
طه محمد أحمد مفتاح
من على الجانب الآخر للطريق ، بداخل سيارة ذلك المعتقل الذي مُنِعتُ من زيارته قبل لحظات ، كنت أتأمل وأنا أنتظر أخا هذا المعتقل ( العلامة ) يحيى الديلمي ، كنت أتأمل ذلك الطفل الذي خرج من تلك البوابة الضخمة .. بوابة السجن المركزي المهيب ، الذي لم يخطر ببالي في يوم من الأيام أني قد أدخله ، ولو زائراً، وقف ذلك الطفل على الرصيف بجانب امرأتين وأخذ يمسح عينيه بكفيه وذراعيه وكمّ سُترتِه ، تأملت وتألمت وتحسرت ، لا بد وأنه يبكي لأنه فارق أباه قبل لحظات في مكان يجهل عنه – وهو ذلك الطفل – الكثير ، فقد علمتُ رغم بعد مسافته أنه ( طه ) ولد ( العلامة ) الآخر الذي ينزل في رحاب السجن المركزي المهيب .. محمد مفتاح ، واقترب من السيارة ومر من أمامها وفي محاولة فاشلة للتمثيل حاول أن يرسم على وجهه ابتسامة في نظرة سريعة منه للسيارة سرعان ما أشاح بوجهه بعدها وذهب بنفسه بعيداً عنا حتى لا نرى دموعه ، ذلك الوجهُ الطفلُ التي لم تخفِ ابتسامته الشاحبة ملامح البؤس والقهر ، لم تخف ابتسامته المفتعلة احمرار عينيه الدامعتين التي تصرخ بالبكاء والألم ،،،
يا ألله ما الذي أوصل هاتين العينين الحالمتين إلى أن تتكحل بالحمرة ، ما ذنبها وما جنايتها !!
لكني مع ذلك لم أكن أعرف المصيبة التي أبكت طه ، فقد اقتربتِ المرأتين التين كان طه بجوارهما من السيارة لتشكو إحداهما ما حصل لها في ذلك السجن المركزي المهيب ، إنها أم طه التي عندما وصلت هي وابنها – وقد ابتدأ قلبها وقلبه بالخفقان شوقاً إلى رؤية الحبيب الحبيس – إلى تسجيل اسمها بداخل السجن ، وعندما سئلت لمن الزيارة فأجابت لزوجها ... محمد مفتاح ( من دون علاّمة طبعاً ) ، طردت مباشرة ودون أي مقدمات ، بل وجّه إليها كيل من الإهانات الجارحة والقاسية ...
كل ذلك حصل أمام ( طه ) ..
ألم يكفك يا طه أن تحرم من أبيك حتى تشاهد أمك تهان ...
ألم تكفك يا طه ليلة العاشر من سبتمبر الغراء ... التي استيقظت فيها على فوهات الأسلحة الموجهة إلى صدر أبيك ..
ألم تكفك تلك الليلة العصماء ... التي أخرجت من غرفة نومك أنت وأمك وأمير الدين أخوك إلى الشارع في منتصف الليل ليقوم رجال تنكر وجوههم بتفتيش منزلك بما فيه كتبك ودفاترك !!
***
ربما في نفس اللحظات تلك ، كان هناك موقف آخر ( لطفل ) آخر ، إنه مطهر ولد ( العلامة ) شرف الدين النعمي ، الذي لا يزال في معتقله ( الأشد رهبة ) سجون الأمن السياسي ، ربما لم يكمل مدة الأربعة أشهر حتى يكون في السجن المركزي وربما بمحكمة هزلية مثل زميليه وأخويه يحيى ومحمد ...
مطهر الذي لا يتجاوز الرابعة من عمره والذي يأسرك بابتسامته الساحرة بمجرد أن تراه ، تلك الابتسامة التي ورثها عن أبيه ، كان على موعد طال انتظاره مع أبيه بعد شهرين و( يوم ) من الفراق ، كانت خمس دقائق وعلى بعد مترين – تجبرك الحواجز الحديدية أن لا تتعداهما ... بجسدك طبعاً - ، لكن ما أروعها من لحظات في قلب ذلك الطفل الذي طال اشتياقه لنظرة حنونة من أبيه ، وابتسامة أخفت ورائها الكثير من العناء والحسرة لا أقول على نفسه ، بل على أمة تائهة ، نست علمائها داخل السجون ...
نهاية : عذراً طه ، عذراً مطهر ... فما أدينا حقكما !
ياسر الوزير
الخميس 28 ابريل 2005 م