اخي العزيز نادر اشكركم على تفاعلكم معنا هنا وأنا مثلك أتمنى على إخينا في الله أبو العباس أو غيره من الاخوان أن يبينوا لنا الاخطاء الغليظة التى وقعنا فيها : والى أن يفعلوا ذلك اليكم
النموذج الثاني من أدلة القائلين بالرؤية من كتاب
الإبانة عن أصول الديانة،لأبي الحسن الأشعري المتوفى سنة 324 هـ 935 م
الباب الأول
الكلام في إثبات رؤية الله سبحانه بالأبصار في الآخرة
مسألة في الرؤية:-
احتجت المعتزلة في أن الله عز وجل لا يُرى بالأبصار بقوله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) من الآية (103 /6) ، قالوا: فلما عطف الله عز وجل بقوله: (وهو يدرك الأبصار) على قوله (لا تدركه الأبصار) ، وكان قوله: (وهو يدرك الأبصار) على العموم أنه يدركها في الدنيا والآخرة، وأنه يراها في الدنيا والآخرة، كان قوله (2/ 56) : (لا تدركه الأبصار) دليلا على أنه لا تراه الأبصار في الدنيا والآخرة، وكان في العموم كقوله: (وهو يدرك الأبصار) ؛ لأن أحد الكلامين معطوف على الآخر .
قيل لهم: فيجب إذا كان عموم القولين واحدا، وكانت الأبصار أبصار العيون وأبصار القلوب؛ لأن الله تعالى قال: (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (46 /22) ، وقال: (أولي الأيدي والأبصار) (45 /38) أي فهي بالأبصار، فأراد أبصار القلوب وهي التي يفضل بها المؤمنون الكافرين، ويقول أهل اللغة: فلان بصير بصناعته، يريدون بصر العلم، ويقولون: قد أبصرته بقلبي، كما يقولون قد أبصرته بعيني، فإذا كان البصر بصر العين (2/ 57) وبصر القلب ثم أوجبوا علينا أن يكون قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) في العموم كقوله: (وهو يدرك الأبصار) ؛ لأن أحد الكلامين معطوف على الآخر، وجب عليهم بحجتهم أن الله تعالى لا يُدرك بأبصار العيون ولا بأبصار القلوب؛ لأن قوله: (لا تدركه الأبصار) في العموم كقوله: (وهو يدرك الأبصار) وإذا لم يكن عندهم هكذا فقد وجب أن يكون قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) أخص من قوله: (وهو يدرك الأبصار) وانتقض احتجاجهم .
وقيل لهم: إنكم زعمتم أنه لو كان قوله: (لا تدركه الأبصار) خاصا في وقت دون وقت لكان قوله: (وهو يدرك الأبصار) خاصا في وقت دون وقت (2/ 58) ، وكان قوله: (ليس كمثله شيء) من الآية (11 /42) ، وقوله: (لا تأخذه سِنَة ولا نوم) من الآية (255 /2) ، وقوله: (لا يظلم الناس شيئا) من الآية (44 /10) في وقت دون وقت، فإن جعلتم قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) من الآية (103 /6)
رجع احتجاجكم عليكم، وقيل لكم: إذا كان قوله: (لا تدركه الأبصار) خاصا ولم يجب خصوص هذه الآيات فلم أنكرتم أن يكون قوله عز وجل: (لا تدركه الأبصار) إنما أراد في الدنيا دون الآخرة ؟ وكما أن قوله: (لا تدركه الأبصار) أراد بعض الأبصار دون بعض، ولا يوجب ذلك تخصيص هذه الآيات التي عارضتمونا بها . (2/ 59)
فإن قالوا: قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) يوجب أن لا يدرك بها في الدنيا والآخرة، وليس ينفي ذلك أن نراه بقلوبنا، ونبصره بها، ولا ندركه بها .
قيل لهم: فما أنكرتم أن يكون لا تدركه بإبصار العيون لا يوجب إذا لم ندركه بها أن لا نراه، فرؤيتنا له بالعيون وإبصارنا له بها ليس بإدراك له بها، كما أن إبصارنا له بالقلوب ورؤيتنا له بها ليس بإدراك له بها .
فإن قالوا: رؤية البصر هي إدراك البصر .
قيل لهم: ما الفرق بينكم وبين من قال: إن رؤية القلب وإبصاره هو إدراكه وإحاطته، فإذا كان علم القلب بالله عز وجل وإبصار القلب له رؤيته إياه ليس بإحاطة ولا إدراك فما أنكرتم أن يكون رؤية العيون وإبصارها لله عز وجل ليس بإحاطة ولا إدراك .
---------------
اقول
قبل الرد عليه لا بد من ايضاح معنى الآية وما المراد منها
قال تعالى ((لا تدكه الابصار ))
الادراك له العديد من المعاني ففي لسان العرب المجلد العاشر.
(ك).
حرف الكاف.
فصل الدال المهملة.
درك:
الدَّرَكُ: اللحَاق، وقد أَدركه.
ورجل دَرَّاك: مُدْرِك كثير الإدْراك، وقلما يجئ فَعَّال من أَفْعَلَ يُفْعِل إلا أَنهم قد قالوا: حَسَّاس دَرّاك، لغة أَو ازدواج، ولم يجئ فَعَّال من أَفْعَلَ إلاَّ دَرَّاك من أَدْرَك، وجَبّار من أَجبره على الحكم أَكرهه.
وسَأْآر من قوله: أَسأَر في الكأْس إِذا أَبقى فيها سؤْراً من الشَّراب وهي البقية، وحكى اللحياني: رجل مُدْرِكةٌ، بالهاء، سريع الإدْراكِ، ومُدْرِكةُ: اسم رجل مشتق من ذلك.
وتَدَاركَ القومُ: تلاحقوا أَي: لَحِق آخرُهم أَولَهم.
وفي التنزيل: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً} [الأعراف: 38] وأَصله تَدَاركوا فأدغمت التاء في الدال واجتلبت الألف ليسلم السكون.
وتَدَارك الثَّرَيان أَي: أَدرك ثرى المطر ثرى الأرض.
الليث: الدَّرَك إدراك الحاجة ومَطْلبِه.
يقال: بَكِّرْ ففيه دَرَك.
والدَّرَك: اللَّحَقُ من التَّبِعَةِ، ومنه ضمان الدَّرَكِ في عهدة البيع.
والدَّرَك: اسم من الإدْراك مثل اللَّحَق.
وفي الحديث: ((أَعوذ بك من دَرْك الشَّقاء)).
الدَّرْك: اللَّحاق والوصول إلى الشيء، أدركته إدْراكاً ودركاً.
وفي الحديث: ((لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دَرَكاً له في حاجته)).
والدَّرَك: التَّبِعةُ، يسكن ويحرك.
يقال: ما لَحِقك من دَرَكٍ فعليَّ خلاصُه.
والإدْراكُ: اللحوق. (ج/ص: 10/420)
يقال: مشيت حتى أَدْرَكته وعِشْتُ حتى أَدْرَكْتُ زمانه.
وأَدْرَكْتُه ببصري أَي: رأَيته وأَدْرَكَ الغلامُ وأَدْرَكَ الثمرُ أَي: بلغ، وربما قالوا: أَدْرَكَ الدقيق بمعنى فَنِيَ.
واستَدْرَكْت ما فات وتداركته بمعنى.
وقولهم: دَرَاكِ أَي: أَدْرِكْ، وهو اسم لفعل الأَمر، وكسرت الكاف لاجتماع الساكنين لأَن حقها السكون للأَمر.
قال ابن بري: جاء دَرَاك ودَرَّاك وفَعَال وفَعَّال إِنما هو من فعل ثلاثي ولم يستعمل منه فعل ثلاثي، وإن كان قد استعمل منه الدَّرْكُ.
قال جَحْدَر بن مالك الحنظلي يخاطب الأَسد:
لَيْثٌ ولَيْثٌ في مَجالٍ ضنكِ * كلاهما ذو أنَف ومَحْكِ
وبَطْشةٍ وصِوْلةٍ وفَتْك * إن يَكْشِف الله قِناع الشك
بظَفَرٍ من حاجتي ودَرْك * فذا أَحَقُّ مَنْزِل بتَرْكِ
قال أَبو سعيد: وزادني هفّان في هذا الشعر:
الذئب يَعْوي والغُراب يَبْكي *
قال الأصمعي: هذا كقول ابن مُفَرِّغ:
الريحُ تَبْكي شَجْوَها * والبرقُ يَضحك في الغَمَامه
قال: ثم قال: جحدر أَيضاً في ذلك:
يا جُمْلُ إِنكِ لو شهِدْتِ كَرِيهتي * في يوم هَيْجٍ مُسْدِفٍ وعَجاجِ
وتَقَدُّمِي لليث أَرْسُف نحوه * كَيْما أُكابِرَه على الأَحْرَاجِ
قال: وقال قيس بن رفاعة في دَرَّاك:
وصاحب الوَتْرِ ليس الدهر مُدْرِكَهُ * عندي، وإني لدَرَّاكٌ بأَوْتارِ
والدَّرك: لحاق الفرسِ الوحْشَ وغيرها.
وفرس دَرَك الطَّريدة يُدْرِكها كما قالوا فرس قَيْدُ الأَوَابِدِ أَي: أَنه يُقَيِّدها.
والدَّرِيكة: الطَّريدةُ.
والدِّراك: اتباع الشيء بعضه على بعضٍ في الأَشياء كلها، وقد تَدَارك، والدِّراك: المُداركة.
يقال: دَارَك الرجل صوته أَي: تابعه..... الخ
-----------
اقول
الادراك بالابصار
المراد بالابصار في قوله تعالى ( لا تدركه الابصار ) العيون المدركة لعالم المحسوس والشهادة .
وليس المراد ابصار القلوب المدركة لبعض عالم الغيب .
والدليل على هذه الدعوى أن العرب الذين نزل فيهم وعليهم القرآن قد فهموا أن المراد من الآية بصر العين لا بصر القلب أخرج الطيالسي وسعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الاسماء والصفات عن مسروق قال: كنت متكئا عند عائشة فقالت عائشة: ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية. قلت: وما هن؟ قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، قال: وكنت متكئا فجلست، فقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجلي علي ألم يقل الله {ولقد رآه بالافق المبين؟!.. ولقد رآه نزلة أخرى} (النجم، الآية 13) فقالت: أنا أول هذه الامة سأل عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين. رأيته منهبطا من السماء. ساد أعظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض قالت: أو لم تسمع الله عز وجل يقول {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير} (الانعام، الآية 103) أو لم تسمع الله يقول {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا} (الشورى، الآية 51) ........ الخ
وبهذا يظهر أن المراد من الابصار هنا ابصار العيون الحسية لا ابصار القلوب المجازية التى بمعنى العلم وهذا دليل في محل نزاع سيأتي إن شاء الله
والعين هي الحدقة الحساسة وما ركب الله فيها من خاصية الابصاروالنظر . يصح أن يخبر عنها فيقال
العين ترى الاشياء والعين تنظر الى الاشياء والعين تدرك الاشياء . كما بصح اضفتها
فيقال ايضا ((رؤيةُ العين – نظرُ العين – ادراكُ العين ))
غير أن هناك تفاوت بين هذه الألفاظ فالرؤية غير النظر كما أن النظر غير الادراك .
يظهر هذا التفاوت من خلال الاستعمال لهذه الالفاظ ...
مصطلح الادراك لفظٌ عام يطلق على المعنى الحقيقي تارة وقد يطلق فيراد منه المعنى المجازي .
والادراك له العديد من التعريفات
الادراك في حق الله معناه: الاحاطة بالاشياء والعلم بها على جهة الحقيقة.
والادراك في حق المكلف معناه: حصول الصورة عند النفس الناطقة فيما كان ممكن التصور
تقول ادركت الشيء بعيني وادركت الصوت بإذني وادركت رائحة العطر بانفي وادركت نعومة الحرير بيدي .
وتقول ايضا أدركتُ اخبار الماضين وشاهدتهم عيانا تريد بذلك علمتُ بأخبارهم وانبائهم .
مصطلح الادراك إن كان عاريا عن النفي أي لم يسبق بنفي يمكن من خلال التعبير به أثباتُ أمرٍ ما
تقول: ادركتُ الدرس أي لحقته
وأدركتُ زيدا أي تبعته وسرنا في طريق واحد .
ايضا تقول أدركتُ الفرق بين المسألة الاولى وبين المسألة الثانية أي ظهر لي الفرق الذي كان خافيا عليَّ بسبب غموض ما.
ومن خلال المثال الاخير يظهر أن مصطلح الادراك يستخدم في الامور الدقيقة التى تحتاج الى نظر وتأمل .!
أما اذا كان مصطلح الادراك منفيا وسبقته ادوات النفي مثل ((لا ولن وليس )) فإنه يطلق على الامور الدقيقة الخفية والتى يستحيل النظر اليها بحدقة العين فلا تستطيع العين تصنيف الشيء المدرك ولا تقدرعلى تحدد هيئته ولا ذاته.
يقال :لن تدرك المكروب بعينك بسبب صغر حجمه
وفي لسان العرب ايضا
يقال: أَرضٌ طَيِّبةُ التُّرْبةِ أَي: خِلْقةُ تُرابها، فإِذا عَنَيْتَ طاقةً واحدةً من التُّراب قلت: تُرابة، وتلك لا تُدْرَكُ بالنَّظَر دِقّةً، إِلا بالتَّوَهُّم.
نلحظ من هذا أن مصطلح الادراك قد استخدم منفيا في تعبير واضح المراد منه نفي ادراك ذرة التراب أو الهبابة الغبارية بالنظر اليها لعجز العين عن هذه الرؤية أو النظر !
كما أن هذا المصطلح قد يتعين للشيء المستحيل والمستبعد وقوعه
من لسان العرب ايضا
قال ابن أحمر:
بانَ الشبابُ وأفْنى ضِعْفَه العُمُرُ * لله دَرُّكَ ! أيَّ العَيْشِ تَنْتظِرُ؟
هل أنتَ طالبُ شيء لَسْتَ مُدْرِكَه؟ * أم هل لقَلْبِكَ عن أُلاَّفِه وطَرُ؟
أم كنتَ تَعْرِف آياتٍ؟ فقد جَعَلَتْ * أطْلالُ إلْفِك، بالوَدْكاء، تَعْتَذِرُ
اي هل ما زلتَ تطلبُ امراً يستحيل عليك ادراكه ؟؟
والتعبير القرآني جاء بلفظ ( لا تدركه ) مراعاةً لهذه النكتة الدقيقة ولاحظ الفرق بين هذه التعابير
((لاتبصره الابصار)) – (( لا تنظره الابصار ))- ((لا تراه الابصار )) – (( لا تدركه الابصار ))
تجد أن التعبير الاخير أكثرُ دلالةً من غيره على نفي تتابع النظرأو البصر الى ذات الله بالعين المبصرة الناظرة المدركة
وعودة الى ما قاله الاشعري في كتاب الابانة
((احتجت المعتزلة في أن الله عز وجل لا يُرى بالأبصار بقوله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) من الآية (103 /6) ، قالوا: فلما عطف الله عز وجل بقوله: (وهو يدرك الأبصار) على قوله (لا تدركه الأبصار) ، وكان قوله: (وهو يدرك الأبصار) على العموم أنه يدركها في الدنيا والآخرة، وأنه يراها في الدنيا والآخرة، كان قوله (2/ 56) : (لا تدركه الأبصار) دليلا على أنه لا تراه الأبصار في الدنيا والآخرة، وكان في العموم كقوله: (وهو يدرك الأبصار) ؛ لأن أحد الكلامين معطوف على الآخر .))
------------
ايضاحا لما أورد هو من كلام المعتزلة والذي لم يشر الى قائله .
أقول:-
هناك عموم في قوله تعالى (وهو يدرك الابصار ) معنى هذا العموم أن الله سبحانه وتعالى يدرك الابصار في الدنيا ويدرك الابصار في الآخرة هذا العموم جاء بدون تخصيص وهذه الصفة(( أعني ادراك الابصار من جهته تعالى )) ثابتةٌ لله على جهة الدوام والثبوت فلا تتغير ولا تتبدل !
ولما كان قوله عز وجل (( لا تدركه الابصار )) عاما لم يخصص بظرف دون ظرف ايضا .
اذ لو كان مخصصا بظرف دون ظرف لقال سبحانه (( لا تدركه الابصار في الدنيا )) ثبت أن الله تعالى لا يدرك بالابصار لا في الدنيا ولا في الاخرة فيصبح المعنى المراد من الآية ((الله يدرك الابصار في الدنيا والاخرة والابصار لا تدركه في الدنيا والاخرة )) وهذا يسمى الاستدلال بالعموم
هذا الاستدلال واضح وفيه حجة خصوصا أن الآية جاءت من ضمن المدح الذي مدح الله به نفسه من قبل قال تعالى في اول المقطع ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ﴾ الآيةً ........ الى قوله تعالى في آخر المقطع : ﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾، نلحظ أن قوله تعالى ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ﴾، قد توسط بين المقطع الاول والمقطع الاخير لذا وجب أن يكون مدحا ايضا اذ لا يجوز عند اهل الصناعة اقحام جملة اجنبية ليست من جنس الكلام المذكور سابقا لما فيه من الركاكة والبعد !
بيد أن الاشعري اعترض على هذا الاستدلال بقوله((قيل لهم: فيجب إذا كان عموم القولين واحدا، وكانت الأبصار أبصار العيون وأبصار القلوب؛ لأن الله تعالى قال: (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (46 /22) ، وقال: (أولي الأيدي والأبصار) (45 /38) أي فهي بالأبصار، فأراد أبصار القلوب وهي التي يفضل بها المؤمنون الكافرين، ويقول أهل اللغة: فلان بصير بصناعته، يريدون بصر العلم، ويقولون: قد أبصرته بقلبي، كما يقولون قد أبصرته بعيني، فإذا كان البصر بصر العين (2/ 57) وبصر القلب ثم أوجبوا علينا أن يكون قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) في العموم كقوله: (وهو يدرك الأبصار) ؛ لأن أحد الكلامين معطوف على الآخر، وجب عليهم بحجتهم أن الله تعالى لا يُدرك بأبصار العيون ولا بأبصار القلوب؛ لأن قوله: (لا تدركه الأبصار) في العموم كقوله: (وهو يدرك الأبصار) وإذا لم يكن عندهم هكذا فقد وجب أن يكون قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) أخص من قوله: (وهو يدرك الأبصار) وانتقض احتجاجهم .))
------------
اقول
اعتراضُ الاشعري على هذا الاستدلال مردود عليه من وجوة
* هناك فارق كبير بن ادرك الله للاشياء وبين ادراك الناس أو البشر أو العقلاء للاشياء أيضا
وهذا واضح من خلال ما تقدم من تعريف لمصطلح الادراك .
* نسلم له أن للعيون ادراكا كما نسلم له أن للقلوب ادراكا لكن أدراك العيون محدود ومقيد وهذا ما لمسناه بالتجربة هنا في دار الدنيا كما أن ادراك القلوب كذلك محدود ومقيد وهذا ايضا ما لمسناه باليقين وبإجماع العقلاء أيضا .
* نسلم له أن للقلوب ابصارا تدرك بها حقائق الاشياء لكن فيما هو ممكن لا فيما هو مستحيل وهنا نبين المراد من هذا القول.
أعلم
أن المراد بـ((القلوب)) هنا العقول جمع عقل والعقل هو الذي يمكن من خلاله التمييز بين الاشياء والتعرف على الاشياء ومحله الدماغ على الصحيح وقد اختلف في ماهية العقل فقيل نور يقذفه الله في قلب المكلف وقيل غير ذلك غير أن الاكتشافات الاخيرة أظهرت أن العقل عبارة عن مجموعة من الخلاياء العصبية ذات تركيب معقد يحدث فيها تفاعلات كميائية وكهربائية معينة يتمكن الانسان بها التعرف على الاشياء كما أنه يمكن من خلاها الوصول الى بعض المعارف لا كلها .
وعليه فإن هذه العقول أو القلوب محدودة المعرفة لا يمكنها الوصول الى معرفة كل الحقائق بل هي ذات قدرة معينة محدودة وهذا ما أجمع عليه العقلاء .
وعليه فإن المعارف القلبية أو العقلية في حق الله معناها حصول العلم بوجوده لا حصول العلم بماهيته وكنهه فهذا لا تقدر عليه العقول لا في الدنيا ولا في الاخرة وهنا نسأل الاشعري هل ابصار القلوب تدرك ماهية الله وكنه ؟؟
وهل ابصار القلوب أدركت هذه الماهية على حقيقتها في دار الدنيا ؟؟
ثم من قال أن المراد من ابصار القلوب لله هو هذا حتى تعمى في الاخرة ؟؟
كل هذا حصل للاشعري بسبب أنه توهم أن المراد بإبصار القلوب لله في الاخرة معناه ادراك الماهية وهذا لم يقل به أحد وإنما المراد بإبصار القلوب له هو العلم اليقيني الضروري بوجوده في دار الاخرة وهذا ما قد يحصل لبعض المكلفين في الدنيا والذين أمعنوا التأمل في خلق الله وفي ملكوته .
ثم يقال له ما معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم أعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك ؟؟(( أقول والمراد من العبادة هنا التفكر بالقلب في ملكوت الله مع آداء الواجبات العبادية الاخرى وعليه قراءة ابن عباس وما خلقت الجن والانس الا ليعرفون )) .
إن قال إن العبادة سبب في معرفة الله ومعرفة كنهه وماهيته كذب فمن من العقلاء العبَّاد العارفين قال بهذا أو نقل عنه هذا !
وإن قال المراد من العبادة هنا معرفة الله والشعور بوجودة ليس الا .
قيل له وهل العلم بوجوده في الاخرة مثل هذا العلم الذي حصل للمؤمنين به في الدنيا .
إن قال لا ليس مثله بل هو علم آخر قلنا له كذبت الله في قوله حين خاطب المؤمنين بقوله ((يا ايها الذين آمنوا )) وكيف سماهم مؤمنين وهم على غير هذه الصفة .
وإن قال إن المراد به العلم بوجوده قلنا له فلم أنكرت على من استدل أن الله لا يدرك بالابصار في الدنيا والاخرة !
ثم يقال للاشعري إن المراد من الابصار في قوله تعالى (( لا تدركه الابصار )) ابصار العيون لا ابصار القلوب وهذا ما أخرجه الطيالسي وسعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الاسماء والصفات عن مسروق قال: كنت متكئا عند عائشة فقالت عائشة: ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية. قلت: وما هن؟ قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، قال: وكنت متكئا فجلست، فقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجلي علي ألم يقل الله {ولقد رآه بالافق المبين؟!.. ولقد رآه نزلة أخرى} (النجم، الآية 13) فقالت: أنا أول هذه الامة سأل عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جبريل: لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين السرتين. رأيته منهبطا من السماء. ساد أعظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض قالت: أو لم تسمع الله عز وجل يقول {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الالصار وهو اللطيف الخبير} (الانعام، الآية 103) أو لم تسمع الله يقول {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا} (الشورى، الآية 51) ........ الخ
يزيد الامر ايضاحا
أنا نقول العلم بوجود الله لا يقتضي العلم بماهيته وكنهه ومما هو مركب وعلى اي صفة هو فإن تلك الامور مستحيلة على العقل
وهذا بخلاف ما اذا قلنا العلم بوجود زيد على جهة حقيقة ماهية زيد فإنه يقتضي العلم بماهيته ومما هو مؤلف ومركب
فزيد حيوان ناطق ذكر له كتلة جسم وله عرض لا ينفك عن جسمه وهو لون بشرته وفي داخله روح فهو حي وله قدرة على الابصار فهو مبصر ويفهم الامور ويسمع الاصوات ويشم الروائح ويلمس الاشياء فهو مدرك ويتعلم الاشياء فهو قابل للزيادة وهو طويل النجاد لا عريض الوساد كثير الرماد بدين يكاد يتفق شحما وهو وسيم الطلعة حسن الخلقة، فكل ما يتعلق بزيد في كل ما ذكرنا يدرك على تفصيله وحقيقته بخلاف الله جل وعلى عن ذلك علوا كبيرا.
ولله ابن أبي الحديد حيث يقول:
سَافَرَتْ فيكَ العقولُ فَمَا *** رَبِحَتْ إلا أذَى السَّفَرِ
رَجَعَتْ حَسْرَى وَمَا وقَفَتْ*** لا عَلَى عَيْنٍ ولا أَثرِ
فَلَحَا الله الأُوْلَى زَعموا*** أَنَّك المَعْلُومُ بالنظرِ
كَذَبوا إِنَّ الذي زَعَموا *** خارج عن قوةِ البشر
وقــال:
واللهِ مَا مُوْسَى وَلاَ*** عِيْسَى المسيحُ ولا محمدْ
كلا ولا جبريلُ وهــ***ـــ و إلى مَحَلِّ القُدسِ يصعدْ
كلا ولا النفسَ البسيطَ *** لا ولا العقلَ المجردْ
من كُنْهِ ذاتِك غيرَ أَنَّكَ *** أَوْحَدِي الذاتِ سَرْمَدْ
وجِدوا إضافاتٍ ونفياً *** والحقيقةُ ليس تُوْجَدْ
ورأوا وُجُوْداً واجباً *** يَفْنَى الزمانُ وليس يَنْفَدْ
وهنا أختم القول بما قاله الامام علي صلوات الله عليه

والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله على رسولة وآل بيته وسلم تسليما كثيرا