كنيسة أبناء اليمن!!!! موقع جديد على النت
-
- مشرف الجناح التاريخي
- مشاركات: 679
- اشترك في: الأحد مايو 30, 2004 3:03 am
عزيزي، ادخل على الرابط التالي
http://groups.yahoo.com/group/yemen4jesus/
ستجد زر ايمن الصفحة Join This Group
اضغط عليه واتبع التعليمات
بالتوفيق..

-
- مشترك في مجالس آل محمد
- مشاركات: 310
- اشترك في: الخميس إبريل 21, 2005 12:54 pm
- مكان: جزر القمر
- اتصال:
هذي احد منجزات التمنية
هذه احدى منجزات التنمية في عصر فخامة الرئيس على xxxxx سنحان لان الحضارة تقتضي نشر النصرانية في بلاد اليمن وغيرها من البلدان المجاوره يالله غدا سوف يكون عزاء على xxxxx سنحان في احد الكنائس اليمنية العظيمة
قال عليه السلام: وَمَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ هَلَكَ، وَمَنْ شَاوَرَ الرِّجَالَ شَارَكَهَا فِي عُقُولِهَا.
سلامي للجميع الرسي الهاشمي
سلامي للجميع الرسي الهاشمي
-
- مشترك في مجالس آل محمد
- مشاركات: 2274
- اشترك في: الاثنين يناير 05, 2004 10:46 pm
- مكان: صنعاء
- اتصال:
للفائدة :-
أنقل لكم هنا ما جاء في كتاب ( الرد على النصارى )
للإمام القاسم الرسي بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) :-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي لم يزل ولا يزال، وله الكبرياء بَدِيًّا والجلال، البري من كل تغيُّر وزوال، وتبدُّل وحركة وانتقال، أو فناء أو احتيال، المتعالي عن أن يكون لشيء أصلا متأصلا، أو عنصرا من عناصر الأشياء كلها متحللا، فيكون كواحد منها، أو كما بان من فروعها عنها، فكثر من قلته بتفرع بعد قلة، أوعزَّ بكثرته بتجمع من ذلة، ولو أن ذلك، كان فيه كذلك، لعاد غيره له ندا ومثلا، إذ كان له سبحانه محتدا وأصلا، ولكان حينئذ لكل ما كان منه، ووجد من فروعه وعنه، ما كان من التوالد له، إذ كان المتولد منه مثله.
[مشابهة الفروع للأصول]
وكذلك يوجد لكل فرع كان من أصل، ما يوجد لأصله من التوالد مثلا بمثل، كفرع ما يُرى من الأشياء كلها، التي تتولد يقينا عيانا من نسلها، مثل ما يتولد غير مرية من أصلها، كما يُرى من ولادة الأبناء، لمثل ما يتولد من الآباء، سواء ذلك كله سواء.
وكذلك ما يرى من متولد الشجر وغير الشجر، فكالأنثى في ذلك أجمع والذكر، يتولد في ذلك كله من أولاده، ما يتولد سواء من والده، فكل شيء أبدا كان ممكنا في أصل ووالد كون وجوده، فمثله ممكن سواء في نسله ومولوده، لا يمتنع مما قلنا به في ذلك وقبوله، إلا مكابر في ذلك لعلمه ومعقوله.
و لذلك وما فيه من الامكان، وما يدخل به على أهله من النقصان، ما تقدس الله عنه، وجل وتطهر منه، فلم تمكن فيه منه سبحانه ممكنة في فكر ولا مقال، وكان القول عليه جل جلاله بذلك أحول مُحال، إذ في أن يكون شيء له ولدا، وأن يكون لشيء أصلا ومحتدا، إبطال الإلهية والربوبية، و زوال الأزلية والوحدانية، وإذ لا يكون واحدا من كان له ولد أبدا، ولا يكون أزليا من كان أبا أو والدا، لأن الابن ليس لأبيه برب، وكذلك الرب فليس لمربوب بأب، إذ كان الابن في الذات هو مثله فكلاهما من الربوبية قاصٍ متبعِّد، إذ ليس منهما من هو بها متفرد متوحد. لأن الربوبية لا تمكن أبدا إلا لواحد، ليس بأصل لشيء ولا ولد ولا والد.
ولكل ولد في ذاته، ما للوالد من صفاته، وكذلك والده فله في الذات، مثل ما للولد في ذلك من الصفات، كالانسانية التي للابن منها ما لأمه وأبيه، وفي الأبوين منها ومن كمالها مثل ما فيه، فليس له من الانسانية وحدودها، ولا مما يوجد فيه وفيهما من مو جودها، أكثر مما لهما منها، وكل واحد منهما فغير مقصر عنها، ولتمامهما جميعا فيها، وفطرة الله لهما عليها، كان الابن ولدا لهما ونسلا، وكانا له بها محتدا وأصلا، وفي ذلك ما يقول الله سبحانه، لعيسى صلوات الله عليه ورضوانه، فيما نزل من الكتاب، في يوم البعث والحساب، توقيفا وتعريفا له وللعباد، على أنه قد يجب للوالد في الذات ما يجب للأولاد، وتوبيخا لمن أفرده دون أمه في العبودية والإلهية، وحالهما في الذات حال واحدة مستوية، فعبدوه عماية وجهلا دونها، وهم يعلمون أنه ابنها ومنها، ويوقنون فلا يشكّون أن أباها أبوه، فهي وآباؤها أولى منه بما أعطوه، إذ كان لولا وجودهم لم يوجد، ولولا ولادتهم له لم يولد.
فكيف يعبدونه دونهم، ولم يكن قط إلا منهم، فهو في الذات كَهُم، إلا أن يفرقوا بينه وبينهم، بحال يخصونه بها دونهم، أو بغير ذلك من فعل من الأفعال، هو سوى ما يجمعهم وإياه في الذات من الحال، فكيف وذلك غير قولهم، وما يبنون عليه من أصلهم.
[عيسى بشر]
فاسمعوا لقول الله في ذلك وبيانه، وما بيّن فيه جل جلاله من تفصيله وفرقانه، إذ يقول له صلى الله عليه، في ذلك من غير ما سخطة منه عليه ولا لوم فيه : ﴿ يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ﴾ [المائدة: 116]، فسبح الله جل جلاله إكبارا له عن أن يقول في ذلك على الله علاَّمِ ما كان وما يكون بقولِ إفكٍ مفترٍ مكذوب، لايصح فيه أبدا قول في فطرة، ولا يقوم في سليم عقل ولا فكرة.
وقال صلى الله عليه: ﴿ ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا مادمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد ﴾ [المائدة: 117]، فأنبأهم صلى الله عليه أنه عبد الله كما هم كلهم جميعا عبيد، وأخبر الله سبحانه من قوله في ذلك بما لا تنكره النصارى كلها وإن اختلفت في أديانها، وفرَّقتها البلدان في كل مفترق من أوطانها، لما رأوا منه عيانا، وأيقنه من غاب منهم إيقانا، من عبادته عليه السلام لله واجتهاده في طاعة الله، وكان في ما عاينوا من مشابهته لهم في الخلقة دليل مبين على أنه عبد لله، يجري عليه من حكم الله في أنه عبد لله ما جرى عليهم، بما بان من أثر تدبير الله وصنعه فيه وفيهم.
وفيما قلنا من ذلك ومثله، في أن الفرع من الشيء له ما لأصله، ما يقول الله سبحانه لرسوله، صلى الله عليه وعلى آله: ﴿ قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ﴾ [الزخرف: 18]. يخبر جل جلاله عن أنه قد يجب للولد ما يجب للوالدين، في كل ما يجب لهم بالطبيعة والذات، لا فيما يجب من ذلك بالأعراض المحدثات.
ولو كان عيسى صلى الله عليه كما قالوا ربا وإلها، وعن أنه لله عبد أو صنع معظما في ذاته منزَّها، لكان لأمه من ذلك ما له، إذ كانت في الذات مثله، بل لكان ينبغي لمن ولده أن يكون أعلى من ذلك منزلة منه، إذ كان وجوده صلى الله عليه به وعنه.
وليس أحد من النصارى يُثبت لمريم ما يُثبت لابنها من الإلهية، بل كلهم يقول: إنها أَمَة من إماءِ الله محدثة غير قديمة ولا أزلية، وقد يلزمهم صاغرين فيها، من إضافة الإلهية إليها، ما قال الله تبارك وتعالى فيهما، إذ الحكم واقع بالاشتباه في الذات عليهما، فهي في ذلك كله كولدها، إذ روحه من روحها وجسده من جسدها.
فإن لم يكن ذلك، فيهما كذلك، زالت البنوة عنه منها، وزال أن تكون له أُمًّا عنها، فلم تكن له أُمّا ولم يكن لها ابنا، إذ لم تكن إلا موضعا له ومكانا، إلا أن يجعلوا الأماكن أمهات لما كان فيها، فيقع ما قالوا من أنها أم له عليها .
فأما إن جعلوها من طريق ما يُعْقَل أُمَّا له، فقد جعلوها في الطبيعة لا محالة مثله.
وإذا كان ذلك، فيهما كذلك، جعلوه صاغرين كأمه إنسانا لا ربا ولا إلها، وكان الناس كلهم إذ هو مثلهم في ذلك له أمثالا وأشباها، لا افتراق بينه وبينهم في الإنسية، ولا تفاوت بينه وبين جميعهم في الجنسية، ولذلك كان يطعم صلى الله عليه كما يطعمون، ويألم مما يؤلمهم كما يألمون، ويقيمه كما يقيمهم الشراب والطعام، ويعرض له الحزن والغموم والاهتمام .
والنصارى كلها فقد تقر بطعمه وحزنه واغتمامه، وتحمده بما كان من صبره وآلامه، التي كانت وصلت إليه عندهم في الضرب والصلب، وما كان يلقى في سياحته وأمره ونهيه من الدؤب والتعب، وفيما جعل الله من طعمه وأكله من الآيات البينة الجلية، ما يُبطل ما قالت به النصارى فيه من الأقوال الكاذبة المفترية الرديَّة، و في نسبة الله له المعقولة في الدنيا والآخرة إلى أمه، ما يدل - والحمد لله - مَنْ رَشدَ على أنها من أصله وجِرمه، وأنه في ذلك كله كمثلها، إذ هو منها ومن نسلها، آباؤها آباؤه، وغذاؤها غذاؤه.
فَلْيَفهم هذا - مِن أمره وأمرها، وعند ذكره في النسب وذكرها - مَن يفهم ويعقل، ولا يتجاهل منه ما لا يُجهل.
وليعلم أن قول الله سبحانه كثير في كتابه: ابن مريم، وترديده في ذلك لذكره بها صلى الله عليه وسلم، فيه من تيقن الثَّلَج، وغوالب الحجج، التي يثلج بها كل قلب، ويغَلب فلا يُعلى بغلب، إذ تقرر من ولادتها له ما لا ينكره من النصارى ولا غيرها منكر، ولا يتحير فيه مِنْ كل مَن عرفه بها ولا بما كان له من ولادتها مُتحيِّر، إذ جعله الله سبحانه ابنها، وجوده منها وعنها، منها كونه وفصوله، وأصولها كلها أصوله، وكل ما لزم فرعَ شيءٍ من تغيير أو فناء لزم أصله، وكذلك كل ما كان من ذلك للأصل فهو له، لا يأبى ذلك ولا يكابره، إلا فاسد العقل حائره.
وفيما قلنا به والحمد لله من ذلك، وأن عيسى صلى الله عليه كذلك، ما يقول الله سبحانه: ﴿ ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون ﴾ [المائدة: 75]، فأي آية أدل لهم على أنه مثلهم من أكله للطعام لو كانوا يعقلون، فلقد جهلوا من هذا - وَيْلهم - ما لم يجهل قوم نوح إذ يقولون: ﴿ ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذاً لخاسرون ﴾ [المؤمنون: 34].
[مصادر عقائد النصارى]
ومن قبل ما قالت به النصارى في المسيح بن مريم ما قال بمثل قولهم المشركون، فزعموا أن ملائكة الله المقربين، ولدٌ وبنات لله رب العالمين.
ومنهم ما قبلت النصارى أقوالها، وحَذَتْ في الاشراك بالله منهم مثالها، وهو قول كان يقول به في الأوائل الروم والقبط وأهل الجاهلية، من كان يقول في النجوم السبعة بتثبيت الربوبية لها والإلهية، وكانوا يزعمون أن النجوم السبعة ملائكة لله ناطقة، وأنها آلهة مع الله - لما تم بها كونه - خالقةٌ، وأن الله سبحانه صنعهن منه صنعاً، ولم يبتدعهن لا من شيء بدعا، فلما أكملهن تبارك وتعالى وتم تمامهن، كُنَّ كلهن به وعنه قال لهن:
أنتن آلهة الإلهية بكنَّ عقدُ كلِ معقود وحل كل محلول، وزعموا أن بهن وعنهن كانت من الحيوان المايتجَعْلُه كل مجعول، بهن كان وجوده وقوامه، ومنهن كان صنعه وتمامه، وأنهن علةٌ واسطة بين الله وبين الأشياء، وأن الله الصانع لهن ولغيرهن به ماتت الأحياء، وكان الله لا شريك له إله الآلهة العليُّ الذي لا يمثلونه بشي، والأول القديم الذي لم يزل تبارك وتعالى من غير أول ولا بَدِي، وأنه هو المبتدئ الصانع للنجوم السبعة، المتعالي عن مشابهة كل مصنوع كان أو يكون وكل صنعة .
وكذلك قالت النصارى: إن الله خلق الأشياء بابنه نفسه، وحفظها ودبَّرها بروح قدسه، وإن الابن خلق الخلق وفطره، وإن روح القدس حفظ الخلق ودبَّره، وزعموا أن قوة الخلق غير قوة الحفظ والتدبير، وأن الأب لم ينفرد من ذلك كله بقليل ولا بكثير، وأن حال الأب والابن وروح القدس في الإلهية واحدة، وأن عبادة كل واحد منهم عليهم واجبة.
وكذلك زعم المشركون من أصحاب النجوم أن الله خلق الحيوان الميت ودبَّره بالنجوم السبعة، وأن بهن وبما جعل الله من القوة فيهن كانت من ذلك كل بريته وكل صنعة، فأقوالهم كلهم في أن لله ولدا واحدة غير مفترقة، وفريتهم جميعا في ذلك على الله فكاذبة غير مصدقة، إذ شبهوا بالله غيره، فجعلوه ولده ونظيره.
وفي القول بالولادة والاشتباه، إبطالٌ من قائله لكل إله، لأنهما إذا تماثلا واشتبها، لم يكن كل واحد منهما إلها، لأنه لا يقدر مع تشابههما أحدهما على إبطال الآخر، وإذا لم يقدر على إبطاله كان عاجزا غير قادر، ومن كان في شيء من الأشياء كلها عاجزا، كان عجزه له عن الربوبية والإلهية حاجزا.
وإن قال قائل كان كل واحد منهما قادراً على إبطال نظيره، ففي ذلك أدل الدلائل على نقص كل واحد منهما وتقصيره، وإذا كان كل واحد منهما منقوصا مقصّرا، لم يكن من الأشياء كلها لشيء صانعا مدبرا، ليس له كفؤ من الأشياء كلها ولا مثل ولا نظير، ولم يوجد في السماء ولا في الأرض ولا فيما بينهما صنع ولا تدبير، والصنع فقد يُرى بالعيان في ذلك كله قائما موجودا، فكفى بذلك دليلا بيِّنا على أن لهذا الصنع العجيب صانعا لا والدا ولا مولودا.
ووجود صانعه أبين وأوجد من وجود كل موجود وجودا، وأنه واحد صمد ليس والدا ولا مولوداً، ولن يجد ذلك أحد أبدا، إلا الله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولم يزل تبارك وتعالى واحدا صمدا، ليس من ورائه أزلي مصمود، ولا أوَّليٌّ من الأشياء موجود، فيكون متقدما أوَّلاً قبله، فلا يكون الله هو الخالق له، بل هو الله الخالق الأول القديم، الذي ليس لغيره عليه أولية ولا تقديم، ولكن كل ما سواه، فخلق ابتدعه وأبداه، فَوُجِد بالله خلقا بديا بعد عدمه، بريا من مشاركة الله في قدرته وقدمه، بينة آثار الصنع والتدبير فيه، شاهدة أقطاره بالحدث والصنع عليه، مختلف مؤلف، ضعيف مصرَّف، مجسم محدود، متوهم معدود، قد ناهاه قطرُهُ وحَدَّه، وأحصاه مقداره وعَدَّه، فهو كثير أشتات، له نعوت وصفات، كثيرة متفاوتات، كذلك الحيوان منه والموات.
فليس يوجد أبدا الواحد الأزلي، الذي ليس له مثل ولا نظير ولا كفي، إلا الله تقدست أسماؤه، وجل ذكره وثناؤه، وفي ذلك وبيانه، ومن حججه وبرهانه، ما يقول الله جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله، فيما نزل من كتابه المجيد، في سورة الإخلاص والتوحيد: ﴿ قل هو الله أحد ﴾ [الإخلاص:1]. والأحد فمن ليس له والد ولا ولد، ﴿ الله الصمد ﴾ والصمد فهو الغاية في كل خير والمعتمد، الذي ليس مِن ورائه، مَن يسمى بأسمائه، فيستحق منها كما استحق الله شيا، فيكون لله فيما يُسّمى به منها كفيا، كما قال الله سبحانه في كتابه، وما نزل من البيان على عباده، فيما كان لله تبارك وتعالى من أسمائه الحسنى متسميا: ﴿ رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا ﴾ [مريم: 65].
وفيما نزّل سبحانه من أنه ليس له كفؤ ولا نظير، ما يقول: ﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾ [الشورى: 11]. و﴿ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ﴾ [الأنعام: 103].
وفي أنه ليس له شبيه ولا كفي، ولا مثيل ولا بَدِي، ما يقول الله سبحانه: ﴿ لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد ﴾ [الإخلاص:3-4]. وكيف يولد من لم يزل واحدا أولا ؟! أو يلد من جل أن يكون عنصرا متحللا ؟! لا كيف والحمد لله أبدا ! يكون الله والدا أوولدا! فنحمد الله على ما منَّ به علينا في ذلك من البيان والهدى، ونعوذ بالله في الدين والدنيا من الضلالة والردى.
فليسمع - من قال بالولد على الله، من كل من أشرك فيه بالله، من اليهود والنصارى، والملل الباقية الأخرى - حُجَجَ الله المنيرة في ذلك عليهم، ففي أقل من ذلك بمنِّ الله ما يشفيهم، من سقم كل عمى عارضهم فيه أو داء، ويكفيهم في كل قصد أرادوه أو اهتداء، ففي ذلك ما يقول الله سبحانه لهم كلهم جميعا، ولكل من كان من غيرهم لقوله فيه سميعا، ممن لم يَعْمَ عن قول الله فيه عماهم، ولم يَعتَدْ على الله فيه اعتداءهم: ﴿ وقالوا اتخذ الله ولدا ﴾ [البقرة:116]، فقال الله إنكارا لقولهم فيه وردا :﴿ سبحانه بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون، بديع السموات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ﴾ [البقرة:116-117].
وفي ذلك وتبيينه، وفي افترائهم فيه بعينه، ما يقول الله سبحانه: ﴿ وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون، بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم يكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم، ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ﴾ [الأنعام: 100 - 103]. ومعنى خرقوا، فهو: افتروا واخترقوا، باطلا وبهتانا، وعماية وجهلا وطغيانا.
وتأويل ﴿ سبحان ﴾ ومعناها، فليعرف ذلك من قراها: إنما هو بُعد الله وتعاليه، عما قالوا به من اتخاذ الولد فيه، وقول القائل سبحان، إنما معناه: بُعدان، كما يقال بينك وبين ما تريد، سبحٌ يا هذا بعيد، فالسبح هو البعيد الممتنع، والأمر المتعالي المرتفع.
فما الذي هو أمنع وأبعد، من أن يكون الله والدا أو يولد، وهذا فهو قول متناقض، محال داحض، لا يقوم أبدا في فكرة ولا وَهمٍ، ولا يصح به كلام من متكلم .
ولذلك من محاله، وتناقضه وإبطاله، ما يقول الله سبحانه تعاليا عن قولهم وبعدا: ﴿ وقالوا اتخذ الله ولدا ﴾، والمتخذ عند كل أحد فهو المستحدث المصطنع، وما اتُّخِذ فاصطُنِعفهو يقينا المحدَث المبتدَع، والوالد كما قد بينا في صدر هذا الكتاب كالمولود، في مالهما بالذات والطبيعة من الخاصية والحدود، فجعلوا الإله البديع كالمبدوع، و الرب الصانع للأشياء كالمصنوع، وكلهم يزعم أن الله صانع غير مصنوع، ومبتدع لجميع البدائع غير مبدوع، وإذا صح أن السماوات والأرض وما فيهن لله، وأن قيام ذلك ووجوده وصنعه بالله، وما قضى من أمر فإنما قضاؤه له، بأن يبتدع صنعه وفعله، لا بنَصَب ولا علاج، ولا أداة ولا معاناة ولا احتياج، ولكنه يُتِم كَونه وصنعَه، إذا هو أراده وشآءه.
وإذا قيل أَمَرَ الله في خلقه وقضى، فإنما هو من الله بمعنى أراد الله وشاء، وما ذكر من قنوت الأشياء لله، فإنما هو قيامها ووجودها بالله، وتأويل قوله: ﴿ له ما في السموات والأرض كل له قانتون ﴾، إنما هو كل به ومن أجله كائنون.
وسواء في هذا الباب، وفيما ذكر منه في الكتاب، قلت: له، و به ومن أجله، وكما يقال: فعلت ذلك بك ولك، وكذلك يقال: فعلت ذلك بك ومن أجلك.
ولما أن صح بأحق الحقائق، وأَوجَدِ ما يكون من الوثائق، أن السماوات والأرض ومن فيهن لا تكون أبدا إلا من واحد، صح أن ذلك لا يكون أبدا من مولود ولا والد، فكان القول - مع صحة هذا ونحوه وأمثاله، بما قالوا به في الولد - من أخبث القول وأحول محاله!! وأيُّ تناقض في مقال يقال أقبح ؟! أو محال بتناقض فاحش أوضح ؟! من قولهم اتخذ الله ولدا فجعلوه متخِذا مولودا! وهم يقولون مع قولهم ذلك أن الولد لم يزل قديما موجودا، لم يفقد قط ولم يزل، ولم يتغير حاله ولم يتبدَّل، فمن أين يكون مع هذا القول منهما ولد ووالد ؟! وأمرهما جميعا في القدم والأزلية واحد! وكيف يكون متخَذا حدثا مَن لم يزل موجودا قديما، وإنما يكون المتخَذ المستحدَث مَن كان قبل أن يُتَّخذ مفقودا عديما.
فقالوا جميعا كلهم: هو الله وولده، ثم زعموا مع ذلك أنه ابنه يسبحه ويعبده، والمولود عندهم في الإلهية والأزلية كالوالد، فصيّروا الرب المعبود في ذلك كله كالمربوب العابد، فهل وراء ما قالوا به من التناقض في ذلك على الرب ؟! من مزيد في تناقض أو محال أو إبطال أو إفساد أو كذب، يقول به قائل مناقض محيل، ويضل في مثله إلا تائه ضليل، قد عَظُم في المحال والتناقض إسرافه، وقلَّ في المقام بالباطل لنفسه إنصافه، فهو يلعب في حيرته ساهيا، ويخوض في غمرته لاهيا .
وفيه والحمد لله وفي أمثاله، ممن قال على الله بمقاله، ما يقول الله تعالى: ﴿ فسبحان رب السموات والأرض رب العرش عما يصفون، فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ﴾ [الزخرف:82 - 83]. وفي ذلك ما يقول سبحانه: ﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون، قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ﴾[سبأ:39 - 41].
وفي إحالة قول من قال بالولد، من أهل الكتاب ومن كل ملحد، ما يقول سبحانه: ﴿ لقد جئتم شيئا إدا، تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، أن دعوا للرحمن ولدا، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا، إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا، لقد أحصاهم وعدهم عدا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ﴾ [مريم: 89- 95]. والإدُّ من الأمور والأقاويل، فما امتنع امكانه في العقول، فلم يُطق له أحد احتمالا، وكان في نفسه فاسدا محالا، وهو كما قال الله سبحانه: ﴿ وما ينبغي ﴾. وذلك فما ليس بممكن ولا متأتي.
فأي ممتنع من الأمور أبعدُ إمكانا ؟! مما قالوا به في الولد على الله بهتانا، وهل يمكن السماوات والأرض في عقل أو لب، أن تكون من ابن أبدا أو أب، وهل الابن إلا كالأبناء، وكذلك الأب فكالآباء، فإن لم يكن كهم زال أن يكون أبا أو ابنا، ولم يكن ذلك أبدا في الأوهام ممكنا، لأنه إن لم يكن أب وابن كأب وابن في الأبوة والبنوة مثله، زالت الأبوة والبنوة واسمها كلها عنه، وإن كان الابن للابن مثلا، كان مثله خَلقًا مجتبلا، ومتىجعلوا المسيح ابنا وولدا، كان مثل الأبناء لله عبدا مخلوقا متعبدا، ومتى أنكروا أنه كغيره من الأبناء عبد لله، أنكروا صاغرين أن يكون كما قالوا ابنا لله، أفليس هذا من القول هو المحال بعينه ؟! وما يحتاج أحد يعقل إلى تبيينه !!
إذ يثبتون من ذلك في حال واحدة ما ينفون، وينفون من مقالهم في حال واحدة ما يثبتون .
ولله تبارك وتعالى من الحجة والرد، في كتابه على من قال عليه بالولد، ما يكثر عن الله عن أن نحصيه أو نعدده، أو يدرك مدرك سوى الله أمده، وكفى بما ذكرنا والحمد لله حجة وردا، على من زعم أن لله تبارك وتعالى ولدا، من فرق النصارى واليهود، وأهل الفرية على الله والجحود، ممن جعل لله سبحانه ندا أوضدا، وجعله والدا أو ولدا، فليفهم حجج الله في ذلك كله من كان لله موحدا، وليتفقد تناقض قولهم فيه وفساده، وإحالته واختلافه، يجد قولا محالا فاسدا، متناقضا مختلفا.
وفيه ما يقول الله سبحانه، لنبيه صلى الله عليه وآله ورفع شأنه: ﴿ وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا، مالهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا، فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ﴾ [الكهف: 3-5].
فأخبر سبحانه بأسف رسوله، صلى الله عليه وآله، من قولهم على الله سبحانه بالفاسد المحال، وبأ خبث ما يقال من متناقض الأقوال، ونبأَّ الله جميع عباده، بجهلهم لقولهم فيه وفساده، بقوله سبحانه: ﴿ مالهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ﴾، ووجدنا ما قال الله من كذبهم فيه وقلة علمهم لازما واجبا، وكان ذلك على ما قال به من أهل الكتاب، أَوكَدُ لما يقولون به من ربوبية رب الأرباب، فكلهم يثبت لله الربوبية، ويصحح له الوحدانية، وجميعهم - وإن زعم أن لله ولدا - يقر بربوبيته ووحدانيته، ويشهد له بدوامه وأزليته، التي لا يصح لهم أبدا ما يقولون به منها، إلا بتركهم لمقالتهم في الولد والرجوع عنها، ولن يرجعوا عن ذلك مصارحة أبدا، وإن هم قالوا أن قد اتخذ الله ولدا، لأن في رجوعهم عن القول لله بالوحدانية والأزلية، لحوقهم عند أنفسهم بقول أهل الجاهلية، من عبدة الأوثان، والنجوم والنيران، وذلك فما لن يقولوه، وإن لم يعرفوا الله وجهلوه، لفساد ذلك عندهم وشناعه، وبُعْد إمكان ذلك في الله وامتناعه، ولذلك ما يقول جلَّ جلاَلُهُ، عن أن يصح عليه تشبيه شيء أو يناله، في أزلية قديمة أو ذات، أو صفة ما كانت من صفات، إذ في ذلك، لو كان كذلك، إشراكُ غيره معه في الإلهية، إذ كان شريكا له في القدم والأزلية.
فتبارك الله الذي ﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾ [الشورى:11]، وجل ربنا عن أن يكون له في شيء كفؤ أو نظير! وأنى وكيف يكون خلق كخالقه ؟! وهل يصح من ناطق بهذا لناطقه ؟! لا ولو تظاهر الخلق جميعا عليه، لما صح لهم والحمد لله أبدا منطق فيه.
[أدب الحوار]
وبَعدُ: فلا بد لمن أنصف خصما في منازعته له ومجادلته، من ذكر ما يرى الخصم أن له فيه حجة من مذهبه ومقالته، فإذا ذكر ذلك كله، بان ما فيه عليه وله، فكان ذلك لباطله أقطع، وفي الجواب له أبلغ وأجمع.
والنصارى فهم خصماؤنا في الله، فلا بد من تبيين ما افتروا فيه على الله، وهم ممن قال الله فيهم: ﴿ والذين يحآجون في الله بغير علم ﴾ [الشورى: 16].
ومن الذين قال فيهم: ﴿ هذان خصمان اختصموا في ربهم ﴾ [الحج: 19].
فهم في ذلك كغيرهم من كفرة الأمم.
فليفهم من قرأ كتابنا هذا ما نصف فيه من قولهم كله فسنصفه، بما يعلمه علماء كل فرقة منهم إن شاء الله ويعرفه، وسنستقصي لهم في كله ما استقصوا لأنفسهم من المقال، ثم نجادلهم فيه على الحق بالتي هي أحسن وأبلغ في الجدال، وندعوهم إلى سبيل ربنا وربهم بالحكمة والبينة، ونعظهم إن شاء الله بالمواعظ البليغة الحسنة، فإن الله سبحانه يقول لرسوله، صلى الله عليه وعلى آله: ﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ﴾ [النحل:125]، فنستعصم الله في ذلك كله بعصمة الهداة المسترشدين.
[مذاهب النصارى المتفق عليها]
وهذا كتاب ما حددت النصارى من قولها، قد استقصينا فيه جميع أصولها، فليفهم ذلك إن شاء الله منها، من أراد فهمه من الأمم عنها.
زعمت النصارى كلها: أن الله سبحانه ثلاثة أشخاص مفترقة، وأن تلك الأشخاص الثلاثة كلها طبيعة واحدة متفقة .
وقالوا: تلك الثلاثة في درك يقين النفس، أب وابن وروحٌ قدس.
قالوا: فالأب غير مولود، والابن فابن وولد مولود، وروح القدس فلا والد ولا مولود، وكل واحد من الثلاثة بما قلنا فموجود.
وقالوا: إن هذه الأشخاص الثلاثة لم تزل جميعا معا، لم يسبق بعضها في الوجود بعضا، وإن ما ذكروا من الأب والروح والولد، لم يزالوا كلهم في اللاهوت وملك واحد، ليس بين الثلاثة كلها تفاوت في الإلهية، ولا في قِدَم ولا قدرة ولا ملك ولا مَشِيَّة، وإن الثلاثة كلها واحد في الطبيعة والذات، وإن هذا الواحد في الطبيعة ثلاثة في الأشخاص المفترقات، وذلك كالشمس، فيما يدرك منها بالحس، التي هي شمس واحدة في كمالها وذاتها، وثلاثة متغايرة في حالها وصفاتها، كل واحد منها غير الآخر في شخصه وصفته، وإن كان هو هو في ذاته وطبيعته.
فمن ذلك زعموا أن الشمس في عينها كالأب، وضوءها فيها كالابن، وحرَّها منها كالروح، ثم هي بعدُ وإن كانت لها هذه العدة، فشمس لا يشك فيها أحد واحدة، لأن الشمس إن فارقها ضوءها لم تُدع شمسا، وكذلك إن فارقها حَرُّها لم تُدع أيضا شمسا، وإنما تسمى شمسا وتُدعا، إذا كان هذا كله فيها مجتمعا.
وكذلك الانسان فإنه وإن كان في الانسانية واحدا، فإنا قد نراه وترونه أشياء كثيرة عددا، منها نفسه وجسده، وحياته ومنطقه، فجسده غير نفسانيته، و منطقه غير حياته، لأنه ليس يقدر أحد أن يزعم أن الحياة هي المنطق، ولا أنهما جميعا واحد متفق، لأن كثيرا من الأحياء لا يتكلم ولا ينطق.
قالوا: ولسنا نريد بالمنطق القول الذي يُسمع سماعا، ولكنا نريد الفكر الذي جعله الله في الانسان غريزة وطباعا، فطرة خاصة في الانسان، لا في غيره من الحيوان، كالحيوان الذي جُعلَ ) من البهائم وغيرها، من نوابت الأرض وشجرها، ولو كانت الحياة هي المنطق، لكان كل حي من الأشياء ينطق، فنَطَقَ جميع البهائم، كما ينطق بنو آدم .
قالوا: فلما لم يكن الأمر كذلك، دل على ما قلنا به من ذلك، فالأب والابن وروح القدس، كان دركهم بعقل أوحس، فقد صاروا في الذات والطبيعة واحدا فردا، وفي الأقانيم التي هي الأشخاص ثلاثة عددا، فالطبيعة تجمعهم وتوحدهم، والأقانيم تفرقهم وتعددهم، فالأب ليس بالابن والابن فليس بالروح، وما قلنا به من هذا فبيِّنٌ مشروح، فهم كلهم بالطبيعة والذات واحد، وهم في الأ قانيم ثلاثة روح وابن وأب والد، لأن الأب والد غير مولود والابن فمولود غير والد، والروح فثالث موجود، لا والد ولا مولود.
قالوا: ثم إن هذه الأ قانيم الثلاثة لم تزل جميعا معا ثلاثة عددا، لم يسبق في الوجود والأزلية والقدم واحدٌ منها واحدا، أُنزل واحد منها وهو الابن إلى الأرض رأفة بالبشر والإنس، عن غير مفارقة منه للأب ولا لروح القدس، إلى مريم العذراء، فاتخذ منها حجابا وسترا، فتجسد منها بجسد كامل في جميع إنسانيته، فتبدَّى به وظهر فيه لأَعين الناظرين عند معاينته، فأكل كما يأكل الإنسان وشرب، وساح على قدميه ودأب وتعب، وأسلم نفسه رأفة ورحمة بالبشر للصَّلب، ولِمَا صار إليه لكرمه وحلمه من الأذى والنصب.
( تعليق شخصي : أرجوا تأمل الفقرة السابقه ، ومقارنته بقول السلفية بأن التوحيد ثلاثة أقسام هي توحيد ربوبية وتوحيد ألوهية وتوحيد صفات !!!!
فربما نتطرق لذلك في موضوعات أخرى !!؟؟؟ ) .
[مذاهب النصارى المختلفة]
ثم اختلفت النصارى بعدُ في الابن والولد، وما كان من تجسده بما زعموا من الجسد.
فقالت فيه الروم، وهو قولها المعلوم: إن الأ قنوم الإلهي الذي لم يزل موجودا، ومن قبل الدهور من الأب مولودا، أُنزل إلى مريم العذراء فأخذ منها طبيعة بغير أقنوم فكان لطبيعتها أقنوما، فعمل بطبيعتها التي أخذ منها كل ما كان لها في طبيعتها معلوما، فنام كما كانت تنام نومها، وإن لم يكن أقنومه أقنومها، وفعل من أفعال طباعها فعلها، وإن لم يكن أصله في الناسوت أصلها.
قالوا: فعمل بطبيعتها فكان المسيح إنسانا تآما بطبيعتين، وإن كان أقنوما واحدا لا اثنين، والمسيح فهو ابن الله الأزلي المولود، وعَمَلُ الطبيعتين جميعا فهو فيه موجود.
قالوا: فإذا سُرَّ أو بكى، أو ضحك أو اشتكى، - وكلهم يقر ولا يشك، أن قد كان يبكي ويضحك - فكل ما كان من ذلك كله وما أشبهه مما في طبائع الإنس فمن عمل الطبيعة الانسانية، وما كان من إحيائه الموتى وإبرائه للكُمْه والبُرص ومثله فمن عمل الطبيعة الإلهية .
وقالت اليعقوبية: إن الابن الذي لم يزل، زال من السماء إلى الأرض ونزل، رأفة منه ورحمة بالانسان، وتعطفا منه على البشر بالاحسان، فأخذ من مريم العذراء جسدا، فتجسد به فصارا جميعا واحدا .
وقالوا: ألا ترون الانسان من روح وجسد، ثم هو يُدعَا إنسانا باسم واحد، فترونهما وإن سُميا بالإنسان، فليس يقال لهما: إنهما في الانسانية اثنان، ولكن يقال: إنه إنسان واحد، وهو كما تعلمون روح وجسد. قالوا وكذلك المسيح الذي هو اجتماع اللاهوت والناسوت يسمى مسيحا، وهو ابن الله الذي لم يزل أفما ترون هذا قولا فيما ذكرنا وقسنا بَيِّنا صحيحا.
وقالت النسطورية: إن الابن الذي لم يزل بمحبته نزل رأفة وكرما، فتجسَّد من مريم عند نزوله جسدا كاملا تآما، بطبيعة وقنومية، من إنسانية وآدمية، فكان المسيح طبيعتين وقنومين، بعد تجسده بالجسد تآمين.
وقالوا: فنحن إذا رأيناه يأكل ويشرب، ويجيء في الأرض ويذهب، ويَنصَب ويشتكي، ويضحك ويبكي، جعلنا ذلك كله، وما رأينا منه ومثله، من الناسوت وإذا نحن رأيناه يحيي الموتى، ويبرىء المرضى، ويمشي على الماء، جعلنا ذلك للاهوت .
[المذهب الجامع للنصارى]
وقالت فرق النصارى كلها مع اختلافها، وافتراق قولها في أوصافها، إن سبب نزول الابن الإلهي الذي نزل من السماء، رحمة للبشر ومحافظة على الرسل والأنبياء، قالوا من أجل خطيئة آدم فإنه لما أن أخطأ، وأكل من الشجرة التي نهاه الله عنها فعصى، تبرأ الله تبارك وتعالى منه، وأسلمه إلى الشيطان باتِّباعه له.
قالوا فكان في حيِّز الشيطان ودار ملكه، وكذلك زعموا كان معه فيها جميع ولده، يحكم فيهم الشيطان بما أحب من حكمه، قالوا وكان فيما ملك الشيطان من آدم ونسله، أنفس كثيرة من أنبياء الله ورسله، فمن تلك الأنفس نفس نوح ونفس إبراهيم، وغيرهما من أنفس الرسل والنبيين، قالوا فتلطف الابن واحتال لاستخراج تلك الأنفس من يد الشيطان، فلبس لذلك ومن أجله جسدا آدميا، ليكون بما لبس منه عن الشيطان خفيا، فتنكر الابن بذلك له، لكي لا يحترس الشيطان منه، فلا يُنفِذ فيه مكره.
قالوا: فلما غلبت على الناس الخطية، وحلت بهافيهم البلية، واستبان لآدم زعموا ما فعل الشيطان به، وما كان من غروره إياه وخديعته له، خدع عند تلك الابنُ الشيطانَ بمكره، فبلغ فيه ما أراد من أمره، فاستخرج آدم وجميع ولده، من سلطان الشيطان ويده.
قالوا وذلك كله فإنما كان الابن يبذل نفسه للصلب، ولما لقي من الأذى قبله والنصَب، إحسانا من الابن إلينا وكرما، ورأفة من الابن بنا ورحما.
قالوا: فاشترى الابن البشر من أبيه، بما وصل من الأذى والصلب إليه، وذلك زعموا أن أباه لم يكن في حكمه وعدله، أن يظلم الشيطان ما جعل له من آدم وولده، إن صاروا إلى طاعة الشيطان وأمره، لأنه قال للشيطان فيما يزعمون من المقال: كل من اتبعك فهو لك.
قالوا: فلذلك اشترانا الابن من أبيه بالعدل، وغلب الشيطان على ما كان في يده منا بالمكر. فلما استخرج آدم ونفوس الرسل والأنبياء، صعد بعد فراغه من معاملة الشيطان إلى السماء، بعد أربعين يوما مرت به، بعد الذي كان من صلبه.
قالوا: فجلس عن يمين أبيه تآما بكليته وجسده وجميع ما فيه من اللاهوت والناسوت، وكل ما كان فيهما ولهما من النعوت.
قالوا: وسينزل أيضاً مرة أخرى، فيدين الأحياء والأموات عند فناء الدنيا.
قالوا: ولذلك آمنا بالأب والابن وروح القدس.
قالوا: والأب فهو الذي خلق الأشياء بابنه، وحفظها بروح قدسه.
فهذا - فليعلمه من أراد علمه - جماع قول النصارى وما لبسوا من اللبس، في الأب والابن وروح القدس، وفي الأ قانيم والطبيعة، وما لهم في ذلك من المقالة البديعة، التي لم يقل بها قبلهم قائل، ولم يتنازع فيها مجيب ولا سائل، وقولهم إن الثلاثة في موضع يوحدون، وفي موضع بعد التوحيد يثلثون، وفي سبب نزول الابن زعموا من أجل خطيئة آدم، وما قالوا به في ذلك من خلاف جميع الأمم، فلم نترك لهم بعد هذا من قول، يجهله منهم إلا كل جهول.
[نقض مذاهب النصارى]
ونحن إن شاء الله مبتدئون فرآدُّون، لباب فباب بما يقولون ويحددون، فليفهم ذلك من يريد مجادلتهم من أهل التوحيد والدعوة، فإنا مُقَدِّمُون إن شاء الله من ذلك باب الأبوة والبنوة.
فقائلون لهم، جميعا جوابهم: أخبرونا عن هذه الأسماء التي سميتم ؟ وادعيتم من خرافات القول فيها ما ادعيتم ؟! من أب زعمتم وابن وروحِ قدس، لم يدل على شيء منه قياس ولا حآسة من الحوآس الخمس،
ما هذه الأسماء أسماء طبيعية ذاتية جوهرية ؟! أم هي أسماء شخصية قنومية ؟! أم تقولون هي أسماء حادثة عَرَضِية ؟!
فإنكم إن كنتم إنما سميتم الأب عندكم أبا، لأنه ولد بزعمكم ولدا وابنا، فليس هذه الأسماء طبيعية ذاتية، ولا أسماء أيضا قنوميةشخصية، ولكنها حادثة عرضية، عرضت عند حدوث أولاد، بين الوالدين والأولاد، ولَسْنَ بأسماء طبيعية ولا أقنوم، لا في الروم ولا في غير الروم.
والطبيعية فإنما تسمى بذاتها وطباعها، وبما يكمل ذلك كله لها من اجتماعها، لأنا بالأسماء المعلقة بالعلة المشتقة من الأفعال المعتملة أعرف، لأن اسم الطبيعة غير اسم الأ قنوم، واسم القنوم غير اسم الفعل المعلوم، واسم الطبيعة ثابت، لا اختلاف فيه ولا تفاوت، إنما هو اسم لها محدود موقَّف، لا ينصرف فيها ولا يختلف، فيدل على قنوم، ولا فعل مفعول، ولكنه اسم الشيء نفسه، يدل عليه لا على جنسه، كالأرض والسماء، والنار والماء، وأشباه ذلك من الأسماء، التي تدل على أعيان الأشياء، فهذه هي أسماءالذات والطبائع، لا أسماء الأ قانيم والصنائع.
فأما أسماء القنومية، التي ليست بطبيعية ولا عرضية، فمثل إبراهيم وموسى، وداود وعيسى، وليس في الأسماء الطبيعية، ولا في الأسماء الشخصية القنومية، أبوة ولا بنوة، ولا فعالولا قوة، إنما هي أسماء تدل على الأعيان، كالانسانية التي تدل على الانسان.
وفيما بينا - والحمد لله - من تحديدنا الذي حددنا في الأسماء، حجة لا يدفعها في التسمية عندهم إلا من كان من أهل الجهل والعمى، لأن الأسماء عندهم للأشياء ثلاثة أسماء:
اسم جوهر كالأرض والسماء.
واسم قنوم، كَفُلان المعلوم.
واسم ثالث من عرضٍ وحدثٍ، يسمى به كل عارض محدث .
وزعمت الفرق الثلاث من النصارى - فنعوذ بالله من الجهل بالله - أنها تجد فيما في أيديها من كتب الأنبياء أن المسيح بن مريم هو الله، وأنه هو ابن الله، فجعلوا في قولهم هذا الابن أباه، ثم رجعوا فجعلوا الأب هو إياه، غفلة وسهوا واختلافا، وعماية وتخرصا واعتسافا، تصديقا لقول الله فيهم وفي أمثالهم، ومن كان يقول من أهل الجهالة بمقالتهم، ﴿ إنكم لفي قول مختلف، يؤفك عنه من أفك، قتل الخراصون، الذين هم في غمرة ساهون ﴾ [الذاريات: 8–11].
وإنما أخذت النصارى وقبلت، هذه الكتب فيما زعمت وقالت، عندما صلب عندهم المسيح صلى الله عليه من اليهود، وليس أحد من خآصتهم ولا عآمتهم عند النصارى بعدل ولا محمود، ولا تقبل شهادته على يهودي مثله، فكيف تقبل شهادتهم على الله تعالى وعلى رسله.
مع أنَّ لِمَا قالت النصارى من ذلك كله مخارجَ عندنا في التأويل صحيحة، لا يعمى عنها ولا عما بَيَّنَ الله منها إلا من لم يقبل فيها من الله بيانا ولا نصيحة، ولكن النصارى تأولت تلك الكتب بآرائها، وعلى قدر موافقة أهوائها، فضلَّت في ذلك وما تأولت منه بعمى التأويل، وأضلت من اتبعها عليه عن سواء السبيل.
فيقال إن شاء الله لهم فيما تأ ولوه من ذلك وادعوا، وافتروا في ذلك على كتب الأنبياء وابتدعوا، مما لم يسبقهم إليه أحد، ولم يقل به قبلهم مفتر ولا ملحد: إنا لم ندرك نحن ولا أنتم الأنبياء ولا المسيح بن مريم، صلى الله عليه وسلم، ولم ندرك نحن ولا أنتم أحدا من حواريه، فنسأل من أدركنا منهم عما اختلفنا نحن وانتم فيه، فتكتفوا بمن أدركتم من الأنبياء عليهم السلام في التأويل، ونجتمع نحن وأنتم على الحق فيما اختلفنا فيه من الأقاويل .
[قواعد للحوار]
ولابد لنا ولكم من الانصاف، فيما وقع بيننا وبينكم من الاختلاف، فإن نحن تناصفنا ائتلفنا، وإن فارقنا التناصف اختلفنا، ثم لم نعد أبدا للائتلاف، إلا بعودة منا إلى الانصاف.
والتناصف هو الحكَم العدل بعد الله بين المختلفين، والشفاء الشافي الذي لا شفاء أبدا في غيره للمتناصفين، فأنصفوا الحق من أنفسكم، تخرجوا بإذن الله بإنصافكم من لبسكم، وارفضوا للحق أهواءكم، تسعدوا في دينكم ودنياكم، وأقيموا ما أنزل إليكممن التوراة والإنجيل، واتركوا الافتراء على الله فيها بعمى التأويل، تهتدوا إن شاء الله لقصد سبلكم، وتأكلوا كما قال الله من فوقكم ومن تحت أرجلكم، وافهموا قول العزيز الوهاب، فيكم وفي غيركم من أهل الكتاب: ﴿ ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما كانوا يعملون ﴾ [المائدة: 66]، فكفى بهذا بيانا من الله في أهل الكتاب لقوم يعقلون .
وليعلم مَن فَهِمَ منهم، أومن غيرهم، أن فيما ذكر الله لهم من المأكل ومثله، آيةً عجيبةً ظاهرةً لمن يفهمها بعقله، تدل على أنه لم ينزلها إلا علام الغيوب، الذي لا يخفى عليه شيء من سرائر القلوب، لا سيما في النصارى من أهل الكتاب، وما هم عليه من الحرص والكد والاكتساب، فإنا لم نر أمة من أهل الكتاب أرغب في المأكل والمشرب، واكتناز الفضة والذهب، منهم خآصة دون غيرهم، معلوم ذلك من غنيهم و فقيرهم، ولذلك ما يقول الله سبحانه فيهم، وفي بيان ما قلنا به من ذلك عليهم: ﴿ إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ﴾ [التوبة: 34].
فرهبانهم إلا القليل وشمامستهم، تعولهم أبدا أقوياؤهم وضعفتهم.
وليس من الرهبان ولا الشمامسة مَن تكلَّف في مطعمه ولا مشربه ولا كسوته ولا مصلحته كلفة، ومن كفاهم ذلك من عوآمهم وضعفتهم فقد يرى ذلك قُربة له عند من يعبدون وزلفة.
فأول ما يقال - إن شاء الله - لمن أراد الانصاف لنفسه منهم، وعند من تجري المجادلة فيما ادعوا من الكتب بين أحد من أهل التوحيد وبينهم، يا هؤلاء: أنصفونا فيما ادعيتم من شهادات الكتب من أنفسكم، فلا تدعوا فيها ولا تأولوا فيها تأويلا ملتبسا يزيدكم لبسا على لبسكم، فإن شئتم تأولتم الكتب وتأولنا، على ما قد قلتم وقلنا، ولنا من التأويل مثل مالكم، وقولنا فيه يخالف أقوالكم.
فإن كان ذلك أحب إليكم، فافهموا فيه ما يدخل عليكم، فلسنا ندخل عليكم فيه، إلا ما نجمع نحن وأنتم عليه.
أجمعنا نحن وأنتم جميعا كلنا، قولكم مما قلنا به من ذلك قولنا، على أن أصدق الشهادات كلها وأعدلها، خمس شهادات يلزمنا وإياكم أن نقبلها:
فأولها: زعمنا وزعمتم شهادة الله .
والثانية: فشهادة ملائكة الله.
والثالثة: فقول المسيح وشهادته.
والرابعة: فما شهدت به أمه ووالدته.
والخامسة: فشهادة الحواريين وما كانوا يقولون.
فهذه خمس شهادات ليس منها ما تنكرون، وكلها فنحن وأنتم بها راضون، فيما ندعي في المسيح وتدَّعون.
فقد وجدنا ووجدتم في الأناجيل الأربعة شهادات مختلفة، كلها فيما عندنا وعندكم فقد أحطتم بها وأحطنا معرفة، فيما في الإنجيل الذي يُدعا عندكم إنجيلا مثل ما لا تنكرون من قوله، في أول ما وضُع من إنجيله : ( هذا ميلاد يسوع المسيح بن داود )، فهذه شهادته وهو من الحواريين على أن أبا المسيح داود، وأن المسيح ابنه وهو منه مولود، ولهذه الشهادة في الأناجيل الأربعة نظائر كثيرة، وفي ذلك حجة عليكم لا تدفع ظاهرة منيرة .
ومنها شهادة المسيح صلى الله عليه لحواريه أنهم بنو الأب جميعا، وأن الله أبوهم كلهم معا، وهذا يدل على أن تأويل الأبوة والبنوة، غير ما قلتم به فيها من الدعوة .
ومنها: شهادة المسيح أن الحواريين إخوانه فإن شئتم فقولوا في نسب أو غير نسب، فلهم بذلك ماله بعد شهادته صلى الله عليه زعمتم أنه ابن الأب .
ومنها: شهادة أمه صلى الله عليها، على أنه ابن يوسف جدها وأبيها.
ومنها قول فيلبس لسائل سأله، إذ قال له عند مسألته عنه، هو ذلك الذي ذكره موسى في التوراة، ونَسَبَه صلى الله عليه فيها وسمَّاه، فقال: يسوع بن يوسف، يعرف هذا منكم كل عارف.
ومنها أيضا: شهادة يحيى التي تدل على أن معنى البنوة والولادة، إنما هو معنى المحبة والولاية والعبادة، إذ يقول: أما أولئك الذين قبلوا قوله، وسلموا فيما سمعوا منه له، فلم يولدوا من اللحم والدم، ولا من مزاج المرة والبلغم، ولكنهم - زعم - من الله وُلِدوا، وأعطوا من كرامة الله ما رضوا وحمدوا.
فتأويل هذا ومثله إن كان صدق فيه، فإنما هو على ما يصح أن يكون عليه، لا على ما يستحيل في الألباب والعقول، ويفسد ويتناقض من القول في التأويل، من أن يكون الرب عبدا، و الوالد مع ولادته ولدا، وذلك أجهل الجهل، وفي ذلك المكابرة للعقل .
أَمَا سمعوا قول الملائكة لمريم، صلى الله عليهم وعليها وسلم، عندما صاروا به من البشارة بولادتها، للمسيح ابنها، :( تلدين ابنا )ولم يقولوا: تلدين ابن الله، وقالوا:( يدعا يسوع ويكون عليا عظيما بالله، ويرث كرسي أبيه داود ) فلو كان كما يقولون لقالت الملائكة: تلدين ابن الله ويكون منك مولودا، فكان أعظم في القدر والخطر، من أن يقال: ابن البشر .
وكذلك قال المَلَكُ ليوسف زعمتم بعلِها، عندما أراد لماَّ ظهر من حملها، من تطليقه لها وتخليته لسبيلها، :( يا يوسف بن داود لا تُخَلِ سبيل امرأتك فإن الذي بها من روح الله، وهو يدعا يسوع، وبه يحيي الله شعبه من خطاياهم بإذن الله ).
ومما زعموا فاعرفوه أنه دلهم، وشهد على ما ادعوا لهم، واعتقدوا من ضلال أقاويلهم، قول الله زعموا في إنجيلهم، في المسيح بن مريم، صلى الله عليه وسلم:( هذا ابني الحبيب الصفي). وقول سمعانالصفا له :(أنت ابن الله الحق).
وما ذكروا من هذا إن صح ومثله، مما يدعون على الله وعلى رسله، فقد يوجد له تأويل، لما قالوا مبطل مزيل، لا ينكرونه ولا يدفعونه، ولا يكذبون من خالفهم فيه ولا ينازعونه .
فمن ذلك ما هم عليه وغيرهم مجمعون، لا يختلفون فيه كلهم ولا يتنازعون، من أن ملائكة الله، ومن مضى من رسل الله، لم يُسَبِّح المسيح قط ولم يعبده، ولم يزعم أحد منهم أن الله ولده .
ومن تأويل ما ذكروا من الولد والابن، في زمن المسيح وكل زمن، أن الناس لم يزالوا يدعون ابنا وولدا من تبنوا وأحبوا وحظي عندهم، وإن لم يكن على طريق التناسل ولدهم، ثم لم يزل ذلك لديهم معروفا، قديما وحديثا، ولاسيما في القدماء، من أهل العلم والحكماء، فكان الحكيم منهم يقول: يا بني لمن علَّمه، ويدعو المتعلمُ باسم الأبوة مُعلّمَه، فيقول: قد قلتَ وقلنا يا أبانا، وربما قال أحدهم: يا أبت أما ترانا.
قال بعضهم :-
آباء أرواحنا الذين همُ همُ *** أخرجونا من منزل التلف
مَن علَّم العلم كان خير أب *** ذاك أبو الروح لا أبو النطف
وذلك والحمد لله في الأمم كلها فأوجد موجود، يقوله الرحيم منهم لمن ليس بابن له مولود .
ومن ذلك ما كان يقول المسيح صلى الله عليه، كثيرا لا تنكره النصارى لحوارييه:( إذ هبوا بنا إلى أبينا، وقولوا: يا أبانا أنزل من سمائك طعامك علينا).
ومن ذلك قوله لهم، صلى الله عليه وعليهم، :( قولوا: يا أبانا تقدس اسمك، لتنزل في الأرض ملكوتك وحكمك).
فهل يتوهم أحد أنه أب من الآباء يلد وينسل ويتغير ويتغذى ؟!
أو يصل إليه صلب أو نَصَب أو أذى ؟!
لا بحمد الله وكلا ! وتبارك ربنا عن ذلك وتعالى ! ولكنه أرحم بنا وألطف، وأعطف علينا وأرأف، من الآباء كلهم والأمهات، ومن أنفسنا فيما يهمنا من المهمات .
وقد ذكر عن بعض الحكماء، ممن مضى من أوائل القدماء، أنه كان إذا أخذ في التسبيح لله والذكر، قال: الله الذي هو في ذاته محب للبشر. وإنما يراد بالمحبة لهم، الرأفة والرحمة بهم،
وكذلك قال الرحمن الكريم: ﴿ إن الله بالناس لرؤوف رحيم ﴾ [البقرة: 143].
فمن أرأف بهم وأرحم ؟! وأعطف عليهم وأكرم ؟! ممن خلقهم مبتدئا فسوّاهم ؟! وأعطاهم من نعمه ما أعطاهم ؟! ثم دلَّهم تعالى على الهدى، وبيَّن لهم الغيَّ والردى.
لا مَن بحمد الله وفضله! فنستمتع اللهَ بالنعم في ذلك كله.
ومما يحتج به على من كفر منهم بربه جهلا ومجانة، قول المسيح بن مريم لهم فيما زعموا من إنجيلهم أبانه :( أنا ابنه وهو أبي ) وقوله :( جئتكم من عند أبي، وما سمعت عنده فهو ما أكلمكم به، وأنتم لو كنتم منه لقبلتم ما جئتكم به من أمره، ولكنكم من الشيطان وأنتم بنوه، ولذلك قبلتم قوله فلم تخالفوه، وإنما أنتم بنو الخطيئة والشيطان أبوها، وأنتم صاغرون لطاعتكم له فبنوها. فقالوا: نحن بنو إبراهيم، ورموه بالبهتان العظيم. فقال: لستم بولد إبراهيم ولابنيه، لو كنتم ولده لعملتم بما يرضيه، ولكنكم بنو الشيطان والخطيئة.
أخبروني هل منكم من يرتجي الله لمعصيته ؟ فعلام تريدون قتلي ؟! ولم لا تقبلون قولي ؟! لو عملتم بطاعة الله، إذن لكنتم أبناء الله.
فجعل كما ترون الله أبا لمن أطاعه وأرضاه، وجعل الشيطان أبا لمن أطاعه واتبع هواه، فكفى بهذا حجة دامغة، وشهادة قاطعة بالغة، على مَن تأول من النصارى الأبوة والبنوة على ما تأ ولوها عليه، وما قلنا به من هذا كله فهم كلهم مقرون به في إنجيلهم لا يختلفون فيه.
فإن لم تكن الأبوة والبنوة إلا على ما قالوا، لزمهم أن يتأولوا كل ما في إنجيلهم من الأبوة والبنوة بما تأولوا، فقد يقرون كلهم من ذلك في إنجيلهم، بما سنذكره مع ما ذكرنا إن شاء الله من أقاويلهم .
زعموا أن فيها، وفيما يضيفونه إليها : (( أن المسيح خرج من القرى وتنحى، وصام في البرية أربعين صباحا، لم يأكل فيها طعاما، ولم يشرب فيها شرابا، فجاءه إبليس في صومه ومنتحاه، فعرض عليه جميع زهرة الدنيا وأراها إياه، فلما رأى المسيح ذلك كله، سأله إبليس أن يسجد له سجدة واحدة، على أن يعطيه من ذلك كل ما أراه، فلعنه المسيح وأخزاه، وقال: لا يصلح السجود لغير الله، اخس إليك يا عَدُوَّ الله، قال إبليس ـ زعموا له، عندما جرى من القول بينه وبينه ـ فاليوم لك أربعون يوما، لم تشرب شرابا ولم تطعم طعاما، فادع الله إن كنت له حبيبا، أن يجعل لك هذه الحجارة فضة وذهبا، فقال له: ألم تعلم يا لعين أن كلام الله يكفي من اكتفى به من أحب كل طعام وشراب).
ومن كلام الله الذي ذكر صلى الله عليه ما نزّل لا شريك له من كل كتاب، وزعموا في أناجيلهم أن الله أوحى إلى يوسف بعل مريم، بعد ولادتها للمسيح بما الله به أعلم، (( أن انطلق بالصبي وأمه إلى مصر فأقم بها أنت ومريم وابنها حتى أبين لك موت هيردوس - وهو ملك من ملوك الروم كان ملكا على بني إسرائيل - فإنه يريد قتل عيسى ودماره، فرحل يوسف بمريم وابنها ليلا، وأتم الله زعموا بما كان من ذلك من أمره ببعض ما أوحى إليه من كتب رسله إذ يقول سبحانه :من مصر دعوت صفييّ .
وقالوا في إنجيلهم : ( فلما مات هيردوس أوحى الله إلى يوسف أن قد مات فانطلق بعيسى وأمه إلى أرض إسرائيل) وزعموا أن هذا كله موجود عندهم فيما في أيديهم من الإنجيل، وأنه لما قدم بهما يوسف سمع أن كيلادوس مَلِكَ من اليهود بعد أبيه، ما كان يملك أبوه، ففزع لعيسى وأشفق عليه، فأوحى الله تبارك وتعالى إليه :( أن امض إلى جبل الجليل فكن فيه، فخرج حتى نزل منه في مدينة يقال لها: ناصرة ). تصديقا لما أوحى الله به قديما في بعض كتبه.
وفيما ذكر من عيسى وأمره في أنه: (( يكون ويدعا ناصريا ))، وبذلك يرى ويدعا كل مَن تَنصَّر نصرانيا .
فلما كبر عيسى وظهر في أيام يحيى، وكان يحي صلى الله عليهما ممن أجابه وصار إليه، فأمره بالتطهر والاغتسال في نهر الأردن، وكان ذلك تطهرة من الخطايا لمن تاب وآمن، فقال فيما زعموا من إنجيلهم :( أنا أطهركم كما ترون بالماء والذي يأتيكم على أثري، هو أكرم على الله مني، وهو الذي يجعل الله به المذراة، فلا يودع خزائنه إلا الحبوب المطيبة المنقاة، وما بقي بعد ذلك من الغرابلة والتبن، وما ليس بذي قيمة ولا ثمن، يحرق بالنار التي لا تخمد، حيث يبقى التحريق ويخلد) .
فلما سمع عيسى بأخبار يحيى صلى الله عليهما وعلى جميع النبيين، وما يصنع من تطهيره للمؤمنين، ( أقبل إلى يحيى من جبل الخليل ليصبغه بالماء ويطهره، فكره يحيى عليه السلام مجيئه لذلك - زعموا – وأَمْرَه، وقال له يحيى عليه السلام: بي إليك فاقة، وتجيء إلي أنت تطلب الطهارة، فقال عيسى، صلى الله عليه وعلى أخيه يحيى: دعنا الآن من هذا فإنه هكذا ينبغي لنا أن نستتم خلال البر كلها، أوكل ما قدرنا عليه منها، فتركه يحيى حينئذ فاغتسل، وعمل في ذلك ما أراد أن يعمل ).
( ثم سمع بقتل اليهود ليحيى فانطلق إلى أرض الجليل فسكن في كفر ناحوم يتفيأ من حد زبولون ).
( وَثَّم أوحى الله – زعموا - فيه إلى شعيب صلى الله عليه، في مصير عيسى من زبولون إلى ما صار إليه، وكان في مصيره إليها ومقامه بها سيارا يسيح في أرض الجليل، يبشر ويعلِّم ما يجب لله كلَّ جيل وقبيل، ويبرىء كل مرض ووجع في بني إسرآئيل، حتى سُمع بفعاله، وتبشيره ومقاله، في كل ناحية وأرض، وأُتي بكل ذي وجع ومرض، من البرصى والمجانين، والكُمْه والمقعدين، فأبرأهم بإذن الله من أمراضهم المختلفة الهائلة، وانطلقت على إثره جموع كثيرة من كل قبيلة، من أرض الجليل، ومن المدائن العشر وأهل بيت المقدس ومن عبر الأردن.
[وصايا المسيح عليه السلام]
( فلما رأى عيسى صلى الله عليه تلك الجموع وما اجتمع منها إليه، صعد على جبل مرتفع فارتفع عليه، ليسمع قوله كل من اجتمع فلما علا قعد عليه أدنى منه حوار ييه، ثم قال: طوبى بالروح عند الله غدا للمساكين ذوي التقوى، كيف يكون ثوابهم في ملكوت الله ودار الإقامة والمثوى، طوبى للمحزونين على خطاياهم في الدنيا، كيف يغفر الله لهم خطاياهم غدا، طوبى للمتواضعين لله كيف يرثون أرض الله، طوبى للجياع العطاش في الله بالبر، كيف يشبعون ويروون في يوم البعث والحشر، طوبى للرحماء في الله، كيف يفوزون برحمة الله، طوبى للنقية قلوبهم، إذا نظروا إلى ربهم، كيف يصنع غدًا بهم، وكيف ينتفعون عنده بكسبهم، طوبى لعمال السلام لله، كيف يُدعون أصفياء الله، طوبى للذين يُطردون لأعمال البر، كيف يملكون في ملك السماء إلى آخر الدهر.
ثم قال صلى الله عليه، لمن أجابه ولحوار ييه: طوبى لكم إذا أنتم عُيّرتم وطُرّدتم فيّ وعليّ، وقيل لكم قول السوء والكذب من أجلي، عندها فليعظم فرحكم لما عظّم الله في السماء من نوركم، وذخر عند الله في الآخرة لكم من أجوركم، فإن تُظلموا فقبلكم ما ظلمت الرسل والأنبياء، أو يكذب عليكم فمِن قبل ما قيل على الله الكذب والافتراء، أنتم ملح الأرض فإذا أنتن الملح فبم يُملَّح، فحينئذ لا يصلح إلا أن يُرمى به ويُطرح، فيكون شيئا ملقى، وترابَ أرضٍ يوطأ، أنتم نور العالم الذي لا يخفى على من يبصر ويرى، وهل تستطيع مدينة ظاهرة على جبل أن تخفى أو تتوارى، وهل يُسرَّج السراج فيحمل تحت الأغطية، لا ولكن يحمل فوق المنارة العالية، لكي ينير فيضيء، ويظهر فلا يختفي، وكذلك أنتم تنيرون للناس بنوركم المضيء، لينظروا عيانا إلى عملكم الرضي، لتحمدوا الله ربكم الذي زكاكم، وأعطاكم من توفيقه ما أعطاكم، ألا ولا يظنن أحد أني جئت لدفع التوراة والإنجيل والأنبياء، ولا لنقض شيء جاء عن الله من جميع الأشياء، ولكني جئت لتمام ذلك كله، ولتصديق جميع ما أمر الله فيه ورسله، بل أقول لكم قولا حقا، وأنبئكم نبأ فافهموه صدقا، أنه لا تُغيَّر من آيات الله كلها آية ولا تنتقض، إلى أن تتغير وتفنى السماوات والأرض، ومن نقض من آيات الله آية، أو غيَّر من أصغر وصاياه وصية، فعلَّمها أحدا من الناس مبدّلة مغيّرة، صغيرة كانت الآية والوصية أو كبيرة، دعي في ملكوت الله خسيسا ناقصا، ومن علَّمها كما أنزلت كان في الآخرة تآما خالصا .
وحقا أقول لكم: لئن لم تكونوا من الأبرار، ويكن بركم أفضل من بر الكتبة والأحبار، لا تدخلون غدا في ملكوت الله الغفار .
ألا وقد سمعتم في التوراة ألاَّ تقتلوا النفس المحرمة، ومن قتلها فقد استوجب في الدنيا العقوبة المؤلمة، وأنا فإني أقول لكم: إن من قال لأخيه، كلمة قبيحة تؤذيه، فقد استوجب العقوبة، إلا أن يحدث لله منها توبة، ومن قال لأخيه ليعيره: إنك لأرغل لم تختتن، فقد استوجب في الآخرة نار جهنم، بل من قرب منكم قربانه على المذبح وأدناه وقربه ليذبحه، ثم ذكر أن أخاه واجد عليه فليدَع قربانه وليذهب إلى أخيه فيصالحه.
ألا وقد قيل في التوراة: لا تكذبوا إذا حلفتم، ولكن اصدقوا إذا حلفتم بالله وأقسمتم، وأنا فإني أقول لكم: لا تحلفوا بشيء من الأشياء، ولا تقسموا طائعين بقسم ولا إيلاء، لا تحلفوا بالسماء التي هي مكان كرسي الله، وفيها يكون ملائكة الله، ولا بالأرض التي هي منزل رحمة الله وآياته، ولا بحياة شيء، ولا برأس آدمي، ولكن ليكن كلامكم نعم وكلا، فيما تقولون وبلى، وما كان سوى ذلك فهو من السوء، [والقول الباطل] والهزوء، ومن سأل أحدكم شيا، فليعطه وإن كان نفيسا عليا.
ألا وقد سمعتم أن قيل: أحبوا أولياءكم، وأبغضوا من الناس أعداءكم، وأنا أقول لكم أحبوا في الله أعداءكم، وبَرِّكُوا منهم على من لعنكم وآذاكم، وأحسنوا منهم إلى مبغضيكم، وصِلوا منهم من يؤذيكم، لكي تكونوا من أصفياء الله، ولتفوزوا بالكرامة والرضا من الله، الذي يُطلع شمسه على المتقين والفجرة، وينزل أمطاره على الظالمين والبررة، فإن كنتم إنما تحبون من يحبكم، فأي أجر حينئذ لكم، أَوَليس المكسة والعشارون، كذلك فيما بينهم يفعلون.
ألا ولا ترآوا الناس بالصدقة والزكاة، ولا بما تصلونه لله من الصلاة، فتحبطوا أعمالكم في ذلك لله بالرياء، وتتوفوا أجرها في عاجل هذه الدنيا، ولكن لتكن صدقتكم لله فيما بينكم وبين الله خفية وسرا، فإن الله ربكم الذي يرى سركم هو يجعلها لكم علانية جهرا، وإذا كنتم في صلاة لله أو خشوع، فلا تقوموا بذلك في السكك والجموع، كالمرآئين للناس بما هم فيه لذلك من حالهم، فحقا أقول لكم لقد تَوفَّى أولئك جزاء أعمالهم.
وإذا صليتم فلا ترفعوا أصواتكم ودعاءكم طلبا للرياء، فإن الله يعلم قبل أن تسألوه ما تحتاجون إليه من الأشياء، ولكن إن صليتم فلله وحده فصلوا، وإذا حكمتم في أرضه بحكم فاعدلوا، وقولوا ربنا الذي في السماء تقدس اسمك وحكمتك، وعظم ملكك وجبروتك، أظهر حكمك في أرضك كما أظهرته في سمائك، وارزقنا طعام فاقة يومنا، واغفر لنا سالف جرمنا، كما نغفر لمن ظلمنا، واعف عنا برحمتك وإن أجرمنا، ولا تبتلنا ربنا بالبلاء، وخَلِّصنا من مكار ه الأسواء، فإن لك الملك والقدرة، ومنك الحكم والمغفرة، أبد الآبدين، ودهر الداهرين.
واعلموا أنكم إن غفرتم للناس ما بينهم وبينكم، فإن الله سبحانه يغفر لكم، وإذا صمتم فلا تغيروا وجوهكم، ليعلم الناس صومكم، ولكن إذا صمتم فاغسلوا وجوهكم وادهنوا رؤوسكم، لكيما لا يعلم الناس صومكم، فإن الله الذي صمتم له سرا، هو يجزيكم بصومكم علانية جهرا.
ألا ولا تخزنوا خزائنكم، ولا تجعلوا في الأرض ذخائركم، فإن ما في الأرض يفسده السوس وتأكله الأرضة، وتعرض له الآفات وتناله السرقة، ولكن اخزنوا خزائنكم، واجعلوا ذخائركم في السماوات العلى، حيث لا يفسد منها شيء ولا يبلى، بسرقة ولا آفة معترضة، ولا يناله أكلُ سوسٍ ولا أرضة، فحقا أقول لكم: أن حيث تكون خزائنكم وذخائركم، فهنالك تكون قلوبكم وضمائركم.
واعلموا أن سراج الجسد العين فإن كانت العين نيرة مضيئة كان الجسد نيرا مضيا، وإن كانت العين عمية مظلمة كان الجسد مظلما عميا، وإذا كان النور الذي فيكم مظلما لا يبصر ولا يعلم، فكم ترون ظلمة حوآسكم وقلوبكم أعمى وأظلم .
واعلموا أن الله لم يجعل لأحد في جوفه من قلبين، وأنه لا يستطيع أحد منكم أن يعبد ربين، لأنه لابد له من أن يكرم أحدهما ويجله، فيقصر بالآخر عن الكرامة ويغفله، أو يهين أحدهما ويحقره، فيجل الآخر ويكبره .
وكذلك لا تستطيعون أن تعبدوا الله وتعزروه، وتسعوا للمال فتجمعوه وتكثروه، ومن أجل ذلك فإني أقول لكم: لا تهتموا بما تأكلون، ولا بما تشربون، ولا ما تلبسون، أليس ماخلق الله لكم من الجوارح والأجسام ؟! أكرم وأجل وأكبر من الشراب والطعام! أَوَليس ما خلق الله لكم من الأنفس ؟! آثر عند الله من الثياب والملبس!
انظروا إلى طير الأرض والسماء، وما خلق الله من دواب الماء، التي لا يزرعن زرعا ولا يحصدنه، ولا يدخرنه في الأهواء ولا يحشدنه، والله ربكم الذي في السماء، يرزقهن في كل يوم ما يصلحهن من الغذاء .
وانظروا إلى عشب البرية الذي لم ينسج ولم يغزل، ولم يُعن منه بشيء ولم يُعتمل، كيف يلبسه الله في حينه كل لون زينةً تبهجه! أو حسنا أو نورا، فأنا أقول لكم إن سليمان بن داود في كل ما كان فيه من ملكه وسلطانه، ما كان يقدر على أن يلبس لونا واحدا مما ألبسه الله العشب من ألوانه، فإن كان العشب في حين تنويره ذا بهجة ونور، فعما قليل وبعد يسير ما يُجعل وقودا للتنور .
ثم الله تبارك وتعالى اسمه يلبسه من البهجة والنور ما لم يلتمسه فيكم، فكم ينبغي لكم يا ناقضي الأمانة ألا تهتموا فتشتغلوا ولا تكثروا من القول لأنفسكم ولا لغيركم ؟! فتقولوا ما نأكل وما نشرب ؟!وما نلبس وأين نذهب ؟! كأنكم بما قلتُ من هذا لا توقنون، فكل هذه الشعوب التي ترون، تبتغي ذلك ولا تبتغوا منه مايبتغون، فإن ربكم الذي في السماء يعلم ما ينبغي لكم من قبل أن تسألوه إياه، ولكن ابتغوا طاعة الله ورضاه.
فأما ما ذكرت من هذا كله فهو يعطيكموه ويعطيه، من لا يرضى عليه، فلا تشتغلوا بغد وما بعده من شغله، فحسب غدٍ أن يقوم بشغل أهله، وكفى يومكم في غده، بما في غد من كده .
ألا ولا تعسفوا أحدا بظلم فإنكم كما تدينون تدانون، والمكيال الذي تكيلون به تكتالون، فما بال أحدكم يرى القذى في عين أخيه ؟! ولا يرى السارية الشامخة في عينيه! أم كيف يقول لأخيه: اتركني أنزع من عينك قذاها! والسارية الشامخة التي في عينيه لا يراها!
أيا مخادعا مَلِقاً، ومخاتلا لغيره مسترقا، أخرج السارية أولا من عينيك، ثم التمس بعدُ إخراجَها من عين غيرك.
ألا واسمعوا مني، وافهموا ما أقول عني: لا ترموا بقدس الصواب، بين نوابح الكلاب، ولا تقذفوا بلؤلؤكم المنير، بين عانات الخنازير، فلعلهن أن يدنسنه، وينتن ما ألقيتم بينهن منه، ألا واسألوا تعطوا، وابتغوا تجدوا، واقرعوا يفتح لكم فكل سائل يعطى، ومبتغٍ يجد ماابتغى، وكل من استفتح يفتح له، وأي امرؤ منكم يسأله حبيبه أو ابنه بِرًّا أو خيرا ؟ فيعطيه مكان ما سأله من ذلك حجرا ! أو يسأله سمكة ؟ فيعطيه حية مهلكة ! فإن كنتم وأنتم أنتم في النقص والتقصير، ومنكم كل ظالم وشرير، تعطون العطايا الصالحة أبناءكم، وتجيبون عند الدعاء والمسألة أحباءكم، فكم ترون لله في ذلك ؟! وإذ الأمر كذلك، من الزيادة عليكم فيه، للذي تسألونه وترغبون إليه.
وانظروا كما تحبون أن يفعله الناس بكم فافعلوه إليهم، وكما تريدون العدل من الناس عليكم فكذلك فاعدلوا عليهم، وإن تلك سنة الرسل والأنبياء، وميزان عدل الله في الأشياء، ألا وادخلوا لله وفي الله باب الضيق والمخاوف، فإن باب الأمن والسعة بمعصية الله سبب الهلكة والمتالف، ولَكثيرٌ ممن يدخله ويؤثره، ممن يبصر ذلك ومن لا يبصره، وما أضيق المدخل والباب! وأغفل السبيل والأسباب! التي تُبلِّغ العباد الحياة، وتوجب للناس النجاة، وأقل من يجدها! ويسهل له وردها!
ألا واحتفظوا من كَذَبَةِ أولياء الشيطان، الذين يرآؤن الناس بلباس الحملان، وهم مع ذلك ذئاب ضارية، وقلوبهم مستكبرة عاصية، فلا تغتروا بظاهر حالهم، ولكن اعرفوهم من قِبَل أعمالهم، فهل يخرج من الشوك عنب ؟! أومن الحنظل رطب ؟! لا لن يكون أبدا ذلك! ولن يوجد كذلك! ولكنه يخرج من كل شجرة طيبة ثمرة طيبة، ويخرج من كل شجرة خبيثة ثمرة خبيثة، وإنما تعرف الشجرة الخبيثة من قِبَل خبث ثمرها، فإذا كانت كذلك خبيثة أوقدتَ النار بها، وكذلك العمل إذا كان شيئا غيا، فلا يكون صاحبه إلا مسيئا غويا .
وليس كل من يقول: ربي ربي بإقراري والدعاء! يدخل يوم القيامة في كرامة ملكوت السماء، إلا أن يكون ممن عمل في دار الدنيا، بما حكم الله عليه به من التقوى، ولَكثيرٌ في ذلك اليوم من يقول ربنا باسمك هدينا وسعينا، وباسمك أخرجنا من الشياطين ما أخرجنا، وباسمك أمورا كثيرة من العجائب صنعنا، ثم يقول الله لهم في ذلك اليوم: تأخروا عني ياعمال الزور .
وقال صلى الله عليه: اعلموا أنه من سمع كلامي، فعمل بما سمع وقَبِلَه عني، فمثله كمثل رجل ذي لب وحكمة، بنى بيته على أساس من حجر محكمة، فلما جاءت الأمطار، وخرَّت فأ عظمت الأنهار، وتهيجت الرياح الكبار، جعل ذلك ينطح من كل جدر، فلم يسقط البيت ولم يخرّ.
ومثل من سمع كلامي بغير تسليم ولا تَقَبُّل، كمثل رجل ذي حماقة وجهل مُضَلل، بنى بيته على جرف منهار، أو رمل كثير هيال، فلما جاءت الأمطار ودرَّت، وتحركت الأنهار فجرت، وعصفت الرياح فأعصرت، خر بيته منقعرا، و سقط سقوطا مفزعا مذ عرا.
قالوا فلما فرغ من كلامه هذا كله، عجب مَن حضره من حكمته فيه وقوله، ثم لا سيما الكتبة والأحبار، فإنهم كانوا أعجبهم به .
وفي أناجيلهم أنه قال عليه السلام: لحقا أقول لكم أيها الناس والكتبة والأحبار، إنَّ كثيرا من المشرق والمغرب يجيء يوم القيامة والجزاء، يتكىء مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوت السماء، وإن كثيرا ممن يزعم أنه ابن لهم يُقصى عنهم مع الظلمة في النار، ثم يكونون مخلدين أبدا في البكاء وتحريق الأستار.
وفي أناجيلهم: أن رجلا من الكتبة جاءه فقال: إني أحب أن أتبعك، وأكون حيث كنت معك، فقال عليه السلام: لثعالب الوحش مغار، ولطير السماء أوكار، وأنا فليس لي منزل ولا قرار أقر إذا قروا فيه، ولكلٍّ مأوى وليس لي مأوى آوي إليه.
وفي أناجيلهم: أن رجلا من حوار ييه قال له: يا معلمي ائذن لي أذهب فأدفن أبي، فقال له: تعال اتبعني وكن معي وعلى أثري، واترك الأموات يدفنون موتاهم، ففيهم لدفنهم ما كفاهم.
تم والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيئين، وعلى أهله الطيبين، وسلم عليهم أجمعين.
أنقل لكم هنا ما جاء في كتاب ( الرد على النصارى )
للإمام القاسم الرسي بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) :-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي لم يزل ولا يزال، وله الكبرياء بَدِيًّا والجلال، البري من كل تغيُّر وزوال، وتبدُّل وحركة وانتقال، أو فناء أو احتيال، المتعالي عن أن يكون لشيء أصلا متأصلا، أو عنصرا من عناصر الأشياء كلها متحللا، فيكون كواحد منها، أو كما بان من فروعها عنها، فكثر من قلته بتفرع بعد قلة، أوعزَّ بكثرته بتجمع من ذلة، ولو أن ذلك، كان فيه كذلك، لعاد غيره له ندا ومثلا، إذ كان له سبحانه محتدا وأصلا، ولكان حينئذ لكل ما كان منه، ووجد من فروعه وعنه، ما كان من التوالد له، إذ كان المتولد منه مثله.
[مشابهة الفروع للأصول]
وكذلك يوجد لكل فرع كان من أصل، ما يوجد لأصله من التوالد مثلا بمثل، كفرع ما يُرى من الأشياء كلها، التي تتولد يقينا عيانا من نسلها، مثل ما يتولد غير مرية من أصلها، كما يُرى من ولادة الأبناء، لمثل ما يتولد من الآباء، سواء ذلك كله سواء.
وكذلك ما يرى من متولد الشجر وغير الشجر، فكالأنثى في ذلك أجمع والذكر، يتولد في ذلك كله من أولاده، ما يتولد سواء من والده، فكل شيء أبدا كان ممكنا في أصل ووالد كون وجوده، فمثله ممكن سواء في نسله ومولوده، لا يمتنع مما قلنا به في ذلك وقبوله، إلا مكابر في ذلك لعلمه ومعقوله.
و لذلك وما فيه من الامكان، وما يدخل به على أهله من النقصان، ما تقدس الله عنه، وجل وتطهر منه، فلم تمكن فيه منه سبحانه ممكنة في فكر ولا مقال، وكان القول عليه جل جلاله بذلك أحول مُحال، إذ في أن يكون شيء له ولدا، وأن يكون لشيء أصلا ومحتدا، إبطال الإلهية والربوبية، و زوال الأزلية والوحدانية، وإذ لا يكون واحدا من كان له ولد أبدا، ولا يكون أزليا من كان أبا أو والدا، لأن الابن ليس لأبيه برب، وكذلك الرب فليس لمربوب بأب، إذ كان الابن في الذات هو مثله فكلاهما من الربوبية قاصٍ متبعِّد، إذ ليس منهما من هو بها متفرد متوحد. لأن الربوبية لا تمكن أبدا إلا لواحد، ليس بأصل لشيء ولا ولد ولا والد.
ولكل ولد في ذاته، ما للوالد من صفاته، وكذلك والده فله في الذات، مثل ما للولد في ذلك من الصفات، كالانسانية التي للابن منها ما لأمه وأبيه، وفي الأبوين منها ومن كمالها مثل ما فيه، فليس له من الانسانية وحدودها، ولا مما يوجد فيه وفيهما من مو جودها، أكثر مما لهما منها، وكل واحد منهما فغير مقصر عنها، ولتمامهما جميعا فيها، وفطرة الله لهما عليها، كان الابن ولدا لهما ونسلا، وكانا له بها محتدا وأصلا، وفي ذلك ما يقول الله سبحانه، لعيسى صلوات الله عليه ورضوانه، فيما نزل من الكتاب، في يوم البعث والحساب، توقيفا وتعريفا له وللعباد، على أنه قد يجب للوالد في الذات ما يجب للأولاد، وتوبيخا لمن أفرده دون أمه في العبودية والإلهية، وحالهما في الذات حال واحدة مستوية، فعبدوه عماية وجهلا دونها، وهم يعلمون أنه ابنها ومنها، ويوقنون فلا يشكّون أن أباها أبوه، فهي وآباؤها أولى منه بما أعطوه، إذ كان لولا وجودهم لم يوجد، ولولا ولادتهم له لم يولد.
فكيف يعبدونه دونهم، ولم يكن قط إلا منهم، فهو في الذات كَهُم، إلا أن يفرقوا بينه وبينهم، بحال يخصونه بها دونهم، أو بغير ذلك من فعل من الأفعال، هو سوى ما يجمعهم وإياه في الذات من الحال، فكيف وذلك غير قولهم، وما يبنون عليه من أصلهم.
[عيسى بشر]
فاسمعوا لقول الله في ذلك وبيانه، وما بيّن فيه جل جلاله من تفصيله وفرقانه، إذ يقول له صلى الله عليه، في ذلك من غير ما سخطة منه عليه ولا لوم فيه : ﴿ يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ﴾ [المائدة: 116]، فسبح الله جل جلاله إكبارا له عن أن يقول في ذلك على الله علاَّمِ ما كان وما يكون بقولِ إفكٍ مفترٍ مكذوب، لايصح فيه أبدا قول في فطرة، ولا يقوم في سليم عقل ولا فكرة.
وقال صلى الله عليه: ﴿ ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا مادمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد ﴾ [المائدة: 117]، فأنبأهم صلى الله عليه أنه عبد الله كما هم كلهم جميعا عبيد، وأخبر الله سبحانه من قوله في ذلك بما لا تنكره النصارى كلها وإن اختلفت في أديانها، وفرَّقتها البلدان في كل مفترق من أوطانها، لما رأوا منه عيانا، وأيقنه من غاب منهم إيقانا، من عبادته عليه السلام لله واجتهاده في طاعة الله، وكان في ما عاينوا من مشابهته لهم في الخلقة دليل مبين على أنه عبد لله، يجري عليه من حكم الله في أنه عبد لله ما جرى عليهم، بما بان من أثر تدبير الله وصنعه فيه وفيهم.
وفيما قلنا من ذلك ومثله، في أن الفرع من الشيء له ما لأصله، ما يقول الله سبحانه لرسوله، صلى الله عليه وعلى آله: ﴿ قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ﴾ [الزخرف: 18]. يخبر جل جلاله عن أنه قد يجب للولد ما يجب للوالدين، في كل ما يجب لهم بالطبيعة والذات، لا فيما يجب من ذلك بالأعراض المحدثات.
ولو كان عيسى صلى الله عليه كما قالوا ربا وإلها، وعن أنه لله عبد أو صنع معظما في ذاته منزَّها، لكان لأمه من ذلك ما له، إذ كانت في الذات مثله، بل لكان ينبغي لمن ولده أن يكون أعلى من ذلك منزلة منه، إذ كان وجوده صلى الله عليه به وعنه.
وليس أحد من النصارى يُثبت لمريم ما يُثبت لابنها من الإلهية، بل كلهم يقول: إنها أَمَة من إماءِ الله محدثة غير قديمة ولا أزلية، وقد يلزمهم صاغرين فيها، من إضافة الإلهية إليها، ما قال الله تبارك وتعالى فيهما، إذ الحكم واقع بالاشتباه في الذات عليهما، فهي في ذلك كله كولدها، إذ روحه من روحها وجسده من جسدها.
فإن لم يكن ذلك، فيهما كذلك، زالت البنوة عنه منها، وزال أن تكون له أُمًّا عنها، فلم تكن له أُمّا ولم يكن لها ابنا، إذ لم تكن إلا موضعا له ومكانا، إلا أن يجعلوا الأماكن أمهات لما كان فيها، فيقع ما قالوا من أنها أم له عليها .
فأما إن جعلوها من طريق ما يُعْقَل أُمَّا له، فقد جعلوها في الطبيعة لا محالة مثله.
وإذا كان ذلك، فيهما كذلك، جعلوه صاغرين كأمه إنسانا لا ربا ولا إلها، وكان الناس كلهم إذ هو مثلهم في ذلك له أمثالا وأشباها، لا افتراق بينه وبينهم في الإنسية، ولا تفاوت بينه وبين جميعهم في الجنسية، ولذلك كان يطعم صلى الله عليه كما يطعمون، ويألم مما يؤلمهم كما يألمون، ويقيمه كما يقيمهم الشراب والطعام، ويعرض له الحزن والغموم والاهتمام .
والنصارى كلها فقد تقر بطعمه وحزنه واغتمامه، وتحمده بما كان من صبره وآلامه، التي كانت وصلت إليه عندهم في الضرب والصلب، وما كان يلقى في سياحته وأمره ونهيه من الدؤب والتعب، وفيما جعل الله من طعمه وأكله من الآيات البينة الجلية، ما يُبطل ما قالت به النصارى فيه من الأقوال الكاذبة المفترية الرديَّة، و في نسبة الله له المعقولة في الدنيا والآخرة إلى أمه، ما يدل - والحمد لله - مَنْ رَشدَ على أنها من أصله وجِرمه، وأنه في ذلك كله كمثلها، إذ هو منها ومن نسلها، آباؤها آباؤه، وغذاؤها غذاؤه.
فَلْيَفهم هذا - مِن أمره وأمرها، وعند ذكره في النسب وذكرها - مَن يفهم ويعقل، ولا يتجاهل منه ما لا يُجهل.
وليعلم أن قول الله سبحانه كثير في كتابه: ابن مريم، وترديده في ذلك لذكره بها صلى الله عليه وسلم، فيه من تيقن الثَّلَج، وغوالب الحجج، التي يثلج بها كل قلب، ويغَلب فلا يُعلى بغلب، إذ تقرر من ولادتها له ما لا ينكره من النصارى ولا غيرها منكر، ولا يتحير فيه مِنْ كل مَن عرفه بها ولا بما كان له من ولادتها مُتحيِّر، إذ جعله الله سبحانه ابنها، وجوده منها وعنها، منها كونه وفصوله، وأصولها كلها أصوله، وكل ما لزم فرعَ شيءٍ من تغيير أو فناء لزم أصله، وكذلك كل ما كان من ذلك للأصل فهو له، لا يأبى ذلك ولا يكابره، إلا فاسد العقل حائره.
وفيما قلنا به والحمد لله من ذلك، وأن عيسى صلى الله عليه كذلك، ما يقول الله سبحانه: ﴿ ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون ﴾ [المائدة: 75]، فأي آية أدل لهم على أنه مثلهم من أكله للطعام لو كانوا يعقلون، فلقد جهلوا من هذا - وَيْلهم - ما لم يجهل قوم نوح إذ يقولون: ﴿ ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذاً لخاسرون ﴾ [المؤمنون: 34].
[مصادر عقائد النصارى]
ومن قبل ما قالت به النصارى في المسيح بن مريم ما قال بمثل قولهم المشركون، فزعموا أن ملائكة الله المقربين، ولدٌ وبنات لله رب العالمين.
ومنهم ما قبلت النصارى أقوالها، وحَذَتْ في الاشراك بالله منهم مثالها، وهو قول كان يقول به في الأوائل الروم والقبط وأهل الجاهلية، من كان يقول في النجوم السبعة بتثبيت الربوبية لها والإلهية، وكانوا يزعمون أن النجوم السبعة ملائكة لله ناطقة، وأنها آلهة مع الله - لما تم بها كونه - خالقةٌ، وأن الله سبحانه صنعهن منه صنعاً، ولم يبتدعهن لا من شيء بدعا، فلما أكملهن تبارك وتعالى وتم تمامهن، كُنَّ كلهن به وعنه قال لهن:
أنتن آلهة الإلهية بكنَّ عقدُ كلِ معقود وحل كل محلول، وزعموا أن بهن وعنهن كانت من الحيوان المايتجَعْلُه كل مجعول، بهن كان وجوده وقوامه، ومنهن كان صنعه وتمامه، وأنهن علةٌ واسطة بين الله وبين الأشياء، وأن الله الصانع لهن ولغيرهن به ماتت الأحياء، وكان الله لا شريك له إله الآلهة العليُّ الذي لا يمثلونه بشي، والأول القديم الذي لم يزل تبارك وتعالى من غير أول ولا بَدِي، وأنه هو المبتدئ الصانع للنجوم السبعة، المتعالي عن مشابهة كل مصنوع كان أو يكون وكل صنعة .
وكذلك قالت النصارى: إن الله خلق الأشياء بابنه نفسه، وحفظها ودبَّرها بروح قدسه، وإن الابن خلق الخلق وفطره، وإن روح القدس حفظ الخلق ودبَّره، وزعموا أن قوة الخلق غير قوة الحفظ والتدبير، وأن الأب لم ينفرد من ذلك كله بقليل ولا بكثير، وأن حال الأب والابن وروح القدس في الإلهية واحدة، وأن عبادة كل واحد منهم عليهم واجبة.
وكذلك زعم المشركون من أصحاب النجوم أن الله خلق الحيوان الميت ودبَّره بالنجوم السبعة، وأن بهن وبما جعل الله من القوة فيهن كانت من ذلك كل بريته وكل صنعة، فأقوالهم كلهم في أن لله ولدا واحدة غير مفترقة، وفريتهم جميعا في ذلك على الله فكاذبة غير مصدقة، إذ شبهوا بالله غيره، فجعلوه ولده ونظيره.
وفي القول بالولادة والاشتباه، إبطالٌ من قائله لكل إله، لأنهما إذا تماثلا واشتبها، لم يكن كل واحد منهما إلها، لأنه لا يقدر مع تشابههما أحدهما على إبطال الآخر، وإذا لم يقدر على إبطاله كان عاجزا غير قادر، ومن كان في شيء من الأشياء كلها عاجزا، كان عجزه له عن الربوبية والإلهية حاجزا.
وإن قال قائل كان كل واحد منهما قادراً على إبطال نظيره، ففي ذلك أدل الدلائل على نقص كل واحد منهما وتقصيره، وإذا كان كل واحد منهما منقوصا مقصّرا، لم يكن من الأشياء كلها لشيء صانعا مدبرا، ليس له كفؤ من الأشياء كلها ولا مثل ولا نظير، ولم يوجد في السماء ولا في الأرض ولا فيما بينهما صنع ولا تدبير، والصنع فقد يُرى بالعيان في ذلك كله قائما موجودا، فكفى بذلك دليلا بيِّنا على أن لهذا الصنع العجيب صانعا لا والدا ولا مولودا.
ووجود صانعه أبين وأوجد من وجود كل موجود وجودا، وأنه واحد صمد ليس والدا ولا مولوداً، ولن يجد ذلك أحد أبدا، إلا الله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولم يزل تبارك وتعالى واحدا صمدا، ليس من ورائه أزلي مصمود، ولا أوَّليٌّ من الأشياء موجود، فيكون متقدما أوَّلاً قبله، فلا يكون الله هو الخالق له، بل هو الله الخالق الأول القديم، الذي ليس لغيره عليه أولية ولا تقديم، ولكن كل ما سواه، فخلق ابتدعه وأبداه، فَوُجِد بالله خلقا بديا بعد عدمه، بريا من مشاركة الله في قدرته وقدمه، بينة آثار الصنع والتدبير فيه، شاهدة أقطاره بالحدث والصنع عليه، مختلف مؤلف، ضعيف مصرَّف، مجسم محدود، متوهم معدود، قد ناهاه قطرُهُ وحَدَّه، وأحصاه مقداره وعَدَّه، فهو كثير أشتات، له نعوت وصفات، كثيرة متفاوتات، كذلك الحيوان منه والموات.
فليس يوجد أبدا الواحد الأزلي، الذي ليس له مثل ولا نظير ولا كفي، إلا الله تقدست أسماؤه، وجل ذكره وثناؤه، وفي ذلك وبيانه، ومن حججه وبرهانه، ما يقول الله جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله، فيما نزل من كتابه المجيد، في سورة الإخلاص والتوحيد: ﴿ قل هو الله أحد ﴾ [الإخلاص:1]. والأحد فمن ليس له والد ولا ولد، ﴿ الله الصمد ﴾ والصمد فهو الغاية في كل خير والمعتمد، الذي ليس مِن ورائه، مَن يسمى بأسمائه، فيستحق منها كما استحق الله شيا، فيكون لله فيما يُسّمى به منها كفيا، كما قال الله سبحانه في كتابه، وما نزل من البيان على عباده، فيما كان لله تبارك وتعالى من أسمائه الحسنى متسميا: ﴿ رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا ﴾ [مريم: 65].
وفيما نزّل سبحانه من أنه ليس له كفؤ ولا نظير، ما يقول: ﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾ [الشورى: 11]. و﴿ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ﴾ [الأنعام: 103].
وفي أنه ليس له شبيه ولا كفي، ولا مثيل ولا بَدِي، ما يقول الله سبحانه: ﴿ لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد ﴾ [الإخلاص:3-4]. وكيف يولد من لم يزل واحدا أولا ؟! أو يلد من جل أن يكون عنصرا متحللا ؟! لا كيف والحمد لله أبدا ! يكون الله والدا أوولدا! فنحمد الله على ما منَّ به علينا في ذلك من البيان والهدى، ونعوذ بالله في الدين والدنيا من الضلالة والردى.
فليسمع - من قال بالولد على الله، من كل من أشرك فيه بالله، من اليهود والنصارى، والملل الباقية الأخرى - حُجَجَ الله المنيرة في ذلك عليهم، ففي أقل من ذلك بمنِّ الله ما يشفيهم، من سقم كل عمى عارضهم فيه أو داء، ويكفيهم في كل قصد أرادوه أو اهتداء، ففي ذلك ما يقول الله سبحانه لهم كلهم جميعا، ولكل من كان من غيرهم لقوله فيه سميعا، ممن لم يَعْمَ عن قول الله فيه عماهم، ولم يَعتَدْ على الله فيه اعتداءهم: ﴿ وقالوا اتخذ الله ولدا ﴾ [البقرة:116]، فقال الله إنكارا لقولهم فيه وردا :﴿ سبحانه بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون، بديع السموات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ﴾ [البقرة:116-117].
وفي ذلك وتبيينه، وفي افترائهم فيه بعينه، ما يقول الله سبحانه: ﴿ وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون، بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم يكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم، ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ﴾ [الأنعام: 100 - 103]. ومعنى خرقوا، فهو: افتروا واخترقوا، باطلا وبهتانا، وعماية وجهلا وطغيانا.
وتأويل ﴿ سبحان ﴾ ومعناها، فليعرف ذلك من قراها: إنما هو بُعد الله وتعاليه، عما قالوا به من اتخاذ الولد فيه، وقول القائل سبحان، إنما معناه: بُعدان، كما يقال بينك وبين ما تريد، سبحٌ يا هذا بعيد، فالسبح هو البعيد الممتنع، والأمر المتعالي المرتفع.
فما الذي هو أمنع وأبعد، من أن يكون الله والدا أو يولد، وهذا فهو قول متناقض، محال داحض، لا يقوم أبدا في فكرة ولا وَهمٍ، ولا يصح به كلام من متكلم .
ولذلك من محاله، وتناقضه وإبطاله، ما يقول الله سبحانه تعاليا عن قولهم وبعدا: ﴿ وقالوا اتخذ الله ولدا ﴾، والمتخذ عند كل أحد فهو المستحدث المصطنع، وما اتُّخِذ فاصطُنِعفهو يقينا المحدَث المبتدَع، والوالد كما قد بينا في صدر هذا الكتاب كالمولود، في مالهما بالذات والطبيعة من الخاصية والحدود، فجعلوا الإله البديع كالمبدوع، و الرب الصانع للأشياء كالمصنوع، وكلهم يزعم أن الله صانع غير مصنوع، ومبتدع لجميع البدائع غير مبدوع، وإذا صح أن السماوات والأرض وما فيهن لله، وأن قيام ذلك ووجوده وصنعه بالله، وما قضى من أمر فإنما قضاؤه له، بأن يبتدع صنعه وفعله، لا بنَصَب ولا علاج، ولا أداة ولا معاناة ولا احتياج، ولكنه يُتِم كَونه وصنعَه، إذا هو أراده وشآءه.
وإذا قيل أَمَرَ الله في خلقه وقضى، فإنما هو من الله بمعنى أراد الله وشاء، وما ذكر من قنوت الأشياء لله، فإنما هو قيامها ووجودها بالله، وتأويل قوله: ﴿ له ما في السموات والأرض كل له قانتون ﴾، إنما هو كل به ومن أجله كائنون.
وسواء في هذا الباب، وفيما ذكر منه في الكتاب، قلت: له، و به ومن أجله، وكما يقال: فعلت ذلك بك ولك، وكذلك يقال: فعلت ذلك بك ومن أجلك.
ولما أن صح بأحق الحقائق، وأَوجَدِ ما يكون من الوثائق، أن السماوات والأرض ومن فيهن لا تكون أبدا إلا من واحد، صح أن ذلك لا يكون أبدا من مولود ولا والد، فكان القول - مع صحة هذا ونحوه وأمثاله، بما قالوا به في الولد - من أخبث القول وأحول محاله!! وأيُّ تناقض في مقال يقال أقبح ؟! أو محال بتناقض فاحش أوضح ؟! من قولهم اتخذ الله ولدا فجعلوه متخِذا مولودا! وهم يقولون مع قولهم ذلك أن الولد لم يزل قديما موجودا، لم يفقد قط ولم يزل، ولم يتغير حاله ولم يتبدَّل، فمن أين يكون مع هذا القول منهما ولد ووالد ؟! وأمرهما جميعا في القدم والأزلية واحد! وكيف يكون متخَذا حدثا مَن لم يزل موجودا قديما، وإنما يكون المتخَذ المستحدَث مَن كان قبل أن يُتَّخذ مفقودا عديما.
فقالوا جميعا كلهم: هو الله وولده، ثم زعموا مع ذلك أنه ابنه يسبحه ويعبده، والمولود عندهم في الإلهية والأزلية كالوالد، فصيّروا الرب المعبود في ذلك كله كالمربوب العابد، فهل وراء ما قالوا به من التناقض في ذلك على الرب ؟! من مزيد في تناقض أو محال أو إبطال أو إفساد أو كذب، يقول به قائل مناقض محيل، ويضل في مثله إلا تائه ضليل، قد عَظُم في المحال والتناقض إسرافه، وقلَّ في المقام بالباطل لنفسه إنصافه، فهو يلعب في حيرته ساهيا، ويخوض في غمرته لاهيا .
وفيه والحمد لله وفي أمثاله، ممن قال على الله بمقاله، ما يقول الله تعالى: ﴿ فسبحان رب السموات والأرض رب العرش عما يصفون، فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ﴾ [الزخرف:82 - 83]. وفي ذلك ما يقول سبحانه: ﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون، قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ﴾[سبأ:39 - 41].
وفي إحالة قول من قال بالولد، من أهل الكتاب ومن كل ملحد، ما يقول سبحانه: ﴿ لقد جئتم شيئا إدا، تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، أن دعوا للرحمن ولدا، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا، إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا، لقد أحصاهم وعدهم عدا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ﴾ [مريم: 89- 95]. والإدُّ من الأمور والأقاويل، فما امتنع امكانه في العقول، فلم يُطق له أحد احتمالا، وكان في نفسه فاسدا محالا، وهو كما قال الله سبحانه: ﴿ وما ينبغي ﴾. وذلك فما ليس بممكن ولا متأتي.
فأي ممتنع من الأمور أبعدُ إمكانا ؟! مما قالوا به في الولد على الله بهتانا، وهل يمكن السماوات والأرض في عقل أو لب، أن تكون من ابن أبدا أو أب، وهل الابن إلا كالأبناء، وكذلك الأب فكالآباء، فإن لم يكن كهم زال أن يكون أبا أو ابنا، ولم يكن ذلك أبدا في الأوهام ممكنا، لأنه إن لم يكن أب وابن كأب وابن في الأبوة والبنوة مثله، زالت الأبوة والبنوة واسمها كلها عنه، وإن كان الابن للابن مثلا، كان مثله خَلقًا مجتبلا، ومتىجعلوا المسيح ابنا وولدا، كان مثل الأبناء لله عبدا مخلوقا متعبدا، ومتى أنكروا أنه كغيره من الأبناء عبد لله، أنكروا صاغرين أن يكون كما قالوا ابنا لله، أفليس هذا من القول هو المحال بعينه ؟! وما يحتاج أحد يعقل إلى تبيينه !!
إذ يثبتون من ذلك في حال واحدة ما ينفون، وينفون من مقالهم في حال واحدة ما يثبتون .
ولله تبارك وتعالى من الحجة والرد، في كتابه على من قال عليه بالولد، ما يكثر عن الله عن أن نحصيه أو نعدده، أو يدرك مدرك سوى الله أمده، وكفى بما ذكرنا والحمد لله حجة وردا، على من زعم أن لله تبارك وتعالى ولدا، من فرق النصارى واليهود، وأهل الفرية على الله والجحود، ممن جعل لله سبحانه ندا أوضدا، وجعله والدا أو ولدا، فليفهم حجج الله في ذلك كله من كان لله موحدا، وليتفقد تناقض قولهم فيه وفساده، وإحالته واختلافه، يجد قولا محالا فاسدا، متناقضا مختلفا.
وفيه ما يقول الله سبحانه، لنبيه صلى الله عليه وآله ورفع شأنه: ﴿ وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا، مالهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا، فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ﴾ [الكهف: 3-5].
فأخبر سبحانه بأسف رسوله، صلى الله عليه وآله، من قولهم على الله سبحانه بالفاسد المحال، وبأ خبث ما يقال من متناقض الأقوال، ونبأَّ الله جميع عباده، بجهلهم لقولهم فيه وفساده، بقوله سبحانه: ﴿ مالهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ﴾، ووجدنا ما قال الله من كذبهم فيه وقلة علمهم لازما واجبا، وكان ذلك على ما قال به من أهل الكتاب، أَوكَدُ لما يقولون به من ربوبية رب الأرباب، فكلهم يثبت لله الربوبية، ويصحح له الوحدانية، وجميعهم - وإن زعم أن لله ولدا - يقر بربوبيته ووحدانيته، ويشهد له بدوامه وأزليته، التي لا يصح لهم أبدا ما يقولون به منها، إلا بتركهم لمقالتهم في الولد والرجوع عنها، ولن يرجعوا عن ذلك مصارحة أبدا، وإن هم قالوا أن قد اتخذ الله ولدا، لأن في رجوعهم عن القول لله بالوحدانية والأزلية، لحوقهم عند أنفسهم بقول أهل الجاهلية، من عبدة الأوثان، والنجوم والنيران، وذلك فما لن يقولوه، وإن لم يعرفوا الله وجهلوه، لفساد ذلك عندهم وشناعه، وبُعْد إمكان ذلك في الله وامتناعه، ولذلك ما يقول جلَّ جلاَلُهُ، عن أن يصح عليه تشبيه شيء أو يناله، في أزلية قديمة أو ذات، أو صفة ما كانت من صفات، إذ في ذلك، لو كان كذلك، إشراكُ غيره معه في الإلهية، إذ كان شريكا له في القدم والأزلية.
فتبارك الله الذي ﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾ [الشورى:11]، وجل ربنا عن أن يكون له في شيء كفؤ أو نظير! وأنى وكيف يكون خلق كخالقه ؟! وهل يصح من ناطق بهذا لناطقه ؟! لا ولو تظاهر الخلق جميعا عليه، لما صح لهم والحمد لله أبدا منطق فيه.
[أدب الحوار]
وبَعدُ: فلا بد لمن أنصف خصما في منازعته له ومجادلته، من ذكر ما يرى الخصم أن له فيه حجة من مذهبه ومقالته، فإذا ذكر ذلك كله، بان ما فيه عليه وله، فكان ذلك لباطله أقطع، وفي الجواب له أبلغ وأجمع.
والنصارى فهم خصماؤنا في الله، فلا بد من تبيين ما افتروا فيه على الله، وهم ممن قال الله فيهم: ﴿ والذين يحآجون في الله بغير علم ﴾ [الشورى: 16].
ومن الذين قال فيهم: ﴿ هذان خصمان اختصموا في ربهم ﴾ [الحج: 19].
فهم في ذلك كغيرهم من كفرة الأمم.
فليفهم من قرأ كتابنا هذا ما نصف فيه من قولهم كله فسنصفه، بما يعلمه علماء كل فرقة منهم إن شاء الله ويعرفه، وسنستقصي لهم في كله ما استقصوا لأنفسهم من المقال، ثم نجادلهم فيه على الحق بالتي هي أحسن وأبلغ في الجدال، وندعوهم إلى سبيل ربنا وربهم بالحكمة والبينة، ونعظهم إن شاء الله بالمواعظ البليغة الحسنة، فإن الله سبحانه يقول لرسوله، صلى الله عليه وعلى آله: ﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ﴾ [النحل:125]، فنستعصم الله في ذلك كله بعصمة الهداة المسترشدين.
[مذاهب النصارى المتفق عليها]
وهذا كتاب ما حددت النصارى من قولها، قد استقصينا فيه جميع أصولها، فليفهم ذلك إن شاء الله منها، من أراد فهمه من الأمم عنها.
زعمت النصارى كلها: أن الله سبحانه ثلاثة أشخاص مفترقة، وأن تلك الأشخاص الثلاثة كلها طبيعة واحدة متفقة .
وقالوا: تلك الثلاثة في درك يقين النفس، أب وابن وروحٌ قدس.
قالوا: فالأب غير مولود، والابن فابن وولد مولود، وروح القدس فلا والد ولا مولود، وكل واحد من الثلاثة بما قلنا فموجود.
وقالوا: إن هذه الأشخاص الثلاثة لم تزل جميعا معا، لم يسبق بعضها في الوجود بعضا، وإن ما ذكروا من الأب والروح والولد، لم يزالوا كلهم في اللاهوت وملك واحد، ليس بين الثلاثة كلها تفاوت في الإلهية، ولا في قِدَم ولا قدرة ولا ملك ولا مَشِيَّة، وإن الثلاثة كلها واحد في الطبيعة والذات، وإن هذا الواحد في الطبيعة ثلاثة في الأشخاص المفترقات، وذلك كالشمس، فيما يدرك منها بالحس، التي هي شمس واحدة في كمالها وذاتها، وثلاثة متغايرة في حالها وصفاتها، كل واحد منها غير الآخر في شخصه وصفته، وإن كان هو هو في ذاته وطبيعته.
فمن ذلك زعموا أن الشمس في عينها كالأب، وضوءها فيها كالابن، وحرَّها منها كالروح، ثم هي بعدُ وإن كانت لها هذه العدة، فشمس لا يشك فيها أحد واحدة، لأن الشمس إن فارقها ضوءها لم تُدع شمسا، وكذلك إن فارقها حَرُّها لم تُدع أيضا شمسا، وإنما تسمى شمسا وتُدعا، إذا كان هذا كله فيها مجتمعا.
وكذلك الانسان فإنه وإن كان في الانسانية واحدا، فإنا قد نراه وترونه أشياء كثيرة عددا، منها نفسه وجسده، وحياته ومنطقه، فجسده غير نفسانيته، و منطقه غير حياته، لأنه ليس يقدر أحد أن يزعم أن الحياة هي المنطق، ولا أنهما جميعا واحد متفق، لأن كثيرا من الأحياء لا يتكلم ولا ينطق.
قالوا: ولسنا نريد بالمنطق القول الذي يُسمع سماعا، ولكنا نريد الفكر الذي جعله الله في الانسان غريزة وطباعا، فطرة خاصة في الانسان، لا في غيره من الحيوان، كالحيوان الذي جُعلَ ) من البهائم وغيرها، من نوابت الأرض وشجرها، ولو كانت الحياة هي المنطق، لكان كل حي من الأشياء ينطق، فنَطَقَ جميع البهائم، كما ينطق بنو آدم .
قالوا: فلما لم يكن الأمر كذلك، دل على ما قلنا به من ذلك، فالأب والابن وروح القدس، كان دركهم بعقل أوحس، فقد صاروا في الذات والطبيعة واحدا فردا، وفي الأقانيم التي هي الأشخاص ثلاثة عددا، فالطبيعة تجمعهم وتوحدهم، والأقانيم تفرقهم وتعددهم، فالأب ليس بالابن والابن فليس بالروح، وما قلنا به من هذا فبيِّنٌ مشروح، فهم كلهم بالطبيعة والذات واحد، وهم في الأ قانيم ثلاثة روح وابن وأب والد، لأن الأب والد غير مولود والابن فمولود غير والد، والروح فثالث موجود، لا والد ولا مولود.
قالوا: ثم إن هذه الأ قانيم الثلاثة لم تزل جميعا معا ثلاثة عددا، لم يسبق في الوجود والأزلية والقدم واحدٌ منها واحدا، أُنزل واحد منها وهو الابن إلى الأرض رأفة بالبشر والإنس، عن غير مفارقة منه للأب ولا لروح القدس، إلى مريم العذراء، فاتخذ منها حجابا وسترا، فتجسد منها بجسد كامل في جميع إنسانيته، فتبدَّى به وظهر فيه لأَعين الناظرين عند معاينته، فأكل كما يأكل الإنسان وشرب، وساح على قدميه ودأب وتعب، وأسلم نفسه رأفة ورحمة بالبشر للصَّلب، ولِمَا صار إليه لكرمه وحلمه من الأذى والنصب.
( تعليق شخصي : أرجوا تأمل الفقرة السابقه ، ومقارنته بقول السلفية بأن التوحيد ثلاثة أقسام هي توحيد ربوبية وتوحيد ألوهية وتوحيد صفات !!!!
فربما نتطرق لذلك في موضوعات أخرى !!؟؟؟ ) .
[مذاهب النصارى المختلفة]
ثم اختلفت النصارى بعدُ في الابن والولد، وما كان من تجسده بما زعموا من الجسد.
فقالت فيه الروم، وهو قولها المعلوم: إن الأ قنوم الإلهي الذي لم يزل موجودا، ومن قبل الدهور من الأب مولودا، أُنزل إلى مريم العذراء فأخذ منها طبيعة بغير أقنوم فكان لطبيعتها أقنوما، فعمل بطبيعتها التي أخذ منها كل ما كان لها في طبيعتها معلوما، فنام كما كانت تنام نومها، وإن لم يكن أقنومه أقنومها، وفعل من أفعال طباعها فعلها، وإن لم يكن أصله في الناسوت أصلها.
قالوا: فعمل بطبيعتها فكان المسيح إنسانا تآما بطبيعتين، وإن كان أقنوما واحدا لا اثنين، والمسيح فهو ابن الله الأزلي المولود، وعَمَلُ الطبيعتين جميعا فهو فيه موجود.
قالوا: فإذا سُرَّ أو بكى، أو ضحك أو اشتكى، - وكلهم يقر ولا يشك، أن قد كان يبكي ويضحك - فكل ما كان من ذلك كله وما أشبهه مما في طبائع الإنس فمن عمل الطبيعة الانسانية، وما كان من إحيائه الموتى وإبرائه للكُمْه والبُرص ومثله فمن عمل الطبيعة الإلهية .
وقالت اليعقوبية: إن الابن الذي لم يزل، زال من السماء إلى الأرض ونزل، رأفة منه ورحمة بالانسان، وتعطفا منه على البشر بالاحسان، فأخذ من مريم العذراء جسدا، فتجسد به فصارا جميعا واحدا .
وقالوا: ألا ترون الانسان من روح وجسد، ثم هو يُدعَا إنسانا باسم واحد، فترونهما وإن سُميا بالإنسان، فليس يقال لهما: إنهما في الانسانية اثنان، ولكن يقال: إنه إنسان واحد، وهو كما تعلمون روح وجسد. قالوا وكذلك المسيح الذي هو اجتماع اللاهوت والناسوت يسمى مسيحا، وهو ابن الله الذي لم يزل أفما ترون هذا قولا فيما ذكرنا وقسنا بَيِّنا صحيحا.
وقالت النسطورية: إن الابن الذي لم يزل بمحبته نزل رأفة وكرما، فتجسَّد من مريم عند نزوله جسدا كاملا تآما، بطبيعة وقنومية، من إنسانية وآدمية، فكان المسيح طبيعتين وقنومين، بعد تجسده بالجسد تآمين.
وقالوا: فنحن إذا رأيناه يأكل ويشرب، ويجيء في الأرض ويذهب، ويَنصَب ويشتكي، ويضحك ويبكي، جعلنا ذلك كله، وما رأينا منه ومثله، من الناسوت وإذا نحن رأيناه يحيي الموتى، ويبرىء المرضى، ويمشي على الماء، جعلنا ذلك للاهوت .
[المذهب الجامع للنصارى]
وقالت فرق النصارى كلها مع اختلافها، وافتراق قولها في أوصافها، إن سبب نزول الابن الإلهي الذي نزل من السماء، رحمة للبشر ومحافظة على الرسل والأنبياء، قالوا من أجل خطيئة آدم فإنه لما أن أخطأ، وأكل من الشجرة التي نهاه الله عنها فعصى، تبرأ الله تبارك وتعالى منه، وأسلمه إلى الشيطان باتِّباعه له.
قالوا فكان في حيِّز الشيطان ودار ملكه، وكذلك زعموا كان معه فيها جميع ولده، يحكم فيهم الشيطان بما أحب من حكمه، قالوا وكان فيما ملك الشيطان من آدم ونسله، أنفس كثيرة من أنبياء الله ورسله، فمن تلك الأنفس نفس نوح ونفس إبراهيم، وغيرهما من أنفس الرسل والنبيين، قالوا فتلطف الابن واحتال لاستخراج تلك الأنفس من يد الشيطان، فلبس لذلك ومن أجله جسدا آدميا، ليكون بما لبس منه عن الشيطان خفيا، فتنكر الابن بذلك له، لكي لا يحترس الشيطان منه، فلا يُنفِذ فيه مكره.
قالوا: فلما غلبت على الناس الخطية، وحلت بهافيهم البلية، واستبان لآدم زعموا ما فعل الشيطان به، وما كان من غروره إياه وخديعته له، خدع عند تلك الابنُ الشيطانَ بمكره، فبلغ فيه ما أراد من أمره، فاستخرج آدم وجميع ولده، من سلطان الشيطان ويده.
قالوا وذلك كله فإنما كان الابن يبذل نفسه للصلب، ولما لقي من الأذى قبله والنصَب، إحسانا من الابن إلينا وكرما، ورأفة من الابن بنا ورحما.
قالوا: فاشترى الابن البشر من أبيه، بما وصل من الأذى والصلب إليه، وذلك زعموا أن أباه لم يكن في حكمه وعدله، أن يظلم الشيطان ما جعل له من آدم وولده، إن صاروا إلى طاعة الشيطان وأمره، لأنه قال للشيطان فيما يزعمون من المقال: كل من اتبعك فهو لك.
قالوا: فلذلك اشترانا الابن من أبيه بالعدل، وغلب الشيطان على ما كان في يده منا بالمكر. فلما استخرج آدم ونفوس الرسل والأنبياء، صعد بعد فراغه من معاملة الشيطان إلى السماء، بعد أربعين يوما مرت به، بعد الذي كان من صلبه.
قالوا: فجلس عن يمين أبيه تآما بكليته وجسده وجميع ما فيه من اللاهوت والناسوت، وكل ما كان فيهما ولهما من النعوت.
قالوا: وسينزل أيضاً مرة أخرى، فيدين الأحياء والأموات عند فناء الدنيا.
قالوا: ولذلك آمنا بالأب والابن وروح القدس.
قالوا: والأب فهو الذي خلق الأشياء بابنه، وحفظها بروح قدسه.
فهذا - فليعلمه من أراد علمه - جماع قول النصارى وما لبسوا من اللبس، في الأب والابن وروح القدس، وفي الأ قانيم والطبيعة، وما لهم في ذلك من المقالة البديعة، التي لم يقل بها قبلهم قائل، ولم يتنازع فيها مجيب ولا سائل، وقولهم إن الثلاثة في موضع يوحدون، وفي موضع بعد التوحيد يثلثون، وفي سبب نزول الابن زعموا من أجل خطيئة آدم، وما قالوا به في ذلك من خلاف جميع الأمم، فلم نترك لهم بعد هذا من قول، يجهله منهم إلا كل جهول.
[نقض مذاهب النصارى]
ونحن إن شاء الله مبتدئون فرآدُّون، لباب فباب بما يقولون ويحددون، فليفهم ذلك من يريد مجادلتهم من أهل التوحيد والدعوة، فإنا مُقَدِّمُون إن شاء الله من ذلك باب الأبوة والبنوة.
فقائلون لهم، جميعا جوابهم: أخبرونا عن هذه الأسماء التي سميتم ؟ وادعيتم من خرافات القول فيها ما ادعيتم ؟! من أب زعمتم وابن وروحِ قدس، لم يدل على شيء منه قياس ولا حآسة من الحوآس الخمس،
ما هذه الأسماء أسماء طبيعية ذاتية جوهرية ؟! أم هي أسماء شخصية قنومية ؟! أم تقولون هي أسماء حادثة عَرَضِية ؟!
فإنكم إن كنتم إنما سميتم الأب عندكم أبا، لأنه ولد بزعمكم ولدا وابنا، فليس هذه الأسماء طبيعية ذاتية، ولا أسماء أيضا قنوميةشخصية، ولكنها حادثة عرضية، عرضت عند حدوث أولاد، بين الوالدين والأولاد، ولَسْنَ بأسماء طبيعية ولا أقنوم، لا في الروم ولا في غير الروم.
والطبيعية فإنما تسمى بذاتها وطباعها، وبما يكمل ذلك كله لها من اجتماعها، لأنا بالأسماء المعلقة بالعلة المشتقة من الأفعال المعتملة أعرف، لأن اسم الطبيعة غير اسم الأ قنوم، واسم القنوم غير اسم الفعل المعلوم، واسم الطبيعة ثابت، لا اختلاف فيه ولا تفاوت، إنما هو اسم لها محدود موقَّف، لا ينصرف فيها ولا يختلف، فيدل على قنوم، ولا فعل مفعول، ولكنه اسم الشيء نفسه، يدل عليه لا على جنسه، كالأرض والسماء، والنار والماء، وأشباه ذلك من الأسماء، التي تدل على أعيان الأشياء، فهذه هي أسماءالذات والطبائع، لا أسماء الأ قانيم والصنائع.
فأما أسماء القنومية، التي ليست بطبيعية ولا عرضية، فمثل إبراهيم وموسى، وداود وعيسى، وليس في الأسماء الطبيعية، ولا في الأسماء الشخصية القنومية، أبوة ولا بنوة، ولا فعالولا قوة، إنما هي أسماء تدل على الأعيان، كالانسانية التي تدل على الانسان.
وفيما بينا - والحمد لله - من تحديدنا الذي حددنا في الأسماء، حجة لا يدفعها في التسمية عندهم إلا من كان من أهل الجهل والعمى، لأن الأسماء عندهم للأشياء ثلاثة أسماء:
اسم جوهر كالأرض والسماء.
واسم قنوم، كَفُلان المعلوم.
واسم ثالث من عرضٍ وحدثٍ، يسمى به كل عارض محدث .
وزعمت الفرق الثلاث من النصارى - فنعوذ بالله من الجهل بالله - أنها تجد فيما في أيديها من كتب الأنبياء أن المسيح بن مريم هو الله، وأنه هو ابن الله، فجعلوا في قولهم هذا الابن أباه، ثم رجعوا فجعلوا الأب هو إياه، غفلة وسهوا واختلافا، وعماية وتخرصا واعتسافا، تصديقا لقول الله فيهم وفي أمثالهم، ومن كان يقول من أهل الجهالة بمقالتهم، ﴿ إنكم لفي قول مختلف، يؤفك عنه من أفك، قتل الخراصون، الذين هم في غمرة ساهون ﴾ [الذاريات: 8–11].
وإنما أخذت النصارى وقبلت، هذه الكتب فيما زعمت وقالت، عندما صلب عندهم المسيح صلى الله عليه من اليهود، وليس أحد من خآصتهم ولا عآمتهم عند النصارى بعدل ولا محمود، ولا تقبل شهادته على يهودي مثله، فكيف تقبل شهادتهم على الله تعالى وعلى رسله.
مع أنَّ لِمَا قالت النصارى من ذلك كله مخارجَ عندنا في التأويل صحيحة، لا يعمى عنها ولا عما بَيَّنَ الله منها إلا من لم يقبل فيها من الله بيانا ولا نصيحة، ولكن النصارى تأولت تلك الكتب بآرائها، وعلى قدر موافقة أهوائها، فضلَّت في ذلك وما تأولت منه بعمى التأويل، وأضلت من اتبعها عليه عن سواء السبيل.
فيقال إن شاء الله لهم فيما تأ ولوه من ذلك وادعوا، وافتروا في ذلك على كتب الأنبياء وابتدعوا، مما لم يسبقهم إليه أحد، ولم يقل به قبلهم مفتر ولا ملحد: إنا لم ندرك نحن ولا أنتم الأنبياء ولا المسيح بن مريم، صلى الله عليه وسلم، ولم ندرك نحن ولا أنتم أحدا من حواريه، فنسأل من أدركنا منهم عما اختلفنا نحن وانتم فيه، فتكتفوا بمن أدركتم من الأنبياء عليهم السلام في التأويل، ونجتمع نحن وأنتم على الحق فيما اختلفنا فيه من الأقاويل .
[قواعد للحوار]
ولابد لنا ولكم من الانصاف، فيما وقع بيننا وبينكم من الاختلاف، فإن نحن تناصفنا ائتلفنا، وإن فارقنا التناصف اختلفنا، ثم لم نعد أبدا للائتلاف، إلا بعودة منا إلى الانصاف.
والتناصف هو الحكَم العدل بعد الله بين المختلفين، والشفاء الشافي الذي لا شفاء أبدا في غيره للمتناصفين، فأنصفوا الحق من أنفسكم، تخرجوا بإذن الله بإنصافكم من لبسكم، وارفضوا للحق أهواءكم، تسعدوا في دينكم ودنياكم، وأقيموا ما أنزل إليكممن التوراة والإنجيل، واتركوا الافتراء على الله فيها بعمى التأويل، تهتدوا إن شاء الله لقصد سبلكم، وتأكلوا كما قال الله من فوقكم ومن تحت أرجلكم، وافهموا قول العزيز الوهاب، فيكم وفي غيركم من أهل الكتاب: ﴿ ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما كانوا يعملون ﴾ [المائدة: 66]، فكفى بهذا بيانا من الله في أهل الكتاب لقوم يعقلون .
وليعلم مَن فَهِمَ منهم، أومن غيرهم، أن فيما ذكر الله لهم من المأكل ومثله، آيةً عجيبةً ظاهرةً لمن يفهمها بعقله، تدل على أنه لم ينزلها إلا علام الغيوب، الذي لا يخفى عليه شيء من سرائر القلوب، لا سيما في النصارى من أهل الكتاب، وما هم عليه من الحرص والكد والاكتساب، فإنا لم نر أمة من أهل الكتاب أرغب في المأكل والمشرب، واكتناز الفضة والذهب، منهم خآصة دون غيرهم، معلوم ذلك من غنيهم و فقيرهم، ولذلك ما يقول الله سبحانه فيهم، وفي بيان ما قلنا به من ذلك عليهم: ﴿ إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ﴾ [التوبة: 34].
فرهبانهم إلا القليل وشمامستهم، تعولهم أبدا أقوياؤهم وضعفتهم.
وليس من الرهبان ولا الشمامسة مَن تكلَّف في مطعمه ولا مشربه ولا كسوته ولا مصلحته كلفة، ومن كفاهم ذلك من عوآمهم وضعفتهم فقد يرى ذلك قُربة له عند من يعبدون وزلفة.
فأول ما يقال - إن شاء الله - لمن أراد الانصاف لنفسه منهم، وعند من تجري المجادلة فيما ادعوا من الكتب بين أحد من أهل التوحيد وبينهم، يا هؤلاء: أنصفونا فيما ادعيتم من شهادات الكتب من أنفسكم، فلا تدعوا فيها ولا تأولوا فيها تأويلا ملتبسا يزيدكم لبسا على لبسكم، فإن شئتم تأولتم الكتب وتأولنا، على ما قد قلتم وقلنا، ولنا من التأويل مثل مالكم، وقولنا فيه يخالف أقوالكم.
فإن كان ذلك أحب إليكم، فافهموا فيه ما يدخل عليكم، فلسنا ندخل عليكم فيه، إلا ما نجمع نحن وأنتم عليه.
أجمعنا نحن وأنتم جميعا كلنا، قولكم مما قلنا به من ذلك قولنا، على أن أصدق الشهادات كلها وأعدلها، خمس شهادات يلزمنا وإياكم أن نقبلها:
فأولها: زعمنا وزعمتم شهادة الله .
والثانية: فشهادة ملائكة الله.
والثالثة: فقول المسيح وشهادته.
والرابعة: فما شهدت به أمه ووالدته.
والخامسة: فشهادة الحواريين وما كانوا يقولون.
فهذه خمس شهادات ليس منها ما تنكرون، وكلها فنحن وأنتم بها راضون، فيما ندعي في المسيح وتدَّعون.
فقد وجدنا ووجدتم في الأناجيل الأربعة شهادات مختلفة، كلها فيما عندنا وعندكم فقد أحطتم بها وأحطنا معرفة، فيما في الإنجيل الذي يُدعا عندكم إنجيلا مثل ما لا تنكرون من قوله، في أول ما وضُع من إنجيله : ( هذا ميلاد يسوع المسيح بن داود )، فهذه شهادته وهو من الحواريين على أن أبا المسيح داود، وأن المسيح ابنه وهو منه مولود، ولهذه الشهادة في الأناجيل الأربعة نظائر كثيرة، وفي ذلك حجة عليكم لا تدفع ظاهرة منيرة .
ومنها شهادة المسيح صلى الله عليه لحواريه أنهم بنو الأب جميعا، وأن الله أبوهم كلهم معا، وهذا يدل على أن تأويل الأبوة والبنوة، غير ما قلتم به فيها من الدعوة .
ومنها: شهادة المسيح أن الحواريين إخوانه فإن شئتم فقولوا في نسب أو غير نسب، فلهم بذلك ماله بعد شهادته صلى الله عليه زعمتم أنه ابن الأب .
ومنها: شهادة أمه صلى الله عليها، على أنه ابن يوسف جدها وأبيها.
ومنها قول فيلبس لسائل سأله، إذ قال له عند مسألته عنه، هو ذلك الذي ذكره موسى في التوراة، ونَسَبَه صلى الله عليه فيها وسمَّاه، فقال: يسوع بن يوسف، يعرف هذا منكم كل عارف.
ومنها أيضا: شهادة يحيى التي تدل على أن معنى البنوة والولادة، إنما هو معنى المحبة والولاية والعبادة، إذ يقول: أما أولئك الذين قبلوا قوله، وسلموا فيما سمعوا منه له، فلم يولدوا من اللحم والدم، ولا من مزاج المرة والبلغم، ولكنهم - زعم - من الله وُلِدوا، وأعطوا من كرامة الله ما رضوا وحمدوا.
فتأويل هذا ومثله إن كان صدق فيه، فإنما هو على ما يصح أن يكون عليه، لا على ما يستحيل في الألباب والعقول، ويفسد ويتناقض من القول في التأويل، من أن يكون الرب عبدا، و الوالد مع ولادته ولدا، وذلك أجهل الجهل، وفي ذلك المكابرة للعقل .
أَمَا سمعوا قول الملائكة لمريم، صلى الله عليهم وعليها وسلم، عندما صاروا به من البشارة بولادتها، للمسيح ابنها، :( تلدين ابنا )ولم يقولوا: تلدين ابن الله، وقالوا:( يدعا يسوع ويكون عليا عظيما بالله، ويرث كرسي أبيه داود ) فلو كان كما يقولون لقالت الملائكة: تلدين ابن الله ويكون منك مولودا، فكان أعظم في القدر والخطر، من أن يقال: ابن البشر .
وكذلك قال المَلَكُ ليوسف زعمتم بعلِها، عندما أراد لماَّ ظهر من حملها، من تطليقه لها وتخليته لسبيلها، :( يا يوسف بن داود لا تُخَلِ سبيل امرأتك فإن الذي بها من روح الله، وهو يدعا يسوع، وبه يحيي الله شعبه من خطاياهم بإذن الله ).
ومما زعموا فاعرفوه أنه دلهم، وشهد على ما ادعوا لهم، واعتقدوا من ضلال أقاويلهم، قول الله زعموا في إنجيلهم، في المسيح بن مريم، صلى الله عليه وسلم:( هذا ابني الحبيب الصفي). وقول سمعانالصفا له :(أنت ابن الله الحق).
وما ذكروا من هذا إن صح ومثله، مما يدعون على الله وعلى رسله، فقد يوجد له تأويل، لما قالوا مبطل مزيل، لا ينكرونه ولا يدفعونه، ولا يكذبون من خالفهم فيه ولا ينازعونه .
فمن ذلك ما هم عليه وغيرهم مجمعون، لا يختلفون فيه كلهم ولا يتنازعون، من أن ملائكة الله، ومن مضى من رسل الله، لم يُسَبِّح المسيح قط ولم يعبده، ولم يزعم أحد منهم أن الله ولده .
ومن تأويل ما ذكروا من الولد والابن، في زمن المسيح وكل زمن، أن الناس لم يزالوا يدعون ابنا وولدا من تبنوا وأحبوا وحظي عندهم، وإن لم يكن على طريق التناسل ولدهم، ثم لم يزل ذلك لديهم معروفا، قديما وحديثا، ولاسيما في القدماء، من أهل العلم والحكماء، فكان الحكيم منهم يقول: يا بني لمن علَّمه، ويدعو المتعلمُ باسم الأبوة مُعلّمَه، فيقول: قد قلتَ وقلنا يا أبانا، وربما قال أحدهم: يا أبت أما ترانا.
قال بعضهم :-
آباء أرواحنا الذين همُ همُ *** أخرجونا من منزل التلف
مَن علَّم العلم كان خير أب *** ذاك أبو الروح لا أبو النطف
وذلك والحمد لله في الأمم كلها فأوجد موجود، يقوله الرحيم منهم لمن ليس بابن له مولود .
ومن ذلك ما كان يقول المسيح صلى الله عليه، كثيرا لا تنكره النصارى لحوارييه:( إذ هبوا بنا إلى أبينا، وقولوا: يا أبانا أنزل من سمائك طعامك علينا).
ومن ذلك قوله لهم، صلى الله عليه وعليهم، :( قولوا: يا أبانا تقدس اسمك، لتنزل في الأرض ملكوتك وحكمك).
فهل يتوهم أحد أنه أب من الآباء يلد وينسل ويتغير ويتغذى ؟!
أو يصل إليه صلب أو نَصَب أو أذى ؟!
لا بحمد الله وكلا ! وتبارك ربنا عن ذلك وتعالى ! ولكنه أرحم بنا وألطف، وأعطف علينا وأرأف، من الآباء كلهم والأمهات، ومن أنفسنا فيما يهمنا من المهمات .
وقد ذكر عن بعض الحكماء، ممن مضى من أوائل القدماء، أنه كان إذا أخذ في التسبيح لله والذكر، قال: الله الذي هو في ذاته محب للبشر. وإنما يراد بالمحبة لهم، الرأفة والرحمة بهم،
وكذلك قال الرحمن الكريم: ﴿ إن الله بالناس لرؤوف رحيم ﴾ [البقرة: 143].
فمن أرأف بهم وأرحم ؟! وأعطف عليهم وأكرم ؟! ممن خلقهم مبتدئا فسوّاهم ؟! وأعطاهم من نعمه ما أعطاهم ؟! ثم دلَّهم تعالى على الهدى، وبيَّن لهم الغيَّ والردى.
لا مَن بحمد الله وفضله! فنستمتع اللهَ بالنعم في ذلك كله.
ومما يحتج به على من كفر منهم بربه جهلا ومجانة، قول المسيح بن مريم لهم فيما زعموا من إنجيلهم أبانه :( أنا ابنه وهو أبي ) وقوله :( جئتكم من عند أبي، وما سمعت عنده فهو ما أكلمكم به، وأنتم لو كنتم منه لقبلتم ما جئتكم به من أمره، ولكنكم من الشيطان وأنتم بنوه، ولذلك قبلتم قوله فلم تخالفوه، وإنما أنتم بنو الخطيئة والشيطان أبوها، وأنتم صاغرون لطاعتكم له فبنوها. فقالوا: نحن بنو إبراهيم، ورموه بالبهتان العظيم. فقال: لستم بولد إبراهيم ولابنيه، لو كنتم ولده لعملتم بما يرضيه، ولكنكم بنو الشيطان والخطيئة.
أخبروني هل منكم من يرتجي الله لمعصيته ؟ فعلام تريدون قتلي ؟! ولم لا تقبلون قولي ؟! لو عملتم بطاعة الله، إذن لكنتم أبناء الله.
فجعل كما ترون الله أبا لمن أطاعه وأرضاه، وجعل الشيطان أبا لمن أطاعه واتبع هواه، فكفى بهذا حجة دامغة، وشهادة قاطعة بالغة، على مَن تأول من النصارى الأبوة والبنوة على ما تأ ولوها عليه، وما قلنا به من هذا كله فهم كلهم مقرون به في إنجيلهم لا يختلفون فيه.
فإن لم تكن الأبوة والبنوة إلا على ما قالوا، لزمهم أن يتأولوا كل ما في إنجيلهم من الأبوة والبنوة بما تأولوا، فقد يقرون كلهم من ذلك في إنجيلهم، بما سنذكره مع ما ذكرنا إن شاء الله من أقاويلهم .
زعموا أن فيها، وفيما يضيفونه إليها : (( أن المسيح خرج من القرى وتنحى، وصام في البرية أربعين صباحا، لم يأكل فيها طعاما، ولم يشرب فيها شرابا، فجاءه إبليس في صومه ومنتحاه، فعرض عليه جميع زهرة الدنيا وأراها إياه، فلما رأى المسيح ذلك كله، سأله إبليس أن يسجد له سجدة واحدة، على أن يعطيه من ذلك كل ما أراه، فلعنه المسيح وأخزاه، وقال: لا يصلح السجود لغير الله، اخس إليك يا عَدُوَّ الله، قال إبليس ـ زعموا له، عندما جرى من القول بينه وبينه ـ فاليوم لك أربعون يوما، لم تشرب شرابا ولم تطعم طعاما، فادع الله إن كنت له حبيبا، أن يجعل لك هذه الحجارة فضة وذهبا، فقال له: ألم تعلم يا لعين أن كلام الله يكفي من اكتفى به من أحب كل طعام وشراب).
ومن كلام الله الذي ذكر صلى الله عليه ما نزّل لا شريك له من كل كتاب، وزعموا في أناجيلهم أن الله أوحى إلى يوسف بعل مريم، بعد ولادتها للمسيح بما الله به أعلم، (( أن انطلق بالصبي وأمه إلى مصر فأقم بها أنت ومريم وابنها حتى أبين لك موت هيردوس - وهو ملك من ملوك الروم كان ملكا على بني إسرائيل - فإنه يريد قتل عيسى ودماره، فرحل يوسف بمريم وابنها ليلا، وأتم الله زعموا بما كان من ذلك من أمره ببعض ما أوحى إليه من كتب رسله إذ يقول سبحانه :من مصر دعوت صفييّ .
وقالوا في إنجيلهم : ( فلما مات هيردوس أوحى الله إلى يوسف أن قد مات فانطلق بعيسى وأمه إلى أرض إسرائيل) وزعموا أن هذا كله موجود عندهم فيما في أيديهم من الإنجيل، وأنه لما قدم بهما يوسف سمع أن كيلادوس مَلِكَ من اليهود بعد أبيه، ما كان يملك أبوه، ففزع لعيسى وأشفق عليه، فأوحى الله تبارك وتعالى إليه :( أن امض إلى جبل الجليل فكن فيه، فخرج حتى نزل منه في مدينة يقال لها: ناصرة ). تصديقا لما أوحى الله به قديما في بعض كتبه.
وفيما ذكر من عيسى وأمره في أنه: (( يكون ويدعا ناصريا ))، وبذلك يرى ويدعا كل مَن تَنصَّر نصرانيا .
فلما كبر عيسى وظهر في أيام يحيى، وكان يحي صلى الله عليهما ممن أجابه وصار إليه، فأمره بالتطهر والاغتسال في نهر الأردن، وكان ذلك تطهرة من الخطايا لمن تاب وآمن، فقال فيما زعموا من إنجيلهم :( أنا أطهركم كما ترون بالماء والذي يأتيكم على أثري، هو أكرم على الله مني، وهو الذي يجعل الله به المذراة، فلا يودع خزائنه إلا الحبوب المطيبة المنقاة، وما بقي بعد ذلك من الغرابلة والتبن، وما ليس بذي قيمة ولا ثمن، يحرق بالنار التي لا تخمد، حيث يبقى التحريق ويخلد) .
فلما سمع عيسى بأخبار يحيى صلى الله عليهما وعلى جميع النبيين، وما يصنع من تطهيره للمؤمنين، ( أقبل إلى يحيى من جبل الخليل ليصبغه بالماء ويطهره، فكره يحيى عليه السلام مجيئه لذلك - زعموا – وأَمْرَه، وقال له يحيى عليه السلام: بي إليك فاقة، وتجيء إلي أنت تطلب الطهارة، فقال عيسى، صلى الله عليه وعلى أخيه يحيى: دعنا الآن من هذا فإنه هكذا ينبغي لنا أن نستتم خلال البر كلها، أوكل ما قدرنا عليه منها، فتركه يحيى حينئذ فاغتسل، وعمل في ذلك ما أراد أن يعمل ).
( ثم سمع بقتل اليهود ليحيى فانطلق إلى أرض الجليل فسكن في كفر ناحوم يتفيأ من حد زبولون ).
( وَثَّم أوحى الله – زعموا - فيه إلى شعيب صلى الله عليه، في مصير عيسى من زبولون إلى ما صار إليه، وكان في مصيره إليها ومقامه بها سيارا يسيح في أرض الجليل، يبشر ويعلِّم ما يجب لله كلَّ جيل وقبيل، ويبرىء كل مرض ووجع في بني إسرآئيل، حتى سُمع بفعاله، وتبشيره ومقاله، في كل ناحية وأرض، وأُتي بكل ذي وجع ومرض، من البرصى والمجانين، والكُمْه والمقعدين، فأبرأهم بإذن الله من أمراضهم المختلفة الهائلة، وانطلقت على إثره جموع كثيرة من كل قبيلة، من أرض الجليل، ومن المدائن العشر وأهل بيت المقدس ومن عبر الأردن.
[وصايا المسيح عليه السلام]
( فلما رأى عيسى صلى الله عليه تلك الجموع وما اجتمع منها إليه، صعد على جبل مرتفع فارتفع عليه، ليسمع قوله كل من اجتمع فلما علا قعد عليه أدنى منه حوار ييه، ثم قال: طوبى بالروح عند الله غدا للمساكين ذوي التقوى، كيف يكون ثوابهم في ملكوت الله ودار الإقامة والمثوى، طوبى للمحزونين على خطاياهم في الدنيا، كيف يغفر الله لهم خطاياهم غدا، طوبى للمتواضعين لله كيف يرثون أرض الله، طوبى للجياع العطاش في الله بالبر، كيف يشبعون ويروون في يوم البعث والحشر، طوبى للرحماء في الله، كيف يفوزون برحمة الله، طوبى للنقية قلوبهم، إذا نظروا إلى ربهم، كيف يصنع غدًا بهم، وكيف ينتفعون عنده بكسبهم، طوبى لعمال السلام لله، كيف يُدعون أصفياء الله، طوبى للذين يُطردون لأعمال البر، كيف يملكون في ملك السماء إلى آخر الدهر.
ثم قال صلى الله عليه، لمن أجابه ولحوار ييه: طوبى لكم إذا أنتم عُيّرتم وطُرّدتم فيّ وعليّ، وقيل لكم قول السوء والكذب من أجلي، عندها فليعظم فرحكم لما عظّم الله في السماء من نوركم، وذخر عند الله في الآخرة لكم من أجوركم، فإن تُظلموا فقبلكم ما ظلمت الرسل والأنبياء، أو يكذب عليكم فمِن قبل ما قيل على الله الكذب والافتراء، أنتم ملح الأرض فإذا أنتن الملح فبم يُملَّح، فحينئذ لا يصلح إلا أن يُرمى به ويُطرح، فيكون شيئا ملقى، وترابَ أرضٍ يوطأ، أنتم نور العالم الذي لا يخفى على من يبصر ويرى، وهل تستطيع مدينة ظاهرة على جبل أن تخفى أو تتوارى، وهل يُسرَّج السراج فيحمل تحت الأغطية، لا ولكن يحمل فوق المنارة العالية، لكي ينير فيضيء، ويظهر فلا يختفي، وكذلك أنتم تنيرون للناس بنوركم المضيء، لينظروا عيانا إلى عملكم الرضي، لتحمدوا الله ربكم الذي زكاكم، وأعطاكم من توفيقه ما أعطاكم، ألا ولا يظنن أحد أني جئت لدفع التوراة والإنجيل والأنبياء، ولا لنقض شيء جاء عن الله من جميع الأشياء، ولكني جئت لتمام ذلك كله، ولتصديق جميع ما أمر الله فيه ورسله، بل أقول لكم قولا حقا، وأنبئكم نبأ فافهموه صدقا، أنه لا تُغيَّر من آيات الله كلها آية ولا تنتقض، إلى أن تتغير وتفنى السماوات والأرض، ومن نقض من آيات الله آية، أو غيَّر من أصغر وصاياه وصية، فعلَّمها أحدا من الناس مبدّلة مغيّرة، صغيرة كانت الآية والوصية أو كبيرة، دعي في ملكوت الله خسيسا ناقصا، ومن علَّمها كما أنزلت كان في الآخرة تآما خالصا .
وحقا أقول لكم: لئن لم تكونوا من الأبرار، ويكن بركم أفضل من بر الكتبة والأحبار، لا تدخلون غدا في ملكوت الله الغفار .
ألا وقد سمعتم في التوراة ألاَّ تقتلوا النفس المحرمة، ومن قتلها فقد استوجب في الدنيا العقوبة المؤلمة، وأنا فإني أقول لكم: إن من قال لأخيه، كلمة قبيحة تؤذيه، فقد استوجب العقوبة، إلا أن يحدث لله منها توبة، ومن قال لأخيه ليعيره: إنك لأرغل لم تختتن، فقد استوجب في الآخرة نار جهنم، بل من قرب منكم قربانه على المذبح وأدناه وقربه ليذبحه، ثم ذكر أن أخاه واجد عليه فليدَع قربانه وليذهب إلى أخيه فيصالحه.
ألا وقد قيل في التوراة: لا تكذبوا إذا حلفتم، ولكن اصدقوا إذا حلفتم بالله وأقسمتم، وأنا فإني أقول لكم: لا تحلفوا بشيء من الأشياء، ولا تقسموا طائعين بقسم ولا إيلاء، لا تحلفوا بالسماء التي هي مكان كرسي الله، وفيها يكون ملائكة الله، ولا بالأرض التي هي منزل رحمة الله وآياته، ولا بحياة شيء، ولا برأس آدمي، ولكن ليكن كلامكم نعم وكلا، فيما تقولون وبلى، وما كان سوى ذلك فهو من السوء، [والقول الباطل] والهزوء، ومن سأل أحدكم شيا، فليعطه وإن كان نفيسا عليا.
ألا وقد سمعتم أن قيل: أحبوا أولياءكم، وأبغضوا من الناس أعداءكم، وأنا أقول لكم أحبوا في الله أعداءكم، وبَرِّكُوا منهم على من لعنكم وآذاكم، وأحسنوا منهم إلى مبغضيكم، وصِلوا منهم من يؤذيكم، لكي تكونوا من أصفياء الله، ولتفوزوا بالكرامة والرضا من الله، الذي يُطلع شمسه على المتقين والفجرة، وينزل أمطاره على الظالمين والبررة، فإن كنتم إنما تحبون من يحبكم، فأي أجر حينئذ لكم، أَوَليس المكسة والعشارون، كذلك فيما بينهم يفعلون.
ألا ولا ترآوا الناس بالصدقة والزكاة، ولا بما تصلونه لله من الصلاة، فتحبطوا أعمالكم في ذلك لله بالرياء، وتتوفوا أجرها في عاجل هذه الدنيا، ولكن لتكن صدقتكم لله فيما بينكم وبين الله خفية وسرا، فإن الله ربكم الذي يرى سركم هو يجعلها لكم علانية جهرا، وإذا كنتم في صلاة لله أو خشوع، فلا تقوموا بذلك في السكك والجموع، كالمرآئين للناس بما هم فيه لذلك من حالهم، فحقا أقول لكم لقد تَوفَّى أولئك جزاء أعمالهم.
وإذا صليتم فلا ترفعوا أصواتكم ودعاءكم طلبا للرياء، فإن الله يعلم قبل أن تسألوه ما تحتاجون إليه من الأشياء، ولكن إن صليتم فلله وحده فصلوا، وإذا حكمتم في أرضه بحكم فاعدلوا، وقولوا ربنا الذي في السماء تقدس اسمك وحكمتك، وعظم ملكك وجبروتك، أظهر حكمك في أرضك كما أظهرته في سمائك، وارزقنا طعام فاقة يومنا، واغفر لنا سالف جرمنا، كما نغفر لمن ظلمنا، واعف عنا برحمتك وإن أجرمنا، ولا تبتلنا ربنا بالبلاء، وخَلِّصنا من مكار ه الأسواء، فإن لك الملك والقدرة، ومنك الحكم والمغفرة، أبد الآبدين، ودهر الداهرين.
واعلموا أنكم إن غفرتم للناس ما بينهم وبينكم، فإن الله سبحانه يغفر لكم، وإذا صمتم فلا تغيروا وجوهكم، ليعلم الناس صومكم، ولكن إذا صمتم فاغسلوا وجوهكم وادهنوا رؤوسكم، لكيما لا يعلم الناس صومكم، فإن الله الذي صمتم له سرا، هو يجزيكم بصومكم علانية جهرا.
ألا ولا تخزنوا خزائنكم، ولا تجعلوا في الأرض ذخائركم، فإن ما في الأرض يفسده السوس وتأكله الأرضة، وتعرض له الآفات وتناله السرقة، ولكن اخزنوا خزائنكم، واجعلوا ذخائركم في السماوات العلى، حيث لا يفسد منها شيء ولا يبلى، بسرقة ولا آفة معترضة، ولا يناله أكلُ سوسٍ ولا أرضة، فحقا أقول لكم: أن حيث تكون خزائنكم وذخائركم، فهنالك تكون قلوبكم وضمائركم.
واعلموا أن سراج الجسد العين فإن كانت العين نيرة مضيئة كان الجسد نيرا مضيا، وإن كانت العين عمية مظلمة كان الجسد مظلما عميا، وإذا كان النور الذي فيكم مظلما لا يبصر ولا يعلم، فكم ترون ظلمة حوآسكم وقلوبكم أعمى وأظلم .
واعلموا أن الله لم يجعل لأحد في جوفه من قلبين، وأنه لا يستطيع أحد منكم أن يعبد ربين، لأنه لابد له من أن يكرم أحدهما ويجله، فيقصر بالآخر عن الكرامة ويغفله، أو يهين أحدهما ويحقره، فيجل الآخر ويكبره .
وكذلك لا تستطيعون أن تعبدوا الله وتعزروه، وتسعوا للمال فتجمعوه وتكثروه، ومن أجل ذلك فإني أقول لكم: لا تهتموا بما تأكلون، ولا بما تشربون، ولا ما تلبسون، أليس ماخلق الله لكم من الجوارح والأجسام ؟! أكرم وأجل وأكبر من الشراب والطعام! أَوَليس ما خلق الله لكم من الأنفس ؟! آثر عند الله من الثياب والملبس!
انظروا إلى طير الأرض والسماء، وما خلق الله من دواب الماء، التي لا يزرعن زرعا ولا يحصدنه، ولا يدخرنه في الأهواء ولا يحشدنه، والله ربكم الذي في السماء، يرزقهن في كل يوم ما يصلحهن من الغذاء .
وانظروا إلى عشب البرية الذي لم ينسج ولم يغزل، ولم يُعن منه بشيء ولم يُعتمل، كيف يلبسه الله في حينه كل لون زينةً تبهجه! أو حسنا أو نورا، فأنا أقول لكم إن سليمان بن داود في كل ما كان فيه من ملكه وسلطانه، ما كان يقدر على أن يلبس لونا واحدا مما ألبسه الله العشب من ألوانه، فإن كان العشب في حين تنويره ذا بهجة ونور، فعما قليل وبعد يسير ما يُجعل وقودا للتنور .
ثم الله تبارك وتعالى اسمه يلبسه من البهجة والنور ما لم يلتمسه فيكم، فكم ينبغي لكم يا ناقضي الأمانة ألا تهتموا فتشتغلوا ولا تكثروا من القول لأنفسكم ولا لغيركم ؟! فتقولوا ما نأكل وما نشرب ؟!وما نلبس وأين نذهب ؟! كأنكم بما قلتُ من هذا لا توقنون، فكل هذه الشعوب التي ترون، تبتغي ذلك ولا تبتغوا منه مايبتغون، فإن ربكم الذي في السماء يعلم ما ينبغي لكم من قبل أن تسألوه إياه، ولكن ابتغوا طاعة الله ورضاه.
فأما ما ذكرت من هذا كله فهو يعطيكموه ويعطيه، من لا يرضى عليه، فلا تشتغلوا بغد وما بعده من شغله، فحسب غدٍ أن يقوم بشغل أهله، وكفى يومكم في غده، بما في غد من كده .
ألا ولا تعسفوا أحدا بظلم فإنكم كما تدينون تدانون، والمكيال الذي تكيلون به تكتالون، فما بال أحدكم يرى القذى في عين أخيه ؟! ولا يرى السارية الشامخة في عينيه! أم كيف يقول لأخيه: اتركني أنزع من عينك قذاها! والسارية الشامخة التي في عينيه لا يراها!
أيا مخادعا مَلِقاً، ومخاتلا لغيره مسترقا، أخرج السارية أولا من عينيك، ثم التمس بعدُ إخراجَها من عين غيرك.
ألا واسمعوا مني، وافهموا ما أقول عني: لا ترموا بقدس الصواب، بين نوابح الكلاب، ولا تقذفوا بلؤلؤكم المنير، بين عانات الخنازير، فلعلهن أن يدنسنه، وينتن ما ألقيتم بينهن منه، ألا واسألوا تعطوا، وابتغوا تجدوا، واقرعوا يفتح لكم فكل سائل يعطى، ومبتغٍ يجد ماابتغى، وكل من استفتح يفتح له، وأي امرؤ منكم يسأله حبيبه أو ابنه بِرًّا أو خيرا ؟ فيعطيه مكان ما سأله من ذلك حجرا ! أو يسأله سمكة ؟ فيعطيه حية مهلكة ! فإن كنتم وأنتم أنتم في النقص والتقصير، ومنكم كل ظالم وشرير، تعطون العطايا الصالحة أبناءكم، وتجيبون عند الدعاء والمسألة أحباءكم، فكم ترون لله في ذلك ؟! وإذ الأمر كذلك، من الزيادة عليكم فيه، للذي تسألونه وترغبون إليه.
وانظروا كما تحبون أن يفعله الناس بكم فافعلوه إليهم، وكما تريدون العدل من الناس عليكم فكذلك فاعدلوا عليهم، وإن تلك سنة الرسل والأنبياء، وميزان عدل الله في الأشياء، ألا وادخلوا لله وفي الله باب الضيق والمخاوف، فإن باب الأمن والسعة بمعصية الله سبب الهلكة والمتالف، ولَكثيرٌ ممن يدخله ويؤثره، ممن يبصر ذلك ومن لا يبصره، وما أضيق المدخل والباب! وأغفل السبيل والأسباب! التي تُبلِّغ العباد الحياة، وتوجب للناس النجاة، وأقل من يجدها! ويسهل له وردها!
ألا واحتفظوا من كَذَبَةِ أولياء الشيطان، الذين يرآؤن الناس بلباس الحملان، وهم مع ذلك ذئاب ضارية، وقلوبهم مستكبرة عاصية، فلا تغتروا بظاهر حالهم، ولكن اعرفوهم من قِبَل أعمالهم، فهل يخرج من الشوك عنب ؟! أومن الحنظل رطب ؟! لا لن يكون أبدا ذلك! ولن يوجد كذلك! ولكنه يخرج من كل شجرة طيبة ثمرة طيبة، ويخرج من كل شجرة خبيثة ثمرة خبيثة، وإنما تعرف الشجرة الخبيثة من قِبَل خبث ثمرها، فإذا كانت كذلك خبيثة أوقدتَ النار بها، وكذلك العمل إذا كان شيئا غيا، فلا يكون صاحبه إلا مسيئا غويا .
وليس كل من يقول: ربي ربي بإقراري والدعاء! يدخل يوم القيامة في كرامة ملكوت السماء، إلا أن يكون ممن عمل في دار الدنيا، بما حكم الله عليه به من التقوى، ولَكثيرٌ في ذلك اليوم من يقول ربنا باسمك هدينا وسعينا، وباسمك أخرجنا من الشياطين ما أخرجنا، وباسمك أمورا كثيرة من العجائب صنعنا، ثم يقول الله لهم في ذلك اليوم: تأخروا عني ياعمال الزور .
وقال صلى الله عليه: اعلموا أنه من سمع كلامي، فعمل بما سمع وقَبِلَه عني، فمثله كمثل رجل ذي لب وحكمة، بنى بيته على أساس من حجر محكمة، فلما جاءت الأمطار، وخرَّت فأ عظمت الأنهار، وتهيجت الرياح الكبار، جعل ذلك ينطح من كل جدر، فلم يسقط البيت ولم يخرّ.
ومثل من سمع كلامي بغير تسليم ولا تَقَبُّل، كمثل رجل ذي حماقة وجهل مُضَلل، بنى بيته على جرف منهار، أو رمل كثير هيال، فلما جاءت الأمطار ودرَّت، وتحركت الأنهار فجرت، وعصفت الرياح فأعصرت، خر بيته منقعرا، و سقط سقوطا مفزعا مذ عرا.
قالوا فلما فرغ من كلامه هذا كله، عجب مَن حضره من حكمته فيه وقوله، ثم لا سيما الكتبة والأحبار، فإنهم كانوا أعجبهم به .
وفي أناجيلهم أنه قال عليه السلام: لحقا أقول لكم أيها الناس والكتبة والأحبار، إنَّ كثيرا من المشرق والمغرب يجيء يوم القيامة والجزاء، يتكىء مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوت السماء، وإن كثيرا ممن يزعم أنه ابن لهم يُقصى عنهم مع الظلمة في النار، ثم يكونون مخلدين أبدا في البكاء وتحريق الأستار.
وفي أناجيلهم: أن رجلا من الكتبة جاءه فقال: إني أحب أن أتبعك، وأكون حيث كنت معك، فقال عليه السلام: لثعالب الوحش مغار، ولطير السماء أوكار، وأنا فليس لي منزل ولا قرار أقر إذا قروا فيه، ولكلٍّ مأوى وليس لي مأوى آوي إليه.
وفي أناجيلهم: أن رجلا من حوار ييه قال له: يا معلمي ائذن لي أذهب فأدفن أبي، فقال له: تعال اتبعني وكن معي وعلى أثري، واترك الأموات يدفنون موتاهم، ففيهم لدفنهم ما كفاهم.
تم والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيئين، وعلى أهله الطيبين، وسلم عليهم أجمعين.

