الاقتداء بفكر الصالحين .. بقلم أ.العلامة / عبدالله حميدالدين

أحاديث، أدعية ، مواعظ .....
أضف رد جديد
المتوكل
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 2274
اشترك في: الاثنين يناير 05, 2004 10:46 pm
مكان: صنعاء
اتصال:

الاقتداء بفكر الصالحين .. بقلم أ.العلامة / عبدالله حميدالدين

مشاركة بواسطة المتوكل »

الاقتداء بفكر الصالحين ( 1/2 )

صورة
أ / عبد الله حميد الدين

قراءة سير الصالحين عادة من العادات الحميدة التي حث عليها كتاب الله تعالى {فبهداهم اقتده} ففي سلوكهم برهان ساطع ودليل قاطع على أن ما جاء به الوحي من عظيم الوصايا وجليل الارشاد يمكن أن يتجسد في واقع البشر وفي حياة وسلوك الإنسان المجبول على الضعف والغفلة.

وقد وضِعت في ذلك كتب كثيرة فصلت في صلاتهم وقيامهم وصيامهم وحجهم وبكائهم وخشيتهم لله تعالى وتصدقهم وزهدهم وتحريهم طاعة الله تعالى وحذرهم من معصيته وصبرهم على البلاء وشكرهم على النعم وغير ذلك من الأعمال. ونحن إذ نقرأ عن تلك الأعمال نطمح كثيراً أن نعمل مثل ما عملوا.

ومما يلاحظ هو أننا إذ نهتم بتلك الأعمال وتفاصيل كيفياتها ودقائق حيثياتها، فإننا نهمل إلى حد كبير النظر إلى طريقة التفكير لديهم، والتي هي الدافع الأساسي من وراء تلك الأعمال. وعليه فإننا نجد أن في أدبيات الوعظ والإرشاد وكتب السير والتراجم والطبقات الإكثار من ذكر المواقف والأعمال النبيلة والسامية والصعبة التي مارسها الصالحون على حساب التنبيه على الأسس المعرفية والفكرية التي تستند عليها تلك الأعمال .

ومعلوم أن العمل التام إنما يكون انعكاساً صادقاً وأميناً للقناعات الفكرية وبقدر ما يكون العمل كذلك بقدر ما نقول عنه: إنه عمل ذو معنى، بخلاف العمل الذي نقول عنه: إنه لا معنى له، وهو العمل الذي يخالف ظاهره باطنه، أو هو العمل التام في شكله ولكنه انعكاس لفكرة باهتة أو مشوشة. وهذا الأخير هو ما يعنينا هنا. فنحن إذ نقتدي بأعمال الصالحين دونما الاقتداء بأفكارهم نصدر أعمالاً قد تكون تامة في مظهرها، ولكنها ناقصة كثيراً في مضمونها، وهذا له آثار سلبية على الواقع الاجتماعي، وأكثر من ذلك على عملية التربية الروحية وتأسيس العلاقة العميقة بالله جل وعلا.

وقد عبر عن ما سبق، وأكثر، المصطفى صلوات الله عليه وعلى أهل بيته في قوله: ((إنما الأعمال بالنيات)).

وإضافة إلى كون الاقتداء بأفعال الصالحين بغير معرفة وقناعة بصحة وتبن للأسس الفكرية لتلك الأفعال يؤدي إلى فقدان تلك الأعمال لمعناها التام، ويحول الفعل إلى شكل لا معنى له وجسداً لا روح له، إضافة لذلك فإنه أيضاً يصعِّب الاستمرار على الفعل. إذ إن الاستمرار سيعتمد على نوع من الاكراه الذاتي بسبب ضعف الأسس الفكرية التي يستند عليها الفعل، إلى أن يضجر المرء من الفعل أو يعتاد عليه.

ثم إن هذه الممارسة في العبادات ترسخ لظاهرة اجتماعية سلبية، وهي التركيز على ظواهر الأعمال وحجمها وقدرها دون النظر في مضامينها وما ورائها. ولعل سبب وجود مثل هذا في الواقع الإسلامي يعود إلى عقلية التقليد التي سادت طويلاً، فأصل التقليد هو أخذ النتائج دون النظر في المقدمات، وهذا كما قد يكون في الآراء فإنه كذلك في الأفعال.

فالمقصود أن علينا أن نولي اهتماماً كبيراً بطرائق التفكير ودوافع السلوك التي ينطلق منها الصالحون ، لأن أعمالهم هي نتيجة لطريقة تفكيرهم، ولذلك فالاقتداء بهم ينبغي أن يبدأ من معرفة طريقة التفكير لديهم، ثم الاقتداء بها عن تفكر وتدبر وقناعة. وبخلاف الفعل الذي يتبع تقليداً، من دون نظر إلى أسسه فإن الفعل الذي نشأ تعبيراً عن معنى معين وقناعة محددة تكون له فائدة مزدوجة:

• فهو من ناحية تجسيد عملي لحالة فكرية نفسية.

• من ناحية أخرى فإن ممارسة الفعل الذي شأنه مثل هذا سيكون أخف بكثير من ممارسة الفعل تقليداً حيث إن الجهد النفسي المرافق لأي فعل سيكون أقل بكثير من الحالة الأولى.


والكلام السابق يفترض ضمناً التسليم بأن السلوك إلى الله تعالى يستند على التفكير مثله مثل أي فعل آخر. وأن الأعمال الظاهرة أو الباطنة هي انعكاس لحالة فكرية معينة عن الله تعالى والإنسان. وأن تلك الحالة الفكرية يمكن تحصيلها من أي إنسان بإعمال العقل في الوجود مسترشداً بدلالات القرآن الكريم التي بينت وميزت الصراط إلى الله عن السبل المتعددة التي تذهب بالمرء يميناً وشمالاً. وأن بداية السلوك إلى الله تعالى إنما تكون من العقل والفكر، ثم يواكبها العمل الذي يوازي تلك القناعة العقلي، والذي يرسخ تلك القناعة العقلية، ففرق بين بين أن أعلم الشيء وبين أن أعيشه. ثم يعود العقل ليعمل أكثر، ويستظهر المزيد عن عظمة الله جل وعلا وتتكشف له حقائق ضعفه وعجزه هو الإنسان، لينعكس عن هذا سلوك وعمل آخر، وهكذا دواليك. فكرة فعمل، ففكرة فعمل.

ولكن إذا اعتبرنا أن السلوك إلى الله عملية تبدأ بمعرفة وقناعة إجماليتين، مصدرها التلقين وليس إعمال العقل، ويتبعها سلوك محدد ضمن إطاري تصفية الباطن والظاهر، وتحليتهما بالملكات والأعمال الفاضلة، وضمن تصاعد متدرج، بحيث تكون عمليتي التصفية والتحلية هما الأساس في التقرب إلى الله تعالى، وهما مفتاح المزيد من المعارف الإلهية التي تأتي على الإنسان فيضاً أو إلهاماً، إذا اعتبرنا ذلك فإن الاقتداء بأفعال الأولياء بغير معرفة أصولها الفكرية سيكون له مسوغاً. وسيكون مهماً لنا أن نعرف قدر ما استطاعوا أن يعملوه لنستلهم من ذلك العزائم لنصل إلى ما وصلوا إليه. وسيكون الكلام السابق لغواً.

ولكنني هنا أذهب إلى الرؤية الأولى وهي أن عبادة الله تتأسس على العقل والتفكير، بل أكثر من هذا، فيُذهب إلى إن أبرز وأجلى مظاهرها إنما هي مظاهر عقلية، وأن جميع المظاهر السلوكية تأتي في درجة بعيدة للغاية عنها. فأبرز وأهم عناصر العلاقة مع الله تعالى نحو خشيته، وتسبيحه، وحمده، والشهادة له بالأحدية وقيامه بالقسط، كلها مظاهر عقلية لعبادة الله تعالى. فالخشية انفعال ناشيء عن العلم بجلال الله وفقر الإنسان.

والتسبيح والتحميد ترديد لساني معبر عن علم بما لله تعالى من الكمالات، وما يتنزه عنه من النقائص. وكذلك الشهادة، تلفظ منعكس عن قناعة فكرية محددة هي أن الله تعالى واحد أحد في ذاته، وقائم بالقسط في تعامله مع خلقه.

وقد جاء في الآثار " أن تفكر ساعة خير من عبادة سنة " ولهذا ما يؤيده من العقل والتجربة . فأن أعرف أكثر أهم من أن أعمل أكثر. ورد أن عبادة العالم خير من عبادة الجاهل. إذ ركعتين من عالم يكون لها المضمون الأساسي الذي بسببه أصلاً شرعت الصلاة وغيرها من العبادات. وإذا أخذنا عبادة سيد الأولين والأخرين الرسول الخاتم صلوات الله عليه وعلى آله فإننا سنجد أنفسنا أمام عبادة قليلها خير من عبادة الجن والإنس. وعبادة النبي لم تتقدم على عبادة غيره من حيث كميتها وإنما من حيث مضمونها حيث إنها كانت عبادة عالم بالله تعالى عارف به. ويمكن أن نتصور عباداً فاقوا النبي صلوات الله عليه وعدد الركعات اليومية، أو الصيام، أو الحج، أو الصدقة والزكاة، ولكن لا يمكن أن تصدر تلك الأعمال عن فكر كفكر النبي صلى الله عليه.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن العالم الذي عبادته خير من الجاهل، وأيضاً أولوا العلم الذين شهدوا لله تعالى، هم ليسوا فقط الفقهاء والمجتهدين وعلماء أصول الفقه. بل كم من فقيه مجتهد فحل في الأصول وغيرها من علوم الشريعة وهو يجهل تلك القضايا. وبالتالي فإن العلم الذي به صار أولو العلم، ليس الفقه، فالفقه من أوله إلى آخره لا يقدم علماً بالله تعالى، ولا يعزز علاقة مع الله تعالى، ولا يقوي الخشية منه تعالى، إذ هو في آخر الأمر مواد قانونية لا أكثر ولا أقل. وليس هذا تقليلا من شأنه، ولا من أهميته، ولا من فضل وأجر العاملين فيه وبه، ولا أنكر أنه قد ورد في طلب العلم الشرعي فضل خاص، ولكن هذا أمر، وأن نجعل ذلك العلم مرادفاً أو جزءاً للعلم الشرعي الفقهي أمر غير دقيق.

إن أولو العلم أولئك هم كل من أعمل عقله في الوجود، باختلاف التخصصات العلمية التي ينتمون إليها، والمشترك بينهم كلهم هو العقل، والتميز بينهم إنما في القدرة إلى إعماله، وعلى الاسترشاد بالقرآن الكريم في ذلك.

وهنا لا أريد أن يُظن أنني أنكر دور الالهام الرباني، ولكن الإلهام إما فكرة، وإما ترسيخ لفكرة، وتعميق لها. فإذا كان فكرة، فلا بد من أن يكون لتلك الفكرة مستنداً عقلياً تُقيم وفقه، وإلا لما تميزت عن الوسوسة أو الخاطر. وإذا كان الإلهام ترسيخ لفكرة وتعميق لأثرها فهي ليست علماً لأنها لا تضيف معلومة، وإنما هي رحمة إلهية زادت بها شدة تمثل الفكرة في نفس وقلب المرء.

ثم إن المعارف عموماً قسمين: معارف نظرية، وأخرى عملية. المعارف النظرية هي مجموعة افكار تعكس للواقع كما هو. وأما المعارف العملية فهي أفكار تُشكِّل للواقع وفق تصور معين. الأولى وصفية ووالأخرى معيارية. الأولى يعبر عنها بجمل خبرية نحو: "أ" هو "ب"، والأخرى بجمل إنشائية نحو: يجب على "أ" أن يكون "ب". النظرية معرفة ما هو كائن، والعملية معرفة الواقع كما ينبغي أن يكون.

وكذلك فالمعارف التي نستند عليها في علاقتنا بالله جل وعلا على القسمين السابقين. وبقسميها تقدم لنا رؤية محددة عن الله تعالى وعن أنفسنا، وعن علاقة الله تعالى بنا، وعن علاقتنا بالله تعالى كما هي، وكما يجب أن تكون، وعن دورنا في هذه الحياة، ومآلنا بعد الممات.

1. فالمعارف النظرية عن الله تعالى تُجمل في: معرفة الله، والإنسان، وعلاقة الله تعالى به، وموقعه من الله، وسبب وجوده ودوره في الحياة، ومآله. ويمكن تفصيل بعض عناصرها فيما يلي:

أ. معرفة الله تعالى وتكون بمعرفة صفاته تعالى الذاتية وهي: أنه العالم، القادر، الحي، الغني، ملك الدنيا والآخرة.

ب. معرفة صفاتنا الذاتية: وهي المملوكية لله، والفقر إلى الله، ومعرفة أن هذه الصفات ذاتية لنا لا تنفك عنا أبداً. وفي الوقت نفسه معرفة أن فينا نفخة إلهية بها كان لدينا قدرة على الفعل والخلق والابداع والتغيير.

ت. المقابلة بين أنفسنا وبين الله جل جلاله. فالله تعالى هو الغني، ونحن الفقر. الله هو الكمال ونحن النقص. الله هو العلم ونحن الجهل، ونحوها.

ث. معرفة أفعال الله تعالى فينا وإنعامه علينا، وأن كل ما يفعله بنا يقوم على العدل والقسط والحكمة والرحمة.

ج. معرفة أفعالنا نحو الله تعالى، من تقصير وإعراض.

ح. المقارنة بين أفعالنا وبين أفعال الله فينا.

خ. معرفة أن الحياة ليست إلا رحلة ومسيرة إلى الله تعالى، مسيرة ضرورية لا مهرب منها ولا مفر، فإن المنتهى إلى الله، وإننا كادحون إليه كدحاً، وراجعون إليه.

د. معرفة أن نهاية هذه المسيرة مغفرة من الله ورضوان، أو عذاب شديد أليم.

ذ. ومعرفة أن المآل الذي سنؤول إليه أبدي لا نهاية له.


هذه المعارف نظرية لأنها تصف واقعاً كما هو بدون أن تعطينا أي حكم على الكيفية التي يجب أن يكون عليها. هي معارف وصفية.

ولكنها معارف وصفية تختلف عن غيرها من المعارف الوصفية، إذ تختلف طبيعة المعارف الوصفية عن الله تعالى وعن الإنسان عن غيرها من المعارف. فإن العلم بعدد النجوم، أو بالجاذبية، أو علوم الأحياء والفيزياء، وغيرها من العلوم، كلها نظرية وصفية، ولكنها لا تؤثر تأثيراً مباشراً على تقييمنا الأخلاقي، ولا على سلوكنا الأخلاقي، ولا يتوقع منها ذلك، بخلاف تلك العلوم. فإنها متى عُرفت فإنها تغير كثيراً من المعادلة الأخلاقية لدينا. بحيث ينتج عنها تلقائياً مجموعة من المعايير، والقناعات عن ما يجب أن يكون، وبالتالي ينشأ عنها مجموعة من المعارف العملية التي تصاغ بعبارة: يجب أن يكون. إضافة إلى ذلك فإنها تؤثر على مشاعرنا نحو الواقع بحيث تخلق حالة شعورية جديدة لم تكن قبل العلم بتلك الأمور.

فمتى ما عرفنا الله والإنسان... إلخ فإنه يتوقع أن تنتج مجموعة من المعارف العملية والحالات الشعورية نحو:

1. الشعور بقدرة الله علينا، وعجزنا عن مواجهته وعن الفرار منه.
2. الشعور بمراقبته تعالى، وبأننا مكشوفون له تماماً وما ينتج عن هذا الشعور بالعجز التام أمامه جل وعلا.
3. الشعور بأن أملنا الوحيد في الفلاح هو في الله وأن بغيره لا نجاة ولا فوز بل تعاسة وشقاء.
4. الشعور بالامتنان نحو الله تعالى لنعمه التي لا تحصى وعلى رأسها أن جل جلاله يتقرب إلينا وهو غني عنا. ومنها أنه أذن لنا بدعائه، وبذكره، وأن فتح لنا أبواب رحمته ومغفرته، وأن ستر علينا، وأمهلنا، وجعل لنا التوبة سبيلاً إلى مجاوزة معاصينا.
5. الشعور بالخجل الشديد والاستحياء العظيم من الله تعالى الكريم الحليم المنعم الغني وذلك لأننا قابلنا هذا الإله بالمعاصي والتقصير وقلة الخير.
6. تصغير أمر وشأن الحياة الدنيا مما يعني الصبر، وعدم الجزع، وعدم الحرص.
7. النفور من المعاصي التي فيها مخالفة الإله الكريم الجليل الحليم، والتي فيها خسارة مراتب أخروية، واقتراب من النار.
8. الشعور بالمسؤولية ، فمع القدرة والتمكن تأتي مسؤولية متناسبة معها.


تلك المعارف التي يجب أن تقف خلف أي عمل صالح... وأما العمل الصالح الذي يأتي بعيداً عنها، فهو عمل ناقص مضموناً. والصالحون الذين يقتدى بهم هم من أظهر أعمالاً صالحة، وفي الوقت نفسه أظهر فهما واستيعاباً لتلك المعارف.

ولكن كيف نتعرف على رؤيتهم لتلك القضايا؟
وإذا عرفناها فكيف يمكن لنا أن نستفيد منها؟



المصدر :
http://www.yemenhurr.com/modules.php?na ... e&sid=1948

---------

يتبع ...
آخر تعديل بواسطة المتوكل في الجمعة سبتمبر 19, 2008 3:01 am، تم التعديل مرة واحدة.
صورة
صورة

المتوكل
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 2274
اشترك في: الاثنين يناير 05, 2004 10:46 pm
مكان: صنعاء
اتصال:

مشاركة بواسطة المتوكل »

الاقتداء بفكر الصالحين ( 2/2 )

أ/ عبدالله حميد الدين


عن السؤال الثاني فما أطرحه إنما جانب من الجوانب الاستفادة. وما أطرحه مبني على أساس أن هناك مستويين من المعرفة أو الإيمان بالله: المعرفة (الإيمان) العقلية، والمعرفة (الإيمان) القلبية.

فالمعرفة العقلية تكون عندما يحضر المفهوم في ذهن المرء، وأما المعرفة القلبية فهي عندما يعيش المرء ذلك المفهوم، ويستحوذ على كيانه . ففرق بين أن أعرف الحب ما هو، وبين أن أعيش الحب، بين أن أعرف الجوع وأن أشعر به. وهكذا.

إبليس كان يعرف الله عقلاً، ويعرف حق الله عليه عقلاً، ولكنه لم يعش تلك المعرفة ولذلك سقط في الامتحان الكبير، كان يعيش ذاتيته ولم يكن يعيش إيمانه.

وواضح من تجاربنا اليومية أن دور المعرفة والقناعة العقلية في التأثير على إرادة الإنسان يقل كثيراً عن دور المعرفة القلبية أو القناعة العاطفية. فالمعرفة العقلية يمكنها أن تدفع الإنسان إلى الإمام، ولكن طاقة دفعها محدودة وتقف في مرحلة محددة من السلوك. كما إن قدرتها على شحذ الهمة لمواجهة ومقاومة التحديات أيضاً أقل بكثير من قدرة المعرفة القلبية. ولذلك فإن موضوع تحول الإيمان من العقل إلى القلب أمر لا غنى عنه من هذه الزاوية. أما إذا أخذنا بالرأي القائل أنه من جهة فإن حقيقة السلوك إلى الله تعالى وعمقه وجوهره، ليس إلا نقل المعارف العقلية إلى القلب، بمعنى الامتزاج بها، والاندماج حتى يصير المرء لا يرى إلا بها، ولا يشعر إلا بها، ولا يقيِّم، ولا يحب، ولا يكره، ولا يتحرك أي حركة في الحياة إلا بها ومن خلالها؛ ومن جهة أخرى فإن زيادة الأعمال والعبادات، من مظاهر السلوك وليست هي السلوك؛ إذا أخذنا بتلك الرؤية فإن أمر تحويلها يصبح هدفاً بحد ذاته.

ولكن المعرفة/الإيمان القلبي مستمد من المعرفة/الإيمان العقلي، وبالتالي فبقدر وضوح الصورة عقلاً، بقدر عمق الإيمان قلباً. أيضاً فإن العقل يكون هو المشرف والقائم على ما يصل للقلب من قضايا، بحيث لا تتسرب إليه الأوهام والخرافات التي تشوش مسيرة القلب إلى الله تعالى.

وعلى ضوء ذلك فيمكن أن تعتبر أفكار الصالحين مادة أساسية يتم استمدادها عقلاً، وتقييمها، بحيث تشكل بمجموع تفاصيلها أسس الإيمان العقلي، الذي هو المقدمة الضرورية للإيمان القلبي.

وقد يقال ضمن هذه الرؤية: هل نحتاج إلى معرفة طرائق تفكيرهم أصلاً؟ لماذا لا نستخرج نحن الأسس الإيمان العقلي؟ فكما لهم عقول، لنا كذلك، وكما استنبطوا وأعملوا عقولهم نحن كذلك. والقرآن بين أيدينا والسنة بين أيدينا. وهذا الكلام من حيث المبدأ صحيح لا غبار عليه. ولكن الاستفادة من تجارب الغير وعلومهم وقدرتهم على صياغة القضايا بأسلوب مفهوم وواضح مسألة إنسانية عامة. ثم نحن إذ نستلهم منهم أفكارهم، فإننا لا نتلقنها، وإنما نقيمها بعقولنا وعلومنا، وفي الوقت نفسه نستفيد من تجربتهم التي قد تختصر لنا الطريق بشكل كبير.

ومن وجهة نظري فإن أبرز ما يبين تلك الأفكار هي أدعيتهم لله تعالى. وذلك أن الدعاء يمثل أعمق شكل من أشكال العلاقة بين الله جل جلاله والعبد، وفيه يتمثل الإنسان عجزه وضعفه ومحدوديته،كما يتمثل قدرة وقوة الله جل جلاله. ثم إن الداعي وإن انطلق من عمقه في التوجه إلى الله، إلا أنه يصيغ تلك المعاني العميقة ضمن قوالب لغوية تعبر بقدرٍ ما عما يجول في قلبه وعقله. تلك الصياغة التي انطلقت من قلبه أساساً نتلقفها نحن بعقولنا لنحاول أن ننقلها إلى قلوبنا. ولما كانت القدرة التعبيرية تختلف من شخص لآخر، فما كل من عشق صاغ عشقه كما صاغه مجنون ليلى، فإن الأدعية تتفاوت في عمق ما تعبر عنه. أيضاً تتفاوت حسب عمق علاقة الشخص بالله تعالى.

وأحد من اجتمع لديهم الأمران، القوة التعبيرية، والعمق في العلاقة مع الله تعالى، هو الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الذي اشتهر بالسجاد لكثرة سجوده، أو زين العابدين لتقدمه على عباد عصره. فقد صاغ الإمام بعضاً يسيراً من تجربته مع الله تعالى ضمن أدعية عرف بعضها بالصحيفة السجادية، أو صحيفة زين العابدين. وهي من أرقى وأعمق ما يكون من الدعاء، وتعبير دقيق عن كثير مما كان يجول في عقل وقلب الإمام في علاقته بالله تعالى: كيف كان يفكر، وكيف كان يشعر؟ إنها تمثل الصورة الذهنية والشعورية لنموذج يجب أن نتحلى به؛ وتمكننا أن نحدد معالم العبارات المجملة: تقي، مؤمن، يخشى الله، ولي الله. إن تلك عبارات مجملة تضم تحتها مجموعة من المعاني، نجد كثيراً منها في نحو أدعية الإمام السجاد. ورسم الصورة الذهنية لما يراد الوصول إليه خطوة أساسية في أي حركة مهما كانت.

وبأخذ بعض أدعية الإمام يمكن للفكرة أن تتضح أكثر. فمثلاً من دعائه المعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي نأخذ بعض الفقرات نحو:

اَلْحَمْدُ للهِ الَّذي اَدْعوُهُ فَيُجيبُني وَاِنْ كُنْتَ بَطيـئاً حينَ يَدْعوُني، وَاَلْحَمْدُ للهِ الَّذي اَسْأَلُهُ فَيُعْطيني وَاِنْ كُنْتُ بَخيلاً حينَ يَسْتَقْرِضُني ... وَالْحَمْدُ للهِ الَّذي اُناديهِ كُلَّما شِئْتُ لِحاجَتي، وَاَخْلُو بِهِ حَيْثُ شِئْتُ، لِسِرِّي بِغَيْرِ شَفيعٍ فَيَقْضى لي حاجَتي... اَللّـهُمَّ اِنّي اَجِدُ سُبُلَ الْمَطالِبِ اِلَيْكَ مُشْرَعَةً، وَمَناهِلَ الرَّجاءِ اِلَيْكَ مُتْرَعَةً، وَالاِْسْتِعانَةَ بِفَضْلِكَ لِمَنْ اَمَّلَكَ مُباحَةً، وَاَبْوابَ الدُّعاءِ اِلَيْكَ لِلصّارِخينَ مَفْتُوحَةً ... وَالْحَمْدُ للهِ الَّذي تَحَبَّبَ اِلَىَّ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنّي ...

فنلاحظ في هذه العبارات لفت انتباه الداعي إلى مفارقات أساسية في علاقتنا بالله تعالى. فالله تعالى يجيبنا إذ ندعوه، ويعطينا إذ نسأله في حين أننا بطيئوا الاستجابة، بخيلوا العطاء.

كما إنه جل جلاله وعز شأنه قد فتح لنا باب الدعاء إليه، فلا حجاب، ولا مواعيد، ولا أحد معنا إذ نضع أنفسنا أمام مقامه الكريم.

ثم إننا نجد أن الله تعالى يتحبب إلينا في حين أنه الغني المطلق عنا، مقابل ابتعادنا عنه، في حين أننا الفقراء المحتاجون إليه.


ثم يقول الإمام ليقرر لنا أن الرحلة إلى الله ليست بعيدة: وَاَنَّ الِراحِلَ اِلَيْكَ قَريبُ الْمَسافَةِ...

ثم يؤكد لنا أن الله تعالى غير بعيد عنا، وغير محجوب عن خلقه، وإنما أعمالنا تحجبنا عنه، وانصرافنا يبعدنا منه: َاَنَّكَ لا تَحْتَجِبُ عَنْ خَلْقِكَ إلاّ اَنْ تَحْجُبَهُمُ الاَْعمالُ دُونَكَ. وإلا فهو الله تعالى القريب لمن سعى إليه، اللطيف بمن استعان به.

هذه المفارقات بين الله والعبد مما يجب أن يستحضر. وهي مفارقات تحكي واقعا موجوداً نراه كل يوم. فالإمام هنا يلفت الانتباه إليها، لنفكر فيها، ونتأملها، ونصيغ سلوكنا وفق رؤيتنا له.

ثم يقول في مقطع آخر: اَدْعُوكَ يا سَيِّدي بِلِسانٍ قَدْ اَخْرَسَهُ ذَنْبُهُ، رَبِّ اُناجيكَ بِقَلْبٍ قَدْ اَوْبَقَهُ جُرْمُهُ... وهذا حال من أدرك تلك المفارقات، فكل من عرف الله تعالى عز شأنه، وعرف ذاته بما فيها ضغف، ثم نظر إلى تلك المفارقات، نظر إلى كيف الله معنا بكل جلاله وجبروته، وكيفنا مع الله بكل ضعفنا وهواننا، فإن أقل أحواله أن يخرسه الخجل عندما يقف أمام الله.

ويضاعف الشعور بالخجل، والشعور بالحياء الشديد ما نعرفه من أنفسنا، وما عبر عنه الإمام بقوله: فَلَوِ اطَّلَعَ الْيَوْمَ عَلى ذَنْبي غَيْرُكَ ما فَعَلْتُهُ، وَلَوْ خِفْتُ تَعْجيلَ الْعُقُوبَةِ لاَجْتَنَبْتُهُ... نعم! هذا حال الإنسان.. يخجل من الإنسان الضعيف الذي لم يقدم له شيئاً، ولا يخجل من الله ذو الجلال الذي منه وجودنا، وبه دوامنا، وبنعمه قيامنا، وإليه مآلنا.

ولذلك فإننا كما يقول الإمام، إننا إذ ندرك حال الله معنا، وحالنا مع الله : فَقَدْ عَلِمْنا ما نَسْتَوْجِبُ بِاَعْمالِنا.. فهي أعمال لا توجب إلا السخط والعذاب والعقاب. ولكننا نتردد دوماً بين تلك المقارنة وبين علمنا بالله، ولذلك فإن ما يعطينا الأمل في الدعاء إنما: وَلكِنْ عِلْمُكَ فينا وَعِلْمُنا بِاَنَّكَ لا تَصْرِفُنا عَنْكَ وَاِنْ كُنّا غَيْرَ مُسْتَوْجِبينَ لِرَحْمَتِكَ...

وفي مقطع آخر يذكر الإمام مفارقات أخرى بين حال الله وحال العبد، وهي مفارقات جديرة بأن تدهش كل من يتأمل فيها: تَتَحَبَّبُ اِلَيْنا بِالنِّعَمِ وَنُعارِضُكَ بِالذُّنُوبِ، خَيْرُكَ اِلَيْنا نازِلٌ، وَشُّرنا اِلَيْكَ صاعِدٌ، وَلَمْ يَزَلْ وَلا يَزالُ مَلَكٌ كَريمٌ يَأتيكَ عَنّا بِعَمَلٍ قَبيحٍ، فَلا يَمْنَعُكَ ذلِكَ مِنْ اَنْ تَحُوطَنا بِنِعَمِكَ، وَتَتَفَضَّلَ عَلَيْنا بِآلائِكَ... هذه المفارقات بين ما نعمله لله، وما يعمله الله تعالى لنا، مفارقات من الضرورة الالتفات إليها، وإدراكها، كما لا شك وأنها ستؤدي إلى حالة من الخجل الشديد والحياء البالغ من الله تعالى.

وفي مفارقة أخرى يذكرها الإمام: سَيِّدي اَنَا الصَّغيرُ الَّذي رَبَّيْتَهُ، وَاَنَا الْجاهِلُ الَّذي عَلَّمْتَهُ، وَاَنَا الضّالُّ الَّذي هَدَيْتَهُ، وَاَنَا الْوَضيعُ الَّذي رَفَعْتَهُ، وَاَنَا الْخائِفُ الَّذي آمَنْتَهُ، وَالْجايِعُ الَّذي اَشْبَعْتَهُ، وَالْعَطْشانُ الَّذي اَرْوَيْتَهُ، وَالْعاري الَّذي كَسَوْتَهُ، وَالْفَقيرُ الَّذي اَغْنَيْتَهُ، وَالضَّعيفُ الَّذي قَوَّيْتَهُ، وَالذَّليلُ الَّذي اَعْزَزْتَهُ، وَالسَّقيمُ الَّذي شَفَيْتَهُ، وَالسّائِلُ الَّذي اَعْطَيْتَهُ، وَالْمُذْنِبُ الَّذي سَتَرْتَهُ، وَالْخاطِئُ الَّذي اَقَلْتَهُ، وَاَنَا الْقَليلُ الَّذي كَثَّرْتَهُ، وَالْمُسْتَضْعَفُ الَّذي نَصَرْتَهُ، وَاَنَا الطَّريدُ الَّذي آوَيْتَهُ....

فيعدد جملة من نعم الله العظام علينا، ثم بعد ذلك يشير إلى كيف كان فعلنا تجاه تلك النعم فيقول: اَنَا يا رَبِّ الَّذي لَمْ اَسْتَحْيِكَ فِي الْخَلاءِ، وَلَمْ اُراقِبْكَ فِي الْمَلاءِ، اَنَا صاحِبُ الدَّواهِي الْعُظْمى، اَنَا الَّذي عَلى سَيِّدِهِ اجْتَرى، اَنَا الَّذي عَصَيْتُ جَبّارَ السَّماءِ، اَنَا الَّذي اَعْطَيْتُ عَلى مَعاصِي الْجَليلِ الرُّشا، اَنَا الَّذي حينَ بُشِّرْتُ بِها خَرَجْتُ اِلَيْها اَسْعى، اَنَا الَّذي اَمْهَلْتَني فَما ارْعَوَيْتُ، وَسَتَرْتَ عَلَيَّ فَمَا اسْتَحْيَيْتُ، وَعَمِلْتُ بِالْمَعاصي فَتَعَدَّيْتُ، وَاَسْقَطْتَني مِنْ عَيْنِكَ فَما بالَيْتُ...

فالله تعالى ينعم علينا، ونحن نعرض عنه، ولكن الله تعالى بعد ذلك بفضله وكرمه يحلم عنا، ويستر علينا، ويجنبنا عقوبته: فَبِحِلْمِكَ اَمْهَلْتَني وَبِسِتْرِكَ سَتَرْتَني حَتّى كَاَنَّكَ اَغْفَلْتَني، وَمِنْ عُقُوباتِ الْمَعاصي جَنَّبْتَني حَتّى كَاَنَّكَ اسْتَحْيَيْتَني... وبسبب إدراك الإمام لعظم المفارقة بين ما يعمله الله تعالى لنا، وبين ما نستحقه منه جل جلاله نجده يقرب ستر الله بالإغفال، وتجنيب العقوبة بالحياء.

وفي أدعية الصحيفة نجد نحو تلك الإشارات الروحية فمثلاً في دعائه في الصلاة على النبي، نلاحظ تشديد الإمام على الخصائص العملية للنبي، والتي بها استحق ما استحق عند الله تعالى، وعند خلقه. ويخلو الدعاء تماماً من أي خصائص تكوينية بحيث يكون التفكير في النبي عليه السلام تفكيراً في أعماله، وليس تفكيراً في خلقه. وفي دعائه عليه السلام في الاعتراف لله تعالى نجد الإمام يبدأ الدعاء بلفت الذهن إلى ما ينبغي أن يكون عليه الداعي من الخجل من الله تعالى، خجل قد يحول دون التوجه إلى الله تعالى، لولا أن الله تعالى يتفضل على من يقبل إليه، ويحسن الظن به. ((اَللَّهُمَّ إنَّهُ يَحْجُبُنِي عَنْ مَسْأَلَتِكَ خِلاَلٌ ثَلاثٌ وَتَحْدُونِي عَلَيْهَا خَلَّةٌ وَاحِدَةٌ، يَحْجُبُنِي أَمْرٌ أَمَرْتَ بِهِ فَأَبْطَأتُ عَنْهُ، وَنَهْيٌ نَهَيْتَنِي عَنْهُ فَأَسْرَعْتُ إلَيْهِ، وَنِعْمَةٌ أَنْعَمْتَ بِهَا عَلَيَّ فَقَصَّـرْتُ فِي شُكْرِهَـا. وَيَحْدُونِي عَلَى مَسْأَلَتِكَ تَفَضُّلُكَ عَلَى مَنْ أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ إلَيْكَ، وَوَفَدَ بِحُسْنِ ظَنِّـهِ إلَيْكَ..)) ثم ينطلق ببيان حاله مع الله، وحال الله معه، ليلح على الله تعالى أن يغفر له، ويتوب عليه. وفي دعائه حال المرض نجد الإمام يلفت انتباه الداعي إلى العافية التي لا زالت موجودة لدى الإنسان، وأبرزها عافية العقل والإيمان. ثم يقارن الإمام بين حالي العافية والمرض، وما في كل واحدة منهما من منافع، ثم يختم الدعاء بعد ذلك. وفي دعائه في مكارم الأخلاق نجده يخط دستوراً أخلاقياً يرجو من الله أن يوفقه للالتزام به.

والمقام لا يسمح بالتوسع في الأمثلة، ولعل في قليل ما ذكر ما يكفي لأن نقرأ الصحيفة وغيرها من الأدعية بوصفها دروساً في العلاقة مع الله، وبوصفها دلالات ومعالم في الطريق إلى الله تعالى ضمن سياق الاقتداء بفكر الصالحين. ولعل قراءتها كذلك يجب أن يسبق قراءتها بوصفها أدعية راجين من الله أن يقبلنا ويستجيب لنا في جميع الأحوال.

-----
إنتهى

المصدر :
http://www.yemenhurr.com/modules.php?na ... e&sid=1976
صورة
صورة

أضف رد جديد

العودة إلى ”المجلس الروحي“