(( والعصمة عندنا عن الكبائر، وهي عندهم عن الكبائر والصغائر، وحجتنا: أن الأنبياء - صلوات الله عليهم - معصومون وقد وصفهم الله بمقارفة الذنوب، قال تعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾[الفتح:2]، وقال في موسى: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي﴾[القصص:16]، وقال في يونس: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾[الأنبياء:87]، وفي داود: ﴿فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾[ص:24]، وفي سليمان: ﴿وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ﴾[ص:34]، وفي آدم: ﴿وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾[طه:121].
والعصمة عندنا ألطاف وتنوير يختار صاحبها معها ترك المحرمات وفعل الواجبات، وليست بالإجبار وإلا لما كان لصاحبها مزية وفضل، ولما استحق الجزاء. )) .
وقال أيضاً ما لفظه :-
(( وكذا جماعة أهل البيت والأمة معصومون فيما أجمعوا عليه، ولا نقول بالعصمة في غير هؤلاء لعدم الدليل، ولا نحكم بعدم العصمة لغيرهم، فلعل بعض أفراد الصالحين معصومون، وإن لم يطلعنا الله عليهم إلا أنا لا نحكم بالعصمة لأحد بدون برهان، ولا نحكم بالعدم بدون برهان. )) .
بارك الله فيك أخي الحسن المتوكل. و أحب أن أضيف إلى ما قلتم قول الإمام أحمد بن سليمان في كتاب حقائق المعرفة, في الكلام في خطايا الأنبياء و إن كان فيها إطالة عليكم و لكن فيها من الفائدة الشيئ الكثير
فصل
في الكلام في خطايا الأنبياء عليهم السلام
اعـلم أن الأنبياء صلوات الله عليهم بشرٌ من الناس، يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق -كما قال الله تعالى- وأنهم مُركبون على الشهوات( ) والكراهة، والغفلة والذِّكر والنسيان إلا في تبليغ ما أمروا به فإنهم معصومون عن النسيان والغفلة والسهو والكذب؛ لأن الله قد اختارهم لتبليغ رسالته وأداء أمانته، ولا يجوز أن يُرسل من ينسى شيئاً من تبليغ الرسالة أو يسهو عنها أو يكذب، فهذه الجملة لا تجوز على الأنبياء بل هم معصومون عنها. وكذلك تعمّد معصية الله، قال الله تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة:124]، فأما في سائر أفعالهم غير تبليغ الرسالة، فإنه يجوز عليهم النسيان والغفلة، والخطأ في التأويل، والعجلة، وقد ذكر الله عنهم ذلك، وذكر توبتهم منه وندمهم وإقلاعهم واستغفارهم، فقال في النسيان والخطأ في آدم %: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}[طه:115].
وقال -حاكياً قول موسى للخضر عليهما السلام: {لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ}[الكهف:73]. وقال الله تعالى لنبيئنا÷: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[الأنعام:68].
وقال تعالى في يونس% وعجلته: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ}[الأنبياء:87]. وقد قيل: إن سبب إبَاقِهِ أنه أرسله الله إلى قومه فكذّبوه، فوعدهم( ) بنقمةٍ من الله تُصيبهم بعد ثلاثة أيامٍ، وقال لهم: وعلامة ذلك أن وجوههم تُصبح غُبراً أوّل يومٍ من هذه الأيام، واليوم الثاني تُصبح حمراً، واليوم الثالث تُصبح وجوههم سوداً ويأتيهم العذاب، ثم إنه تنحى عنهم لئلاّ يناله ما نالهم( )، فلما أصبحت وجوههم كما ذكر لهم [في]( ) اليوم الأول واليوم الثاني، صدّقوا وخافوا العذاب، فآمنوا به وجأروا إلى الله بالدّعاء والتوبة، فرفع الله عنهم العذاب( )، فلما كان بعد ثلاثة أيّامٍ أتى يونس% لينظر كيف كانت مصيبتهم من الله تعالى، فأتى وهم سالمون، فاغتمّ لذلك، وأبق خوفاً من أن يكذّبوه واستعجل ولم ينتظر الوحي من ربه، فكان من أمره ما حكاه الله [تعالى]، وقد قال الله لنبيئنا÷: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ، لَوْلاَ أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ}[القلم:48،49]، فبيّن أن فعله كان مكروهاً ومذموماً؛ ولأنه نهى نبيئنا÷ أن يكون مثله، وليس ينهاه إلا عن مذمومٍ، فكان ذنبه الاستعجال، وترك الإنتظار لوحي ربه. وكذلك كانت معصية آدم% استعجاله في أكل الشجرة قبل أن ينزل إليه وحي ربه. وقال تعالى في داود وتأويله الذي ظن أنه جائزٌ له: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ، إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ، إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ، قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}[ص:21-24]، فكان فِعاله صلى الله عليه وسلم في ذلك مذموماً، فتاب منه وندم.
وقد روي عن نبيئنا محمد÷ أنه قال: ((أعطيت ما لم يُعط أحد من الأنبياء قبلي: جُعلت ليَ الأرضُ مسجداً وطهوراً، وذلك قول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}[النساء:43]، وأحلّ لِيَ المغنمُ ولم يُحل للأنبياء قبلي( ) وذلك قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}[الأنفال:41]، ونُصرتُ بالرّعب على مسيرة شهرٍ، وفُضِّلتُ على الأنبياء بثلاثٍ: تأتي أمتي يوم القيامة غرًّا مُحجلين معروفين من بين الأمم، ويأتي المؤذنون يوم القيامة أطول الناس أعناقاً ينادون بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والثالثة( ) ليس من نبيء إلا وهو يحاسب يوم القيامة بذنبٍ غيري؛ لقول الله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}[الفتح:2])).
فدل هذا الخبر على صحة ما قلنا في خطايا الأنبياء. ودل أيضاً على أن محمداً رسول الله أفضل المرسلين، ويؤيد ذلك ما رُوي عنه÷ أنه قال: ((من صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشر صلواتٍ ومحا عنه عشر سيئات واستبق ملكاه الموكلان به أيّهما يُبلِّغُ روحي منه السلام)). وقال÷: ((إكثروا من الصلاة عليّ يوم الجمعة فإنه يوم تُضاعف فيه الأعمال، واسألوا الله لِيَ الدرجة الوسيلة من الجنة، قيل: يا رسول الله وما الدرجة الوسيلةُ من الجنة؟ قال: هي أعلا درجةٍ من الجنة لا ينالها إلا نبيء أرجو أن أكون أنا هو))، فصح أنه÷ أفضل الأنبياء.
ومما يدل على أن النبيء يسهو وينسى ما روي عن رسول الله÷ أنه صلى بجماعةٍ الظّهر خمس ركعاتٍ، فقال له بعض القوم: يا رسول الله هل زِيدَ في الصلاة شيءٌ؟ قال: ((وما ذاك؟)) قال: صليتَ بنا خمس ركعاتٍ، فاستقبل القبلة وهو جالسٌ، وسجد سجدتين، ليس فيهما قراءة ولا ركوعٌ ثم سلّم.
واعـلم أنه لا يُقال: إن النبيء معصومٌ عن جميع المذمومات والمعاصي. لأنه( ) لو كان كذلك لم يكن له ثوابٌ في لَزْمِهِ لنفسه عن المحرّمات، ولَمَا كان محموداً في ترك اتباع الشهوات، ولَمَا كان يوسف% في لزمه لنفسه عن امرأة العزيز محموداً ومُثاباً، وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}[يوسف:24]، فصحّ أنه لزم نفسه (عنها)( ) لا عن عصمةٍ. ولا نقول إن الله عصمه منها بل نقول: إن الأنبياء" مُخيَّرون مُمَكّنون كغيرهم من الآدميين بل إنهم أقوى على نفوسهم وعلى لزمها من المحرمات( ) لِمَا شاهدوا( ) من الدلائل والمعجزات والرسالة من الله لهم( ) والآيات.
وقد يمكن أن يصرف الله عنهم بالتوفيق والتسديد كثيراً من المحظورات كما قال الله -حاكياً عن يوسف%: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ، فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[يوسف:33،34].
واعـلم أنا لا نقطع على من كان عصى الله معصيةً عمداً ثم تاب منها وأناب وأخلص واشتهر إخلاصه وتوبته عند الخاص والعام، وظهر صدقه ووفاؤه وطهارته ونقاؤه( ) أنه لا يجوز أن يرسله الله إلى قوم، بل نقول: إنه قد يمكن ويجوز ذلك؛ لأنه قد خرج من جملة الظالمين، وأهل الظِّنّةِ والمُتّهمين. ألا ترى أن الشاهد الفاسق إذا تاب من فسقه عند أداء الشهادة أنه لا يُقبل منه، ويكون من أهل الظنة، وإذا تاب قبل ذلك بزمانٍ طويلٍ أنه تُقبل شهادته، ولا يُظن فيه كذبٌ ولا شهادة زورٍ.
والدليل على ما قلنا: ما كان من قصة أولاد يعقوب" من عقوق أبيهم وظلم أخيهم، ثم تابوا من ذلك وسألوا أباهم أن يستغفر لهم فغفر الله لهم، ثم كانوا أنبياء بعد ذلك، وقد ذكرهم الله في جملة الأنبياء قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[البقرة:136]، وفي تفسير ابن عباس( ): أن الأسباط هم أولاد يعقوب، وأنهم أنبياء، وهو إجماع الأمة، ولم يخالف أيضاً اليهود في أن الأسباط هم أولاد يعقوب، وأنّهم أنبياء.
والدليل على صحة ما ذكرنا قول الله تعالى لموسى%: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقّبْ يَامُوسَى لاَ تَخَفْ إِنّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ، إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}[النمل:10،11] فصحّ ما قلنا، وقول الله: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة:124]، فليس التائب المخلص بظالمٍ.
ومما يؤيد ما قلنا في خطايا الأنبياء ": ما ذكره المرتضى % في كتاب الشرح والبيان قال: إن الأنبياء " غيرُ معصومين، وأنهم يغفلون ويسهون، وأنّ بُنْيَتَهُمْ مركّبة على بنية الآدميين.
وقال في قول الله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ، ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}[طه:121،122]: فلا تكون التوبةُ إلا من بعد الخطيئة( ).
وقال فيه: من قال إن آدم لم يعص، ولم يظلم موسى نفسه، وكذلك يونس، فقد أكذب كتاب الله تعالى.