المدينة المنورة: علي الزيد
تثير مشكلة بدأت تبرز بوضوح في مقبرة "بقيع الغرقد" المناهزة للمسجد النبوي الشريف أزمة من نوع خاص تمس أشهر مقبرة في العالم الإسلامي.. فالعظام البشرية التي تظهر تقريبا في كل عملية حفر لتجهيز قبور جديدة باتت تسبب استياء واسعا ليس فقط بين صفوف علماء شرعيين يزعجهم بشدة تكشف رفات موتى المسلمين، بل بين حجاج ومعتمرين يزورون البقيع فيتعثرون بعظام بشر كان ينتظر أن يُعاملوا، في هذا المكان بالذات، معاملة لائقة.
وكانت الحالة، التي أخذت شكل الظاهرة المتكررة كثيرا اليوم، قد بدأت بالبروز منذ أعوام عندما كان حفارو القبور يتفاجؤون بظهور بقايا بشرية عند قيامهم بتجهيز قبور جديدة، وتشير تلك البقايا المتناثرة لعظام الأطراف أو الجمجمة أو الأضلاع البشرية إلى أن حرمة الموتى، ببساطة، جرى انتهاكها.
وتفصح الصور التي حصلت عليها "الوطن" عن عظام آدمية متباعدة عن بعضها، وربما تبرز عظمة جمجمة دون أن تظهر العظام الأخرى للجسد، الأمر الذي يعني، بالنسبة لمجهزي القبور، أن القبر تعرض للحفر أكثر من مرة في سبيل تجهيز قبر جديد.
غير أن الحلول المطروحة لمعالجة الأزمة تكتنفها هي الأخرى صعوبات تستدعي إقامة حوار حول نقاط تتضمن حساسية خاصة بالنسبة للمسلمين عامة، وأهالي المدينة المنورة بالذات.. فالحل الأول يكمن في إغلاق مقبرة البقيع وتحويل الدفن إلى مقبرة جديدة، وهو الحل الذي يستقي وجاهته من أهمية الحفاظ على كرامة الأموات وحرمة نبش القبور، إلا أنه حل قد يواجه بموجة اعتراض ممن لا يعنيهم سوى أن يظل ثرى "بقيع الغرقد" باقيا لمواراة أجساد آلاف المسلمين سنويا من أهالي المدينة والزوار الذين يأتي بعضهم حاملا أمنية بأن يُتوفى هنا، في المدينة، حتى يدفن في البقيع.
ويكمن الحل الثاني، والمطروح من علماء ومهتمين اتصلت بهم "الوطن" وطلبوا عدم التطرق إلى أسمائهم، في تقنين عملية الدفن في البقيع بالتوزيع مع مقبرة أخرى؛ وبالنسبة للبعض منهم، تكتنف الفكرة صعوبة تحديد: من يُدفن في البقيع ومن يُدفن في غيره؟
أما الحل الثالث والذي يبدو مناسبا للجميع غير أنه يواجه صعوبات في التطبيق فيكمن في توسعة مقبرة بقيع الغرقد بحيث تواصل مهمتها في احتضان رفات الموتى دون أن تتكشف عظامهم، غير أن البقيع يُطوّق اليوم بشوارع ومشروعات استثمارية جديدة وضخمة يتعذر معها تنفيذ أية توسعة له.
ويدفع المنادون بضرورة حل الأزمة برأي يقول إنه لا يوجد أصل شرعي واضح لأفضلية الدفن في البقيع، فيما تبرز أصول صريحة تحرّم انتهاك مقابر المسلمين.
فمن جهته، يقول الأستاذ المشارك في الفقه وأصوله، عضو هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، الدكتور محمد بن حسين الجيزاني، إن اتفاق العلماء "وقع على أنه لا يجوز نبش قبور المسلمين أو الكشف عن الموتى بعد إهالة التراب عليهم لمدة طويلة أو قصيرة، وذلك لأن قبر المسلم وقف عليه ما دام يوجد شيء منه فيه، فإن بقي شيء من أعضائه فالحرمة قائمة بجميعه".
ويقول الجيزاني:في نبش القبر إهانة للميت وهتك لحرمته وتكسير لعظامه. وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن المختفي والمختفية يعني نباش القبور. وقد ذكر أهل العلم أن نبش القبور كبيرة من الكبائر وأن فاعله يستحق العقوبة الرادعة.
ويمضي الدكتور محمد قائلا: يستثنى من ذلك وجود مصلحة شرعية راجحة، كما حصل ذلك لشهداء أحد في عهد معاوية ، لما لحقهم السيل.
وينبه الجيزاني إلى أن ما ورد من فضل الموت في المدينة "إنما يدل على أفضلية سكنى المدينة والمجاورة فيها، أما إن كان الدفن حاليا في مقبرة البقيع يؤدي إلى نبش القبور وما يتبعه من كسر للعظام وإهانة للموتى ولم يتيسر توسعة البقيع في الوقت الراهن؛ فينبغي النظر في دفن الموتى في مقابر أخرى في المدينة".
وإذ يواجه البقيع، دونا عن أية مقبرة معروفة أخرى في العالم الإسلامي، ضغطا خاصا يتمثل بمئات الذين يوصون بدفنهم فيه عند وفاتهم، يوضح الجيزاني أن "دفن الميت يستحب أن يكون في البلد الذي توفي فيه، وعلى هذا كان الأمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه عامة أهل العلم".
ويستطرد: لكن من مات في موضع قريب فلا بأس بنقله إلى أفضل مقبرة للمسلمين يحصل فيها الأمن على هذا الميت ويكثر فيها الزائرون والمستغفرون، ومن أوصى أن يدفن في مقبرة معينة طلبا لبركة هذه المقبرة ولم يخش على الميت من التغير وكانت المسافة قريبة ولم يكن في ذلك مشقة على أهله: حسن تنفيذ هذه الوصية، فيما يظل الأصل في أن يدفن الميت مع المسلمين في مقابرهم قرب أهله.
ويشير خطاب سري موجه، عام 1410هـ، إلى وزير الداخلية وحصلت "الوطن" على نسخة منه إلى أوامر سامية تستند إلى قرار صادر عن مجلس هيئة كبار العلماء بشأن "موضوع مقبرة البقيع بالمدينة المنورة وما تتعرض له قبور المسلمين هناك من نبش وإهانة".
وقضى الأمر السامي في الخطاب "بتخصيص أراض كافية في كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة والطائف لتكون مقابر لدفن أموات المسلمين".
يذكر أن آخر توسعة لمقبرة البقيع زادت مساحتها الإجمالية لتصل إلى 180 ألف متر مربع، فيما يعد البقيع المقبرة العامة والتاريخية لأهالي المدينة المنورة وزائريها حيث دفن فيه، منذ عهد رسول الله صلى الله علية وسلم، الكثير من الصحابة، إضافة إلى من توفي من علماء وأهل المدينة، ومن المجاورين لها، ومن الزوار والمعتمرين والحجاج منذ ذلك الوقت.
وقد سمي البقيع بـ"بقيع الغرقد" نسبة إلى نبات العوسج، وهو الذي كان، تبعا للروايات التاريخية، ينتشر في أرضه.



http://www.alwatan.com.sa/daily/2006-11 ... page10.htm