بينهم فقال {ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء ، لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا ً أليما }
وقوله تعالى {فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} عمَّا هم فيه من الشِّرك وقتال المؤمنين فكفُّوا عنهم فإن قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم ولا عدوان إلا على الظالمين وهذا معنى قول مجاهد أن لا يُقاتَلْ إلا من قَاتَل ....والخلاصة التي نودُّ الخروج منها أنَّ ابن كثير يؤكِّد على أنَّ من المناهي قتل النِّساء والولدان والشِّيوخ الذين لا يقاتلون والرُّهبان وأنَّ هذه الآية نصٌّ في أنَّ القتال هو لردِّ العدوان وأنَّ على المسلمين أن لا يعتدوا بقتل من لا يجوز قتله سواءً من لا يقاتل وهو باقٍ على الكفر وقادر على القتال ولكنَّه لا يفعل أو النِّساء والولدان والشِّيوخ وأصحاب الصَّوامع الرُّهبان)( )
وهنا يثار إشكال وهو إذا تجاوز العدو فقتل الطِّفل والمرأة والشِّيخ منَّا هل من حقِّنا أن نتجاوز فنقتل منه من لا يجوز لنا أن نقتلهم !!!؟
و هذا الإشكال طرح ويطرح من قبل من ينظرون إلى أنفسهم وكأنَّهم (كمسلمين قبيلة كأي قبيلة أو قومية كأي قومية غير مقيدين بقيم الإسلام التي لن يكونوا مسلمين إلا عندما يلتزمون بها وإذالم يفعلوا فإنَّ حربهم كحرب غيرهم وهم أسوأ لأنَّهم يخالفون الرِّسالة التي يدعون الالتزام بها )
الإسلام حرَّم على المسلم قتل من لا يقاتله وإذا تجاوز العدو - ومن المتوقع أن يفعل ذلك لأنَّه غير مسلم - فإنَّنا إذا تجاوزنا مثله فإنَّنا نعتدي على غير القاتل فالقاتل ليس الطِّفل وليست المرأة وليس الشَّيخ أو الرَّاهب ولذلك فإنَّ قتلهم بنصِّ الكتاب الكريم ( عدوان وظلم ) وهو بالإضافة إلى ذلك سقوط وتشبه بإخلاق من لا دين له وإذا كنَّا مثلهم في الفعل فبماذا نحن أفضل منهم كمسلمين ، لقد ضرب الله لنا مثلاً بخبر ابني آدم فمن هو قدوتنا منهما ؟؟
الرابعة :-قتال الكفَّار ابتداءً: وهي محل خلاف لأنَّ من يقول به فبناء على القول بأن الباعث إلى القتال الكفر بصرف النَّظر عن الحرابة ومن يقول بأنَّ الحرابة هي الباعث إلى القتال بصرف النَّظر عن وجود الكفر من عدمه لا يرى هذا الرأي (أي القول بالقتال ابتداءً) ويستدلُّ من قال بها بقوله تعالى { انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} التوبة41) وهذا ما سنتعرض له لاحقاً .
وقفة مع غزوات النَّبي
لما كانت أكثر أحكام الجهاد تأخذ من السِّيرة النَّبوية فإنَّ الضَّرورة تقضي استعراض غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولو بصورة موجزة وقبل أن ننقل ملخص للبحث الذي نشره العلامة الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي ونشر في جميع أنحاء العالم عن طريق شبكة الإنترنت والصُّحف والمجلات قبل ذلك نودُّ أن نؤكِّد على أنَّ السِّيرة النَّبوية الشَّريفة لم تدوَّن إلا بعد زمن من وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والرِّوايات لم تخضع لنفس المنهجية الصَّارمة التي خضعت لها الأخبار المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ،وكتابها أسقطوا عليها من ثقافتهم التي كانت تخلع على الإنسان الكامل ممثلاً في المصطفى عليه وآله الصلاة والتسليم من صفاتها (الشَّجاعة كأبرز صفة تغنى بها العربي وتتجلى في مقارعته للخصوم،والحزم والشدَّة كصفة كانت محتاج إليها في الخليفة أو الملك كما تجسدت في الحسم الذي اتصف به بعض الولاة كالحجَّاج وزياد ....الخ من الصِّفات ولذلك فإنَّ الواجب الحذر من التَّسليم بصحة كلِّ ما روي عن السيرة فالكثير منه بحاجة للنَّقد والتَّقويم والعرض على القرآن فقد كان صلى الله عليه وآله خلقه القرآن)
(ومما استدل به (الهجوميون) على دعواهم في وجوب قتال العالم ما زعموه من أنَّ الرَّسول في أكثر غزواته كان هو البادئ بالهجوم، والطَّالب للعدو، والغازي له في عقر داره.
وهي دعوى مبنية على قصر النَّظر وضيق الأفق في تقويم أحداث السِّيرة، والنَّظر إليها من الزاوية القريبة دون النَّظر إلى جميع الزَّوايا والأبعاد، وعدم استيعاب ما ورد في أسباب الغزوات وملابساتها استيعابًا يضيء السَّبيل للباحث الذي ينشد الحقَّ، وليس المتعصب لرأي ولا يريد أن يتزحزح عنه.
لا شكَّ في أنَّ من غزوات الرسول -صلى الله عليه(وآله) وسلم- ما كان هجومًا من المشركين على المسلمين، كما في أحد والخندق، وبعض ما قد يحسب أنه ابتداء من المسلمين، هو عند التأمل دفاع أو وقاية.
(فمن قال إنَّ الرسول هو البادئ بالقتال بدون سبب يوجبه من المشركين، فقد أعظم الفرية عليه، وقال بما لم يحط به علمه، ويخشى من تعدي غلطه إلى بعض من يسمعه من جهلة العوام، وضعفة العقول والأفهام، فيظنُّونه حقا، وهو بالحقيقة باطل.
فمن دلائل القرآن قوله سبحانه: "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ..." [الحج: 39- 40].
فأثبت سبحانه في هذه الآية بداية المشركين بالاعتداء بالقتال على الذين أسلموا من أصحاب النبي -صلى الله عليه(وآله) وسلم- وأنهم ساموهم سوء العذاب ليردوهم عن دينهم كما قال سبحانه: "وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا" [البقرة: 217] وهذا القتال يشمل الضَّرب والتَّجريح.
فقد كان الصحابة يأتون إلى رسول الله -صلى الله عليه(وآله) وسلم- منهم المضروب، ومنهم المجروح، وقد توفيت سميَّة أم عمَّار تحت التَّعذيب لصدِّها عن دينها، كما توفي زوجها ياسر. وكان رسول الله -صلى الله عليه(وآله) وسلم- يمرُّ عليهما وهما يعذبان ويقول: "صبراً يا آل ياسر فإنَّ موعدكم الجنة"، وقد كانوا يحمون الحجارة ويضعونها على بطن بلال وظهره ويقولون له: قل واللات والعزى، ويقول هو: أحد أحد.
ولهذا قال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}. فأثبت ظلم المشركين في تعذيبهم للمؤمنين بفنون التَّعذيب والأذى، ولا ذنب لهم إلا أنَّهم يقولون: ربنا الله ونبينا محمد. {وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ}
فقد أحرجوا الصِّحابة حتى أخرجوهم من بلدهم، والإخراج من البلد نظير القتل في كتاب الله، فقد خرج فوق الثَّمانين من الصِّحابة ما بين رجال ونساء إلى الحبشة، يمشون على أرجلهم حتى أتوا ساحل البحر، فراراً بدينهم من الفتنة، وبأبدانهم من التَّعذيب، وخرج بعضهم مهاجرًا إلى المدينة.
والنَّبي -صلى الله عليه(وآله) وسلم- خرج مهاجرًا خائفًا مختفيًا يقول (مخاطبًا مكة): "والله إنَّك لأحبُّ بلاد الله إلي، ولولا أنَّ قومي أخرجوني منك لما خرجت"، وكان أهل مكة يصادرون أموال كلِّ من هاجر إذا لم تكن له قبيلة تحمي ماله، كما صادروا أموال صهيب الرومي، وأنزل الله فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207]. ولهذا قال الصِّحابة: ربح البيع صهيب.
ومنها قوله سبحانه: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحشر: 8].
فأثبت سبحانه أنَّ المشركين أخرجوا المستضعفين من بلادهم وأموالهم، في سبيل هجرتهم ونصرتهم لرسول الله يبتغون بذلك فضلا من الله ورضوانا، ولا ذنب لهم إلا أنهم آمنوا بالله ورسوله.
ومنها قوله سبحانه: {إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُون} [الممتحنة: 2]. فبسط اليد بالسوء هو الضَّرب والتَّجريح والشّجاج وبسط الألسنة بالسوء أي بالسبِّ واللَّعن والسُّخرية وسائر الأذية.
ومنها: أنَّ الله سبحانه أكَّد ابتداء المشركين بالاعتداء على النَّبي -صلى الله عليه(وآله) وسلم- وعلى أصحابه في بداية الأمر ونهايته، فقال سبحانه:[أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 13 – 15]. فأثبت سبحانه بداية المشركين بالاعتداء على الرَّسول وأصحابه في بداية الأمر ونهايته، وأنَّهم نكثوا أيمانهم وعهودهم التي أبرموها مع الرًَّسول في صلح الحديبية، وأنَّهم همُّوا بإخراج الرَّسول كما حصروه مع عمه أبي طالب في الشِّعب، يطالبون أبا طالب بتسليمه إليهم ليقتلوه. وهذا معنى قول أبي طالب في قصيدته:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوسَّد في التراب دفينا
وإنَّما اشتد الأذى بالرَّسول بعد موت أبي طالب، بل وهمُّوا بقتله حيث اتفقوا أن يدفعوا لكلِّ رجل سيفًا فيضربوه جميعا بسيوفهم، فيضيع دمه بينهم، فأطلع الله رسوله على ذلك، وأذن له بالهجرة، وأنزل الله: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
ومنها قوله سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ} [الممتحنة: 1]. أي لأجل إيمانكم بربِّكم.
فأثبت سبحانه شدَّة عداوة المشركين لله ورسوله وعباده المؤمنين وأنَّه يحرم على المؤمنين موالاتهم بإظهار المودَّة لهم، وقد كفروا بما جاءكم من الحق الذي هداكم الله إليه. ثم قال: يخرجون الرَّسول من بلده، لأنَّه خرج من مكة مكرهاً وخائفاً مختفياً، كما خرج المؤمنون فراراً بدينهم من الفتنة، وبأبدانهم من التَّعذيب؛ لأجل إيمانهم بربِّهم.
مثله قوله سبحانه: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 9] فأثبت سبحانه قتال المشركين للمؤمنين على الدِّين لأجل إيمانهم بربِّهم، ليردُّوهم بطريق الإكراه إلى ملَّة الكفر التي أنقذهم الله منها.
فهذه كلُّها آيات محكمات لا نسخ فيها ولا تبديل ولا تخصيص، ولا يجوز لأحد تغييرها ولا النَّظر في رأي يخالفها.
وأما الاستدلال بفقه السِّيرة مما يثبت ابتداء الاعتداء من المشركين على رسول الله وأصحابه، وأنَّه إذا قاتل فإنَّما يقاتل لصدِّ العدوان عن الدِّين، وكفِّ الأذى والاعتداء عن المؤمنين، فليس هذا بالظَّن ولكنَّه اليقين.)( )
(أما مسألة الجهاد بالدِّفاع عن الدِّين وعن أذى المعتدين، فقد اعتنى العلماء المتأخرون[ ] بتصحيحها وتمحيصها أشدّ من اعتناء الفقهاء المتقدمين حتى ارتفعت عن مجال الإشكال والغموض إلى حيز التَّجلي والظُّهور. فضعف فيها الخلاف وكاد ينعقد عليها الإجماع. وإن غزوات الرَّسول كلَّها دفاع عن الدِّين وكفُّ أذى المعتدين على المؤمنين، وليس هذا بالظَّن ولكنَّه اليقين)( ).
ونشير الآن إلى غزواته وأسبابها التي أشار بعضهم بأنها وقعت من الرَّسول بطريق الابتداء بدون سبق عدوان من المشركين، فمنها:
(حديث العير والنَّفير حيث خرج رسول الله -صلى الله عليه(وآله) وسلم- في بعض أصحابه يريدون عير قريش. ومن المعلوم أنَّ قريشًا هم الأعداء الألداء والبادئون بالاعتداء على الرسول وأصحابه، وقد استباحوا تعذيب الصِّحابة وأخذ أموالهم، فهم أئمَّة الكفر، الحلال دمهم وأموالهم، أفَيُلام رسول الله وأصحابه عندما حاولوا أخذ العير ليتقووا بها على حرب عدوِّهم، كما كان عدوُّهم يفعل ذلك بهم فيأخذون أموال المهاجرين؟ إذ هذا من باب المقاضاة بالمثل، وقد قيل: الشَّرُّ بالشَّرِّ والبادئ أظلم. يقول تعالى: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [النحل: 126]. وقال: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40]، وقال:{وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيل}[الشورى: 41].
أما وقعة بدر فقد حدثت على غير ميعاد سبق، وكان الرَّسول قد كره وقوعها. وقد نزل مع أصحابه بالعدوة الدُّنيا مما يلي المدينة، ونزل المشركون بالعدوة القصوى مما يلي مكة، وقد أرسل أبو سفيان إليهم يطلب منهم أن يرجعوا قائلا: إنَّ عيركم وأموالكم قد سلمت، فارجعوا إلى بلادكم، لكنَّهم كما أخبر الله عنهم خرجوا بطراً ورئاء الناس، ويصدُّون عن سبيل الله، ومعلوم قرب بدر من المدينة، فهم قصدوا حرب الرَّسول وأصحابه بطريق التَّحرش بهم. وكان سبب بداية القتال: أن أبا البختري قال: "والله لأردنَّ حوض مياه محمد، ولأكسرن حوضهم. وفعلا اندفع يريد أن يهدم الحوض، فتلقاه حمزة بسيفه فقطع رجله، ثم انعقد سبب القتال بين الفريقين.
فقتال الرَّسول لهم في بدر هو قتال لدفع شرِّهم وعدوانهم، فهو جهاد بالدِّفاع. ولم يكن قتاله لهم لإكراههم على الدين حسب ما يظنُّه الكاتب، ولم يكن وقع ابتداء من الرَّسول بدون عدوان يوجبه منهم، بل هم البادئون بالاعتداء والمعلنون بالحرب لله ورسوله والمؤمنين. )( )
(ومثله قتال الكفَّار المشركين للرَّسول وأصحابه يوم أحد حيث غزوا الرَّسول وأصحابه في بلادهم فقتلوا سبعين من أصحاب رسول الله، وهل كان قتال الرَّسول لهم إلا دفعًا لشرِّهم. ثم إنَّهم تحزبوا على حرب رسول الله وأصحابه يوم الأحزاب، ومعهم عرب الحجاز ونجد، ونقضت اليهود العهد الذي بينهم وبين رسول الله، ودخلوا مع قريش في حرب الرسول فتبعهم يهود بني قريظة لظنهم أنها الفاصلة المستأصلة للرَّسول وأصحابه، حتى ضرب النَّبي على المدينة خندقاً يمنع تجاوز الخيل. وبلغ الخوف مع الرَّسول وأصحابه إلى نهاية الشدَّة، وأنزل الله فيه صدر سورة الأحزاب وفيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 9 – 10] إلى قوله: {وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} [الأحزاب: 25، 26].
أيقال إنَّ الرسول هو البادئ بالقتال لكفرهم، وهم لم يبقوا للصُّلح موضعاً، مع الرَّسول وأصحابه، ولم يألوا جهداً في فتنتهم للمؤمنين وتعذيبهم {إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 2].)( )
(وأمَّا قضية هوازن حيث صرَّح الكاتب عنها قائلا: "إنَّ حروب الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لهوازن وحصاره للطَّائف، حيث كان الرَّسول هو البادئ للقتال لنشر هذا الدِّين بين النَّاس، ولم تكن الغزوات منه، لأنَّهم قاتلوه أو اعتدوا عليه، فإنَّهم لم يسبق لهم ذلك إلا في نادر الأحوال".)( )
(و سبب هذه الغزوة التي أنزل الله في شأنها: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 25، 26].
وقد ذكر ابن إسحاق وغيره أنَّه لمَّا فتح الله مكة على رسوله والمؤمنين، وسمعت هوازن بذلك، فشرقوا بهذا الفتح حنقاً وبغضاً للرَّسول وأصحابه، وولاء ومحبة منهم لقريش، فعزموا أن ينتقموا من الرَّسول وأصحابه، فجمعهم ملكهم (مالك بن عوف النَّضري) فاجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلُّها على بكرة أبيها، واجتمع إليه نضر وجشم كلُّها، وسعد بن بكر، وناس من بني هلال، وكثير من شتى القبائل، ومن عرب الحجاز ونجد، ومعه يومئذ دريد بن الصُّمة، وهو كبير يحمل في هودج، ليأخذ من رأيه، حيث إنه مجرِّب في الحروب، فزحفوا بجمعهم من عوالي نجد بأهلهم وعيالهم وأموالهم لقصد الحفيظة حتى لا يفُّروا عن القتال، ونزلوا بعسفان بين مكة والطَّائف، ليفاجأ الرَّسول وأصحابه بالهجوم عليهم من قريب، لظنِّه أنَّ أهل مكة المغلوبين سيكونون عوناً له على القتال معه.
ولما سمع رسول الله بخبرهم، خرج إليهم بمن معه من أصحابه، وبعض أهل مكة، ومنهم مسلمون، وبعضهم باقون على شركهم، فوصل إليهم رسول الله في عماية الصُّبح، بعد فتح مكة بعشرة أيام. وقد كانت هوازن قد كمنوا في الشِّعاب والمضايق، وقد تهيئوا لينفروا جميعا. ولم يرع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه(وآله) وسلم- إلا والكتائب قد شدَّت عليهم شدة رجل واحد، فشمَّر الصِّحابة راجعين، لا يلوي منهم أحد على أحد، وانحاز رسول الله ذات اليمين، وهو يقول: "إليّ أيها الناس هلموا إليّ أنا رسول الله"، وقد بقي معه نفر من المهاجرين وأهل بيته، منهم أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي والعباس وأبو سفيان بن الحارث والفضل بن عباس وربيع بن الحارث، وأسامة بن زيد وأيمن بن أم أيمن، وقتل يومئذ.
ولم يتراجع القوم إلا وبعض الأسرى عند رسول الله، ولم يقتل أحد منهم بعد أسرهم، وتفرَّقت هوازن ومن معهم، وفرَّت ثقيف إلى بلدهم. أفيصدق أن يقال -والحالة هذه- إنَّ الرَّسول هو البادئ بقتال هوازن بدون سبب يوجبه منهم؟ وهل بقي من هوازن إلا هجومهم على الرَّسول في مكة؟ ولا يدري عن سوء عاقبة هذا الهجوم، فإنَّه ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلّوا وساءت حالهم، وقد قيل: كلُّ محصور مأخوذ.)( )
(وأما حصاره للطَّائف، فإنَّ ثقيفاً على بكرة أبيهم كانوا مع هوازن في الحرب على رسول الله، فلما نصر الله رسوله والمؤمنين فروا إلى بلدهم، وتحصَّنوا فيها، فهم مستحقون للقتل والقتال لثلاثة أمور:
أحدها: مشاركتهم لهوازن على حرب رسول الله فهم محاربون لله ورسوله وعباده المؤمنين والله يقول: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به". وقال: "ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل".
والأمر الثاني: أنَّ الرَّسول جاءهم قبل الهجرة وطلب منهم أن يُؤووه وينصروه حتى يبلغ رسالة ربِّه، وقد قيل: إنه مكث عندهم عشرة أيام، فلما أحسُّوا أنَّ بعض ثقيف مال إليه وصدق دعوته أرسلوا عليه سفهاءهم، فكانوا يرمونه بالحجارة، ورؤساؤهم ينظرون إليهم ويضحكون من فعلهم، وهم يقولون: مجنون كذاب. وزيد بن حارثة يقيه ببدنه عن وقع الحجارة فيه، حتى رجع كئيباً حزيناً من فعلهم.
والأمر الثَّالث: أنَّه بعدما فرغ رسول الله من أمر هوازن ذهب إلى ثقيف رجاء أن يثوب إليهم عقلهم، فيفتحوا له الباب، ويسهلوا له الجناب، حتى يبلغ رسالة ربِّه في بلدهم، كما فعل أهل مكة. ومن سيرته: أنه لا يعاقب أحدًا بجريمة سلفت منه مهما عظمت متى خلّوا بينه وبين نشر دعوته في بلدهم، لكنَّهم عصوا وتمرَّدوا، وناصبوه العداء، فرماهم بالمنجنيق ونصب عليهم الدَّبابة، فكانوا يحمون النِّبال بالحديد، ويرمون بها من في الدَّبابة ويرمون الصِّحابة من وراء الجدران، وفي السُّطوح، حتى قتلوا سبعة من أصحاب النبي، فانصرف عنهم وتركهم حتى هداهم الله للإسلام، وأتوا إليه طائعين.
وأما غزوه لتبوك ...فإنَّ سببه: أنَّه بلغ رسول الله -صلى الله عليه(وآله) وسلم- أنه اجتمع جنود من بلخ وجزام وغسان، وبعض متنصِّرة العرب، وقد اجتمعوا في تبوك، يريدون غزو رسول الله وأصحابه، وقد قدموا مقدماتهم إلى البلقاء وذلك عام 9 من الهجرة، فندب رسول الله -صلى الله عليه(وآله) وسلم- أصحابه عام العسرة، أي زمن جهد ومجاعة وانقطاع ظهر، فخرج في ثلاثين ألفًا من أصحابه، فكانوا يمرُّون على قبائل العرب من الحضر والبدو بوادي القرى، والذين لم يدخلوا في الإسلام بعد، حتى وصلوا إلى بلدة تبوك، وبها من بها من الناس، فلم يرع أحدا منهم بقتل ولا قتال؛ لأنَّه إنَّما قصد الذين ظاهروه بالعداوة، وبرزوا لحربه وأصحابه، لكنَّه في سفره لم يلق كيدا، ووجدهم قد تفرقوا. فرجع إلى بلده مؤيداً منصوراً. فهذه المقدِّمة نشير فيها إلى بعض الفقرات من المقتطفات التي ذكرها الكاتب، وكلها مفصلة بأسبابها في ضمن الكتاب)( )
(الأسباب التي دفعت إلى معركة مؤتة معروفة، ولعل كتَّاب السِّيرة المحدثين، أقدر على تصوير هذه الأسباب من الكتَّاب القدامى، فقد أرسل النَّبي -صلى الله عليه(وآله) وسلم- واحداً من رجاله بكتاب إلى أحد الأمراء الغساسنة يدعوه إلى الإسلام، وهؤلاء الأمراء كانوا موالين للرُّوم، يدينون دينهم وينفذون سياستهم، وقد شعروا مع سادتهم بالقلق للدِّين الجديد وللنَّجاح الذي يلقاه، فماذا يصنعون؟ عمد الأمير الذي جاءه كتاب النَّبي إلى الكتاب فطوح به، وإلى حامله فقتله!! واستعد مع الرومان لمواجهة تبعات هذا الموقف الآثم...!
ماذا تفعله أي دولة تهان دعوتها ويقتل رجلها على هذا النَّحو؟ لا بدَّ أن تقاتل! والقتال الذي فرضته الظُّروف صعب، فإن الرُّومان شدُّوا أزر الأمير القاتل بعشرات الألوف من جيشهم الكثيف.
وواجه الرِّجال الذين قاتلوا في (مؤتة) معركة قاسية، استشهد فيها القادة الثَّلاثة الذين التحموا مع الرومان وحلفائهم، واستطاع خالد بن الوليد أن ينسحب بالجيش، وأن يجنبه خسائر لا آخر لها.
إنَّ التَّوسع الإسلامي لا يعتمد على القتل، وحروب العدوان، إن العملة المتداولة في ميدان الدَّعوة الإسلامية هي الفكر الحر!!.
ومقاتلة الإسلام للرُّومان كانت أشرف قتال عرفته الدُّنيا؛ لأنَّ الإمبراطورية العجوز استهلكت شعوباً كثيفة داخل سجونها قروناً طويلة.)( )
(عندما تعرض الحق على النَّاس في بيئة جاهلة به، فلن يقول لك المستمعون: أهلا وسهلا! سيكون هناك مستغربون، وسيكون هناك رافضون! وربما آمن البعض على عجل، وربما قاوم بعضهم بضراوة، ولن تتحدد المواقف إلا بعد آماد طوال يصبر فيها الدُّعاة، يقابلون الهزء بالسَّكينة، والاستفزاز بالحلم.
كذلك كان الأنبياء على امتداد العصور، وكذلك كانت سيرة خاتمهم محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام- مع ما تميزت به رسالاتهم من وضوح وتجرد وإشراق)( ).
(أما اليوم فالدَّعوة مثقلة بما يضيرها أو يزهِّد فيها.. هناك من يدعو إلى الشَّكل قبل الموضوع، وإلى النَّافلة قبل الفريضة، وإلى الحكم الفرعي قبل القاعدة الكلِّية، وإلى ما فيه خلاف قبل ما لا خلاف فيه! ثم يدقُّ طبول الحرب وهو صفر اليدين من سلاح يجدي، فإذا الغبار ينجلي عن هزيمة مضاعفة للحقِّ، إنه انهزم مرتين، مرة في ميدان الدَّليل، ومرة في ميدان القتال!
وبهذا الفكر المعتل يكتب دعاة عن قيام الإسلام على السَّيف، واجتياحه للخصوم، ورغبته في الهجوم!
ويرجعون إلى الكتاب الكريم والسُّنة المطهَّرة، كي يحرفوا الكلم عن مواضعه، أو يقلبوا النُّصوص رأساً على عقب.)( )
ويرد على من يقول بأن غزوات الرسول حروب هجومية بالقول:
(إنَّ النَّبي –عليه(وعلى آله) الصلاة والسلام- أخرج من مكة هو ومن آمن به بعد ثلاث عشرة سنة حافلة بالآلام والأحزان.
ولم تهدأ عداوة قريش ضد الإسلام بعد الهجرة، بل وثبت على كل من شرح بالإسلام صدرًا من أهل مكة، فنكلت به، وكان دعاء المستضعفين والمفتونين: { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا} [النساء: 75].
فهل يوصف قتال المسلمين لقريش بأنه حرب هجومية بعد هذه الأحداث الواضحة؟ )[ ]
**********
واجتهادات (أبو الأعلى المودودي) ومن وافقه كالشَّهيد (سيد قطب)موضوعها الخروج على الظَّالم باعتبار أنَّ القتال الذي حثَّ عليه أو أجازه موجَّه ضدَّ الدَّولة الحاكمة بغير حكم الله في المجتمعات المسلمة ولا يعدوا من قلَّدهما هذا الموقف لذلك لم يتعرضا بالذِّكر لشرط إذن المتولي الشرعي،
وهنا نصل إلى سؤآل هل مايحدث في المدن الإسلامية والمدن بشكلٍ عام من عمليات تفجير وقتل جهاداً؟
لقد حاولنا البحث ما أمكن عن كل نص في الكتاب الكريم أو السنة النبوية أو في كتب الفقه لمختلف المذاهب الإسلامية يمكن أن يكون سنداً ولو بتأويل متعسف يبرر للآمر والمخطط والمنفذ الإقدام على هذه الأفعال التي تستهدف المدن المسالمة الأمنة إلا أننا لم نجد
مما يؤكد أن ما يحدث هو قتل للقتل لايمكن أن يبرر على الإطلاق حتى بقيم الجاهلية الأولى
وهو ليس خروجاً على الحاكم الظالم لأن الخروج محكوم بشروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
كما أنه ليس دفاعا عن النفس لأن الجماعات التي تقوم بمثل هذه العمليات أو التي تنسب اليها لاتقاتل من يقاتلها وإنما تقتل من لايقاتلها في الغالب
ولذلك فنحن نعتقد أن من يفعل هذه الأ فعال سواءً التي في الرياض وقبل ذلك في المغرب واليمن ومصر وأندنوسيا وبعد ذلك في تركياأو أي مدينة في العالم من المدن الآهلة بالسكان الآمنين بصرف النظر عن دينهم ومذهبهم لايمكن أن يكون مسلماً سوياً لأن هذه الأعمال بالإضافة إلى عدم شرعيتها الدينية إسلاميا ً تمثل عدوانا ً على أمن الأمة ومصالحها وإقتصادها ووحدتها ويشوه صورة الإسلام والمسلمين ويسبب للمسلمين في العالم (حرجا ً كبيرا ً لأن قتل المدنيين في المدن الآمنة االمسالمة باسم الإسلام ومن قبل إسلاميين يخيف كل عاقل من كل إسلامي ملتزم )
*****
*****
لقد كان الإسلام ينتشر في أمريكا وأوربا(قبل 11سبتمبر2001) انتشار الرياح ويتمتع الإسلاميون بحرية ليس للدعوة فقط بل وامتلاك المواقع الاقتصادية بشكل متنامي
*****
**********
ولكي لايظن جاهل أن في أحكام الإسلام ما يبرر ماحدث ولما لاحظناه من جهل بأحكام الجهاد فقد بادرنا إلىكتابة هذه الأسطر عن الجهاد في الاسلام بهدف نشرها لإثارة من يملك القدرة والوقت أكثر منا على المشاركة ليُميز الجهاد عن أفعال القتل التي تنسب إليه، ونرجو بهذا أن نفتح الباب لمن هو أقدر وأجدر منا بالكتابة على التصدي للموضوع بصورة أعمق وأوضح مما هو عليه في هذه المحاولة الخجولة ومن خلال التعريف بالجهاد وبيان أحكامه سيتضح لنا أن أغلب ما ينسب إلي الجهاد ليس منه في شيء بل إنه حرابة وفساد في الأرض لم تعرفه الانسانية من قبل، لأنه مجرد قتل عبثي يفتقر لأي شرط من شروط الفعل الإنساني حتى في صورته العدائية البشعة وأبشع ما فيه أنه يشوه ملامح الرسالة الإسلامية ويحول بين الناس وبين معرفة الإسلام (الرحمة)
لقد كان بالإمكان معرفة دوافع وأهداف ومقاصد وغايات قطاع الطرق وحدود عنفهم ويمكن التنبؤ بسلوكهم لأن قاطع الطَّريق (المحارب أو الباغي أو الخارجي) محكوم بالعرف العام الذي وضع حدوداً لأي عنف وحدد قيماً أخلاقية يجب إحترامها وقد عبر عن ذلك الإمام علي عليه السلام بالقول(لقد كنا في الجاهلية نتحاشا قتل النساء حتى إن قاتلننا فكيف نفعل ذلك ونحن مسلمون !!!
وهذا ما فقد في سلوك (المجاهدين!!! ) الذين أظهروا أن فهمهم للجهاد لا يعدوا أن يكون فعلاً للقتل قتل أكبر عدد ممكن من النَّاس الأبرياء المسالمين قبل المحاربين ،المسلمين قبل الكفَّار، الأصدقاء قبل الأعداء ،القتل للقتل، والبحث عن الشِّهادة ، القتل من أجل مزيد من القتل .
لأنَّ المناهج المدرسية والكتب الحركية والخطب في المناسبات الدِّينية تدعو "للقتل" تحت مسمى "الجهاد"قتل من يستطاع قتله بصرف النَّظر عن هوية المقتول وجنسه وعمره ودينه .
ولذلك طال القتل زهَّاداً في المساجد وهم في التسعينيات (كالشيخ الحبشي)( ) وأطفالاً رضعاً ونساءً حوامل ......الخ من المسلمين قبل غيرهم لأنَّ ساحات القتل هي البلدان والمجتمعات الإسلامية قبل غيرها وهذا ما تعبِّر عنه فتاوى قادة الحرب الإسلاميين الذين يعيشون لاجئين في عواصم الغرب (فتوى جواز قتل الذُّرية والنِّسوان)والعقيدة الغريبة في أنَّ دماء أهل الكتاب مباحة وليست محرمة .
وأوضح من ذلك استهداف المدنيين العزَّل بوضع المتفجرات على أبواب المساجد والكنائس والمعابد بل وتحويل الأبرياء إلي قنابل تقتل من يتواجد بالصُّدفة لحظة انفجار العبوة أو الصَّاروخ الموجَّه بدون تحديد للوجهة والهدف إلي مدينة ككابول"كما شاهدنا من يوجه إلقذيفة إلى كابول بدون جهاز توجيه وكأن الهدف إصابة أي مكان في المدينة هذا بعد سقوطها بيد المجاهدين" وأخيراً الطَّائرات المدنية التي استخدمت كصواريخ تقتل من فيها ومن تصدم به من الأبرياء الآمنين(كما حدث في 11سبتمبر2001م في نيويورك) حتى بات المدني في أيِّ مكان هدف للقتل أو أداة له دون أن يدري ما سبَّب حالة من الإرهاب والرُّعب يعاني منها كلُّ مدني وهذا زرع للخوف بدون معنى سوى الرَّغبة في زرع الرُّعب .
إن مع العسر يسرا،إن مع العسر يسرا
الباعث على الجهاد
سبق القول أنه لا خلاف بين المسلمين على وجوب الجهاد في الجملة وعلى ضرورته ، إلا أنَّ هذا الوجوب ليس مطلقاً بل مقيداً بالأسباب والدَّوافع والمبرِّرات وقد اختلف الفقهاء حول الباعث على الجهاد بناء على خلافهم حول الإجابة على الأسئلة التَّالية:(هل الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم ممَّن يخالفهم في العقيدة: السِّلم أو الحرب؟ بمعنى آخر: هل يجب على المسلمين أن يقاتلوا غير المسلمين، ولو كانوا مسالمين لهم، كافّين أيديهم عنهم، لا يضمرون لهم شراً، ولا يظاهرون عليهم عدواً؟
أو الواجب على المسلمين ألا يقاتلوا إلا من يقاتلهم ويعتدي على حرماتهم، على أنفسهم أو أهليهم أو أموالهم أو أرضهم، أو يقف في وجه دعوتهم ويصدّ دعاتها، ويعترض طريقهم، ويفتن من دخل في الإسلام باختياره بالأذى والعذاب؟
وقد يعبّر عن هذه القضية بصيغة أخرى، وهي: لماذا يقاتل المسلمون الكفَّار؟ أهو لمجرد كفرهم؟ أم لعدوانهم على المسلمين بصورة أو بأخرى؟)( )
نجد أكثر من إجابة فمن العلماء والباحثين من ذهب إلى القول بأنَّ الباعث إلى الجهاد (درء الحرابة) الواقعة والمتوقعة من الكافر أو الباغي انطلاقًا من تعريف الجهاد بأنه استفراغ الوسع في مدافعة العدو ، أو في سبيل إعلاء كلمة الله)(1)، الذي بني على مسلمة تتمثل في الاعتقاد بأنَّ الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هي السِّلم {وإن جنحوا للسِّلم فاجنح لها وتوكل على الله}(2).
وذهب الفريق الآخر إلى القول بأنَّ الباعث إلى الجهاد (الكفر) بصرف النَّظر عن الحرابة انطلاقًاً من تعريف الجهاد بأنَّه (بذل الجهد في قتال الكفَّار أو البغاة)( ) ، أو هو (الدُّعاء إلى الدِّين الحقِّ في قتال من لم يقبله)( ). ويوضح القرضاوي ذلك بقوله: (وهكذا انقسم أهل العلم والفكر في موضوع الجهاد إلى فريقين:
1ـ فريق دعاة السِّلم؛ إذ يعتبرونه الأصل في العلاقة مع غير المسلمين، إلا أن يقع اعتداء على المسلمين، أو على دينهم بالفتنة عنه، والصد عن سبيله، أو على المستضعفين في الأرض من المسلمين أو من حلفائهم، ونحو ذلك. وهؤلاء يسمونهم (الدِّفاعيين)؛ لأنهم يقولون: إن الجهاد شرع دفاعاً بالمعنى الذي شرحناه، ولا يبدأ بالهجوم من غير سبب.
2ـ وفريق دعاة الحرب؛ لأنهم يعتبرون الأصل في العلاقة بالكفَّار هي الحرب، وعلة قتالهم هي الكفر، وليس مجرد العدوان على أهل الإسلام أو على دعوتهم؛ لأن طبيعة الإسلام هي التَّوسع، وإخضاع الأنظمة الكافرة لسلطان حكمه، وهكذا كانت -في رأيهم- معظم غزوات الرسول، وفتوحات أصحابه. وهؤلاء يسمونهم (الهجوميين)؛ لأنهم لا يقصرون الجهاد على الجانب الدِّفاعي، كما يقول الآخرون، بل هو حق تسانده قوة، ومصحف يحرسه سيف، ورسالة تدعو العالم إلى ثلاثة أشياء: إما الإسلام، وإما الجزية، وإما القتال)
وهو مبني على ذلك إن الجهاد (طلب أو ابتداء) لتبليغ دين الله ودعوة النَّاس إليه وإخراجهم من الظُّلمات إلى النُّور وإعلاء دين الله في أرضه وأن يكون الدِّين لله وحده)( )، وهو بهذا حرب مقدسة غرضها تطهير الأرض من رجس الكفرة المشركين ، وأن الجهاد في سبيل الله ماضٍ في هذه الأمة إلى يوم القيامة حتى لا يبقى على وجه الأرض مشرك)( ).
ووفقاً لهذا القول يكون مجرد وجود الكفر سبباً لإعلان الحرب المقدسة لتطهير الأرض من رجس الكفرة والمشركين حتى لا يبقى مشرك على وجه الأرض)، ولكلٍّ من الفريقين أدلته التي يحتج بها ، من القرآن الكريم والسُّنة النَّبوية الكريمة ، فالقائلون بأنَّ الباعث إلى الجهاد (الكفر) بصرف النَّظر عن الحرابة يستدلون على ذلك بآيات كثيرة من القرآن الكريم أصرحها في الدِّلالة على ما يذهبون إليه قوله تعالى في سورة التَّوبة: { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة:5].
باعتبارها نصاً عاماً ناسخاً لكلِّ النُّصوص الموحية بإمكانية التَّعايش السِّلمي بين أمة الإسلام والكفار باستثناء أهل الذِّمة عملاً بالآية الشَّريفة { قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة: 29].
أما الآيات التي يفيد ظاهرها بإمكانية التَّعايش مع الآخرين من أهل الكتاب وغيرهم فَتُفَسَّر بسبب نزولها وبأنَّها منسوخة (بآية السيف) وبالمرحلية والتَّدرج المرتبط بحال الجماعة الإسلامية في بداية الدَّعوة، فأحكام الجهاد تدرَّجت –
كما نصَّ على ذلك الشَّهيد سيد قطب رحمه الله في ص7 من كتابه معالم في الطريق بالقول: (وقد مرت مراحل الجهاد بحسب التَّبليغ الذي كان يتلقاه الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- فأوَّل ما أوحى إليه ربُّه تبارك وتعالى أن يقرأ باسم ربِّه الذي خلق ... إلى أن يقول: ثم أذن له في الهجرة ، وأذن له في القتال ، ثم أُمر أن يقاتل من قاتله ويكف عمَّن اعتزله ، ثم أمره أن يقاتل المشركين حتى يكون الدِّين كلَّه لله، ثم كان الأمر مع الكفًَّار على ثلاثة أقسام: 1- أهل صلح وهدنة ، 2- وأهل حرب، 3- وأهل ذمَّة.
وقد بينت سورة براءة حكم جميع هذه الأقسام بما فيهم المنافقون وأهل الكتاب .
وبعد نزول براءة واجتياز الإسلام لأكثر المراحل صار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام:
1- مسلم مؤمن به ، 2- مسالم له آمن (أهل الذمة)، 3- خائف محارب.
ومن هذا يتبين حتمية الانطلاق الحر للإسلام في صورة الجهاد بالسيف إلى جانب الجهاد بالبيان، دعوة صادقة لتحرير الإنسان في الأرض بوسائل تشمل كل جوانب الواقع البشري وفي مراحل محددة، لكلِّ مرحلة وسائلها المتجددة، ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة، قال تعالى: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة)، من كتاب السِّيرة .( )
وبهذا المعنى على كلِّ مسلم أن يقاتل في سبيل الله لأنَّ (من مات ولم يغز أو لم يحدث نفسه به مات على شعبة من النِّفاق)، بحسب نصِّ الحديث المروي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخرجه مسلم[ ]والغاية من القتال بحسب وجهة النَّظر هذه كما يعبر عنها أحمد بن تيمية أن تكون (كلمة الله هي العليا) وكلمة الله اسم جامع لكلماته التي تضمنها كتابه.. فمن عدل عن الكتاب قُوِّمَ بالحديد ولهذا كان قوام الدِّين بالمصحف والسَّيف ، وقد روى جابر بن عبدا لله رضي الله عنهما ، قال: (أمرنا رسول الله أن نضرب بهذا - يعني السيف - من عدل عن هذا - يعني المصحف) ، وثبت بالكتاب والسُّنة وإجماع الأمة أنَّه يقاتل من خرج عن شريعة الإسلام وإن تكلم بالشِّهادتين ، وقتال هؤلاء واجب ابتداءً بعد بلوغ دعوة النَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- إليهم بما يقاتلون عليه فأمَّا إذا بدعوا المسلمين فيتأكد قتالهم ( ).
ويعتبر الخبر المروي عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما والذي أخرجه الشيخان ونصه: (أنَّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصَّلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى).
يعتبر هذا النَّص النَّبوي أوضح ما في الموضوع دلالة على ما يذهب إليه القائلون بأنَّ (الكفر) هو الباعث إلى القتال (والمعنى أنَّ الدِّين الإسلامي ليس مجموعة من العقائد الكلامية وجملة من المناسك والشَّعائر فحسب كما يفهم من معنى الدِّين في هذا العصر بل الدِّين الإسلامي نظام شامل جاء ليقضي على سائر النُّظم الباطلة الجائرة القائمة في العالم ويقطع دابرها... وأثر العلم بهذا الحديث في المجتمع - تقضي بأنَّه يجب أن تكون العبادة لله وحده ، وكبح جماح الآلهة الكاذبة الذين تكبروا في أرض الله بغير الحق وجعلوا أنفسهم أرباباً من دون الله واستئصال شأفة ألوهيتهم. ...
والأحكام:
وجوب قتال المشركين والملحدين حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، ويقيموا الصَّلاة ويؤتوا الزَّكاة لأنَّ الأمر للرَّسول أمر للأمَّة الإسلامية). [ ]
والكفر (الذي يبعث إلى القتال) قد يكون بمجرد الابتداع الذي قد يكون للمخالفة في جزئية من جزئيات العبادة (فمن ابتدع بدعة أو حكم بغير ما أنزل الله فليس معناه إلا الشَّر والفساد والخروج في النِّهاية عن نطاق الإيمان ، وقد قال تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)[ ]..
(وقد اعتبر علماء السَّلف أن المرحلة الأخيرة للجهاد (قتال الكفار ابتداء)، ناسخة لبقية المراحل ، قال ابن العربي قوله تعالى : (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث ثقفتموهم)، ناسخة لمائة وأربعة عشر آية ، وقال حسن صديق البخاري : (ما ورد في موادعتهم أوفي تركهم إذا تركوا المقاتلة فذلك منسوخ باتفاق المسلمين)، وذهب السِّيوطي إلى القول بعدم النَّسخ ولكن يعمل بكلِّ مراحله عند الحالة المشابهة كالحالة التي شرعت، ووافق على ذلك الزَّركشي وسيد قطب. ( )
ويلخِّص الدُّكتور يوسف القرضاوي أدلة أصحاب هذا الرأي بالآتي:-
أولاً: حديث: "بُعثت بين يدي السَّاعة بالسَّيف"
ومن خلال مناقشته1:- لسند الحديث يصل إلى القول بأن (ومثل هذا الرَّاوي لا يؤخذ منه حديث يحمل مثل هذا المضمون الخطير: الإسلام دين السَّيف! وأنَّ الرَّسول يرتزق من رمحه!)
2 - نظرة أخرى في الحديث من جهة متنه ومضمونه .
وإذا غضضنا الطَّرف عن سند الحديث وما فيه من كلام، ونظرنا في متنه ومضمونه، وجدناه منكرًا، لا يتفق مع ما قرَّره القرآن بخصوص ما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم.
فالقرآن لم يقرر في آية واحدة من آياته أنَّ محمدًا رسول الله بعثه الله بالسَّيف، بل قرَّر في آيات شتى أنَّ الله بعثه بالهدى ودين الحق والرَّحمة والشِّفاء والموعظة للنَّاس .
ثانياً: حديث أمرت أن أقاتل النَّاس حتى يقولوا "لا إله إلا الله" .
اتخذ دعاة الحرب على العالم من هذا الحديث: سنداً لتأييد دعوتهم، والحديث صحيح لا شكَّ فيه، متفق عليه. ولكن ما معناه؟
من المعلوم أن كلمة "النَّاس" في هذا الحديث عام يراد بها خاص، فالمراد منهم مشركو العرب الذين عادوا الدَّعوة منذ فجرها، وعذَّبوا المسلمين في مكة ثلاثة عشر عاماً، وحاربوا الرَّسول تسعة أعوام في المدينة، وغزوه في عقر داره مرتين، يريدون استئصاله وأصحابه، والقضاء على دعوته، وهؤلاء القوم -كما وصفتهم سورة التوبة: "لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمَّة" "نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرَّسول، وهم بدءوكم أول مرَّة" فقد نفض الرسول يده منهم، ولم يعد هناك أمل في صلاحهم، كما بينا قبل ذلك في الكلام عن (آية السَّيف).
فهؤلاء لهم موقف لا ينطبق على غيرهم، خاصة أنَّ الإسلام يريد أن يجعل من الحجاز حرماً للإسلام، ومعقلاً له، لا ينازعه فيه دين آخر.
يقول العقاد: "وكان النَّبي -صلوات الله عليه- يعاقب في حروبه بمثل ما عوقب به، ولا يجاوزه إلى اللَّدد في الخصومة، فإذا انتهت الحرب على عهد من العهود وفّى به، وأخذ على أتباعه أن يوفوا به في غير إغلال ولا إسلال، أي في غير خيانة ولا مراوغة.
وثابر على الوفاء في جميع عهوده، وثابر أهل الجزيرة من المشركين واليهود على الغدر بكل عهد من تلك العهود، وعقدوا النِّية سراً وجهراً على إعنات المسلمين وإخراجهم من ديارهم، لا يحرمون حراما في مهادنتهم ولا في مسالمتهم، ولا يزالون يؤلبون عليهم الأعداء داخل الجزيرة وخارجها. وأصرُّوا على ذلك مرة بعد مرة حتى أصبحت معاهدتهم عبثاً لا يفيد، ولا يغني عن القتال فترة إلا ردَّهم إليه بعد قليل،
ووضح من لدد القوم وإصرارهم عليه أنهم لا يهادنون إلا ليتوفروا على جمع العدَّة، وتأليب العدو من الخصوم والأحلاف، فبطلت حكمة الدَّعوة إلى العهد، ولم يبق للمسلمين من سبيل إلى الأمان معهم إلا أن يخرجوهم من حيث أرادوا أن يخرجوا المسلمين، ولا يبقوا أحداً غير مسلم في تلك الجزيرة التي أبت أن تكون وطناً للمشركين وأحلافهم. فانتهت حكمة التَّخيير بين المعاهدة والقتال، ووجب الخيار بين أمرين لا ثالث لهما، وهما: الجوار على الإسلام أو على الخضوع لحكمه، فلا جوار في الجزيرة لأحد من المشركين وأحلافهم اليهود إلا أن يدين بالإسلام أو بالطَّاعة.
{وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } [البقرة: 191].
وقال النَّبي -عليه الصلاة والسلام- يومئذ: "أمرت أن أقاتل النَّاس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فمن قالها عصم منِّي ماله ودمه إلا بحقها، وحسابهم على الله".
وفي هذا المعنى ينصُّ القرآن الكريم على محاربة أهل الكتاب الذين تحالفوا مع المشركين، ونقضوا العهود المتوالية بينهم وبين النَّبي، كما تقدم في ذكر الغزوات والسَّرايا:
{ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29].
والوجه الوحيد الذي ينصرف إليه هذا الحكم هو أنه حيطة لا محيد عنها لضمان أمن المسلمين)
وجهة النَّظر الأخرى:
ويعبر عن وجهة النَّظر الأخرى - التي تذهب إلى أنَّ الباعث على الجهاد - ليس مجرد الكفر بل الحرابة بصرف النَّظر عن وجود الكفر من عدمه وهو مذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل والزَّيدية والمتأخرين من الشِّيعة الأمامية فيما نعلم باستثناء آية الله الخوئي كما أن ابن السيد محمد بن إسماعيل الأمير يؤكد على أنَّ للشَّيخ ابن تيمية كتاباً أكد فيه على أن الحرابة هي الباعث على الحرب وليست الكفر وبه قال العلامة الحسن بن أحمد الجلال في كتابه ضوء النَّهار، ويعبر عن الموقف محمد حسين فضل الله بقوله:
(رغم اختلاف فقهاء المذاهب الإسلامية حول بعض الأحكام الفرعية المتعلقة بموضوع الجهاد إلا أنَّهم متفقون على وجوب الجهاد في الجملة وأيضاً على ضرورته.
وآيات القرآن صريحة الدِّلالة على وجوب القتال وحتميته لأنَّه سنَّةَّ من سنن الله ، قال تعالى: (ولولا دفع الله النَّاس بعضهم ببعض لهدِّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إنَّ الله لقوي عزيز)، الحجرات، وقوله تعالى: { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}[البقرة-251].
إلا أنَّ (الجهاد بما هو فعل قتال إذا ما عزل عن ظروفه وملابساته يحمل في طياته معنى الإكراه والتَّسلط كمفردات تنظم العلاقة مع الآخر سواء كان هذا الآخر مؤمناً مسلماً يخالفنا في الفهم المتعلق ببعض القضايا الاجتهادية ويصدر منه سلوك مخالف لما نألفه ونعتاده أن نعتقد مشروعيته ونندفع بالشِّعور بواجب النَّهي عن المنكر أو الأمر بالمعروف لقتاله بل لقتله كما حدث ويحدث في تاريخنا البعيد والقريب والمعاصر أو كان المخالف كتابياً أو مشركاً.
وقد يفاقم من حضور هذا المعنى (الإكراه) والقهر والتَّسلط طبيعة الجهاد العقائدية الأمر الذي يعني أنَّه إنما شرِّع من أجل إكراه الآخرين على الدُّخول في الإسلام أو الاستسلام والخضوع لهم واحد ورأي واحد فيما لا يوجد نصّ قاطع...
وقد أثير ويثار حوله الكثير والكثير من اللَّغط والالتباسات التي تسعى إما لصرفه عن حقيقة موقعه في الإسلام بغية تزوير التَّاريخ الإسلامي من خلال وصفه بما ليس فيه كما جرت عادة المستشرقين الغربيين من نعت الإسلام بأنه دين السَّيف ، وإما لحبسه في إطار واحد وحيد كالجهاد القتالي مع ما في ذلك من تفكيك الفرع عن الأصل وتحويل الاستثناء إلى عام والجزء إلى كلٍّ وفصل الفعل عن روحه ومبتغاه ، وبالتَّالي إحداث قطيعة بين الأصل والفرع وتبديل في المواقع ، رتب ويرتب خللاً كبيراً فاضحاً في تفسير وتأويل آيات الجهاد القتالي والذي يفاقم من خطورة هذه القطيعة هو تحويلها إلى وقائع ومعطيات وأحداث تمون أعداء الإسلام بمادة رسم تشوه صورته ليس في عقول وقلوب غير المسلمين للحيلولة بين الإسلام وبين عقول وقلوب الباحثين عنه كملجأ ومخرج من أزمة الإنسان المعاصر - فحسب- بل لدى أغلبية المسلمين الذين باتوا يخشون سيادة الإسلام وحكمه أكثر من خشيتهم واقعهم المأساوي المعاش لأنَّ الإسلام يقترن بالعنف والقسوة غير المتوقعة وغير المعقولة).
(ولكي يفهم (الجهاد) في حقيقته يجب أن نفهم نظرة الإسلام لحرية العقيدة وشروط التَّكليف والمسئولية، ونظرية الإسلام للصُّلح والسَّلام.
وفي سبيل ذلك يجب التَّمييز بين المرحلتين الأساسيتين في مسار الدَّعوة المحمدية وهما:
1- المرحلة المكية.
2- المرحلة المدنية.
وبالتَّالي التَّمييز بين ما هو دعوة وبين ما هو دولة في الإسلام وهو تمييز منهجي لأنَّه لم يحدث انفصام زمني بين المرحلتين المكية والمدنية.
ولم تنسخ الثَّانية الأولى - إنما جاءت المرحلة الثَّانية مكملة للأولى لتبني عليها وتكمل مفردات البناء ، ولوازمه والتي كانت تنتظر اكتساب الدَّعوة جسداً سياسياً، أي تجسمها في الدَّولة وكان طبيعياً في هذه المرحلة التي أخذت فيها الدَّعوة تسير جنباً إلى جنب مع بناء الدَّولة أن تختلط مفاهيم وأساليب كلٍّ منهما مما خيَّل للكثيرين أنَّ الإسلام يقاتل من أجل قضية الدَّعوة كوسيلة من وسائلها بينما كان الواقع أنه كان يقاتل من أجل قضية الدَّولة التي ترتكز على الدَّعوة كفكر من أجل حماية الدَّولة والدَّعوة معاً ومن الواضح أنَّ استمرارية الخلط بين مفاهيم وأساليب الدَّعوة وموجباتهما.. من شأنه أن يؤدي إلى خلط والتباس في الفهم والقراءة لموضوع الجهاد). ( )
ويؤيد القرضاوي هذا الرأي بقوله:( فريق المعتدلين أو دعاة السَّلام، أو الدِّفاعيين كما يسمونهم، يقولون: هؤلاء لا يقاتلون، لأنَّهم لم يفعلوا شيئاً يستوجب قتالهم، بل صريح آيات القرآن الكثيرة يمنع من قتالهم، نقرأ من هذه الآيات:
في سورة البقرة: { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } [البقرة: 190]
في نفس السُّورة: { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]
وفي سورة آل عمران: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (الآية: 64).
وفي سورة النساء: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَ اتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً }(الآية: 90).
وفي نفس السِّياق:{ فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَـئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا}(النساء: 91).
وفي سورة المائدة في سياق الحديث عن أهل الكتاب: {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (الآية: 13).
وفي سورة الأنفال:{ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}(الآيتين: 61 – 62) حتى عند إرادة الخداع يحث القرآن المسلمين على أن يستجيبوا لدعوة السِّلم.
وفي سورة التَّوبة، وهي سورة إعلان الحرب على الشِّرك وأهله النَّاقضين للعهود، النَّاكثين للأيمان: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} (الآية: 6).
وفيها: { إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة: 7).
وفي سورة الحجر: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الآية: 94).
وفي سورة النحل: { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (الآية: 125).
وفي نفس السورة: { وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ }(الآية: 127).
وفي سورة الأحقاف: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} (الآية: 35).
وفي سورة الممتحنة: { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(الآية: 8).
هذا الآيات كلُّها وكثير غيرها يستدل بها المعتدلون على أنَّ الإسلام يسالم من يسالمه، ويعادي من يعاديه، ولا يقاتل إلا من قاتله أو صدَّ عن سبيل دعوته، وفتن المؤمنين بها من أجل دينهم. ) ( )
ومن خلال مناقشة أهم نص يستدل به أصحاب وجهة النظر القائلة بأن العلة هي الكفر نصل إلى نقيض ماذهبوا إليه{ بَرَاءَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } (التوبة:1-4).
وانظر: كيف احترم عهد هؤلاء المشركين، الذين عاهدهم الرَّسول والمسلمون، فوفّوا بعهدهم معهم، ولم ينقصوهم شيئاً، ممَّا فرضته المعاهدة ولم يظاهروا عليهم عدواً، فأمر الله تعالى أن يتمَّ إليهم عهدهم إلى مدَّتهم، فهذا من التَّقوى التي يحبها الله ويحب أهلها.
وبعدها مباشرة نجد آية تقول:
{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ}(التوبة: 6).
فهي تأمر بإجارة المستجير المشرك، وإتاحة الفرصة له حتى يسمع كلام الله، كما تأمر بأن يبلغ الموضع الذي يأمن فيه.
ثم تليها آيات أخر تعلِّل للأمر بقتلهم، وأنَّه لم يأت من فراغ ولا تعنُّت ولا اعتداء، فهم يصدُّون عن سبيل الله ولا يرقبون في مؤمن إلّا ولا ذمة، ثم كيف نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم، وطعنوا في دين الله، وهمُّوا بإخراج الرَّسول، وبدءوا المؤمنين بالقتال أول مرة!!
وبدليل الأخبار التي تظاهرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنَّه حين بعث علياً رحمة الله عليه ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم – أمره فيما أمره أن ينادي به فيهم: "ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد- فعهده إلى مدته"، ثم بدليل قوله تعالى بعد آية السَّيف (7): {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة:7).
وإنَّما هم قوم من المشركين، كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم عهد إلى أجل، فنقضوه قبل أن تنتهي مدته...، وقوم آخرون كان بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم عهد غير محدود الأجل. فهؤلاء وأولئك هم الذين أعلن الله عز وجل براءته هو ورسوله منهم، وأمهلهم أربعة أشهر من يوم الحج الأكبر (والمراد به يوم عيد النَّحر، وهو اليوم الذي نبذ إليهم فيه العهد على سواء)؛ ليسيحوا في الأرض خلالها حيث شاءوا، ثم ليحدِّدوا فيها موقفهم من الدَّعوة إلى الإيمان بالله رباً واحداً: فإمَّا تابوا فكان في استجابتهم لداعي الله خيرهم، وإلا فهي الحرب، وما تستتبعه من قتل وأسر وحصار وترقب[ ]!
وإنَّ الله جل ثناؤه ليبين لهم سبب حكمه هذا عليهم، في آيات تلي آية السيف..
أليسوا هم أئمَّة الكفر، يطعنون في دين الله، ويصدُّون النَّاس عن سبيله؟! ينقضون عهدهم مع رسول الله، ويظاهرون عليه أعداءه؟! ينافقون الرَّسول والمؤمنين، فيرضونهم بأفواههم، وتأبى قلوبهم أن تعتقد ما يقولون؟! ينكثون أيمانهم، فيهمون بإخراج الرَّسول، ويبدءون المؤمنين بالقتال في بدر؟! يتربصون بالمؤمنين، ويترقبون فرصة للانقضاض عليهم، دون رعاية لعهد ولا ذمَّة؟!
بلى، فليقاتلهم المؤمنون إذن؛ ليعذِّبهم الله بأيدي من يريدون هم أن يعذبوهم، وليخزيهم ويذلَّهم، ولينصر المؤمنين عليهم، فيشفى صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم!.. ثم ليتوب على من أراد له التَّوبة والسَّعادة في الدُّنيا والآخرة[ ].
ليست الغاية إذن من قتالهم هي إكراههم على الدُّخول في الإسلام بقوة السِّلاح، وما كانت (الغاية) قط هذا الإكراه...
ولا أدل على هذا من قول الله عزَّ وجلَّ لنبيه، في الآية التي تلي آية السَّيف دون فاصل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ }(التوبة:6)؛ فإنَّ في هذه الآية أمرًا من الله عزَّ وجلَّ لرسوله بأن يجير من يستجير به من المشركين، ثم يدعوه إلى الإيمان بالله، ويبيِّن له ما في هذا الإيمان من خير له، فإن هو ـ بعد هذا ـ أصرَّ على ضلاله، واستمرأ البقاء على كفره بالله، وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغه المكان الذي يأمن فيه، فعلى الرسول أن يجيبه إلى طلبه، وأن يؤمنه حتى يصل إلى ذلك المكان.
هذا إلى تلك الآية التي تنفي جنس الإكراه في الدِّين نفياً صريحاً قاطعاً، وتعلل لهذا النَّفي حيث تقول: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}(البقرة:256)
والآية الأخرى التي تستبعد أن يستطيع الرَّسول صلى الله عليه وسلم إكراه الناس على الإيمان، حتى لتحكم باستحالة هذا الإكراه إذا تقول:{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99).
وإنَّما شُرِّع القتال في الإسلام كما يذهب القرضاوي (لتأمين الدُّعاة إليه، ولضمان الحرية التي تكفل لهم إبلاغ دعوته، ودرء الشُّبه عن عقيدته، بالمنطق السَّليم، والحجَّة المقنعة.
ومن أجل هذا خصَّ أئمَّة الكفر بالأمر بقتالهم؛ لأنهم يحولون بالقوة بين الدُّعاة والشُّعوب التي يجب أن تدعى. ومن أجله علَّل الأمر بالقتال –ضمن ما علَّل به – بصدِّ المشركين للنَّاس عن سبيل الله، وقتالهم المؤمنين به. ومن أجله كذلك كان السبب في نبذ عهد فريق من المشركين إليهم أنهم نقضوه، فأعلنوا الحرب على الدَّعوة، وظاهروا أعداءها عليها!..
فإذا ما هيَّئت للدُّعاة وسائل الدَّعوة في أمن وحرية – فلا حرب ولا قتال؛ لأن دين الله حينئذ سيهدي بنوره كلَّ ضال، ولأن بطلان الشِّرك بالله سيتضح يومئذ لكلِّ مشرك، فلن يصرَّ عليه إلا جاحد معاند مكابر في الحقِّ، وهؤلاء قلَّة لا يؤبه لها، ولا بدَّ منها في كلِّ مجتمع؛ لتتحقَّق كلمة الله جلَّ ثناؤه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآَمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا}(يونس:99)!.[ ]انتهى.
2 ـ و مناقشة آية (وقاتلوا المشركين كافة):
يصل القرضاوي إلى نفس النتيجة حيث يقول: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}(التوبة: 36).
وهي جزء من آية كريمة جاءت في سياق تعظيم الأشهر الحرم، التي لها حرمة خاصة، ينبغي أن تعظم، ويقدر قدرها، ومن ذلك: تحريم القتال فيها، فإنه من ظلم النَّفس الذي حرمه الله فيها. يقول تعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}(التوبة:36).
فهذه الآية التي يزعمون أنَّها آية (قطع الرِّقاب) أو (آية السَّيف) تأتي في سياق تحريم القتال في الأشهر الحرم، أي فرض هدنة إجبارية على المسلمين إذا كتب عليهم القتال وهو كره لهم: أن يغمدوا السِّيوف، ويكفُّوا عن القتال أربعة أشهر في العام: ثلاثة سرد، أي متتابعة، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وواحد فرد، أي منفرد وحده، وهو: رجب. أي يفرض عليهم ثلث العام هدنة للمسلم.
ثم يقول تعالى في الآية: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} (التوبة:36)، فهي من باب المعاملة بالمثل، ومن عامل خصمه بمثل ما يعامله فما ظلمه.
وقال العلامة رشيد رضا: في تفسير قوله تعالى: "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" هذه غاية للأمر بقتال أهل الكتاب ينتهي بها إذا كان الغلب لنا، أي قاتلوا من ذكر: عند وجود ما يقتضي وجوب القتال كالاعتداء عليكم، أو على بلادكم، أو اضطهادكم وفتنتكم عن دينكم، أو تهديد أمنكم وسلامتكم، كما فعل الرُّوم، فكان سبباً لغزوة تبوك، حتى تأمنوا عدوانهم بإعطائكم الجزية في الحالين اللذين قيدت بهما، فالقيد الأول لهم، وهو: أن تكون صادرة عن يد أي قدرة وسعة، فلا يظلمون ويرهقون، والثاني لكم، وهو: الصِّغار المراد به كسر شوكتهم، والخضوع لسيادتكم وحكمكم، وبهذا يكون تيسير السَّبيل لاهتدائهم إلى الإسلام بما يرونه من عدلكم وهدايتكم وفضائلكم، التي يرونها أقرب إلى هداية أنبيائهم منهم. فإن أسلموا عمَّ الهدى والعدل والاتحاد، وإن لم يسلموا كان الاتحاد بينكم وبينهم بالمساواة في العدل، ولم يكونوا حائلاً دونها في دار الإسلام.
والقتال لما دون هذه الأسباب التي يكون بها وجوبه عينياً أولى بأن ينتهي بإعطاء الجزية، ومتى أعطوا الجزية: وجب تأمينهم وحمايتهم، والدِّفاع عنهم، وحريتهم في دينهم بالشُّروط التي تعقد بها الجزية، ومعاملتهم بعد ذلك بالعدل والمساواة كالمسلمين، ويحرَّم ظلمهم وإرهاقهم بتكليفهم ما لا يطيقون كالمسلمين، ويسمون (أهل الذِّمَّة) لأنَّ كلَّ هذه الحقوق تكون لهم بمقتضى ذمَّة الله وذمَّة رسوله. وأما الذي يعقد الصُّلح بيننا وبينهم بعهد وميثاق، يعترف كلٌّ منَّا ومنهم باستقلال الآخر فيسمون (أهل العهد) والمعاهدين.[ ]
(هؤلاء هم الذين تأمر الآية باستمرار قتالهم حتى تأمن شرَّهم، وتثق بخضوعهم، وانخلاعهم من الفتنة التي يتقلبون فيها، وجعل القرآن على هذا الخضوع علامة، هي دفعهم الجزية، التي هي اشتراك فعلي في حمل أعباء الدولة، وتهيئة الوسائل إلى المصالح العامة للمسلمين وغير المسلمين.
وفي الآية ما يدل على سبب القتال الذي أشرنا إليه وهو قوله تعالى: (وهم صاغرون)، وقوله: (عن يد) فإنَّهما يقرران الحال التي يصيرون إليها عند أخذ الجزية منهم، وهي خضوعهم، وكونهم بحيث يشملهم سلطان المسلمين؛ وتنالهم أحكامهم، ولا ريب أنَّ هذا يؤذن بسابقية تمردهم، وتحقق ما يدفع المسلمين إلى قتالهم.
هذا هو المعنى الذي يفهم من الآية، ويساعد عليه سياقها، وتتفق به مع غيرها، ولو كان القصد منها أنَّهم يقاتلون لكفرهم، وأنَّ الكفر سبب لقتالهم لجعلت غاية القتال إسلامهم، ولما قبلت منهم الجزية وأقروا على دينهم.
أما الآية الثَّانية: (قاتلوا الذين يلونكم...) فليست واردة مورد الآيات السَّابقة في بيان سبب القتال وما يحمل عليه، وإنما جاءت إرشاداً لخطَّة حربية عملية تترسَّم عند نشوب القتال المشروع فعلاً، فهي ترشد المسلمين إلى وجوب البدء عند تعدُّد الأعداء بقتال الأقرب فالأقرب عملاً، على إخلاء الطَّريق من الأعداء المناوئين، وتسهيلاً لسبل الانتصار.[ ]
وهذا المبدأ الذي قرَّره القرآن من المبادئ التي تعمل بها الدُّول المتحاربة في هذا العصر الحديث، فلا تخطو دولة مهاجمة خطوة إلا بعد إخلاء الطريق أمامها، والاطمئنان إلى زوال العقبات من سبيلها.
وبهذا يتبين أنَّه لا صلة للآيتين بسبب القتال الذي تضافرت الآيات الأخرى على بيانه[ ]. انتهى.
ومما سبب الغموض في فهم أحكام القتال عدم التمميز بين أحكام الجهاد القتالي والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر وأحكام دفع الصَّائل أو حق الدِّفاع الشَّرعي ،وهذا ماسنحاول أنَّ نعرض له في دراسة مستقلة لأنَّ ذلك كلّه لا يتسع له المقال هنا واقتصرنا على (الجهاد) من جزئية الباعث إليه وما له علاقة بالمقارنة بين وجهتي نظر القائلين بأنَّه الكفر وقد عرضنا لها والقائلين بأنها (الحرابة)، ولتوضيحها نذكر بالتَّعريف الذي أورده آية الله العظمى السَّيد محمد حسين فضل الله، وهو (استفراغ الوسع في مدافعة العدو)، وهي الأكثر شيوعاً لأنَّها وجهة نظر جمهور أهل السُّنة الحنابلة والحنفية والمالكية وظاهر مذهب الزَّيدية ومتأخري الشِّيعة الإمامية فيما نعلم لأنَّ الإمام الحجَّة الذي لا يجوز الجهاد الابتدائي غائب وعليه فإنَّ الجهاد لن يكون إلا جهاد دفاعي أي دفع حرابة
وكنت قد بيَّنت في الصَّفحات السَّابقة تعريف القائلين بأنَّ الباعث على الجهاد الكفر وتعريف القائلين بأنَّ الباعث درء الحرابة ، واستعرضت أدلَّة الفريق الأول وأقوال عدد من رموزه وعلمائه ، وهنا أستعرض أدلَّة الفريق الثَّاني حيث استدلَّ هؤلاء على (أنَّ موجب قتال المسلمين لغيرهم إنَّما هو العدوان الصَّادر عنهم لا كفرهم بآيات كثيرة والكثير الكثير من الأحاديث النَّبوية التي نزلت أو قيلت في سور وأوقات متفرقة .. كلُّها تقضي بوضوح على منع من لا يواجهون المسلمين بأي عدوان أو لا يتأتى منهم قتال
فمن الآيات القرآنية:
1- قوله تعالى:{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} (8)(البقرة 19).
2- قوله تعالى:{أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (التوبة: 13).
3- قوله تعالى:{ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(الممتحنة: 8-9).
وقد رويت الكثير من الأحاديث النَّبوية الشَّريفة التي تصل حد التَّواتر المعنوي ونصَّ فيها (النَّهي) صراحة عن قتل من لا يقاتل من الكفَّار كالأطفال والنِّساء والرجل الكبير والمختلي للعبادة في صومعته كالرُّهبان والعبيد وأُجراء الأرض (العسيف)، ولو كان الكفر هو الباعث على القتال وليس درء العدوان لما كان النَّهي عن قتلهم مع بقائهم على الكفر ، وبما أنَّ الأحاديث كثيرة جداً فسنكتفي ببعضها منها :
1- عن الإمام زيد بن عليّ عن أبيه عن جده عن الإمام علي عليهم السَّلام قال: (كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- إذا بعث جيشاً من المسلمين قال انطلقوا بسم الله وبالله ، وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- أنتم جند الله تقاتلون في سبيل الله ادعوا إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، إلى أن يقول: فإن أظهركم الله عليهم فلا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا رجلاً كبيراً لا يطيق قتالكم ، ولا تغوروا عيناً ، ولا تقطعوا شجراً إلا شجراً يضركم ، ولا تمثلوا بآدمي ولا بهيمة ولا تظلموا ، ولا تعتدوا ، وأيما رجل من أقصاكم أو أدناكم من أحراركم أو عبيدكم أعطى رجلاً منهم أماناً أو أشار بيده فأقبل إليه بإشارته فله الأمان حتى يسمع كلام الله ، فإن قبله فأخوكم في الدين ، وإن لم يقبل فردوه إلى مأمنه واستعينوا بالله تعإلى عليه ...) الحديث.
2- في تيسير المطالب للسَّيد أبي طالب بسنده عن الإمام زيد بن علي على نفس الحديث ولكن بدل : (ولا تظلموا ولا تعتدوا) ، (ولا تغلوا ولا تغدروا)، وأخرجه البيهقي عن الإمام زيد بن علي .
3-نقل السيد محمد حسين فضل الله ا عن الإمام الحسين بن عليّ عليهما السَّلام ، قال: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- يقول: (.... ولا تغلوا ، ولا تمثلوا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة ولا تقطعوا شجرة ..) الحديث. وفي رواية أخرى : ولا متبتلاً في شاهق .( )
4- وروى أبو داود .. من حديث أنس بن مالك : (أنَّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- قال : انطلقوا باسم الله ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً صغيراً ولا امرأة ..) الحديث.
5- وأخرج البيهقي من طريق أنس بن مالك أنَّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- قال: (انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً.... ) الحديث.
6- وأخرج البيهقي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه في حديث طويل أنه قال ليزيد بن ابي سفيان حين بعثه إلى الشَّام إنك ستجد أقواماً زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لَه ، وإني موصيك بعشر ، لا تقتلن امرأة ولا صبياً ولا كبيراً هرماً ولا تقطعن شجراً...) الخبر .
ويعلق العلامة الحسين بن أحمد السِّياغي مؤلف الروض النضير في شرح مسند الإمام زيد بن علي بقوله: (إنَّ النَّهي عن قتل الوليد والمرأة فقد ثبت ما يؤيده في المتفق عليه من حديث ابن عمر ، نهى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهِ وَسَلَّمَ- عن قتل النِّساء والصِّبيان ، .. وعند أحمد بن حنبل والحاكم وابن حبان وأبي داود والبيهقي والنسائي من حديث رباح بن الرَّبيع أنَّ النَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- مرَّ بامرأة مقتولة فقال: (ما بال هذه تقتل ولا تقاتل)، ثم قال لرجل : (انطلق إلى خالد وقل له إن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- يأمرك أن لا تقتل ذرية ولا عسيفاً )، لأن القتل إنما كان لدفع الضر حيث لا ضرر لا يجوز فعله ، وهو الوجه في عدم قتل الشَّيخ الكبير وقد أشار الحديث إلى أنَّ العلَّة عدم قدرته على القتل كالأعمى والمقعد).( )
وقد حدَّد شرح الأزهار هذا الموقف في صيغة قانونية واضحة (وإذا ظفر المسلمون بالكفَّار فإنه لا يجوز أن يقتل شيخ كبير فإنه لا يطيق المقاتلة ولا مُخْتَلٍ للعبادة لا يقاتل كرهبان النصارى ولا الأعمى ولا مقعد ولا صبي صغير لا يقاتل مثله ولا امرأة ولا عبد مملوك،).
و(إذا اتقى الكفَّار بصبيانهم أو نسائهم أو عبيدهم أو شيوخهم أو عميانهم أو مقعدهم جاز قتل التِّرس للضَّرورة وهي إن لم يقتل التِّرس استولوا على من صالوا عليه). ( )
ويؤكد هذا المبدأ السَّيد محمد حسين فضل الله بقوله : (كاد الإجماع ينعقد على عدم جواز قتل من لا يقاتل من الكفار حتى لو كان قادراً على القتال.. وقد حكي عن الخليفة عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه ، قوله: اتقوا الله في الفلاحين الذين لا يبغون لكم الحرب).( )
وقد عدَّ أهل السُّنة (عدم جواز قتل من لا يقاتل من جزئيات الأصل العام؛ لأن الأصل الأول هو عصمة الأحياء وإبقاء الكفَّار وتقريرهم لأنَّ الله تعالى ما أراد إفناء الخلق ولا خلقهم ليقتلوا ، وإنما أباح قتلهم لعارض ضرٍّ وجد منهم ، وليس جزاء على كفرهم لأنَّ دار الدنيا ليست دار جزاء بل الجزاء في الآخرة)، فضل الله نقلاً عن ابن الصلاح.
وفي المقابل يقول سعيد عبدالعظيم عن أهل السُّنة: (إجماع العلماء على أن جهاد الكفَّار وتطلبهم ودعوتهم للإسلام وجهادهم إن لم يقبلوه أو يقبلوا الجزية قد ذهب بعض السَّلف الصَّالح رضوان الله عليهم إلى أنَّ جهاد الابتداء والطَّلب فرض عين مثل جهاد الدَّفع تماماً).( )
وأكثر من ذلك ينقل عن ابن تيمية القول : (ثبت بالكتاب والسُّنة وإجماع الأمة أنه يقاتل من خرج عن شريعة الإسلام وإن تكلم بالشِّهادتين وقتال هؤلاء واجب ابتداء)( )، وقال ابن كثير : (ثم أمر تعالى بقتال الكفَّار حتى لا تكون فتنة أي شرك ، قاله ابن عباس وأبو العالية ، ومجاهد وحسن وقتادة ومقاتل والسدي وزيد بن أسلم ، ويكون الدِّين لله أي يكون الله وحده لاشريك له فيرتفع البلاء عن عباده.
وقال الشَّوكاني : (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) فيه الأمر بمقاتلة المشركين إلى غاية وهي ألا تكون فتنة وأن يكون الدِّين لله وهو الدُّخول في الإسلام والخروج عن سائر الأديان المخالفة فمن رضي بالإسلام وأقلع عن الشرك لم يحل قتله)، سعيد عبدالعظيم- سابق.
ويخلص سعيد عبدالعظيم من ذلك إلى نتيجة وهي أن من أهداف الجهاد:
قتل الكافرين وإبادتهم ومحقهم وذلك لأنَّ الكفر كالسَّرطان بل أشد ، وينقل عن ابن العربي نقده للقول بأن الباعث الكفر وينقضه بقوله : (فإن قيل لو كان المبيح للقتل هو الكفر لقتل كلُّ كافر .
(ونحن مأمورون) بأن نترك منهم النِّساء والرُّهبان ومن تقدم ذكره منهم ،
فالجواب أنَّا إنَّما تركناهم مع قيام المبيح لهم لأجل ما عارض الأمر من منفعة أو مصلحة ، أمَّا المنفعة فالاسترقاق).( )
الموازنة بين الأدلَّة:
أولاً: إنَّ عمدة استدلال أصحاب الراي الأول من القرآن الكريم الآية الخامسة والتَّاسعة والعشرون .
من سورة التَّوبة ، والآية 193 من سورة البقرة، 39 من سورة الأنفال، والآية الخامسة التي يعتقد القائلون أنها ناسخة لكلِّ الآيات المنظِّمة لعلاقات المسلم بغيره من غير المسلمين وبالذَّات المشركين - هذه الآية مسبوقة بالآية الرَّابعة من نفس السُّورة وربطهما معاً بما بعدهما من آيات يدحض دعوى النَّسخ قال تعالى:{ بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} ثم قال : (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ * كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ}(التَّوبة : 3-8).
فالمتأمِّل في هذه الآيات الثَّلاث يظهر له نقيض ما ذهب إليه القائلون بأنَّ الكفر هو الباعث ، وذلك من خلال ما يأتي:
2- في الاستثناء الصَّريح عن البراءة في الآية الثَّالثة للمعاهدين من المشركين الذين لم ينقصوا المسلمين من عهودهم السَّابقة شيئاً ، ولم يظاهروا على المسلمين ، وفيها أمر صريح بإتمام العهد إلى المدَّة واعتبار الإتمام من التَّقوى ، فالبراءة خاصة بالمشركين المعروفين لدى المسلمين آنذاك بأنهم لا يرقبون في المؤمنين إلا ولا ذمَّة .. يرضون المؤمنين بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون.
3- الاستثناء في الآية السَّادسة (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه)، تدلُّ على أنَّ الكفر ليس الباعث على القتل لأنَّه لو كان كذلك فما معنى الإجارة والإبلاغ إلى المأمن بعد سماع الحجَّة والبقاء على الكفر ، بكلام آخر ، ألا يستوجب بقاؤه على كفره قتله في الحال عند من يقول بأن الباعث على القتال هو الكفر؟ وبالتَّالي ما الدَّافع لإبلاغه مأمنه ، وما السَّبب الكامن وراء ذلك ؟
يقول السَّيد فضل الله: ((في الحقيقة لا يمكن فهم السَّبب إلا بأنَّ هذا المشرك عندما طلب الإجارة ليسمع كلام الله تعالى ، إنما ينزع عن نفسه صفة الحربي ليلبس صفة الإنسان المسالم ، والدُّخول في أمان المسلمين والبقاء على هذا الحال طيلة مدَّة الإجارة إلى حين بلوغه مأمنه مما يسقط وجوب قتاله وبالتَّالي قتله ، فهو لم يدخل ديار المسلمين محارباً وإنَّما مستطلعاً وما دامت هذه صفته أو حاله فلا موجب لقتاله بالمقتضى الأخلاقي وبمقتضى مبدأ المعالة بالمثل)).
4- لنتأمل الاستثناء الوارد في قوله تعالى: (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم .. إلا)، فلو كان الكفر بحدِّ ذاته موجباً للقتال فكيف يمكن أن نسوغ معاهدة من أمرنا الله تعالى بقتالهم؟ ، ولا يستقيم هنا الرَّد بأنَّ هذه المعاهدات إنَّما كانت قبل نزول ما يسمى بآية السَّيف ، لأنَّه بموجب هذا القول (أي القول بالنَّسخ وبأنَّ الكفر هو العلَّة) من المفروض حينئذ أن تكون هذه الآية بمثابة إلغاء لهذه المعاهدات دون فرق بين من استقام على العهد ومن لم يستقم ؛ لأنَّه لا يستقيم معها القول بأنَّ الله تعالى إنَّما أمرنا بالاستمرار بين المشركين الذين لم يقاتلونا في الدِّين ولم يقوموا بأي عدوان)، والخطاب الإلهي يأمرنا صراحة بأن نستقيم في برِّ المشركين ما استقاموا في برِّهم لنا، وهذا الأمر يأتي مباشرة بعد آية السَّيف مما يعني أنَّ الحكم باستمرار هذه المعاهدة إنَّما هو بمقتضى الخطاب الجديد وليس بمقتضى استمرار الحكم السَّابق.
لنتأمل أيضاً، في بيان نوع العهد الذي أظهر الله تعالى استنكاره لأن يكون للمشركين عهد عنده تعالى وعند رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَه وَسَلَّمَ- وذلك في قوله عزَّ وجلَّ: (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون)، فهؤلاء إنَّما لم يكن عهد لهم لأنَّ هذه هي حالهم أي أنَّهم ما إن يشعروا بالتَّفوق والغلبة حتى يطيحوا بكلِّ العهود والذِّمم التي أخذوا على أنفسهم الالتزام بها ابتداء وما ذلك إلا لنفاقهم وعنادهم حيث تكذب ألسنتهم ما في قلوبهم وتكذب قلوبهم ما تبديه ألسنتهم).( )
وهذه الآيات الثَّلاث لم يقل أحد بأنَّها وإن جاءت في التَّرتيب بعد الآية الخامسة إلا أنَّها في النزول سابقة لها حتى يصح القول معها بأنَّ مدلولها منسوخ بما دلَّت عليه الآية الخامسة ، أي أنَّ ترتيبها في السياق (بعد آية السيف) يقتضي كونها في التنزيل بعدها، ولذلك لا يصح معها دعوى أنَّها منسوخة بما قبل ، بل يمكن أن يقال أنَّها ناسخة لما قبلها و إلا لاستحال فهم (الأحكام)و لكانت تبعاً للهوى والميول .
ويوضح جار الله الزَّمخشري صاحب الكشاف معنى الآيات بما يلي:
(روي أنَّهم -أي المسلمين- عاهدوا المشركين من أهل مكة وغيرهم من العرب فنكثوا إلا أناساً منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة ، فنبذ العهد إلى النَّاكثين وأمرهم -قاتلوا المشركين-بعد انقضاء الأشهر الحرم لأن لا عهد بينك وبينهم ولا ميثاق ، فإن استأمنك أحد منهم ليسمع ما تدعو إليه فأمِّنه حتى يسمع كلام الله ويتدبَّره على حقيقة الأمر ثم أبلغه بعد ذلك داره التي يأمن فيها إن لم يسلم ثم قاتله إن شئت من غير غدر ولا خيانة ،
وهذا الحكم ثابت في كلِّ وقت ، وعن الحسن البصري هي محكمة إلى يوم القيامة، وعن سعيد بن جبير: جاء رجل من المشركين إلى علي عليه السَّلام فقال: إن أراد الرَّجل منَّا أن يأتي محمداً بعد انقضاء هذا الأجل -أي الأربعة الأشهر- ليسمع كلام الله أيقتل؟ ، فأجاب علي كرَّم الله وجهه: لا؛ لأنَّ الله تعالى يقول : (وإن أحد من المشركين استجارك ..) الآية، إلا الذين عاهدتم، أي لكن الذين عاهدوا منهم عند المسجد الحرام ولم يظهر منهم نكث كبني كنانة وبني ضمرة فتربَّصوا أمرهم ولا تقاتلوهم .. فما استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على مثله إن الله يحب المتقين ، يعني إن التربص بهم من أعمال المتقين).( )
ولو كانت آية السَّيف النَّاسخة لكان من العبث الاستثناء والأمر بالإجارة ، ويتنازع الطَّرفان الاحتجاج بالآية 29 من سورة التَّوبة (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)، وسواء فهم من الآية العموم بحيث تصدق على كلِّ كتابي ، كما يفهم من يرى بأن (من الذين) ليست للتَّبعيض ، أو من يرى (بأن من) للتَّبعيض، أي قاتلوا من أهل الكتاب الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ولا يحرمون .. الآية ، فإنَّ قبول الجزية من أهل الكتاب مع محافظتهم على عقيدتهم (المحرَّفة) التي لا يقرُّها الإسلام ، يعني أنَّ العلَّة في القتال ليست (كفرهم) بدليل أنَّ القتال توقف بخضوعهم للنِّظام العام وتسليمهم الجزية ، فالذي تغير فيهم ليس الكفر ، ولكن انتفت عنهم صفة –الجزية- .. أي أنَّهم بدفعهم الجزية سالموا فحفظ حقُّهم في العيش بسلام مع المؤمنين.
وينصُّ جار الله الزمخشري على أنَّ مذهب -أبي حنيفة- أنَّ الجزية (تضرب على كلِّ كافر من ذمِّي ومجوسي وصابي وحربي إلا على مشركي العرب وحدهم لما روى الزُّهري أنَّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهِ وَسَلَّمَ- صالح عبدة الأوثان على الجزية إلا من كان من العرب وقال لأهل مكة : "هل لكم في كلمة إذا قلتموها دانت لكم العرب وأدَّت إليكم العجم الجزية".( )
والظاهر أنَّ الحكمة من عدم جواز مصالحة مشركي العرب راجع إلى عدوانيتهم وميلهم للغدر والخيانة، كما قال تعالى: { الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ}، ومن كان لَه ثقافة تمنعه من العدوان والغدر والخيانة كان يقبل منه الجزية أو العهد ولو بدون جزية.
وهذا حال الرَّسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهِ وَسَلَّمَ- مع يهود المدينة قبل غدرهم فقد كان وهم على وثيقة المدينة.
بل إنَّ الشَّوكاني ينصُّ على أنَّه "قد وقع الاتفاق على أن تقبل الجزية من كفَّار العجم من اليهود والنصارى والمجوس ، وقال مالك والأوزاعي وفقهاء الشام : إنها تقبل من جميع الكفار من العرب وغيرهم"، الدَّراري المضيئة.
- أمَّا الاحتجاج بالآية الكريمة :{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ}(البقرة: 193)، ومثيلها في سورة الأنفال :{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(الأنفال:39) فأكثر بعداً عن آيتي السَّيف والجزية بكثير .. يكفي أن نتذكر الآيات التي قبلها ونعرف سبب نزولها لنعلم أنَّ المعنى غير ما ذهب إليه القائلون بأنَّ الكفر هو العلَّة.
قال تعالى:{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ * الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}(البقرة:190-194).
يقول الشَّهيد سيد قطب:
(ورد في بعض الروايات أنَّ هذه الآيات هي أوَّل ما نزل في القتال نزل قبلها الإذن من الله للمؤمنين الذين يقاتلهم الكفار بأنَّهم ظلموا...
وكذلك الآية في الأنفال نزلت قبل بدر الكبرى كما في بعض الرِّوايات ومعلوم أنها معطوفة بحرف العطف على ما قبلها أي أنَّ الأمر بالقتال حتى لا تكون فتنة مقيَّدة بعدم جواز العدوان بتجاوز قتال من لم يقاتل أو إخراج من لم يخرج المسلمين ، وفيها النَّهي عن القتال عند المسجد الحرام إلا لردِّ العدوان المباشر .. وهي بهذا المعنى تعني أن عدم مقاتلة من يقاتل المسلمين تحرجاً من الشَّهر الحرام أو لحرق المسجد الحرام فيه فتنة.)( )
بل إن سعيد عبد العظيم ينصُّ على أنَّ هذه الآية متعلقة بالمرحلة الثَّالثة من مراحل التَّدرج التي مر بها الجهاد وفيها - كما ينسب إلى علماء السَّلف - فرض القتال على المسلمين لمن يقاتلهم فقط.
ويخلص السَّيد محمد حسين فضل الله من مناقشته إلى القول:
(بأنَّ ثمَّة فرقاً كبيراً في الدِلالة اللُّغوية بين -الأمر بالقتل والقتال-وبيان ذلك أنَّ كلمة "قاتل"على وزن فاعل تدلُّ على المشاركة وبالتَّالي، وهي تستلزم وجود طرفين يشتركان فعلاً واحداً وهو القتال في فرضنا الحالي بل أكثر من ذلك ، أنَّ هذا اللَّفظ لا ينطبق إلا تعبيراً عن مقاومة لباديء سبق إلى قصد القتل فالمقاوم للباديء الذي يسمى - مقاتلاً- أمَّا الباديء فهو أبعد من أن يسمى عرفاً مقاتلاً بل هو في الاستخدام الشَّائع والمتداول معتدياً وقاتلاً ولا يمكن تسميته مقاتلاً.
من هنا فالمقاتلة بما هي من أفعال المشاركة إنَّما تقوم مع فرض تصور معتد أو ”قاتل“ ينهض للتَّصدي له ”مقاتل“ وإلا ما كان هناك معنى للمشاركة بكلام وجيز يقول الواحد منا قتلت فلاناً إذا ما بدأه بالقتل ، ويقول : قاتلته إذا ما قاوم سعيه إلى قتله أو إذا ما سابقه إلى ذلك أي إلى القتل كي لا ينال منه.
من هنا فإن -الآيات إنما تتحدث عن وضع يكون فيه ”الحربيون“ من كتابيين أو غيرهم ، إما متلبسين بحالة القتل أو متوثبين إليه يخططون ويهيئون له عدته، عندها من الطبيعي أن ينهض المسلمون لقتالهم.
فالباعث لقتالهم هنا هو درء العدوان ورد القتل وإحباط المخطط الخاص بذلك وصولاً إلى إعادة فرض الهدوء والسلام عن طريق نظام خاص هو نظام الجزية".( )
وبالنسبة للأحاديث التي استفاد منها -أن الكفر- الباعث للقتال وهي : ”أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة“. رواه البخاري ومسلم وأبوداود والنسائي وابن ماجة والترمذي،عن أبي هريرة،والحديث بتمامه:أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله،فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله،قال السيوطي:حديث متواتر،وصححه الألباني[ انظر الحديث 1370في صحيح الجامع.]
ورواه البخاري ومسلم عن ابن عمر،والنسائي عن أبي بكرة،وابن ماجة-والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة،بزيادة(ويؤتو الزكاة) بعد الشهادة.[صحيح الجامع،الحديث1370]
ورواه مسلم عن أبي هريرة بتعبير:{....حتى يشهدواأنلا إله إلآ الله ويؤمنوابي وبما جئت له.....}[صحيح الجامع،الحديث1372]
ورواه أيضاً ثالثاً بتعبير{....حتى يقولوا لا إله إلآ الله فمن قال لا إله إلآ الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه...}[صحيح الجامع، الحديث 1373]( )
والآخر : "اغزو باسم الله وفي سبيل الله قاتلوا من كفر بالله "
والثالث: ”اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم..“ “.{رواه أحمد في مسند،وابو داود،والترمذي،عن سمرة.الألباني:ضعيف[انظر حديث رقم 1063 في ضعيف الجامع .]
فقد أجيب عليها بما يلي:
بالنسبة للحديث الأول ، وهو أوضحها دلالة وأصحها سنداً لاتفاق البخاري ومسلم عليه:
أ- ذكر الحافظ ابن حجر أن من العلماء من استبعد صحته مستدلاً بأن ابن عمر ”راوي الحديث“ لو كان عنده علم بهذا الحديث لما ترك أباه ينازع أبابكر قتال مانعي الزكاة . فضل الله - نقلاً عن فتح الباري 1/57.
ب- لو افترض صحته فهو معارض لما هو معلوم ضرورة إلا إذا خصص في أناس مخصوصين ، أو بغيره من الأحاديث الدالة على النهي عن قتل من لا يقاتل، روى الحسين بن أحمد السياغي عن الأخوين الإمامين -المؤيد بالله وأبي طالب- القول بأن الحديث كما ذهب بعض الحنفية يعتبر في قوم من اليهود يعتقدون أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهِ وَسَلَّمَ- رسول ، ولكن مبعوث إلى العرب لا إليهم.
ج- وهو مناقض -للآية 29 من التوبة- آية الجزية إن حمل على العموم ، أي أن النص على قبول المصالحة مع أهل الكتاب في الجزيرة العربية مع بقائهم على عقيدتهم مخالف لنص هذا الحديث إن حمل على العموم.
د- ثبت النهي عن قتل النساء وكبار السن والمتخلين للعبادة والعبيد والعسيف مع بقائهم على الكفر ، وقد سبق أن ذكرنا الكثير من الأحاديث التي تنهى عن قتل النساء ، ولكنا نذكر هنا بما يلي -نقلاً عن الشوكاني في الدراري المضيئة ونيل الأوطار-:
عن ابن عمر في الصحيحين وغيرهما قال: (وجدت امرأة مقتولة في بعض من مغازي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهِ وَسَلَّمَ- فنهى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهِ وَسَلَّمَ- عن قتل النساء والصبيان) والنساء لهن عقيدة لم يشترط تخليهم عنها والصبيان سيلحقون أمهاتهم في العقيدة التي لن تكون الإسلام.
وأخرج أبو داود من حديث أنس أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- قال: ((لا تقتلوا شيخاً فانياً ، ولا صبياً ولا امرأة)). والشيخ أولى بالقتل إن كان سببه ودافعه العقيدة الكافرة ، ولما كان الفرق بينه وبين الشاب هو القدرة على القتال فإن العلة من النهي عن قتله هو عدم المقاتلة وليس الكفر.
وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والبيهقي من حديث رباح بن ربيع أنه قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهِ وَسَلَّمَ- : ((لا تقتلوا ذرية ولا عسيفاً)). والبعد هنا أيضاً واضح بشكل أكبر فالعسيف وهو ((أجير)) الأرض منع من قتله لأنه لا يقاتل ، ولأن استمرار حياته ضرورة .
وأخرج أحمد من حديث ابن عباس أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهِ وَسَلَّمَ- قال: ((لا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع))، وأصحاب الصوامع هم الدعاة إلى العقيدة المخالفة المقتطعون لها.. وفي إسناده إبراهيم بن عباس بن أبي حبيبة وهو ضعيف وقد وثقه أحمد.
وأخرج أحمد والإسماعيلي في مستخرجه من حديث كعب بن مالك عن عمه : أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهِ وَسَلَّمَ- حين بعث ابن أبي الحقيق بخيبر نهى عن قتل النساء والصبيان ، ورجاله رجال الصحيح.
ويقول الشوكاني: ((وقد قيل إنه وقع الاتفاق على المنع من قتل النساء والصبيان إلا إذا كان لضرورة)).
وفي الصحيحين وغيرهما أنَّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها ، وكان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي... وكانوا مجوساً ، أي لم يأمر بقتلهم مع شركهم.
وأخرج أبو داود من حديث أنس أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهِ وَسَلَّمَ- بعث خالداً إلى أكيدر دومة فأخذوه فأتوا به فحقن دمه وصالحه على الجزية، مع بقائه على الشرك أو مجوسيته.
حديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما ، أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهِ وَسَلَّمَ- أوصى عند موته بثلاث (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) والشاهد أن المشركين ظلوا إلى ما بعد وفاة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- في الجزيرة ولم يأمر بقتلهم، ويقول الشَّوكاني والأدلة قد دلت على إخراج كل مشرك من جزيرة العرب سواء كان ذمياً أو غير ذمي ، وقيل: إنما يمنعون من الحجاز فقط استدلالاً بما أخرجه أحمد والبيهقي من حديث أبي عبيدة ابن الجراح : ((أخرجوا يهود الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب)).
وقد حكى ابن حجر في فتح الباري عن الجمهور أن الذي يمنع منه المشركون من جزيرة العرب هو الحجاز خاصة.. قال : وهو مكة والمدينة وما وراءهما ، لا فيما سوى ذلك بما يطلق عن اسم الجزيرة ، وعن الأحناف: يجوز مطلقاً إلا المسجد الحرام ، وعن مالك: يجوز دخولهم الحرم للتجارة ، وقال الشافعي : لا يدخلون الحرم أصلاً إلا بإذن الإمام ، وذهبت ”الهادوية“ والزيدية إلى أنه يجوز الإذن لهم بسكون جزيرة العرب لمصلحة المسلمين.
وقد ذهب أكثر العلماء إلى جواز الاستعانة بالمشرك في الحرب عملاً بفعل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهِ وَسَلَّمَ- فقد خرجت خزاعة مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهِ وَسَلَّمَ- على قريش عام الفتح وهم مشركون. ((الداري:278-299)).
وبهذا نخلص إلى القول مع العلامة الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي والشيخ محمد مهدي شمس الدِّين ومعهما غالبية العلماء كما نقلنا أقوالهم ويعبر عنها آية الله العضمى السَّيد محمد حسين فضل الله بقوله:( بأنَّ الجهاد مشروع في نطاق شروطه الشَّرعية ، ولا نستطيع اعتباره أصلاً يحتاج تركه إلى الرُّخصة بل ربما يبدو الأصل في علاقات المسلمين بغيرهم هي السِّلم.. ولعل هذا ما تشهد به الآيات القرآنية الكريمة التي جاء في بعضها كلمة (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا)، وفي بعضها الآخر : (قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا) (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) [البقرة:208]. وقال تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله)، الأنفال:6. وقال تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) الممتحنه.
وقال تعالى: (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً).
ويؤكد السَّيد فضل الله بالقول: ”ولعل الخطأ الذي يقع فيه كثير من الباحثين والفقهاء والمفسرين أنهم ينظرون إلى كل آية بمفردها ويعتمدون في صرف ظواهرها على أخبار غير موثوق بها، ويتحدثون عن نسخ بعضها ببعض في ما لا مجال فيه للنسخ لاختلاف الموضوع والجهة استناداً إلى أخبار آحاد لا تفيد علماً ولا ظناً) ( )
والخلاصة التي يصل إليها القارئ للنُّصوص المتعلقة بموضوع الجهاد سيجد أنه رغم اختلاف فقهاء المذاهب الإسلامية حول بعض الأحكام المتعلقة بموضوع الجهاد كالباعث إليه - إلا أنهم متفقون في الجملة على ضرورته ووجوبه ، إلا أن وجوب القتال ليس مطلقاً في كل وقت وعلى كل مسلم فمنه ما هو فرض عين كحالة الدفاع عن بيضة الإسلام أو عندما يتعين بأمر ذي الولاية الشرعية ، ومنه ما هو فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، ومنه ما هو جائز ومندوب ، والأصل حرمة القتال وعدم جوازه إلا بتوفر شروط سبق أن ذكرناها ومنها للتأكيد عليها
1- وجود دولة لها سيادة أو كيان سياسي مميز عن غيره ولها دار معروفة.
2- أن يكون الجهاد بأمر أو إذن المتولي الشرعي ، إمام أو أمير أو رئيس أو ملك ، وهذا الشرط مجمع عليه إسلامياً ولا يشترط في حالة الدفاع عن عدوان واقع.
3- أن يسبق ”المعركة“ إعلان حالة حرب أو الدعوة إلى الإسلام أو الصلح أو تكون حالة الحرب قائمة فعلاً بين المسلمين والكفار أو البغاة.. أو حالة الدفاع لصد هجوم أو اعتداء واقع حالاً.
4- وأن لا يكون في الأشهر الحرم إلا في حالة الدفاع أو رد العدوان المباشر.
5- وأن لا يكون المجاهد مديناً إلا بإذن .
6- ويحرم بمنع الأبوين إذا لم يكن لهما من يرعاهما ، (حتى وإن كان الأبوان ذميين).
7- ولا يجوز الغدر بعد الأمان أو العهد.
وأن من أمنه مسلم ولو في حالة الحرب لا يجوز لمسلم آخر خفر ذمته.. ولا يجوز اللجوء إلى أسلحة القتل الجماعي إلا في حالة خلو أرض المعركة ممن لا يجوز قتلهم .. إلخ، وغير ذلك مما له علاقة بالجهاد من قضايا لا يخلو كتاب فقه منها.
وفي الأخير أود التأكيد على أننا بحاجة ماسة إلى مناقشة موضوع ”الجهاد“ بهدف تكوين رؤية تتفق مع طبيعة الظروف التي تمر بها الأمة، وفي ظل التطور التكنولوجي الذي مكن الإنسان من امتلاك القدرة على تدمير وإنهاء الحياة الإنسانية. وبهذا فان القراءات السابقة لأحكام الجهاد القتالي التي تمت في عهد السَّيف والرُّمح والمنجنيق قد لا تتناسب مع القراءة في عصر أسلحة الدَّمار الشامل وأسلحة الفتك البيلوجي والكيميائي والعبوات النَّاسفة المتحكم بها عن بعد.
ويجب من حيث المبدأ التذكير بالغاية من الجهاد والتأكيد على أنَّ الأصل في القتال الحرمة وليست الإباحة وعليه فإنَّ أيَّ دعوة إلى الجهاد ممن كان وضد من كان يجب أن يدلَّل عليها من الكتاب والسُّنة وأن يحدَّد في الدَّعوة الوسائل والأساليب التي يجب أن يحكم بها فعل الجهاد ليتناسب مع أحكام الشَّريعة الإسلامية ومقاصدها وغاياتها وكذلك تحديد غايته أو النَّتيجة المطلوبة من القتال والمستهدف منه حتى لا تكون الدَّعوة إلى القتال دعوة للقتل العبثي الذي يتناقض مع حكمة الله ورحمته التي تقضي بأن تظل الحياة حتى يأتي الأجل للكافر لتضل فرص وأبواب الهداية مفتوحة أمامه حتى آخر رمق وهذه الدَّعوة للمراجعة ليست تعبير عن حالة من الشُّعور بالهزيمة أو واقعة تحت تأثيرها ولكنها نابعة من الشُّعور بالمسؤلية التي يجب على كل مسلم واعٍ أن يتحلى بها.
والله من وراء القصد.
سبق القول أنه لا خلاف بين المسلمين على وجوب الجهاد في الجملة وعلى ضرورته ، إلا أنَّ هذا الوجوب ليس مطلقاً بل مقيداً بالأسباب والدَّوافع والمبرِّرات وقد اختلف الفقهاء حول الباعث على الجهاد بناء على خلافهم حول الإجابة على الأسئلة التَّالية:(هل الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم ممَّن يخالفهم في العقيدة: السِّلم أو الحرب؟ بمعنى آخر: هل يجب على المسلمين أن يقاتلوا غير المسلمين، ولو كانوا مسالمين لهم، كافّين أيديهم عنهم، لا يضمرون لهم شراً، ولا يظاهرون عليهم عدواً؟
أو الواجب على المسلمين ألا يقاتلوا إلا من يقاتلهم ويعتدي على حرماتهم، على أنفسهم أو أهليهم أو أموالهم أو أرضهم، أو يقف في وجه دعوتهم ويصدّ دعاتها، ويعترض طريقهم، ويفتن من دخل في الإسلام باختياره بالأذى والعذاب؟
وقد يعبّر عن هذه القضية بصيغة أخرى، وهي: لماذا يقاتل المسلمون الكفَّار؟ أهو لمجرد كفرهم؟ أم لعدوانهم على المسلمين بصورة أو بأخرى؟)( )
نجد أكثر من إجابة فمن العلماء والباحثين من ذهب إلى القول بأنَّ الباعث إلى الجهاد (درء الحرابة) الواقعة والمتوقعة من الكافر أو الباغي انطلاقًا من تعريف الجهاد بأنه استفراغ الوسع في مدافعة العدو ، أو في سبيل إعلاء كلمة الله)(1)، الذي بني على مسلمة تتمثل في الاعتقاد بأنَّ الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هي السِّلم {وإن جنحوا للسِّلم فاجنح لها وتوكل على الله}(2).
وذهب الفريق الآخر إلى القول بأنَّ الباعث إلى الجهاد (الكفر) بصرف النَّظر عن الحرابة انطلاقًاً من تعريف الجهاد بأنَّه (بذل الجهد في قتال الكفَّار أو البغاة)( ) ، أو هو (الدُّعاء إلى الدِّين الحقِّ في قتال من لم يقبله)( ). ويوضح القرضاوي ذلك بقوله: (وهكذا انقسم أهل العلم والفكر في موضوع الجهاد إلى فريقين:
1ـ فريق دعاة السِّلم؛ إذ يعتبرونه الأصل في العلاقة مع غير المسلمين، إلا أن يقع اعتداء على المسلمين، أو على دينهم بالفتنة عنه، والصد عن سبيله، أو على المستضعفين في الأرض من المسلمين أو من حلفائهم، ونحو ذلك. وهؤلاء يسمونهم (الدِّفاعيين)؛ لأنهم يقولون: إن الجهاد شرع دفاعاً بالمعنى الذي شرحناه، ولا يبدأ بالهجوم من غير سبب.
2ـ وفريق دعاة الحرب؛ لأنهم يعتبرون الأصل في العلاقة بالكفَّار هي الحرب، وعلة قتالهم هي الكفر، وليس مجرد العدوان على أهل الإسلام أو على دعوتهم؛ لأن طبيعة الإسلام هي التَّوسع، وإخضاع الأنظمة الكافرة لسلطان حكمه، وهكذا كانت -في رأيهم- معظم غزوات الرسول، وفتوحات أصحابه. وهؤلاء يسمونهم (الهجوميين)؛ لأنهم لا يقصرون الجهاد على الجانب الدِّفاعي، كما يقول الآخرون، بل هو حق تسانده قوة، ومصحف يحرسه سيف، ورسالة تدعو العالم إلى ثلاثة أشياء: إما الإسلام، وإما الجزية، وإما القتال)
وهو مبني على ذلك إن الجهاد (طلب أو ابتداء) لتبليغ دين الله ودعوة النَّاس إليه وإخراجهم من الظُّلمات إلى النُّور وإعلاء دين الله في أرضه وأن يكون الدِّين لله وحده)( )، وهو بهذا حرب مقدسة غرضها تطهير الأرض من رجس الكفرة المشركين ، وأن الجهاد في سبيل الله ماضٍ في هذه الأمة إلى يوم القيامة حتى لا يبقى على وجه الأرض مشرك)( ).
ووفقاً لهذا القول يكون مجرد وجود الكفر سبباً لإعلان الحرب المقدسة لتطهير الأرض من رجس الكفرة والمشركين حتى لا يبقى مشرك على وجه الأرض)، ولكلٍّ من الفريقين أدلته التي يحتج بها ، من القرآن الكريم والسُّنة النَّبوية الكريمة ، فالقائلون بأنَّ الباعث إلى الجهاد (الكفر) بصرف النَّظر عن الحرابة يستدلون على ذلك بآيات كثيرة من القرآن الكريم أصرحها في الدِّلالة على ما يذهبون إليه قوله تعالى في سورة التَّوبة: { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة:5].
باعتبارها نصاً عاماً ناسخاً لكلِّ النُّصوص الموحية بإمكانية التَّعايش السِّلمي بين أمة الإسلام والكفار باستثناء أهل الذِّمة عملاً بالآية الشَّريفة { قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة: 29].
أما الآيات التي يفيد ظاهرها بإمكانية التَّعايش مع الآخرين من أهل الكتاب وغيرهم فَتُفَسَّر بسبب نزولها وبأنَّها منسوخة (بآية السيف) وبالمرحلية والتَّدرج المرتبط بحال الجماعة الإسلامية في بداية الدَّعوة، فأحكام الجهاد تدرَّجت –
كما نصَّ على ذلك الشَّهيد سيد قطب رحمه الله في ص7 من كتابه معالم في الطريق بالقول: (وقد مرت مراحل الجهاد بحسب التَّبليغ الذي كان يتلقاه الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- فأوَّل ما أوحى إليه ربُّه تبارك وتعالى أن يقرأ باسم ربِّه الذي خلق ... إلى أن يقول: ثم أذن له في الهجرة ، وأذن له في القتال ، ثم أُمر أن يقاتل من قاتله ويكف عمَّن اعتزله ، ثم أمره أن يقاتل المشركين حتى يكون الدِّين كلَّه لله، ثم كان الأمر مع الكفًَّار على ثلاثة أقسام: 1- أهل صلح وهدنة ، 2- وأهل حرب، 3- وأهل ذمَّة.
وقد بينت سورة براءة حكم جميع هذه الأقسام بما فيهم المنافقون وأهل الكتاب .
وبعد نزول براءة واجتياز الإسلام لأكثر المراحل صار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام:
1- مسلم مؤمن به ، 2- مسالم له آمن (أهل الذمة)، 3- خائف محارب.
ومن هذا يتبين حتمية الانطلاق الحر للإسلام في صورة الجهاد بالسيف إلى جانب الجهاد بالبيان، دعوة صادقة لتحرير الإنسان في الأرض بوسائل تشمل كل جوانب الواقع البشري وفي مراحل محددة، لكلِّ مرحلة وسائلها المتجددة، ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة، قال تعالى: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة)، من كتاب السِّيرة .( )
وبهذا المعنى على كلِّ مسلم أن يقاتل في سبيل الله لأنَّ (من مات ولم يغز أو لم يحدث نفسه به مات على شعبة من النِّفاق)، بحسب نصِّ الحديث المروي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخرجه مسلم[ ]والغاية من القتال بحسب وجهة النَّظر هذه كما يعبر عنها أحمد بن تيمية أن تكون (كلمة الله هي العليا) وكلمة الله اسم جامع لكلماته التي تضمنها كتابه.. فمن عدل عن الكتاب قُوِّمَ بالحديد ولهذا كان قوام الدِّين بالمصحف والسَّيف ، وقد روى جابر بن عبدا لله رضي الله عنهما ، قال: (أمرنا رسول الله أن نضرب بهذا - يعني السيف - من عدل عن هذا - يعني المصحف) ، وثبت بالكتاب والسُّنة وإجماع الأمة أنَّه يقاتل من خرج عن شريعة الإسلام وإن تكلم بالشِّهادتين ، وقتال هؤلاء واجب ابتداءً بعد بلوغ دعوة النَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- إليهم بما يقاتلون عليه فأمَّا إذا بدعوا المسلمين فيتأكد قتالهم ( ).
ويعتبر الخبر المروي عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما والذي أخرجه الشيخان ونصه: (أنَّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصَّلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى).
يعتبر هذا النَّص النَّبوي أوضح ما في الموضوع دلالة على ما يذهب إليه القائلون بأنَّ (الكفر) هو الباعث إلى القتال (والمعنى أنَّ الدِّين الإسلامي ليس مجموعة من العقائد الكلامية وجملة من المناسك والشَّعائر فحسب كما يفهم من معنى الدِّين في هذا العصر بل الدِّين الإسلامي نظام شامل جاء ليقضي على سائر النُّظم الباطلة الجائرة القائمة في العالم ويقطع دابرها... وأثر العلم بهذا الحديث في المجتمع - تقضي بأنَّه يجب أن تكون العبادة لله وحده ، وكبح جماح الآلهة الكاذبة الذين تكبروا في أرض الله بغير الحق وجعلوا أنفسهم أرباباً من دون الله واستئصال شأفة ألوهيتهم. ...
والأحكام:
وجوب قتال المشركين والملحدين حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، ويقيموا الصَّلاة ويؤتوا الزَّكاة لأنَّ الأمر للرَّسول أمر للأمَّة الإسلامية). [ ]
والكفر (الذي يبعث إلى القتال) قد يكون بمجرد الابتداع الذي قد يكون للمخالفة في جزئية من جزئيات العبادة (فمن ابتدع بدعة أو حكم بغير ما أنزل الله فليس معناه إلا الشَّر والفساد والخروج في النِّهاية عن نطاق الإيمان ، وقد قال تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)[ ]..
(وقد اعتبر علماء السَّلف أن المرحلة الأخيرة للجهاد (قتال الكفار ابتداء)، ناسخة لبقية المراحل ، قال ابن العربي قوله تعالى : (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث ثقفتموهم)، ناسخة لمائة وأربعة عشر آية ، وقال حسن صديق البخاري : (ما ورد في موادعتهم أوفي تركهم إذا تركوا المقاتلة فذلك منسوخ باتفاق المسلمين)، وذهب السِّيوطي إلى القول بعدم النَّسخ ولكن يعمل بكلِّ مراحله عند الحالة المشابهة كالحالة التي شرعت، ووافق على ذلك الزَّركشي وسيد قطب. ( )
ويلخِّص الدُّكتور يوسف القرضاوي أدلة أصحاب هذا الرأي بالآتي:-
أولاً: حديث: "بُعثت بين يدي السَّاعة بالسَّيف"
ومن خلال مناقشته1:- لسند الحديث يصل إلى القول بأن (ومثل هذا الرَّاوي لا يؤخذ منه حديث يحمل مثل هذا المضمون الخطير: الإسلام دين السَّيف! وأنَّ الرَّسول يرتزق من رمحه!)
2 - نظرة أخرى في الحديث من جهة متنه ومضمونه .
وإذا غضضنا الطَّرف عن سند الحديث وما فيه من كلام، ونظرنا في متنه ومضمونه، وجدناه منكرًا، لا يتفق مع ما قرَّره القرآن بخصوص ما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم.
فالقرآن لم يقرر في آية واحدة من آياته أنَّ محمدًا رسول الله بعثه الله بالسَّيف، بل قرَّر في آيات شتى أنَّ الله بعثه بالهدى ودين الحق والرَّحمة والشِّفاء والموعظة للنَّاس .
ثانياً: حديث أمرت أن أقاتل النَّاس حتى يقولوا "لا إله إلا الله" .
اتخذ دعاة الحرب على العالم من هذا الحديث: سنداً لتأييد دعوتهم، والحديث صحيح لا شكَّ فيه، متفق عليه. ولكن ما معناه؟
من المعلوم أن كلمة "النَّاس" في هذا الحديث عام يراد بها خاص، فالمراد منهم مشركو العرب الذين عادوا الدَّعوة منذ فجرها، وعذَّبوا المسلمين في مكة ثلاثة عشر عاماً، وحاربوا الرَّسول تسعة أعوام في المدينة، وغزوه في عقر داره مرتين، يريدون استئصاله وأصحابه، والقضاء على دعوته، وهؤلاء القوم -كما وصفتهم سورة التوبة: "لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمَّة" "نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرَّسول، وهم بدءوكم أول مرَّة" فقد نفض الرسول يده منهم، ولم يعد هناك أمل في صلاحهم، كما بينا قبل ذلك في الكلام عن (آية السَّيف).
فهؤلاء لهم موقف لا ينطبق على غيرهم، خاصة أنَّ الإسلام يريد أن يجعل من الحجاز حرماً للإسلام، ومعقلاً له، لا ينازعه فيه دين آخر.
يقول العقاد: "وكان النَّبي -صلوات الله عليه- يعاقب في حروبه بمثل ما عوقب به، ولا يجاوزه إلى اللَّدد في الخصومة، فإذا انتهت الحرب على عهد من العهود وفّى به، وأخذ على أتباعه أن يوفوا به في غير إغلال ولا إسلال، أي في غير خيانة ولا مراوغة.
وثابر على الوفاء في جميع عهوده، وثابر أهل الجزيرة من المشركين واليهود على الغدر بكل عهد من تلك العهود، وعقدوا النِّية سراً وجهراً على إعنات المسلمين وإخراجهم من ديارهم، لا يحرمون حراما في مهادنتهم ولا في مسالمتهم، ولا يزالون يؤلبون عليهم الأعداء داخل الجزيرة وخارجها. وأصرُّوا على ذلك مرة بعد مرة حتى أصبحت معاهدتهم عبثاً لا يفيد، ولا يغني عن القتال فترة إلا ردَّهم إليه بعد قليل،
ووضح من لدد القوم وإصرارهم عليه أنهم لا يهادنون إلا ليتوفروا على جمع العدَّة، وتأليب العدو من الخصوم والأحلاف، فبطلت حكمة الدَّعوة إلى العهد، ولم يبق للمسلمين من سبيل إلى الأمان معهم إلا أن يخرجوهم من حيث أرادوا أن يخرجوا المسلمين، ولا يبقوا أحداً غير مسلم في تلك الجزيرة التي أبت أن تكون وطناً للمشركين وأحلافهم. فانتهت حكمة التَّخيير بين المعاهدة والقتال، ووجب الخيار بين أمرين لا ثالث لهما، وهما: الجوار على الإسلام أو على الخضوع لحكمه، فلا جوار في الجزيرة لأحد من المشركين وأحلافهم اليهود إلا أن يدين بالإسلام أو بالطَّاعة.
{وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } [البقرة: 191].
وقال النَّبي -عليه الصلاة والسلام- يومئذ: "أمرت أن أقاتل النَّاس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فمن قالها عصم منِّي ماله ودمه إلا بحقها، وحسابهم على الله".
وفي هذا المعنى ينصُّ القرآن الكريم على محاربة أهل الكتاب الذين تحالفوا مع المشركين، ونقضوا العهود المتوالية بينهم وبين النَّبي، كما تقدم في ذكر الغزوات والسَّرايا:
{ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29].
والوجه الوحيد الذي ينصرف إليه هذا الحكم هو أنه حيطة لا محيد عنها لضمان أمن المسلمين)
وجهة النَّظر الأخرى:
ويعبر عن وجهة النَّظر الأخرى - التي تذهب إلى أنَّ الباعث على الجهاد - ليس مجرد الكفر بل الحرابة بصرف النَّظر عن وجود الكفر من عدمه وهو مذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل والزَّيدية والمتأخرين من الشِّيعة الأمامية فيما نعلم باستثناء آية الله الخوئي كما أن ابن السيد محمد بن إسماعيل الأمير يؤكد على أنَّ للشَّيخ ابن تيمية كتاباً أكد فيه على أن الحرابة هي الباعث على الحرب وليست الكفر وبه قال العلامة الحسن بن أحمد الجلال في كتابه ضوء النَّهار، ويعبر عن الموقف محمد حسين فضل الله بقوله:
(رغم اختلاف فقهاء المذاهب الإسلامية حول بعض الأحكام الفرعية المتعلقة بموضوع الجهاد إلا أنَّهم متفقون على وجوب الجهاد في الجملة وأيضاً على ضرورته.
وآيات القرآن صريحة الدِّلالة على وجوب القتال وحتميته لأنَّه سنَّةَّ من سنن الله ، قال تعالى: (ولولا دفع الله النَّاس بعضهم ببعض لهدِّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إنَّ الله لقوي عزيز)، الحجرات، وقوله تعالى: { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}[البقرة-251].
إلا أنَّ (الجهاد بما هو فعل قتال إذا ما عزل عن ظروفه وملابساته يحمل في طياته معنى الإكراه والتَّسلط كمفردات تنظم العلاقة مع الآخر سواء كان هذا الآخر مؤمناً مسلماً يخالفنا في الفهم المتعلق ببعض القضايا الاجتهادية ويصدر منه سلوك مخالف لما نألفه ونعتاده أن نعتقد مشروعيته ونندفع بالشِّعور بواجب النَّهي عن المنكر أو الأمر بالمعروف لقتاله بل لقتله كما حدث ويحدث في تاريخنا البعيد والقريب والمعاصر أو كان المخالف كتابياً أو مشركاً.
وقد يفاقم من حضور هذا المعنى (الإكراه) والقهر والتَّسلط طبيعة الجهاد العقائدية الأمر الذي يعني أنَّه إنما شرِّع من أجل إكراه الآخرين على الدُّخول في الإسلام أو الاستسلام والخضوع لهم واحد ورأي واحد فيما لا يوجد نصّ قاطع...
وقد أثير ويثار حوله الكثير والكثير من اللَّغط والالتباسات التي تسعى إما لصرفه عن حقيقة موقعه في الإسلام بغية تزوير التَّاريخ الإسلامي من خلال وصفه بما ليس فيه كما جرت عادة المستشرقين الغربيين من نعت الإسلام بأنه دين السَّيف ، وإما لحبسه في إطار واحد وحيد كالجهاد القتالي مع ما في ذلك من تفكيك الفرع عن الأصل وتحويل الاستثناء إلى عام والجزء إلى كلٍّ وفصل الفعل عن روحه ومبتغاه ، وبالتَّالي إحداث قطيعة بين الأصل والفرع وتبديل في المواقع ، رتب ويرتب خللاً كبيراً فاضحاً في تفسير وتأويل آيات الجهاد القتالي والذي يفاقم من خطورة هذه القطيعة هو تحويلها إلى وقائع ومعطيات وأحداث تمون أعداء الإسلام بمادة رسم تشوه صورته ليس في عقول وقلوب غير المسلمين للحيلولة بين الإسلام وبين عقول وقلوب الباحثين عنه كملجأ ومخرج من أزمة الإنسان المعاصر - فحسب- بل لدى أغلبية المسلمين الذين باتوا يخشون سيادة الإسلام وحكمه أكثر من خشيتهم واقعهم المأساوي المعاش لأنَّ الإسلام يقترن بالعنف والقسوة غير المتوقعة وغير المعقولة).
(ولكي يفهم (الجهاد) في حقيقته يجب أن نفهم نظرة الإسلام لحرية العقيدة وشروط التَّكليف والمسئولية، ونظرية الإسلام للصُّلح والسَّلام.
وفي سبيل ذلك يجب التَّمييز بين المرحلتين الأساسيتين في مسار الدَّعوة المحمدية وهما:
1- المرحلة المكية.
2- المرحلة المدنية.
وبالتَّالي التَّمييز بين ما هو دعوة وبين ما هو دولة في الإسلام وهو تمييز منهجي لأنَّه لم يحدث انفصام زمني بين المرحلتين المكية والمدنية.
ولم تنسخ الثَّانية الأولى - إنما جاءت المرحلة الثَّانية مكملة للأولى لتبني عليها وتكمل مفردات البناء ، ولوازمه والتي كانت تنتظر اكتساب الدَّعوة جسداً سياسياً، أي تجسمها في الدَّولة وكان طبيعياً في هذه المرحلة التي أخذت فيها الدَّعوة تسير جنباً إلى جنب مع بناء الدَّولة أن تختلط مفاهيم وأساليب كلٍّ منهما مما خيَّل للكثيرين أنَّ الإسلام يقاتل من أجل قضية الدَّعوة كوسيلة من وسائلها بينما كان الواقع أنه كان يقاتل من أجل قضية الدَّولة التي ترتكز على الدَّعوة كفكر من أجل حماية الدَّولة والدَّعوة معاً ومن الواضح أنَّ استمرارية الخلط بين مفاهيم وأساليب الدَّعوة وموجباتهما.. من شأنه أن يؤدي إلى خلط والتباس في الفهم والقراءة لموضوع الجهاد). ( )
ويؤيد القرضاوي هذا الرأي بقوله:( فريق المعتدلين أو دعاة السَّلام، أو الدِّفاعيين كما يسمونهم، يقولون: هؤلاء لا يقاتلون، لأنَّهم لم يفعلوا شيئاً يستوجب قتالهم، بل صريح آيات القرآن الكثيرة يمنع من قتالهم، نقرأ من هذه الآيات:
في سورة البقرة: { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } [البقرة: 190]
في نفس السُّورة: { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]
وفي سورة آل عمران: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (الآية: 64).
وفي سورة النساء: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَ اتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً }(الآية: 90).
وفي نفس السِّياق:{ فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَـئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا}(النساء: 91).
وفي سورة المائدة في سياق الحديث عن أهل الكتاب: {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (الآية: 13).
وفي سورة الأنفال:{ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}(الآيتين: 61 – 62) حتى عند إرادة الخداع يحث القرآن المسلمين على أن يستجيبوا لدعوة السِّلم.
وفي سورة التَّوبة، وهي سورة إعلان الحرب على الشِّرك وأهله النَّاقضين للعهود، النَّاكثين للأيمان: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} (الآية: 6).
وفيها: { إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة: 7).
وفي سورة الحجر: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الآية: 94).
وفي سورة النحل: { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (الآية: 125).
وفي نفس السورة: { وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ }(الآية: 127).
وفي سورة الأحقاف: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} (الآية: 35).
وفي سورة الممتحنة: { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(الآية: 8).
هذا الآيات كلُّها وكثير غيرها يستدل بها المعتدلون على أنَّ الإسلام يسالم من يسالمه، ويعادي من يعاديه، ولا يقاتل إلا من قاتله أو صدَّ عن سبيل دعوته، وفتن المؤمنين بها من أجل دينهم. ) ( )
ومن خلال مناقشة أهم نص يستدل به أصحاب وجهة النظر القائلة بأن العلة هي الكفر نصل إلى نقيض ماذهبوا إليه{ بَرَاءَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } (التوبة:1-4).
وانظر: كيف احترم عهد هؤلاء المشركين، الذين عاهدهم الرَّسول والمسلمون، فوفّوا بعهدهم معهم، ولم ينقصوهم شيئاً، ممَّا فرضته المعاهدة ولم يظاهروا عليهم عدواً، فأمر الله تعالى أن يتمَّ إليهم عهدهم إلى مدَّتهم، فهذا من التَّقوى التي يحبها الله ويحب أهلها.
وبعدها مباشرة نجد آية تقول:
{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ}(التوبة: 6).
فهي تأمر بإجارة المستجير المشرك، وإتاحة الفرصة له حتى يسمع كلام الله، كما تأمر بأن يبلغ الموضع الذي يأمن فيه.
ثم تليها آيات أخر تعلِّل للأمر بقتلهم، وأنَّه لم يأت من فراغ ولا تعنُّت ولا اعتداء، فهم يصدُّون عن سبيل الله ولا يرقبون في مؤمن إلّا ولا ذمة، ثم كيف نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم، وطعنوا في دين الله، وهمُّوا بإخراج الرَّسول، وبدءوا المؤمنين بالقتال أول مرة!!
وبدليل الأخبار التي تظاهرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنَّه حين بعث علياً رحمة الله عليه ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم – أمره فيما أمره أن ينادي به فيهم: "ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد- فعهده إلى مدته"، ثم بدليل قوله تعالى بعد آية السَّيف (7): {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة:7).
وإنَّما هم قوم من المشركين، كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم عهد إلى أجل، فنقضوه قبل أن تنتهي مدته...، وقوم آخرون كان بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم عهد غير محدود الأجل. فهؤلاء وأولئك هم الذين أعلن الله عز وجل براءته هو ورسوله منهم، وأمهلهم أربعة أشهر من يوم الحج الأكبر (والمراد به يوم عيد النَّحر، وهو اليوم الذي نبذ إليهم فيه العهد على سواء)؛ ليسيحوا في الأرض خلالها حيث شاءوا، ثم ليحدِّدوا فيها موقفهم من الدَّعوة إلى الإيمان بالله رباً واحداً: فإمَّا تابوا فكان في استجابتهم لداعي الله خيرهم، وإلا فهي الحرب، وما تستتبعه من قتل وأسر وحصار وترقب[ ]!
وإنَّ الله جل ثناؤه ليبين لهم سبب حكمه هذا عليهم، في آيات تلي آية السيف..
أليسوا هم أئمَّة الكفر، يطعنون في دين الله، ويصدُّون النَّاس عن سبيله؟! ينقضون عهدهم مع رسول الله، ويظاهرون عليه أعداءه؟! ينافقون الرَّسول والمؤمنين، فيرضونهم بأفواههم، وتأبى قلوبهم أن تعتقد ما يقولون؟! ينكثون أيمانهم، فيهمون بإخراج الرَّسول، ويبدءون المؤمنين بالقتال في بدر؟! يتربصون بالمؤمنين، ويترقبون فرصة للانقضاض عليهم، دون رعاية لعهد ولا ذمَّة؟!
بلى، فليقاتلهم المؤمنون إذن؛ ليعذِّبهم الله بأيدي من يريدون هم أن يعذبوهم، وليخزيهم ويذلَّهم، ولينصر المؤمنين عليهم، فيشفى صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم!.. ثم ليتوب على من أراد له التَّوبة والسَّعادة في الدُّنيا والآخرة[ ].
ليست الغاية إذن من قتالهم هي إكراههم على الدُّخول في الإسلام بقوة السِّلاح، وما كانت (الغاية) قط هذا الإكراه...
ولا أدل على هذا من قول الله عزَّ وجلَّ لنبيه، في الآية التي تلي آية السَّيف دون فاصل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ }(التوبة:6)؛ فإنَّ في هذه الآية أمرًا من الله عزَّ وجلَّ لرسوله بأن يجير من يستجير به من المشركين، ثم يدعوه إلى الإيمان بالله، ويبيِّن له ما في هذا الإيمان من خير له، فإن هو ـ بعد هذا ـ أصرَّ على ضلاله، واستمرأ البقاء على كفره بالله، وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغه المكان الذي يأمن فيه، فعلى الرسول أن يجيبه إلى طلبه، وأن يؤمنه حتى يصل إلى ذلك المكان.
هذا إلى تلك الآية التي تنفي جنس الإكراه في الدِّين نفياً صريحاً قاطعاً، وتعلل لهذا النَّفي حيث تقول: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}(البقرة:256)
والآية الأخرى التي تستبعد أن يستطيع الرَّسول صلى الله عليه وسلم إكراه الناس على الإيمان، حتى لتحكم باستحالة هذا الإكراه إذا تقول:{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99).
وإنَّما شُرِّع القتال في الإسلام كما يذهب القرضاوي (لتأمين الدُّعاة إليه، ولضمان الحرية التي تكفل لهم إبلاغ دعوته، ودرء الشُّبه عن عقيدته، بالمنطق السَّليم، والحجَّة المقنعة.
ومن أجل هذا خصَّ أئمَّة الكفر بالأمر بقتالهم؛ لأنهم يحولون بالقوة بين الدُّعاة والشُّعوب التي يجب أن تدعى. ومن أجله علَّل الأمر بالقتال –ضمن ما علَّل به – بصدِّ المشركين للنَّاس عن سبيل الله، وقتالهم المؤمنين به. ومن أجله كذلك كان السبب في نبذ عهد فريق من المشركين إليهم أنهم نقضوه، فأعلنوا الحرب على الدَّعوة، وظاهروا أعداءها عليها!..
فإذا ما هيَّئت للدُّعاة وسائل الدَّعوة في أمن وحرية – فلا حرب ولا قتال؛ لأن دين الله حينئذ سيهدي بنوره كلَّ ضال، ولأن بطلان الشِّرك بالله سيتضح يومئذ لكلِّ مشرك، فلن يصرَّ عليه إلا جاحد معاند مكابر في الحقِّ، وهؤلاء قلَّة لا يؤبه لها، ولا بدَّ منها في كلِّ مجتمع؛ لتتحقَّق كلمة الله جلَّ ثناؤه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآَمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا}(يونس:99)!.[ ]انتهى.
2 ـ و مناقشة آية (وقاتلوا المشركين كافة):
يصل القرضاوي إلى نفس النتيجة حيث يقول: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}(التوبة: 36).
وهي جزء من آية كريمة جاءت في سياق تعظيم الأشهر الحرم، التي لها حرمة خاصة، ينبغي أن تعظم، ويقدر قدرها، ومن ذلك: تحريم القتال فيها، فإنه من ظلم النَّفس الذي حرمه الله فيها. يقول تعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}(التوبة:36).
فهذه الآية التي يزعمون أنَّها آية (قطع الرِّقاب) أو (آية السَّيف) تأتي في سياق تحريم القتال في الأشهر الحرم، أي فرض هدنة إجبارية على المسلمين إذا كتب عليهم القتال وهو كره لهم: أن يغمدوا السِّيوف، ويكفُّوا عن القتال أربعة أشهر في العام: ثلاثة سرد، أي متتابعة، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وواحد فرد، أي منفرد وحده، وهو: رجب. أي يفرض عليهم ثلث العام هدنة للمسلم.
ثم يقول تعالى في الآية: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} (التوبة:36)، فهي من باب المعاملة بالمثل، ومن عامل خصمه بمثل ما يعامله فما ظلمه.
وقال العلامة رشيد رضا: في تفسير قوله تعالى: "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" هذه غاية للأمر بقتال أهل الكتاب ينتهي بها إذا كان الغلب لنا، أي قاتلوا من ذكر: عند وجود ما يقتضي وجوب القتال كالاعتداء عليكم، أو على بلادكم، أو اضطهادكم وفتنتكم عن دينكم، أو تهديد أمنكم وسلامتكم، كما فعل الرُّوم، فكان سبباً لغزوة تبوك، حتى تأمنوا عدوانهم بإعطائكم الجزية في الحالين اللذين قيدت بهما، فالقيد الأول لهم، وهو: أن تكون صادرة عن يد أي قدرة وسعة، فلا يظلمون ويرهقون، والثاني لكم، وهو: الصِّغار المراد به كسر شوكتهم، والخضوع لسيادتكم وحكمكم، وبهذا يكون تيسير السَّبيل لاهتدائهم إلى الإسلام بما يرونه من عدلكم وهدايتكم وفضائلكم، التي يرونها أقرب إلى هداية أنبيائهم منهم. فإن أسلموا عمَّ الهدى والعدل والاتحاد، وإن لم يسلموا كان الاتحاد بينكم وبينهم بالمساواة في العدل، ولم يكونوا حائلاً دونها في دار الإسلام.
والقتال لما دون هذه الأسباب التي يكون بها وجوبه عينياً أولى بأن ينتهي بإعطاء الجزية، ومتى أعطوا الجزية: وجب تأمينهم وحمايتهم، والدِّفاع عنهم، وحريتهم في دينهم بالشُّروط التي تعقد بها الجزية، ومعاملتهم بعد ذلك بالعدل والمساواة كالمسلمين، ويحرَّم ظلمهم وإرهاقهم بتكليفهم ما لا يطيقون كالمسلمين، ويسمون (أهل الذِّمَّة) لأنَّ كلَّ هذه الحقوق تكون لهم بمقتضى ذمَّة الله وذمَّة رسوله. وأما الذي يعقد الصُّلح بيننا وبينهم بعهد وميثاق، يعترف كلٌّ منَّا ومنهم باستقلال الآخر فيسمون (أهل العهد) والمعاهدين.[ ]
(هؤلاء هم الذين تأمر الآية باستمرار قتالهم حتى تأمن شرَّهم، وتثق بخضوعهم، وانخلاعهم من الفتنة التي يتقلبون فيها، وجعل القرآن على هذا الخضوع علامة، هي دفعهم الجزية، التي هي اشتراك فعلي في حمل أعباء الدولة، وتهيئة الوسائل إلى المصالح العامة للمسلمين وغير المسلمين.
وفي الآية ما يدل على سبب القتال الذي أشرنا إليه وهو قوله تعالى: (وهم صاغرون)، وقوله: (عن يد) فإنَّهما يقرران الحال التي يصيرون إليها عند أخذ الجزية منهم، وهي خضوعهم، وكونهم بحيث يشملهم سلطان المسلمين؛ وتنالهم أحكامهم، ولا ريب أنَّ هذا يؤذن بسابقية تمردهم، وتحقق ما يدفع المسلمين إلى قتالهم.
هذا هو المعنى الذي يفهم من الآية، ويساعد عليه سياقها، وتتفق به مع غيرها، ولو كان القصد منها أنَّهم يقاتلون لكفرهم، وأنَّ الكفر سبب لقتالهم لجعلت غاية القتال إسلامهم، ولما قبلت منهم الجزية وأقروا على دينهم.
أما الآية الثَّانية: (قاتلوا الذين يلونكم...) فليست واردة مورد الآيات السَّابقة في بيان سبب القتال وما يحمل عليه، وإنما جاءت إرشاداً لخطَّة حربية عملية تترسَّم عند نشوب القتال المشروع فعلاً، فهي ترشد المسلمين إلى وجوب البدء عند تعدُّد الأعداء بقتال الأقرب فالأقرب عملاً، على إخلاء الطَّريق من الأعداء المناوئين، وتسهيلاً لسبل الانتصار.[ ]
وهذا المبدأ الذي قرَّره القرآن من المبادئ التي تعمل بها الدُّول المتحاربة في هذا العصر الحديث، فلا تخطو دولة مهاجمة خطوة إلا بعد إخلاء الطريق أمامها، والاطمئنان إلى زوال العقبات من سبيلها.
وبهذا يتبين أنَّه لا صلة للآيتين بسبب القتال الذي تضافرت الآيات الأخرى على بيانه[ ]. انتهى.
ومما سبب الغموض في فهم أحكام القتال عدم التمميز بين أحكام الجهاد القتالي والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر وأحكام دفع الصَّائل أو حق الدِّفاع الشَّرعي ،وهذا ماسنحاول أنَّ نعرض له في دراسة مستقلة لأنَّ ذلك كلّه لا يتسع له المقال هنا واقتصرنا على (الجهاد) من جزئية الباعث إليه وما له علاقة بالمقارنة بين وجهتي نظر القائلين بأنَّه الكفر وقد عرضنا لها والقائلين بأنها (الحرابة)، ولتوضيحها نذكر بالتَّعريف الذي أورده آية الله العظمى السَّيد محمد حسين فضل الله، وهو (استفراغ الوسع في مدافعة العدو)، وهي الأكثر شيوعاً لأنَّها وجهة نظر جمهور أهل السُّنة الحنابلة والحنفية والمالكية وظاهر مذهب الزَّيدية ومتأخري الشِّيعة الإمامية فيما نعلم لأنَّ الإمام الحجَّة الذي لا يجوز الجهاد الابتدائي غائب وعليه فإنَّ الجهاد لن يكون إلا جهاد دفاعي أي دفع حرابة
وكنت قد بيَّنت في الصَّفحات السَّابقة تعريف القائلين بأنَّ الباعث على الجهاد الكفر وتعريف القائلين بأنَّ الباعث درء الحرابة ، واستعرضت أدلَّة الفريق الأول وأقوال عدد من رموزه وعلمائه ، وهنا أستعرض أدلَّة الفريق الثَّاني حيث استدلَّ هؤلاء على (أنَّ موجب قتال المسلمين لغيرهم إنَّما هو العدوان الصَّادر عنهم لا كفرهم بآيات كثيرة والكثير الكثير من الأحاديث النَّبوية التي نزلت أو قيلت في سور وأوقات متفرقة .. كلُّها تقضي بوضوح على منع من لا يواجهون المسلمين بأي عدوان أو لا يتأتى منهم قتال
فمن الآيات القرآنية:
1- قوله تعالى:{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} (8)(البقرة 19).
2- قوله تعالى:{أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (التوبة: 13).
3- قوله تعالى:{ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(الممتحنة: 8-9).
وقد رويت الكثير من الأحاديث النَّبوية الشَّريفة التي تصل حد التَّواتر المعنوي ونصَّ فيها (النَّهي) صراحة عن قتل من لا يقاتل من الكفَّار كالأطفال والنِّساء والرجل الكبير والمختلي للعبادة في صومعته كالرُّهبان والعبيد وأُجراء الأرض (العسيف)، ولو كان الكفر هو الباعث على القتال وليس درء العدوان لما كان النَّهي عن قتلهم مع بقائهم على الكفر ، وبما أنَّ الأحاديث كثيرة جداً فسنكتفي ببعضها منها :
1- عن الإمام زيد بن عليّ عن أبيه عن جده عن الإمام علي عليهم السَّلام قال: (كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- إذا بعث جيشاً من المسلمين قال انطلقوا بسم الله وبالله ، وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- أنتم جند الله تقاتلون في سبيل الله ادعوا إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، إلى أن يقول: فإن أظهركم الله عليهم فلا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا رجلاً كبيراً لا يطيق قتالكم ، ولا تغوروا عيناً ، ولا تقطعوا شجراً إلا شجراً يضركم ، ولا تمثلوا بآدمي ولا بهيمة ولا تظلموا ، ولا تعتدوا ، وأيما رجل من أقصاكم أو أدناكم من أحراركم أو عبيدكم أعطى رجلاً منهم أماناً أو أشار بيده فأقبل إليه بإشارته فله الأمان حتى يسمع كلام الله ، فإن قبله فأخوكم في الدين ، وإن لم يقبل فردوه إلى مأمنه واستعينوا بالله تعإلى عليه ...) الحديث.
2- في تيسير المطالب للسَّيد أبي طالب بسنده عن الإمام زيد بن علي على نفس الحديث ولكن بدل : (ولا تظلموا ولا تعتدوا) ، (ولا تغلوا ولا تغدروا)، وأخرجه البيهقي عن الإمام زيد بن علي .
3-نقل السيد محمد حسين فضل الله ا عن الإمام الحسين بن عليّ عليهما السَّلام ، قال: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- يقول: (.... ولا تغلوا ، ولا تمثلوا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة ولا تقطعوا شجرة ..) الحديث. وفي رواية أخرى : ولا متبتلاً في شاهق .( )
4- وروى أبو داود .. من حديث أنس بن مالك : (أنَّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- قال : انطلقوا باسم الله ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً صغيراً ولا امرأة ..) الحديث.
5- وأخرج البيهقي من طريق أنس بن مالك أنَّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- قال: (انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً.... ) الحديث.
6- وأخرج البيهقي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه في حديث طويل أنه قال ليزيد بن ابي سفيان حين بعثه إلى الشَّام إنك ستجد أقواماً زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لَه ، وإني موصيك بعشر ، لا تقتلن امرأة ولا صبياً ولا كبيراً هرماً ولا تقطعن شجراً...) الخبر .
ويعلق العلامة الحسين بن أحمد السِّياغي مؤلف الروض النضير في شرح مسند الإمام زيد بن علي بقوله: (إنَّ النَّهي عن قتل الوليد والمرأة فقد ثبت ما يؤيده في المتفق عليه من حديث ابن عمر ، نهى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهِ وَسَلَّمَ- عن قتل النِّساء والصِّبيان ، .. وعند أحمد بن حنبل والحاكم وابن حبان وأبي داود والبيهقي والنسائي من حديث رباح بن الرَّبيع أنَّ النَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- مرَّ بامرأة مقتولة فقال: (ما بال هذه تقتل ولا تقاتل)، ثم قال لرجل : (انطلق إلى خالد وقل له إن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- يأمرك أن لا تقتل ذرية ولا عسيفاً )، لأن القتل إنما كان لدفع الضر حيث لا ضرر لا يجوز فعله ، وهو الوجه في عدم قتل الشَّيخ الكبير وقد أشار الحديث إلى أنَّ العلَّة عدم قدرته على القتل كالأعمى والمقعد).( )
وقد حدَّد شرح الأزهار هذا الموقف في صيغة قانونية واضحة (وإذا ظفر المسلمون بالكفَّار فإنه لا يجوز أن يقتل شيخ كبير فإنه لا يطيق المقاتلة ولا مُخْتَلٍ للعبادة لا يقاتل كرهبان النصارى ولا الأعمى ولا مقعد ولا صبي صغير لا يقاتل مثله ولا امرأة ولا عبد مملوك،).
و(إذا اتقى الكفَّار بصبيانهم أو نسائهم أو عبيدهم أو شيوخهم أو عميانهم أو مقعدهم جاز قتل التِّرس للضَّرورة وهي إن لم يقتل التِّرس استولوا على من صالوا عليه). ( )
ويؤكد هذا المبدأ السَّيد محمد حسين فضل الله بقوله : (كاد الإجماع ينعقد على عدم جواز قتل من لا يقاتل من الكفار حتى لو كان قادراً على القتال.. وقد حكي عن الخليفة عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه ، قوله: اتقوا الله في الفلاحين الذين لا يبغون لكم الحرب).( )
وقد عدَّ أهل السُّنة (عدم جواز قتل من لا يقاتل من جزئيات الأصل العام؛ لأن الأصل الأول هو عصمة الأحياء وإبقاء الكفَّار وتقريرهم لأنَّ الله تعالى ما أراد إفناء الخلق ولا خلقهم ليقتلوا ، وإنما أباح قتلهم لعارض ضرٍّ وجد منهم ، وليس جزاء على كفرهم لأنَّ دار الدنيا ليست دار جزاء بل الجزاء في الآخرة)، فضل الله نقلاً عن ابن الصلاح.
وفي المقابل يقول سعيد عبدالعظيم عن أهل السُّنة: (إجماع العلماء على أن جهاد الكفَّار وتطلبهم ودعوتهم للإسلام وجهادهم إن لم يقبلوه أو يقبلوا الجزية قد ذهب بعض السَّلف الصَّالح رضوان الله عليهم إلى أنَّ جهاد الابتداء والطَّلب فرض عين مثل جهاد الدَّفع تماماً).( )
وأكثر من ذلك ينقل عن ابن تيمية القول : (ثبت بالكتاب والسُّنة وإجماع الأمة أنه يقاتل من خرج عن شريعة الإسلام وإن تكلم بالشِّهادتين وقتال هؤلاء واجب ابتداء)( )، وقال ابن كثير : (ثم أمر تعالى بقتال الكفَّار حتى لا تكون فتنة أي شرك ، قاله ابن عباس وأبو العالية ، ومجاهد وحسن وقتادة ومقاتل والسدي وزيد بن أسلم ، ويكون الدِّين لله أي يكون الله وحده لاشريك له فيرتفع البلاء عن عباده.
وقال الشَّوكاني : (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) فيه الأمر بمقاتلة المشركين إلى غاية وهي ألا تكون فتنة وأن يكون الدِّين لله وهو الدُّخول في الإسلام والخروج عن سائر الأديان المخالفة فمن رضي بالإسلام وأقلع عن الشرك لم يحل قتله)، سعيد عبدالعظيم- سابق.
ويخلص سعيد عبدالعظيم من ذلك إلى نتيجة وهي أن من أهداف الجهاد:
قتل الكافرين وإبادتهم ومحقهم وذلك لأنَّ الكفر كالسَّرطان بل أشد ، وينقل عن ابن العربي نقده للقول بأن الباعث الكفر وينقضه بقوله : (فإن قيل لو كان المبيح للقتل هو الكفر لقتل كلُّ كافر .
(ونحن مأمورون) بأن نترك منهم النِّساء والرُّهبان ومن تقدم ذكره منهم ،
فالجواب أنَّا إنَّما تركناهم مع قيام المبيح لهم لأجل ما عارض الأمر من منفعة أو مصلحة ، أمَّا المنفعة فالاسترقاق).( )
الموازنة بين الأدلَّة:
أولاً: إنَّ عمدة استدلال أصحاب الراي الأول من القرآن الكريم الآية الخامسة والتَّاسعة والعشرون .
من سورة التَّوبة ، والآية 193 من سورة البقرة، 39 من سورة الأنفال، والآية الخامسة التي يعتقد القائلون أنها ناسخة لكلِّ الآيات المنظِّمة لعلاقات المسلم بغيره من غير المسلمين وبالذَّات المشركين - هذه الآية مسبوقة بالآية الرَّابعة من نفس السُّورة وربطهما معاً بما بعدهما من آيات يدحض دعوى النَّسخ قال تعالى:{ بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} ثم قال : (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ * كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ}(التَّوبة : 3-8).
فالمتأمِّل في هذه الآيات الثَّلاث يظهر له نقيض ما ذهب إليه القائلون بأنَّ الكفر هو الباعث ، وذلك من خلال ما يأتي:
2- في الاستثناء الصَّريح عن البراءة في الآية الثَّالثة للمعاهدين من المشركين الذين لم ينقصوا المسلمين من عهودهم السَّابقة شيئاً ، ولم يظاهروا على المسلمين ، وفيها أمر صريح بإتمام العهد إلى المدَّة واعتبار الإتمام من التَّقوى ، فالبراءة خاصة بالمشركين المعروفين لدى المسلمين آنذاك بأنهم لا يرقبون في المؤمنين إلا ولا ذمَّة .. يرضون المؤمنين بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون.
3- الاستثناء في الآية السَّادسة (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه)، تدلُّ على أنَّ الكفر ليس الباعث على القتل لأنَّه لو كان كذلك فما معنى الإجارة والإبلاغ إلى المأمن بعد سماع الحجَّة والبقاء على الكفر ، بكلام آخر ، ألا يستوجب بقاؤه على كفره قتله في الحال عند من يقول بأن الباعث على القتال هو الكفر؟ وبالتَّالي ما الدَّافع لإبلاغه مأمنه ، وما السَّبب الكامن وراء ذلك ؟
يقول السَّيد فضل الله: ((في الحقيقة لا يمكن فهم السَّبب إلا بأنَّ هذا المشرك عندما طلب الإجارة ليسمع كلام الله تعالى ، إنما ينزع عن نفسه صفة الحربي ليلبس صفة الإنسان المسالم ، والدُّخول في أمان المسلمين والبقاء على هذا الحال طيلة مدَّة الإجارة إلى حين بلوغه مأمنه مما يسقط وجوب قتاله وبالتَّالي قتله ، فهو لم يدخل ديار المسلمين محارباً وإنَّما مستطلعاً وما دامت هذه صفته أو حاله فلا موجب لقتاله بالمقتضى الأخلاقي وبمقتضى مبدأ المعالة بالمثل)).
4- لنتأمل الاستثناء الوارد في قوله تعالى: (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم .. إلا)، فلو كان الكفر بحدِّ ذاته موجباً للقتال فكيف يمكن أن نسوغ معاهدة من أمرنا الله تعالى بقتالهم؟ ، ولا يستقيم هنا الرَّد بأنَّ هذه المعاهدات إنَّما كانت قبل نزول ما يسمى بآية السَّيف ، لأنَّه بموجب هذا القول (أي القول بالنَّسخ وبأنَّ الكفر هو العلَّة) من المفروض حينئذ أن تكون هذه الآية بمثابة إلغاء لهذه المعاهدات دون فرق بين من استقام على العهد ومن لم يستقم ؛ لأنَّه لا يستقيم معها القول بأنَّ الله تعالى إنَّما أمرنا بالاستمرار بين المشركين الذين لم يقاتلونا في الدِّين ولم يقوموا بأي عدوان)، والخطاب الإلهي يأمرنا صراحة بأن نستقيم في برِّ المشركين ما استقاموا في برِّهم لنا، وهذا الأمر يأتي مباشرة بعد آية السَّيف مما يعني أنَّ الحكم باستمرار هذه المعاهدة إنَّما هو بمقتضى الخطاب الجديد وليس بمقتضى استمرار الحكم السَّابق.
لنتأمل أيضاً، في بيان نوع العهد الذي أظهر الله تعالى استنكاره لأن يكون للمشركين عهد عنده تعالى وعند رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَه وَسَلَّمَ- وذلك في قوله عزَّ وجلَّ: (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون)، فهؤلاء إنَّما لم يكن عهد لهم لأنَّ هذه هي حالهم أي أنَّهم ما إن يشعروا بالتَّفوق والغلبة حتى يطيحوا بكلِّ العهود والذِّمم التي أخذوا على أنفسهم الالتزام بها ابتداء وما ذلك إلا لنفاقهم وعنادهم حيث تكذب ألسنتهم ما في قلوبهم وتكذب قلوبهم ما تبديه ألسنتهم).( )
وهذه الآيات الثَّلاث لم يقل أحد بأنَّها وإن جاءت في التَّرتيب بعد الآية الخامسة إلا أنَّها في النزول سابقة لها حتى يصح القول معها بأنَّ مدلولها منسوخ بما دلَّت عليه الآية الخامسة ، أي أنَّ ترتيبها في السياق (بعد آية السيف) يقتضي كونها في التنزيل بعدها، ولذلك لا يصح معها دعوى أنَّها منسوخة بما قبل ، بل يمكن أن يقال أنَّها ناسخة لما قبلها و إلا لاستحال فهم (الأحكام)و لكانت تبعاً للهوى والميول .
ويوضح جار الله الزَّمخشري صاحب الكشاف معنى الآيات بما يلي:
(روي أنَّهم -أي المسلمين- عاهدوا المشركين من أهل مكة وغيرهم من العرب فنكثوا إلا أناساً منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة ، فنبذ العهد إلى النَّاكثين وأمرهم -قاتلوا المشركين-بعد انقضاء الأشهر الحرم لأن لا عهد بينك وبينهم ولا ميثاق ، فإن استأمنك أحد منهم ليسمع ما تدعو إليه فأمِّنه حتى يسمع كلام الله ويتدبَّره على حقيقة الأمر ثم أبلغه بعد ذلك داره التي يأمن فيها إن لم يسلم ثم قاتله إن شئت من غير غدر ولا خيانة ،
وهذا الحكم ثابت في كلِّ وقت ، وعن الحسن البصري هي محكمة إلى يوم القيامة، وعن سعيد بن جبير: جاء رجل من المشركين إلى علي عليه السَّلام فقال: إن أراد الرَّجل منَّا أن يأتي محمداً بعد انقضاء هذا الأجل -أي الأربعة الأشهر- ليسمع كلام الله أيقتل؟ ، فأجاب علي كرَّم الله وجهه: لا؛ لأنَّ الله تعالى يقول : (وإن أحد من المشركين استجارك ..) الآية، إلا الذين عاهدتم، أي لكن الذين عاهدوا منهم عند المسجد الحرام ولم يظهر منهم نكث كبني كنانة وبني ضمرة فتربَّصوا أمرهم ولا تقاتلوهم .. فما استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على مثله إن الله يحب المتقين ، يعني إن التربص بهم من أعمال المتقين).( )
ولو كانت آية السَّيف النَّاسخة لكان من العبث الاستثناء والأمر بالإجارة ، ويتنازع الطَّرفان الاحتجاج بالآية 29 من سورة التَّوبة (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)، وسواء فهم من الآية العموم بحيث تصدق على كلِّ كتابي ، كما يفهم من يرى بأن (من الذين) ليست للتَّبعيض ، أو من يرى (بأن من) للتَّبعيض، أي قاتلوا من أهل الكتاب الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ولا يحرمون .. الآية ، فإنَّ قبول الجزية من أهل الكتاب مع محافظتهم على عقيدتهم (المحرَّفة) التي لا يقرُّها الإسلام ، يعني أنَّ العلَّة في القتال ليست (كفرهم) بدليل أنَّ القتال توقف بخضوعهم للنِّظام العام وتسليمهم الجزية ، فالذي تغير فيهم ليس الكفر ، ولكن انتفت عنهم صفة –الجزية- .. أي أنَّهم بدفعهم الجزية سالموا فحفظ حقُّهم في العيش بسلام مع المؤمنين.
وينصُّ جار الله الزمخشري على أنَّ مذهب -أبي حنيفة- أنَّ الجزية (تضرب على كلِّ كافر من ذمِّي ومجوسي وصابي وحربي إلا على مشركي العرب وحدهم لما روى الزُّهري أنَّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهِ وَسَلَّمَ- صالح عبدة الأوثان على الجزية إلا من كان من العرب وقال لأهل مكة : "هل لكم في كلمة إذا قلتموها دانت لكم العرب وأدَّت إليكم العجم الجزية".( )
والظاهر أنَّ الحكمة من عدم جواز مصالحة مشركي العرب راجع إلى عدوانيتهم وميلهم للغدر والخيانة، كما قال تعالى: { الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ}، ومن كان لَه ثقافة تمنعه من العدوان والغدر والخيانة كان يقبل منه الجزية أو العهد ولو بدون جزية.
وهذا حال الرَّسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهِ وَسَلَّمَ- مع يهود المدينة قبل غدرهم فقد كان وهم على وثيقة المدينة.
بل إنَّ الشَّوكاني ينصُّ على أنَّه "قد وقع الاتفاق على أن تقبل الجزية من كفَّار العجم من اليهود والنصارى والمجوس ، وقال مالك والأوزاعي وفقهاء الشام : إنها تقبل من جميع الكفار من العرب وغيرهم"، الدَّراري المضيئة.
- أمَّا الاحتجاج بالآية الكريمة :{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ}(البقرة: 193)، ومثيلها في سورة الأنفال :{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(الأنفال:39) فأكثر بعداً عن آيتي السَّيف والجزية بكثير .. يكفي أن نتذكر الآيات التي قبلها ونعرف سبب نزولها لنعلم أنَّ المعنى غير ما ذهب إليه القائلون بأنَّ الكفر هو العلَّة.
قال تعالى:{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ * الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}(البقرة:190-194).
يقول الشَّهيد سيد قطب:
(ورد في بعض الروايات أنَّ هذه الآيات هي أوَّل ما نزل في القتال نزل قبلها الإذن من الله للمؤمنين الذين يقاتلهم الكفار بأنَّهم ظلموا...
وكذلك الآية في الأنفال نزلت قبل بدر الكبرى كما في بعض الرِّوايات ومعلوم أنها معطوفة بحرف العطف على ما قبلها أي أنَّ الأمر بالقتال حتى لا تكون فتنة مقيَّدة بعدم جواز العدوان بتجاوز قتال من لم يقاتل أو إخراج من لم يخرج المسلمين ، وفيها النَّهي عن القتال عند المسجد الحرام إلا لردِّ العدوان المباشر .. وهي بهذا المعنى تعني أن عدم مقاتلة من يقاتل المسلمين تحرجاً من الشَّهر الحرام أو لحرق المسجد الحرام فيه فتنة.)( )
بل إن سعيد عبد العظيم ينصُّ على أنَّ هذه الآية متعلقة بالمرحلة الثَّالثة من مراحل التَّدرج التي مر بها الجهاد وفيها - كما ينسب إلى علماء السَّلف - فرض القتال على المسلمين لمن يقاتلهم فقط.
ويخلص السَّيد محمد حسين فضل الله من مناقشته إلى القول:
(بأنَّ ثمَّة فرقاً كبيراً في الدِلالة اللُّغوية بين -الأمر بالقتل والقتال-وبيان ذلك أنَّ كلمة "قاتل"على وزن فاعل تدلُّ على المشاركة وبالتَّالي، وهي تستلزم وجود طرفين يشتركان فعلاً واحداً وهو القتال في فرضنا الحالي بل أكثر من ذلك ، أنَّ هذا اللَّفظ لا ينطبق إلا تعبيراً عن مقاومة لباديء سبق إلى قصد القتل فالمقاوم للباديء الذي يسمى - مقاتلاً- أمَّا الباديء فهو أبعد من أن يسمى عرفاً مقاتلاً بل هو في الاستخدام الشَّائع والمتداول معتدياً وقاتلاً ولا يمكن تسميته مقاتلاً.
من هنا فالمقاتلة بما هي من أفعال المشاركة إنَّما تقوم مع فرض تصور معتد أو ”قاتل“ ينهض للتَّصدي له ”مقاتل“ وإلا ما كان هناك معنى للمشاركة بكلام وجيز يقول الواحد منا قتلت فلاناً إذا ما بدأه بالقتل ، ويقول : قاتلته إذا ما قاوم سعيه إلى قتله أو إذا ما سابقه إلى ذلك أي إلى القتل كي لا ينال منه.
من هنا فإن -الآيات إنما تتحدث عن وضع يكون فيه ”الحربيون“ من كتابيين أو غيرهم ، إما متلبسين بحالة القتل أو متوثبين إليه يخططون ويهيئون له عدته، عندها من الطبيعي أن ينهض المسلمون لقتالهم.
فالباعث لقتالهم هنا هو درء العدوان ورد القتل وإحباط المخطط الخاص بذلك وصولاً إلى إعادة فرض الهدوء والسلام عن طريق نظام خاص هو نظام الجزية".( )
وبالنسبة للأحاديث التي استفاد منها -أن الكفر- الباعث للقتال وهي : ”أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة“. رواه البخاري ومسلم وأبوداود والنسائي وابن ماجة والترمذي،عن أبي هريرة،والحديث بتمامه:أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله،فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله،قال السيوطي:حديث متواتر،وصححه الألباني[ انظر الحديث 1370في صحيح الجامع.]
ورواه البخاري ومسلم عن ابن عمر،والنسائي عن أبي بكرة،وابن ماجة-والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة،بزيادة(ويؤتو الزكاة) بعد الشهادة.[صحيح الجامع،الحديث1370]
ورواه مسلم عن أبي هريرة بتعبير:{....حتى يشهدواأنلا إله إلآ الله ويؤمنوابي وبما جئت له.....}[صحيح الجامع،الحديث1372]
ورواه أيضاً ثالثاً بتعبير{....حتى يقولوا لا إله إلآ الله فمن قال لا إله إلآ الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه...}[صحيح الجامع، الحديث 1373]( )
والآخر : "اغزو باسم الله وفي سبيل الله قاتلوا من كفر بالله "
والثالث: ”اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم..“ “.{رواه أحمد في مسند،وابو داود،والترمذي،عن سمرة.الألباني:ضعيف[انظر حديث رقم 1063 في ضعيف الجامع .]
فقد أجيب عليها بما يلي:
بالنسبة للحديث الأول ، وهو أوضحها دلالة وأصحها سنداً لاتفاق البخاري ومسلم عليه:
أ- ذكر الحافظ ابن حجر أن من العلماء من استبعد صحته مستدلاً بأن ابن عمر ”راوي الحديث“ لو كان عنده علم بهذا الحديث لما ترك أباه ينازع أبابكر قتال مانعي الزكاة . فضل الله - نقلاً عن فتح الباري 1/57.
ب- لو افترض صحته فهو معارض لما هو معلوم ضرورة إلا إذا خصص في أناس مخصوصين ، أو بغيره من الأحاديث الدالة على النهي عن قتل من لا يقاتل، روى الحسين بن أحمد السياغي عن الأخوين الإمامين -المؤيد بالله وأبي طالب- القول بأن الحديث كما ذهب بعض الحنفية يعتبر في قوم من اليهود يعتقدون أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهِ وَسَلَّمَ- رسول ، ولكن مبعوث إلى العرب لا إليهم.
ج- وهو مناقض -للآية 29 من التوبة- آية الجزية إن حمل على العموم ، أي أن النص على قبول المصالحة مع أهل الكتاب في الجزيرة العربية مع بقائهم على عقيدتهم مخالف لنص هذا الحديث إن حمل على العموم.
د- ثبت النهي عن قتل النساء وكبار السن والمتخلين للعبادة والعبيد والعسيف مع بقائهم على الكفر ، وقد سبق أن ذكرنا الكثير من الأحاديث التي تنهى عن قتل النساء ، ولكنا نذكر هنا بما يلي -نقلاً عن الشوكاني في الدراري المضيئة ونيل الأوطار-:
عن ابن عمر في الصحيحين وغيرهما قال: (وجدت امرأة مقتولة في بعض من مغازي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهِ وَسَلَّمَ- فنهى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهِ وَسَلَّمَ- عن قتل النساء والصبيان) والنساء لهن عقيدة لم يشترط تخليهم عنها والصبيان سيلحقون أمهاتهم في العقيدة التي لن تكون الإسلام.
وأخرج أبو داود من حديث أنس أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- قال: ((لا تقتلوا شيخاً فانياً ، ولا صبياً ولا امرأة)). والشيخ أولى بالقتل إن كان سببه ودافعه العقيدة الكافرة ، ولما كان الفرق بينه وبين الشاب هو القدرة على القتال فإن العلة من النهي عن قتله هو عدم المقاتلة وليس الكفر.
وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والبيهقي من حديث رباح بن ربيع أنه قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهِ وَسَلَّمَ- : ((لا تقتلوا ذرية ولا عسيفاً)). والبعد هنا أيضاً واضح بشكل أكبر فالعسيف وهو ((أجير)) الأرض منع من قتله لأنه لا يقاتل ، ولأن استمرار حياته ضرورة .
وأخرج أحمد من حديث ابن عباس أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهِ وَسَلَّمَ- قال: ((لا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع))، وأصحاب الصوامع هم الدعاة إلى العقيدة المخالفة المقتطعون لها.. وفي إسناده إبراهيم بن عباس بن أبي حبيبة وهو ضعيف وقد وثقه أحمد.
وأخرج أحمد والإسماعيلي في مستخرجه من حديث كعب بن مالك عن عمه : أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهِ وَسَلَّمَ- حين بعث ابن أبي الحقيق بخيبر نهى عن قتل النساء والصبيان ، ورجاله رجال الصحيح.
ويقول الشوكاني: ((وقد قيل إنه وقع الاتفاق على المنع من قتل النساء والصبيان إلا إذا كان لضرورة)).
وفي الصحيحين وغيرهما أنَّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها ، وكان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي... وكانوا مجوساً ، أي لم يأمر بقتلهم مع شركهم.
وأخرج أبو داود من حديث أنس أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهِ وَسَلَّمَ- بعث خالداً إلى أكيدر دومة فأخذوه فأتوا به فحقن دمه وصالحه على الجزية، مع بقائه على الشرك أو مجوسيته.
حديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما ، أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهِ وَسَلَّمَ- أوصى عند موته بثلاث (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) والشاهد أن المشركين ظلوا إلى ما بعد وفاة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- في الجزيرة ولم يأمر بقتلهم، ويقول الشَّوكاني والأدلة قد دلت على إخراج كل مشرك من جزيرة العرب سواء كان ذمياً أو غير ذمي ، وقيل: إنما يمنعون من الحجاز فقط استدلالاً بما أخرجه أحمد والبيهقي من حديث أبي عبيدة ابن الجراح : ((أخرجوا يهود الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب)).
وقد حكى ابن حجر في فتح الباري عن الجمهور أن الذي يمنع منه المشركون من جزيرة العرب هو الحجاز خاصة.. قال : وهو مكة والمدينة وما وراءهما ، لا فيما سوى ذلك بما يطلق عن اسم الجزيرة ، وعن الأحناف: يجوز مطلقاً إلا المسجد الحرام ، وعن مالك: يجوز دخولهم الحرم للتجارة ، وقال الشافعي : لا يدخلون الحرم أصلاً إلا بإذن الإمام ، وذهبت ”الهادوية“ والزيدية إلى أنه يجوز الإذن لهم بسكون جزيرة العرب لمصلحة المسلمين.
وقد ذهب أكثر العلماء إلى جواز الاستعانة بالمشرك في الحرب عملاً بفعل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهِ وَسَلَّمَ- فقد خرجت خزاعة مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهِ وَسَلَّمَ- على قريش عام الفتح وهم مشركون. ((الداري:278-299)).
وبهذا نخلص إلى القول مع العلامة الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي والشيخ محمد مهدي شمس الدِّين ومعهما غالبية العلماء كما نقلنا أقوالهم ويعبر عنها آية الله العضمى السَّيد محمد حسين فضل الله بقوله:( بأنَّ الجهاد مشروع في نطاق شروطه الشَّرعية ، ولا نستطيع اعتباره أصلاً يحتاج تركه إلى الرُّخصة بل ربما يبدو الأصل في علاقات المسلمين بغيرهم هي السِّلم.. ولعل هذا ما تشهد به الآيات القرآنية الكريمة التي جاء في بعضها كلمة (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا)، وفي بعضها الآخر : (قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا) (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) [البقرة:208]. وقال تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله)، الأنفال:6. وقال تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) الممتحنه.
وقال تعالى: (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً).
ويؤكد السَّيد فضل الله بالقول: ”ولعل الخطأ الذي يقع فيه كثير من الباحثين والفقهاء والمفسرين أنهم ينظرون إلى كل آية بمفردها ويعتمدون في صرف ظواهرها على أخبار غير موثوق بها، ويتحدثون عن نسخ بعضها ببعض في ما لا مجال فيه للنسخ لاختلاف الموضوع والجهة استناداً إلى أخبار آحاد لا تفيد علماً ولا ظناً) ( )
والخلاصة التي يصل إليها القارئ للنُّصوص المتعلقة بموضوع الجهاد سيجد أنه رغم اختلاف فقهاء المذاهب الإسلامية حول بعض الأحكام المتعلقة بموضوع الجهاد كالباعث إليه - إلا أنهم متفقون في الجملة على ضرورته ووجوبه ، إلا أن وجوب القتال ليس مطلقاً في كل وقت وعلى كل مسلم فمنه ما هو فرض عين كحالة الدفاع عن بيضة الإسلام أو عندما يتعين بأمر ذي الولاية الشرعية ، ومنه ما هو فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، ومنه ما هو جائز ومندوب ، والأصل حرمة القتال وعدم جوازه إلا بتوفر شروط سبق أن ذكرناها ومنها للتأكيد عليها
1- وجود دولة لها سيادة أو كيان سياسي مميز عن غيره ولها دار معروفة.
2- أن يكون الجهاد بأمر أو إذن المتولي الشرعي ، إمام أو أمير أو رئيس أو ملك ، وهذا الشرط مجمع عليه إسلامياً ولا يشترط في حالة الدفاع عن عدوان واقع.
3- أن يسبق ”المعركة“ إعلان حالة حرب أو الدعوة إلى الإسلام أو الصلح أو تكون حالة الحرب قائمة فعلاً بين المسلمين والكفار أو البغاة.. أو حالة الدفاع لصد هجوم أو اعتداء واقع حالاً.
4- وأن لا يكون في الأشهر الحرم إلا في حالة الدفاع أو رد العدوان المباشر.
5- وأن لا يكون المجاهد مديناً إلا بإذن .
6- ويحرم بمنع الأبوين إذا لم يكن لهما من يرعاهما ، (حتى وإن كان الأبوان ذميين).
7- ولا يجوز الغدر بعد الأمان أو العهد.
وأن من أمنه مسلم ولو في حالة الحرب لا يجوز لمسلم آخر خفر ذمته.. ولا يجوز اللجوء إلى أسلحة القتل الجماعي إلا في حالة خلو أرض المعركة ممن لا يجوز قتلهم .. إلخ، وغير ذلك مما له علاقة بالجهاد من قضايا لا يخلو كتاب فقه منها.
وفي الأخير أود التأكيد على أننا بحاجة ماسة إلى مناقشة موضوع ”الجهاد“ بهدف تكوين رؤية تتفق مع طبيعة الظروف التي تمر بها الأمة، وفي ظل التطور التكنولوجي الذي مكن الإنسان من امتلاك القدرة على تدمير وإنهاء الحياة الإنسانية. وبهذا فان القراءات السابقة لأحكام الجهاد القتالي التي تمت في عهد السَّيف والرُّمح والمنجنيق قد لا تتناسب مع القراءة في عصر أسلحة الدَّمار الشامل وأسلحة الفتك البيلوجي والكيميائي والعبوات النَّاسفة المتحكم بها عن بعد.
ويجب من حيث المبدأ التذكير بالغاية من الجهاد والتأكيد على أنَّ الأصل في القتال الحرمة وليست الإباحة وعليه فإنَّ أيَّ دعوة إلى الجهاد ممن كان وضد من كان يجب أن يدلَّل عليها من الكتاب والسُّنة وأن يحدَّد في الدَّعوة الوسائل والأساليب التي يجب أن يحكم بها فعل الجهاد ليتناسب مع أحكام الشَّريعة الإسلامية ومقاصدها وغاياتها وكذلك تحديد غايته أو النَّتيجة المطلوبة من القتال والمستهدف منه حتى لا تكون الدَّعوة إلى القتال دعوة للقتل العبثي الذي يتناقض مع حكمة الله ورحمته التي تقضي بأن تظل الحياة حتى يأتي الأجل للكافر لتضل فرص وأبواب الهداية مفتوحة أمامه حتى آخر رمق وهذه الدَّعوة للمراجعة ليست تعبير عن حالة من الشُّعور بالهزيمة أو واقعة تحت تأثيرها ولكنها نابعة من الشُّعور بالمسؤلية التي يجب على كل مسلم واعٍ أن يتحلى بها.
والله من وراء القصد.
إن مع العسر يسرا،إن مع العسر يسرا
-
- مشترك في مجالس آل محمد
- مشاركات: 625
- اشترك في: الأربعاء أكتوبر 06, 2004 10:39 pm
- اتصال:
أخي العزيز حسن شكر الله سعيك,
بالنسبة لي البحث ما شاء الله طويل نسبيا
والوقت الذي أتمكن أن أدخل فيه على الإنترنت أقضي معظمه في مناقشتك حول موضوع حجية إجماع اهل البيت
ولكن لاشك أن البحث مفيد ومهم جدا أرجو أن اتمكن من قراءته قريبا انشاء الله.
بالنسبة لي البحث ما شاء الله طويل نسبيا



{رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ }{وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ }{وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ }الشعراء83-85


-
- مشترك في مجالس آل محمد
- مشاركات: 144
- اشترك في: الأربعاء ديسمبر 03, 2003 4:49 pm
جزاكم الله خيرا
موضوع ممتاز و نحتاجه في هذا العصر بالذات الذي غلب عليه الفكر التكفيري الاقصائي.
روي أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما تولى الخلافة أوقف الحروب (الفتوحات الاسلامية)، فلما سئل عن ذلك، قال: ان الله سبحانه و تعالى بعث محمد هاديا و لم يبعثه جابيا.
و الله أعلم.
موضوع ممتاز و نحتاجه في هذا العصر بالذات الذي غلب عليه الفكر التكفيري الاقصائي.
روي أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما تولى الخلافة أوقف الحروب (الفتوحات الاسلامية)، فلما سئل عن ذلك، قال: ان الله سبحانه و تعالى بعث محمد هاديا و لم يبعثه جابيا.
و الله أعلم.
قال عبد اللّه بن بابك: خرجنا مع زيد بن علي إلى مكة فلما كان نصف الليل قال: يا بابكي ما ترى هذه الثريا؟ أترى أنّ أحداً ينالها؟ قلت: لا، قال: واللّه لوددت أنّ يدي ملصقة بها فأقع إلى الاَرض، أو حيث أقع، فأتقطع قطعة قطعة وأن اللّه أصلح بين أُمّة محمّد (ص)