يمكن تحمبل هذا الكتاب ضمن مجموع رسائل الإمام زيد بن علي عليهم السلام من:
http://hamidaddin.net/ebooks/Rasael.chm
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
أما بعد: فإني أوصيك بتقوى اللّه الذي خلقك ورزقك، وهو يميتك ويحييك، فهذه نعم اللّه التي عَمَّت الناس، فهي على كل عبد منهم، فأحقُّ ما نظر فيه المرء المسلم وتعاهد من نفسه أمر آخرته ودينه الذي خُلِقَ له، وليس كل من وجب حق اللّه عليه يهتم بذلك من أمر آخرته، وإن كان يسعى لدنياه بصيراً بما يصلحها به، ويصلحه منها، فإن اللّه جل ثناؤه قال لقوم يعلمون:
﴿يَعْلَمُوْنَ ظَاهِراً مِنْ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُوْنَ﴾[الروم: 7].
فنعوذ بالله العظيم أن يُغْفِلَنا عن أمر آخرتنا شغلٌ من أمر دنيانا، فإن شغلهما ليس بواحد، قال اللّه جل ثناؤه:
﴿مَنْ كَانَ يُريدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيْهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُريدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُوْماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةِ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوْراً﴾[الإسراء: 18 - 19].
وقد رأيتَ ما وقع الناس فيه من الاختلاف، تبرأوا [من بعضهم] وتأولوا القرآن برأيهم على أهوائهم،[و] اعتنقت كل فرقة منهم هوى، ثم تولوا عليه، وتأولوا القرآن على رأيهم ذلك ، بخلاف ما تأوله عليه غيرهم، ثم برئ بعضهم من بعض، وكلهم يزعم فيما يُزَيَّنُ له أن على هدى في رأيه وتأوله، وأن مَنْ خالفه على ضلالة أو كفر أو شرك، لابُدَّ لكل أهل هوى منهم أن يقولوا بعض ذلك.
وكل أهل هوى من أهل هذه القبلة يزعمون أنهم أولى الناس بالنبي صلى اللّه عليه وآله، وأعلمهم بالكتاب الذي جاء به، وأنهم أحق الناس بكل آية ذكر اللّه فيها صَفْوَةً أو حَبْوَةً أو هدى لأمة محمد صلى اللّه عليه وآله، وكلهم يزعم أن من خالفهم - في رأيهم وتأويلهم - من أهل بيت نبيهم برؤا منه، وأن أهل بيت نبيهم صلى اللّه عليه وآله لن يهتدوا إلا بمتابعتهم إياهم.
وقد عرفت أن أهل تلك الأهواء يُعرَفون وإن لم نسمهم بأسمائهم التي يُسَمَّون بها، وإن لم أصف قولهم الذي يقولون به، فكيف يستقيم لرجل فَقُهَ في الدين أن يسمي هؤلاء كلهم مؤمنين، [و] أمة واحدة على هدى وصواب وهم يتبرأ بعضهم من بعض، ويقتل بعضهم بعضا؟
فإن قلت: هم أمة محمد صلى اللّه عليه وآله لأنهم كانوا مجتمعين في عهده، كما أمرهم اللّه عز وجل. قلنا: نعم، فلما تفرقوا كما تفرق من كان قبلهم وقد نهوا عن التفرق صاروا أمماً كما كان من قبلهم حين تفرقوا بعد أن كانوا أمة واحدة، قال اللّه تبارك وتعالى:
﴿ وَاعْتَصِمُوْا بِحَبْلِ اللّه جَمِيْعاً وَلاَ تَفَرَّقُوْا وَاذْكُرُوْا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْن قُلُوْبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانَاً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُوْنَ﴾ [آل عمران: 103]. وليس الإخوان في الدين بالذين يتبرأ بعضهم من بعض، ويقتل بعضهم بعضاً، قال اللّه تبارك وتعالى:
﴿وَلاَ تَكُوْنُوْا كَالَّذِيْنَ تَفَرَّقُوْا وَاخْتَلَفُوْا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيْمٌ﴾[آل عمران: 105].
وقد بيَّن اللّه لكم أمر من كان قبلَ أمةِ محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، بني إسرائيل كانوا أمَّة في عهد موسى صلى اللّه عليه، فَلمَّا تَفَرَّقوا سمَّاهم اللّه أمَماً، فقال:
﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِيْ الأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَالِحُوْنَ وَمِنْهُمْ دُوْنَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُوْنَ﴾[الأعراف: 168]. بلوا لأنَّهم تفرقوا بعد موسى، يزعُمُون كُلُّهم أنهم مُتَّبِعون لموسى مصدقون بالتَّوراة ويَستقبلون قِبْلَة واحدة، قال اللّه تبارك وتعالى:
﴿لَيْسُوْا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةً قَائِمَةً﴾[آل عمران: 113] فَسمَّاهم اللّه أهلَ الكتاب، ثم سمى أهلَ الحقِّ منهم أمةً قائمة، ثم وصَفَها، فقال:
﴿يَتْلُوْنَ آيَاتِ اللّهِ آنَاءَ اللَّيْل وَهُمْ يَسْجُدُوْنَ يُؤْمِنُوْنَ بَاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُوْنَ بِالمَعْرُوْفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُسَارِعُوْنَ فِيْ الخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِيْنَ﴾[آل عمران: 113 - 114].
فكُل فرقة من أهل هذه القِبْلة نصبوا أدياناً يَتَأوَّلون عليها ويتبرأون ممن خالفهم، فهم أمَّةٌ على هُدًى كانوا أم على ضَلالة، قال اللّه جَلَّ جلاله:
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيْمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً للَّهِ حَنِيْفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ﴾[النحل:120]. فسمَّاه اللّه حين كان على دين لم يكن عليه أحَدٌ غيره: أمَّةً. قال اللّه جل ثناؤه لقوم اتَّبَعوا ضلالة آبائهم:
﴿إَنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُوْنَ﴾[الزخرف: 23].
وكذلك تفرَّقت هذه الأمَّةُ بَعْدَ نبيها صلى اللّه عليه وآله وسلم، أمَماً، كما تَفرقت بنو إسرائيل بعد مُوسى أمماً، وقد قال اللّه جل ثناؤه:
﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوْسَى أُمَّةٌ يَهْدُوْنَ بِالحَقِ وَبِهِ يَعْدِلُوْنَ﴾[الأعراف: 159].
فلم يُخْرِج اللّه منهم الحقَ بَعْدَ أنْ جَعَله فيهم، ثم لم يُسمِّهم حين تفرقوا: (أمَّةً واحدة) فكذلك قال اللّه تعالى لهذه الأمة:
﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةً يَهْدُوْنَ بَالحَقِ وَبِهِ يِعْدِلُوْنَ﴾[الأعراف: 181]، وقال:
﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُوْنَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُوْنَ بِالْمَعْرُوْفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُوْنَ﴾[آل عمران:104]، فإن استَطَعْتَ أن تَلْتَمِسَ تلك الأمةَ من أمةِ محمَّد صلى اللّه عليه وآله إذا تَفَرَّقت فَافْعَل، فواللّه ما هي إلا التي استقامت على الأمر الذي تركها عليه نبيُّها صلى اللّه عليه وآله وسلم.
واعلم أنَّما أصاب الناسَ من الفتَن والاختلاف وشَبَّهت عليهم الأمور إلا من قِبَل ما أذكر لك، فأحسن النَّظر في كتابي هذا، واعلم أنك لن تستشفيَ بأوَّل قولي حتى تَبْلغ آخره إن شاء اللّه.
وذلك أنَّهم لم يروا لأهل بَيْت نبيِّهم صلى اللّه عليه فضلا عليهم - يَعْتَرفون لهم به - في قرَابَتِهم من النَّبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولا علماً بالكتاب ينتهون إلى شيء من قولهم فيه، فلما جاز لهم إنكار فضلهم، جاز ذلك لبعضهم على بعض.
وَسُمِّيَ كلُّ من استقبل القبلة وقرأ القرآن - من مؤمن أو مُنافق، أو أعْرَابيّ أو مهَاجِر، أو أعجمي أو عربي - من أمة محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، وجاز لهم - فيما بينهم إذْ لم يروا لأهل بَيْت نبيهم فضلاً عليهم - أن يتأولَ كلُّ مَنْ قرأ القرآن برأيه، ثمَّ يقول هو ومن تابعه على رأيه: نحن أعلم الناس بالقرآن وأهداهم فيه. فخالفهم ضرباؤهم - من الناس في رأيهم وتأولهم - وأكفاؤهم في السنة. وقد قرأوا القرآن مثل قراءتهم، وأقروا من تصديق النبي صلى اللّه عليه وآله بمثل ما أقروا به، فمن هنالك اختلفوا ولا يرجع بعضهم إلى بعض، فانظر فيما أصف لك.
فلعمري إنا لنعلم أن أعلم الناس أعلمهم بالقرآن، وأن أهدى الناس لَمَن عمل به الْمُتَّبِع لما فيه، ولقد قال اللّه جل ثناؤه:
﴿إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِيْ للَّتِيْ هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِيْنَ الَّذِيْنَ يَعْمَلُوْنَ الصَالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيْراً﴾[الإسراء: 9].
ولكن انظر - إذا تفرق الناس وكلهم يُقِرُّ بالكتاب وبالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، وبعضهم ينتحل الهدى دون بعض - هل في كتاب اللّه عز وجل تفضيل لبعض أهل هذه القبلة على بعض؟ [فـ]ينبغي أن تعرف أهل ذلك التفضيل في كتاب اللّه جل ثناؤه، وتُفَضِّلهم بما فضلهم اللّه عز وجل، وتكون بهم مقتدياً.
فإن أحببت أن تعلم ذلك إن شاء اللّه فانظر في القرآن هل بعث اللّه نبياً إلا سمى له أهلا؟ وهل أنزل كتاباً إلا وقد سمى لذلك الكتاب أهلا في كتابه وعلى لسان نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم. ثم قَصَّ عليكم أعمال من نجا منهم وأعمال من هلك منهم، وأخبركم مَنْ كان أهلَ صفوته من الأمم الذين نجوا مع أنبيائهم، ومن كان بقية أهل الحق بعد الأنبياء عليهم السلام.
فإن وجدت في الكتاب أن أهل الأنبياء ومن اتبعهم نجوا مع أنبيائهم، وأن بقية الحق من الأمم كانوا ذرية الأنبياء؛ فاعلم أن هذه الأمة لن تنجوَ إلا بمثل ما نجا به مَنْ كان قبلهم، حين اختلفوا في دينهم، وقتل بعضهم بعضاً على دينهم.
ثم انظر هل تجد لنبيكم أهلاً وذُرِيَّة سماهم اللّه في كتابه كما سماهم للأنبياء قبله، وهل كان أهل الأنبياء وذرياتهم نجوا هم ومن اتبعهم، أو هلكوا ونجا غيرهم؟ فإن وجدتهم هم أهل النجاة مع الأنبياء، وهم بقية معادن الحق بعدهم، فاعلم أن هذه الأمة لا تنجو إلا بمثل ما نجا به الأمم من قبلهم.
وإنا لنرجو من اللّه جل ثناؤه أن يجعل لنا من الفضل بقرابته صلى اللّه عليه وآله وسلم، على أهل الأنبياء كفضل ما جعل اللّه لنبينا صلى اللّه عليه وآله عليهم؛ لأن اللّه قال:
﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلْنَاسِ تَأْمُرُوْنَ بِالْمَعْرُوْفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُوْنَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانِ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُوْنَ وَأَكْثَرُهُمْ الفَاسِقُوْنَ﴾[آل عمران: 110]، ولعلك إن شاء اللّه تعرف في آخر ما في هذا تفسير ما أجملت لك في أوله وتعرف بذلك من الكتاب ما يهدي ولا قوة إلا بالله.
فمن زعم أن أهل هذه القبلة كلهم أهل صفوة وحبوة وخيرة ليس بينهم تفاضل، فإنا لا نقول ذلك، لأنه ليس كل من اتبع الأنبياء سماهم اللّه أهل صفوة وحبوة وخيرة، وقد سمى اللّه جل ثناؤه أهل صفوة وحبوة وخيرة فقال:
﴿وَربكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ﴾[القصص: 68] وليس كل من خلق اللّه خيرة ولكن يختار منهم من يشاء، فقال:
﴿مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللّه وَتَعَالَىْ عَمَّا يُشْرِكُوْنَ﴾[القصص: 68]، وقال:
﴿وَقُلِ الْحَمْدُلِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِةِ الَّذِيْنَ اصْطَفَى ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُوْنَ﴾[النمل: 59]، فليس كل العباد اصطفى اللّه، ولكن اللّه يصطفي منهم من يشاء وقال عز وجل:
﴿اللّهُ يَصْطَفِيْ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ﴾[الحج: 75]. وإنما فضلت نعم اللّه بين الناس عن غير حول أحد منهم ولا قوة، إلا مناً من اللّه ونعمة، وفضلا يختص به من يشاء.
فكنا أهل البيت ممن اختصه اللّه بنعمته وفضله، حين بعث مِنَّا نبيه صلى اللّه عليه وآله وأنزل عليه كتابه، وقد عَرَفْتَ أن الكتاب يتأوله جهال من الناس يزعمون أنه ليس لأهل هذه القبلة فضل، يَفْضُل به على بعض، من ذلك قول اللّه عز وجل:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوْباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوْا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّه أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللّه عَلِيْمٌ خَبِيْرٌ﴾[الحجرات: 13]، فصدق اللّه وبَلَّغ رسوله، وفي هذه الآية حجة لآل محمد صلى اللّه عليه وآله وبيان فضلهم على الناس.
ما فضل نبينا نفسه ولكن اللّه فضله، وجعل لذريته وقومه الفضل به على الناس، كما جعل ذلك لمن كان قبله من الأنبياء، وجعل أكرم كلِّ قبيلة وشعوبٍ من الناس أتقاهم، كما قال اللّه جل ثناؤه.
وقد فضل اللّه القبائل بعضها على بعض، فجعل التفاضل بين الأنبياء وسائر الناس فقال:
﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّيْنَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوْراً﴾[الإسراء: 55]، وقال:
﴿تِلْكَ الرُسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾[البقرة: 253]، وقال:
﴿وَلَلآْخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيْلاً﴾[الإسراء: 21]، وقال:
﴿أَهُمْ يَقْسِمُوْنَ رَحْمَةَ ربكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيْشَتَهُمْ فِيْ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سِخْرياً وَرَحْمَةُ ربكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُوْنَ﴾[الزخرف: 32]، وقال:
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾[الروم: 22]، فإذا اختلف شيء من خلق اللّه تفاضل، فللرجل الفارسي على الرجل الزنجي فضل - وإن أسلما جميعاً - في نسبهما وألوانهما يعرفه الناس، وللسان العرب فضل على لسان العجم يعرفه الناس، لأنه لا يدخل في هذا الدين أحد من قبائل العجم إلا ترك لسان قومه وتكلم بلسان العرب.
هذا لتعرف إن شاء اللّه أن اللّه قد فضل القبائل بعضها على بعض في ألوانها وألسنتها، وتسخير اللّه بعضها لبعض.
ثم جعل اللّه جل ثناؤه - أفضل القبائل حين فضل بينها في النعم - لِبني إسرائيل - وَهم قبيلة واحدة وبنو أبٍ - فضلا على قبائل بني آدم في زمانهم الذي كانوا فيه، فقال:
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِيْ إِسْرَائِيْلَ الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العَالَمِيْنَ﴾[الجاثية: 16]، وقال موسى عليه السلام لقومه:
﴿يَا قَوْمِ اذْكُرُوْا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيْكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوْكاً وَآتَاكُمْ مَالَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ العَالَمِيْنَ﴾[المائدة: 20]، فكان بنو إسرائيل وهم قبيلة واحدة وبنو أبٍ مفضلين على قبائل بني آدم في الزمن الذي كانوا فيه، بنعمة اللّه عليهم إذ جعل فيهم أنبياء وجعلهم ملوكاً، وأكرمُ بني إسرائيل أتقاهم، كما قال اللّه عز وجل.
وإنما فَسَّرت لك تأول الناس هذه الآية لتعلم أن اللّه جعل لذرية محمد صلى اللّه ولقومه الفضل به، حين بعث اللّه منها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وأنزل الكتاب عليه، وأكرمهم عند اللّه أتقاهم كما قال اللّه عز وجل. وقال لهم:
﴿كَانَ النَّاسُ أُمَةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّيْنَ مُبَشِّرينَ وَمُنْذِرينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيْمَا اخْتَلَفُوْا فِيْهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيْهِ إِلاَّ الَّذِيْنَ أُوتُوْهُ مِنْ بَعْدِ مَاجَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِيْنَ آمَنُوْا لِمَا اخْتَلَفُوْا فِيْهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِيْ مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيْمٍ﴾[البقرة: 213].
فكان الناس في الخلق حين خلق اللّه السموات والأرض وما ذرأ فيهما أمة من خلقه، قال اللّه تبارك وتعالى:
﴿وَمَامِنْ دَابَّةٍ فِيْ الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيْرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِيْ الكِتَابِ مِنْ شَيءٍ ثُمَّ إِلَى ربهِمْ يُحْشَرُوْنَ﴾[الأنعام: 38]، وقال اللّه تبارك وتعالى:
﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِيْ عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِيْ عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِيْ عَلَى أَربعٍ يَخْلُقُ اللّه مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيْرٍ﴾[النور: 45]، وكل شيء فيه روح - ينظر الناس إليه مما في البر - فإنما هو دابة أو طائر، فما تحرك ولم يطر فهو دابة، وليس أمة من الدواب تمشي على رجلين غير الناس، قال اللّه عز وجل:
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِيْ أَحْسَنِ تَقْوِيْمٍ﴾[التين: 4]، ثم قال:
﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَكَ بِربكَ الكَريمِ الَّذِيْ خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَّلَكَ﴾[الانفطار: 6 - 7]، فقوَّمه على رجلين، ثم قال:
﴿فِيْ أَيِّ صُوْرَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾[الانفطار: 8].
وكان فيما بَيَّن اللّه لكم أنه مسخ أناساً فجعلهم في صور الناس فجعلهم قردة وخنازير، فتبارك اللّه رب العالمين.
وسائر الدواب تمشي - كما قال اللّه تبارك اسمه - على بطونها وعلى أربع وعلى أكثر من ذلك، يخلق اللّه ما يشاء، ما تعلمون وما لاتعلمون، وليس هذا بهذا ولا هذا بهذا، ولكنها أمم مختلفة وخلق يعرف بعضه بغير بعض، والدواب كلها كذلك، ليس الإبل بالبقر ولا الغنم بالحمير ولا البغال بالخيل، فهي أمم كما قال اللّه عز وجل، وغيرها من الأمم الدواب والسباع كذلك.
فكان الناس في الخلق أمة من هذه الأمم فَضَّلهم اللّه على غيرهم من خلقه، وسخر لهم ما شاء من خلقه فقال:
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِيْ آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِيْ البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيْرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيْلاً﴾[الإسراء: 70]، فجعلهم اللّه يركبون ظهوراً مما خلق ويشربون من ألبانها ويأكلون لحمها، وقال:
﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِيْ السَّمَوَاتِ وَمَا فِيْ الأَرْضِ جَمِيْعاً مِنْهُ﴾[الجاثية: 13]، فهذه نعمه وفضله. جعل اللّه السماء سقفاً محفوظاً، وسخر لكم ما فيها، وجعل فيها منافع لكم والشمس والقمر والنجوم والرياح والسحاب والمطر، وجعل الأرض فِرَاشاً، وجعل فيها منافع لكم وأنهارها وأشجارها وفجاجها وسبلها وأكنافها.
ثم افترض عليكم عبادته وعَرَّفكم نعمته وبعث إليكم أنبيائه وأنزل عليكم كتابه، فيه أمره ونهيه، وما وعدكم عليه من الجَنَّةَ من طاعته، وما حَذَّركم عليه من النار في معصيته، فقال:
﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيْيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيْعٌ عَلِيْمٌ﴾[الأنفال: 42]، [وقال]:
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْا هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُوْنَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيْمٍ﴾[التوبة: 115].
وكان مما بَيَّن اللّه لكم أن جعل الأنبياء بعضهم ذريةً لبعض، واصطفاهم بذلك على الناس وأكرمهم اختارهم واجتباهم إليه، فقال:
﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىْ آدَمَ وَنُوْحاً وَآلَ إِبْرَاهِيْمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِيْنَ ذُريةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيْعٌ عَلِيْمٌ﴾[آل عمران: 33 - 34]، ثم قال:
﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّيْنِ مَا وَصَّى بِهِ نُوْحاً وَالَّذِيْ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بَهَ إَبْرَاهِيْمَ وَمُوْسَى وَعِيْسَى أَنْ أَقِيْمُوْا الدِّيْنَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوْا فِيْهِ﴾[الشورى: 13].
شَرَعَ لنبيكم صلى اللّه عليه وآله وسلم ما شَرَعَ لهم، وأوصاكم بما أوصاهم، ونهاكم عن التَّفَرُّق كما نهاهم.
فبعث اللّه نوحاً وبينه وبين آدم من القرون ما شاء اللّه على دين آدم، واصطفاه كما اصطفى آدم، ثم مَنَّ اللَّه على نوح فنجاه وأهله إلا مَنْ خَالَفَه، ونجا من اتبعه من المؤمنين، وليس كلُّ من كان مع نوح في السفينة أهلَه، فقال:
﴿اِحْمِلْ فِيْهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَاآمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيْلٌ﴾[هود: 40].
ثم مَنَّ على نوح وأكرمه أن جعل ذُرِيَّتَهُ هم الباقين، وليس كل الباقين ذرية نوح، ثم قال:
﴿ذُريةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوْحٍ﴾[الإسراء: 3]، ثم قال:
﴿اِهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أَمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيْمٌ﴾[هود: 48]، فجعل أهل بقية الحق والبركات - التي يعتصم بها الناس بعد نوح - من ذريته، وقال اللّه تبارك وتعالى:
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوْحاً وَإِبْرَاهِيْمَ وَجَعَلْنَا فِيْ ذُريتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيْرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُوْنَ﴾[الحديد: 26] وقال لإبراهيم عليه السلام:
﴿رَحْمَةُ اللّه وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إَنَهُ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ﴾[هود: 73]. فهذه البركة التي جعلها اللّه في ذريتهما.
وإنما أنبأكم اللّه جل ثناؤه بأنه جعل الكتابَ حيث جَعَلَ النُّبُوة، فقال لنبيكم صلى اللّه عليه وآله وسلم:
﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيْداً بَيْنِيْ وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتَابِ﴾[الرعد: 43].
فليس كتابٌ إلا وله أهلٌ هم أعلم الناس به، ضل منهم من ضل واهتدى من اهتدى.
ثم بعث اللّه تبارك وتعالى إبراهيم صلى اللّه عليه، وبينه وبين نوح صلى اللّه عليه ماشاء اللّه من القرون، فجعل اللّه بقية الحق في ذريته وشيعته، فقال:
﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوْحٌ فَلَنِعْمَ المُجِيْبُوْنَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكَرْبِ العَظِيْمِ﴾[الصافات:75 -76]، ثم قال:
﴿وَإِنَّ مِنْ شِيْعَتِهِ لإِبْرَاهِيْمُ﴾[الصافات:83]، ثم اصطفاه اللّه كما اصطفى نوحاً.
ثم أكرم اللّه إبراهيم إذا جعل بقية الحق في أهله فقال:
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيْمُ لأَبِيْهِ وَقَوْمِهِ إِنَنِيْ بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُوْنَ إِلاَّ الَّذِيْ فَطَرَنِيْ فَإِنَّهُ سَيَهْدِيْنِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِيْ عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُوْنَ﴾[الزخرف: 26 - 28]، والعقبُ: الذرية، فقال:
﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُوْنَ﴾[الزخرف: 28]، فلم يرجع أحد من الأمم إلى الحق بعد إبراهيم صلى اللّه عليه - حين ضلوا بعد أنبيائهم - إلا بذرية إبراهيم، [فـ]هي كلمة الحق التي جعلها اللّه باقية في عقبة.
وقال لنبيكم:
﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا فِيْ قُلُوْبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللّه سَكِيْنَتَةُ عَلَى رَسُوْلِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوْا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيْماً﴾[الفتح: 26] وقال:
﴿أَلَمْ تَرَكَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةً أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِيْ السَّمَاءِ تُؤْتِيْ أُكُلَهَا كُلَّ حِيْنٍ بِإِذْنِ ربهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلْنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُوْنَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيْثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيْثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَالَهَا مِنْ قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِيْنَ آمَنُوْا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِيْ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفَيْ الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِيْنَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾[إبراهيم: 24 - 27]، وقال:
﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِيْ التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِيْ الإِنْجِيْلِ﴾[الفتح: 29]، فقد ضرب اللّه لكم الأمثال في التوراة والإنجيل وفي كتابكم، فكانت ذرية إبراهيم وإسماعيل وإسحاق.
فأما بنو إسحاق فقد قص اللّه عليكم نبأهم لتتعظوا بذكرهم، وهما هاتان الطائفتان اللتان ذكر اللّه في الكتاب فقال:
﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوْهُ وَاتَّقُوْا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُوْنَ أَنْ تَقُوْلُوْا إِنَّما أُنْزِلَ الكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِيْنَ﴾[الأنعام: 155 - 156].
فأما بنو إسماعيل فهم أمِّيون لم يكن لهم كتابٌ، ولم يُبْعَثْ فيهم غيرُ محمدٍ صلى اللّه عليه وآله وسلم، فبعثه اللّه على ملة إبراهيم صلى اللّه عليه ونَسَبَهُ إلى إبراهيم وجعله أولى الناس به حين بعثه ، وبينه وبين إبراهيم ما شاء اللّه من القرون، فقال:
﴿إَنَّ أَوْلَىْ النَّاسِ بِإِبْرَاهِيْمَ لَلَّذِيْنَ اتَّبَعُوْهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا وَاللَّهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِيْنَ﴾[آل عمران: 68]. [و]جعله اللّه تبارك وتعالى خاتم النبيين وأرسله إلى الناس كافة، فليس كل من آمن بمحمد صلى اللّه عليه وآله وسلم من بني إسماعيل، كما ليس كل من اتبع موسى وعيسى عليهما السلام من بني إسحاق صلى اللّه عليه.
وإنما وصَفْتُ لك هذا لتعرف أنه لا يستقيم لمن خالف آل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم من أهل هذه القبلة أن يقول: نحن أهل صفوة اللّه - حين ذكرها في الكتاب - دون آل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولابد لهم إن خالفوا آل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يكونوا أهل هذه الآية - التي ذكر اللّه تعالى فيه الصفوة - دون آل محمد، أو يكون آل محمد أهلها دونهم.
فافهم ما ذكرت لك فإن اللّه تبارك وتعالى قال لنبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
﴿هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِيْ﴾[الأنبياء: 24].
فواللّه إن دين اللّه لَدِيْنُه الذي بعث به النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، وكان المسلمون عليه بعد نبيهم قبل تَفَرُّقِهم، فماذا شُبّه عليكم أيها الناس؟ فواللّه إن الحلال والحلام إلى يوم القيامة، وإن الحرام لحرام إلى يوم القيامة، وإن فريضته لواحدة، وإن حدوده لواحدة، وإن أحكامه فيه لواحدة، وقد قال اللّه عز وجل:
﴿وَتَعَاوَنُوْا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوْا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَاتَّقُوْا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيْدُ العِقَابِ﴾[المائدة: 2]، وإن معصية النبي صلى اللّه عليه ميتاً كمعصيته حياً.
قال اللّه تعالى:
﴿فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القُرُوْنِ مِنَ قَبْلِكُمْ أُوْلُوْا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِيْ الأَرَضِ إِلاَّ قَلِيْلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِيْنَ ظَلَمُوْا مَا اُتْرِفُوْا فَيْهِ وَكَانُوْا مُجْرِمِيْنَ﴾[هود: 116]، وما أهل بيت نبيكم بالمترفين فالله المستعان.
فانظروا من بقية أهل الحق من القرون، فإن اللّه تبارك وتعالى قال لنوح صلى اللّه عليه وسلم:
﴿وَجَعَلَنَا ذُريتَهُ هُمْ الباَقِيْنَ﴾[الصافات: 77]. وقال لبني إسرائيل:
﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوْسَى وَآلُ هَارُوْنَ﴾[البقرة: 248].
فالتمسوا الفضل من قريش حيث جعله اللّه، فبقية الحق منهم، فإن اللّه جل ثناؤه يقول:
﴿اللّه أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾[الأنعام: 124]، فإن كان اللّه ذَهَبَ بنبينا وجعله خاتم النبيين، فإن فيكم أهل وذُرِيَّتَهُ معتصمين بكتاب اللّه.
وقد وعد اللّه المؤمنين والرسول النَّصر والنجاة، قال اللّه عز وجل:
﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا فِيْ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُوْمُ الأَشْهَادُ﴾[غافر: 51].
ثم قال:
﴿ثُمَّ نُنَجِّيْ رُسُلَنَا وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا كَذَلِكَ حَقاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِيْنَ﴾[يونس:103].
وقال:
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِيْنَ أَجْرَمُوْا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِيْنَ﴾[الروم: 47].
وقال:
﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِيْنَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُوْرُوْنَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُوْنَ﴾[الصافات: 171 - 173].
وقال:
﴿لاَ تَجِدُ قَوْماً يؤْمِنُوْنَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّوْنَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُوْلَهُ وَلَوْ كَانُوْا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيْرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كُتِبَ فِيْ قُلُوْبِهِمُ الإِيْمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوْحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِيْ مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِيْنَ فِيْهَا رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُوْا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللّه أِلاَ إِنَّ حِزْبَ اللّه هُمْ الْمُفْلِحُوْنَ﴾[المجادلة: 22].
ثم قال:
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِيْنِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّوْنَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرينَ يُجَاهِدُوْنَ فِيْ سَبِيْلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُوْنَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّه يُؤِتِيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيْمٌ﴾[المائدة: 54].
ثم قال:
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا إِنْ تَنْصُرُوْا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾[محمد: 7].
وقال:
﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إَنَّ اللَّهَ لَقَوِيُّ عَزِيْزٌ﴾[الحج: 40]. وقال:
﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وُرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيْزٌ﴾[الحديد: 25].
وقال:
﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِيْنَ قُتِلُوْا فِيْ سَبِيْلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيْهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾[محمد: 4 - 5 ].
فوعد اللّه المؤمنين النَّصر والهدى على الجهاد، فقال:
﴿وَالَّذِيْنَ جَاهَدُوْا فِيْنَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِيْنَ﴾[العنكبوت: 69]. وقال:
﴿وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ العَالَمِيْنَ﴾[العنكبوت: 6].
وقال تعالى:
﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾[التغابن: 11].
وقال:
﴿وَالَّذِيْنَ آَتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَفْرَحُوْنَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ﴾[الرعد: 36].
وقال:
﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوْا بِهَا بِكَافِرينَ﴾[الأنعام: 89].
وقال:
﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُوْنَ﴾[الزخرف: 44].
ثم سمى لنبيكم صلى اللّه عليه وآله وسلم أهلاً حيث سمى للذين نبأهم أهلا، قال اللّه عز وجل:
﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾[طه: 132]، فهم أهله كما جعل للأنبياء أهلا، فاتَّبَعُوه وأطاعوهُ فيما اخْتَصَّهم به من المواعظ على لسان نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم، ثم قال عز وجل:
﴿قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِيْ القُربى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيْهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُوْرٌ شَكُوْرٌ﴾[الشورى: 23]، وقال:
﴿وَآتِ ذَا القُربى حَقَّهُ﴾[الإسراء: 26]، فنحن ذوو قرباه دون الناس، ثم قال:
﴿إِنَّمَا يُريدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وُيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيْراً﴾[الأحزاب: 33].
وقد أعلم أن جهالا من الناس يزعمون أن اللّه إنما أراد بهذه الآية أزواج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم خاصة، فانظر في القرآن فإن كان إنما جعل أهل الأنبياء أزواجهم في الكتاب الذي أنزله عليهم فصدقوه، وإن كان سَمَّى للأنبياء أهلا سوى أزواجهم فهذه الجهالة بأمر اللّه؟ أرأيت نوحاً ولوطاً عليهما السلام حيث أمرا بترك امرأتيهما، أليس قد كان أهلُهما سواهما؟ قال عز وجل لنوح:
﴿احْمِلْ فِيْهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ مِنْهُمْ﴾[هود: 40].
وقال:
﴿وَإِنَّ لُوْطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِيْنَ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِيْنَ إِلاَّ عَجُوْزاً فِيْ الغَابِرينَ﴾[الصافات: 133 - 135].
وقال ليوسف(ص):
﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيْكَ ربكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيْلِ الأَحَادِيْثِ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوْبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ﴾[يوسف: 6]، أفترى أن آل يعقوب إلا النساء؟ ثم قال:
﴿سَلاَمٌ عَلَى آَلِ يَاسِيْنَ﴾[الصافات: 130].
وقال لإسماعيل (ص):
﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ﴾[مريم: 55].
وقال تعالى - في الصفوة -:
﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وُنُوْحاً وَآلَ إِبْرَاهِيْمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِيْنَ﴾[آل عمران: 33].
وقال:
﴿رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ إِنَّهُ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ﴾[هود:73].
أفترى أن اللّه تبارك وتعالى أراد بهذه الصفوة، وما ذكر من أهل الأنبياء نساءهم، أم رأيت موسى صلى اللّه عليه حين يقول:
﴿وَاجْعَلْ لِيْ وَزِيْراً مِنْ أَهْلِي﴾[طه: 29] أهله الذي سأل منهم الوزير أزواجه؟!
أرأيت إذ يقول لقوم صالح صلى اللّه عليه:
﴿قَالُوْا تَقَاسَمُوْا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُوْلَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُوْنَ﴾[النمل: 49]؟ أليس ترى أن له أهلا وأن له ولياً دون قومه؟ وقال زكريا صلى اللّه عليه:
﴿فَهَبْ لِيْ مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِيْ وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوْبَ وَاجْعَلْهُ ربْ رَضِيّاً﴾[مريم: 5 - 6]، أفلا ترى أن للأنبياء أولياء دون قومهم؟ أفلا ترى أن الأنبياء قَبْلَ محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم أوتوا أهلا فما أهل الأنبياء بأعدائهم، وما أعداء الأنبياء بأهليهم.
فانظروا في أهل نبيكم ومن كان أهل العداوة من قومه، قال اللّه عز وجل:
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِيْنَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوْحِيْ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوْراً وَلَوْ شَاءَ ربكَ مَا فَعَلُوْهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُوْنَ﴾[الأنعام:112]، أرأيت حيث يقول:
﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِيْنَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيْلاً﴾[الأحزاب: 28].
وقال:
﴿عَسَى ربهُ إِنْ طَلَقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً﴾[التحريم: 5]؟ أرأيت لو طلقهن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، ما كان له أهل بيت من أهله وذريته؟ سبحان اللّه العظيم!! إنما يقول جل ثناؤه لهن:
﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِيْ بُيُوْتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيْفاً خَبِيْراً﴾[الأحزاب: 5].
وقال:
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا لاَ تَدْخُلُوْا بُيُوْتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرينَ إِنَاهُ﴾[الأحزاب: 53]، إنما يريد اللّه جل شأنه بهذه الآيات المسكن من البيوت.
وأما الآية التي ذكر اللّه فيها التطهير فإنما هو بيت النبي صلى اللّه عليه أهله وذريته، وإنما قال:
﴿لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيْراً﴾[الأحزاب: 33] ولم يقل إنما يريد اللّه ليذهب عنكنَّ الرِّجْسَ، ثم قال:
﴿يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ﴾[الأحزاب: 23] فلم يُفَضِّلهن على أحد من النساء بآبائهن، ولا بأمهاتهن، ولا بعشيرتهن، ولكن إنما جعل اللّه الفضل لهن لمكانتهن من النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، فكيف لا يكون لأهل بيته الفضل على بيوت المسلمين، ولورثته على ورثتهم، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم هو جدنا، وابن عمه المهاجر معه أبونا، وابنته أمنا، وزوجه أفضل أزواجه جدتنا، فمن أهل الأنبياء إلا من نزل بمنزلتنا من نبينا صلى اللّه عليه وآله، والله المستعان.
وقال اللّه تبارك وتعالى:
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُريةً﴾[الرعد: 38] وكذلك فعل اللّه به صلى اللّه عليه وآله وسلم جعل له أزواجاً وذرية، ثم بين ذلك في الكتاب حين أمره أن يُبَاهِلَ النصارى في عيسى بن مريم صلى اللّه عليه، فقال:
﴿إِنَّ مَثَلَ عِيْسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُوْنُ الحَقُّ مِنْ ربكَ فَلاَ تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرينَ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيْهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّه عَلَى الكَاذِبِيْنَ﴾[آل عمران: 59 - 61]، فلم يكن تبارك وتعالى يأمره أن يدعو أبناءه وليس له أبناء، فكان ابناه يومئذ الحسن والحسين عليهما السلام، لم يكن له ابن يومئذ غيرهما.
وقال اللّه عز وجل وهو يذكر نعمته على إبراهيم:
﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوْبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوْحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُريتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوْبَ وَيُوْسُفَ وَمُوْسَى وَهَارُوْنَ وَكَذَلِكَ نَجْزِيْ الْمُحْسِنِيْنَ وَزَكَريا وَيَحْيَى وَعِيْسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِيْنَ﴾[الأنعام: 84 - 85]، فَنَسَبَ اللّه عز وجل عيسى إلى إبراهيم في الكتاب، وجعله من ذريته، ثم قال:
﴿وَإِسْمَاعِيْلَ وَاليَسَعَ وَيُوْنُسَ وَلُوْطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العَالَمِيْنَ﴾[الأنعام: 86]، ثم قال:
﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرياتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيْمٍ﴾[الأنعام: 87]، فذكر اللّه جل ثناؤه أهل الخيرة من أبناء الأنبياء وإخوانهم، ثم قال:
﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوْبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيْهِ مَا تَعْبُدُوْنَ مِنْ بَعْدِيْ قَالُوْا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيْمَ وَإِسْمَاعِيْلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُوْنَ﴾[البقرة: 133]، فجعل اللّه إسماعيل وهو عم يعقوب من آبائهم، هذا لتعرف منزل أهل الأرحام في كتاب اللّه، ثم قال:
﴿وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُريتُهُمْ بِإِيْمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُريتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِءٍ بِمَا كَسَبَ رَهِيْنٌ﴾[الطور: 21].
وقال في صاحب موسى صلى اللّه عليه حين أقام الجدار:
﴿فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيْمَيْنِ فِيْ الْمَدِيْنَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوْهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ ربكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ ربكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيْلُ مَالَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً﴾[الكهف: 82]، فكان تأويل ذلك مما لم يعلم موسى، حَفِظَ اللّه الغلامين بصلاح أبيهما، فمن أحق أن يرجوا الحفظ من اللّه بصلاح من مضى من آبائه من ذرية نبيكم؟!
فنحن والله ذرية النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وأهل بيته، مُتَّبِعُوْنَ له، معتصمون بالكتاب الذي جاء به، نُحَرِّمُ حَرَامَهُ ونُحِلُّ حلاله، ونُصَدِّقُ به، ونعلم منه أفضل مما يعلم الناس من تلاوته، ونؤمن من تأويله بما يعلم الناس منه وما يجهلون، لم يَدَّع الناس عندنا مظلمة من أموالهم التي قتل بعضهم بعضاً عليها، ولم نجاهدهم إلا على أن يضعوها مواضعها، ويأخذوها بحقها، ويعطوها أهلها الذين سماهم اللّه لهم؛ فعلى ذلك قَاتَلْنَا مَنْ قَاتَلْنَا منهم، واحتججنا عليهم بأنهم لايتبعونا إذا دعوناهم، ولا يهتدون بغيرنا إذا تركناهم، ولا يزدادون في ذات بينهم إلا بعداً وتفرقاً.
فإن قلت: إن من آل محمد من ينبغي للناس أن يتفرقوا عنه، فإن فيهم بعض ما يكره لهم.
فلعمري إن فيهم لما في الناس من الفضل والذنوب، ولكن ليس ذلك في جُلِّ القوم إنما هو في خَوَاصِّهم، فمن ظهر عليه عيبه عُوقب به من أتاه، وإن سُتِرَ عليه عيبه فأمره إلى اللّه، إن شاء عاقبه وإن شاء غفر له، ما لم يَدْعُ الناس إلى ضلالة ولم يضل بهم عن حق، ولم يتأول شيئاً يعلمه في الإسلام بدعةً أو سنةَ باطلٍ يَتَّبِعه الناس عليها، ومن اتبعه عليها ضل هو ومن اتبعه كبقية من عمل بذلك فَضَلَّ وأَضَلَّ.
قال اللّه تبارك وتعالى:
﴿لِيَحْمِلُوْا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِيْنَ يُضِلُّوْنَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُوْنَ﴾[النحل: 25] .
وإني إنما قلت لك هذا كي لا تزهد في حق آل محمد صلى اللّه عليه وسلم إن ترى في بعضهم عيوباً، ولكن أحق من وجب على الناس الإقبال إليه من آل محمد صلى اللّه عليه من ائتمنه المسلمون على نفسه وغيبه، ثم رضوا فهمه وعلمه بكتاب اللّه وتَبْيِيْن الحق فيه، وسنة نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فهدى اللّه عز وجل به الناس إلى ذلك، وأهداهم الموثوق في حديثه وفهمه وفضله، ووصفه الحَّق بما يُعَرِّف المسلمين من معالم دينهم، ثم الاستقامة لهم عليه، ليس له أن يجوز بهم عن الحق وليس لهم أن يبتغوا غيره ما ستقام لهم، ولم يكن آل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم والحمدلله - على حال منذ فارقهم نبيهم صلى اللّه عليه وآله وسلم - إلا وفيهم رضاً عند من عرفه من المسلمين، في أنواع الخير التي يَفْضُل بها الناس، عَرَفَ ذلكَ مِنْ حقهم مَنْ عَرَفَه وأنكره من أنكره.
ولعمري ماكُل قريش - وإن كانوا قوم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم - أهل فضل، فقد قال اللّه للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم:
﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحَقُّ﴾[الأنعام: 66]، فإن منهم لأَوَّل من كَذَّبه، وإن منهم لأول من صَدَّقَه، فما جعل اللّه حقهم على الناس واحداً، حَقُّ من صدقه كحق من كذبه، فما عظمت نعمة اللّه على أحد من خلقه إلا زاد حق اللّه عليه تعظيماً.
ومِنْ أداء حق اللّه وشكر نعمته العمل بطاعته والاجتناب لمعاصيه؛ فمن أَخَذَ يُفَضِّل نَفْسَهُ على الناس بغير نعمة من اللّه سيقت إليه أوسلفت، فهو حين يعرف الناس أنه عاص لله لاحَقَّ له ولا نعمة، إنما الحق لمن شكر النعمة وعمل بالطَّاعة التي إنما كان قريش ابتليت بها ولو آمن الناس وابتلي الناس بهم وسلطانهم عليهم وملكتهم إياهم وانتحالهم هذا الأمر دون الناس والقيام به عليهم.
ما كل من قرأ القرآن من قريش يعلمه ولا يعدل فيه، لقد قال جل ثناؤه لبني إسرائيل:
﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّوْنَ لاَ يَعْلَمُوْنَ الكِتَابَ إِلاَ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَ يَظُنُّوْنَ﴾[البقرة: 78]، ثم قال:
﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوْءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدُ لَهُ مِنْ دُوْنِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيْراً﴾[النساء: 123].
وقال:
﴿كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِيْ قُلُوْبِ الْمُجْرِمِيْنَ لاَ يُؤْمِنُوْنَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِيْنَ﴾[الحجر: 12 - 13]، فليس يكون الإيمان به الكلام والعمل بغيره، ولقد قال اللّه عز وجل:
﴿وَيَقُوْلُوْنَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُوْلِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَريقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أَوْلَئِكَ بَالْمُؤْمِنِيْنَ﴾[النور: 47] .
وكان مما جاء به من سنة الأولين أن قال:
﴿مَثَلُ الَّذِيْنَ حُمِّلُوْا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوْهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِيْنَ كَذَّبُوْا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِيْ القَوْمَ الظَّالِمِيْنَ﴾[الجمعة: 5] وما يحملها إلا القائم بها . قال اللّه عز وجل:
﴿يَاأَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيْمُوْا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيْلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ ربكُمْ﴾[المائدة: 68].
وقال لهذه الأمة:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِيْ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِيْ قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِيْ الأَرْضَ لِيُفْسِدَ فِيْهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ وَإِذَا قِيْلَ لَهُ اتَّقِ اللّه أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المِهَادَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِيْ نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوْفٌ بِالعِبَادِ﴾[البقرة:204 - 207]. وإنما الفساد في الأرض: العمل بمعصية اللّه؛ قالت الملائكة:
﴿أَتَجْعَلُ فِيْهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيْهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾[البقرة: 30] وإنما هلاك الحَرْثِ هلاكُ الدين، قال اللّه عز وجل:
﴿مَنْ كَانَ يُريدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِيْ حَرْثِهِ﴾[الشورى: 20]. وحرث الآخرة: العمل الذي يدين اللّه به عباده من الخير؛ وإنما هلاك النَّسْلِ: أمْرُ نَسْلِ الناس أن يحملوا غير دين الحق. قال اللّه جل ثناؤه:
﴿وَبَدأَ خَلْقَ الإِنْسَانَ مِنْ طِيْنٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مَنْ مَاءٍ مَهِيْنٍ﴾[السجدة: 7 - 8].
وقال عز وجل:
﴿وَكَذَلِكَ نَفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِيْنَ سَبِيْلُ المُجْرِمِيْنَ﴾[الأنعام: 55].
وقال:
﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُوْلَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيْلِ المُؤْمِنِيْنَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَمَ وَسَاءَتْ مَصِيْراً﴾[النساء: 155].
فهما سبيلان كما قال اللّه عز وجل:
﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِيْ مُسْتَقِيْماً فَاتَّبِعُوْهُ وَلاَ تَتَّبِعُوْا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيْلِهِ﴾[الأنعام 153]. ثم قال:
﴿ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوْنَ﴾[الأنعام: 153]،
﴿أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِيْنَ كَالْمُجْرِمِيْنَ مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُوْنَ أَفَلاَ تَذَكَّرُوْنَ﴾[القلم: 35 - 36].
وقال:
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِيْنَ اجْتَرَحُوْا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِيْنَ آمَنُوْا وَعَمِلُوْا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُوْنَ﴾ [الجاثية: 21].
وقال:
﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُوْنَ﴾[السجدة: 18].
وقال:
﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِيْنَ آمَنُوْا وَعَمِلُوْا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِيْنَ فِيْ الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِيْنَ كَالْفُجَّارِ﴾[ص: 28].
وقال:
﴿وَمَا يَسْتَوِيْ الأَعْمَى وَالْبَصِيْرُ وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا وَعَمِلُوْا الصَّالِحَاتِ وَلاَ المُسِيءُ قَلِيْلاً مَا تَتَذَكَّرُوْنَ﴾[غافر: 58].
وقال:
﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوْا أَنْ يَقُوْلُوْا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُوْنَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِيْنَ صَدَقُوْا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِيْنَ أَمْ حَسِبَ الَّذِيْنَ يَعْمَلُوْنَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُوْنَا سَاءَ مَا يَحْكُمُوْنَ﴾[العنكبوت: 1- 4].
وقد بين اللّه لكم ما أمر به نبيكم صلى اللّه عليه وآله وسلم، وما أمركم أن تعتصموا به بعده، فقال عز وجل:
﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِيْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ﴾[الزخرف: 43]، وقال:
﴿وَالَّذِيْنَ يُمَسِّكُوْنَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوْا الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيْعُ أَجْرَ المُصْلِحِيْنَ﴾[الأعراف: 170].
وقال:
﴿اُدْعُ إِلَى سَبِيْلِ ربكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِيْ هِيَ أَحْسَنُ﴾[النمل: 125].
وقال:
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِيْ مِنْ الْمُسْلِمِيْنَ﴾[فصلت: 33].
وقال:
﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُوْنَ بَصِيْرٌ﴾[هود: 122].
وقال:
﴿إِنَّ الَّذِيْنَ قَالُوْا ربنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوْا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوْا وَلاَ تَحْزَنُوْا وَأَبْشِرُوْا بِالْجَنَّةِ الَّتِيْ كُنْتُمْ تُوْعَدُوْنَ﴾[فصلت: 30].
ثم قال:
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيْ رَسُوْلِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوْ اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيْراً﴾[الأحزاب: 21] فهذا عهد اللّه إليكم، وقال:
﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُوْلٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِيْ اللَّهُ الشَّاكِرينَ﴾[آل عمران: 144].
فواللّه لئن ترك الناس أمر اللّه، فالله لا يدع أمره، وقال تبارك وتعالى:
﴿أَفَلَمْ يَسِيْرُوْا فِيْ الأَرْضِ فَيَنْظُرُوْا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِيْنَ مَنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرينَ أَمْثَالُهَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِيْنَ آمَنُوْا وَأَنَّ الكَافِرينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ﴾[محمد: 10 - 11].
ثم قال:
﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيْدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيْزٍ﴾[فاطر:16 - 17]، وقال:
﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آياَتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِيْنَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِيْنَ﴾[النور: 34].
فانظروا في ذكر من كان قبلكم، وما جاء من مثلهم، هل يستقيم لأحد - اتبع الكتاب من اليهود والنصارى من قِبَل العرب والعجم - أن يقول نحن صفوة اللّه دون آل عمران؟ أو يقول نحن ورثنا الكتاب دونهم، ونحن أعلم بالكتاب منهم؟ فمن قال ذلك منهم فإن القرآن يكذبه، قال اللّه جل ثناؤه:
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوْسَى الهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِيْ إِسْرَائِيْلَ الْكِتَابَ هُدًى وَذِكْرَى لأُوْلِيْ الأَلْبَابِ﴾[غافر: 53 - 54]، وقال:
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوْسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُنْ فِيْ مِريةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِيْ إِسْرَائِيْلَ وَجَعَلْنَا مَنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُوْنَ بِأَمْرِنَا﴾[السجدة: 23-24]، هذا ذكر بني إسرائيل في كتابهم.
وبين لكم أنه اصطفى آل عمران، وأنه أورثهم الكتاب من بعد موسى، وأنه جعل منهم أئمة يهدون بأمره، ثم بين لكم في كتابه أنه اصطفى آل إبراهيم كما اصطفى آل عمران، ثم قال:
﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِيْنَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾[فاطر: 32].
فإن زعم من خالف آل محمد صلى اللّه عليه من أهل هذه القبلة أنهم هم الذين أورثوا الكتاب، وأنهم هم أهل الصَّفوة، وإنما ذكر اللّه عز وجل آل إبراهيم دون آل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، [فهم أولى بآل إبراهيم] أم آل محمد أولى بآل إبراهيم ؟ وقال جل ثناؤه:
﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيْمَ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيْماً﴾[النساء: 54]، ثم ذكر ذلك في آي من الكتاب ستمر بهن وتعرف إن شاء اللّه أن لآل محمد صلى اللّه عليه منزلة في الصفوة والحبوة ليست لغيرهم، مع أنا نعرف أن اللّه عز وجل قد جعل كُلَّ من تولى قوماً في الدين معهم، وإن لم تكن النسبة واحدة، فقال:
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا لاَتَتَّخِذُوْا اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِيْنَ﴾[المائدة: 51]، ثم قال مثل ذلك في هذه الأمة:
﴿وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا وَهَاجَرُوْا وَجَاهَدُوْا فِيْ سَبِيْلِ اللّه وَالَّذِيْنَ آوَوْا وَنَصَرُوْا أُوْلَئِكَ هُمْ المُؤْمِنُوْنَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَريمٌ﴾[الأنفال: 74]، ثم قال:
﴿وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوْا وَجَاهَدُوْا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ وَأُوْلُوْا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِيْ كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيْمٍ﴾[الأنفال: 75]، صدق اللّه تبارك وتعالى وبَلَّغت رسله صلى اللّه عليه أجمعين، فبنوا إسرائيل بعضهم أولى ببعض في الأرحام، وبنوا إسماعيل بعضهم أولى ببعض في الرحم، إذا كانت لهم مع الرحم الولاية في الدين، فنحن أولى الناس بمحمد وإبراهيم صلى اللّه عليهما في الرحم، وأولاهم في التصديق به في الدين، جعل اللّه عز وجل لذرية محمد وأهل بيته ومن هاجر معهم من قريش الفضل على غيرهم من المسلمين وجعلـ[ـه] لهم في خواص الكتاب، قال اللّه عز وجل:
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا ارْكَعُوْا وَاسْجُدُوْا وَاعْبُدُوْا ربكُمْ وَافْعَلُوْا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ وَجَاهِدُوْا فِيْ اللّه حَقَّ جِهَادِهِ﴾ يقول: في سبيل اللّه حق جهاده،
﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِيْ الدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيْكُمْ إِبْرَاهِيْمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِيْنَ مِنْ قَبْلُ﴾[الحج: 77]، وفي هذا إنما قال اللّه تبارك وتعالى:
﴿مِنْ قَبْلُ﴾. في دعوة إبراهيم وإسماعيل، ذلك قوله عز وجل:
﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيْمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيْلُ ربنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيْعُ العَلِيْمُ ربنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُريتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيْمُ﴾[البقرة: 127 - 128] فهذا من دعاء إبراهيم وإسماعيل صلى اللّه عليهما من قَبْلِ محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، ثم سماه في الكتاب الذي بعث به محمداً صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال:
﴿وَلِتَكُوْنُوْا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُوْنَ الرَّسُوْلُ عَلَيْكُمْ شَهِيْداً﴾[البقرة: 143]، ثم قال إبراهيم وإسماعيل:
﴿ربنَا وَابْعَثْ فِيْهِمْ رَسُوْلاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيْهِمْ﴾[البقرة: 129]، فهم ذرية إبراهيم وإسماعيل وهم دعوتهما قبل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم.
ولم تكن الدعوة إلا لذرية إسماعيل، قال اللّه عز وجل في قول إبراهيم:
﴿ربنَا إِنِّيْ أَسْكَنْتُ مِنْ ذُريتِيْ بِوَادٍ غَيْرَ ذِيْ زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ ربنَا لِيُقِيْمُوْا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِيْ إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُوْنَ﴾[إبراهيم: 37]، فهم الذين لزموا الحرم من ذرية إبراهيم حتى انتهت إليهم دعوته، فبعث اللّه تبارك وتعالى منهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وجعل منهم أمة مسلمة، قال اللّه جل ثناؤه:
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُوْنُوْا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاِس وَيَكُوْنَ الرَّسُوْلُ عَلَيْكُمْ شَهِيْداً﴾[البقرة: 143]. والوسط: العدل. قال تعالى:
﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُوْنَ﴾[القلم: 28]، وقال تعالى:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُوْلٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾[إبراهيم: 4]، وقال:
﴿وَمَا كَانَ اللّه لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْا هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَا يَتَّقُوْنَ إِنَّ اللّه بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيْمٍ﴾[التوبة: 115].
ثم بعث اللّه جل ثناؤه محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم بلسان قومه وجعله رسولا إلى من ليس على لسان قومه، قال اللّه تبارك وتعالى:
﴿قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّيْ رَسُوْلُ اللّه إِلَيْكُمْ جَمِيْعاً﴾[الأعراف: 158]. وكانت الأمة المسلمة - في دعوة إبراهيم وإسماعيل - من اتبع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من قريش وهاجر معه وتعلموا الكتاب والحكمة وبلغوا القرآن منه بلسانه وألسنتهم.
وكان لمحمد صلى اللّه عليه وآله وسلم أهلا وذرية دون قومه، فآمنوا به وصَدَّقوه واتبعوه، وذكر اللّه الأنصار ينصرهم واتباعهم، وجعل باب الهجرة والإيمان إليهم وإلى بلدهم.
وقال اللّه عز وجل في الكتاب - حين فرض الفرائض وأمر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بالقسمة -:
﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُوْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُوْلِ وَلِذِيْ الْقُربى وَاليَتَامَىْ وَالْمَسَاكِيْنِ وَابْنِ السَّبِيْلِ كَيْ لاَ تَكُوْنَ دُوْلَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا ءَآتَاكُمُ الرَّسُوْلُ فَخُذُوْهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوْا وَاتَّقُوْا اللَّهَ إِنَّ اللّه شَدِيْدُ العِقَابِ﴾[الحشر: 7]. ثم قال:
﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرينَ الَّذِيْنَ أُخْرِجُوْا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُوْنَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُوْنَ اللّه وَرَسُوْلَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُوْنَ﴾[الحشر: 8]. ثم قال:
﴿وَالَّذِيْنَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالإِيْمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّوْنَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُوْنَ فِيْ صُدُوْرِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوْتُوْا وَيُؤْثِرُوْنَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةً وَمَنْ يُوْقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الُمُفْلِحُوْنَ﴾[الحشر: 9]، فكانت هذه الأنصار. فجعل اللّه تبارك وتعالى النبوة للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ولقرابته الفَضْلَ على الناس والمهاجرين والأنصار، ثم قال:
﴿وَالَّذِيْنَ جَاؤُوْا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُوْلُوْنَ ربنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِيْنَ سَبَقُوْنَا بِالإيِمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِيْ قُلُوْبِنَا غِلاً لِلَّذِيْنَ آمَنُوْا ربنَا إِنَّكَ رَؤُوْفٌ رَحِيْمٌ﴾[الحشر:10]، وقال:
﴿وَالسَّابِقُوْنَ الأَوَّلُوْنَ مِنَ المُهَاجِرينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِيْنَ اتَّبَعُوْهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُوْا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِيْ تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِيْنَ فِيْهَا أَبَداً ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيْمُ﴾[التوبة: 100] ، فليس يكون أحد متابعاً لهم بإحسان حتى يعرف فضل مَنْ فضله اللّه عليه، وأنه إنما كان لهم مثل تابع لهم، فليس لأحد - دَخَلَ في الإسلام - أن يُعَلمهم وهم علموا قبله، ولا أن يرى له مثل حقهم، وقد دخلوا في الإسلام طوعاً بحبوة من اللّه عز وجل احتباهم، فلهم عليه أثرة وليس لأبناء المهاجرين من قريش تفاخر بفضل آبائهم على الناس، ولا تعترف لذرية نبيهم بالفضل عليهم.
فإن قلت: قد اختلفوا. فقد صدقت، وإنما أنبأكم اللّه فقال:
﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيْهِ - يقول في الكتاب - إِلاَّ الَّذِيْنَ أُوْتُوْهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتِ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِيْنَ آمَنُوْا لِمَا اخْتَلَفُوْا فِيْهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيْمٍ﴾[البقرة: 213]، فانظر حين اختلفوا أين كان أهل الحق؟ فإنه لا يشكل أهل الحق.
وإن بني إسرائيل حين اختلفوا سماهم اللّه أهل الكتاب، ثم لم يخرج الحق منهم بل جعله فيهم، قال اللّه عز وجل:
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوْسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُنْ فِيْ مِريةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبِنِيْ إِسْرَائِيْلَ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَةً يَهْدُوْنَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوْا وَكَانُوْا بِآيَاتِنَا يُوْقِنُوْنَ﴾[السجدة: 23 - 24].
وكان مِن مَنِّ اللّه وفضله على آل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم أن اللّه جل ثناؤه جعل له من قومه وعشيرته الأقربين قوماً هم أقربهم إليه، فأمره أن يُنْذِرهم فقال:
﴿وَأَنْذِرْ عَشِيْرَتَكَ الأَقْربيْنَ﴾[الشعراء: 214]. فاستجاب له أقرب الناس رحماً من: عم ، وابن عم، أخُ أب وأم، ولم يستجب له آخرون من مثل منزلتهم في الرحم، فقال اللّه عز وجل:
﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِيْنَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُوْا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِيْ كِتَابِ اللّه مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُهَاجِرينَ﴾[الأحزاب: 6]. فلم يجعل اللّه ولاية أهل الأرحام إلا على الإيمان والهجرة، قال اللّه عز وجل في آية أخرى في المهاجرين:
﴿وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا وَلَمْ يُهَاجِرُوْا مَالَكُمْ مِنْ وِلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوْا﴾[الأنفال: 72]، وقال:
﴿إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوْا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوْفاً كَانَ ذَلِكَ فِيْ الْكِتَابِ مَسْطُوْراً﴾[الأحزاب: 6].
وكان مِن مَنِّ اللّه تبارك اسمه ونعمته على آل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم أن كان منهم أول من استجاب للنبي صلى اللَّه عليه وصَدَّقَهُ وهاجر معه وجاهد على أمره، فكانت له الولاية في الرحم والولاية في الدين، ولم يأخذ عليه أحد بفضل ولايته في الدين، وأخذ على الناس بفضل ولايته في الرحم، مع الولاية في الذين. في كتاب اللّه جل ثناؤه.
فمن قال: إن أولئك ذهبوا وإنما أنتم أبناؤهم فليس لكم فضل بآبائكم. فانظر في آي القرآن، أرأيت حين بعث اللّه محمداً صلى اللّه عليه وآله وسلم، وسمى بني إسرائيل أهم الكتاب في كثير من آي القرآن فقال تعالى:
﴿ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً﴾[آل عمران: 64]، وقال:
﴿وَقُلْ لِلَّذِيْنَ أُوْتُوْا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّيْنَ ءَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوْا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ بَصِيْرٌ بِالْعِبَادِ﴾[آل عمران: 20]، وقال:
﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِيْنَ أُوْتُوْا الْكِتَابِ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾[آل عمران: 19] أفرأيت بني إسرائيل حين سماهم اللّه تعالى أهل الكتاب على لسان محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم فقد اختلف أهل الكتاب، والذين أوتوا الكتاب هم الذين اتبعوا موسى صلى اللّه عليه وأبناؤهم، فإن عرفت أنهم أبناؤهم، فإن عرفت أنهم أبناؤهم فما منعك أن تعرف من أنه قد ثبت لأل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم أنهم هم أهل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وأهل الكتاب؟ كما ثبت ذلك لبني إسرائيل قال اللّه:
﴿وَأُوْلُوْا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِيْ كِتَابِ اللَّهِ﴾[الأنفال: 75] فقد عرفت هذه الأمة أنَّا أهل بيت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وذريته لأن اللّه جل ثناؤه لم يفرق بين النبوة والكتاب أن جعله في أحد من ذرية إبراهيم، قال اللّه جل ثناؤه لإبراهيم:
﴿وَجَعَلْنَا فِيْ ذُريتِهِ النُّبُوَّةٍ وَالْكِتَابِ﴾[العنكبوت: 27]، فكيف يفرقون بين من لم يفرق اللّه بينه فقال:
﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيْمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيْماً فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيْراً﴾[النساء: 54 - 55]، فليس أحد أولى بإبراهيم من محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولا أولى بمحمد منا، قال اللّه جل ثناؤه:
﴿مِلَّةَ أَبِيْكُمْ إِبْرَاهِيْمَ﴾[الحج: 78]، وليس كل هذه الأمة بني إبراهيم، قال اللّه عز وجل لبني إسرائيل:
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِيْ إِسْرَائِيْلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العَالَمِيْنَ﴾[الجاثية: 16]، وقال موسى لقومه:
﴿اذْكُرُوْا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيْكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوْكاً وَآتَاكُمْ مَالَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ العَالَمِيْنَ﴾[المائدة: 20] في زمنهم الذي كانوا فيه، وقال محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم:
﴿هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِيْ﴾[الأنبياء: 24] فقد ذكر اللّه عز وجل أمرهم وأمرنا في الكتاب.
فإن قلت: إن اللّه جعل الكتاب الذي بعث به محمداً صلى اللّه عليه وآله وسلم رحمة للناس وهدى. فبذلك يريد جهال هذه الأمة أن يؤخرونا عنه، فإنه قد قال في التوراة والإنجيل مثلما قال في القرآن، قال: يامحمد
﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيْلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلْنَّاس﴾[آل عمران: 3 - 4].
وقال:
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوْسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القُرُوْنَ الأُوْلَى بَصَائِرَ لِلْنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُوْنَ﴾[القصص: 43].
وقال:
﴿وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوْسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً﴾[هود: 17].
وقال:
﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِيْ جَاءَ بِهِ مُوْسَى نُوْراً وَهُدًى لِلْنَّاسِ﴾[الأنعام: 91]. فجعل اللّه الكتب التي أنزلها كلها هدى للناس، وجعل لها من ذرية إبراهيم أهلا تعرفون ذلك لبني إسرائيل، ولا تعرفونه لآل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم.
قال الله عز وجل:
﴿وَلِيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيْلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيْهِ﴾[المائدة: 47].
وقال اللّه عز وجل:
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيْهَا هُدًى وَنُوْرٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيْئُوْنَ وَالَّذِيْنَ أَسْلَمُوْا لِلَّذِيْنَ هَادُوْا وَالربانِيُّوْنَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوْا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوْا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ﴾[المائدة: 44]، ثم قال لنبيكم صلى اللّه عليه وآله وسلم:
﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِيْنَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يُؤْمِنُوْنَ بِهِ وَمِنْ هَؤْلاَءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ﴾[العنكبوت: 47].
ثم قال:
﴿الَّذِيْنَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُوْنَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُوْنَ بِهِ﴾[البقرة: 121] ومن هؤلاء من يؤمن به، ثم قال تعالى:
﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الخَاسِرُوْنَ﴾[البقرة: 121] فَمَن أمته الذين يتلونه حق تلاوته؟ وهذه الأمة تختلف في تلاوته ويقتل بعضهم بعضاً عليه.
وقال:
﴿الَّذِيْنَ آمَنُوْا وَعَمِلُوْا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيْهِمْ ربهُمْ بِإِيْمَانِهِمْ﴾[يونس: 9]، ثم قال للذين آمنوا:
﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُوْلُهُ وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا الَّذِيْنَ يُقِيْمُوْنَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوْنَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُوْنَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُوْلَهُ وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُوْنَ﴾[المائدة: 55 - 56] فآل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم فالمتولي الذي أنزل اللّه من البر والكتاب.
فالله بيننا وبين من جحدنا حقنا وبغى علينا من يخالفنا فوضعنا على غير حقنا ، وقال فينا غير مانقول في أنفسنا، فمن برئ منا برئنا منه، ومن تولانا على ماوصفناه من الحق توليناه من أهل هذه القبلة.
قال اللّه عز وجل:
﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوْا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوْا اللَّهَ وَاعْلَمُوْا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِيْنَ﴾[البقرة: 194]، فلا عدو أعدى ممن اعتدى على أقوام من أهل بيت نبيكم وذريته، وهم متبعون له ومتمسكون بالكتاب الذي جاء به، حسبنا اللّه ونعم الوكيل.
﴿سَيَجْعَلُ اللّه بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً﴾[الطلاق: 7]،
﴿إِنَّ اللّه مَعَ الَّذِيْنَ اتَّقَوْا وَالَّذِيْنَ هُمْ مُحْسِنُوْنَ﴾[النحل: 128]، وقال:
﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدْراً﴾[الطلاق: 3].
والحمدلله رب العالمين وصلى اللّه على خاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين.