هذه السطور هي مقتطفات من شهادة امرأة اردنية تقيم في صنعاء منذ 11 سنة. تبدأ من مشهد في المطار، لتنتقل الى الشوارع، فالى معهد دراسات الجندرة في كلية الآداب في العاصمة اليمنية.
حين هبطت بنا الطائرة في مطار صنعاء يوم 12/12/1994، كنت فرحة بتحقق امنيتي: ها قد حل، اخيراً، موعد جمع شمل اسرتنا، انا وطفلاي وزوجي الذي سبقنا قبل 3 سنوات، للعمل في اليمن.
مشهد المطار
لا ادري ان كان علي ان اعتذر مسبقاً من اليمنيين عن عنصريتي المحتملة، قبل ان اقول ان المشهد الاول الذي ابصرته في المطار، كان يبعث على الكآبة: رجال داكنون، مهملون شعر ذقونهم، يلبسون ثيابا داكنة، بل متسخة، من الزي اليمني التقليدي. افواههم منتفخة بخزين مسحوق ورق القات الذي تخرج منه الى جنبات شفاههم نثرات صغيرة خضراء مع سائل اخضر لزج يسيل من مضغ النبتة اليمنية "الوطنية" الاولى.
انها النبتة التي سوف تنغِّص حياتي الزوجية والاسرية في السنوات الثلاث الاولى من اقامتي في صنعاء. ذلك اني صعقت حين رأيت زوجي يخزّن القات مثل سائر الرجال اليمنيين، وبلغت مناكفاتنا وخلافاتنا الزوجية حد استغاثتي بأخي، علّه يساعدني في حمل زوجي على الاقلاع عن ارتياد مجالس القات في المقيلات وعن اقامتها في بيتنا. هذا قبل ان اصير على شفير طلب الانفصال والطلاق الذي، بدل اقدامي على طلبه، جرّني زوجي، متعاونا مع صديقة يمنية، الى مشاركته جلسات التخزين بين وقت وآخر... فدخلت في الحياة اليمنية من بابها الوحيد المشرع للناس جميعا: مجالس مضغ القات وتخزينه في المقيلات اليومية التي علي ان اعترف باستمتاعي بها استمتاع أهل اليمن الذين يستحيل العيش في ديارهم من دون ارتياد المقيلات التي تشكل محور دورة حياتهم اليومية، وناظمها الاول. اما الذي يأخذه العناد ويصرفه عن ارتيادها، فيفرد "افراد البعير المعبّد" ويستوحش حتى الرحيل عن اليمن.
خيم النساء
في المطار كنت قد انتحيت جانبا في انتظار انجاز معاملات خروجي منه، فشعرت ان منظري غريب بشعري السافر وثيابي الملونة وسط سواد ثياب النسوة ودكنة الرجال الذين كان غير الحفاة منهم ينتعلون مشايات سميكة من جلد او بلاستيك، فيما هم يتكلمون بأصوات عالية ونبرات حادة، كأنهم يتشاجرون.
المشهد الثاني الذي صدمني في صنعاء، كان مشهد النساء اليمنيات القابعات تحت "الخيم" السود في الاماكن كلها. وحين تعرفت الى بعضهن واحتككت بهن في بدايات اقامتي في صنعاء، لم ترق لي رائحتهن، قبل ان اكتشف، لاحقا، ان الاشياء والروائح والناس في البلاد الغريبة التي نصل اليها، لا تبقى على حالها، بل تتبدل او نتبدل نحن، بعد حين من اقامتنا فيها. والدليل على تعودي مشاهد الحياة في اليمن، وعلى عدم ارتياحي لمشاهد النساء اليمنيات تحت "خيمهن" السود، اني كلما عدت في زيارة الى مدينتي الأولى عمان، اظل طوال يومين او ثلاثة مصابة بما يشبه الغشيان البصري، فيما انا احدق في المشاهد الملونة للناس من حولي. كأني في تحديقي هذا انزع عن عيني غشاوة سوداء، لأتعود من جديد مشاهد طبيعية واليفة للناس والعالم من حولي. فالناس في عمان يلبسون ثيابا ملونة، وكثيرات هن النساء السافرات الشعر والوجوه والارجل والايدي.
الخوف والغفلة
البيت الاول الذي دخلته في صنعاء كان يبعث على الكآبة ايضا. لم ابصر روعة العمارة اليمنية التي سمعت الكثير عن روعتها. البيوت اليمنية منكفئة على دواخلها، ظليلة غير منورة، على خلاف البيوت التي تعودتها في عمان. بعد وقت تعودت الحياة الداخلية في البيوت، وعزائي اجتماع شمل اسرتنا. لكني اليوم، بعد 11 سنة من الاقامة في صنعاء، لا أدري ان كان ذلك العزاء يكفي وحده للاستمرار في هذه الاقامة.
قليلا ما اتساءل عما اذا كانت كآبات المشاهد الاولى التي صدمتني في اليمن، قد زالت من نفسي، ام انها غارت وترسبت فيها، فعايشتها بطيئا بطيئا حتى النسيان والغفلة عنها متروكة مهملة في موضع ما خفي من حياتي ونفسي. ربما عليَّّ ترجيح غفلتي عن تلك الكآبات، لأني وزوجي مزمعان على مغادرة اليمن بعد سنتين او ثلاث، كي نجنّب اولادنا مغبة التورط بعيدا في الحياة اليمنية، مثلما تورطت انا في مضغ القات وتخزينه، وتورط زوجي من قبلي. فنحن الكبار نستطيع القول ان لدينا حياتنا وذكرياتنا الماضية، وشخصياتنا التي تصلب عودها، فتبلورت واكتملت، على خلاف اولادنا الذين عاشوا طفولتهم وصباهم الاول في اليمن. ذلك ان تعليمهم في مدرسة خاصة انشأها مهاجرون هنود، تخلط بين اولاد من جاليات اجنبية آسيوية واوروبية، لم يعد يكفل الحؤول دون توغلهم في حياة المجتمع اليمني العام الذي نحرص على حمايتهم من عاداته وتقاليده، لئلا يتشربوها ويتطبعوا بها في غفلة منا، فترسخ في نفوسهم واجسامهم الطرية، ويشبّون عليها.
الجندرة والنقاب
في البداية اقتصرت علاقاتي على نساء اردنيات مقيمات في صنعاء. لكني سرعان ما تعرفت الى يمنيات كثيرات في كلية الآداب – معهد دراسات الجندر الذي انشأته الدكتورة رؤوفة حسن بتمويل هولندي. امضيت ثلاث سنوات طالبة في المعهد، ابتداء من سنة 1996، وحتى اقفاله عقب استضافته ندوة تحدث فيها باحث مغربي عن الجنس والاختلاط والتحرر الجنسيين، فتعرض المعهد لحملة تشهير اخلاقي شنها ضده حزب الاصلاح اليمني ذو النزعة الاسلامية المتشددة بزعامة رئيس مجلس النواب في اليمن، عبدالله الاحمر. وفي خضم هذه الحملة تعرضت رؤوفة حسن نفسها لضغوط ومضايقات حملتها على مغادرة اليمن الى القاهرة فباريس والولايات المتحدة الاميركية.
كنا في المعهد نحو 20 طالبة و20 طالبا. لفتني ان الطالبات المنقبات بالسواد اجرأ في الكلام والمناقشة من غير المنقبات، اي السافرات الوجوه والمقتصر نقابهن الاسود على شعرهن واجسامهن كلها. اما السافرات الوجوه والشعر، فكن اكثر الطالبات تحفظاً واضطراباً وخجلاً في الكلام والمناقشة. كأن المنقبات الاجسام والوجوه التي لا تظهر فيها سوى العيون، كن يتمترسن خلف نقابهن هذا الذي يريحهن ويقيم بينهن وبين العالم والناس حاجزا يكسبهن جرأة اقرب الى الوقاحة في المجادلة والمشاكسة الهجومية، فيتسلطن في الكلام والرأي اللذين يصدران عن قوة واحكام متعالية مكتملة تقيم خارج حياتهن وحواسهن واختباراتهن، فيما هن، المتكلمات المجادلات، لسن سوى واسطة لتلك القوة التي تتكلم فيهن او عبرهن. هذا على خلاف السافرات الوجوه والشعر اللواتي تداخل الحيرة كلامهن الذي يصدر عن انفسهن وحياتهن، غير مكتمل ولا مغلق ولا منزل عليهن من قوة عليا تقيم في ملأ أعلى.
كنت احدق في المنقبات مصابة بالذهول متسائلة في نفسي، ان كان كلامهن يطلع، هكذا، جريئا وقحاً من اعينهن السافرة وحدها خلف ذلك الحصن الاسود الذي يقنّع الاجسام والجباه والانوف والافواه. هذا قبل ان ادرك ان انتساب هؤلاء الطالبات الى معهد الدراسات الجامعية للجندرة، كانت غايته اثبات حضورهن فيه، واستعماله منبرا لبث افكارهن وكلماتهن التي يحفظنها مكتملة ثابتة، وجئن لاعلانها في شراسة حربية بغية تعطيل المناقشة وتخريب المعهد... وهذا ما حصل في النهاية بعد تلك الندوة التي شارك فيها الباحث المغربي.
الاسماء المحرمة
الطلاب العشرون الذين انتسبوا الى المعهد الجامعي، كانوا كلهم مقيمين على عقلية تقليدية محافظة وموروثة عن اهلهم. احدهم، وهو باحث في مركز الدراسات اليمنية الذي يديره عبد العزيز المقالح، وكان رئيسا لاتحاد الكتاب والشعراء في اليمن، رفض ان يذكر اسماء زوجته وبناته، جريا على عادة يمنية شائعة، تحرم على الرجال التلفظ بأسماء حريمهم العلم. كأن ذكر اسمائهن هذه والافصاح عنها واعلانها تكشف سترهن، بكل عوراتهن، خلف نقابهن الاسود. حتى ان اسماء الامهات تندرج بدورها في هذا التحريم الذكوري الساحق. فالرجال اليمنيون حين يتحدثون عن زوجاتهم وامهاتهم وبناتهم، يقولون الزوجة والام والبنت، هكذا مع أل التعريف التي هي في الحقيقة والواقع أل التجهيل والاغفال المطلقين الموازيين لنقاب التجهيل والاغفال الاسود الذي يقنّع اجسام النساء ووجوههن. واحيانا يقول الرجل اليمني "العائلة" حين يتحدث عن زوجته، حاذفاً، على نحو مستديم، ياء المتكلم التي تكشف محرّماً، اذا اتصلت بأسماء الجنس المغفلة المجهولة والمستترة: الزوجة والعائلة والام والابنة والاخت... الخ.
طالبة من طالبات المعهد الجامعي السافرات الوجه فقط، كانت زميلاتها المنقبات ينعتنها بـ"الفاتشة"، جريا على صفة يمنية شائعة تلاحق السافرات الوجوه، للحط من شأنهن في اعتبارهن متفلتات سائبات. لنزع هذه الصفة عنها نقّبت الطالبة هذه وجهها، وراحت تصول في المناقشات وتجول جريئة حتى الوقاحة على مذهب المنقبات في الرأي واداء الكلام، ثم لم تلبث ان تزوجت طالبا من حلقة طلاب المعهد، كأنما نقابها الجديد هو الذي منحها القدرة على جذب ذلك الطالب واستمالته، بعدما كانت في عداد "الفاتشات" اللواتي يحرمهن سفورهن من جرأة المنقبات ومقدرتهن على جذب الرجال، بل الايقاع بهم وصولا الى الزواج الذي قبل حصول عقده الشرعي ومراسيمه، خرجت الطالبة المنقبة حديثا مع الذي سيصير زوجها، وانفردت به انفرادا خاصا وحميما، يستحيل على السافرة الاقدام عليه.
وزير وزوجتان
امرأة اخرى من طالبات معهد دراسات الجندرة الجامعي، وهي من المنقبات وزوجة وزير ثقافة سابق في الحكومة اليمنية، وام لخمسة اولاد، وتحمل شهادة بكالوريوس في علم الاجتماع، واخرى مثلها في اللغة العربية. صعقت حين علمت ان هذه المرأة قد قامت بتزويج زوجها من صديقتها التي اسكنتها معها في بيتها الزوجي والأسري.
ثم تضاعف انصعاقي حين سألتها مرة لماذا سعت في تزويج زوجها، وأجابت: هو يريد ويرغب، واطلعني على رغبته، فسعيت الى التقريب بينه وبين صديقتي التي احبها، فوفّقت في مسعاي، فزوجتهما، وها نحن نعيش على وئام في بيتنا، بلا مشاكل ولا مناكفات، ما دام يحق له بأربع واكتفى بي وبصديقتي، ولم يقصّر في حقي وحق اولادي، وفي ما نحتاجه مع ولدي صديقتي من زواجها السابق.
الزوج وزوجتاه من حزب الاصلاح اياه الذي كان حزب "الاخوان المسلمين" في اليمن، قبل ان يتزعمه الشيخ عبدالله الاحمر. ويقال ان الرئيس اليمني علي عبدالله صالح هو الذي زعّم الاحمر على هذا الحزب ليظل ممسوكا ومراقباً وطوع ارادة حزب المؤتمر الحاكم، في دور المعارضة حيناً وفي دور تشكيل حكومات ائتلافية بين الحزبين، احيانا اخرى.
وحدي بين طالبات الجندرة لم اتفهم ذلك الزواج الثنائي بين رجل وامرأتين صديقتين تقيمان في بيت زوجي واحد. حتى الدكتورة رؤوفة حسن التي كانت جريئة في ادارة المناقشات في صفها الجامعي، ابدت شيئا من الاستنكاف عن متابعة المناقشة، ربما لأن زوج المرأة وزير في الحكومة.
حلقة ثانية من الرحلة في بلاد اليمن، تبدأ بمشاهد عابرة عن مطار صنعاء وبعض شوارعها، لتصل الى دور مجالس القات المحوري في حياة اليمنيين اليومية، وإلى صور بيروت التلفزيونية في قرية منعزلة في الجبال، والى حادثة اكتشاف مقبرة جماعية في عدن.
مساء الثلثاء 29 كانون الاول 2005 وصلت الى مطار صنعاء. شيء من برد خفيف وتعب وخدر في الاعضاء والحواس، لم تقلل منها مشاهد البشر والاشياء والتجهيزات في ردهات المطار البدائي الكئيب الذي بدا كأنه مطار فلاحي او قبلي على طرف العالم.
البؤس والاهمال
ألوان كامدة تنيرها اضاءة شحيحة داكنة كملابس الناس الذين بدوا في هيئة ركاب وموظفين في محطة قطارات صغيرة نائية، او في ضاحية بعيدة لمدينة صحراوية من مخلفات الانظمة الاشتراكية.
كأنما مطار صنعاء الصغير قصر استعارته من مطار بوخارست الروماني في زمن اشتراكية تشاوشيسكو، على ذلك البؤس المزمن في بعض ردهاته الجانبية. البؤس الذي يتكاثف بالاهمال ليتفشى على هواه في المطار اليمني الصغير الشبيه بمستوعب ضخم. فهل من صلة يا ترى بين الاشتراكية الراحلة عن السهوب في طرف اوروبا الوسطى الشرقي، والقومية الجمهورية، العسكرية والاشتراكية، في المدن العربية الداخلية؟ صلة ليس مصدرها الانتقال والتبادل بين هناك وهنا، بل الانبثاق المتشابه لارتثاث البؤس القديم يخالطه التخلف الحديث او المعاصر في استعمال المكان والتجهيزات والآلات والأثاثات... التي يتركها الاهمال والفقر لتلف بطيء يصير من طبيعة الاشياء والحياة ومادتها ومشاهدها.
من التراب وإلى التراب
السيارة وسائقها اللذان نقلاني من مطار صنعاء الى فندق "مركير" (التابع لشبكة فرنسية) في المدينة، لم تكن حالهما لتختلف عن حال المطار. وطوال عشرة أيام في اليمن لم يصادف ان ركبت سيارة اجرة إلا واحدة فقط لا يغلف سائقها سطح "التابلو" الامامي فيها بقطعة قماش كثيفة الوبر داكنة خشنة المنظر من كثرة ما علق بها من غبار ولطخ أمست من مادة القماش والوبر، حتى لتحاذر اليد غزيزياً ان تمتد اليها لتلمسها.
سيارات الاجرة في مدن اليمن عتيقة بالية متآكلة متصدعة ويعشش الغبار كثيفاً فيها. فقر يكتمل باهمال الاشياء والاماكن والاجسام، كأنها الحكمة الدينية الوجودية والعبثية الشائعة التي تقول ان البشر "من التراب والى التراب" ماثلة في وجدان البشر وحياتهم وسلوكهم، معطوفة على ضراوة هي وليدة اكتظاظ المدن واضطراب عمرانها وتشوهه، وعلى قوة السعي اليومي الفوضوي لتحصيل المعيش، تداركاً لفقر وحاجة محدقين قد يبلغان الجوع الفعلي.
لكنك نادراً ما تصادف متسولين في شوارع مدن اليمن. فقر يلامس الجوع في الارياف وفي المدن، لكن بلا متسولين. وهذا ما اكثر مروان - القادم من القاهرة من الانتباه اليه وملاحظته، مقارنة بضيقه حتى الاختناق بكثافة متسولي شوارع القاهرة وتكرارهم كلمة "يا بيه بيك"، فيما هم يقتربون من "البكوات" المزعومين، ملحين حتى الانهاك في طلب التسول منهم. فهل هي الشهامة القبلية ما يعصم فقراء اليمن من التسول؟ ام هي قلة الغرباء او الاجانب في بلدهم شبه المعزول في طرف الجزيرة الجنوبي، لانعدام السياحة فيه مقارنة بازدهارها الخائف من هجمات الارهاب الاسلامي في مصر، ما يجعل التسول في المدن اليمنية بلا جدوى؟ ناهيك بعدم ظهور الفئات المتوسطة والميسورة في الحيز المديني العام، ربما لضآلة عددها وانغلاقها على حياتها الخاصة. فكيف يمكن التسول ان يظهر ويكون مجدياً في مدن يتراءى للعابر في شوارعها ان المراتب والفروق الطبقية والثقافية ضعيفة بين سكانها شبه المتجانسين؟!
فوضى اللافتات
في العاشرة ليلاً خرجت من فندق "مركير" لاستطلع ملامح ومشاهد تدل على المكان المدينة التي نزلت فيها.
الاضواء في الشارع القريب من الفندق لا تختلف عنها في المطار. وبعد مسافة غير طويلة وصلت الى شارع طويل عرفت لاحقا انه من شوارع صنعاء الرئيسية المعروف بشارع الزبيري.
الحركة قليلة خامدة، ولافتات المتاجر والمؤسسات مزروعة في فوضى غرائبية واحجام لا يضبطها ضابط في اعلى الواجهات وابواب الحديد المقفلة. فكل متجر ومؤسسة وشركة ومكتب خدمات للصرافة والاتصالات الهاتفية واجهزة الهاتف الخليوي وتجهيزات الكومبيوتر والانترنت... اختار على هواه وذوقه اللافتة التي علقها فوق متجره ومكتبه، غير متقيد بشكلها وحجمها ولونها، لتناسب التي تجاوزها وتحاذيها او البعيدة منها. والاغرب ان اللافتات غالبا لا تثبت في أعلى واجهات المحال والمتاجر، بل هي تعلق عرضيا فوق الواجهات لتبرز فوق الرصيف، كأنما لتتدافع متسابقة في اعتراضها عيون المارة العابرين. فهل تنبىء هذه الظاهرة عن نازع الفردية الفوضوية المتزاحمة بلا هوادة ولا ضابط في الفضاء المديني العمومي الذي تشغله اللافتات؟
البصر والحديد
عما ينبىء ايضا ان تكون ابواب المتاجر والمكاتب والشركات كلها في اليمن مصنوعة من الحديد الصلب؟ ابواب اذا ما أقفلت في الليل تبدو اشبه بأبواب قلاع صغيرة، لتشكل، الى جانب الارصفة والشوارع ، جدرانا من حديد رمادي او رصاصي يصفع الابصار العابرة ويخنقها ويبعث في النفس ضيقا بدل بهجة التنوع والاختلاف وخفتهما اللتين تنبعثان من المتاجر والمكاتب والشركات المضاءة وهي مقفلة بأبواب تتيح للبصر والضوء المنبعث من خلفها، ان يلعبا لعبتهما الاليفة العبارة، حين يعبر البصر على واجهاتها ومحتوياتها الداخلية المتروكة موضبة وظاهرة للبصر العابر.
والحق ان عدم اقفال هذه "النوافذ" الرصيفية بالحديد الذي يحول ابواب المتاجر والمكاتب والشركات جدرانا مقبضة، لا يبدل من حال السير في المدن اليمنية، ما دامت الواجهات والسلع والاثاثات وتوضيبها خلف ابواب الحديد المقفلة متروكة للاهمال والفوضى، فلا يتمتع العابر في الشوارع ببهجة النظر وخفة تنقله عليها اثناء التسكع على الارصفة.
لم اجد جواباً شافياً عن اسباب تصفيح ابواب متاجر المدن اليمنية ومكاتبها بالحديد، فتذكرت المتاجر والشركات والمكاتب في مدننا اللبنانية في ازمنة الحروب القريبة، حين جرى تصفيح ابوابها بالحديد، حماية لها من الانفجارات وسطو الميليشيات الحربية المسلحة.
وقت القات
لم اطل السير في شارع الزبيري. لا البرد الليلي القاري، ولا المشاهد ولا الرغبة كانت تشجع على المتابعة، فعدت الى الفندق، بعدما اشتريت من متجر علبة تبغ وعلبة بسكويت أسدُّ بها جوعي الليلي قبل النوم، تقيداً بنصائح مروان الذي ينتظرني في عدن جنوب اليمن، واوصاني بأن اتدبر اكلي السريع، مثله، من بعض المعلبات، لان الاكل في معظم المطاعم اليمنية لا تحمد عاقبته، اذا استطاع المرء تناوله في تلك المطاعم. وحتى الساعة لا ادري لماذا قال لي البائع في المتجر ان علبة البسكويت المملح والمهدرج التي اشتريتها، مستوردة من اندونيسيا. ربما لانه عرف اني اجنبي وحدس ريبتي وشكوكي، فأخجلني حدسه، على غرار ما سوف اخجل في كثير من المواقف واللحظات في رحلتي اليمنية.
سريعاً يتناول اليمنيون طعام غدائهم في البيوت والمطاعم المقبضة، ليلتحقون بمجالس القات، او مقيلاته التي يبدأ انعقادها، في كل بيت يمني على وجه الإجمال، بين الثانية والثالثة من النهارات كلها، خصوصاً بعد ظهر نهارات الخميس، اليوم الأول من العطلة الاسبوعية في اليمن. وتمتد هذه المجالس اليومية ساعات، قد تتجاوز الخمس، فلا تنفضُّ مجالس مضغ النبتة المنبهة وتخزينها قبل العاشرة مساء، ولا يخلد اليمني الى خاص حياته الخاصة، الزوجية والعائلية والفردية، إلا في آخر "السهرة".
لكن اليمنيين، على ما بدا لي في ايامي الثلاثة عشر في ديارهم، لا يسهرون ولا يتجالسون على طعام غداء او عشاء، ولا "يشربون كأسا"، على ما نقول في لبنان مثلاً، ولا تجمعهم جلسات في مقاهي، بل يتجالسون على القات وللقات الذي يسرعون في انجاز أي عمل، ليسارعوا للتفرّغ له في جلساتهم الطويلة في البيوت التي يشكل مقيل القات محور نظام هندستها الداخلية، ومحور الحياة البيتية ايضاً. ولا مبالغة في القول إن جلسات المقيل هي متعة اليمني الاساسية، او محور متعته في حياته اليومية.
فالمقيل المفتوح او المشرع في البيوت لمن يريد ويرغب من الاصدقاء والزوار والمعارف، ومعهم اصدقاء الاصدقاء ومعارفهم، هو الحيز المحوري للتعارف والتبادل والتواصل والتلاقي اليومي والاسبوعي، بين اليمنيين الرجال، خارج دورة حياة العمل وعلاقاته. أما الذي لا يجد وقتاً للانضمام الى مقيل مفتوح في بيت، لأن شاغلاً ما شغله، فيتقوّت فيما هو ينجز عمله الضروري، على ما روى بعض الصحافيين انهم يفعلون اثناء جلوسهم قبالة شاشات الكومبيوتر في مكاتبهم.
جلسات مقيلات القات رجالية في الأصل، قبل ان تبدأ، منذ سنوات قليلة، بعض من نساء فئات المجتمع اليمني، بإقامة مجالسهن النسائية للمصنع والتخزين منعزلات عن الرجال، خصوصاً في العاصمة صنعاء، على ما ذكر كثيرون من الذين التقينا بهم في اليمن. ذلك ان العزل بين الرجال والنساء من مبادىء الحياة الاجتماعية اليمنية، في المجالين العام والخاص.
وإذا كان تصفيح اجسام النساء ووجوهن بالسواد الفاحم، سوى أعينهن، يتكفل أمر العزل بينهن وبين الرجال في دورة الحياة اليومية العامة وفي مواقيت العمل، فإن جلسات المقيل المفتوحة في البيوت، تتكفل أمر العزل بين الطرفين في الحياة الخاصة، مع العلم أن هذه الجلسات خاصة وعامة في وقت واحد، وقد تشكل الحيز الاساسي لدائرة العلانية العامة في حياة اليمنيين.
في اختصار ، لا يبعد من حقيقة الواقع القول ان دورة الحياة اليومية في اليمن كله تنتظم على وقت القات، او طقس القات اليومي شبه المقدس، على اعتبار انه من الصعب ان يكون وقت العمل مقدساً في ثقافات بلادنا وتقاليدها السائرة.
ذهبت بعد ظهر نهار الى مكاتب صحيفة "الأيام" الاشتراكية المعارضة في عدن فاستقبلني صاحبها ورئيس تحريرها هشام باشراحيل الذي طلبت منه ان التقي بعض محرريها، فقادني الى الطبقة الثانية من مكاتب الصحيفة... فاذا انا في مقيل مفتوح عامر بالقات وماضغيه ومخزّنيه، من الصحافيين واصدقائهم من اساتذة الجامعة والمثقفين. كان عددهم لايقل عن دزينة من الرجال، وكان صوت "كوكب الشرق" يطلع من جهاز التلفزيون الضخم في اغنية "الأولة في الغرام"، بينما الشاشة تبث ضوءاً فوسفورياً بلا صور.
وحين دخلنا الى بيت منعزل لفلاح هو عاقل القرية (أي مقدم إحدى قبائلها) في جبال محافظة إب وسط اليمن، سرعان ما التأم مجلس القات في المقيل، وكان العاقل وأخاه جليسيه، قبل ان ينضم اليهما تباعاً معلمان او ثلاثة في مدرسة القرية، ثم المدير مع فلاحين او ثلاثة. وبما ان البيت القروي كان متواضعاً وصغيراً، فكرت بأمر النساء والبنات وموضعهن في البيت، قبل ان اسأل العاقل على نحو عفوي وتلقائي: وأين النساء الآن؟!
وحده مروان الذي سبقني بشهرين اثنين في العلم بشؤون اليمن، نظر اليّ نظرة جامدة مؤنبة، فيما توقف العاقل عن الكلام، وساد في المقيل صمت ثقيل استمر لحظات حرجة استدركها مروان بأن غيّر مجرى الحديث.
ليس هذا سوى غيض من فيض ما سنعود اليه في مواضع اخرى من رحلتنا اليمنية، لوصف شؤون القات وشجونه في حياة اليمن واليمنيين. وحسبنا في هذا الموضع ان نشير الى ان الطعام وجلساته وطقوسه تبدو ضئيلة الاهمية والحضور في حياة اليمنيين الذين يخال النازل العابر في ديارهم أنهم يأكلون كي يتقوّتوا، او يملأوا بطونهم كما اتفق بما يتيسّر من الطعام، كي تستقبل اجسامهم رحيق القات في المقيل، وليفعل هذا الرحيق فعله المطلوب في الاجسام، وصولاً الى وقت "السلطنة" عند الغروب.
وربما لأنهم يأكلون على عجل للاسراع الى المقيل، ظلت طقوس الطعام في البيوت والمطاعم على حالها في اليمن، قديمة وعتيقة، من دون ان تعرف التبدل والتطور منذ أزمنة سحيقة على الأرجح.
اليمن، لبنان، العراق
في آخر أمسيتي الأولى في اليمن، وفي صالة الاستقبال الصغيرة في فندق "مركير" بصنعاء، تناولت فنجاناً من القهوة التركية لا اذكر اني تذوقت مثل طعمه اللذيذ في حياتي كلها. دعة مطمئنة، بعد تعب كامد وثقيل، تسربا الى جسمي وحواسي، حتى وصول سعاد وكمال الذي قال في حديثنا العابر ان اليمن "دولة امنية"، فأيقنت ان الشعارات اللبنانية عن "الدولة الامنية اللبنانية السورية المشتركة" انتقلت الى اليمن، كغيرها من الشعارات والصور اللبنانية.
في بيروت كان مروان قد روى لنا بعضاً من وقائع رحلته السابقة في قرى الريف اليمني مستطلعاً احوالها الصحية والتعليمية. في بداية الرحلة وصل الى قرية جبلية نائية بعد مسير ساعات في سيارة رانج روفر على دروب وعرة غير معبدة. لا كهرباء في القرية، والماء يحصل عليه اهلها من آبار بعيدة منها، وهي في طور النضوب. وحين بدأ مروان في محادثة بعض القرويين، سألهم ان كانوا يفهمون ما يقول في لهجته التي فكّر انها قد تكون غريبة الكلمات والوقع في اسماعهم لبعدها من لهجتهم المحلية اليمنية، فأجابه احدهم انهم يفهمون ما يقول، لانه يتكلم مثل "المستقبل" و"ال. بي. سي" المحطتين التلفزيونيتين الفضائيتين اللبنانيتين. لكن كيف تشاهدون التلفزيون ولا كهرباء في قريتكم؟ سألهم مروان مستغرباً، فأجابه احدهم انهم يستعملون بطاريات سيارات الرانج روفر الثلاث شبه العسكرية المتوافرة في القرية، لتشغيل اجهزة التلفزيون.
ومن غرائب المصادفات ان تُكتشف مقبرة جماعية في عدن، وتنشر صحيفة "الايام" العدنية المعارضة صورها على صفحتها الاولى صبيحة الاحد 11 كانون الاول 2005، بعد ايام قليلة من اكتشاف المقابر الجماعية اللبنانية في وزارة الدفاع في الحازمية وقرب مقر قيادة المخابرات السورية في عنجر. وحين التقينا هشام باشراحيل، رئيس تحرير "الايام" في عدن، ذكر ان "حرية الصحافة" في لبنان رائده في صحيفته المعارضة، الاشتراكية والجنوبية الهوى.
المقبرة الجماعية في عدن، على ما ذكرت "الايام"، اكتشفت خلف معسكر الصولبان، وضمت اكثر من 15 جثة "ملفوفة ببطانيات وبزات عسكرية، ومكومة في خنادق". وقال الطبيب الشرعي الذي عاين الجثث ان "سبب وفاة الضحايا المتراوحة اعمارهم بين 25 و35 سنة، طلقات نارية في الرأس والصدر، مما يدل على انهم اعدموا". وعلى غرار ما هرع اهالي العراق الى المقابر الجماعية المكتشفة، للبحث عن مفقوديهم، بعد سقوط نظام صدام حسين، هرع اهالي عدن "للبحث عن ذويهم الذين فقدوا خلال الصراعات والتصفيات الدموية" بين اجنحة الحكم السابقة في اليمن الجنوبي، وبين الشمال والجنوب في حرب الانفصال والوحدة في اواسط التسعينات من القرن المنصرم.
حلقة ثالثة من الرحلة في بلاد اليمن. وهي تقتفي مسارات التدين الاسلامي الجديد في البلاد، وصلة هذه المسارات بالأبعاد الاجتماعية والثقافية التي مهدت لها بين اليمن الجنوبي وعاصمته عدن واليمن الشمالي وعاصمته صنعاء
في الطائرة المتجهة من صنعاء (في قلب منبسطات جبال عسير الشمالية الضخمة) الى عدن (على شاطىء بحر العرب ومسافة نحو 450 كلم من صنعاء جنوباً) راح الرجل الجالس خلفي في زيه اليمني التقليدي، يرفع صوته بين حين وآخر برشق سريع من عبارات حمد الله وتكبيره إجلالا للخالق الذي كانت قد أذيعت في الطائرة قبيل إقلاعها آية تكبره وتسبّحه في صوت مهيب متماوج الصدى، لأنه "سخر لنا هذا"، أي الطائرات، على ما يذاع في بداية كل رحلة على متن طائرات الخطوط الجوية اليمنية.
إله الطائرات والسيارات
لا أدري إن كان شيء من جزع قديم يداخل قلب رجل الطائرة فيطرده من قلبه بذكر الله وتسبيحه. واسم الله وذكره حاضران في الديار اليمنية حضوراً عفوياً كثيفاً في محطات الكلام اليومي. فسائق سيارة الأجرة التي انتقلت بها، بعد أيام، من مدينة إب في وسط اليمن، عائداً الى صنعاء (نحو 250 كلم) جازماً إنه إتكالا على الله يقود سيارته، بعدما نبهته، في بداية الرحلة الطويلة، الى ضرورة التأني في القيادة.
وحين قلت له انه هو الذي يقود السيارة، وإن الله لا يتدخل في قيادة السيارت، التفت نحوي متفاجئاً وأجاب: "أنا أسلّم أمري لله وحده".
ما أن انطلقت السيارة حتى ناول راكب في المقعد الخلفي شريط كاسيت للسائق الذي أدخله في آلة التسجيل، فصدح صوت جاف لشاعر بدوي بقصائد عامية عن الخيل والفروسية، تتخللها مقاطع من أدعية دينية في أداء شبه عاشورائي. إنه ناصر القحطاني، والشريط إسمه "بروق في العتمة"، قال السائق، فتذكرت "مغنياً" بدوياً بعلبكياً اسمه مهدي زعرور كانت له في بيتنا في أواسط الستينات اللبنانية اسطوانة ينشد فيها على عزف الربابة "أغنية" يقول فيها إن شاباً فجعه زواج أخته (العامرية) "خطيفة"، فدفعه الى الجنون الذي أوصله الى "مصح الحازمية" لإيواء المجانين.
بعد دقائق من انطلاق سيارتنا صعداً على طريق جبلية، صادفنا حادثة اصطدام شاحنة بسيارة، فنبّهت السائق مجدداً الى ضرورة التأني في القيادة، فكرر قوله بأن الله هو المدبر، وعليه وحده الإتكال.
صوت ناصر القحطاني البدوي الجاف يصدح في سيارتنا، وفي الخارج تتعالى كتل جبلية متتالية لا يحدها البصر. جبال متباعدة بقمم جرداء متنوعة الألوان من بركان الى صلصالي الى غرانيتي، بينما كتلها دون القمم وعلى السفوح والوهاد والروابي وفي الأودية العميقة المتعرجة، مكسوة بطبقة عشبية خضراء تتموج ألوانها في الضوء الصباحي. ظلت السيارة تصعد بنا ما يقارب الساعة بين هذه السلاسل الجبلية، وصولا الى منبسطاتها المتمادية في عريها الجاف وشبه الصحراوي. في كل منبسط تحده قمم جبلية صغيرة، بلدة أشبه بسوق ريفية بدوية على جانبي الطريق. سوق ياتي اليها المزارعون والرعاة القبليون الجبليون بقطعانهم وشيء من محاصيلهم الزراعية الشحيحة، فيتسوقون، في ثيابهم الداكنة البالية، سلعاً "جديدة" أو "حديثة" من دكاكينها الفوضوية المتربة على جانبي طريق السيارات العابرة بين جنوب اليمن ووسطها والعاصمة صنعاء شمالا. والأسواق شبه البدوية هذه، تنقصها ورش كسر السيارات وإصلاحها ومتاجر الأثاثات الرخيصة كي تصير شبيهة بسوق محلة الجناح جنوب بيروت، منذ وفادة مهجري عرب المسلخ والكرنتينا اليها غداة حرب السنتين (1975 1976).
التدين وتحولاته
في المحطات الجبلية والأسواق القبلية بين إب وصنعاء، تكثر لافتات كُتبت عليها عبارت تدعو العابرين الى ذكر اسم الخالق وتمجيده: "ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يا ألله، يا غفور يا رحيم، هذا من فضل ربي، إتقِ الله، سبحان الله، الله اكبر، الحمد لله، أقم صلاتك قبل مماتك...".
انها العبارات نفسها التي أكثر أهالي بلدة شبعا الحدودية اللبنانية من كتابتها على لافتات معدنية صغيرة غرسوها في طرق بلدتهم وأزقتها، بعدما حوّلوا عمرانها الجبلي الريفي القديم المتقشف عمراناً مزرياً ومكتظاً كالمخيمات وتجمعات السكن العشوائي والسريع، في السنوات العشرين الأخيرة التي شهدت عودة كثيرين من أهاليها من بلدان الخليج (وخصوصاً السعودية) بـ"ثروات" صغيرة وأبناء كثيرين، تديّن رجال منهم وشبان تديناً وهابياًً، فأطلقوا لحاهم واعتمروا جبة المشايخ ولبسوا الجلاليب البيضاء الناصعة وطبعوا بقعة السجود السمراء على جباههم، ثم شيدوا جامعين أو ثلاثة بمكبرات صوت صادحة طوال النهارات في القرية، بينما ارتدت النسوة العائدات لباساً شرعياً لم تعرفه نساء شبعا قط من قبل.
في اليمن ليس سهلا على الزائر العابر أياماً في البلاد، ان يرصد التحولات والبواعث الاجتماعية التي تلابس أنواع التدين اليمني. لكن الرواية الأكثر شيوعاً التي سمعناها من نساء وباحثين وصحافيين وناشطين في مجال التنمية الاجتماعية وحقوق الانسان، تقول إن حضور الدين في اليمن، حتى أواخر الثمانينات من القرن الماضي، كان حضورا تقليدياً يواكب التحولات الداخلية البطيئة للفئات الاجتماعية اليمنية، ضعيفة الاتصال كلها بنمط الحياة الحديثة كلها.
وإذا كان من تفاوت بارز لحضور الدين في المجتمع اليمني، فإنه كان يتمثل في تدين اليمن الشمالي بنظامه الإمامي المغلق حتى التزمت قبل الانقلاب الى النظام الجمهوري الذي ظلت المحافظة الاجتماعية والعصبيات القبلية قوية الحضور فيه، مقارنة بحضورها في اليمن الجنوبي، وخصوصاً في عاصمته عدن التي كانت محمية بريطانية وميناء تجارياً عالمياً منذ القرن التاسع عشر، ونشأت فيها حياة مدينية ناشطة ومحدثة. هذا قبل تحرير اليمن الجنوبي من الاستعمار البريطاني في أواخر الستينات، وتحوله الى نظام الحزب الواحد الشيوعي، الذي سيطر على الحياة العامة ونشر فيها ثقافة شمولية ونمط حياة شمولياً، نزعا الدين من الحياة العامة ومن الحيز العام، فاقتصر حضوره طقوساً وشعائر، على الحياة الخاصة. أما في اليمن الشمالي الجبلي والجمهوري، فقد ظل الدين على طابعه التقليدي والمحافظ، مع قوة العصبيات القبلية، متصل الحضور في الحياة العامة والخاصة كأنه من طبيعة الحياة نفسها.
حوادث ومنعطفات كبرى
حادثتان كبيرتان، وربما ثلاث، غيرت حضور الدين في المجتمع اليمني في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، بحسب الشهادات والأحاديث التي جمعناها في رحلتنا:
- عام 1986، وبعد استقرار السلطة في يد جماعة "طالبان" في أفغانستان، بدأت مجموعات "الإفغان العرب" اليمنيين في العودة الى اليمن، فبلغ عدد العائدين نحو 30 ألف يمني، بحسب علي هيثم الغريب، المدرّس في كلية الحقوق في عدن.
- بعد حرب الخليج الثانية في مطلع التسعينات من القرن الماضي، أعيد الى اليمن نحو مليون مهاجر يمني كانوا يعملون في دول الخليج العربي، وخصوصاً السعودية التي حمل العائدون اليمنيون منها الى ديارهم وأهلهم إسلاماً وهابياً جديداً، راح حضوره يتعاظم في الحياة العامة اليمنية مع تعاظم الإقبال على التعليم الديني في مدارس كانت قد بدأت تتكاثر في اليمن بتمويل سعودي، منذ الثمانينات من القرن الماضي. الظاهرة الأبرز التي نجمت عن تعاظم شأن الاسلام الوهابي والمدارس الدينية في اليمن، كانت ظاهرة ارتداء النساء اليمنيات زياً وهابياً إسلامياً شبه موحد يحجب قماشه الأسود جسم المرأة كله من رأسها حتى قدميها، فلا يترك من وجهها مكشوفاً سوى العينين اللتين، اذا لم يحجبهما برقع أسود شفاف، تظهران كثقبين في وجه وجسم يصفّحهما سواد فاحم. وقد انتشر هذا الزي النسائي الوهابي انتشاراً كاسحاً في اليمن الشمالي، فطغى على ا لأزياء اليمنية التقليدية المختلفة والمتنوعة، بحسب المناطق والبيئات الاجتماعية في الأرياف والمدن. أما في اليمن الجنوبي فقد حال نظام الحزب الواحد الشمولي وسيطرته على الحياة العامة، دون انتشار هذا الزي الموحد، لكن الى حين قصير من الزمن سبق حروب الانفصال والتوحيد بين الشمال والجنوب.
- عام 1994 نشبت حروب الانفصال والتوحيد بين اليمنين، فقيّضت الغلبة فيها للشمال الذي هيمن سياسياً وإدارياً على الدولة الموحدة التي صارت صنعاء، عاصمة الشمال، عاصمته الواحدة. وهذا ما همّش دور مدينة عدن، عاصمة الجنوب، وأفقدها معظم مميزاتها المدينية والتجارية والثقافية، بعدما كانت عملية "نزع الاستعمار" وثقافته وإرساء نظام الحزب الواحد الشمولي في حياتها الاجتماعية والسياسية، وكذلك حروب "الرفاق" الامنية، الطاحنة والخاطفة، في المكتب السياسي واللجنة المركزية، قد أجهزت على معظم المميزات المدينية في المجتمع العدني، ومهدت الطريق للسيطرة الشمالية التي تُشعر العدنيين بالاحباط والخسارة والتهميش والاستتباع السياسي والاجتماعي والاقتصادي للشمال وعاصمته صنعاء.
ومما يفاقم من شعور الجنوبيين بالاحباط والتهميش والخسارة، انهم يعتبرون جنوبهم وعاصمته عدن، متقدمين تاريخيا على الشمال وعاصمته الداخلية والجبلية، صنعاءء. وذلك في ميادين التعليم والتجارة والانتاج الزراعي والتمدين والتحديث وطابع الحياة الاجتماعية المتخففة نسبياً من قوة العصبيات القبلية الشديدة الحضور والسيطرة في الشمال.
عودة المكبوت القبلي
فيما هي تصحبني بسياراتها "الرانج روفر" الجديدة الى مكتبها في مركز الابحاث والتنمية الاجتماعية الذي تديره في صنعاء، ذكرت الباحثة رؤوفة حسن ان اهل اليمن الشمالي كانوا يحسبون ان وحدتهم مع اليمن الجنوبي، سوف تتيح لهم "تعلم التحرر" الاجتماعي من الجنوبيين المتقدمين اجتماعيا وتعليماً وثقافيا على الشماليين.
روايات كثيرة سمعناها من مثقفين شماليين من صنعاء، تؤكد ما ذهبت اليه حسن التي اعترى نبرتها شعور بالاسى والحسرة القدرية الساخرة، فيما تقول ان ما حصل هو العكس: نحن الشماليون، بقوة عصبياتنا القبلية وطغيان ثقافتها في نسيج اجتماعنا "ابتلعنا" الجنوبيين بالغلبة والاستتباع، فارتدوا عما كانوا عليه من "تحرر".
وجريا منهم على مبدأ ابن خلدون في "تقنع" المغلوب بثقافة الغالب، استعادوا "مكبوتهم" القبلي والديني الذي حاولت كبته او كتمه فيهم دولتهم الاشتراكية الشمولية في الجنوب.
ثم ان عودة نحو مليون يمني من السعودية، فجأة ودفعة واحدة، حاملين معهم تديّناً وهابياً الى كونها ارهقت اليمن اقتصادياً واجتماعيا وقطعت عنه موارد مالية كانت تدفع العوز والفقر والجوع عن عائلات يمنية كثيرة قد نشرت في اليمن الموحد كله، بحسب عبارة رؤوفة حسن، "جيشاً وهابياً اسود" من النساء اليمنيات العائدات الى ديارهن في المدن والقرى.
في مقيل للقات جمعنا بكثيرين من مثقفين يمنيين يقيمون في صنعاء ووافدين اليها من مدن وارياف شمالية وجنوبية، بينهم الشاعر والصحافي والسفير السابق والمثقف الحزبي والمستشار الوزاري، روى احد جلاس المقيل ان قرب كل "مسجد وهابي" جديد شيّد في اليمن بأموال يمنيين مهاجرين في السعودية وبأموال مساعدات سعودية، افتتح فرن تابع للمسجد، وراح يوزع الخبز يوميا ومجانا على اليمنيين المحتاجين العائدين من السعودية.
وبلغة الجغرافيا البشرية، لخص باحث اقتصادي في الجلسة نفسها، الاختلاف بين اليمنين الشمالي والجنوبي، فذكر ان المناطق الشمالية التي تكاد حدودها تطابق حدود انتشار المذهب الزيدي، قاحلة وطاردة للبشر تاريخياً، وكان نظام الحكم الامامي فيها دينياً وقبلياً، فلم يسمح بنشوء دوائر للمجتمع المدني مستقلة عنه ولو نسبيا. وذلك لأن النظام الإمامي المغلق، كان يعيش على الريوع التي يجبيها من الزكاة وغيرها، متهاوناًً بفرضها على الزيديين ومتشدداً على غيرهم من الشوافع المنتشرين في الجنوب الذي أتاح له نظام المشيخات والسلطنات شبه المدنية وغير المركزية والمحميات الاستعمارية قبل الثورة القومية الاشتراكية ان تنشأ فيه بيوتات تجارية مدينية ناشطة، متعلمة ومثقفة، في عدن وتعز وإب. كما ان المناطق الزراعية الواسعة والمنتجة في اليمن هي مناطق الجنوب والوسط الساحلية في سهول تهامة والحديدة وسفوح الجبال في تعز وإب. وسكان الشمال الجبلي القاحل يعيشون، تاريخيا، على زراعات المناطق الجنوبية والوسطى هذه، حيث نشأت دوائر جنينية لمجتمع مدني مستقل نسبيا عن دوائر الحكام والسلطان. والثورة القومية الجمهورية التي قادها عسكريون ورؤساء قبائل ضد الحكم الامامي المغلق والمتزمت في الشمال، مدها الجنوب، منذ حقبة الاستعمار البريطاني، بالكوادر المثقفة والمال. ومع انتصار الثورة في الشمال وقيام الحكم الجمهوري فيه بعد تسوية رعاها النظام المصري الناصري والنظام السعودي عقب هزيمة 1967، سيطر رؤساء القبائل ومشايخها والضباط الشماليون على الحكم في صنعاء، ثم استعانوا لتصريف شؤونه الادارية بأبناء القضاة المتعلمين.
المصادرة والنهب
اليوم، ومنذ قيام دولة الوحدة بغلبة شمالية على انقاض دولة الجنوب الاشتراكية، يسيطر على دوائر السلطان والنفوذ في الدولة الموحدة حلف قوامه النسب والمصاهرات بين كبار الضباط ورؤساء القبائل في الشمال. وهو الحلف الذي استولى، بالتسلط السياسي والاستتباع ومصادرة الاملاك الزراعية والنهب الاقتصادي، على دورة الحياة الاقتصادية في اليمن الموحد، مدمرا البيوتات التجارية الناشطة في الجنوب والوسط، ومحوّلا الملاّك الزراعيين الكبار والمتوسطين وحتى الصغار في السهول الوسطى والجنوبية (الحديدة وتهامة) الى اجراء مياومين في املاكهم الزراعية التي صادرها وسطا عليها الحلف القبلي العسكري في صنعاء، واستخدم في تنميتها وتحديث زراعتها وحفر الآباء الارتوازية لريها، اموال المساعدات الدولية التي تحصل عليها الدولة اليمنية.
هذا الحلف الضيق هو الذي يسيطر اليوم على دوائر السلطة السياسية والعسكرية، لينفد عبرها الى السيطرة على الثروة الاقتصادية فيحتكرها مع حاشيته القبلية، في مجالات الاستيراد والتصدير، وقطاع الاتصالات الحديثة (الهاتف الخليوي). ولولا قوة الولاءات والعصبيات القبلية وتوازناتها ومنازعاتها شبه المافيوية في دوائر الحكم والسلطان، لتزايد ضيق دائرة توزيع الثروة حتى الاختناق، على نحو ما هي عليه الحال في نظام البعث السوري الراهن، والعراقي الراحل.
والارجح ان نظام احتكار الثروة وتوزيعها في اليمن اقرب الى النموذج المصري منه الى النظام البعثي. وفي هذا المعنى قد يشبه ما يسمى "الانفتاح الاقتصادي" في اليمن اليوم، الانفتاح المصري في عهدي السادات ومبارك الساعي في توريث ابنه رئاسة مصر، سعي علي عبدالله صالح. والشيخ عبدالله الاحمر في "توريث الثمن" لأبنائهما واقاربهما النافذين في الاجهزة الامنية والعسكرية، وفي احتكار القطاعين الاقتصاديين العام والخاص وتوزيع ثرواتهما ومغانمهما على الاقارب والشبكات القبلية.
حروب الاقنعة
بحسب رواية الاستاذ الجامعي العدني علي هيثم الغريب، ان النظام الشمالي في صنعاء، شجع، في ثمانينات القرن الماضي، انشاء معاهد للتعليم الديني الوهابي لأبناء المناطق الجنوبية الحدودية مع الشمال، كي يحارب بهم المد الشيوعي من الجنوب نحو المناطق الشمالية. اما نجوى العدنية، المتخرجة في العلوم السياسية من احدى جامعات الاتحاد السوفياتي السابق، فقد ذكرت ان "الرفاق" (سالمين، علي ناصر محمد، وعلي سالم البيض) في حروبهم الامنية الطاحنة في عدن، استقدم كل منهم قبيلة ريفية موالية له للاستيلاء على السلطة ومغانمها في المدينة التي استباحتها القبائل واعملت النهب فيها، قبل ان تدهم "الرفاق" المنتصرين حربُ الانفصال والتوحيد بين الشمال والجنوب. وبحسب رواية الغريب ان سلطة اليمن الشمالي في حربها التوحيدية ضد النظام الشيوعي الجنوبي الذي اعلن الانفصال في عدن، استخدمت "الافغان العرب" اليمنيين الذين كانت قد انشأت معسكرات خاصة لاستيعابهم بعد عودتهم من افغانستان.
هذا المسلسل من الحروب كانت له نتائجه المدمرة على اليمن الجنوبي وخصوصا على عاصمته عدن التي سرعان ما لجأ مجتمعها المديني المنهك والمدمر الى تقنيع نفسه بقناع التدين الجديد (الافغاني والوهابي) الوافد من الشمال والذي استعمله الشمال للسيطرة على الجنوب. كأنما العدنيون في تقنّعهم بالتدين الجديد الذي صفّح النساء العدنيات بالسواد الفاحم تيمنا بنساء الشمال المنتصر، كانوا ينزعون من انفسهم وعن نسائهم ومجتمعهم المديني ذلك السفور "الديني" الذي كان قد فرضه عليهم قسرا نظام "الرفاق" الشمولي وحاربهم الشمال لنزعه والسيطرة عليهم. وبقناعهم الديني هذا، الا يحتمي العدنيون والعدنيات من شعورهم المضني والكئيب بالاستتباع والتهميش والاحباط والخسارة المضاعفة؟
العيُّ التعبيري
خلف قناع التدين الجديد والموحد يختفي التسلخ والتخلع والتذرر الاجتماعي والثقافي المديد. وهو قناع يؤمن للمتقنعين والمتقنعات شيئا من حماية ودفء، ويقيهم من فراغ وصقيع روحيين ووجدانيين وعاطفيين واجتماعيين، لكنه يجلب لهم، في المقابل، فصاما بينهم وبين العالم وحوادثه ووقائعه الحية. فما ان يدفع التدين الجديد الصقيع عن معتنقيه، وتملأ شعائره وطقوسه وكلماته فراغ حياتهم وارواحهم، حتى يصيبهم عيّ لغوي وتعبيري وتواصلي يتقنّع بأسماء الله الحسنى وبكلمات تبجيله وتكبيره وتسبيحه، وبالادعية نفسها التي تدوّن على لافتات تزرع على جنبات الطرق في جبال اليمن خلف شطآن المحيط الهندي والبحر الاحمر، كما في جبل الشيخ خلف شطآن البحر المتوسط، حيث سميت اخيرا بكلمة "تكبير" سلسلة متاجر بيروتية لبيع اغطية شرعية ملونة ومستوردة من ايطاليا، لتستر سفور نساء موجة التدين الجديد المتأنقات المعتنيات بلباسهن الشرعي لانتمائهن الى فئة الاثرياء الجدد.
اما بين الفئات الشعبية والدنيا، فيوازي هذا العيّ اللغوي والتعبيري والذهني، خراب العمران وبداوته المحدثة في ازمنة الهجرات والتنقل الفوضوي واتصالات الارياف بالمدن وترييف المدن وتحويل الريف وقراه ضواح مدينية مكتظة. انهما الخراب والعيّ اللذان يزامنان تفكك عرى نسيج الجماعات الاهلية البلدية وانماط عيشها التقليدية، التي يستعاض عنها باجماع اميّ شامل ومكتمل مسبقاً، تعلَن باسمه قطيعة ثقافية عن العالم الراهن، وحرب دينية "اممية" شاملة على كل من يخرج عن ذلك الاجماع وعليه.
وبما ان خرافات الاجداد الاولين وكلماتهم ولغتهم المستعادة استعادة حرفية وصنمية خاوية، هي مصدر ذلك الاجماع، لا يعود اهله ومقتنعوه بقادرين على اقامة اي وزن للحدود والدول والبلدان والجغرافيا، ولا للتجارب الانسانية الحية بوقائعها وحوادثها، فيعيشون حياتهم في ما يشبه غيبوبة وعيّاً لغوياً وتعبيريا يتقنعان بقليل من الادعية والتعاويذ التي نُقشت واحدة منها بلون كلسي وحروب كبيرة على تلة جرداء قرب صنعاء عاصمة اليمن الموحد: الولاء لله والوالدين والثورة.
صنعاء - محمد ابي سمرا
"النهار" الاحد 15 كانون الثاني 2006
____________
مالها هذي حامية في سرد قصتها علينا؟!!

والله لو انا عندها لاااا.......

بس كلامها في.......

أعجبني......
