ماقيل من المستشرقين عن سيدنا محمد (ص)

هذا المجلس لطرح الدراسات والأبحاث.
أضف رد جديد
عصام البُكير
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 241
اشترك في: الأحد مايو 08, 2005 12:21 am
مكان: اليمن - صنعاء

ماقيل من المستشرقين عن سيدنا محمد (ص)

مشاركة بواسطة عصام البُكير »

جاك لانغاد
محمد انسان الكلمة


ثمة مقاربة للضمني في القرآن عن الكلمة تكمن في أن نتساءل عما قيل ـ وعما لم يقل ـ عن محمد. وتفرض نفسها على وجه السرعة معاينة مزدوجة.
المعاينة الأولى أن (محمداً ذو حضور كلي). وليس ذلك لأنه هو الذي أعلن الكلمة المنزلة فحسب، بل لأنه يقوم على الغالب، داخل هذه الكلمة، بدور الناطق بلسان المتكلم: ((قل … ، والإيعاز (الطلب، الأمر) يدخل باستمرار قولاً موضوعاً على لسان محمد ويتكرر 332 مرة في القرآن.
إنه يؤدي أيضاً دور من تتوجه إليه الكلمة الواجب نقلها، وذلك منذ هذه البداية الموضوعة في ظل آية الإعلان: (إقرأ) العلق/ 1 ـ 3. وفي مكان آخر: (وإنه لتنزيل من رب العالمين. نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين) الشعراء/ 192 ـ 195.
وهذه الوظيفة، في مناسبات كثيرة، متعينة. وهكذا، على سبيل المثال، في سورة هود: ( … إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل) هود/ 11. وهذه الوظيفة، وظيفة نذير، تكملها وظيفة التبشير بالنبأ العظيم: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل، وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً. وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً) الإسراء/ 17. فالإنذار والتبشير معنيان يتكرران بصور متواترة في القرن.
والمعاينة الثانية أن (محمداً غير مسمى إلا قليلاً جداً) في القرآن: إن اسمه لا يتكرر إلا أربع مرات، وكل مرة في علاقة بوظيفته النبوية: محمد نبي الله الفتح/ 2. (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسولا لله وخاتم النبيين … ) الأحزاب/ 40، بل: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل … ) آل عمران/ 144، وأخيراً: ( … وآمنوا بما نزل على محمد … ) محمد/ 2. وثمة مرة خامسة، سيكون محمد مسمى ولكن هذه المرة باسم أحمد:
(وإذ قال عيسى ابن مريم …
إني رسول الله …
ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد … ) الصف/ 6.
سيكون الأكثر جدارة بالمديح من كل الأنبياء، كما لفت النظر إلى ذلك راغب الاصفهاني، وخاتم الأنبياء، كما يشير إلى ذلك بدوي.
ولا يقول لنا كل ما سبق شيئاً محدداً عن الإنسان محمد، ولكنه لا يصفه لنا إلا بوظائفه في خدمة التنزيل، والكلام الإلهي، وكما أنه يتدخل مع ذلك، على نحو أو على آخر، في السور، فليس ثمة أي آية تحيل إليه صراحة أو ضمناً في السور من 1 إلى 70 سوى السورة 55 الرحمن.
وحتى الاتهامات بالكذب، وبالجنون أو السحر، هي خاصة بهذا الدور في خدمة الكلمة. ومع ذلك، إذا كانت السور الأولى لا تعلمنا شيئاً عن شخصية محمد، فإن السور الأخرى تخبرنا عن الوسط الذي كان يتحرك فيه: إن القرآن يروي لنا، في 14 مناسبة، اتهامات بالسحر. وينبغي لهذه الاتهامات أو توضع من جديد بين الحالات العديدة التي ذكر القرآن فيها السحر: السحرة شخصيات لا تحدث الدهشة كما تشهد على ذلك بوجه خاص مداخلاتهم العديدة المسرودة في السورة 26، الشعراء. إنهم يأخذون سلطتهم من الشياطين كما يبين ذلك راغب الاصفهاني، وهؤلاء الشياطين الذين يشغلون، هم أيضاً، مكاناً في القرآن ذا أهمية نسبياً، ذلك أنهم يتدخلون في 88 مناسبة.
ويقابل دور الملائكة دور الشياطين، ملائكة مألوفين أيضاً ويتدخلون بقدر ما يتدخل الشياطين. وسيكون محمد متهماً، في هذا العالم الذي يتحرك فيه (الجن)، بأنه (مجنون) بسبب تبشيره. وثمة صفتان تنشدان على نحو أكثر صراحة أيضاً، عبر محمد، تلك الكلمة التي ينقلها: صفة كاهن في مناسبتين، وصفة شاعر:
(فذكّر فما أنت بنعمة ربك
بكاهن ولا مجنون.
أم يقولون: شاعرٌ
نتربص به ريبَ المنون) الطور/ 29.
تلكم هي الآيات التالية التي تتكرر في القرآن هادفة دائماً إلى أن تعيد الكلمة الإلهية التي ينقلها محمد إلى مكانها الحقيقي:
(إنه لقول رسول كريم،
وما هو بقول شاعر؛
قليلاً ما تؤمنون!
ولا بقول كاهن؛
قليلاً ما تذكّرون!
تنزيل من رب العالمين) الحاقة/ 40 ـ 43.
وما ينجم عن كل ما سبق يبين أهمية محمد بوصفه انسان الكلمة. وتحتل هذه الكلمة مثل هذا المكان في عمله بحيث أن كل ما قيل لنا عنه، نبياً، رسولاً، منذراً، حامل النبأ العظيم، يحيلنا باستمرار إلى هذه الكلمة. إنه هو ذاته لم يُسمَّ إلا قليلاً، وفي كل مرة يسمى نبياً. وأخيراً، تحيل الاتهامات الموجهة ضده، كالكذب، والكهانة أو الشعر، والجنون والسحر في أدنى حد، إلى الكلمة أيضاً.
وإذا كان ذلك لا يقول لنا شيئاً محدداً عن محمد، باستثناء كونه انسان الكلمة، فالحقيقة أن الاتهامات بأنه شاعر أو كاهن تتيح لنا، على الحال السلبي، أن نفهم فهماً أفضل وضع الكلمة في السياق الذي عاش فيه محمد. كان ثمة، ولا ريب، في عصر محمد، كهنة وشعراء، ذلك أن المرء لن يفهم جيداً، إذا كان الأمر غير ذلك، لماذا كان القرآن قد عُني أن يبرئ محمداً من هذا الاتهام الممكن. يضاف إلى ذلك أن هؤلاء الكهان وهؤلاء الشعراء كانوا بالضرورة ذوي قول كان القرآن يمكنه، عند الاقتضاء، أن يلتبس به، بالنسبة للناس الذين لم يحزموا أمرهم. والكاهن، في رأي راغب الاصفهاني، هو مَن يخبر عن الأحداث الماضية والخفية على حال من الظن، والعرّاف هو مَن يخبر عن الأحداث القادمة على النحو نفسه. والحال أن محمداً كان له قول أيضاً عن الأحداث الماضية كان الكافرون يمنهم أن يشبهوه بالظن. فإن يكون هؤلاء الكهان والعرافون قد وجدوا بعدد لا يستهان به، ذلك أمر يمكن أن تتيح الاعتقاد به كمية (الحديث) الخاصة بهم.
وحالة الشعراء أكثر إرهافاً وعلاقات الشعر بالقرآن أفسحت المجال لمناقشات ليس هنا هو المحل للمشاركة فيها. والجذر ش ع ر، في رأي راغب الاصفهاني يصبح، بعد أن استخدم للدالة على الوبر والشَعر، علامة معرفة دقيقة ومحددة، ولكن القرآن يمنحه، بالنسبة لعصره، معنى معرفة كاذبة، مستنداً إلى معنى الآية 224 من السورة 26 الشعراء: (والشعراء يتبعهم الغاوون). وربما ينبغي أن نفهم ما الشعر انطلاقاً من سورة 36، ياسين، آية 69 ـ 70: (وما علّمناه الشعر وما ينبغي له. إن هو إلا ذكر وقرآن مبين). إن الله يعارض تعليم ضرب من صناعة الكلام وتقنيته بذكر الكلمة ذات الامتياز. ألا يكمن في ذلك رفض الكلمة الدنيوية؟ وإذا كانت الحال على هذا النحو، فإن ذلك سيكون ضرباً من السمة الإضافية للتأكيد أن الكلمة في القرآن هي (فعل) الله بصورة أساسية، وأنها إلهية، وأن ما يرتبط بها يتدخل دائماً في السياق الديني للتنزيل.
كنا قد قلنا إن محمداً هو انسان الكلمة. وبدا لنا أن الأمر هو على هذا النحو، إذ يتحرك في سياق تسمه الكلمة بقوة. ولكن كل ما قيل للتو يبين كيف أن هذه الكلمة، كلمة محمد، معروضة بصورة ضمنية على أنها كلمة امحاء الانسان أمام الله، وخضوع الانسان للكلمة الإلهية، وإنها صمت الكلمة الإنسانية التدريجي أمام الكلمة المنزلة.
وسنلاحظ، من وجهة النظر هذه، ذلك العدد القليل من أسماء الأعلام، والأشخاص، والأماكن أو الأحداث، التي يتضمنها القرآن، والخاصة بالعصر ذاته الذي اكن يعيش فيه محمد، في حين أن أولئك الذين لهم علاقة بالتاريخ المقدس يعودون عوداً متكرراً: مثل آدم، نوح، ابراهيم، لوط، يعقوب، يوسف، موسى، هارون، فرعون، عيسى. إلخ.
ومن المؤكد أن الإلماعات إلى حوادث معاصرة ليست مفقودة في القرآن بل هي متواترة فيه، كما تشهد على ذلك الآيات العديدة الموجهة إلى الكافرين، الملحدين أو المحرضين، وجاحدين آخرين. ونجد فيه أيضاً أثر حركات مختلفة من الردة، وجواب مواطني محمد والأعراب عن تبشيره. ولكن علينا أن نضيف، بمعزل عن كون هذه المراجع إلماعية ولا تتضمن تفصيلات ظرفية محددة، أن هذه المراجع ذات علاقة بحدث خاص، حدث التنزيل، حدث يجعل التاريخ كما يتصوره المؤرخون تأريخاً متعالياً، أكثر من كونها ذات علاقة بالحوادث التاريخية منظور إليها بوصفها كذلك. هكذا هي الحال في هذه الآيات التي يختلط فيها القصصي بالنبوي:
(بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً
وظننتم ظن السوء وكنتم قوماً بوراً.
سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها
ذرونا نتبعكم .. ) الفتح/ 12 و 15.
كذلك ثمة عدد من الأسماء الجغرافية، الخاصة في القرآن بالزمن المعاصر لمحمد، ذات علاقة مباشرة بالتنزيل والشعائر التي ينقلها كالحج: هكذا الأمر بالنسبة لعرفة البقرة/ 198، الصفا والمروة البقرة/ 158، الكعبة المائدة/ 95 و 97. والإشارات الواضحة، الخاصة بالمدينة التوبة/ 101 و 120، أو مكة باسم بكة آل عمران/ 96، ذات علاقة بالتنزيل أو الحج.
أضف إلى ذلك أن لدينا بعضاً من الإلماعات أكثر وضوحاً كما في السورة 63، المنافقون، آية 8، عن هزيمة سكان المدينة، أو في السورة 48، الفتح، آية 24، عن النهاية السعيدة للمسلمين في نزاع بـ ((بطن مكة))، أو في السورة 3، آل عمران، في مجال النزاعات دائماً، آية 123، التي تبين أن الله فعال خلال معركة بدر، أو في السورة 9، التوبة، آية 25 ـ 26، التي تشرح بالتدخل الإلهي نصر المسلمين في معركة حنين. ولكن التاريخ المعروض، هنا أيضاً، تابع للتاريخ المقدس أكثر مما هو تابع لتأريخ كتاب الحوليات أو للتاريخ بالمعنى الحديث للمصطلح.
وتبقى ثلاثة إلماعات واضحة نسبياً ترافقها أسماء أعلام معاصرة لمحمد ولا ترتد إلى تاريخ التنزيل، تاريخه وحده: تتناول الآيتان 1 و 2 في السورة 106، (قريشاً)، سكان قبيلة (قريش)، و (إيلافهم رحلة الشتاء والصيف). وتتناول السورة 111، المسَد، موت أبي لهب، عم محمد، وموت امرأته. وأخيراً، ذكر الابن المتبنى لمحمد زيد في السورة 33، الأحزاب، آية 37، بمناسبة حادثة محددة جداً: طلاق امرأته زينب وإجازة الله محمداً أن يتزوجها، جراء هذا الطلاق.
وينجم، على هذا النحو، إذا استثنينا ذكر هذه الحالات الثلاث، أن (الكلمة القرآنية) كلمة (تضفي القداسة)، تضع الدنيوي، لا في التاريخ اليومي والحكائي للناس، ولكنها تضعه في عرض يجعل هذا التاريخ العادي متعالياً حتى تجعل منه تاريخ التدخل الديني، كلمة تغزو كل مجالات الحياة الدنيوية لكي تضعها في المنظور المحدد لها في التنزيل.
وسيكون إذن انسان الكلمة، محمد، بصورة أساسية، انساناً في خدمة التدخل الإلهي في هذا العالم. إنه ليس اطلاقاً منظم الحاضرة الأرضية كما كانت هي الحال في الحاضرة الإغريقية، ولكنه انسان إضفاء القداسة على الفاعلية الانسانية، على الفاعلية ((المدنية)). إنه ليس فاعلاً في التاريخ، ولكنه شخصية التاريخ المقدس. وسيبدأ التاريخ بالمعنى الحقيقي للكلمة بعد موته، باختيار خليفته، ذلك أن محمداً، انسان الإلهي، لم يكن بوسعه أن ينظم الشروط، الزمنية على نحو صرف، لخلافته. ولابد مع ذلك من انتظار عمر، المنظم العظيم لنمو الامبراطورية الإسلامية وتوسعها، ليحدد على سبيل المثال، قواعد التقويم، إذ أدخل، بإلحاح من عليّ، نقطة انطلاق للتاريخ الإسلامي مع الهجرة، وذلك عام 39، أو 640 ـ التاريخ يعني بالعربي تأريخاً، تقويماً ـ تسلسل الأحداث تاريخياً. ولكن الزمني سيكون دائماً مدركاً بوصفه خاضعاً للديني: سيكون الخليفة (أمير المؤمنين)، أي قائد المؤمنين، وستقام الصلاة وراء بوصفه الإمام. ولن تمنحه وظيفته السياسية مع ذلك، نظرياً، أي امتياز ولا حقاً على المؤمنين الآخرين الذين سيكونون خاضعين إلى واجب (الأمر بالمعروف والنهي عن المكر) إزاء كل إنسان، ولو أنه الخليفة.
* المصدر : من القران الى الفلسفة
قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس
أهل البيت و يطهركم تطهيرا)
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي ولفاطمة وحسن وحسين(اللهم هؤلاء اهل بيتي فأذهب عنهم الرجس)
اللهم صلي على محمد وآل محمد

عصام البُكير
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 241
اشترك في: الأحد مايو 08, 2005 12:21 am
مكان: اليمن - صنعاء

وايضا ما قيل من الباحثين وقراءة بسيرته

مشاركة بواسطة عصام البُكير »

توماس كارليل
محمد (ص) المثل الأعلى**

ـ من أكبر العار القول ان محمداً كذاب:
لقد أصبح من أكبر العار، على أي فرد متمدن من أبناء هذا العصر أن يصغي إلى ما يظن من أن محمداً خداع مزور وآن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال ، فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرناً لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم الله الذي خلقنا، أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها، ومات عليها هذه الملايين الفائتة الحصر. أكذوبة وخدعة؟ أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبداً ولو أن الكذب والغش يروجان عند خلق الله هذا الرواج، ويصادفان منهم مثل ذلك التصديق والقبول، فما الناس إلا بلّه ومجانين، وما الحياة إلا سخف وعبث وأضلولة، كان الأولى بها أن لا تخلق.
فوا أسفاه ما أسوأ هذا الزعم وما أضعف أهله واحقهم بالرثاء والرحمة.
وبعد، فعلى مَن أراد أن يبلغ منزلة ما في علوم الكائنات أن لا يصدق شيئاً البتة من أقوال أولئك , فإنها نتائج جيل كفر، وعصر جحود والحاد، وهي دليل على موت الأرواح في حياة الأبدان، ولعل العالم لم ير قط رأياً أكفر من هذا والأم.
وهل رأيتم قط معشر الإخوان أن رجلاً كاذباً يستطيع أن يوجد ديناً، أن الرجل الكاذب لا يقدر أن يبني بيتاً من الطوب! فهو إذا لم يكن عليماً بخصائص الجير والجص والتراب وما شاكل ذلك فما ذلك الذي يبنيه ببيت، وإنما هو تل من الانقاض، وكثيب من أخلاط المواد، نعم وليس جديراً أن يبقى على دعائمه اثني عشر قرناً، يسكنه مائتا مليون من الأنفس، ولكنه جدير أن تنهار أركانه فينهدم فكأنه لم يكن.
ثم إذا نظرت إلى كلمات العظيم. شاعراً كان أو فيلسوفاً أو نبياً أو فارساً أو ملكاً، ألا تراها ضرباً من الوحي! والرجل العظيم في نظري مخلوق من فؤاد الدنيا وأحشاء الكون، فهو جزء من الحقائق الجوهرية للأشياء، وقد دلّ الله على وجوده بعدة آيات، أرى أن أحدثها وأجدها هو الرجل العظيم الذي علّمه الله العلم والحكمة، فوجب علينا أن نصغي إليه قبل كل شيء.
وعلى ذلك فلسنا نعد محمداً هذا قط رجلاً كاذباً متصنعاً يتذرع بالحيل والوسائل إلى بغيه، أو يطمح إلى درجة ملك أو سلطان، أو غير ذلك من الحقائر والصغائر، وما الرسالة التي أداها إلا حق صراح، وما كلمته إلا صوت صادق صادر من العالم المجهول، كلا، ما محمد بالكاذب ولا الملفق وإنما هو قطعة من الحياة قد تفطر عنها قلب الطبيعة فإذا هي شهاب قد أضاء العالم أجمع، ذلك أمر الله، وذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء، والله ذوالفضل العظيم، وهذه حقيقة تدمغ كل باطل وتدحض حجة القوم الكافرين.
ـ العرب وصفة جزيرة العرب:
كانت عرب الجاهلية أمة كريمة، تسكن بلاداً كريمة، وكأنما خلق الله البلاد وأهلها على تمام وفاق. فكان ثمة شبه قريب بين وعورة جبالها ووعورة أخلاقهم، وبين جفاء منظرها وجفاء طباعهم، وكان يلطف من قسوة قلوبهم مزاج من اللين والدماثة، كما كان يبسط من عبوس وجود البلاد، رياض خضراء وقيعان ذات أمواه وأكلاء، وكان الاعرابي صامتاً لا يتكلم إلا فيما يعنيه، إذ كان يسكن أرضاً قفراً يبابا خرساء، تخالها بحراً من الرمل يصطلي جمرة النهار طوله، ويكافح بحر وجهه نفحات القرّ ليله.
ولا أحسب أناساً شأنهم الانفراد وسط البيد والقفار، يحادثون ظواهر الطبيعة، ويناجون أسرارها إلا أن يكونون أذكياء القلوب، حداد الخواطر، خفاف الحركة ثاقبي النظر، وإذا صح ان الفرس هم فرنسيو المشرق، فالعرب لا شك طليانه، والحق أقول لقد كان أولئك العرب قوماً أقوياء النفوس، كان أخلاقهم سيول دفاقة، لها من شدة حزمهم وقوة ارادتهم أحصن صور وأمنع حاجز، وهذه وأبيكم أم الفضائل، وذروة الشرف الباذخ وقد كان أحدهم يضيفه ألد أعدائه فيكرم مثواه وينحر له فإذا أزمع الرحيل خلع عليه وحمله وشيّعه، ثم هو بعد كل ذلك لا يحجم عن أن يقاتله متى عادت به إليه الفرص، وكان العربي أغلب وقته صامتاً فإذا قال أفصح.
ويزعمون أن العرب من عنصر اليهود، والحقيقة أنهم شاركوا اليهود في مرارة الجد، وخالفوهم في حلاوة الشمائل، ورقة الظرف، وفي ألمعية القريحة، وأريحية القلب، وكان لهم قبل زمن محمد (ع) منافسات في الشعر، يجرونها بسوق عكاظ في جنوب البلاد، حيث كانت تقام أسواق التجارة، فإذا انتهت الأسواق تناشد الشعراء القصائد، ابتغاء جائزة تجعل للأجود قريضاً، والأحكم قافية، فكان الأعراب الجفاة ذوو الطباع الوعرة، يرتاحون لنغمات القصيد، ويجدون لرناتها أية لذة فيتهافتون على المنشد كالفراش، ويتهالكون.
ـ مولد محمد ونشأته:
وكان بين هؤلاء العرب التي تلك حالهم، ان ولد محمد (ع) عام 580 ميلادية، وكان من أسرة هاشم من قبيلة قريش، وقد مات أبوه عقب مولده، ولما بلغ عمره ستة أعوام توفيت أمه ـ وكان لها شهرة بالجمال والفضل والعقل، فقام عليه جده وهو شيخ قد ناهز المائة من عمره وكان صالحاً باراً، وكان ابنه عبدالله أحب أولاده إليه، فأبصرت عينه الهرمة في محمد صورة عبدالله، فأحب اليتيم الصغير بملء قلبه، وكان يقول ينبغي أن يحسن القيام على ذلك الصبي الجميل، الذي قد فاق سائر الأسرة والقبيلة حسناً وفضلاً، ولما حضرت الشيخ الوفاة والغلام لم يتجاوز العامين، عهد به إلى أبي طالب أكبر أعمامه رأس الأسرة بعده، فرباه عمه ـ وكان رجلاً عاقلاً كما يشهد بذلك كل دليل ـ على أحسن نظام عربي.
صدق محمد منذ طفولته:
ولحظ عليه منذ فتائه أنه كان شاباً مفكراً، وقد سماه رفقاؤه الأمين ـ رجل الصدق والوفاء ـ الصدق في أفعاله وأقواله وأفكاره، وقد لاحظوا أن ما من كلمة تخرج من فيه إلا وفيها حكمة بليغة، وأني لأعرف عنه أنه كان كثير الصمت، يسكت حيث لا موجب للكلام، فإذا نطق، فما شئت من لب وفضل وإخلاص وحكمة، لا يتناول غرضاً فيتركه إلا وقد أنار شبهته، وكشف ظلمته، وأبان حجته، واستثار دفينته، وهكذا يكون الكلام وإلا فلا، وقد رأيناه طول حياته، رجلاً راسخ المبدأ، صارم العزم، بعيد الهمة، كريماً براً رؤفاً تقياً فاضلاً حراً ـ رجلاً شديد الجد مخلصاً، وهو مع ذلك سهل الجانب، لين العريكة، جم البشر والطلاقة، حميد العشرة، حلو الايناس، بل ربما مازح وداعب.
ـ محمد بريء من الطمع الدنيوي:
ويزعم المتعصبون من النصارى والملحدون أن محمداً لم يكن يريد بقيامه إلا الشهرة الشخصية، ومفاخر الجاه والسلطان، كلا وأيم الله، لقد اكن في فؤاد ذلك الرجل الكبير ابن القفار والفلوات. المتوقد المقلتين العظيم النفس، المملؤ رحمة وخيراً، وحناناً وبراً، وحكمة وحجى، واربة ونهى ـ أفكار غير الطمع الدنيوي، ونوايا خلاف طلب السلطة والجاه.
ـ ابتداء البعثة:
فلما كان في الأربعين من عمره وقد خلا إلى نفسه في غار بجبل (حراء) قرب مكة شهر رمضان، ليفكر في تلك المسائل الكبرى، إذا هو قد خرج إلى خديجة ذات يوم وكان قد استصحبها ذلك العام وأنزلها قريباً من مكان خلوته، فقال لها انه بفضل الله قد استجلى غامض السر، واستثار كامن الأمر، وانه قد أنارت الشبهة، وانجلى الشك وبرح الخفاء وان جميع هذه الأصنام محال وليست إلا أخشاباً حقيرة، وان لا إله إلا الله وحده لا شريك له فهو الحق وكل ما خلاه باطل، خلقنا ويرزقنا. وما نحن وسائل الخلق والكائنات إلا ظل له وستار يحجب النور الأبدي والرونق السرمدي، الله أكبر ولله الحمد.
ـ الوحي وجبريل:
فمن فضائل الاسلام: تضحية النفس في سبيل الله، وهذا أشرف ما نزل من السماء على بني الأرض، نعم هو نور الله قد سطع في روح ذلك الرجل، فأنار ظلماتها، هو ضياء باهر، كشف تلك الظلمات التي كانت تؤذن بالخسران والهلاك، وقد سماه محمد (ع) وحياً و(جبريل)، وأينا يستطيع أن يحدث له اسماً؟ ألم يجيء في الانجيل أن وحي الله يهبنا الفهم والادراك؟ ولا شك أن العلم والنفاذ إلى صميم الأمور وجواهر الأشياء، لسر من أغمض الأسرار لا يكاد المنطقيون يلمسون منه إلا قشوره، وقد قال نوفاليس: (أليس الإيمان هو المعجزة الحقة الدالة على الله؟) فشعور محمد إذ اشتعلت روحه بلهيب هذه الحقيقة الساطعة، بأن الحقيقة المذكورة هي أهم ما يجب على الناس علمه لم يك إلا أمراً بديهياً.
ـ معنى كلمة محمد رسول الله:
وكون الله قد أنعم عليه بكشفها له: ونجاه من الهلاك والظلمة وكونه قد أصبح مضطراً إلى اظهارها للعالم أجمع ـ هذا كله هو معنى كلمة (محمد رسول الله) وهذا هو الصدق الجلي والحق المبين.
ـ الرد على القائلين بأن الاسلام انتشر بالسيف:
وكانت نية محمد حتى الآن أن ينشر دينه بالحكمة، والموعظة الحسنة فقط، فلما وجد أن القوم الظالمين لم يكتفوا برفض رسالته السماوية، وعدم الاصغاء إلى صوت ضميره وصيحة لبه، حتى أرادوا أن يسكتوه فلا ينطق بالرسالة ـ عزم ابن الصحراء على أن يدافع عن نفسه، دفاع رجل ثم دفاع عربي، ولسان حاله يقول أما وقد أبت قريش إلا الحرب، فلينظروا أي فتيان هيجاء نحن، وحقاً رأى فإن أولئك القوم أغلقوا آذانهم عن كلمة الحق، وشريعة الصدق، وأبوا إلا تمادياً في ضلالهم يستبيحون الحريم، ويهتكون الحرمات، ويسلبون وينهبون، ويقتلون النفس التي حرّم الله قتلها، ويأتون كل اثم ومنكر، وقد جاءهم محمد من طريق الرفق والاناة، فأبوا إلا عتواً وطغياناً، فليجعل الأمر إذن إلى الحسام المهند، والوشيج المقوم، وإلى كل مسرودة حصداء، وسابحة جرداء وكذلك قضى محمد بقية عمره وهي عشر سنين أخرى في حرب وجهاد، لم يسترح غمضة عين وكانت النتيجة ما تعلمون؟
ولقد قيل كثيراً في شأن نشر محمد دينه بالسيف، فإذا جعل الناس ذلك دليلاً على كذبه فشد ما أخطأوا وجاروا، فهم يقولون: ما كان الدين لينتشر لولا السيف، ولكن ما هو الذي أوجد السيف؟ هو قوة ذلك الدين وانه حق، والرأي الجديد أول ما ينشأ يكون في رأس رجل واحد، فالذي يعتقده هو فرد ـ فرد ضد العالم أجمع، فإذا تناول هذا الفرد سيفاً وقام في وجه الدنيا فقلما والله يضيع، وأرى على العموم أنا لحق ينشر نفسه بأية طريقة، حسبما تقتضيه الحال، أو لم تروا أن النصرانية كانت لا تأنف أن تستخدم السيف أحياناً .. ؟ وحسبكم ما فعل شارلمان بقبائل السكسون، وأنا لا أحفل أكان انتشار الحق بالسيف، أم باللسان أو بأية آلة أخرى.
ـ القرآن واعجازه:
أما القرآن فإن فرط إعجاب المسلمين به وقولهم باعجازه هو أكبر دليل على اختلاف الأذواق في الأمم المختلفة. هذا وان الترجمة تذهب بأكثر جمال الصنعة وسحن الصياغة ولذلك لا عجب إذا قلت ان الأوروبي يجد في قراءة القرآن أكبر عناء، فهو يقرؤه كما يقرأ الجرائد، لا يزال يقطع في صفحاتها قفاراً من القول الممل المتعب، ويحمل على ذهنه هضاباً وجبالاً من الكم، لكي يعثر في خلال ذلك على كلمة مفيدة، أما العرب فيرونه على عكس ذلك لما بين آياته وبين أذواقهم من الملاءمة، ولأن لا ترجمة ذهبت بحسنه ورونقه، فلذلك رآه العرب من المعجزات وأعطوه من التبجيل ما لم يعطه أتقى النصارى، لانجيلهم وما برح في كل زمان ومكان قاعدة التشريع والعمل والقانون المتبع في شؤون الحياة ومسائلها والوحي المنزل من السماء هدى للناس وسراجاً منيراً، يضيء لهم سبل العيش ويهديهم صراطاً مستقيماً، ومصدر أحكام القضاة، والدرس الواجب على كل مسلم حفظه والاستنارة به في غياهب الحياة، وفي بلاد المسلمين مساجد يتلى فيها القرآن جميعه كل يوم مرة، يتقاسمه ثلاثون قارئاً على التوالي وكذلك ما برح هذا الكتاب يرن صوته في آذان الألوف من خلق الله وفي قلوبهم اثني عشر قرناً في كل آن ولحظة، ويقال ان من الفقهاء من قرأه سبعين ألف مرة!!
ـ براءة محمد من الشهوات وتواضعه وتقشفه:
وما كان محمد أخا شهوات، برغم ما اتهم به ظلماً وعدواناً، وشد ما نجور ونخطئ إذا حسبناه رجلاً شهوياً، لا همّ له إلا قضاء مآربه من الملاذ، كلا فما أبعد ما كان بينه وبين الملاذ أية كانت، لقد كان زاهداً متقشفاً في مسكنه، ومأكله، ومشربه، وملبسه، وسائر أموره وأحواله وكان طعامه عادة الخبز والماء، وربما تتابعت الشهور ولم توقد بداره نار وانهم ليذكرون ـ ونعم ما يذكرون ـ أنه كان يصلح ويرفو ثوبه بيده، فهل بعد ذلك مكرمة ومفخرة؟ فحبذا محمد من رجل خشن اللباس، خشن الطعام، مجتهد في الله قائم النهار، ساهر الليل دائباً في نشر دين الله، غير طامح إلى ما يطمح إليه أصاغر الرجال من رتبة أو دولة أو سلطان. غير متطلع إلى ذكر أو شهرة كيفما كانت، رجل عظيم وربكم وإلا فما كان ملاقياً من أولئك العرب الغلاظ توقيراً واحتراماً وإكباراً وإعظاماً، وما كان يمكنه أن يقودهم ويعاشرهم معظم أوقاته، ثلاثاً وعشرين حجة وهم ملتفون به يقاتلون بين يديه ويجاهدون حوله. لقد كان في هؤلاء العرب جفاء، وغلظة، وبادرة، وعجرفية، وكانوا حماة الانوف، أباة الضيم، وعر المقادة صعاب الشكيمة، فمن قدر على رياضتهم، وتذليل جانبهم حتى رضخوا له واستقادوا فذلكم وايم الله بطل كبير، ولولا ما أبصروا فيه من آيات النبل والفضل، لما خضعوا له ولا أذعنوا، وكيف وقد كانوا أطوع له من بنانه.
وظني أنه لو كان أتيح لهم بدل محمد قيصر من القياصرة بتاجه وصولجانه لما كان مصيباً من طاعتهم مقدار ما ناله محمد، في ثوبه المرقع بيده فكذلك تكون العظمة، وهكذا تكون الأبطال.
ـ تأثير الاسلام على العرب وفضله عليهم:
ولقد أخرج الله العرب بالاسلام، من الظلمات إلى النور, وأحيى به من العرب أمة هامدة وأرضاها مدة، وهل كانت إلا فئة من جوالة الأعراب، خاملة فقيرة تجوب الفلاة، منذ بدء العالم، لا يسمع لها صوت ولا تحس منها حركة. فأرسل الله لهم نبياً بكلمة من لدنه ورسالة من قبله فإذا الخمول قد استحال شهرة، والغموض نبهه، والضعة رفعة، والضعف قوة، والشرارة حريقاً، وسع نوره الأنحاء وعمّ ضوء الأرجاء، وعقد شعاعه الشمال بالجنوب، والمشرق بالمغرب وما هو إلا قرن بعد هذا الحادث حتى أصبح لدولة العرب رجل في الهند ورجل في الأندلس وأشرقت دولة الاسلام حقباً عديدة، ودهور مديدة بنور الفضل والنبل، والمرؤة والبأس، والنجدة. ورونق الحق والهدى على نصف المعمورة، وكذلك الإيمان عظيم وهو مبعث الحياة، ومنبع القوة، وما زال للأمة رقي في درج الفضل، وتعريج إلى ذرى المجد، ما دام مذهبها اليقين ومنهاجها الإيمان، ألستم ترون في حالة أولئك الأعراب ومحمدهم وعصرهم، كأنما قد وقعت من السماء شرارة على تلك الرمال، التي كان لا يبصر بها فضل، ولا يرجى فيها خير. فإذا هي بارود سريع الانفجار وما هي برمل ميت، وإذا هي قد تأججت واشتعلت، واتصلت نيرانها بين غرناطة ودلهي.
ولطالما قلت أن الرجل العظيم كالشهاب من السماء، وسائر الناس في انتظاره كالحطب، فما هو إلا أن يسقط حتى يتأججوا ويلتهبوا.
* المصدر : مجلة الموقف/العدد18/1984م
**للفيلسوف الانكليزي توماس كارليل كتيب يحمل اسم محمد (ص) المثل الأعلى، يرد فيه على تهجمات بعض الغربيين على الاسلام ونبيه، والذين طالما ألصقوا التهم الباطلة برسول الله وبالدين الحنيف.
أهمية ما كتبه توماس كارليل منذ عام 1352 هجرية ـ 1934 ميلادية، تكمن في تجرده وموضوعيته الواضحة في مؤلفه، وفي دراسته لسيرة الرسول وللفترة المرافقة لنزول الوحي وبدء الدعوة الاسلامية
قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس
أهل البيت و يطهركم تطهيرا)
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي ولفاطمة وحسن وحسين(اللهم هؤلاء اهل بيتي فأذهب عنهم الرجس)
اللهم صلي على محمد وآل محمد

عصام البُكير
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 241
اشترك في: الأحد مايو 08, 2005 12:21 am
مكان: اليمن - صنعاء

مشاركة بواسطة عصام البُكير »

وايضا

غالب حسن
الرسول محمد (ص) والسير ضد المألوف

كانت النبوة هي التي تصمم مواقف الرسول الكريم، كانت تملي عليه، فهناك مفاصل في مواقفه وسيرته لا تخضع لسنن السيرة المألوفة في طرح الذات والرسالة والدعوة، لا تنسجم مع الظروف والمحيط والأجواء السائدة، تحث على الارتياب والسخرية لدى المعاندين، وتصدم عوامل الجذب وامارات اليقين لدى المؤمنين، وتعمق دواعي الشك والخوف لدى المترددين.
كان أولى ـ طبقاً لطبائع الأمور ـ أن يتعاطى (ص) مع قضيته، ليس بنعومة التعامل وصرف الأخلاق وحسب، بل إضافة إلى ذلك، بمراعاة مستوى المستمعين، ومعاينة نوع الادعاء، وضرورة الحفاظ على المكسب السابق، وذلك كي يظفر بمزيد من الثقة عند اتباعه، الذين كانوا أصلاً على خطر عظيم ـ إلا مَن رحم ربي ـ ويهون ويخفف من غلوا الإنكار الذي كان الطابع السائد، والذي لم تتوفر أي دلالة على اختراقه، ويحيد من درجة التردد عند المشككين... ولكنها أصالة النبوة هي التي تملك القرار الحاكم في ضميره.
لنفترض معدماً مهملاً يدعي الالتقاء يومياً بملك جبار دونما رخصة أو استئذان، فإننا ولا ريب، نرتاب بصدق هذا المُدعي، وإذا ما ادعى أنه يلاطف هذا الملك، ويشاركه أسراره البيتية الخاصة، ويستمزج رأيه بشؤون مملكته، وإن الملك عرض عليه فكرة الزواج من أجمل وأعز بناته، ولكنه رفض عزةً ودلالاً، فإننا سنرتاب أكثر، وربما نحكم عليه بالجنون والسفه، بل قد نحكم عليه بذلك فعلاً، لعله لو اكتفى بالدعوى الأولى، وأرجعها إلى ضربة من ضربات الحظ، أو إلى صدفة عابرة، وحَصَرَها عداً مرة أو مرتين... في مثل هذه الحالات، قد يجد قولُه صدىً من قبول ضعيف عند هذا أو ذاك من الناس، ممن يعولون على فلسفة الممكن، ويبنون عليها بعض المواقف، ولكن عندما دخل الحدث المُدعى هذه المستويات الضخمة من المبالغة، وتصاعد سُلَّم الاستغراب في المضمون، فَقَدَ كل مبررات قبوله، لأن أسباب الانتصار لأصالته معدومة أو ضعيفة جداً.
لقد أنكر الناس نبوة محمد تسع سنوات متتالية ولم يهضموا صلته بالسماء، رغم ما عرف عنه من طهر في القلب والجارحة، ولم يصدقه غلا ثلة قليلة، حتى أنها لا تُحسب أقلية بالمصطلح المعروف، وقد أوذي في ذلك، وراح القوم يطاردونه في رزقه وأمنه ومستقره، وتحول إلى مثل للسخرية والتهكم والاستهزاء، ومات أعز مساعديه في حياته وصموده وكفاحه، زوجه المخلصة وعمه، وبذلك ضاقت الأرض به وبأصحابه.
هذا هو محمد، وهذه هي ظروفه،وهذه هي ممكناته!
فماذا ينتظر؟
في هذه الظروف حيث أُعدمت كل السبل، وجدب ضمير الاستجابة، وتحجر الموقف الرافض إلى حد اتهام محمد بالجنون... في مثل هذه الظروف الحرجة الحالكة، يعلن محمد بلسان عربي مبين أنه أُسري به إلى السماء! يقول تبارك وتعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير)، وقال تعالى: (ولقد آه ـ يعني جبرائيل ـ نزلة أخرى. عند سدرة المنتهى. عندها جنة المأوى. إذ يغشى السدرة ما يغشى. ما زاغ البصر وما طغى. لقد رأى من آيات ربه الكبرى).
لقد أسري به إلى السماء، ليس هذا فقط، بل إضافة إلى ذ لك رأى ما رأى من آيات الله الكبرى، كان في ضيافة الرحمن، في رعايته، والملائكة في خدمته، يطوفون به أرجاء الكون الفسيح ليستشرف الملكوت وأسراره العظيمة.
كذلك قال محمد!
ولكن في أي ظروف قال!
في ظروف هو أحوج ما يكون فيها إلى التخفيف من ضغوط التشكيك والإنكار! في ظروف تتطلب مداهنة أجوائها الحانقة، ولو في حدود يسيرة، في ظروف كانت الكلمة فيها للتكتيك وليس للمضمون، فكيف إذا كان المضمون بحجم الإسراء والمعراج؟
يقول التاريخ: إن رسول الله كان جالساً يفكر ملياً بالصدمة التي ستفاجئ الناس وما يمكن أن يترتب على ذلك من معانات مضاعفة، أعلن عن الحديث الجديد، فمر به أبو جهل (فقال كالمستهزئ: هل استفدت شيئاً في هذه الليلة؟ قال: نعم، أُسري بي الليلة إلى بيت المقدس، قال أبو جهل: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ فقال: نعم... فقال أبو جهل: أتخبر قومك بذلك؟ فقال: نعم، فقال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤي هلموا، فأقبلوا فحدثهم النبي، فمن بين مُصدق ومُكذب ومُصفق وواضع يده على رأسه، وارتد ناس ممن كان آمن به وصَدَّقه).
إن محمداً الخارق يدرك حجم العواقب، التي سوف تترتب على هذا الإعلان الميتافيزيقي الخطير، ومن أخطر هذه العواقب المنتظرة، انهيار الثقة به لدى أتباعه، وهم قلة نادرة جداً، وكان قد كسبهم بعد جهاد مرير، دام سنوات طويلة وقاسية، وهو ما حصل فعلاً، كما أن إمكانات التكذيب نالت حظها أكثر من القوة والمتانة، ولكن محمداً النبي مدعو إلى الإفصاح. إن أصالة النبوة وثقته بهذه النبوة، لهما أسبقية الحضور والإمضاء، وقد تكلم بلغة مستحكمة، وبعقل راجح وقصد واضح، يجادل وينافح عن هذه القضية، ولم يبال بتساقط بعض المؤمنين، ولم يلتفت إلى توافر المزيد من عوامل الاستهانة والاستنكار، ومن السخف بمكان أن نقارن هذا الحدث، بما يشهده التاريخ من إصرار هنا وهناك على رأي أو فكرة، رغم المواجهة المكلفة والتي قد تصل ـ أحياناً ـ إلى الاستئصال، ذلك أن ادعاء محمد بن عبدالله موضوع خاص وحساس، لا يقاس به أي موضوع آخر، وان الاستحقاقات المعاكسة التي يمكن أن تترشح عن هذا الموقف الجريء، قد تطوح بأُس القضية وجوهر الادعاء، الذي هو النبوة.
إن دعوى محمد في إسرائه ومعراجه كانت بمثابة هزة عميقة في ضمير الاتباع من جهة، وإسفينا جديداً وحاداً بين محمد والناس الذين جاء أصلاً لهدايتهم...
فما الداعي إليها إذن؟
لماذا لا يؤجل محمد الإفصاح عن هذا الحدث الكوني المدهش، بعد أن يجمع ويحشد أكبر عدد ممكن من الأنصار؟
لماذا لا يؤخره بعد أن تنتصر نبوته في ضوء إنجازات عملية ملموسة؟ وذلك حتى يكون التعاطي مع الحدث الخارق الجديد بشيء من الارتياح، ومن خلال الارتكان إلى أمارات سابقة من شأنها المساعدة على هضم المفاجأة المدهشة.
إذن وبكل وضوح، كانت هناك (النبوة)، أصالتها النابتة في كل ذرة من ذرات إرادته ووجدانه وروحه.
ان أصالة النبوة في المفردة الجديدة، ليس المضمون وحسب، بل في الوعاء الزمني، مع علم صاحبها بالنتائج العكسية التي ستؤدي إليها، فيما هو في أشد الحاجة إلى الزمن المريح، وفي غاية الحاجة إلى المزيد من الأنصار، وفي أقصى حاجة إلى تقريب المهمة إلى مستوى الفهم العادي المألوف، إن طرح المفردة بكل هذه المقتربات وغيرها، يهدد النبوة فيما هو يسعى لإثباتها.
إن مسألة جوهرية يجب أن تتقدم على كل اعتبار هنا، إنها النبوة، فإن تكذيبها بالنسبة لمدعيها، ليس مثل تكذيب رأي علمي أو فكرة فلسفية أو اتجاه إصلاحي.
------------------------------------------------
* المصدر:اصالة النبوة في حياة الرسول الكريم
قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس
أهل البيت و يطهركم تطهيرا)
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي ولفاطمة وحسن وحسين(اللهم هؤلاء اهل بيتي فأذهب عنهم الرجس)
اللهم صلي على محمد وآل محمد

عصام البُكير
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 241
اشترك في: الأحد مايو 08, 2005 12:21 am
مكان: اليمن - صنعاء

قراءة في رسائل النبي (ص)

مشاركة بواسطة عصام البُكير »

ادريس الخرفاش
قراءة في رسائل النبي (ص)

"استعمال الحاسوب للاستعانة في معرفة رسائل رسول الله صلعم"
قمنا في هذا البحث بجرد الألفاظ المستعملة في رسائل النبي صلى الله عليه وسلم، والتي لها وجود في كتاب واحد على الأقل، من بين هذه الألفاظ نذكر (الرحمن، الرحيم، الأجر، الأهل، الكافرون، أسلم، أدعو...).
ثم قابلنا هذه المجموعة بمجموعة رسائل النبي صلى الله عليه وسلم، والتي يبلغ عددها 8 رسائل موجهة إلى كل من:
1_ قيصر (ملك الروم) بواسطة الرسول: دحية بن خليفة الكلبي.
2_ الحارث بن أبي شمر (أمير دمشق من قبل هرقل). بواسطة الرسول: شجاع بن وهب.
3_ المقوقس (ملك القباط، مصر) بواسطة الرسول: حاطب بن أبي بلتعة.
4_ النجاشي (ملك الحبشة) بواسطة الرسول: عمر بن أمية الضمري.
5_ كسرى (ملك الفرس) بواسطة الرسول: عبد الله بن حذافة.
6_ المنذر بن ساوي (ملك البحرين) بواسطة الرسول: العلاء بن الحضرمي.
7_ جيفر وعبد النبي الجلندي (ملك عمان) بواسطة الرسول: عمرو بن العاص.
8_ هوذة بن علي (ملك اليمامة) بواسطة الرسول: سليط بن عمرو العامري.
النتائج المحصل عليها: تبين لنا _بعد ترجمة الكتب إلى لغة الآلة، وإدخال المعلومات إلى الحاسوب _من خلال تحليل رسائل النبي (ص) إلى الملوك والرؤساء، ودعوتهم إلى اعتناق الدين الإسلامي _أن الرسالة الهامة والأولى في رسائل النبي (ص)، كانت هي الرسالة التي بعث بها إلى النجاشي (ملك الحبشة) مع مبعوثه عمرو بن أمية الضمري.
الشرح: توضح لنا نتائج البحث، أن الرسالة الهامة التي أرسلها رسول الله (ص) إلى الملوك يدعوهم إلى الدخول لدين الله، هي الرسالة الموجهة إلى النجاشي (مساهمتها 56.3%) حيث يقول فيها صلوات الله وسلام عليه: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي عظيم الحبشة سلام، أما بعد فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته، ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده. وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته، وأن تتبعني وتوقن بالذي جاءني، فاني رسول الله، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل وقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصيحتي والسلام على من اتبع الهدى".
فهذا الخطاب يوضح للنجاشي ولجنوده، شمولية الدين الإسلامي، في اسلوب معجز، وترابط في الكلمات، يدعوهم نبي الله فيه إلى حياة أفضل، سيخيم عليها لا محالة _إن شاء الله _ الطمأنينة والأمان.
نتيجة 1: نجد كلام رسول الله (ص) يتمحور حول العناصر الأساسية الآتية:
1_ إثبات حقيقة النبي عيسى _عليه السلام _ وأنه نبي من عند الله، تولد بطريقة غير بيولوجية طبيعية (نفخ الله في مريم العذراء من روحه).
2_ إثبات حقيقة آدم _عليه السلام _ بأن قال له كن فكان، مما يدل على أن آدم _عليه السلام _ بدوره خلق بطريقة لا تخضع للقوانين البيولوجية.
3_ ثم الدعوة بالتي هي أحسن، من أجل اتباع الرسول (ص) والإيمان بما جاء به. وهكذا يلاحظ أن رسائل النبي (ص) سجلت حدثا بارزا تاريخيا في فترات عصيبة، وفي نفس الوقت كانت بمثابة ظهور علم جديد هو "علم الإعلام" في عصر لم يعرف سوى وأد البنات وحرب العشائر.
4_ يصنف الرسول (ص) خطاباته، فيخاطب كل شخص بأسلوب معين، ووفق مسؤوليته وقيمته وطبيعة إيمانه.
ومن جهة أخرى، نجد رسالتين أخريين على العامل الأول، ولكن في الجهة المقابلة للرسالة الموجهة للنجاشي، ويتعلق الأمر بـ:
أ_ الرسالة الموجهة إلى كسرى (ملك الفرس): ولها مساهمة ضعيفة، يقول فيها رسول الله (ص): "أدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيا، ويحق القول على الكافرين، أسلم تسلم، فإن أبيت فإنما عليك إثم المجوس".
فنجد (حسب العمليات الحسابية) الألفاظ: "أسلم، آمن، سلام" لها وجود قوي على.
العامل الأول:
من هنا تتضح لنا فكرة الأمن والسلام والطمأنينة التي يدعو لها نبي الرحمة(ص) الملك كسرى.
ب_ الرسالة الموجهة للمنذر: هذه الرسالة تختلف عن سابقتها، حيث يبعث رسول الله (ص) للمنذر بنصيحة، يدعوه فيها إلى اتباع نصيحة رسله؛ إذ جاء فيها: "...فإنه من ينصح، فإنما ينصح لنفسه، ومن يطع ويتبع أمرهم فقد أطاعني، ومن ينصح لهم فقد نصح لي، وإن رسلي قد أثنوا عليك خيراً، وإني قد شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه".
نتيجة 2: نلاحظ أن أخلاق النبي (ص) كانت هي القرآن "السلام والأمن، (حسب ما وجدناه في العمليات الحسابية). معنى ذلك، أن القرآن ربى نبيه المصطفى محمد (ص) قلبا وروحا، حتى يربي الناس على الابتعاد عن النزوات، التي تجذب الفرد إلى المهلكات ويقربهم إلى شاطىء النجاة، ورباه خلقا وسلوكا من أجل تحديد منهج الإنسان الذي تولى الخلافة، ورباه عقلا وجسما ليصلح أحوال العرب في مجتمعهم.
العامل الثاني:
وهو الممثل بالرسالة المرسلة إلى المنذر بن ساوي ملك البحرين، حيث بعث له رسول الله (ص) بالرسالة الآتية: "من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوي، سلام عليك.
فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله، أما بعد فإني أذكرك الله عز وجل، فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، وإنه من يطع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد نصح لي، وان رسلي قد اثنوا عليك خيرا، وإني شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت من أهل الذنوب فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك، ومن أقام على يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية".
الشرح: من خلال قراءة ما سبق، يتضح لنا أن الرسالة التي تأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية، فهي الرسالة الموجهة إلى المنذر بن ساوي، حيث نجد فيها لفظة "ينصح" لها تمثيلية قوية، ومعنى ذلك أن الرسالة الموجهة إلى المنذر هي رسالة نصح وإرشاد.
تفسير ذلك، هو أن الرسالة الموجهة إلى المنذر، ليست في الواقع سوى رسالة نصح ودعوة إلى طاعة الله وثنائه عليه.
نتيجة 3: من هنا تتضح لنا فكرة شفافة، مفادها أن رسول الله (ص) كان بصدد بناء مدرسة تحمل لواء الدعوة في المغرب والمشرق، تدرس في أقسامها وجهة نظر الإسلام حيال المعضلات التي تواجه الإنسانية حاضرا ومستقبلا، حتى لا يقع الإنسان في الهفوات التي يشهدها عالم المختبرات اليوم، من أسلحة جرثومية، وأسلحة الليزر، وقنابل عنقودية، وتغييرات في السلوك البيولوجي للخلايا الحية، ومحاولة استنساخ الإنسان وأعضاء الحيوانات لاستخدامها في جسم الإنسان.
فكانت الدعوة، وكانت النصيحة، وكان العفو من الأمور الثابتة الاسلامية التي توفر للإنسانية مشقة البحث عن الحلول الناجعة.
العامل الثالث:
وهو المتعلق برسالة الرسول (ص) إلى هوذة بن علي، حيث يؤكد النبي (ص) بعد "السلام على من اتبع الهدى" في رسالته إلى منتهى الخف والحافر، فاسلم تسلم واجعل لك ما تحت يديك" فكانت رسالة المصطفى بردا وسلاما على هوذة، إذ قال عند تسلمه رسالة النبي (ص): "ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومي وخطيبهم، العرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعك".
فتكون نتائج الحسابات الرياضية (إذا ما قرأنا النتائج المعطاة من الحاسوب) مطابقة للرسالة النبوية، حيث نجد الألفاظ الآتية لها قوة كبيرة في التحليل، هذه الألفاظ هي: (لم، الخف، الحافر، اعلم، دين منتهى، سيظهر، على يديك، هوذة)، بالإضافة إلى أن لها نفس الإحداثيات.
نتيجة 4: إن الاسلوب المستخدم في الرسالة الموجهة إلى هوذة، أسلوب يوافق الرؤية المطروحة بشكل شفاف، كما أنه يحتوي على ألفاظ ذات دلالات قوية. فلا غرو إذن، في أن هذا المنهج يوافق تعاليم الحق سبحانه وتعالى حينما يقول: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم). (إبراهيم/4)
وفي هذا أيضا تجديد للمنهج الذي يجب أن يوجه لكل فرد، كما يقول رب العالمين: (لكل نبإ مستقر). (الانعام/67)
كما أن البحث عنه، وسيلة للوصول إلى فضاء المخاطب معه، مصداقا لقوله سبحانه: (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى). (طه/44)
بالإضافة لكل ما سبق، تتطلب لغة الخطاب الإيمان القوي بالمبدا الراسخ في ذهن الإنسان، تدعو الناس لعبادة الله الأحد، مصداقا لقوله سبحانه: (كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلوا عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن، قل هو ربي لا إله إلا هو، عليه توكلت، وإليه متاب). (الرعد/30)
أما الرسالة التي وجهت إلى كسرى (وهي كذلك ممثلة على هذا العامل، لكن مساهمتها ضعيفة)، فقد استخدم فيها رسول الهدى لفظة "أدعوك" ولفظة "أبيت".
هذا يدل على رقي خطاب النبي (ص) واستعمال الموجهات التي تترك الخيار للسامع، اتخاذ القرار المقنع والمناسب له، لكن غرور كسرى دفعه إلى تمزيق الكتاب، لأن طغيانه وتملق الخدم، جعله يتجبر ولا يقبل بهذا النوع من الخطابات.
نتيجة 5: ما يمكن الخروج به من هذا العامل، هي أن النبي (ص) كان يسير وفق برنامج محدد المعالم من لدن رب العزة، من أجل إنقاذ الأمة من الضلالة، وتصحيح مسارها الاجتماعي والسياسي والعقلاني.
العامل الرابع:
يأتي بعد ذلك العامل الموالي، والممثل بالرسالة الموجهة إلى ملكي عمان، وهما: جيفر وعبد النبي الجلندي، ومنهما يدعو النبي (ص) إلى قيصر (ملك الروم). فبالنسبة للملكين يوجه إليهما خطابه الذي يبتدىء كالمعتاد "بالسلام على من اتبع الهدى، ثم يقول: "إني أدعوكم بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، فإني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا، ويحق القول على الكافرين، وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما فإن ملككما زائل، وخيلي تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما".
أما الخطاب الموجه إلى قيصر، فكان كما يلي: "بعد السلام" (أما بعد، فإني أدعوك إلى الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسين" مصداقا لقوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون). (آل عمران/64)
فالألفاظ المميزة في الرسالتين هي: الرسالة للقيصر ولملكي عمان، في تجانس من ناحية قوة الألفاظ المستخدمة حيث نجد مجموعتين، المجموعة الأولى وهي ممثلة بالألفاظ الآتية: [أسلم، بساحتكما، تصلح، أقررتما جيفر]، أما المجموعة الثانية فهي: [أبيت، أنذر، حيا، القول، الكافرون].

قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس
أهل البيت و يطهركم تطهيرا)
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي ولفاطمة وحسن وحسين(اللهم هؤلاء اهل بيتي فأذهب عنهم الرجس)
اللهم صلي على محمد وآل محمد

عصام البُكير
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 241
اشترك في: الأحد مايو 08, 2005 12:21 am
مكان: اليمن - صنعاء

محمد وانطلاقة الاسلام

مشاركة بواسطة عصام البُكير »

ميريسيا إلياد
محمد وانطلاقة الاسلام

الله، إله أعلى للعرب:
إن محمداً هو الوحيد من بين كل مؤسسي الأديان العالمية الذي تعرف سيرته الذاتية في خطوطها الكبرى. وهذا لا يعني معرفة سيرته الداخلية. مع ذلك، فإن المعلومات التاريخية التي بحوزتنا حول حياته والتجارب الدينية التي هيأت وقررت إلهامه النبوي، على الحضارة العربية من جهة، وعلى البنى الاجتماعية لمكة من جهة أخرى، هي معلومات قيمة لدرجة عالية. إنها لا تفسر أبداً شخصية محمد ولا نجاح نبؤته، ولكنها تسمح لنا بالتأكيد على إبداعية الرسول. ان من المهم الحصول، ، أقله بالنسبة لأحد مؤسسي الأديان العالمية، على توثيق تاريخي غني، ليعرف بشكل أفضل القوة لعبقرية دينية، وبعبارة أخرى، يؤخذ بعين الاعتبار إلى أية درجة تستطيع عبقرية دينية استعمال الظروف التاريخية من أجل انجاح رسالتها، وباختصار، من أجل تغيير جذري لمجرى التاريخ ذاته.
لقد ولد محمد في مكة ما بين 567 و 572، وكان ينتمي إلى القبيلة القوية قريش، بقي يتيماً في سن السادسة، وتولى جده لأبيه بدئياً تربيته. وبعدئذ تولاها عمه أبو طالب وفي سن الـ 25 دخل في خدمة أرملة غنية ـ خديجة. وأجرى عدة سفرات مع القوافل في سورية. وبعد وقت قصير حوالي 595 تزوج معلمته، رغم فارق السن (خديجة كانت في سن الأربعين). وقد كان الزواج سعيداً، وان محمد الذي سيتزوج تسع نساء بعد موت خديجة، لم يتخذ زوجة أثناء حياتها. وقد كان له سبعة أولاد، ثلاث أولاد ماتوا في سن مبكرة، وأربعة بنات (الشابة الأكثر فاطمة، ستتزوج علياً، ابن عم محمد). إن مكانة خديجة في حياة محمد ليست مهملة: انها هي التي شجعته أثناء محن (وحيه الديني).
لم تكن حياة محمد معروفة بشكل جيد قبل الكشوفات الأولى حوالي 610. وحسب التقليد، سبق هذه الكشوفات فترات من التحنث في مغاور وأماكن أخرى منعزلة، وممارسة غريبة عن الاعتقاد بالألوهية المتعددة لدى العرب. ومن الراجح جداً. أن محمداً كان متأثراً جداً بالمتيقظين، وبالصلوات والتأملات لبعض الرهبان المسيحيين الذين كان صادفهم، أو الذين سمع كلامهم في أسفاره. وقد كان أحد أبناء عم خديجة مسيحياً. إضافة إلى ذلك فإن بعض اصداء النبؤة المسيحية، أرثودكسية أو مذهبية (نسطورية، غنوصية)، كما هو الأمر بالنسبة للأفكار والممارسات العبرية، كانت معروف في المدن العربية. إلا أنه لم يكن يوجد سوى القليل جداً من المسيحيين في مكة، وأغلبيتهم في شرط متواضع جداً (على الأرجح عبيد، أو احباش) وغير متعلمين بما فيه الكفاية.. أما اليهود فقد كانوا يتواجدون ضمن كتلة، في يثرب (المدينة مستقبلاً).
مع ذلك، لا يبدو، في عصر محمد، ان ديانة العرب المركزية تغيرت بتأثيرات يهودية ـ مسيحية. وبالرغم من انحدار هذه الديانة ظلت تحافظ على بنيتها التعددية للألوهية السامية. وقد كان المركز الديني، مكة، واسمها مذكور في المدونة البطلومية (القرن 11ق.م)، ماكورابا، وهو لفظ مشتق من ماكورابا السبئي بمعنى (معبد). وبعبارة أخرى، ان مكة كانت في الأصل مركزاً احتفالياً، نمت المدينة حوله تباعاً. وفي وسط المنطقة المخصصة، الحمى، كان يوجد معبد الكعبة (لغويا ـ مكعب)، بناء في العراء، ومركب في إحدى زواياه الحجر الأسود الشهير، المعتبر وكأنه من أصل سماوي. وقد كان الطواف حول الحجر يشكل في العصور الماقبل الاسلام، تماماً كما هو الأمر اليوم، شعيرة هامة في الحج سنوياً إلى عرفات الكائنة على مسافة بضعة كيلومترات من مكة. وكان رب الكعبة معتبراً انه الله (ذات الاسم مستعمل من قبل اليهود والمسيحيين العرب لدلالة على الاله). غير ان الإله منذ زمن سابق أصبح الهاً متصاعداً، ردت عبادته إلى بعض التقدمات والأضحيات من البواكير التي كانت تقدم إليه مشاركة مع مختلف الآلهة المحلية. وأكثر أهمية لدرجة بعيدة، كانت الربات الثلاثة لشبه الجزيرة العربية المركزية: مناة (القدر) واللات مؤنث الاله، والعزى (القوية). وباعتبارهن (بنات الله) كن يتمتعن بشعبية.
إن الموحدين الوحيدين بين المعاصرين لمحمد كانوا بعض الشعراء والرائيين المعروفين تحت اسم (الحنيفيين)، وكان بعضهم متأثراً بالمسيحية، ولكن الأخروية الخاصة بالمسيحية (وفيما بعد الاسلام) كانت غريبة عندهم، كما يبدو إنها كانت غريبة عن العرب بصورة عامة.
إن البعثة النبوية لمحمد قد انطلقت بعد عدد من التجارب الوجدية التي تشكل نوعاً ما المقدمة للكشف. وفي السورة ]53 ـ 1 ـ 8[ اشارة إلى أول الكشوفات، (علمه شديد القوى. ذو مرة فاستوى، وهو بالأفق الأعلى. ثم دنا فتدلى. فكان قاب قوسين أو أدنى. فأوحى إلى عبده ما أوحى).
ورآه محمدمرة ثانية بالقرب من شجرة عناب (ولقد رآه. نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى. عندها جنة المأوى. ولقد رأى من آيات ربه الكبرى) ]5 ـ 8 و 13 ـ 18[ اشارة إلى أول الكشوفات، (علمه شديد القوى. ذو مرة فاستوى، وهو بالأفق الأعلى. ثم دنا فتدلى. فكان قاب قوسين أو أدنى. فأوحى إلى عبده ما أوحى).
ورآه محمد مرة ثانية بالقرب من شجرة عناب (ولقد رآه. نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى. عندها جنة المأوى. ولقد رأى من آيات ربه الكبرى) ]5 ـ 8 و 13 ـ 18[ وفي السورة (81: 22 ـ 23) يعود محمد إلى هذه الرؤية (وما صاحبكم بمجنون ـ ولقد رآه بالأفق المبين). وينتج من هذا أن الرؤى ترافقت بكشوفات سمعية وحيدة اعتبرها القرآن كأنها من أصل الهي. وقد سجلت التجارب الصوفية التي قررت مجرى حياته في السيرة المنقولة من قبل ابن إسحاق (سنة 768). وفي الحين الذي كان محمد ينام فيه في الغار حيث أكمل اعتزاله السنوي، أتى إليه الملاك جبريل ممسكاً بيده كتاباً وطلب إليه أن يقرأ (اقرأ). وبما ان محمد قد رفض أن يقرأ ضغط الملاك (الكتاب على فمه وأنفه) بقوة كادت أن تختفه، وعندما كرر عليه في رابع مرة (اقرأ) سأله محمد: (ماذا يجب أن أقرأ؟) عندئذ أجاب الملاك: (اقرأ (بمعنى بشّر) باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم) ]96: 1 ـ 5[، فقرأ محمد، وابتعد عنه الملاك (لقد تيقظت، وكان هذا، كما لو كنت كتبت بعض الشيء في قلبي). وترك محمد الغار وما كاد يصل إلى وسط الجبل. حتى سمع صوتاً سماوياً يقول له: (يا محمد، أنت رسول الله وأنا جبرائيل) فرفعت رأسي نحو السماء لأنظر، وها هو جبرائيل كان على شكل رجل جالس في الأفق، وجنباه متشابكان). وكرر عليه الملاك الكلمات نفسها، ونظر إليه محمد دون أن يتمكن من التقدم أو التراجع (ولم استطع تحديد منطقة من السماء دون رؤيته).
إن رسمية هذه التجارب، تبدو مؤكدة. وان المقاومة الأساسية لمحمد تعيد إلى الذاكرة تردد الشامانيين والعديد من الصوفيين والأنبياء في تقبل الارشاد الرباني لهم. ومن الراجح أن القرآن لا يذكر الرؤية ذات العلاقة بالمنام في الغار ليتجنب الاتهام بأن النبي مأخوذ بالجن. ولكن اشارات أخرى من القرآن تؤكد حقيقة الالهام. وكان املاء الوحي غالباً ما يترافق باختلاجات عنيفة وبضغوط حمى أو برداء.
محمد رسول الله:
خلال ما يقرب من ثلاث سنوات، أوصل رسالاته الالهية الأولى فقط لزوجته خديجة ولبعض أصدقائه الخلص (ابن عمه علي، وابنه بالتبني زيد والخليفتين مستقبلاً أبو بكر وعثمان). وبعد بعض الوقت لم ينقطع الوحي من الملاك وتجاوز محمد فترة الضيق وتثبيط الهمة، وأعادت رسالة الهية جديدة تشديد عزيمته (ما ودعك ربك ولا قلى ]...[ وسيعطيك ربك فترضى) ]93: 3 ـ 5[ ..
وبناء على رؤيا عام 612 أمره باعلان الوحي، وبدأ محمد رسالته، ومنذ البدء، أكد على قوة ورحمة الله الذي كون الانسان (من علقة دم) ]96: 1 ـ 8 ـ 17 ـ 22 ـ 87[ وعلمه القرآن وعلمه البيان ]55: 1 ـ 4[ وخلق السماء والجبال والأرض والجمال ]88: 17 ـ 20[ . ويذكر عطف الخالق (بالاشارة إلى حياته الخاصة): (ألم يجدك يتيماً فآوى) ]93: 3 ـ 80[، ويقارن الصفة الآنية لكل وجود بأزلية الخالق: (كل من عليها فان ويبق وجه ربك ذي الجلال والإكرام). مع ذلك يبدو مدهشاً ان محمد في إعلاناته الأولى لم يذكر وحدانية الله، ما عدا استثناء واحد (لا تضعوا مع الله آلهة أخرى) ]51 ـ 51[، وعلى الأرجح يتعلق بتغيير متأخر. وثمة نغمة أخرى من النبوءة هي اقتراب الدينونة وبعث الأموات. (فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير، على الكافرين غير يسير). وهنالك تذكير واشارات في أقدم السور، ولكن أكثرها اكتمالاً يوجد في بداية سورة متأخرة: (إذا السماء انشقت ]...[ . إذا زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها ( = أجساد الموتى) ]99 ـ 2[ وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت، يا أيها الانسان انك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه. فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً ]...[ فأما من أوتي كتابه من وراء ظهره فسوف يدعو ثبوراً، ويصلى سعيراً ]84: 1 ـ 12[. وفي العديد من السور المملاة فيما بعد طور محمد الأوصاف الرؤية: ستغير الجبال مكانها، وستذوب جميعاً وتصبح رماداً وهباء وستنفجر القبة السماوية، وسيطفأ القمر وتخمد النجوم. ويتكلم النبي كذلك عن حريق كوني (كوزمي) وعن قذائف من نار ونحاس مذاب مطلقة على البشر (يرسل عليكم شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران) ]55: 35[.
وفي النفخة الثانية في الصور سيبعث الأموات ويخرجون من قبورهم. وستكون القيامة برمشة عين. ووراء السماء المدمرة سيظهر عرش الله، مسنداً بثمانية ملائكة ومحاط بقطعان سماوية، وسيحشر الناس أمام العرش، الصالحون على اليمين والكافرون على الشمال. عندئذ تبدأ المحاكم على أساس العلاقات المدونة في كتاب أعمال البشر (اللوح المحفوظ). وسيدعى أنبياء الماضي ليشهدون بأنهم بلغوا الوحدانية وانهم انذروا معاصريهم. والكافرون سيدانون بعذب الجحيم. مع ذلك فإن محمداً يؤكد دوماً على المسرات التي تنتظر المؤمنين في الجنة، انها بخاصة من نوع مادي: أنهار عذبة، أشجار مثقلة الغصون بالثمار، لحوم من كل نوع، فتيان ولدان (كأنهم لؤلؤ مكنون) يقدمون شراباً لذيذاً، حوريات، طاهرات، أبكار، مخلوقات بصورة خاصة من قبل الله ]56: 26 ـ 43[. لا يتكلم محمد عن (الأرواح) التي تتألم في الجحيم أو تتنعم في الجنة. وبعث الأجساد هو في الواقع خلق جديد. وبما ان الفترة بين الموت والدينونة تشكل حالة من اللاوعي فإن البعث سيكون له انطباع بأن المحاكمة ستكون مباشرة بعد الموت.
وبالنسبة لطغمة قريش الغنية، فإن الاعتراف بمحمد انه الرسول الحقيقي لله كان يقتضي كذلك الاعتراف بسيادة سياسية، وأكثر فداحة أيضاً: إن الوحي المعلن من قبل النبي، كان يدين أجدادهم المشركين في جهنم الدائمة، وهو أمر غير ممكن القبول بالنسبة لجماعة تقليدية. وبالنسبة لقسم كبير من السكان، كانت المعارضة الأساسية (التواضع الوجودي) لمحمد (ما هذا النبي: يأكل الطعام ويدور في الأسواق. لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً) ]25 ـ 7[. لقد سخروا من الوحي واعتبروه مخترعاً من محمد أو أنه موحى به من قبل الجن. وبصورة خاصة اعلانه نهاية العالم وقيامة الأجساد، أثارت السخرية من جهة أخرى، فقد مضى الزمن والكارثة الأخروية تأخرت عن المجيء.
وقد لاموه أيضاً لعدم وجود معجزات (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب تتفجر الأنهار خلالها تفجيراً، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً، أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه. قال سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً) ]15/ 5 ـ 93[.
السفر الوجدي للسماء والكتاب المقدس:
بإيجاز، طلب إلى محمد البرهان على رسمية وحيه النبوي بأن يصعد إلى السماء حاملاً كتاباً مقدساً. وبعبارة أخرى كان من المتوجب على محمد التوافق مع النموذج المشهر من قبل موسى، دانيال، هينوش، ماني والرسل الآخرين الذين بصعودهم إلى السماء التقوا مع الرب وتلقوا من يده الخاصة الكتاب المتضمن الوحي الإلهي، وقد كان هذا السيناريو مألوفاً أيضاً تماماً لدى اليهودية المعيارية والرؤية اليهودية بأكثر مما لدى السامارتيين، وفي الغنوصيات والماندييات ويرجع أصله إلى الملك الأسطوري في ما بين النهرين ايماندوراكي، وهو متضامن مع الايديولوجيا الملكية.
وقد تطورت تبرئات الرسول وردوده على المطاعن بمقدار وتبعاً لما يثيره الكافرون من اتهامات. وكالعديد من الأنبياء والرسل الآخرين قبله، وكبعض أنداده اعتبر محمد وأعلن نفسه الرسول ( = المبعوث) من الله 19: الذي حمل إلى مواطنيه وحياً الهياً. فالقرآن هو (تنزيل رب العالمين) ]36: 193[ (بلسان عربي مبين). فهو إذن معقول تماماً إلى سكان مكة، فإذا استمروا في كفرهم، فذلك لعماهم أمام الآيات السماوية ]23: 68[، وبتكبرهم وطيشهم ]17: 14، 33: 168[. ومن جهة أخرى، فإن محمداً يعلم جيداً إن محناً م ماثلة قد تحملها الرسل المبعوثون قبله من الله: إبراهيم، موسى نوح، داود يوحنا، يسوع. ]21: 66[.
إن الصعود للسماء ـ المعراج ـ هو أيضاً رد على الكافرين. (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا من حوله لنريه من آياتنا) ]17ـ 1[. إن السنة تحدد السفرة الليلية حوالي سنة 617 أو 619، ممتطياً الفرس المجنح البراق، زار محمد أورشليم الأرضية ووصل حتى السماء. وقد وثقت تفاصيل هذه الرحلة الوجدية على شكل موسع في النصوص المتأخرة. ويختلف السيناريو في رواياته. فحسب رواية بعضهم، إن الرسول، على فرسه المجنح. تأمل الجحيم والجنة، وقرب من عرش الله. وإن الرحلة لم تدم سوى لحظة: فالجرة التي قلبها محم6 عند سفره لم تفرغ بعد محتواها عندما عاد لمنزله. وحسب رواية أخرى يبرز على مسرح الحدث السلم الذي تسلقه محمد حتى أبواب السماوات يقوده جبرائيل. ولقد وصل إلى أمام الله وتلقى من فمه ذاته أنه اختير قبل كل الأنبياء الآخرين وانه هو (محمد حبيبه) وقد أسر الله إليه بالقرآن وبعض العلم الباطني الذي يجب على محمد أن لا يعلم به المؤمنين.
إن هذه السفرة الوجدية ستلعب دوراً مركزياً في التصوف واللاهوت الاسلاميين فيما بعد، وانها تبرز خطاً مميزاً لعبقرية محمد والاسلام، وهذا الخط يظهر في الارادة بتمثل وادخال تركيب ديني جديد لممارسات. وأفكار وسيناريوهات أسطورية ـ طقوسية تقليدية.
الهجرة للمدينة:
أخذ وضع محمد والمؤمنين معه يتفاقم باستمرار. وقرر أعيان مكة تجريدهم من حقوقهم القبلية. وفي الواقع، كانت الحماية الوحيدة للعربي انتماؤه إلى قبيلة. ومع ذلك فقد دافع عمه أبو طالب عنه مع انه لم يعتنق الاسلام أبداً. وبعد وفاة أبو طالب، نجح أخوه أبو لهب في تجريد الرسول من حقوقه. وكانت المسألة المطروحة بهذه المقاومة الأكثر عنفاً من قبل القريشيين قد حلت على المستوى اللاهوتي: ان الله ذاته هو الذي أراده. والارتباط الأعمى بتعدد الآلهة (الشرك) كان مقرراً، بكل أزليته، من قبل الله ]16: 39: 10: 75: 6: 39[. (والذين كذبوا بآياتنا صم بكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم). والقطيعة مع الكافرين كانت محتومة (لا أعبد ما تعبدون ولا تعبدون ما أعبد) ]109: 1 ـ 2[.
وحوالي 615، ولكي يضعهم في ملجأ من الاضطهاد، ولأنه خشي أيضاً بعض الانشقاق. شجع محمد مجموعة من 70 ـ 80 مسلماً للهجرة إلى بلد مسيحي، الحبشة، والنبي الذي كان يعتبر في البداية مبعوثاً وحيداً لهدي القرشيين، يتقرب الآن من البدو الرحل وسكان المدينتين الواحتين الطايف ويثرب. ولم ينجح بالنسبة للرحل وبدو الطائف، ولكن اللقاءات مع يثرب (مستقبلاً المدينة) كانت مشجعة.
لقد اختار محمد الهجرة إلى يثرب، لأن الدين التقليدي لم يكن ممتهناً بالمصالح الاقتصادية والسياسية: وحيث كان يوجد كثير من اليهود، إذن الموحدون. وإضافة إلى ذلك، فإن هذه المدينة الواحة، كانت قد تعبت في حرب طويلة داخلية.
وقد قدر بعض القبائل ان رسولاً بنيت سلطته على الدين وليس على القرابة الدموية، يستطيع غض النظر عن العلاقات القبلية ويقوم بدور الحكم. وكانت واحدة من القبيلتين الرئيسيتين قد اعتنقت الاسلام، مؤمنة ان الله قد أرسل محمداً برسالة موجهة إلى كل العرب.
وفي 622، وبمناسبة الحج إلى مكة التقت بعثة مؤلفة من 75 رجلاً وامرأتين من يثرب الرسول سراً وتعاهدت معه بيمين رسمي للقتال في سبيله. وبدأ المؤمنون عندئذ مغادرة مكة جماعات نحو يثرب. ودام اجتياز الصحراء (أكثر من 300كم) تسعة أيام. وكان محمد آخر الذاهبين مصحوباً بحموه أبو بكر. وفي 24 أيلول وصلوا إلى قبا، مزرعة بالقرب من المدينة. لقد تمت الهجرة بنجاح. وبعد بعض من الوقت، دخل الرسول إلى المدينة تاركاً لناقته اختيار المكان المقبل لمقره. والبيت، الذي كان يستخدم مكاناً لتجمع المؤمنين من أجل الصلاة جماعة، لم يجهز إلا بعد سنة، لأنه وجب أيضاً بناء الأحياء لأزواج النبي.
لقد تميز النشاط الديني والسياسي لمحمد في المدينة بجلاء عن نشاطه في الفترة المكية. وهذا التغيير بارز في السور المنزلة بعد الهجرة: انها تتعلق بصورة خاصة بتنظيم جماعة المؤمنين (الأمة). ومؤسساتها الاجتماعية والدينية. وإن النية اللاهوتية للاسلام قد استكملت في الفترة التي ترك فيها محمد مكة، ولكنه في المدينة أثبت قواعد العبادة (الصلوات، الصيام، الزكاة، الحج). ومنذ البدء، أثبت محمد ذكاء سياسياً خارقاً، فقد حقق دمج المسلمين الآتين من مكة (المهاجرين) مع المعتنقين للدين في المدينة (الأنصار)، وذلك بإعلانه انه رئيسهم الأوحد، وان العصبية القبلية قد ألغيت إذن. ومنذئذ لم يعد يوجد سوى جماعة المسلمين، المنظمة بصفتها جمعية ثيوقراطية. وفي الدستور المعلن، على الأرجح سنة 623 قرر محمد ان المهاجرين والأنصار (أي الأمة) يشكلان شعباً واحداً متميزاً عن الآخرين كلهم، لقد أكد مع ذلك على الحقوق والواجبات للقبائل الأخرى وأيضاً لقبائل اليهود الثلاثة. وبلا ريب، ان كل السكان في المدينة كانوا غير راضين عن مبادرات محمد، ولكن، اعتباره السياسي كان ينمو بمقدار وتبعاً لنجاحاته الحربية. غير ان الوحي الجديد الموحى إليه من قبل الملاك جبرائيل هو الذي ضمن له نجاح مقرراته.
وكان الازعاج الأكبر لمحمد في المدينة انتقاض القبائل اليهودية الثلاث. فقبل هجرته، اختار محمد القدس كقبلة للتوجه في الصلوات، حسب الممارسة اليهودية، وما أن استقر في المدينة، حتى استعار طقوساً إسرائيلية أخرى، وتشهد السور المنزلة في السنوات الأولى من الهجرة بجهوده لأجل إقناع اليهود بالإيمان (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير. فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير) ]5 ـ 21[. وقد أجاز محمد لليهود الحفاظ على تقاليدهم الطقوسية إذا اعترفوا به كنبي. ولكن اليهود بدوا دائماً الأكثر عداوة. وزعموا وجود خطأ في القرآن، مؤكدين على ان محمد لم يعرف العهد القديم.
وتمت القطيعة في 11 شباط 624، عندما تلقى الرسول وحياً جديداً محدداً للمسلمين أن يتوجهوا، من أجل الصلاة ليس باتجاه القدس وإنما باتجاه مكة ]2: 136[. وقد أعلن محمد بحدسه العبقري ان الكعبة بنيت من قبل إبراهيم وابنه إسماعيل ]2: 127[. وان سب وجود المعبد الآن تحت رقابة عبدة الأوثان إنما هو فقط بسبب ذنوب الأجداد. ومنذئذ (للعالم العربي معبده،وهو أكثر قدماً من معبد أورشليم. وان لهذا العالم وحدانيته الحنيفية ]...[ وبهذه الاشارة، فإن الاسلام الذي كان انحرف فترة قصيرة عن أصوله، رجع إليها أبدياً). إن النتائج الدينية والسياسية لهذا القرار بارزة جداً: فمن جهة، ان مستقبل وحدة العرب سيكون مضموناً، ومن جهة أخرى، فإن التفكرات المتأخرة حول الكعبة ستصل إلى لاهوت المعبد تحت دلالة الأقدمين، إذن (حقائق)، توحيدية. والآن فقد انفصل محمد عن اليهودية كما انفصل عن المسيحية: هاتان (الديانتان الكتابيتان) اللتان لم تعرفا كيف تحافظان على نقائهما الأصلي. ولأجل هذا فإن الله أرسل آخر رسول، والاسلام هو المقدر له الآن أن يخلف المسيحية كما خلفت هذه اليهودية.
من النفي إلى النصر:
من أجل البقاء، كان محمد و (المهاجرون) مكرهين لشن غزوات ضد قوافل المكيين. وأول ظفر لهم، كان غزوة بدر، في آذار 627 ]2: 123[، وقد فقدوا 14 رجلاً، وفقد المشركون 70 قتيلاً و 40 أسيراً. وكانت الغنيمة، على جانب من الأهمية، كذلك الأمر فدية الأسرى، وقد وزعت من قبل محمد، بحصص متساوية على المحاربين.
وفي السنة التالية، غلب المسلمون في أحد من قبل جيش مكي يقدر بثلاثة آلاف رجل، وقد جرح محمد نفسه. غير ان الحدث الفاصل في هذه الغزوة الدينية تمثل بالمعركة المسماة معركة (الخندق). لأنه بناء على آراء رجل فارسي، حفرت خنادق أمام طرق الدخول إلى المدينة الواحة. وحسب النصوص ان 4000 مكي حاصروا المدينة عبثاً خلال اسبوعين، ولكن أعصاراً شتتهم على غير هدى. وأثناء الحصار لاحظ محمد التصرفات المشبوهة لبعض المسلمين المنافقين وقبيلة قريظة آخر قبيلة يهودية بقيت في المدينة. وبعد النصر، اتهم اليهود بالخيانة فأمر باستئصالهم.
وفي نيسان/ 628، أوحي إلى محمد مجدداً ]48: 27[ بالثقة في ان المؤمنين يستطيعون ممارسة الحج إلى الكعبة. ورغم تردد بعضهم، فإن قافلة المؤمنين اقتربت من المدينة المقدسة. ولم ينجحوا في الدخول إلى مكة، ولكن الرسول حول هذا الفشل أو نصفه إلى نصر: فقد طلب إلى المؤمنين اليمين على الإيمان المطلق (48: 10)، وبكونه ممثلاً مباشراً لله. ولقد كان بحاجة إلى مثل هذه اليمين لأنه بعد قليل من الزمن عقد مع المكيين هدنة يمكن لها أن تبدو مهينة، ولكنها سمحت بإجراء الحج في السنة القادمة، وأكثر من هذا، أن القرشيين ضمنوا للمسلمين سلاماً، لمدة عشر سنوات.
وفي سنة 623، دخل الرسول مصحوباً بألفي شخص من المؤمنين إلى المدينة المتروكة موقتاً من المشركين، واحتفل بشعائر الحج. وبدا نصر الاسلام قريباً، إضافة إلى ذلك، فإن عدداً من القبائل البدوية وحتى ممثلي الأوليغارشية القرشية بدؤوا في اعتناق الاسلام. وفي ذات السنة أرسل محمد بعثة إلى مؤتة، على حدود الامبراطورية البيزنطية، ولم تنقص خيبة البعثة من تقديره. وقد كانت مؤتة تدل على الاتجاه الرئيسي الذي يتوجب على الاسلام التبشير فيه، وفهم خلفاء محمد هذا جيداً.
وفي كانون ثاني 630 ومع ألف شخص (حسب السنة) وبحجة ان المكيين قد ساندوا قبيلة معادية، علق محمد الهدنة واحتل المدينة بدون مقاومة. ودمرت أصنام الكعبة، والمعبد المطهر وأزيلت كل امتيازات المشركين، وما أن أصبح محمد سيد المدينة المقدسة حتى أظهر تسامحاً كبيراً، وباستثناء ستة من أعتى خصومه الذين أعدموا منع الثأر ضد السكان. وموجهاً بغريزته السياسية التي تدعو إلى الإعجاب، لم يقم محمد عاصمة دولته التيوقراطية في مكة فعاد بعد الحج إلى المدينة.
وفي آذار ـ شباط من 632 رجع محمد إلى مكة مدفوعاً بشعور خاص، وكان هذا آخر حج له. وفي هذه المناسبة رسم بدقة كل تفاصيل شعائر الحج، التي ما زالت تتبع حتى يومنا هذا. وقد أوحى إليه الملاك بهذا الكلام: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً) ]5: 3[. وحسب السنة، فإن محمد في نهاية هذا الحج بالوداع سيدعو ربه قائلاً اللهم هل بلغت: وردد الناس: (نعم لقد بلغت).
وبالعودة إلى المدينة، في الأيام الأخيرة من آيار 632، وقع محمد مريضاً، ومات في حزيران في أحضان زوجته المفضلة عائشة.
رسالة القرآن:
إن تاريخ الأديان وتاريخ العالم لم يعرفا مثالاً يمكن مقارنته بمشروع محمد. فغزوة مكة وإقامة دولة تيوقراطية يثبتان ان العبقرية السياسية للرسول لم تكن بأقل من عبقريته الدينية صحيح ان الظروف ـ في الدرجة الأولى منها النزاعات الأوليغارشية المكية ـ كانت ملائمة للرسول. ولكنها لا تفسير لا اللاهوت. ولا النبوءة، ولا نجاح محمد ولا خلود ابداعه: الاسلام والتيوقراطية المسلمة.
ومن غير المشكوك فيه ان الرسول عرف مباشرة أو بصورة غير مباشرة بعض المفاهيم والممارسات الدينية لليهود والمسيحيين، ففيما يتعلق بالمسيحية كانت معلوماته، على الأكثر، تقريبية. لقد تكلم عن يسوع ومريم بلغة أكد أنهما ليسا من طبيعة الهية ]5: 16 ـ 20[ لأنهما مخلوقان ]3: 59[. وأشار في كثير من المناسبات إلى ولادة المسيح، ولمعجزاته ولرسله (مساعديه)، وخلافاً لرأي اليهود، وبالتوافق مع الغنوصيين فإن محمداً أنكر الصلب وموت يسوع. مع ذلك، أنكر دوره كمخلص، ورسالة العهد الجديد والأسرار والصوفية المسيحية.
وأخيراً، وباظهار القرآن لهم، رفع مواطنيه على ذات صف الشعبين الآخرين (أهل الكتاب) وشرف اللغة العربية بصفتها لساناً طقوسياً والهياً، بانتظار أن تصبح لغة ثقافة مسكونية.
ومن وجهة المورفولوجيا الدينية، فإن رسالة محمد، كما صيغت في القرآن، تمثل التعبير الأكثر نقاء للتوحيد المطلق. فالله هو اله، الاله الوحيد. انه تام الحرية المطلقة، كلي العلم، وكلي القدرة، انه خالق الأرض والسماوات، وخالق كل ما هو موجود، و(يضيف إلى الخلق ما يريد) ]35: 1[. وبفضل هذا الخلق المستمر تتلو الليالي الأيام. وينزل المطر من السماء و (الفلك تجري في البحر) ]2: 164[. وبعبارة أخرى، ان الله لا يحكم الايقاعات الكونية فحسب، وإنما أيضاً أعمال البشر. كل أفعاله مع ذلك حرة، وفي آخر المطاف تحكمية، لأنها ترتبط بقراره فقط.
والانسان ضعيف، ليس على أثر الخطيئة الأصلية وإنما لكونه ليس سوى مخلوق، وعلاوة على ذلك. انه يوجد في عالم أعيدت له القداسية على أثر الوحي الموصول من قبل الله إلى آخر أنبيائه. كل تصرف ـ فيزيولوجي، نفسي، اجتماعي تاريخي ـ بالعقل البسيط الذي ينجز بفضل الله، يوجد تحت قضائه، لا شيء حر، ومستقل عن الله في العالم، ولكن الله رحيم، وان نبيه أظهر ديناً أكثر بساطة من الديانتين التوحيديتين السابقتين. والاسلام لم ينشئ كنيسة وليس عنده كهنوت، والعبادة يمكن أن تتم في أي مكان، وليس من الضروري ممارستها في معبد. والحياة الدينية منظمة بمؤسسات هي في ذات الحين معايير قانونية، وبخاصة الأركان الخمسة للإيمان. والركن الأهم هو (الصلاة)، العبادة القانونية، متضمنة (السجودات الخمس اليومية، والثاني هو الزكاة أو المساعدة القانونية، والثالث، صوم رمضان، والرابع هو الحج، والخامس يتضمن الإقرار بالإيمان، الشهادة أي ترداد الصيغة لا اله الا الله ومحمد رسول الله.
ومع التسليم بقابلية خطأ الانسان، فإن القرآن لم يشجع التنسك ولا الرهبنة. (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إن الله لا يحب المسرفين) ]7 ـ 30[. وعلى كل حال فإن القرآن لا يتوجه بالخطاب إلى القديسين والكاملين وإنما لكل البشر. وقد حدد محمد عدد الزوجات الشرعيات بأربعة ]4: 3[. وبدون أن يحدد عدد الإماء والعبيد. أما بالنسبة للفوارق الاجتماعية فهي مقبولة ولكن كل المؤمنين متساوون في الأمة. والرق لم يلغ، مع ذلك، فإن شرط العبودية كان أفضل مما هو عليه في الامبراطورية الرومانية.
إن (سياسة) محمد تشبه السياسة البارزة في مختلف أسفار العهد القديم. انها مستوحاة مباشرة أو بصورة غير مباشرة من الله. وان التاريخ العالمي هو الظهور الغير منقطع لله حتى انتصارات المؤمنين هي من إرادة الله فالحرب الشاملة والدائمة هي إذن لا مفر منها بهدف إهداء العالم بأثره للتوحيد. وعلى كل حال، فإن الحرب هي مفضلة على الردة وعلى الفوضى.
ويجب كذلك أن يؤخذ في الحسبان السنة الشفاهية المنقولة في الحديث والتي هي أيضاً، ستضفي الشرعية لعدد من التفسيرات والتعليمات.
فيضان الاسلام في البحر المتوسط والشرق الأوسط:
تماماً كما هو الأمر بالنسبة للعبرانيين والرومان، فإن الاسلام ـ خاصة في مظهره الأول ـ رأى في الأحداث التاريخية مشاهد لتاريخ مقدس. انها الانتصارات العسكرية الاستعراضية المتحصلة من الخلفاء الأول الذين ضمنوا بدئياً استمرارية الحياة وبالتالي الانتصار للاسلام. وفي الواقع، ان موت محمد فجر أزمة كان يمكن أن تكون محتومة للديانة الجديدة. وحسب سنة توصلت لتكون مقبولة من أكثرية المسلمين، فإن محمداً لم يعين خليفة وقد اختير أبو بكر والد زوجته المفضلة عائشة، ليكون خليفة، حتى قبل دفن الرسول. ومن جهة أخرى كان معروفاً إيثار محمد لعلي زوج ابنته فاطمة ووالد حفيديه اللذين كانا في حياته الحسن والحسين. وظهر من المحتمل إذن أن يكون محمد قد اختار علياً كخليفة. ولكن من أجل انقاذ وحدة الأمة، قبل علي وأنصاره اختيار أبو بكر. وكما ان هذا الأخير كان متقدماً في السن، فإن علياً لم يكن ليشك أبداً في انه سيخلفه سريعاً، وما يهم هنا، كان تجنب أزمة مصيرية للاسلام. وقد كان سبق أن بدأت قبائل البدو تتحلل، مع ذلك فإن الحملات المشرعة فوراً من قبل أبي بكر نجحت في إخضاعها. وفوراً بعد ذلك. نظم الخليفة غزوات ضد سورية الإقليم الغني الخاضع للسيادة البيزنطية.
ومات أبو بكر بعد سنتين في 634، ولكنه كان قد أسمى كخليفة واحداً من قواده عمر. وتتابعت أثناء خلافة هذا الاستراتيجي الكبير انتصارات المسلمين بإيقاع مذهل. وبانتصارهم في معركة اليرموك غادر البيزنطيون سورية في 636. وسقطت انطاكية في 637 وقرطاجة في 694 وقبل نهاية القرن السابع ساد الاسلام أفريقيا الشمالية، سورية فلسطين، آسيا الوسطى، ما بين النهرين والعراق، وثبتت بيزنطة وحدها ولكن رقعتها تقلصت بشكل بارز.
مع ذلك، ورغم هذه الانتصارات التي لا مثيل لها، فإن وحدة الأمة كانت موضع شك بشكل جسيم. لقد عين عمر ستة من الصحابة لانتخاب خليفة عندما جرح بجرحه القاتل من قبل عبد فارسي، وقد تجاهل هؤلاء (عليا، وشيعته واختاروا صهراً آخر للرسول عثمان (644 ـ 656). وعثمان المنتمي للقبيلة الارستقراطية الأمويين، الخصوم القدامى لمحمد وزع المهمات الأساسية في الامبراطورية على أعيان مكة. وبعد اغتياله من قبل بدو الواحات المصريين والعراقيين، أعلن علي خليفة من قبل المدينيين، وبالنسبة للشيعة الذين لم يعترفوا بأية خليفة من خارج أسرة الرسول وأحفاده، كان علي الخليفة الحقيقي الأول.
ومع ذلك فإن عائشة وعدداً من رؤساء مكة اتهموا علياً بمؤامرته في اغتيال عثمان. وتقابل الحزبان في معركة سميت بمعركة الجمل لأنها دارت حول جمل عائشة. وأقام علي عاصمته في مدينة من العراق، ولكن خلافته عورضت من قبل حاكم سورية معاوية (حمو الرسول؟) وابن عم عثمان. وقد رفع جند معاوية القرآن على رؤوس رماحهم عندما عرفوا ان المعركة خاسرة بالنسبة لهم. فقبل علي تحكيم الكتاب، ولكنه، مدافع عنه بشكل سيئ، من قبل ممثله، تنازل عن حقه. على أثر هذه الاشارة من الضعف تركه بعض المقاتلين الذين عرفوا منذئذ باسم الخوارج، واغتيل علي في 661، وأعلن أشياعه الغير كثيرين، نجله البكر الحسن خليفة له. ثم ان معاوية الذي سبق اختياره خليفة من قبل السوريين في القدس نجح في إقناع الحسن بالتنازل عن الخلافة لمصلحته.
لقد كان معاوية رئيساً عسكرياً جديراً وسياسياً موهوباً، وقد أعاد تنظيم الامبراطورية وأسس الأسرة الملكية الأولى للخلفاء الأمويين (661 ـ 750). ولكن الخط الأخير لتوحيد الأمة ضاع عندما ذبح الحسين النجل الثاني لعلي في 680 في كربلاء، في العراق مع كل أفراد أسرته تقريباً. ولم يغفر الشيعة مطلقاً لقتلة هذا الشهيد، فأثاروا خلال قرون، ثورات وعصيانات كانت تقمع بوحشية من قبل الخلفاء الحاكمين. ولم يسمح للجماعات الشيعة بالاحتفاء أثناء العشرة الأيام الأولى من شهر المحرم باقامة حفلات عامة إحياء لذكرى الموت المأساوي للإمام الحسين، إلا بدءاً من القرن العاشر.
وهكذا فإنه بعد ثلاثين سنة من موت الرسول، وجدت الأمة مقسمة وبقيت مقسمة حتى يومنا هذا ـ إلى ثلاثة أحزاب: أكثرية المؤمنين، السنيين أي أنصار السنة (التطبيق والتقليد) تحت قيادة الخليفة الحاكم، والشيعة المخلصين لنسب أول خليفة حقيقي علي والخوارج الذين اعتبروا أن الجماعة وحدها لا الحق باختيار رئيسها وعليها أيضاً الواجب بعزله إذا كان مجرماً بذنوب ثقيلة.
أما بالنسبة لتاريخ الامبراطورية المؤسسة من قبل الخلفاء الأول، فإنه يكفينا أن نذكر الأحداث الأكثر أهمية. فقد استمر التوسع العسكري حتى 715، عندما أجبر الأتراك جيشاً عربياً لترك إقليم أوكسس. وفي 717، فشلت الحملة البحرية ضد بيزنظة بخسائر باهظة. وفي 737 سحق شارل هارتل ملك فرنسا هجوم العرب قرب تور وأجبرهم على الانسحاب من الجانب الآخر من البيرينية. تلك هي نهاية السيادة البحرية للامبراطورية العربية. وستكون الفيضانات المقبلة وغزوات الاسلام من عمل مسلمين متحدرين من أرومات اتنية أخرى.
إن الاسلام ذاته بدأ يحور بعض بنياته الأصلية. ومنذ وقت سابق كان هدف الحرب المقدسة كما عرفها محمد ـ اعتناق غير المؤمنين للاسلام ـ وكان هذا الهدف يحترم أقل فأقل. وقد فضلت الجيوش العربية اخضاع المشركين بدون أن تهديهم للإيمان، بهدف أن تستطيع فرض ضريبة عليهم أكثر ثقلاً. وما هو أكثر من ذلك، فإن المهتدين لم يكونوا يتمتعون بذات الحقوق التي للمسلمين. وبدءاً من 715 فإن التوتر بين العرب ومعتنقي الاسلام الجديد أخذ يتفاقم باستمرار، فهؤلاء الأخيرون كانا على أهبة دعم كل عصيان يعدهم بالمساواة مع العرب. وبعد بضع سنوات من الفوضى والصراعات المسلحة، انهارت الأسرة الملكية الأموية، في 750، وحل محلها أسرة ملكية هامة العباسيون. وقد خرج الخليفة الجديد منتصراً بفضل مساعدة الشيعة خاصة. ولكن وضع المخلصين لعلي لم يتغير أبداً، وقد خنق الخليفة العباسي الثاني المنصور (754 ـ 775) بالدم عصياناً شيعياً. وعلى العكس فإن الفروق بين العرب والمؤمنين الجدد أمحى نهائياً تحت حكم العباسيين.
إن الخلفاء الأربعة الأولى حافظوا على مركز الخلافة في المدينة ولكن معاوية أقام عاصمته امبراطوريته في دمشق. ومنذئذ تنامت التأثيرات الهيلنستية والفارسية والمسيحية تباعاً أثناء حكم الأمويين. وهي تتبدى بصورة خاصة في التزيينات الدينية والدنيوية. وقد استعارت الجوامع الكبرى الأولى في سورية القبة من الكنائس المسيحية. وان القصور والفيلات والحدائق، والتزيينات الجدارية والموازييك احتذت نماذج الشرق الأدنى الهللنستية.
إن العباسيين مددوا وطوروا هذه العملية من التمثل للتراث الثقافي الشرقي وللبحر المتوسط. وأخذ الاسلام يقيم حضارة مدينية، مؤسسة على البيروقراطية والتجارة. وأخذ الخلفاء يتراجعون عن وظيفتهم الدينية: وأصبحوا يعيشون منعزلين في قصورهم، منيطين بالعلماء اللاهوتيين وفقهاء القانون ـ العناية بمعالجة المسائل اليومية للمؤمنين.
وقد استقر المنصور وخلفاءه بكل أبهة الأباطرة الساسانيين، وقد اعتمد العباسيون بخاصة على البيروقراطية، الفارسية في أكثريتها وعلى الجيش الملكي المبني على الارستقراطية العسكرية الإيرانية. وان الإيرانيين وقد اعتنقوا الاسلام بالجملة رجعوا إلى النماذج ا لسياسية والادارية والسلوكية الساسانية، وان الطراز الساساني والبيزنطي قد ساد في الهندسة
قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس
أهل البيت و يطهركم تطهيرا)
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي ولفاطمة وحسن وحسين(اللهم هؤلاء اهل بيتي فأذهب عنهم الرجس)
اللهم صلي على محمد وآل محمد

أضف رد جديد

العودة إلى ”مجلس الدراسات والأبحاث“