تسارعت دقات قلبه أكثر و أكثر...يداه تتعرقان و ترجفان..ساقيه يشعر بهما رخوتان لا تكادا تقويا حمله..
و البيت يبدوا لناظريه اقرب فاقرب حتى أصبح لا يرى غيره..طغى على عالمه كله..
الآن و قد أصبح أمامه لم يعد يفصل بينه و بين الماضي سوى طرقة باب
- دق دق ...
ينتظر هنيهة و لكن ما من مجيب فيعيد الكره
- دق دق دق...
و هكذا و لأكثر من عشرة دقائق و ما من مجيب حتى تسلل اليأس الى نفسه و استدار ليغادر قبل ان يسمع همهمة..
- دق دق ...هل من احد؟
- رويدك يا من تطرق الباب..
توقف قلبه بين أضلعه لثواني عند سماعه الصوت..
هذا الصوت...نفس الصوت لم يغير فيه الزمن شيء ابدآ ..ذلك الصوت ببحته الناعمة..
فُتح الباب و لكن بشكل يسير ليسمح لمن وراءه بمشاهدة من جاء دون ان يسمح للطرف الأخر بالرؤية
أطلت عينان متسائلتان..قبل أن يغزوهما الإدراك و تتسعا ذهولاً..
- ............
- أسماء..
- تمالكت أسماء نفسها بصعوبة جمة و استقامت في وقفتها ولكنها لم توسع فتحة الباب قيد أنمله
- لماذا..
- اجل..اعرف أني تأخرت أكثر من ربع قرن قالها و هو يبتسم بمرارة
- لماذا
- حسناً..ألن تدعيني إلى الدخول اولاً ؟
نظرت إليه أسماء بجمود ثم شرعت الباب له فتقدم داخلاً لكأنه عاد فتياً في الثامنة عشره من جديد
ثم استدار إليها فجأة
- عمي....؟
نظرت إليه بذات الجمود ثم قالت
- في الأعلى..
- هل لك..اعني هل أستطيع أن أراه؟
- لا أظن ذلك ..انه تعب و لن يتحمل الصدمة
- بالله عليك يا أسماء..قومي بالتمهيد له
- لا أستطيع
- أرجوك
- كلا
- يا الهي..لم أعهدك بهذه القسوة
اكتفت بالنظر إليه بعينين خاويتين لكأنها أغلقت على روحها ستار من حديد.. و هكذا كان, فان سمحت له برؤية ما يعتمل بداخلها من ثورات و مشاعر و حنين و غضب فلا شك أن حسن الذي تعرفه سيسخر منها و يسعى إلى استغلال ضعفها
حسن...من كان ابن عمها و صديق طفولتها و مثلها الأعلى ...حسن.. من قام بتدمير عالمها و ضيع أسرتها و فرق شملهم..حسن.. من قتل أحلامها و خنق أمالها و حكم على مستقبلها و مستقبل أهله جميعاً بالدمار
لماذا..لماذا عاد؟
رد حسن مدركاً ما يجول في بالها من خواطر: لهذا يجب أن أراه
أجابته أسماء بمرارة لم تستطع إخفائها :
- لماذا..التنهي ما لم تستطع انهاءه منذ ثلاثين عاماً؟ صدقني لقد أنجزت مهمتك على أكمل وجه في حينه..لم يكن بك من حاجه إلى العودة
- أسماء.. أنا لا أستطيع أن ألومك لما تحمليه من غضب و كراهية بل لا أستطيع حتى أن أناقشك أو أن أسعى لتبرير ما فعلته و لكنني بشر..إنسان اقترف ذات يوم ما لايغتفر... و هاأنذا اليوم بعد أن خمدت فورة الشباب و هجع شيطاني..هانا ذا قد عدت ليس لاعتذر عما فعلته..فلا أظن أن هناك ما يمكن أن يكفر عنه و لكن قد عدت سائلاً الله أن تقبلوني بينكم من جديد ..أن ترضوا باحتوائي و ضم حزني إلى حزنكم , أن نطوي صفحة الماضي بكل ما فيها.. لم يعد في العمر مثل ما قد مضى فهل يجوز أن نقضيه و نحن نحمل أحقادنا و أحزاننا .. لم يعد لنا مما كانت يوماً تشكل اعرق و اكبر أسره في القرية سوى بعضنا البعض, بضعة أنفار لن يجديهم العيش على ذكرى أحقادهم نفعاً.. ليت الذكريات تعيد لنا ما كان..ليت الحقد يحي من قد مات لكنت غذيته من دمي من فكري و من قلبي..و لكن ما حدث قد انتهى و انقضى و آن أوان دفنه..
- أتظن الأمر بهذه السهولة؟ احقاً تظن ما اقترفته يمكن أن يُمحى و يدفن بمجرد بضعة كلمات منمقه و عبارات استعطاف تقولها؟ اهذ ما يقوله لك ضميرك الذي استيقظ بعد ثلاثون عاماً ؟ ماذا دهاك ؟ ألا تدرك هول ما اقترفته يداك ؟أم أن خلايا ذاكرتك أصابها الهرم ؟؟ أتريدني أن أقوم بتذكيرك؟ أم ربما تريد أبي القعيد المريض نتاج فعلتك السوداء أن يذكرك بما كان ؟
- صدقيني لست بحاجه لأحد ليذكرني بما كان..فإذا كان ماضي بالنسبة لك و لعمي..فهو واقع أحياه يوم بيوم... لا..لا احتاجك لإنعاش ذاكرتي عزيزتي.. إني لأكاد اشتم رائحة الأرض في ذلك اليوم..اشعر بهبوب الرياح في وجهي.. اشعر أشعة الشمس ألحارقه على وجهي ...
يضحك بمرارة.. تريد تذكيره....كأنه لا يحيا أحداث ذلك الصيف من عمره كل يوم عشرات المرات.. لقد أصبحت الذكرى هي واقعه الوحيد..أما حياته أليوميه فهي مجرد روتين و عمل آلي لا يكاد يدري ما تفاصيلها و كيف يقوم بها.
------------------------------------
يجدر به أن يكون بالحقل... لا شك أن أباه سيلقي عليه محاضره من محاضرته التي أصبح مؤخراً يحفظها عن ظهر قلب
أطلق زفره ضيق ثم رفس بقدمه حجر من أحجار الطريق ..عله ينفس عن شيء من غضبه..الغريب انه لا يدرك سبب هذا الغضب..
منذ متى أصبح يكره الذهاب إلى الحقل.. لقد كان الحقل هو ملعبه و متنفس صباه..
و لكن مؤخراً أدرك انه لا يجوز لمن كان بمستواه الاجتماعي أن يعمل في الحقل مثله مثل الفلاحين المطحونين..لقد حاول إقناع أباه بتأجير من يقوم بحرثها و حصادها و لكنه رفض حتى سماع الفكره
بل لقد حاول ايظاً أن يقنعه بتوكيل عمه بشئون الأرض كلها..من حرث و حصاد مقابل اجر أو نسبه معينه بينما يقوم هو فقط بالإشراف..أليس ذلك أفضل لوجيه القرية و ابنه ؟
حتى عمه لم يقتنع بالفكرة.. كم يشعر بالغضب منه..هو لا يستطيع التعبير عن غضبه من والده و لكن مع عمه الأمر مختلف.. لقد أصبح يفتعل شجاراً تلو الآخر معه.. ربما بحكم صغر سنه نسبياً عن أبيه و ربما بسبب معرفته بقدرته التأثيرية على أبيه فلو شاء لأقنعه..و لكنه يعشق الأرض مثله مثل أباه و يستحيل أن يقتنع بوجهة نظره.
كان أباه هو الأخ الأكبر و الأكثر ثراءاً رغم إنه و أخاه ورثا ثروة متساوية و لكن عمه انفق نصفها في علاج يائس لزوجته المتوفاة..و كمصاريف لدراسة ابنه الأكبر ياسر في المدينة.
و عند هذه النقطة توقف حسن عن التفكير..ياسر.. لقد ابتدأت مشاكله هو عند عودة ياسر حاملاً شهادته متفاخراً بها
ريحان و عوسج (2)
ريحان و عوسج (2)
أنا حامل كفني وفي طياته مازال يثقلني السؤال
كفني أخف علي من حمل السؤال فمن يزيحه
ما الموت,ما الميلاد ,ما الشرف الرفيع وما الفضيحة
أهي الحياة تريد إغواء الحياة..فما الحياة؟! و ما السؤالات الجريحة
كفني أخف علي من حمل السؤال فمن يزيحه
ما الموت,ما الميلاد ,ما الشرف الرفيع وما الفضيحة
أهي الحياة تريد إغواء الحياة..فما الحياة؟! و ما السؤالات الجريحة
-
- مشترك في مجالس آل محمد
- مشاركات: 625
- اشترك في: الأربعاء أكتوبر 06, 2004 10:39 pm
- اتصال:
سيدتي الكريمة قصة أكثر من رائعة وتأثيرها واضح أهنئك على هذه الملكة في الكتابة التي أغبطك عليها.... لم أستطع مفارقتها حتى قرأت الحلقتين كاملتين وأنا في أشد الشوق لقراءة البقية.
تقبلي تحياتي
تقبلي تحياتي
{رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ }{وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ }{وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ }الشعراء83-85

