الرسالة الثلاثينية في التحذير من الغلو في التكفير

مواضيع سياسية مختلفة معاصرة وسابقة
أضف رد جديد
الامير الصنعاني
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 792
اشترك في: الاثنين مارس 27, 2006 11:55 pm

الرسالة الثلاثينية في التحذير من الغلو في التكفير

مشاركة بواسطة الامير الصنعاني »

الرسالة الثلاثينية في التحذير من الغلو في التكفير

مقدمة
[الكاتب: أبو محمد المقدسي]
تنويه

أعلم جيدا أن ممن سيطلع على كتابي هذا ، من الطواغيت وأذنابهم .. ومن المرجئة وأفراخهم ، من قد يفرح به للوهلة الأولى ، ظاناً أنه من بضاعتهم المزجاة .. وهذا لا يزعجني بحال .. لأنني أوقن أنه وبمجرد أن يطالع أي منهم ، بعض ورقات منه ، سيعرف فورا أنني لم اكتبه لسواد عيون أمثالهم ..
فما كنت لأقر أعينهم بشيء مما أكتب يوما من الأيام ..
وإنما كتبته نصحاً لأخوة أحبة ، وإشفاقا على آخرين ..
وحرصا على جناب دعوة غالية .. ودفعا عن دين عظيم ..
فهو لمن طالعه من هؤلاء ، تمرة الأحباب ..
ولمن تفحصه من أولئك حنظلة العدا ..
فأسأل الله تعالى القبول ..


أبو محمد



____________________



مقدمة


بسم الله الرحمن الرحيم
وهو حسبي ونعم الوكيل

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين ..
وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، كلمة قامت بها الأرض والسموات ، وجعلها الله عروة وثقى علق بها النجاة ، إذ ضمنها سبحانه حقه على العباد ، ولذا جردت لأجلها سيوف الجهاد وشرع القتال والاستشهاد ، وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها ، ومفتاح العصمة التي دعا الأمم على ألسنة رسله إليها ، وقطب رحى دين الإسلام ، ومفتاح دار السلام .
وأشهد ان محمدا عبده ورسوله ، أرسله سبحانه رحمة للعالمين ، وقدوة للعاملين ، ومحجة للسالكين ، وحجة على المعاندين، فصل اللهم وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .
وبعد ..

فاعلم حفظنا الله تعالى وإياك ، من مهاوي الإفراط والتفريط ، ومن مزالق الغلو والتقصير أنه قد زارني بعض الأخوة الأفاضل في معتقل الجفر الصحراوي (1) وذكروا لي ما يتهمنا به أذناب النظام من تكفير الناس بالعموم ، وأنه قد اغتر بذلك بعض السماعين لهم ممن لا يملكون فرقانا بين الحق والباطل ، وبين الغث والسمين ..

فقلت يومها لأولئك الاخوة على شبك الزيارة ولم يكن يومها عليه غيري ، وعساكر السجن وضباطه يستمعون ، وأنا أرفع صوتي إرادة إسماعهم ما مجمله : ( إن هذه الفرية التي ينشرها هؤلاء ما هي إلا علامة من علامات إفلاس النظام وانهزامه أمام هذه الدعوة المباركة ، إذ لا يصير الخصم إلى الكذب والافتراء إلا عند اندحاره وإفلاسه من الحجج والبراهين ، فنحن لا نكفر إلا من كفره الله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا نتكلم في كتاباتنا وخطاباتنا ودروسنا ولا ندندن إلا حول كفر عبيد القانون الوضعي وأوليائه وأنصاره ، ممن يشرعونه أو يحرسونه وينصرونه ، نحذر من ذلك وندعو الناس إلى البراءة منه والكفر بطواغيته واجتناب عبادتهم ونصرتهم ، وقد بينا ذلك في كتاباتنا التي نبذلها لكل أحد ، وقد أوصلناها للنظام ومحاكمه وعساكره ونوابه ، وكشفنا فيها زيف وزور قوانينهم وتشريعاتهم ، وما تحويه من كفر بواح وشرك صراح ، ومن ذلك كتابنا " كشف النقاب عن شريعة الغاب " و " محاكمة محكمة أمن الدولة وقضاتها إلى شرع الله " وغيره مما كتبناه في السجن أو خارجه ، عرينا فيه قوانينهم ، وكشفنا النقاب عن وجهها الدميم ، وأظهرنا قبحها ونتنتها ومناقضتها لشريعة الله المطهرة .. وقد واجهناهم .. بفضل الله تعالى وتوفيقه وحده .. بذلك في كل محفل ، وفي كل مناسبة وفي كل مقام ، وصرحنا وصدعنا به بين ظهرانيهم ، وفي سجونهم ، وهززنا به أركان محاكمهم .

فلما صدموا بقوة حجتنا ، وألجموا بظهور دعوتنا المباركة والتفاف الشباب حولها ، وعجزوا عن ردها وإطفاء نورها ، لأنها دعوة ربانية ترتكز على نور الوحي ، وتستند إلى مشكاة النبوة ، حادوا إلى الكذب والافتراء ، وسعوا في محاولة تشويهها في أعين الناس وأسماعهم .. لعلهم أن يظفروا عن طريق الكذب والافتراء ، والزور والبهتان ، بما عجزوا عنه من طريق الحجة والبرهان .. )
ولما لم يقدروا على ترقيع كفرهم الذي اتسع خرقه على الراقع ، وعجزوا عن إثبات إسلامهم المدعى ، إلا من طريق أوراقهم الثبوتية المزيفة ، ووثائقهم وأسمائهم المزخرفة ؛ تحولوا إلى اتهامنا بتكفير الناس أجمعين بالعموم .. وهو ما يعلم القريب والبعيد أنا منه برءاؤا ، وبهتونا وسمونا بأسماء يمقتها ويكرهها وينفر منها أهل الإسلام ، كالخوارج والتكفيريين والإرهابيين والمتطرفين ، ونحوه .. وذلك كي ينفروا الناس عن دعوتنا ، ويرهبوهم من الكفر بهم ، ويصدوهم عن البراءة منهم ومن قوانينهم الكفرية ومناهجهم الشركية ..

وشاركهم في ذلك ، وطبل وزمر لهم أقوام غصت حلوقهم بهذه الدعوة الطيبة ، وضاقت صدورهم من ظهور زهرتها وإيناع ثمرتها ، والتفاف الشاب حولها في مدة وجيزة ؛ إذ هي دعوة ربانية مباركة ، تطمئن إليها القلوب السليمة ، وتسلم لها الفطر المستقيمة ..
وأعانهم على ذلك الطغيان والبهتان مشايخ ضلال ، وكتاب جهال ، انتسب بعضهم إلى طريقة السلف زوراً وبهتاناً ، فسودوا وجوههم وصحائفهم وأوراقهم بالتحذير من التكفير – هكذا بالعموم دون تفصيل – مع أن من التكفير ما هو حكم شرعي صحيح ، له أسبابه الشرعية وآثاره التي تترتب عليه ..

وشنوا فيها الغارة على أصحاب دعوة التوحيد ، بالكذب والبهتان ، والافتراء والروغان ، أعملوا فيهم أقلامهم، وأفرغوا في أعراضهم سموم ألسنتهم وأحقادهم ، حسداً وبغياً ، في الوقت الذي سخروا فيه تلك الكتابات للدفع عن أهل الكفر والطغيان من كفرة الحكام ، فصدقت فيهم هم ، صفة الخوارج البارزة في إغارتهم على أهل الإسلام وتركهم لأهل الأوثان ..
وسار في ركابهم أقوام راموا التملق للسلطة ، والتزلف إليها ؛ لعلهم يظفرون ببعض رضاهم ، أو فتاتهم وعطاياهم .. فانطلقوا يحذرون من خطر هذه الدعوة الداهم ، ويقترحون على النظام الحلول ، يدلونه فيها على كيفية التصدي لها ..(2) ظانين من فرط جهلهم أنهم يقدرون بذلك على إطفاء نورها ، أو إخماد وهجها .. وما دروا انهم بذلك واهمين ، لأنهم يرومون محالا بيّـنه الله تبارك وتعالى في كتابه حيث قال: (( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم * ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون )) بل يسعون بذلك في إهلاك أنفسهم كما قال سبحانه وتعالى : ((وهم ينهون عنه وينئون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون)) .

وربما استغل هؤلاء وأولئك زلات بعض الشباب ، أو اطلاقات بعض المبتدئين ، أو المتحمسين الذين لا تخلوا منهم دعوة أو جماعة ، تلك الإطلاقات التي تزول غالبا بطلب العلم الشرعي ، والنظر في كلام العلماء ، وضبط الأصول ومعرفة القواعد والشروط والموانع ومع هذا ، فلم اكن يوما من الأيام – والعدو قبل الصديق يعرف هذا – لأداهن في شيء من تلك الأخطاء ، أو أقر شيئا من تلكم الإطلاقات ، لا أنا ولا غيري من الغيورين من اخوة التوحيد ..

وقد تصديت لأشياء من ذلك داخل السجن وخارجه ، وفي بلدان عدة ، وأوقات مختلفة .. فتجمعت لدي من ذلك تجارب أودعت خلاصتها في هذه الأوراق .. وقد تنوع ذلك بحسب ما كان يحتاجه المقام ، فتارة كنت أتصدى لذلك بالنصح ، والوعظ والتذكير ، وتارة كان ذلك بالمناظرة والجدال ، وأحياناً بالكتابة أو الخطابة ..
وكنت أبين جهدي في ذلك كله ؛ أدلة الشرع ، وأقاويل أهل السنة والجماعة ، ومباينة تلك الأخطاء والإطلاقات لها ، نصحاً لله تعالى وكتابه ، ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولعامة المسلمين وخاصتهم ، وحرصاً على هذه الدعوة الغالية من أن تشوبها شائبة ، ولذلك فإني أحتسب عند الله ما لقيته في سبيل ذلك من تطاول بعض الجهال أو بعض أصحاب الحماس الأجوف ، لعدم متابعتي وإقراري لما تستحسنه عقولهم من ذلك . أو لوقوفي في وجه تلك الأخطاء والإطلاقات والممارسات .. فذلك خير لي من إقرار أحد على الخطأ أو الغلو أو الإفراط الذي قد يشوه هذه الدعوة المباركة ، أو يسوغ لأعدائها الذين لا يفرقون – لأنهم لا يعرفون الإنصاف – بين الراسخين فيها وبين المبتدئين ، ولا بين القائمين بها المتحملين لتكاليفها ، وبين المدعين وصلها من الأدعياء .. ويكون مبرراً لهم وذريعة عندهم لرميها ووصفها بالغلو والتكفير ، أو أنها كما يزعمون ؛ من إفرازات القهر والفقر والأفكار السجونية ، ونحو ذلك من دعاويهم الفارغة المتهافته . التي يلبسون بها أمر هذه الدعوة على الناس وينفرونهم بذلك عنها .

وليس همي هنا الدفع عن نفسي ، فيشفيني في ذلك ويكفيني ، قوله تبارك و تعالى ((إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور )) فما ذلك إلا بعض تكاليف هذه الطريق ، وقد وطنا النفس عليها ، وواسيناها بما طال مَن هُم خيرٌ منا، فما من نبي إلا وقد أوذي في نفسه أو عرضه ، ولا بد لورثتهم – إن كانوا صادقين – من نصيب من تبعات ذلك الميراث ..

ولذلك فإني في سعة صدر لكل من خالفني أو نال مني وتعدى علي متأولاً ، فما داموا من أنصار هذه الدعوة ، لا تثريب عليهم ، يغفر الله لي ولهم وهو أرحم الرحمين .. وأصرح بهذا هنا إغاظة لأعداء الله وخصوم هذه الدعوة الذين يسعون دوما لاستغلال بعض ذلك للإيضاع بين الصفوف .. (3).
أما من كان من خصوم دعوة التوحيد ، فليس في حلٍّ من ذلك في شيء ، بل الله حسيبه وإليه وحده أرفع شكايتي ..

وعلى كل حال فليس للدفع عن شخصي وضعت هذه الأوراق ، بل كتبتها دفعاً عن دعوة غالية ، وحفاظا على جناب دين عظيم ، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يشغلني ما تبقى من العمر بذلك ويتقبله مني ويستعملني وذريتي فيه ، وأن لا يشغلنا بالدفع عن أشخاصنا أو نحو ذلك من سفاسف الأمور .. ولكن ما يجب أن يتنبه إليه أولئك المنتسبين لدعوة التوحيد ممن يشغبون على إخوانهم لأمور لم تنسجم مع تعنتهم . أو ضاقت عن استيعابها عقولهم ، أن أعداء الله وأعداء هذه الدعوة لفرط جهلهم قد ربطوا الدعوة بأشخاص حملتها ، حتى إنهم لسفههم يظنون ويحلمون بأنها ستزول وتنتهي بسجننا أو بزوال أشخاصنا ، إذ هم كما سمعناهم وسمعهم غيرنا يزعمون أننا أول من أدخل هذه الدعوة ، أو كما يسمونه ( فكر التكفير ) ، أي : تكفيرهم هم . إلى هذه البلاد ، كذا زعموا هم ، ولم ندَّعه نحن يوما ، فلهذه الدعوة من الأنصار ، ممن سبقونا بالإيمان ونصرة الدين من هم خير منا بأضعاف ((ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم )) لكن ذلك زعم أعداء الله ، وخصوم هذه الدعوة ، فالذي أريد تذكير الشباب به ، والحال كذلك – هو ما قلته مرارا لبعضهم – ان شغبهم علينا ، وطعنهم فينا ، إن كان سيحسب على أشخاصنا وينحصر فيها ، ولن يتعداها ليحمل على انه براءة وطعن بما نحمله من دعوة التوحيد وعداوة للشرك والتنديد ، فليشغبوا علينا ما بدا لهم ، فالله حسبنا ونعم الوكيل ، أما إن كان ذلك سيحسب عند من لا يفرقون بين الدعوة وأشخاص حملتها ، على أنه طعن في هذه الدعوة المباركة وبراءة منها ، فحذار ثم حذار ..

أضف إلى ذلك أن عداوتنا وخصومتنا أمست اليوم كما لا يخفى على أحد ، تستجلب رضى أعداء الله وتقرب منهم ، فحذار من خلط الأوراق .. فكم قد رأيت من ضعاف الإيمان ، من يدفع سخطهم ويستجلب رضاهم بالبراءة منا والطعن فينا .. فهذا محذور آخر يجب محاذرته ، وهو استرضاء أعداء الله والتقرب والتودد إليهم بعداوة الموحدين ، فإن الله تبارك وتعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .. وحسب من قصرت همته عن اللحاق بهذه الطائفة القائمة بنصرة هذا الدين ، وجبن عن التحيز إليهم ونصرتهم ولو بالدعاء ، أن يكف عن التخذيل عن سبيلهم – أو إظهار عداوتهم وليدع القافلة تسير ..

هذا وأنا اعلم أنني قد استطردت أحياناً في إنكار بعض الأخطاء والتشديد والإغلاظ على أصحابها ، وما ذلك إلا لخطورة تلك الأخطاء، وشناعة وقبح آثارها ، الأمر الذي يدعو في بعض الأحيان إلى شيء من الشدة أو الحزم في إنكارها ، تلك الشدة التي لا تدعونا بحال إلى تعدي حدود الله في أحد من المسلمين أو إلى البراءة المطلقة منهم .. وإن كنا لا نداهن أو نتردد في البراءة من أخطائهم وانحرفاتهم ، ولا نتحرج في ذلك وإن أنكره من أنكره علينا ، وكيف نتحرج منه وقد أمر الله تبارك وتعالى به قدوتنا و أسوتنا صلوات الله وسلامه عليه فقال : ((واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين * فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون )) فجمع في هذا الأمر الإلهي بين رحمة المسلمين التي منها الحفاظ على حقوقهم وعدم ظلمهم أو التعدي عليهم ، وبين الحزم في البراءة من أخطائهم كي لا تحسب على الدين أو تنسب إليه . ويبقى الحق والحفاظ على وجه هذه الدعوة المشرق ، وجناب هذا التوحيد العظيم أهم عند تعارض المصالح ، وأعز عندنا من الخلق أجمعين .. وكم أغضب وأسخط استصحابي لهذه القاعدة في حلي وترحالي كثيراً من المقربين ، حتى قلت :

وإن يكن الرحمن ليس بساخط فلست بسخط العالمين أبالي


وعلى كل حال فالشدة إن قصد بها ردع الزائغ عن زيغه ، ورد المنحرف عن انحرافه ، وهدايته إلى الجادة والمنهاج ؛ محمودة في مثل هذه المقام ، وهي كما ذكر شيخ الإسلام من ( مصالح المؤمنين التي يصلح الله بها بعضهم ببعض ، فإن المؤمن للمؤمن كاليدين ، تغسل إحداهما الأخرى ، وقد لا ينقلع الوسخ إلا بنوع من الخشونة ، لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة ما نحمد معه ذلك التخشين )(4) وهي من جنس الدواء المر الذي يصبر المريض على مرارته ويتحملها ويتجرعه لما يرتجي من فائدة .. وقد قيل ( من بصرك فقد نصرك ، ومن وعظك فقد أيقظك ، ومن أوضح وبين – وإن شدد – فقد نصح وزين ، ومن حذر وبصر ، فقد أعذر وما قصر ).. والعامة عندنا يقولون : ( الذي يُبكّيك ويبكي عليك، خير ممن يضحكك ويضحك عليك ) .. فهذا النوع من الشدة والتخشين محمود لأن الغاية منه إصلاح المسلمين ، وبيان الحق لهم وتحذيرهم من مواضع الزلل ، دون ان يكون في ذلك إهدار لحقوقهم الإسلامية ، أو بغي أو تعد وظلم أو أخذ بالظنة او تقويل لهم ما لم يقولوه ، كما يفعل من يرقع ذلك بدعوى الإغلاظ على العصاة ، أو زجرهم ، ونحو ذلك من الدعاوى ، التي لا يقفون بها عند حدود الله تبارك وتعالى .. أضف إلى ذلك أننا – كما سيرى القارئ – لم نذكر أسماء في شيء من أخطاء التكفير التي شددنا النكير فيها ، ولا في غيرها ، ولا تعرضنا لأفراد معينين أو لتجمعات محددة ، إذ هذه الأوراق ليست موجهة إلى أفراد مخصوصين ، بل الغاية منها النصح والنفع العام ..

ومع هذا فقد بينت في طيّات هذه الأوراق . أن الشباب المنتسبين إلى دعوة التوحيد – إن وجد عند بعضهم شيء من هذه الزلات والعثرات - فهم مع ذلك خير قطعا - بتوحيدهم الذي يحملونه ، وبراءتهم من الشرك التي يعلنونها – من خصوم هذه الدعوة وشانئيها ، الذين لا يستحيون في كثير من الأحيان من إعلان البراءة من دعوة التوحيد وأهلها ، في الوقت الذي يسخرون أعمارهم وما يكتبون في الدفع عن طواغيت الحكم ، والصد عن تكفيرهم ، وهذا لا يماحك فيه إلا مكابر ، إذ الشاهد الصارخ على ذلك ، كتبهم المطبوعة والمنشورة التي توزع بالمجان غالبا ..

فمن الظلم والحيف والتطفيف مساواة جرائم هؤلاء ، التي مبعثها غالبا الشهوة والدنيا والتقرب إلى السلاطين وضمان سلامة النفس وأمانيها ؛ بعثرات أولئك الشباب التي مبعثها غالباً الغيرة على الدين، ونصرته والغضب لحرماته ومراغمة أعدائه .. فزلات أولئك الشباب المنتسبين لدعوة التوحيد – إن وجدت – مهما شددنا في إنكارها حرصا على هذه الدعوة المباركة وأهلها ، لا تبلغ بحال مبلغ انحرافات هؤلاء .. (5)
وهي مغمورة في جنب التوحيد العظيم الذي يحملونه ، ويبذلون مهجهم وأعمارهم في الدعوة إليه ، ويتحملون أصناف الأذى في سبيل رفعته ونصرته ، فهو العروة الوثقى التي ميز الله بها الخبيث من الطيب ، وفرق بها بين أوليائه وأولياء الطاغوت ، وهو أصل الدين الذي علق الله به النجاة ، وحق الله على العباد ، الذي تطيش كفته بعشرات السجلات من الأخطاء والخطايا ، وتحرق أنواره جميع الزلات والعثرات ما دامت دون الشرك الذي يحبط الأعمال ..

ثم أما بعد ..
فقد أردت بهذه الورقات أن أبين للسائل وغيره ، براءتي وإخواني الموحدين أنصار هذه الدعوة المباركة في كل مكان ؛ من تهمة الغلو في التكفير .
وهي فرصة أن أحذر منه الشباب المتحمسين المبتدئين في هذا الطريق ، ممن لم تثبت بعد قدمهم في طلب العلم ، والتبصر في الدعوة ، وضبط المسائل ومعرفة القواعد .. وذلك نصحا لدين الله وعموم المسلمين .. وإظهارا لهذه الدعوة الغالية بوجهها الحقيقي المشرق المبارك ، فأسأله تعالى أن يتقبل ذلك مني ، وأن يعم نفعه في المسلمين ..

وقد ضمنتها :

- هذه المقدمة

1- وفصلا في التحذير من الغلو في التكفير ؛ وفيه إشارة إلى أن تكفير الطواغيت وأنصارهم ليس من ذلك ..

2- وآخر في شروط وموانع وأسباب التكفير ؛ تعليما للشباب وضبطا للمسائل .

3- وثالثا في التحذير من أخطاء شائعة أو شنيعة في التكفير ؛ وهو تطبيق عملي مهم للفصل الذي قبله .

4- ورابعا في بيان مجمل حال الخوارج وبراءة الموحدين من عقيدتهم ، وأن خصوم التوحيد هم أشبه الناس بالخوارج .

5- ثم خاتمة في الوصية بالثبات على طريقة الطائفة المنصورة في إظهار الدين والقيام بأمر الله ، وعدم التفريط بذلك أو الانحراف عنه وإن خالفت طريقتها ، ما يهواه الناس أجمعون ..

وسميتها رسالة الجفر (6) في أن الغلو في التكفير يودي إلى الكفر ، أو ( الرسالة الثلاثينية في التحذير من أخطاء التكفير ) وذلك لاحتوائها على ثلاثة وثلاثين خطأ في ذلك .

ولا يفوتني قبل الشروع في المقصود أن أذكر بما لا يخفى على الفطن ، من حال السجون . وعدم استقرار ظروف المعتقل ، وعدم أمانه على أوراقه ودفاتره فيها خصوصا في بلادنا اليوم ، فكم قد صودرت منا مصنفات او ملخصات أو فوائد قد عوض الله بفضله عنها .. وكذا شح المراجع والكتب المهمة بين جدرانها ، فهذا – وقبله بداهة عدم عصمتي من الزلل – عذري إن ندَّ خلل مني أو تقصير ..
وأنا مع ذلك من أسعد الناس بالرجوع عن خطأ إن بان لي ، أو باتباع حق ظهر لي ، فحبذا بالناصحين المخلصين ..


والحـمـد لله أولا وآخـرا
.. وهــو حسـبي ونعـم الـوكيـل ..

وكتب / أبو محمد عاصم المقدسي
معتقل الجفر – رمضان 1419
من هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام
اللهم يا ولي الإسلام وأهله مسكنا بالإسلام حتى نلقاك
العزة لله ولرسوله وللمؤمنين

الامير الصنعاني
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 792
اشترك في: الاثنين مارس 27, 2006 11:55 pm

مشاركة بواسطة الامير الصنعاني »

فصل : في التحذير من الغلو في التكفير [الكاتب: أبو محمد المقدسي]
<<||>>
اعلم وفقنا الله وإياك إلى العلم النافع والعمل به ، أن موضوع التكفير كحكم شرعي من أحكام الدين ، مع أهميته وضرورته وتعلق كثير من المسائل والأحكام به ؛ هو موضوع خطير بالغ الخطورة ، تترتب عليه آثره الكثيرة في الدنيا والآخرة .. وقد قصر في معرفته أقوام .. فزلت فيه أقدام وضلت فيه أفهام .. فهو (أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار وهي مسألة الوعيد )(1) – كما نص شيخ الإسلام ابن تيمية – وقال : ( اعلم أن مسائل التكفير والتفسيق هي من مسائل الأسماء والأحكام التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة ، وتتعلق بها المولاة والمعاداة والقتل والعصمة ، وغير ذلك في الدار الدنيا، فإن الله سبحانه وتعالى أوجب الجنة للمؤمنين وحرم الجنة على الكافرين ، وهذا من الأحكام الكلية في كل وقت ومكان ) مجموع الفتاوى (12/251)

ويقول أيضاً : فإن الخطأ في اسم الإيمان ليس كالخطأ في اسم محدث ، ولا كالخطأ في غيره من الأسماء إذ كانت أحكام الدنيا والآخرة متعلقة باسم الإيمان والإسلام والكفر والنفاق ) أهـ (7/246)
ويقول : (وكلام الناس في هذا الاسم ومسماه كثير ، لأنه قطب الدين الذي يدور عليه وليس في القول اسم علق به السعادة والشقاء ، والمدح والذم والثواب والعقاب أعظم من اسم الإيمان والكفر، لذا سمي هذا الأصل مسائل الأسماء والأحكام) أهـ (13/34) .
والمتابع لموضوع التكفير في كتب الفقه على سبيل المثال ، يرى بوضوح تعلق كثير من المسائل والأحكام به ويعرف أهمية هذا الموضوع وخطورته حقاً ..

• خذ مثلاً ، في أحوال الحكام وما يتعلق بهم :
- حيث تجب مولاة الحاكم المسلم ونصرته وطاعته ، ولا يجوز الخروج عليه أو منازعته ما لم يظهر كفراً بواحاً ، والصلاة خلفه والجهاد معه مشروع براً كان أو فاجراً ، ما دام في دائرة الإسلام محكماً لشرع الله .. والسلطان المسلم ولي من لا ولي له من المسلمين .
- أما الحاكم الكافر فلا تجوز بيعته ولا تحل نصرته ولا موالاته ، أو معاونته ، ولا يحل القتال تحت رايته ، ولا الصلاة خلفه ولا التحاكم إليه ، ولا تصح ولايته على مسلم .. وليس له عليه طاعة ، بل تجب منازعته والسعي في خلعه والعمل على تغييره(2) ، وإقامة الحاكم المسلم مكانه ..
ويتفرع من ذلك كفر من تولاه أو نصر كفره أو قوانينه الكافرة وحرسها أو شارك في تثبيتها أو تشريعها أو حكم بها من القضاة ونحوهم ..

• وفي أحكام الولاية : لا تصح ولاية الكافر على المسلم ، فلا يصح أن يكون الكافر والياً أو قاضياً للمسلمين ، ولا إماماً للصلاة بهم .. ولا تصح ولايته على مسلمة في نكاح ، ولا ولايته أو حضانته لأبناء المسلمين ، ولا وصايته على أموال الأيتام منهم ونحو ذلك .

• وفي أحكام النكاح : لا يجوز نكاح الكافر من المسلمة ولا يكون وليها في النكاح(3) .. وإذا نكح مسلم مسلمة ثم ارتد بطل نكاحه وفرق بينهما ..

• وفي أحكام المواريث : اختلاف الدين مانع من التوارث عند جماهير العلماء .

• وفي أحكام الدماء والقصاص : لا يقتل مسلم بكافر .. وليس في قتل الكافر المحارب أو المرتد، عمداً أو خطأ كفارة ولا دية ، والمسلم بخلاف ذلك ..

• وفي أحكام الجنائز : لا يصلى على الكافر ولا يغسل ولا يدفن في مقابر المسلمين ، ولا يجوز الاستغفار له والقيام على قبره بخلاف المسلم .

• وفي أحكام القضاء : لا تصح ولاية القضاء للكافر ، ولا يجوز شهادة الكافر على المسلم .. ولا يحل التحاكم الى القاضي الكافر المحكم لقوانين الكفر . ولا تنفذ أحكامه شرعاً ولا يترتب عليها آثارها ..

• وفي أحكام القتال : يفرق بين قتال الكفار والمشركين والمرتدين ، وبين قتال المسلمين من البغاة والعصاة .. فلا يتبع مدبرهم ولا يجهز على جريحهم ولا تغنم أموالهم ولا تسبى نساءهم ونحو ذلك مما يفعل ويستباح في قتال الكفار ، والأصل في دم المسلم وماله وعرضه ، العصمة بالإيمان .. أما الكافر فالأصل فيه الإباحة إلا أن يعصم بالأمان ونحوه ..

• وفي أحكام الولاء والبراء : تجب مولاة المسلم ولا تجوز البراءة الكلية منه ، وإنما يتبرأ من معاصيه .. وتحرم مولاة الكافر أو نصرته على المسلمين أو إطلاعه على عوراتهم .. بل تجب البراءة منه وبغضه ولا تجوز موادته .

إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية المتعلقة بهذا الأمر الخطير والمتأثرة به .. فما هذا إلا غيض من فيض ، قصدنا به التمثيل والتنبيه .. والأدلة على ذلك كله معلومة معروفة في مظانها من كتب الفقه وغيرها ..
فمن لم يميز بين الكافر والمسلم التبس عليه أمره ودينه في ذلك كله ..
ولك أن تتأمل ما يترتب من مفاسد ومحاذير ومنكرات بسبب خلط أحكام المسلمين بأحكام الكفار فيما تقدم من الأمثلة .. وقد قال تبارك وتعالى في شيئ من ذلك : ((إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)).. وليس بخاف على أحد ما نراه اليوم من اختلاط الحابل بالنابل ، واختلال الموازين عند كثير من المنتسبين للإسلام في هذه المسائل والأحكام الشرعية وغيرها.. وذلك بسبب تقصيرهم بل إهمال أكثرهم .. النظر في هذا الحكم الخطير وعدم تمييزهم أو فرقانهم بين المسلمين والكفار ..ويظهر ذلك جلياً في تخبط عوامهم وخواصهم في كثير من الأحكام والمعاملات والعبادات والموالاة والمعاداة ، وغير ذلك من أمور .
مع ان الله تبارك وتعالى قد ميز وفرق في أحكام الدنيا والآخرة بين أهل الكفر وأهل الإيمان ، وأكد هذا الفرقان في غير موضع في كتابه : فقال تبارك و تعالى ((لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة )) وقال تبارك وتعالى منكراً على من سوى بين الطائفتين وخلط بين أحكامهم : (( أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون ؟)) وقال سبحانه وتعالى : (( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقاً لا يستوون )) وقال عز وجل : ((قل لا يستوي الخبيث ولا الطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث )) وقال عز من قائل : ((ليميز الله الخبيث من الطيب)) فالله تبارك وتعالى يريد أن يميز الخبيث من الطيب ، ويريد سبحانه فرقاناً شرعياً بين أوليائه وأعدائه في أحكام الدنيا والآخرة ..
ويريد الذين يتبعون الشهوات من عبيد القوانين أن يسووا بينهم، ولذلك ألغوا من دساتيرهم أي أثر للدين في التفريق والتميز بين الناس ، ولم يبقوا في شيء من قوانينهم أي عقوبة دينية فعطلوا كافة حدود الله وعلى رأسها حد الردة وساووا في أحكام الدماء والأعراض والفروج والأموال وغيرها بين المسلمين والكفار ، وألغوا الآثار الشرعية المترتبة على الكفر والردة في ذلك كله ..

وتتبع هذا يطول وقد حل بسببه من الفساد في البلاد والعباد ما لا يعلم تشعبه وخبثه وآثاره المدمرة إلا الله عز وجل ، وقد أشرنا إلى شيء من ذلك في كتابنا ( كشف النقاب عن شريعة الغاب ) ، وهو أمر غير مستغرب ولا مستهجن من قوم قد انسلخوا من الدين وارتموا في أحضان الكفار ، وأسلموا قيادهم لأولياء نعمتهم الذين قسموا لهم ديار المسلمين وأوصلوهم إلى كراسي الحكم واصطنعوهم في أحضانهم وأرضعوهم من كفرياتهم. .

من يمت يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام


وإنما المستغرب الذي يثير العجب أن يقع في شيء من ذلك كثير من المنتسبين إلى الدعوة والدين ..! فيموت عندهم التمييز بين المسلمين والكفار ، ويعدم بينهم الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان .. وذلك بإهمالهم لأحكام التكفير ، وإعراضهم عن تعلمها وعن النظر في أحكام الواقع الذي يعيشون فيه، وحكم الحكام المتسلطين فيه وحكم أنصارهم وأوليائهم ..
فما فتئ كثير منهم بسبب ذلك ، أن صاروا للطواغيت جندا محضرين، وأذناباً مخلصين، وما المانع ؟؟ فهؤلاء الحكام عندهم مسلمون ..!! وفي المقابل شنوا الغارة على كل موحد وداعية ومجاهد وقف في وجه أولئك الطواغيت، أو شمر عن ذراعه ويراعه يكشف زيوفهم ، ويحذر المسلمين من قوانينهم وكفرياتهم وباطلهم ويدعوهم إلى اجتنابهم والبراءة من شركهم وتشريعهم الذي ما أنزل الله به من سلطان ..

فشمر هؤلاء الذين طمس الله على بصائرهم، وحرمهم بإعراضهم عن تعلم أهم مسائل الكفر والإيمان ، من الفرقان والبصيرة في أحكام المسلمين والكفار ، شمروا عن ساق العداوة لأولئك الموحدين ، ودفعوا في نحورهم وصدورهم بكل ما يملكونه من كذب وبهتان ، طعنوا في أعراضهم ، وصدوا عن دعوتهم، وخذلوا دونهم ، وأوضعوا خلالهم يبغونهم الفتنة ..
ولم يجدوا في ذلك أدنى حرج ، فهم – زعموا- يتقربون بذلك إلى الله تبارك وتعالى ، فأولئك الموحدون عندهم ، خوارج مارقون ، قد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في أمثالهم !! ( لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) (4) وهم جزما!! ( شر قتلى تحت أديم السماء )(5) و( شر الخلق والخليقة ) (6) ، بل هم عندهم قطعا !! ( كلاب النار ) ولذلك فلا حرج عندهم حتى لو تعاونوا مع الطواغيت أو ناصحوهم في قمعهم !! أو ظاهروا أنصارهم عليهم ..!!

فالطواغيت وأنصارهم مسلمون عصاة .. !! يتورع أولئك القوم لا عن تكفيرهم وحسب ، بل حتى عن غيبتهم !! وهؤلاء الموحدون مبتدعة مارقون ..!! لا ينبغي التوقف أو التورع فيهم ، فالبدعة على أصول أهل السنة ، شر وأخطر من المعصية ..
هكذا وبهذا التأصيل المنحرف عن جادة السلف .. وبهذا الأخذ المشوه لنصوص الشريعة في غياهب ظلمات العماية في واقع هذه الحكومات ،وباستخفافهم وإعراضهم عن تعلم أحكام التكفير .. والوا الطواغيت والمشركين وعادوا المؤمنين والموحدين .. وتركوا أهل الأوثان وأغاروا على أهل الإسلام ..

إذ أن فساد فَهْم الأصول ، إضافةً إلى جهل مدقع في الواقع ، يوجب فساد تطبيقها في الفروع ، ويثمر ضلالاً عن الجادة والمنهاج .. لذلك انطلق الخوارج -كما قال ابن عمر – إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها في المؤمنين . وهؤلاء انطلقوا إلى آيات في حق المؤمنين و الموحدين فجعلوها في الكفار والملحدين ..!!
ولذلك فإن من أعظم أنواع الخيانة التي يمارسها اليوم بعض الرؤوس الجهال الذين إتخذهم كثير من الشباب قدوة و أسوة ، فضلوا وأضلوا كثيراً ، وضلوا عن سواء السبيل ؛ خيانتهم للأمانة ، بتحذيرهم المطلق من الكلام في أحكام التكفير ، وصدهم الشباب دوماً عن النظر في هذا الباب ، وصرفهم عن تعلمه ، باعتباره من الفتنة التي يجب التحذير منها بإطلاق. (7)

وترى أحسن مشايخهم طريقة ممن يشار إليه بالبنان ، يوجه سؤاله ببلاهة إلى المكفرين للحكام ، قائلاً : " ماذا تستفيدون من الناحية العملية إذا سلمنا –جدلاً- أن هؤلاء الحكام كفار كفر ردة ؟" (8)وقول الآخر بعد أن علق على الكلام الأول : (هذا كلام جيد ) ؛ (يعني هؤلاء الذين يحكمون على ولاة المسلمين بأنهم كفار ، ماذا يستفيدون إذا حكموا بكفرهم ..)(9) إلى آخر هرائه حيث قال في آخره : ( فما الفائدة من إعلانه وإشاعته إلا إثارة الفتن ؟ كلام الشيخ.. هذا جيد جداً ) !!
ويكتب ذلك وينشر بين الشباب في عشرات بل مئات الكتب والنشرات التي ألفت في التحذير المطلق من التكفير .. وأغلبها مما يوزع بالمجان !! ويسخر ذلك كله للدفع عن طواغيت العصر وأنصارهم ..و الهجوم على خصومهم من الموحدين ، والمجاهدين الذين يفنون أعمارهم ويبذلون مهجهم وأرواحهم في جهاد أهل الشرك وحرب قوانينهم ، ونصرة شريعة الله المطهرة ، والعمل من أجل تحكيمها ..
هذا وقد طالعت عشرات الكتب –من جنس ذلك – كتبها طائفة من أهل التخذيل والتلبيس والتدليس ، يحذرون الشباب مطلقاً من التكفير ، مع أن التكفير حكم من أحكام الشرع ، له أسبابه وضوابطه وشروطه وموانعه وآثاره ، فلا ينبغي الصد عن تعلمه أو التخذيل عن النظر والتفقه فيه ، شأنه في ذلك شأن سائر أحكام الشرع وأبوابه .. فقد عرفت مما تقدم بعض الآثار المترتبة على إهماله .. وعرفت ما يرتبط بهذا الحكم من مسائل وأحكام في شتى أبواب الدين ..
وأنه سبب رئيس للتميز بين سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين ومن أهمله خلط فيه ، واختلطت عليه سبيل المؤمنين بسبيل الكافرين والتبس عنده الحق بالباطل ، وحرم الفرقان والبصيرة في أهم أبواب الدين .

يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى تحت عنوان (قاعدة جلية ) : " قال تعالى ((وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين )) وقال تعالى ((ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى )) الآية ، والله تعالى قد بين في كتابه سبيل المؤمنين مفصلة ، وسبيل المجرمين مفصلة ، وعاقبة هؤلاء مفصلة ، وعاقبة هؤلاء مفصلة ، وأعمال هؤلاء وأعمال هؤلاء ، وأولياء هؤلاء وأولياء هؤلاء ، وخذلانه لهؤلاء وتوفيقه لهؤلاء ، والأسباب التي وفق بها هؤلاء والأسباب التي خذل بها هؤلاء ، وجلّى سبحانه الأمرين في كتابه ، وكشفهما وأوضحهما وبينهما غاية البيان ، حتى شاهدتهما البصائر كمشاهدة الأبصار للضياء والظلام .

فالعالمون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية ، وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية ، فاستبانت لهم السبيلان ، كما يستبين للسالك الطريق الموصل إلى مقصوده ، والطريق الموصلة إلى الهلكة .

فهؤلاء أعلم الخلق وأنفعهم للناس ، وأنصحهم لهم ، وهم الأدلاء الهداة ، وبذلك برز الصحابة على جميع من أتى بعدهم إلى يوم القيامة ، فإنهم نشأوا في سبيل الضلال والكفر والشرك والسبيل الموصلة إلى الهلاك وعرفوها مفصلة ثم جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم فأخرجهم من تلك الظلامات إلى سبيل الهدى وصراط الله المستقيم ، فخرجوا من الظلمة الشديدة إلى النور التام ، ومن الشرك إلى التوحيد ، ومن الجهل إلى العلم ومن الغي إلى الرشاد ، ومن الظلم إلى العدل ، ومن الحيرة والعمى إلى الهدى والبصائر ، فعرفوا مقدار ما نالوه وظفروا به ، ومقدار ما كانوا فيه ، فإن الضد يظهر حسن الضد ، وإنما تتبين الأشياء بأضدادها ، فازدادوا رغبة ومحبة فيما انتقلوا إليه ، ونفرة وبغضاً لما انتقلوا عنه ، وكانوا أحب الناس في التوحيد والإيمان والإسلام ، وابغض الناس في ضده ، عالمين بالسبيل على التفصيل، وأما من جاء بعد الصحابة ، فمنهم من نشأ في الإسلام غير عالم تفصيل ضده فالتبس عليه بعض تفاصيل سبيل المؤمنين بسبيل المجرمين ، فإن اللبس إنما يقع إذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما ، كما قال عمر ابن الخطاب ، إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية ، وهذا كمال علم عمر رضي الله عنه .. فمن لم يعرف سبيل المجرمين ولم تستبين له ، أوشك أن يظن بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين ، كما وقع في هذه الأمة من أمور كثيرة في باب الاعتقاد والعلم والعمل هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل ، أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبل المؤمنين ودعا إليها وكفّر من خالفها واستحل ما حرمه الله ورسوله كما وقع لأكثر أهل البدع من الجهمية والقدرية والخوارج والروافض وأشباههم ممن ابتدع بدعة ودعا إليها وكفّر من خالفها) أهـ .

ثم بين أن الناس في هذا الموضع أربع فرق ، فرقة ( عمت عن السبيلين من أشباه الأنعام وهؤلاء بسبيل المجرمين أحضر ولها أسلك ) وفرقة (صرفت عنايتها إلى معرفة سبيل المؤمنين دون ضدها ) وفرقة (عرفت سبيل الشر والبدع والكفر مفصلة وسبيل المؤمنين مجملة ).. وقال ؛ وفرقة هي الأولى : ( من استبان له سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين على تفصيل علماً وعملاً ، وهؤلاء أعلم الخلق ) أهـ من الفوائد مختصراً ص (108) فصاعد .

وبعد .. فإنما قدمنا لك هذه التوطئة في هذا الفصل ، كمقدمة بين يدي الغاية من عقده ؛ حتى لا نكيل بمكيال أولئك الخوالف الذين خلطوا الحق بالباطل بصدهم عن التكفير مطلقاً، فليس غايتنا هنا التحذير من مطلق أحكام التكفير ، وإنما كما هو عنوان الفصل .. التحذير من الغلو في التكفير .

فإنه وكما قد فرط في الحكم الشرعي أقوام ، وأعرضوا عن تعلمه وميعوه وحذروا منه بإطلاق ، ورهبوا الشباب من الاقتراب منه أبداً ، فكان لذلك ما عرفت من آثاره المتقدمة ..
فقد قابلهم أقوام أفرطوا وغلوا في اقتحام أبوابه ، دون علم أو بصيرة .. فأعملوا سيوف التكفير وأسنته في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، دون ضابط من الشرع أو وازع من ورع أو خشية ومخافة من الله ..
ودين الله الحق بين الغالي فيه ، والجافي عنه .. فلا هو مع هؤلاء في إفراطهم وغلوهم ، ولا هو مع أولئك في تفريطهم وتمييعهم. والفرقة الناجية والطائفة المنصورة القائمة بدين الله ، لا يضرهم من خالفهم ، ولا من خذلهم ، حتى يأتي أمر الله ، هم الذين حذر الله تبارك وتعالى من اتباع غير سبيلهم فقال : (( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ، ونصله جهنم وساءت مصيرا )) ، " فمن دونهم مقصر ومن فوقهم مفرط ، وقد قصر دونهم أناس فجفوا.. وطمح فوقهم آخرون فغلوا .. وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم " (10) .

هذا وقد جاءت النصوص الشرعية تحذر وتنهى عن الغلو في الدين عموماً
- فروى الإمام أحمد (1/215،347) والنسائي وابن ماجة وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من قبلكم بالغلو في الدين) (11)

- وروى الطبراني في الكبير وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( صنفان من أمتي لن تنالهم شفاعتي ، إمام ظلوم غشوم ، وكل غال مارق ) وهو حديث حسن .

كما جاءت النصوص الشرعية أيضاً متضافرة تحذر من الغلو في التكفير ، على وجه الخصوص ، وترهب من تعدي حدود الله التي حدّها سبحانه فيه ..
- فمن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه في كتاب الأدب ( باب من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال ) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما )

- وعن ثابت بن الضحاك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من حلف بملة غير الإسلام كاذباً فهو كما قال ، ومن قتل نفسه بشيء عذب به في نار جهنم ، ولعن المؤمن كقتله ، ومن رمى مؤمناً بالكفر فهو كقتله ).
وروى أيضاً في الكتاب نفسه من صحيحه في ( باب ما ينهى عن السباب واللعن)

- عن أبي ذر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر ، إلا ارتدت عليه ، أن لم يكن صاحبه كذلك )

- ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان عن أبي ذر أيضاً أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ليس من رجل أدعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر ، ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار ، ومن دعا رجلاً بالكفر أو قال : عدو الله ، وليس كذلك إلا حار عليه)

- وروى الحافظ أبو يعلى عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن مما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى إذا رؤيت بهجته عليه ، وكان رداؤه الإسلام اعتراه إلى ما شاء الله ، انسلخ منه ونبذه وراء ظهره ، وسعى على جاره بالسيف ورماه بالشرك ، قال : قلت : يا نبي الله ، أيهما أولى بالشرك المرمي أم الرامي ؟ قال : بل الرامي )

وذكره الحافظ ابن كثير عند تفسير قوله تعالى : (( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين )) ، وقال : إسناده جيد .
ورواه الطبراني في الكبير والصغير كما في مجمع الزوائد (5/228) عن معاذ بن جبل مرفوعا بلفظ أطول ، من طريق شهر بن حوشب وهو مختلف فيه من العلماء من صحح حديثه ومنهم من ضعفه .

ففي هذه الأحاديث الصحيحة من الوعيد والتهديد ، ما يجعل أولي الألباب يحتاطون لدينهم أشد الاحتياط في هذا الباب الخطير، إذ أن ظاهرها قاض بأن من كفر مسلماً بما لم يكفره الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم فقد كفر هو بذلك وهذا وعيد شديد استشكله العلماء ، ولذلك ذكروا فيه عدة تأويلات ، ومما رجحه بعضهم من ذلك ؛ أن من اعتاد الهجوم على مثل هذه المعصية الكبيرة ، وتجرأ على تعطيلها ، فإن ذلك يؤدي به إلى الكفر ، أو يختم له به ، لأن المعاصي بريد الكفر وكبارها أسرع إليه من صغارها ، والمستهتر بالكبائر يخشى عليه أن يجره استهتاره إلى اقتحام أسباب الكفر وتعاطيها ، وإلى هذا المعنى أشرنا بمسمى أوراقنا هذه حين قلنا ( … أن الغلو في التكفير يودي إلى الكفر ) .. وقد ذكر النووي في شرحه لمسلم استشكال بعض العلماء لظاهر الوعيد في هذه الأحاديث .. وذلك لأن مذهب أهل الحق ، أهل السنة والجماعة ، أن لا يكفر المسلم بالمعاصي ، ومن ذلك قوله لأخيه ( كافر ) ، من غير اعتقاد بطلان دين الإسلام . لذلك ذكر في تأويله خمسة أوجه :

- أحدها : أنه محمول على المستحل لذلك وهذا يكفر .
- الوجه الثاني : معناه رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره .
- الثالث : أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين ، نقله القاضي عياض عن الإمام مالك بن أنس .
- الرابع : معناه أن ذلك يؤول به إلى الكفر ، وذلك أن المعاصي كما قالوا بريد الكفر ، ويخاف على المكثر منها أن يكون عاقبة شؤمها المصير إلى الكفر .
- الوجه الخامس : معناه قد رجع عليه تكفيره ، فليس الراجع حقيقة الكفر بل التكفير لكونه جعل أخاه المؤمن كافراً ، فكأنه كفر نفسه ، إما لأنه كفر من هو مثله ، وإما لأنه كفر من لا يكفره إلا كافر يعتقد بطلان دين الإسلام ، والله أعلم ) أ هـ مختصراً من شرح مسلم .

- هذا وقد ضعف النووي الوجه الثالث المروي عن مالك ، بدعوى أن الخوارج عند الأكثرين لا يكفرون ببدعتهم ، وتعقبه الحافظ في الفتح فقال : ( ولما قاله مالك وجه ، وهو أن منهم من يكفر كثيراً من الصحابة ، ممن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة والإيمان ، فيكون تكفيرهم من حيث تكذيبهم للشهادة المذكورة(12) ، لا من مجرد صدور التكفير منهم بالتأويل ) .. ثم قال : ( والتحقيق أن الحديث سيق لزجر المسلم عن أن يقول ذلك لأخيه المسلم ، وذلك قبل وجود فرقة الخوارج وغيرهم ) أهـ

• يقول ابن دقيق العيد في معنى هذه الأحاديث : ( وهذا وعيد عظيم لمن كفر أحداً من المسلمين وليس كذلك ، وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق كثير من المتكلمين ، ومن المنسوبين إلى السنة وأهل الحديث لما اختلفوا في العقائد ، فغلظوا على مخالفيهم ، وحكموا بكفرهم ) أ هـ. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (4/76)

• ويقول الشوكاني في السيل الجرار : ( اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار ، فإنه قد ثبت في الأحاديث المروية من طريق جماعة من الصحابة أن من قال لأخيه : يا كافر فقد باء بها أحدهما …) وساق الأحاديث ثم قال : ( ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر ، وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير .) (4/578)
وقال : ( فإن الإقدام على ما فيه بعض البأس لا يفعله من يشح بدينه ، ولا يسمح به فيما لا فائدة فيه ولا عائدة ، فكيف إذا كان يخشى على نفسه إذا أخطأ ، أن يكون في عداد من سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كافراً ، فهذا {لا} يقود إليه العقل فضلاً عن الشرع ) أهـ (4/579) وما بين المعكوفين زيادة مني يقتضيها السياق لعلها سقطت من المطبوع .

• ويقول ابن حجر الهيثمي في الزواجر عن اقتراف الكبائر : ( الكبيرة الثانية والثالثة والخمسون بعد الثلاثمائة ، قول إنسان لمسلم: يا كافر أو يا عدو الله ، حيث لم يكفره به ، بأن لم يرد به تسمية الإسلام كفراً ، وإنما أراد مجرد السب ) وذكر الحديث المتقدم ثم قال : ( وهذا وعيد شديد وهو رجوع الكفر عليه أو عداوة الله له ، وكونه كإثم القتل ، فلذلك كانت إحدى هاتين اللفظتين إما : -

- كفراً بأن يسمي المسلم كافراً أو عدوا لله من جهة وصفه بالإسلام ، فيكون قد سمى الإسلام كفراً ومقتضياً لعداوة الله ، وهذا كفر.

- وإما كبيرة بأن لا يقصد ذلك ، فرجوع ذلك إليه حينئذ كناية عن شدة العذاب والإثم عليه وهذا من إمارات الكبيرة ) أهـ
وقد نص ابن القيم في اعلام الموقعين ( 4/405) على أن : ( من الكبائر تكفير من لم يكفره الله ورسوله ) أهـ

قلت: لاشك أن وصف الشرع للذنب بالكفر يميزه عن سائر المعاصي ، ولذلك فإن كون الذنب الذي نحذر منه ؛ كبيرة من كبائر الذنوب ، أمر لا يتبادر إليه الشك ، وقد رأيت أن في تأويلات العلماء للحديث ؛ من وجهه إلى الكفر الأكبر ، ومما يؤكد كونه كبيرة عظيمة من كبائر الذنوب ، وصف النبي صلى الله عليه وسلم له ، في حديث ثابت بن الضحاك المتقدم بقوله : ( .. لعن المؤمن كقتله ، ومن رمى مؤمناً بكفر فهو كقتله )
ومعلوم ما ورد من الوعيد الشديد في قتل المؤمن ، ومن ذلك قوله تعالى : ((ومن يقتل مؤمن متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً)) (93) النساء

ومما يناسب تشبيه وعيد تكفير المسلم بغير دليل ، بوعيد قاتله بغير حق .. أن حكم المرتد القتل ، كما في حديث (من بدل دينه فاقتلوه )(13) فمن كفر مسلماً وحكم عليه بالردة بغير دليل ، فهو كمن رأى قتله بغير حق .. فتأمل بعد هذا.. وعيد قاتل المؤمن ما أعظمه وما أشده ..(( فجزاؤه جهنم خالداً فيها، وغضب الله عليه ، ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً )) وانظر ما ورد في ذلك من وعيد في الأحاديث الواردة في سفك الدم الحرام ، وراجع تشديد ابن عباس فيه .. ثم اختر لدينك بعد ذلك ما شئت ؛ التثبت والوقوف عند حدود الله ، والورع والاحتياط .. أو التهور والمغامرة فيه ، باقتحام هذه المهلكات دون بصيرة أو برهان ؟
وفي الحديث الصحيح : (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم ) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه .

هذا ومما يعرفك أن من العلماء من أخذ وعيد هذه الأحاديث على ظاهره ، أن طائفة ممن جنحوا منهم إلى تكفير الخوارج(14) ؛ قد استدلوا لذلك بالأحاديث المتقدمة:

• منهم أبو منصور عبد القاهر البغدادي ( 429هـ) ، حيث قال في سياق ذكره للأصول التي اجتمع عليها أهل السنة :
(وقالوا بمروق أهل النهروان على الدين ،لأن النبي صلي الله عليه وسلم سماهم مارقين ، لأنهم كفروا عليا وعثمان وعائشة وابن عباس وطلحة والزبير ، وسائر من اتبع عليِا بعد التحكيم ، وأكفروا كل ذي ذنب من المسلمين . ومن أكفر المسلمين وأكفر أخيار الصحابة ، فهو الكافر دونهم ) أهـ 351 من الفرق بين الفرق .

• وكذا القاضي أبو بكر ابن العربي (543هـ) حيث قال وهو يعدد أوجه الحكم بتكفيرهم : ( ولحكمهم على كل من خالف معتقدهم بالكفر والتخليد بالنار فكانوا هم أحق بالاسم منهم ) (15)

• وكذا تقي الدين السبكي في فتاواه احتج بذلك حيث ساق حديث (من رمى مسلماً بالكفر أو قال عدو الله إلا حار عليه ) ثم قال : ( وهؤلاء قد تحقق منهم أنهم يرمون جماعة بالكفر ممن حصل عندنا القطع بإيمانهم فيجب أن يحكم بكفرهم بمقتضى خبر الشارع .. ) إلى قوله : ( ولا ينجيهم اعتقاد الإسلام إجمالاً والعمل بالواجبات عن الحكم بكفرهم كما لا ينجي الساجد للصنم ذلك ) (16)

وخلاصة القول بعدما تقدم من كلام حول الأحاديث .. إن تعدى حدود الله في هذا الحكم الخطير ، مهلكة لا يغامر في اقتحامها إلا رقيق الورع المستخف بدينه .. وإلا فإن في الأحاديث المتقدمة من الوعيد ما فيه رادع لأصحاب القلوب السليمة عن التكلم في هذا الباب إلا عن علم وبصيرة ، مع الاحتياط اللازم للدين .. فإن ذنباً سماه الله على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم كفراً ، ليس كغيرة من الذنوب .. بل إما أن يكون كفراً على الحقيقة أي مخرج من الملة ، على وجه من الوجوه المتقدمة أو يكون بريداً للكفر يؤدي ويوصل إليه .. أو يكون على أقل تقدير كبيرة من كبائر الذنوب ، إذ هذا الوعيد كما تقدم ، هو من إمارات الكبيرة ، وعلاماتها ، وهو من جنس وعيد قاتل المؤمن .. فإذا كان هذا الوعيد بهذه الصورة التي عرفت، قد ورد في تكفير المرء لرجل مسلم واحد .. فكيف يكون فيما يتقحمه بعض المتهورين من رمي عموم جماهير المسلمين بالتكفير ، لبعض شبهات عندهم ، لا ترقى إلى قوة الأدلة الشرعية .. ؟؟ لا شك أن هذا مع ضلالته وفساده وبطلانه ، ينطوي على مرض في القلب ، أو غل على المسلمين ، أو تيه وعجب بالنفس كي يستثنيها ويستخلصها من بين ألوف بل ملايين مَنْ حكم عليهم بالهلاك ، وهو في الحقيقة أهلكهم، كما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكُهم ) ورواه مالك وأبو داود، كما ذكر المنذري في الترغيب والترهيب وقال : ( وفسره مالك ؛ إذا قال ذلك معجباً بنفسه مزدرياً بغيره ، فهو أشد هلاكاً منهم ، لأنه لا يدري سرائر الله في خلقه ) أهـ .

وقال النووي : ( روي أهلكهم على وجهين مشهورين ، رفع الكاف وفتحها والرفع أشهر.. قال الحميدي في الجمع بين الصحيحين : ( الرفع أشهر ومعناها أشدهم هلاكاً .. واتفق العلماء ، على ان هذا الذم فيمن قاله على سبيل الإزراء على الناس واحتقارهم ، وتفضيل نفسه عليهم وتقبيح أحوالهم لأنه لا يعلم سر الله في خلقه .
قالوا: فأما من قال ذلك تحزناً لما يرى في نفسه ، وفي الناس من النقص بأمر الدين فلا بأس عليه .. ) أهـ .

ومن جنس ذلك أيضاً ما رواه مسلم عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قال رجل والله لا يغفر الله لفلان ، فقال الله عز وجل : من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر له ؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك ) .

- ويناسب هذا الباب أيضاً ما رواه الحاكم في مستدركه ( 2/27) وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( … من قال في مؤمن ما ليس فيه حبس في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج مما قال).

- وأختم هذا الموضع بجملة متفرقة من أقاويل أهل العلم في التحذير من التسرع والمخاطرة في إكفار المسلمين ، جمعتها لك إضافة إلى ما تقدم كي تزداد بصيرة واحتياطاً في هذا الباب ..

- قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (15/88) : ( رأيت للأشعري (133هـ) كلمة أعجبتني وهي ثابتة رواها البيهقي ، سمعت أبا حازم العبدري ، سمعت زاهر بن أحمد السرخسي يقول : لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري في داري ببغداد دعاني فأتيته ، فقال : اشهد علي أني لا أكفر أحداً من أهل القبلة لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد ، وإنما هذا كله اختلاف العبارات . قال الذهبي بعده قلت وبنحو هذا أدين ، وكذا كان شيخنا ابن تيمية يقول : أنا لا أكفر أحداً من الأمة ، ويقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم ) أهـ.

قلت : وقوله ( لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد)؛ بين في أن تحرجه في التكفير ، إنما هو في أهل التوحيد لا في أهل الشرك والتنديد ، فتنبه لذلك فإن هذا هو الذي نحذر من التهور فيه ، وحذار من تلاعب الملبسين والمدلسين الذين يوظفون هذا الكلام ويستعملونه في الدفع عن أعداء الملة والدين من الطواغيت المحاربين ..

- يقول ابو محمد بن حزم (456هـ) رحمه الله تعالى : ( لا نسمي في الشريعة اسماً إلا بأن يأمرنا الله تعالى بأن نسميه أو يبيح لنا الله بالنص بأن نسميه ، لأننا لا ندري مراد الله عز وجل منا إلا بوحي وارد من عنده علينا. ومع هذا فإن الله عز وجل يقول منكراً لمن سمى في الشريعة شيئا بغير اذنه عز وجل : ((إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للإنسان ما تمنى )) وقال تعالى : ((وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا )) فصح أنه لا تسمية مباحة لملك ولا لإنس دون الله تعالى، ومن خالف هذا فقد افترى على الله عز وجل الكذب وخالف القرآن ، فنحن لا نسمي مؤمنا إلا من سماه الله عز وجل مؤمنا ، ولا نسقط الإيمان بعد وجوبه إلا عمن أسقطه الله عز وجل عنه…) أهـ الفصل في الملل والأهواء والنحل (3/191) .

- ويقول الإمام ابن عبد البر (463هـ) في التمهيد (17/22) : ( إن كل من ثبت له عقد الإسلام في وقت بإجماع المسلمين ثم أذنب ذنباً أو تأول تأويلاً فاختلفوا بعد في خروجه من الإسلام ، لم يكن لاختلافهم بعد اجتماعهم معنى يوجب حجةً ، ولا يخرج من الإسلام المتفق عليه إلا باتفاق آخر أو سنة ثابتة لا معارض لها .
وقد اتفق أهل السنة والجماعة وهم أهل الفقه والأثر على أن أحداً لا يخرجه ذنبه وإن عظم من الإسلام، وخالفهم أهل البدع، فالواجب في النظر أن لا يكفر إلا من اتفق الجميع على تكفيره أو قام على تكفيره دليل لا مدفع له من كتاب أو سنة ) أهـ .

- ونقل القاضي عياض عن أبي المعالي ( 478هـ) قوله : ( إن إدخال كافر في الملة أو إخراج مسلم عظيم في الدين ) أهـ .
وفيه أن إدخال كافر في الملة والشهادة له باطلا بالإسلام ، لا يقل خطورةً عن إخراج المسلم منه ، فليحذر طالب الحق من كلا العقبتين فكلهما كؤود .

- ونقل القاضي عياض ( 544هـ ) أيضاً في الشفا في ( فصل تحقيق القول في إكفار المتأولين ) عن العلماء المحققين قولهم : ( أنه يجب الاحتراز من التكفير في أهل التأويل فإن استباحة دماء المصلين الموحدين خطر ، والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم واحد ) أهـ (2/277)
وهذه العبارة قريبة من عبارة الغزالي (505هـ) في كتابه (التفرقة بين الإيمان والزندقة) فلعل القاضي ، قصده في إشارته ، ولم يسمه لأن له على كتابه المذكور مؤاخذات (17)

- وقول الغزالي في ( التفرقة.. ) : ( والذي ينبغي، الاحتراز عن التكفير ما وجد له سبيلاً فإن استباحة دماء المصلين المقرين بالتوحيد خطأ ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة ، أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد ) أهـ .

- قال القرطبي (671هـ) في المفهم : ( وباب التكفير باب خطر ولا نعدل بالسلامة شيئاً ) أهـ من الفتح كتاب استتابة المرتدين .. ( باب من ترك قتال الخوارج )

- وقد قرر ابن الوزير تواتر الأحاديث في النهي عن تكفير المسلم في كتابه ( إيثار الحق عن الخلق ) وقال رحمه الله : ( وفي مجموع ذلك ما يشهد بصحة التغليظ في تكفير المؤمن ، وإخراجه من الإسلام مع شهادته بالتوحيد والنبوات وخاصة مع قيامه بأركان الإسلام ، وتجنبه للكبائر ، وظهور أمارات صدقه في تصديقه ، لأجل غلطه في بدعة ، لعل المكفر له لا يسلم من مثلها أو من قريب منها ، فإن العصمة مرتفعة ، وحسن ظن الإنسان بنفسه لا يستلزم السلامة من ذلك عقلا ولا شرعاً ،بل الغالب على أهل البدعة شدة العجب بنفوسهم ، والاستحسان لبدعتهم … وقد كثرت الآثار في أن إعجاب المرء بنفسه من المهلكات ، كما في حديث أبي ثعلبة الخشني عند أبي داود والترمذي ، وعن ابن عمرو مرفوعا : ( ثلاث مهلكات : شح مطاع ، وهوىً متبع ، وإعجاب المرء بنفسه)… ودليل العقوبة في ذلك أنك ترى أهل الضلال أشد عجباً وتيهاً وتهليكا للناس واستحقارا لهم ، نسأل الله العفو والمعافاة من ذلك كله )) أهـ . ص ( 425 ) وما بعدها .
ويقول : ( وقد عوقبت الخوارج أشد العقوبة ، وذمت أقبح الذم على تكفيرهم لعصاة المسلمين مع تعظيمهم في ذلك لمعاصي الله تعالى ، وتعظيمهم الله تعالى بتكفير عاصيه ، فلا يأمن المكفر أن يقع في مثل ذنبهم ، وهذا خطر في الدين جليل ، فينبغي شدة الإحتراز فيه من كل حليم نبيل ) أهـ ( 447 )

-ويقول الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب : ( وبالجملة فيجب على من نصح نفسه ألا يتكلم في هذه المسألة إلا بعلم وبرهان من الله ، وليحذر من إخراج رجل من الإسلام بمجرد فهمه ، واستحسان عقله ، فإن إخراج رجل من الإسلام ، أو إدخاله فيه من أعظم أمور الدين …
وقد استزل الشيطان أكثر الناس في هذه المسألة ، فقصر بطائفة فحكموا بإسلام من دلت نصوص الكتاب والسنة والإجماع على كفره ، وتعدى بآخرين فكفروا من حكم الكتاب والسنة مع الإجماع بأنه مسلم ) أهـ . الدرر السنية (8/217)


تنبيه
إلى من لا يشملهم الوعيد على التكفير


عرفت مما تقدم أن الوعيد المذكور .. إنما هو في حق من كفر أخاه المسلم من غير دليل صحيح صريح من الشرع ، فيدخل في هذا كل من كفره لدافع الهوى ، أو الخصومة أو العصبية ، أو الحزبية ، أو الغل والعداوة والحسد ، أو أن يصدر تكفيره له كمسبة ..
ومن ذلك تكفير جماهير المسلمين بالعموم أو نحوه مما يندرج تحت الغلو في التكفير .

• وبديهي أن لا يدخل في ذلك تكفير من نص الله تعالى على تكفيرهم من اليهود والنصارى ونحوهم من ملل الكفر . .

• وكذلك الشأن في تكفير الكفار المجمع على تكفيرهم كالطواغيت الذين يعبدون من دون الله ونحوهم من المشرعين ، وكذلك المرتدين الممتنعين عن شريعة الله وأنصارهم ، فقد أجمع الصحابة بعد المناظرة التي جرت بين أبي بكر وعمر على تكفير الممتنعين عن بعض شرائع الإسلام كالزكاة ونحوها .. فيدخل في ذلك من باب أولى الممتنعين عن شرائع الإسلام كلها ، المتولين لأعداء الله من كفار الشرق والغرب ممن كرهوا ما نزل الله ، المحاربين لأولياء الله وأنصار شرعه ، المظاهرين للكفار والمرتدين على الموحدين ، المشرعين لقوانين الكفر ، المحلين والمبيحين لما حرم الله تعالى من الردة والخمر والربا والخنا وغير ذلك من المحرمات ، المحكمين لغير ما أنزل الله .. المتحاكمين لطواغيت الشرق والغرب ، المرخصين والحارسين والحامين لكل أنواع الكفر والطعن والاستهزاء بالدين ..
إلى غير ذلك من كفرياتهم العديدة التي تعرضنا إلى تفصيل أشياء منها في غير هذا الموضع ، فكفر هؤلاء الطواغيت وأنصارهم كفر مزيد مغلظ ثابت عليهم ، ومتحقق بأسباب عديدة ، وأكثرها من الأسباب الظاهرة الواضحة بل والمجمع على التكفير بها عند العلماء .

وكل سبب من ذلك له أدلته المعلومة وتفاصيله المعروفة في مواضعها .. يطول الوقوف عنده وإنما أردنا هنا الإشارة والتنبيه إلى ذلك ، وللتفصيل في ذلك محله اللائق به ، وقد قال شيخ الإسلام في سياق فتواه في التتار : ( وإذا كان السلف قد سموا مانعي الزكاة مرتدين – مع كونهم يصومون ويصلون ، ولم يكونوا يقاتلون جماعة المسلمين – فكيف بمن صار مع أعداء الله ورسوله قاتلاً للمسلمين ؟!) أهـ مجموع الفتاوى (28/289)

ولذلك فلا وعيد في حق من كفر أمثال هؤلاء ، وليس ذلك من الغلو في التكفير بحال ، بل هو واجب على كل مسلم ومسلمة ، كي يكونوا على بصيرة من دينهم .. وفاعله مأجور لأنه التزم حكماً شرعياً وواجباً دينيا ، وهو تكفير من كفره الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وذلك كي يتمكن من معرفة آثار هذا الحكم الشرعي في أمور دينه ودنياه .. وما يجب عليه من التكاليف الشرعية المرتبطة بذلك من براءة ومعاداة وجهاد وإعداد لدفع الكفر الجاثم على بلاد المسلمين .. وغير ذلك من الأحكام الشرعية التي تقدمت الإشارة إلى بعضها.

• وكذلك لا يدخل أيضاً تحت الوعيد المتقدم ، من كفر من قارف سبباً من أسباب الكفر التي نص الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم على تكفير فاعله بنص صريح .. ثم ظهر له – رغم استفراغه الجهد في النظر في الشروط والموانع – أن مقترف ذلك السبب قد قام دون تكفيره مانع أو تخلف شرط من شروط التكفير ، لم يظهر له حين كفره .
فإن هذا لا يشمله الوعيد المتقدم والحال كذلك ، وليس هذا من الغلو في التكفير ، خصوصاً إذا كان الدافع لتكفيره الغيرة على حرمات الشرع ، لا الهوى والعصبية ونحوها ..

- ولذلك كان تبويب البخاري رحمه الله للأحاديث المتقدمة بقوله (باب من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال ) ثم قال في الباب الذي يليه (باب من لم يرى إكفار من قال ذلك متأولاً أو جاهلاً ) وذكر فيه قول عمر رضي الله عنه لحاطب بن أبي بلتعة ، إنه منافق ، وحديث إطالة معاذ بن جبل صلاته في قومهم وقوله عن الرجل الذي تجوز وحده في الصلاة ،أنه منافق .

- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ذكر حديث ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) وحديث ( إذا قال المسلم لأخيه: يا كافر ، فقد باء بها أحدهما ) قال : ( وهذه الأحاديث كلها في الصحاح ، وإذا كان المسلم متأولاً في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك، كما قال عمر بن الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة : يا رسول الله ، دعني أضرب عنق هذا المنافق ، ولم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم لا هذا ولا هذا ، بل شهد للجميع بالجنة …) أهـ مجموع الفتاوى (3/284)

- وقال ابن القيم رحمه الله ، في زاد المعاد ( فصل في الإشارة إلى ما في فتح مكة من الفقه) : ( وفيها أن الرجل إذا نسب المسلم إلى النفاق والكفر متأولاً وغضباً لله ورسوله ودينه لا لهواه وحظه ، فإنه لا يكفر بذلك ، بل لا يأثم به ، بل يثاب على نيته وقصده ، وهذا بخلاف أهل الأهواء والبدع ، فإنهم يُكفرون ويبدعون لمخالفة أهوائهم وبدعهم ونحلهم ، وهم أولى بذلك ممن كفروه وبدعوه ) أهـ (3/423)

- وقال الحافظ في الفتح في كتاب الصلاة ( 1/523) في فوائد الحديث الذي فيه قول القائل عن مالك بن الدخشن إنه منافق يجادل عن المنافقين : ( وان من نسب من يظهر الإسلام إلى النفاق ونحوه بقرينة تقوم عنده ، لا يكفر بذلك ولا يفسق بل يعذر بالتأويل ) أهـ .

- وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في (الدرر السنية ) : ( لو قدر أن رجلاً من المسلمين قال في أناس قد تلطخوا بأمور قد نص العلماء على أنها كفر ، مستندين في ذلك إلى الكتاب والسنة ، غيرة لله ، وكراهة لما يكره الله من تلك الأعمال ، فغير جائز لأحد أن يقول في حقه : (ومن كفر مسلماً فهو كافر ) أهـ ص132 من جزء الجهاد .
العزة لله ولرسوله وللمؤمنين

الامير الصنعاني
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 792
اشترك في: الاثنين مارس 27, 2006 11:55 pm

مشاركة بواسطة الامير الصنعاني »

فصل : في شروط وموانع وأسباب التكفير
[الكاتب: أبو محمد المقدسي]

<<||>>

هذا واعلم رحمنا الله تعالى وإياك أن لهذا الحكم الشرعي الخطير … شروطاً وموانع وأسباباً يجب عليك مراعاتها والإنتباه إليها ومعرفتها فقد قصر في فهمها وتعلمها واعتباراها أقوام ، فأعملوا سيوف التكفير وأسنته في أمة محمد صلى الله عليه وسلم … ولم يميزوا بين برها وفاجرها وكافرها ..
مع أنه من المعلوم المقرر عند العلماء المحققين ، ( أن نصوص الوعيد التي في الكتاب والسنة ، ونصوص الأئمة بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك ، لا يستلزم ثبوت موجبها في حق المعين ، إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع ، لا فرق في ذلك بين الأصول والفروع ..)(1)

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ( أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع يقال هي كفر قولاً يطلق ، كما دل على ذلك الدلائل الشرعية ، فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله ، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم ، ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير ، وتنتفي موانعه ..) أهـ .من مجموع الفتاوي (35/101)
وقد ذكر رحمه الله تعالى (12/266) أصلين عظيمين في باب التكفير :

- أحدهما : أن العلم والإيمان والهدى فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأن خلاف ذلك كفر على الإطلاق ، فنفي الصفات كفر ، والتكذيب بأن الله يُرى في الآخرة ، أو أنه على العرش أو أن القرآن كلامه أو أنه كلم موسى أو أنه اتخذ ابراهيم خليلا؛ كفر…

- والأصل الثاني : أن تكفير العام – كالوعيد العام – يجب القول بإطلاقه وعمومه ، وأما الحكم على المعين بأنه كافر ، أو مشهود له بالنار ، فهذا يقف على الدليل المعين ، فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه ، وانتفاء موانعه …) أهـ

كما ذكر رحمه الله تعالى نزاع المتأخرين في كفر الجهمية ونحوهم ، هل هو كفر ناقل عن الملة أم لا ، ونزاعهم في خلودهم في النار .. ثم قال : ( وحقيقة الأمر أنهم أصابهم في ألفاظ العموم في كلام الأئمة ما أصاب الأولين في ألفاظ العموم في نصوص الشرع، كلما رأوهم قالوا : ( من قال كذا فهو كافر ) اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل من قاله ، ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين ، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع ، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه …)
ثم ذكر مباشرة الإمام أحمد للجهمية الذين فتنوا الناس على القول بخلق القرآن ، و ذكر تعذيبهم له ولغيره .. ثم بين دعاء الإمام أحمد للخليفة واستغفاره لمن ضربه وحبسه .. قال : ( ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الإستغفار لهم ، فإن الإستغفار للكفار لا يجوز …) إلى قوله :
(… وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية ، الذين يقولون القرآن مخلوق ، وإن الله لا يرى في الآخرة ، وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفر به قوماً معينين ، فإما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر .
أو يحمل الأمر على التفصيل ، فيقال من كفره بعينه فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير ، وانتفت موانعه ، ومن لم يكفره بعينه فلانتفاء ذلك في حقه ،(2) هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم ) أهـ مجموع الفتاوى (12/261-262) .
ثم شرع في سرد الأدلة على بعض موانع التكفير ..

أضف إلى هذا أن الشارع قد ربط الأحكام الشرعية – ومن ذلك التكفير- بأسبابها الظاهرة المنضبطة وجوداً وعدماً .. فالحكم في الشريعة يدور مع علته أو سببه حيث دار ، ولا يوجد إلا بوجوده ..
ولكي تكون على البينة من دينك في هذا الأمر الخطير ، فها أنا أسرد لك هنا شروط وموانع وأسباب التكفير على وجه الإجمال ، وسيأتي المزيد من التفصيل والتمثيل لذلك في فصل أخطاء التكفير ، إذا هو تطبيق وتفصيل لذلك .
شروط وموانع التكفير


• أولاً : الشـروط :
- الشرط شرعاً : (هو ما لا يلزم من وجوده وجود ولا عدم ، لكن يلزم من عدمه عدم المشروط ).
أو قل ، هو في موضوعنا ، ما يتوقف وجود الحكم بالتكفير على وجوده ، فلا يلزم من وجوده وجود الحكم ، ولكن يلزم من عدمه عدم الحكم بالتكفير أو بطلانه .
فالإختيار مثلاً ، شرط من شروط التكفير ، (وهو يقابل مانع الإكراه ) ، فإذا عدم الإختيار عدم الحكم بالتكفير ، ولا يلزم من وجود الإختيار أن يقع المرء بالكفر ويختاره .

وتنقسم شروط التكفير ، ثلاثة أقسام :
- القسم الأول : شروط في الفاعل ؛ وهي أن يكون :
1- مكلفاً (بالغاً ،عاقلاً )
2- متعمداً قاصداً لفعله .
3- مختاراً له بإرادته .
وهذا القسم سيأتي الكلام عليه فيما يقابله من الموانع ، إذا الموانع تقابل الشروط كما سيأتي .

القسم الثاني : شروط في الفعل (الذي هو سبب الحكم وعلته)
ويجمعها ؛ أن يكون الفعل مكفراً بلا شبهة :
1- أن يكون فعل المكلف أو قوله صريح الدلالة على الكفر .
2- وأن يكون الدليل الشرعي المكفر لذلك الفعل أو القول صريح الدلالة على التكفير أيضاً ..
وهذا القسم بشرطيه سيأتي بيانه وذكر أمثلة عليه في ( أخطاء التكفير ) في التكفير بالمحتملات .

- القسم الثالث : شروط في إثبات فعل المكلف ، وذلك بأن يثبت بطريق شرعي صحيح ، لا بظن ، ولا بتخرص ولا بالاحتمالات أو بالشكوك ..
- ويكون ذلك :
- أما بالإقرار ، أي الإعتراف .
- أو بالبينة : شهادة عدلين .
وسيأتي الكلام عليه في أخطاء التكفير أيضاً

• ثانياً : الموانع :
- فالمانع وصف ظاهر منضبط يلزم من وجوده عدم الحكم ، ولا يلزم من عدمه وجود الحكم أو عدمه )

- فالإكراه مانع من موانع التكفير ، فيلزم من وجوده –أي إن أكره المرء على الكفر – عدم الحكم بالكفر أو بطلانه ، ولا يلزم من عدم وجود الإكراه أن يوجد ، أو لا يوجد الكفر .. أي : لا يلزم في حال اختيار المكلف وعدم وقوعه تحت الإكراه ، أن يفعل أو لا يفعل الكفر ، بل قد يفعل أو قد لا يفعل .
وبتعبير آخر ، المانع ( هو الوصف الوجودي الظاهر المنضبط الذي يمنع ثبوت الحكم )(3)

- والموانع ضد الشروط ، أو مقابلة لها ، فيجوز أن يكتفى في الذكر بالموانع وحدها ، أو بالشروط وحدها، فما كان عدمه شرطاً فوجوده مانع .

- فعدم الشرط مانع من موانع الحكم ، وعدم المانع شرط من شروطه ، هذا عند جمهور الأصوليين.(4)

- ولذلك فالموانع أيضاً تنقسم كالشروط إلى ثلاثة أقسام ، تقابل تماماً أقسام الشروط :

• القسم الأول : موانع في الفاعل :

وهي ما يعرض له فيجعله لا يؤاخذ بأقواله وأفعاله، وهي التي تعرف (بعوارض الأهلية ) وهي قسمان :

-أ – عوارض يسمونها سماوية لأنها لا دخل للعبد في كسبها ، كالصغر والجنون والعته والنسيان، فهذه العوارض ترفع الإثم والعقوبات عن صاحبها لارتفاع خطاب التكليف عنه بها .
وإنما يؤاخذ بحقوق العباد ، كقيم المتلفات والديات ونحوها ، لأنه من خطاب الوضع.

ويقابل هذه العوارض أو الموانع من الشروط :
شرط البلوغ ويقابل عارض الصغر
وشرط العقل ويقابل الجنون والعته
وشرط العمد ويقابل النسيان .

-ب- عوارض مكتسبة : وهي التي للعبد نوع اختيار في اكتسابها :

(1) الخطأ : بما يؤدي إلى سبق اللسان ( أي : انتفاء القصد) فينطق بالكفر وهو لا يقصد ولا يريد القول أو العمل المكفر نفسه ، بل يقصد شيئاً غيره .
وهذا العارض أو المانع يبطل ما يقابله من شرط العمد .
ودليله قوله تعالى (( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ، ولكن ما تعمدت قلوبكم)) (50) الأحزاب ، ويدل عليه أيضاً حديث الرجل الذي أضل راحلته في أرض قفر ، فلما وجدها قال : ( اللهم أنت عبدي وأنا ربك) ( أخطأ من شدة الفرح) كما قال صلى الله عليه وسلم .(5)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين – وإن أخطأ وغلط- حتى تقام عليه الحجة ، وتبين له المحجة ، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك ، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة ) أهـ مجموع الفتاوي (12/250)
وقد تكلم ابن القيم رحمه الله تعالى في اعلام الموقعين (3/65-66) عن هذا المانع وقرر أن انتفاء القصد مانع من موانع التكفير المعتبرة ، واستدل بقول حمزة رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم : ( هل أنتم إلا أعبد لأبي )(6) قال : ( وكان نشواناً في الخمر ، فلم يكفره صلى الله عليه وسلم بذلك ، وكذلك الصحابي الذي قرأ قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ، ونحن نعبد ما تعبدون ) وكان ذلك قبل تحريم الخمر (7) . ولم يعد بذلك كافراً لعدم القصد ، وجريان اللفظ على اللسان من غير إرادة لمعناه .
فإياك أن تهمل قصد المتكلم ونيته وعرفه ، فتجني عليه وعلى الشريعة وتنسب إليها ما هي بريئة منه .) أهـ ص66
وقال أيضاً فيه (3/117) : ( ولم يرتب { أي الشارع } تلك الأحكام على مجرد ما في النفوس من غير دلالة فعل أو قول، ولا على مجرد ألفاظ مع العلم بأن المتكلم بها لم يرد معانيها ولم يحط بها علماً ، بل تجاوز للأمة عما حدثت به أنفسها ، ما لم تعمل به أو تكلم به ، وتجاوز لها عما تكلمت به مخطئة أو ناسية أو مكرهة أو غير عالمة به ، إذا لم تكن مريدة لمعنى ما تكلمت به أو قاصدة إليه ، فإذا اجتمع القصد والدلالة القولية أو الفعلية ترتب الحكم ، هذه قاعدة شرعية وهي من مقتضيات عدل الله وحكمته ورحمته ) أهـ

• فائدة : يمكن أن يستدل لمانع (انتفاء القصد ) أيضاً بما هو ثابت من اغتفار ما صدر عن بعض نساء النبي صلى الله عليه و سلم بحقه بدافع الغيرة ؛ من أقوال لا يجوز لأحد إطلاقها بحقه صلى الله عليه وسلم.

- فمن ذلك ما رواه البخاري في باب ( هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد ) من كتاب النكاح ، وفيه أنه لما نزل قوله تعالى (( ترجي من تشاء منهن )) : قالت عائشة : ( يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك ) .
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: ( أي في رضاك ، قال القرطبي هذا القول أبرزه الدلال والغيرة وهو من نوع قولها : (ما أحمدكما ولا أحمد إلا الله ) وإلا فإضافة الهوى إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا تحمل على ظاهره لأنه لا ينطق عن الهوى ولا يفعل بالهوى . ولو قالت إلى مرضاتك لكان أليق ، ولكن الغيرة يغتفر لأجلها إطلاق مثل ذلك ) أهـ .

- ومثله ما رواه أيضاً في كتاب الهبة وفضلها ، باب (من أهدى إلى صاحبه وتحرى بعض نسائه دون بعض ) وفيه قول زينب بنت جحش للنبي صلى الله عليه وسلم : ( إن نساءك ينشدنك الله ، العدل في بنت أبي قحافة …) فليس هذا من جنس الطعن والأذى الذي كان دافعاً لذي الخويصرة لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ( إعدل ) .
بل الدافع هنا فرط محبة النبي صلى الله عليه وسلم والغيرة التي جبلت عليها النساء .. والشح بحظهن منه .
قال الحافظ : ( طلبت العدل مع علمها بأنه أعدل الناس ولكن غلبت عليها الغيرة ولم يؤاخذها النبي صلى الله عليه وسلم بإطلاق ذلك ) أهـ .
وقد حكى القاضي عياض في الإكمال عن مالك وغيره ، إن المرأة إذا رمت زوجها بالفاحشة ، على جهة الغيرة لا يجب عليها الحد ، قال واحتج بذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : ( وما تدري الغيراء أعلى الوادي من أسفله ) أهـ من الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ص61 .
ويتبع هذا المانع ( إنتفاء القصد ) قول الكفر على سبيل الحكاية عن الغير .

- كمن يقرأ كلام الكفار الذي قصه الله تعالى في كتابه ، وقد أمر الله بتلاوة كتابه ، فلا يكفر قارئ ذلك قطعا بل يؤجر .

- وكنقل الشاهد ما سمعه من كفر للقاضي أو غيره .

- وكنقل مقالات الكفار لبيان ما فيها من الفساد أو للرد عليها ، فكل ذلك جائز أو واجب لا يكفر قائله ، ولهذا يقال : (ناقل الكفر ليس بكافر ) بخلاف من حكاه ونقله على سبيل النشر أو الإشاعة على سبيل الإستحسان والتأييد فهذا كفر لا ريب .

قال القاضي عياض تعليقاً على حديث مسلم في الذي انفلتت منه ناقته وعليها طعامه وشرابه في مهلكة ، ثم لما ردها الله عليه ( أخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح ) قال : ( فيه أن ما ناله الإنسان من مثل هذا في حال دهشته وذهوله لا يؤاخذ به ، وكذا حكايته عنه على طريق علمي ، وفائدة شرعية ، لا على الهزل والمحاكاة والعبث ، ويدل على ذلك حكاية النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، ولو كان منكراً ما حكاه والله اعلم)أهـ (9)
وقرائن الحال لها دخل في التفريق والتميز بين هذه الأحوال .
قال القاضي عياض ( أن يقول القائل ذلك حاكياً عن غيره وأثراً له عن سواه ، فهذا ينظر في صورة حكايته مقالته ويختلف الحكم باختلاف ذلك على أربعة وجوه : الوجوب ، والندب ، والكراهة ، والتحريم ) أهـ الشفا(2/997-1003)

وقال ابن حزم : ( الإقرار باللسان دون عقد القلب لا حكم له عند الله عز وجل ، لأن أحدنا يلفظ بالكفر حاكياً وقارئاً له في القرآن ، فلا يكون بذلك كافراً حتى يقر أنه عقده . قال : فإن احتج بهذا أهل المقالة الأُول - يعني المرجئة والجهمية – وقالوا هذا يشهد بأن الإعلان بالكفر ليس كفرا ، قلنا له وبالله تعالى التوفيق : قد قلنا إن التسمية ليست لنا ، وإنما هي لله تعالى ، فلما امرنا تعالى بتلاوة القرآن ، وقد حكا لنا فيه قول أهل الكفر ، وأخبرنا تعالى انه لا يرضى لعباده الكفر ؛ خرج القارئ للقرآن بذلك عن الكفر إلى رضى الله عز وجل والإيمان ، بحكايته ما نص الله تعالى .
{ و لما أمر الله تعالى } (10) بأداء الشهادة بالحق فقال تعالى : ((إلا من شهد بالحق وهم يعلمون )) خرج الشاهد المخبر عن الكافر بكفره عن أن يكون بذلك كافرا ؛ إلى رضى الله عز وجل والإيمان … ) أهـ. من الفصل ( 3/249-250)

- ومن ذلك أيضاً أن يتكلم الإنسان بكلام أو ينطق لفظاً لا يعرف معناه فإنه لا يؤاخذ بذلك حتى يعرف فيتكلم به قاصداً بمعناه بعد قيام الحجة ..
ففي (قواعد الأحكام في مصالح الأنام ) للعز بن عبد السلام ( فصل فيمن أطلق لفظاً لا يعرف معناه لم يؤاخذ بمقتضاه ) قال رحمه الله : ( فإذا نطق الأعجمي بكلمة كفر أو إيمان أو طلاق أو إعتاق أو بيع أو شراء أو صلح أو إبراء لم يؤاخذ بشيء من ذلك ، لأنه لم يلتزم مقتضاه ولم يقصد إليه ، وكذلك إذا نطق العربي بما يدل على هذه المعاني بلفظ أعجمي لا يعرف معناه ، فإنه لا يؤاخذ بشيء من ذلك ، لأنه لم يريده فإن الإرادة لا تتوجه إلا إلى معلوم أو مظنون ، وإن قصد العربي بنطق شيء من هذه الكلم مع معرفته بمعانيها نفذ ذلك منه ، فإن كان لا يعرف معانيها ، مثل أن قال العربي لزوجته أنت طالق للسنة أو للبدعة وهي حامل(11) بمعنى اللفظين ، أو نطق بلفظ الخلع أو غيره أو الرجعة أو النكاح أو الإعتاق وهو لا يعرف معناها مع كونه عربياً فإنه لا يؤاخذ بشيء من ذلك ، إذ لا شعور له بمدلوله حتى يقصد إلى اللفظ الدال عليه ) أهـ .(2/102).

وانظر أيضاً لابن القيم في إعلام الموقعين (3/75):( لو نطق بكلمة الكفر من لا يعلم معناها لم يكفر) .
حيث قال وهو يتكلم في إطلاق ألفاظ الطلاق وأهمية وجود القصد فيها لنفاذ الطلاق : ( وأنها لا تلزم بها أحكامها حتى يكون المتكلم بها قاصدا لها مريدا لموجباتها ،كما أنه لا بد أن يكون قاصداً للتكلم باللفظ مريداً له ، فلا بد من إرادتين :

- إرادة التكلم باللفظ اختياراً (12)
- وإرادة موجبه ومقتضاه . (13)

بل إرادة المعنى آكد من إرادة اللفظ ، فإنه المقصود ، واللفظ وسيلة ، وهو قول أئمة الفتوى من علماء الإسلام ) ، إلى قوله : ( وقال أصحاب أحمد لو قال الأعجمي لامرأته أنت طالق وهو لا يفهم معنى هذا اللفظ ، لم تطلق ، لأنه ليس مختاراً للطلاق ، فلم يقع طلاق كالمكره ، قالوا : فلو نوى موجبه عند أهل العربية(14) لم يقع أيضاً لأنه لا يصح منه اختيار ما لا يعلمه ، وكذلك لو نطق بكلمة الكفر من لا يعلم معناها لا يكفر. وفي مصنف وكيع أن عمر بن الخطاب قضى في امرأة قالت لزوجها: سمني ، فسماها الطيبة ، فقالت : لا ، فقال لها ماذا تريدين أن أسميك ؟ قالت: سمني (خلية طالق) . فقال لها : أنت خلية طالق ، فأتت عمر بن الخطاب فقالت : إن زوجي طلقني ، فجاء زوجها فقص عليه القصة ، فأوجع عمر رأسها ، وقال لزوجها : خذ بيدها وأوجع رأسها .

وهذا هو الفقه الذي يدخل على القلوب بغير استئذان ، وإن تلفظ بصريح الطلاق وقد تقدم أن الذي قال لما وجد راحلته ( اللهم أنت عبدي وأنا ربك ) أخطأ من شدة الفرح ، لم يكفر بذلك وإن أتى بصريح الكفر ، لكونه لم يرده ) أهـ (3/76) وانظر أيضاً (4/229)

• تنبيه :
ومن هذا تعرف أننا لا نعني بانتفاء القصد كمانع ما يشترطه كثير من مرجئة العصر كشرط تعجيزي للتكفير ، يعتذرون به لكل طاغوت وزنديق ومرتد ، وهي دعوى ان الإنسان لا يكفر حتى وإن اتى فعلاً أو قولاً مكفراً –عامداً – حتى ينوي ويقصد بذلك الخروج من الدين والكفر به .
وإنما نعني بمانع انتفاء القصد ؛ ( الخطأ ) الذي يقابل العمد في شروط التكفير ، أو عدم إرادة الفعل أو القول المكفر نفسه ، وإرادة شيء آخر غيره … كحكايته والتحذير منه، أو يقوله وهو لا يعرف مدلوله ونحو ذلك مما تقدم ..
أما إرادة الخروج من الدين ، والكفر بذلك الفعل أو القول ، فقّل من يريده أو يصرح به أو يقصده ، حتى اليهود والنصارى ، لو سئلوا ؛ هل يريدون الكفر ويقصدونه بقولهم إن المسيح أو العزيز ابن الله ، أو نحو ذلك من كفرياتهم ؟ لأنكروا ذلك ولنفوا إرادتهم للكفر ..
وكذلك حال كثير من الكفار الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا .. فأكثر الطواغيت وأنصارهم اليوم ، إذا ما عددنا عليهم كفرياتهم ، أنكروا ذلك ، وأبوا أن يقروا بالكفر أو بإرادته أو بقصد الخروج من الدين ، بل يبادرون بتأكيد انهم مسلمون ، ويحتجون بأنهم يصلون ويشهدون أن لا إله إلا الله …
وكذلك شأن كفار قريش ، لم يقروا قط بكفرهم ، أو بإرادتهم للكفر بعبادتهم للأوثان بل قالوا ((ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى )) .. وعلى العكس ، فقد كانوا يرمون رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن على دينه بالكفر ، فسموه (الصابئ ) وهكذا حال أكثر الكفار إلا ما شاء الله ..

-كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول ص177-178 : (وبالجملة فمن قال وفعل ما هو كفر ، كفر بذلك ، وإن لم يقصد أن يكون كافراً ، إذا لا يقصد الكفر أحداً إلا ما شاء الله ) أهـ .

وقال أيضاً فيه ص(370) : ( والغرض هنا أنه كما أن الردة تتجرد عن السب ، فكذلك تتجرد عن قصد تبديل الدين وإرادة التكذيب بالرسالة ، كما تجرد كفر إبليس عن قصد التكذيب بالربوبية ؛ وإن كان عدم هذا القصد لا ينفعه ، كما لا ينفع من قال الكفر أن لا يقصد الكفر ) أهـ .
وقد اخبر الله تعالى عن اكثر الكفار أنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، بل يرون أنهم أهدى من الذين آمنوا سبيلا .
فمن ذلك قوله تعالى : (( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا ، أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا)) (103-105) الكهف .

- يقول ابن جرير الطبري في تفسيره : ( وهذا من أدل الدلائل على خطأ من زعم أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يقصد إلى الكفر بعد العلم بوحدانيته ..)
إلى قوله : ( ولو كان القول كما قال الذين زعموا أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يعلم لوجب أن يكون هؤلاء القوم في عملهم الذي أخبر الله عنهم أنهم كانوا يحسبون فيه أنهم يحسنون صنعة مثابين مأجورين عليه ، ولكن القول بخلاف ما قالوا ؛ فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم بالله كفرة وأن أعمالهم حابطة ) أهـ ص 44-45 .(ط . دار الفكر )

- وقال رحمه الله تعالى في تهذيب الآثار بعد أن سرد بعض الأحاديث التي تذكر الخوارج: ( فيه الرد على قول من قال لا يخرج أحد من الإسلام من أهل القبلة بعد استحقاقه حكمه إلا بقصد الخروج منه عالماً ) أهـ نقلاً عن فتح الباري ( كتاب استتابة المرتدين ..) (باب من ترك قتال الخوارج..)

- وقال ابن حجر في الباب نفسه : ( وفيه أن من المسلمين من يخرج من الدين من غير أن يقصد الخروج منه ، ومن غير أن يختار ديناً على الإسلام ) أهـ
وسيأتي مزيد كلام على هذا في فصل أخطاء التكفير .

- والخلاصة هنا ؛ أن العبرة في اشتراط العمد والقصد وانتفاءه كمانع من موانع التكفير أن يقصد إتيان الفعل المكفر ، لا أن يقصد الكفر به .

(2) التأويل :
والمراد به هنا وضع الدليل الشرعي في غير موضعه باجتهاد ، أو شبهة تنشأ عن عدم فهم دلالة النص ، أو فهمه فهما خاطئا ظنه حقا ، أو ظن غير الدليل دليلا ، كالاستدلال بحديث ضعيف ظنه صحيحا ، فيقدم المكلف على فعل الكفر وهو لا يراه كفرا ، فينتفي بذلك ؛ (شرط العمد ) ، ويكون الخطأ في التأويل مانعاً من التكفير ، فإذا أقيمت الحجة عليه وبين خطؤه فأصر على فعله كفر حينئذ .

ودليل هذا إجماع الصحابة على اعتبار هذا النوع من التأويل من باب الخطأ الذي غفره الله تعالى بالأدلة المتقدمة – وذلك في حادثة قدامة بن مظعون حيث شرب الخمر مع جماعه مستدلاً بقوله تعالى :(( ليس على الذين أمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين )) 93 المائدة ، كما روى ذلك عبد الرزاق في مصنفه … وكان قدامة قد استعمله عمر على البحرين ، فلما شهد عليه أبو هريرة وغيره وشهدت معهم امرأة قدامة أيضاً أنه شرب الخمر أحضره عمر وعزله ، ولما أراد أن يحده استدل بالآية المذكورة فقال عمر : أخطأت التأويل ( أخطأت استك الحفرة )… قال ابن تيمية في الصارم : ( حتى أجمع رأي عمر وأهل الشورى أن يستتاب هو وأصحابه ، فإن أقروا بالتحريم جلدوا وإن لم يقروا به كفروا ) أهـ ص530 … ثم إن عمر بين له غلطه وقال له : ( أما إنك لو اتقيت لاجتنبت ما حرم عليك ، ولم تشرب الخمر ..)
فرجع ، ولم يكفره بذلك ، بل اكتفى بإقامة حد الخمر عليه ، ولم يخالفه أحد من الصحابة بذلك .

وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وأما من لم تقم عليه الحجة مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الإسلام ونحو ذلك ، أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر، كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر وأمثال ذلك ، فإنهم يستتابون وتقام الحجة عليهم فإن أصروا كفروا حينئذ ، ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيما غلطوا فيه من التأويل ) أ هـ . مجموع الفتاوي (7/609-610)

ويقول أيضاً : ( فالمتأول والجاهل المعذور ليس حكمه حكم المعاند والفاجر ، بل قد جعل الله لكل شيء قدراً ) أهـ مجموع الفتاوي (3/180)
فمذهب السلف عدم تكفير المتأولين من أهل القبلة ..
أهل القبلة يدخل فيهم اضافة إلى المسلم السني ؛ الفاسق الملي أهل الأهواء أهل التأويل ..
اما الخوارج والمعتزلة ومن سار على دربهم كالزيدية وبعض المتكلمين كالشهرستاني في الملل والنحل فلا يدخلون المتأولين في أهل القبلة .

وقد تقدم ما نقله القاضي عياض في (فصل تحقيق القول في إكفار المتأولين ) من كتابه الشفا (2/277) عن العلماء المحققين قولهم : ( إنه يجب الاحتراز من التكفير في أهل التأويل ، فإن استباحة دماء المصلين الموحدين خطر ... ) وستأتي الإشارة إلى ما ذكره أيضا في الشفا عمن لا يكفر من أضاف إلى الله ما لا يليق به لا على جهة السب والردة ، ولكن على طريق التأويل أونفي الصفة بدعوى التنزيه ونحوه ..
ويقول ابن الوزير : ( قوله تعالى في هذه الاية الكريمة (( ولكن من شرح بالكفر صدراً )) يؤيد أن المتأولين غير الكفار ، لأن صدورهم لم تنشرح بالكفر قطعا أو ظناً ، أو تجويزاً أو احتمالاً )اهـ . إيثار الحق على الخلق ص (437)

وأما ما يدفع به بعض الزنادقة والملاحدة ، كفرهم الصريح من سفسطة وتمويه وتلاعب بالدين ، فهو وإن سماه بعض الجهلة تأويلاً .. إلا انه مردود وغير مستساغ ولا مقبول ، وذلك لصراحة كفرهم ووضوحه .. والعبرة للمعاني والحقائق ، لا للأسماء والألفاظ التي يتلاعب بها كثير من أهل الأهواء .. فكم من باطل زخرفه أصحابه ليعارض به الشرع .
ولذلك نقل القاضي عياض في الشفا قول العلماء : ( إدعاء التأويل في لفظ صراح لا يقبل ) أهـ (2/217)
ونص عليه شيخ الإسلام في الصارم المسلول ص (527)
فمن عرفت واشتهرت زندقته وتلاعبه بأدلة الشرع ، أو كان يتعاطى من أسباب الكفر ما هو صريح وواضح ولا يحتمل التأويل ، لم تقبل منه دعوى التأويل فليس ثم إجتهاد وتأويل يسوغ تعاطي الكفر الصريح .. فإنه لا تخلو حجة كافر من الكافرين من تأويلات فاسدة يرقع بها كفره ..
ولذا قال ابن حزم: ( ومن بلغه الأمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من طريق ثابتة ، وهو مسلم فتأول في خلافه إياه ، أو ربما بلغه بنص آخر ، فلم تقم عليه الحجة في خطئه في ترك ما ترك ، وفي الأخذ بما أخذ فهو مأجور معذور ، لقصده إلى الحق ، وجهله به ، وإن قامت عليه الحجة في ذلك فعاند ، فلا تأويل بعد قيام الحجة ) أهـ الدرة (414)
ويقول : ( وأما من كان من غير أهل الإسلام من نصراني أو يهودي أو مجوسي ، أو سائر الملل ، أو الباطنية القائلين بإلاهية إنسان من الناس ، أو بنبوة أحد من الناس ، بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلا يعذرون بتأويل أصلاً ، بل هم كفار مشركون على كل حال ) أهـ الدرة فيما يجب اعتقاده ص (441) .

فيجب التنبه إلى أن قدامة الذي عذر بالتأويل ، كان الأصل فيه الإسلام والصلاح ، فقد كان صحابياً بدرياً ، وهو خال عبد الله بن عمر وحفصة أم المؤمنين ، وكانت تحته صفية بنت الخطاب أخت عمر ، روى ابن عبد البر في الاستيعاب (3/341) بإسناده عن أيوب بن أبي تميمة قال : ( لم يحد في الخمر من أهل بدر إلا قدامة بن مظعون ) أهـ
ولذلك قال شيخ الإسلام بعد ما ذكر حديث الرجل الذي أوصى بنيه عند موته بحرق جثمانه قال : ( والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى من المغفرة من مثل هذا ) أهـ (3/148)
وقد ذكر القاضي عياض في الشفا (2/272وما بعدها ) خلاف السلف في تكفير من أضاف إلى الله تعالى ما لا يليق به لا على طريق السب والردة ،بل على طريق التأويل والاجتهاد والخطأ المفضي إلى الهوى والبدعة .

والصواب ما فصله العلماء في ذلك بين التأويل الذي له مسوغ في لغة العرب ، كأن يؤول صفة اليد لله تعالى بالنعمة أو القوة ، فهذا لا يوجب الكفر ، رغم مخالفته للحق الذي كان عليه السلف ، لأن في لغة العرب إطلاق القوة والنعمة على اليد ؛ لذلك عذر المتأول فيه رغم خطئه وانحرافه عن ظاهر نصوص الشرع ، وبين التأويل الذي لا مسوغ له ، كمن أوّل قوله تعالى (( بل يداه مبسوطتان)) مثلاً ، بالحسن والحسين أو بالسماوات والأرض ، فهذا يوجب الكفر لأنه لا يصح في لغة العرب إطلاق اليد على مثل ذلك .
وليس ثم نص شرعي يوجب نقل الحقيقة اللغوية إلى حقيقة شرعية خاصة .. فهو على ذلك من التلاعب في دين الله والإلحاد في أسمائه سبحانه ، وليس من التأويل الذي يعذر صاحبه في شيء .
فتأمل التفريق فإنه مهم ..

وعلى هذا فما كان من التأويل ناشئاً عن محض الرأي والهوى ، دون استناد إلى دليل شرعي ، ولا هو بمستساغ في لغة العرب ، فإنه ليس من الاجتهاد في شيء ، بل هو من التأويل الباطل المردود الذي لا يعذر صاحبه ، إذ هو تلاعب بالنصوص ، وتحريف للدين ، عبر عنه بمسمى التأويل، ولذا قال ابن الوزير : ( لا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم ؛ بالضرورة للجميع ، وتستر باسم التأويل فيما لا يمكن تأويله ، كالملاحدة في تأويل جميع الأسماء الحسنى ، بل جميع القرآن والشرائع والمعاد الأخروي من البعث والقيامة والجنة والنار ) أهـ إيثار الحق على الخلق ص(415) .
ومن ذلك قطعاً أصل التوحيد ، الذي يتضمن تجريد العبادة لله وحده بكافة أنواع العبادة ، فنقض هذا الأصل بدعوى التأويل الذي يسوغ الإشراك بالله تعالى واتخاذ الأنداد معه من أوضح الباطل ؛ الذي بعثت الرسل كافة بإبطاله وإنكاره ..

وقد نص العلماء على أن صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل شرعي ، ليس من التأويل المستساغ بحال ، إذ بذلك تسلط المتأخرون على النصوص ، وقالوا نحن نتأول ، فسموا التحريف تأويلاً ، تزييناً وزخرفة ليقبل منهم (15)… وقد ذم الله تعالى من يزخرف الباطل ويزينه ليلبس أمره على الناس فقال تعالى :
((وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا)) الأنعام (112).

• وعلى كل الأحوال فإن الخطأ في التأويل يسقط كمانع من موانع التكفير ، بإقامة الحجة على المتأول .

(3) مانع الجهل :
وإنما يكون مانعا وعذرا إن كان من الجهل الذي لا يتمكن المكلف من دفعه أو إزالته …
أما ما كان متمكناً من إزالته ، فقصر وأعرض ولم يفعل فهو جهل من كسبه غير معذور به ، ويعتبر كالعالم به حُكماً ، وإن لم يكن عالماً في الحقيقة .. فإن هذا هو حال المعرض عن دين الله ، وهو من بلغه كتاب الله الذي علقت به النذارة ، فأعرض عن تعلمه أو النظر فيه ، لمعرفة أهم المهمات التي خلقه الله من أجلها … قال تعالى (( فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة )) وقال تعالى : ((وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ))
فمن بلغه القرآن ، ووصلته التذكرة فأعرض عن التوحيد ، وارتكس في حمأة الشرك والتنديد ، فهذا لا يعذر بجهله لأنه هو الذي كسبه بإعراضه .. والعلماء متفقون على عدم عذر المعرض إن تمكن من العلم ، وإنما الخلاف بينهم في عذر من لم يتمكن من ذلك ، وهو خلاف عديم الجدوى فيما نحن فيه ، لأن دين الله قد بلغ الآفاق ، وكتاب الله بل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المبينه له ، محفوظان ، ومظنة تعلم ذلك كله موجودة ميسرة لكل أحد ، فلم يبق والحال كذلك إلا جهل الإعراض ، خصوصاً فيما اشتهر من دين الإسلام وعرف وذاع وشاع ليس بين المسلمين فقط ، بل وحتى بين اليهود والنصارى وغيرهم ؛ كالتوحيد الذي هو أصل دين الإسلام وقطب رحاه .

ولذلك نص العلماء في قواعدهم الشرعية كما قال القرافي (684هـ) : ( ان كل جهل يمكن المكلف دفعه ، لا يكون حجة للجاهل ) أنظر الفروق (4/264) وأيضاً (2/149-151) .
ويقول ابن اللحام:( جاهل الحكم إنما يعذر إذا لم يقصر أو يفرط في تعلم الحكم،أما إذا قصر أو فرط فلا يعذر جزماً ) أهـ القواعد والفوائد الأصولية ص (58) .

هذا واعلم أن مانع الجهل فيه تفصيل يطول ، وقد صنف فيه أهل عصرنا المصنفات ، ما بين إفراط وتفريط ، وقد نفاه أقوام بالكلية ، فأخطأوا ، وكفّروا من لم يكفره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ..
ووسعه آخرون فتعدوا حدود الله فيه ، حتى عذروا المرتدين المعاندين ، والكفرة المعرضين عن دين الله ، أولئك الذين جهلوا دين الله بكسبهم وإعراضهم عنه ، واستحبابهم الحياة الدنيا وزخرفها .. فتراهم أعلم الناس في كل ما دق وجل من أمورها وقشورها ، بينما لا يرفعون رأساً بتعلم أهم وأول ما افترض الله على ابن آدم تعلمه ، هذا مع توفر مظنة العلم ، والكتاب والسنة بين أيديهم –كما قلنا- فهم ممن قال الله تعالى عنهم (( يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون )) .

• وإنما الذي يعذر ويعتبر في حقه هذا المانع كمانع من موانع التكفير ، من كان عنده أصل التوحيد لكن خفيت عليه بعض المسائل التي قد تشكل أو تخفى أو تحتاج إلى تعريف وبيان ، ومن جنس ذلك باب أسماء الله وصفاته ، فقد دلت أدلة الشرع على عذر المخطئ فيها من أهل التوحيد ، وعدم جواز تكفيره إلا بعد إقامة الحجة بالتعريف والبيان ..

• كما في حديث الرجل الذي أسرف على نفسه فلم يعمل خيراً قط إلا التوحيد(16) ، فأوصى بنيه ، عند موته أن يحرقوه ويذروا رماده ، وقال لإنْ قدر الله علي ليعذبني عذباً لا يعذبه أحد من العالمين .
وفيه جهله بسعة قدرة الله وأنه سبحانه قادر على بعثه حتى وإن احترق وتفرقت أجزاؤه ، ومع هذا فقد غفر الله له لتوحيده وخشيته لله ، فدل ذلك على أن الخطأ والجهل في مثل هذا الباب يعذر فيه الجاهل إن كان من أهل التوحيد ..
ولذلك نص شيخ الإسلام ابن تيمية في مناظرته على (العقيدة الواسطية ) التي جلها في باب الأسماء والصفات ، وذلك لما اعترض بعض المناظرين على قوله فيها (هذا اعتقاد الفرقة الناجية ) قال رحمه الله : ( وليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكاً ، فإن المنازع قد يكون مجتهداً مخطئاً يغفر الله خطأه وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة ) أهـ الفتاوى (3/116)

• ومن هذا الباب أيضاً اعتبار مانع الجهل في حديث العهد بالإسلام أو من نشأ في بادية بعيدة يتعذر وصول تفاصيل الشرع إليها ونحو ذلك .. فإنه يعذر فيما خفي عليه ما دام من أهل التوحيد مجتنباً للشرك الأكبر والتنديد .

• وقد قدمنا لك في أول هذا الفصل تفريق شيخ الإسلام في الفتاوى (35/101) بين تكفير المطلق وتكفير المعين ، وأن تكفير المعين لا بد فيه من تبين الشروط والموانع … ثم ضرب على ذلك أمثلة فقال : ( مثل من قال : إن الخمر والربا حلال ، لقرب عهده بالإسلام ، أو لنشوئه في بادية بعيدة ، أو سمع كلاماً أنكره ولم يعتقد انه من القرآن ولا انه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها ، وكما كان الصحابة يشكون في أشياء مثل رؤية الله وغير ذلك حتى يسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومثل الذي قال : إذا أنا مت فاسحقوني ، وذروني في اليم ، لعلي أضل عن الله ، ونحو ذلك فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة ، كما قال الله تعالى ((لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل )) وقد عفى الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان ) أهـ .

يقول ابن حزم : ( ولا خلاف في ان امرءاً لو أسلم – ولم يعلم شرائع الإسلام- فاعتقد أن الخمر حلال ، وأن ليس على الإنسان صلاة ، وهو لم يبلغه حكم الله تعالى لم يكن كافراً بلا خلاف يعتد به ، حتى إذا قامت عليه الحجة فتمادى حينئذ بإجماع الأمة فهو كافر ) أهـ المحلى (13/151)
وقال أيضاً في الفصل (4/105) : ( ومن لم يبلغه الباب من واجبات الدين فإنه معذور لا ملامة عليه ، وقد كان جعفر بن أبي طالب وأصحابه رضي الله عنهم ، بأرض الحبشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة والقرآن ينزل والشرائع تشرع ، فلا يبلغ إلى جعفر وأصحابه أصلاً ، لانقطاع الطريق جملة من المدينة إلى أرض الحبشة ، وبقوا كذلك ست سنين فما ضرهم ذلك في دينهم شيئاً ، إذا عملوا بالحرام وتركوا المفروض ) أهـ

وقال ابن قدامة في المغنى (كتاب المرتد ) (مسألة : ومن ترك الصلاة ) : ( لا خلاف بين أهل العلم في كفر من تركها جاحداً لوجوبها إذا كان ممن لا يجهل مثله ذلك ، فإن كان ممن لا يعرف الوجوب كحديث العهد بالإسلام والناشئ بغير دار الإسلام أو بادية بعيدة عن الأمصار وأهل العلم ، لم يحكم بكفره ، وعرّف ذلك ، وتثبت له أدلة وجوبها فإن جحدها بعد ذلك كفر ، وأما إذا كان الجاحد لها ناشئاً في الأمصار بين أهل العلم فإنه يكفر بمجرد جحدها ، وكذلك الحكم في مباني الإسلام كلها …) أهـ .

وقد استدل العلماء لذلك أيضاً بما روي في سنن الترمذي عن أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر ، وللمشركين سدرة يعكفون عندها ، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط ، فقلنا يا رسول الله أجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الله أكبر إنها السنن ، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو اسرائيل لموسى ، اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ، قال إنكم قوم تجهلون ، لتركبن سنن من قبلكم )
فاستدل من صحح هذا من العلماء على ( أن من أراد أن يفعل الشرك جهلاً فنهي فانتهى لا يكفر )(17) وليس فيه عذر المشركين بالشرك الأكبر كما يستدل به مرجئة العصر للطواغيت وأنصارهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم غضب لطلب الصحابة وأنكره عليهم لكنه عذرهم ولم يكفرهم …
بينما لم يعذر المشركين في اقترافهم للشرك ..
فالصحابة طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم جهلاً منهم ، لأنهم كانوا حدثاء عهد بكفر ، ظناً منهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم له أن يجعل لهم شجرة يعكفون عندها يعبدون الله .. ولم يقترفوا شركاً ، ولا ذريعة من ذرائعه ، فيجب الوقوف بالدليل عند حدوده ودلالاته التي يحتملها ، بأن يعذر به الجاهل ما لم يقترف الشرك الأكبر أو الكفر الواضح المستبين .

وذلك لأن الأدلة الشرعية قد دلت على أن نقض أصل التوحيد بالكفر البواح أو بالشرك الصراح الواضح المستبين المعلوم بالضرورة إنكاره في دين المسلمين ، والذي لا يخفى على صبيان المسلمين ، وحتى اليهود والنصارى يعرفون أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بإبطاله وهدمه ، فهذا لا يعذر الجاهل في مثله ، خصوصاً مع إتمام الله نعمته على الأمة بحفظ كتابه الذي علق سبحانه النذارة فيه وببلوغه ،فمن بلغته النذارة ونقض أصل التوحيد بالكفر أوالشرك الصراح الواضح المستبين فهو كافر بل ومعذب في الآخرة ولا يصلح الاعتذار له بالجهل لأن جهله والحال كذلك جهل إعراض لا جهل من لم يتمكن من العلم ، ويدل على ذلك دلالة واضحة قول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل سأله عن أبيه : ( إن أبي وأباك في النار)(18) مع أن هؤلاء الآباء من القوم الذين قال الله تعالى فيهم :(( لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون )) وقال : ((لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون )) ، فهؤلاء لم يعذروا بالشرك الأكبر مع انهم ما أتاهم نذير خاص بهم .. وما ذلك إلا لأن الشرك الأكبر الصراح، قد أقام الله على الإنذار والتحذير منه حججه البالغة الواضحة ، وأرسل كافة رسله منذرين ومحذرين منه ، وأنزل جميع كتبه من أجل هدمه والتحذير منه .. ثم جعل خاتمها كتاب لا يغسله الماء تكفل بحفظه وعلق النذارة به ، فمن باب أولى أن لا يعذر بمثل ذلك من جاؤوا بعد ذلك .

قال القاضي عياض في الشفا (2/231) في معرض كلامه على ساب النبي صلى الله عليه وسلم وهو من الكفر الصريح الذي لا يعذر الجاهل به .
قال : ( أو يأتي بسفه من القول أو قبيح من الكلام ونوع من السب في جهته وإن ظهر بدليل حاله أنه لم يتعمد ذمه ولم يقصد سبه إما لجهالة حملته على ما قاله أو ضجر أو سكر اضطره إليه ، أو قلة مراقبة وضبط للسانه وعجرفة وتهور في كلامه ؛ فحكم هذا الوجه حكم الوجه الأول القتل دون تلعثم إذ لا يعذر أحد بالكفر بالجهالة ) أهـ .
أي الكفر الصريح الذي هو من قبيل سب النبي صلى الله عليه وسلم ، وإلا فقد تقدم قول القاضي نفسه في وجوب الإحتراز في إكفار المتأولين من المصلين الموحدين .

(4) مانع الإكراه :
ويقابله في الشروط أن يكون المكلف مختاراً لفعله.
ويدل عليه قوله تعالى : ((من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان )) وقد ذكر العلماء شروطاً لصحة تحقق مانع الإكراه منها (19) :

- أن يكون المكرِه (بكسر الراء ) قادراً على إيقاع ما يهدد به ، والمكرَه عاجزاً عن الدفع ولو بالفرار .

- أن يغلب على ظن المكرَه ، انه إذا امتنع أوقع به ما يهدد به.

- أن لا يظهر على المكرَه ما يدل على تماديه ، بأن يعمل أو يتكلم زيادة على ما يمكن أن يزول به عنه البلاء .

- واشترطوا فيما يهدد به في الإكراه على كلمة الكفر ، أن يكون مما لا طاقة للمرء به ، ومثلوا بالإيلامات الشديدة وتقطيع الأعضاء ، والتحريق بالنار والقتل وأمثال ذلك .. وذلك لأن الذي نزلت بسببه آيات إعذار المكره وهو عمار ، لم يقل ما قال إلا بعد أن قتل والديه وكسرت ضلوعه ، وعذب في الله عذاباً شديداً .

- واشترطوا أن يظهر إسلامه متى زال عنه الإكراه ، فإن أظهره فهو باق على إسلامه وإن أظهر الكفر ، حكم أنه كفر من حين نطق به(20) .

• ومع هذا فيجدر التنبيه إلى أن العلماء قد نصوا على أن من قامت عليه بينة أنه نطق بكلمة الكفر وكان محبوساً عند الكفار مقيداً عندهم في حالة خوف ، لم يحكم بردته(21) لأنه في مظنة الإكراه ما دام في سلطانهم مقيداً أو محبوساً ويقدرون على إنفاذ ما يريدون به .(22)
وإن شهد عليه انه كان آمناً حال نطقه بها حكم بردته (23)

• ومن المهم هنا التنبيه إلى أن الإكراه الذي يتحدث عنه العلماء هو النطق بكلمة الكفر أو فعله ، ثم العودة إلى إظهار الإسلام كما تقدم .. أما الإكراه على الإقامة على الكفر والبقاء عليه .. فهذا لم يعتبروه ولم يجيزوه وفرقوا بينه وبين ما يعذرون به في أبواب الإكراه ..

• ( فروى الأثرم عن أبي عبد الله – وهو الإمام احمد - أنه سئل عن الرجل يؤسر ، فيعرض على الكفر ويُكره عليه،أله أن يرتد ؟ فكرهه كراهة شديدة ، وقال : ما يشبه هذا عندي الذين أنزلت فيهم الآية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، أولئك كانوا يرادون على الكلمة ثم يتركون يعملون ما شاءوا ، وهؤلاء يريدونهم على الإقامة على الكفر وترك دينهم(24) . وذلك لأن الذي يكره على كلمة يقولها ثم يخلى ، لا ضرر فيها ، وهذا المقيم بينهم يلتزم بإجابتهم إلى الكفر المقام عليه واستحلال المحرمات وترك الفرائض والواجبات وفعل المحظورات والمنكرات ، وإن كان امرأة تزوجوها واستولدوها أولاداً كفاراً وكذلك الرجل ، وظاهر حالهم المصير إلى الكفر الحقيقي والانسلاخ من الدين الحنيفيي .) أهـ من المغنى (كتاب المرتد )(فصل : ومن اكره على كلمة الكفر فالأفضل له أن يصبر ولا يقولها …)

• القسم الثاني من الموانع :-
موانع في الفعل (أي سبب التكفير ) :

1- ككون القول أو الفعل غير صريح في الدلالة على الكفر .
2- أو أن الدليل الشرعي المستدل به غير قطعي الدلالة على كون ذلك القول أو الفعل مكفراً .
وسيأتي -إن شاء الله- الكلام على هذا في أخطاء التكفير … في الخطأ السادس والسابع .

• القسم الثالث : موانع في الثبوت :
( وهي الجانب القضائي في الموانع) وتتأكد ويشدد فيها عند ترتيب لوازم التكفير عليه كاستباحة الدماء والأموال ونحوها .

- وذلك بأن لا يكون ثبت الكفر على قائله أو فاعله الثبوت الشرعي الذي هو الاعتراف ( والإقرار ) أو شهادة شاهدين عدلين، سواء بنقصان نصاب الشهادة فيها والذي نص الجمهور على انه شاهدان عدلان –كما سيأتي – بأن يشهد رجل واحد فلا يؤخذ بها، كما لم يؤاخذ النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بشهادة زيد بن الأرقم وحده لما شهد عليه بأنه قال ( لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل(25) ).

- أو بأن يكون أحد الشهود غير مقبول الشهادة في هذا الباب لكونه كافراً ، أو مجنوناً أو صبياً أو غير ذلك ، أو أنه خصم للمشهود عليه أو مقدوح في عدالته ، مع إنكار المتهم لما نسب إليه ، ودفعه له ورده بالأيمان ، وسيأتي الكلام على هذا في أخطاء التكفير .
وقد اشترط العلماء في قبول شهادة الشاهد أربعة شروط : ( الإسلام والبلوغ والعقل والعدالة )(26) واستدلوا بأدلة؛ منها قوله تعالى: ((وأشهدوا ذوي عدل منكم )) (282) البقرة. وبما رواه أحمد وأبو داود والبيهقي وغيرهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ، ولا ذي غِمرٍ على أخيه ) قال الحافظ في (التلخيص) (4/198) : وسنده قوي .وذو غمر : أي حقد وعداوة .
ولذلك فمذهب الشافعي ومالك وأحمد والجمهور عدم قبول شهادة العدو على عدوه، وخالفهم أبو حنيفة ، ذكر ذلك الشوكاني في نيل الأوطار ثم قال : ( والحق عدم قبول شهادة العدو على عدوه لقيام الدليل على ذلك ، والأدلة لا تعارض بمحض الأراء ، وليس للقائل بالقبول دليل مقبول ) أهـ كتاب الأقضية والأحكام (باب من لا يجوز الحكم بشهادتهم ) .

• وقد ذكر العلماء في البينات إضافة إلى الإقرار والشاهدين ؛ الإستفاضة ، وهو اشتهار الأمر وظهوره ومعرفته بين الناس بحيث يكون ذلك في بعض الأحيان أقوى من شهادة الشاهدين .
لكن هذا فيه تفصيل يجب مراعاته ، حيث اعتبره العلماء في أبواب ولم يعتبروه في أخرى . أنظر المغنى كناب الشهادات (مسألة : وما تظاهرت به الأخبار.. ) وانظر فتاوى شيخ الإسلام (35/241-242) وسيأتي ذلك ، وانظر أيضاً فيها : (15/179).
تنبيهات حول موانع التكفير


(1) تبين الموانع إنما يجب في المقدور عليه ، ولا يجب في الممتنع أو المحارب :
واعلم بعد هذا أن تبين هذه الموانع إنما يجب في حق المقدور عليه دون الممتنع ..

* والامتناع يرد على معنيين :
- الأول امتناع عن العمل بالشريعة جزئياً أو كلياً .
- الثاني امتناع عن القدرة ، أي قدرة المسلمين أن يوقفوه ويحاسبوه ويحاكموه لشرع الله .
ولا تلازم بين النوعين فقد يكون الممتنع عن العمل بالشريعة ؛ مقدوراً عليه في دار الإسلام كمن امتنع عن الزكاة وهو فرد مقدور عليه في دار الإسلام .
وقد يجتمعان ، فيمتنع الممتنع عن الشريعة بدار كفر أو بشوكة وطائفة وقانون وسلطان دولة ، بحيث لا يتمكن المسلمون من إنزاله على حكم الله تعالى وإقامة حد الله عليه ..

- والممتنع عن القدرة ، قد يكون محارباً باليد ، وقد يكون محارباً باللسان فقط ، وانظر الصارم المسلول ص 388

- وقد نص العلماء على أن الممتنع عن القدرة لا تجب استتابته ، فمن باب أولى المحارب الذي داهم ديار المسلمين واحتلها وتسلط على مقاليد الحكم فيها .

• ويراد بالاستتابة معنيان أيضاً :
الأول : طلب التوبة ممن حكم عليه بالردة .
الثاني : تبين الشروط والموانع قبل الحكم عليه بالردة ، وهذا هو الذي نريد التنبيه عليه هنا .

فالممتنع عن شرائع الإسلام والممتنع عن النزول على حكم الله ، والمحارب للمسلمين الخارج عن قدرتهم وحكمهم ، سواء امتنع بدولة الكفر أو بقوانينها أو بجيوشها ومحاكمها ، هذا قد جمع بين نوعي الامتناع، فلا يجب تبين الشروط والموانع في حقه قبل التكفير والقتال .. إذ هو لم يسلم نفسه للمسلمين ، ولا سلم بشرعهم وحكمهم حتى ينظر له في ذلك .. فلا يقال قي حق من كانوا كذلك ، أنهم لم تقم عليهم الحجة ، كما يهذر به بعض من يهرف بما لا يعرف ، خصوصاً إذا كانوا محاربين مقاتلين لنا في الدين ، وقد تسلطوا على ديار الإسلام وامتنعوا بشوكتهم عن شرائعه ، وأقاموا وفرضوا شرائع الكفر والطاغوت ..
يقول محمد بن الحسن الشيباني : ( ولو أن قوماً من أهل الحرب الذين لم يبلغهم الإسلام ولا الدعوة أتوا المسلمين في دارهم ، يقاتلهم {المسلمون} بغير دعوة ليدفعوا عن أنفسهم ، فقتلوا منهم وسبوا وأخذوا أموالهم فهذا جائز … ) أهـ . من السير الكبير ، وما بين المعكوفين زيادة أثبتها السرخسي في شرحه ، ثم قال : ( لأن المسلم لو شهر سيفه على مسلم حل للمشهور عليه سيفه قتله للدفع عن نفسه ، فها هنا اولى ، والمعنى في ذلك أنهم لو اشتغلوا بالدعوة إلى الإسلام فربما يأتي السبي والقتل على حرم المسلمين وأموالهم وأنفسهم فلا يجب الدعاء ) أهـ.

ويقول ابن القيم : ( ومنها أن المسلمين يدعون الكفار –قبل قتالهم- إلى الإسلام هذا واجب إن كانت الدعوة لم تبلغهم ، ومستحب إن بلغتهم الدعوة ، هذا إذا كان المسلمون هم القاصدين للكفار، فأما إذا قصدهم الكفار في ديارهم فلهم أن يقاتلوهم بغير دعوة لأنهم يدفعونهم عن أنفسهم وحريمهم ) أحكام أهل الذمة ( 1/5) .
فهذا من تفريق العلماء بين جهاد الطلب وجهاد الدفع ..
وقد فرق شيخ الإسلام أيضاً في مواضع عديدة من كتبه بين (المرتد ردة مغلظة -وهو الذي يضيف إلى ردته الامتناع أو المحاربة والقتل أو القتال- فيقتل بلا استتابة وبين المرتد ردة مجردة فيقتل إلا أن يتوب(27) .
وقال في الصارم المسلول ص 322 : ( المرتد لو امتنع بأن يلحق بدار الحرب ، أو بأن يكون المرتدون ذوي شوكة يمتنعون بها عن حكم الإسلام ، فإنه يقتل قبل الاستتابة بلا تردد ) أهـ .
وقال أيضا فيه ص325 –326: ( على أن الممتنع لا يستتاب وإنما يستتاب المقدور عليه ) أهـ .

(2) أعذار يتعذر بها المرتدون وغيرهم ، وليست من موانع التكفير (28) :
بعد أن عرفت شروط وموانع التكفير ، بقي أن تتنبه إلى قاعدة شرعية مهمة في هذا الباب وهي : أن ( المانعية والشرطية ، وكذلك السببية لابد لإثباتها واعتبارها دليل شرعي )(29) فالموانع والشروط والأسباب ، كل ذلك من الأحكام الشرعية الوضعية التي وضعتها الشريعة بتوقيف ..
وما لم يكن كذلك فلا يعتبر ، فمن ادعى سببية أو شرطية أو مانعية شيء لشيء ، فلا بد له من إثبات ذلك بدليل ، وإلا كان تقولاً على الله بلا علم ، فلا يجوز ابتداع أسباب أو شروط أو موانع للتكفير ما أنزل الله بها من سلطان ، ومن فعل ذلك فهو داخل تحت عموم قوله تعالى : ((أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله )) وقوله سبحانه: ((اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله )).. فحذار من ذلك ..

حتى إن( أكثر الأصولين منعوا القياس في الشروط والأسباب والموانع )(30) - هذا وقد خاض كثير من الخوالف في هذا العصر ، في أعذار وموانع التكفير ، فصار كثير منهم يعتذر للكفار والمرتدين ، بموانع وأعذار مبتدعة - لا تخطر حتى على بال أولئك المرتدين – بعضها ما انزل الله به من سلطان ، وبعضها قد نص الله سبحانه على إبطاله في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم .

فمن ذلك :
1- الخوف مما يهدد به بعضهم من قطع راتب أو الطرد من الوظيفة أو مصادرة بعض حظوظ دنياهم أو منعهم من بعض قشورها ، فهذا ليس بمانع من موانع التكفير ولا يعذر به من دفعه ذلك إلى الكفر برب العالمين ، وتول المشركين ومظاهرتهم على المسلمين ، ونصرة قوانين المشركين ، بل هو من تزيين الشياطين وإمدادهم لأوليائهم بالغي ، وأزِّهم إلى الكفر أزَّا ، إذ التخويف بمثل هذه الأمور ليس من الإكراه في شيء .
وقد قال تعالى : ((ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله )) .
وقال تعالى ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين * ويقول الذين أمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين * يا أيها الذين أمنوا من يرتد منكم عن دينه …الآيات) المائدة .
ففي هذه الآيات بيان ردة من دفعتهم الخشية المجردة إلى تولي الكفار ، والتصريح بأنهم قد حبطت أعمالهم ، وهذا لا يكون إلا بالكفر ..
فلم يعذر الله في اقتراف الكفر (كتولي المشركين أو قوانينهم) ، بالخشية المجردة ، ولم يجعل ذلك مانعاً من موانع التكفير ،ولم يجعله من الإكراه كما يظن كثير من الجهَّال ..

يقول الشيخ حمد بن عتيق في (سبيل النجاة والفكاك من مولاة المرتدين وأهل الإشراك ) ص62 حين ذكر أحوال الناس المظهرين لموافقة الكفار فذكر فيهم(31) من يوافقهم في الظاهر مع دعوى مخالفته لهم في الباطن وهو ليس في سلطانهم ، قال : ( وإنما حمله على ذلك إما طمع في رئاسة أو مال أو مشحّة بوطن أو عيال أو خوف مما يحدث في المال ، فإنه في هذه الحالة يكون مرتداً ولا ينفعه كراهته لهم في الباطن(32) .
وهو ممن قال الله فيهم : ((ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ، وإن الله لا يهدي القوم الكافرين )) .
وأخبر انه لم يحملهم على الكفر الجهل ، ولا بغض ( الحق ) ، أو محبة الباطل ، وإنما هو أن لهم حظاً من حظوظ الدنيا آثروه على الدين …
قال : وهذا معنى كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى .
وأما ما يعتقده كثير من الناس عذراً فإنه من تزيين الشيطان وتسويله ، فذلك أن بعضهم إذا خوفهم أولياء الشيطان خوفاً لا حقيقة له ، ظن انه يجوز له إظهار الموافقة للمشركين والانقياد لهم ) أهـ .
ثم ذكر كلاماً لشيخ الإسلام ابن تيمية في صفة الإكراه على كلمة الكفر ، وأنه لا يكون إلا بالضرب والتعذيب والقتل ، لا بمجرد الكلام ولا بالتخويف بالحيلولة دونه ودون زوجته أو ماله أو أهله …

وقد نقل السيوطي في مقدمة تاريخ الخلفاء عن القاضي عياض قال : سئل أبو محمد القيرواني الكيزاني من علماء المالكية عمن أكرهه بنو عبيد يعني ( حكام) مصر على الدخول في دعوتهم ، أو يقتل ؟
قال : يختار القتل ، ولا يعذر أحد في هذا الأمر، كان أول دخولهم قبل أن يعرف أمرهم ، وأما بعد فقد وجب الفرار فلا يعذر أحد بالخوف بعد إقامته ، لأن المقام في موضع يطلب من أهله تعطيل الشرائع لا يجوز ، وإنما أقام من أقام من الفقهاء على المباينة لهم ، لئلا تخلو للمسلمين حدودهم ، فيفتنوهم عن دينهم ) أهـ (ص13) .

ويصدق هذا ويدل عليه قوله تعالى: ((إن الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ، قالوا فيم كنتم قالوا: كنا مستضعفين في الأرض ، قالوا : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا)) [ النساء : 97 ]
فإنها نزلت في أناس كانوا قد أسلموا ولكنهم قصروا في الهجرة ، فبقوا في مكة بين المرتدين مشحّة أن يتركوا المساكن والأزواج والأموال والأوطان ، فلما كان يوم بدر ، أخرجهم المشركون في صفوفهم ، فكان المسلمون إذا رموا بسهم وقع في بعضهم ، فقالوا : قتلنا إخواننا ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات من سورة النساء ، فلم يعذرهم تعالى بدعواهم الإستضعاف وإخراج المشركين لهم في الصف كرهاً ، لأنهم قصروا أول مرة في الهجرة والخروج من بينهم حين كانوا في سعة حال القدرة عليه ، وإنما عذر- كما في الآية التي بعدها – المستضعفين حقاً الذين لا يتمكنون من الهجرة ولا يستطيعونها إما لحبسهم وقيدهم وإستضعافهم الحقيقي ، أو لأنهم لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيل الهجرة ، كالنساء والولدان ونحوهم ..

فدل هذا كله على أن المكثر لسواد الكفار والمشركين المظهر موافقتهم ونصرتهم على المسلمين لا يعذر بمجرد دعواه الخوف على الأموال والمشحة (بالتقاعد) والمساكن ونحوها من متاع الدنيا وقشورها ..
فكيف بمن أظهر نصرة الشرك نفسه وحمى وحرس قوانين الكفر وخرج مختاراً لنصرتها ونصرة أهلها على الموحدين ..؟؟ ثم تعذر بأمثال تلك الأعذار ..
لا شك أن هؤلاء أولى بذلك وأولى ..

2- ولذلك فليس من موانع التكفير أيضاً كون المرتدين وأنصارهم يتعذرون بالاستضعاف وأنهم لا حيلة لهم مع حكامهم ، فالاستضعاف لو كان موجوداً معتبراً في حقهم فإنه لا يسوغ لهم نصرة الشرك والكفر أو نصرة أهله على المسلمين ، إذ لا أحد يجبرهم على ذلك ، ولا على تولي الوظائف التي فيها جنس ذلك .. بل هم يستميتون في الحصول عليها .. ويلتمسون الشفاعات والوساطات لنيلها والوصول إليها ..
وأعجب من ذلك ما سمعته من بعض من طمس الله على بصائرهم وأعماهم عن نور الوحي ، يعتذرون للحكام المعطلين لشرع الله المشرعين لقوانين الكفر المحكمين لها والممتنعين بها ، بأنهم مستضعفون عند أمريكا ولا يستطيعون تحكيم الشرع بسبب ذلك ..!! وكنت أسألهم : فمن ذا الذي يجبرهم على البقاء في الحكم والتشبث بكرسيه بالنواجذ وأصابع الأيدي والأرجل ، كيف وقد وصل أكثرهم إلى هذه الكراسي على ظهور الدبابات ، وبكل ما يقدرون عليه من وسائل القتل والغدر والخسة ، فمنهم من قتل والده ، ومنه من نفاه ، ومنهم من أباد قرى ومدن كاملة من أجل ذلك .. ثم يقول أولئك العميان ؛ أنهم مستضعفون لأمريكا .. بل فليسموا الأشياء بأسمائها الحقيقية وليقولوا : هم أذنابها وإخوانها وأحبابها ..

وعلى كل حال ، فالمستضعف عموماً لا يحل له اقتراف قول أو فعل مكفر .. وإنما يرخص له فقط في مداراة الكفار والتقية ، وهي ترك الإنكار عليهم باليد واللسان ، مع بقاء كراهيتهم وإنكار باطلهم في القلب ، وترك إظهار عداوتهم مع بقاء أصلها بالقلب ، دون أن يتابعهم على كفر أو يرضى به ، كما في الحديث ( إلا من رضي وتابع )
فالله لم يعذر المتابعين للكفار على كفرهم وشركهم بحجة الاستضعاف ، كما هو بين واضح في آيات كثيرة …
منها قوله تعالى : ((وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إن كنا لكم تبعاً فهل انتم مغنون عنا نصيباً من النار * قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد )) غافر .
وقال تعالى: ((ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين * قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين * وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا ، وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ) سبأ .
ونحوها من الآيات ..

فتأمل تخاصمهم بعد فوات الأوان وإسرارهم الندامة لما رأوا العذاب ..
وقولهم لساداتهم الذين قادوهم إلى الهلاك : ((بل مكر الليل والنهار إذا تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً ..)) .
فالاستضعاف ليس عذراً في مثل هذا ، وإنما يعذر المستضعف باستضعافه ، في ارتكاب بعض المحرمات ؛ أو التقصير في بعض الواجبات ، كترك الهجرة إلى المسلمين والتقصير في نصرتهم ونحو ذلك مما يعجز عنه في استضعافه ، ما لم يرتكب مكفراً صريحا باختياره إذ الاستضعاف شيء غير الإكراه الذي تقدمت صورته والذي يمنع من تكفير من ارتكب شيئا من أسباب الكفر الظاهرة ، وقلبه مطمئن بالإيمان ..

ولذلك وصف الله المستضعفين من المؤمنين بأنهم يسعون جاهدين ويدعون الله مخلصين أن يخرجهم من بين الكفار ، ولا يطمئنون لواقع الاستضعاف، أو يتخذونه ذريعة وعذراً لبيع الدين بالدنيا .
كما هو حال من يتعذر به اليوم من المفتونين .. فقال تعالى ((.. والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيرا )) 75 النساء .

3- وليس من موانع التكفير كون المرتدين وأنصارهم أو غيرهم من الكفار يعتقدون انهم مؤمنون أو أنهم على حق فيما يرتكبونه من المكفرات ..
فقد وصف الله تعالى كثيراً من الكفار بذلك ، ولم يجعل ذلك مانعاً من تكفيرهم ..
فقال سبحانه ..(( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا)) [ الكهف : 104 ]
وقال تعالى ((إنهم اتخذوا الشياطين أولياء لهم من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون )) [الأعراف : 30 ]
وهكذا شأن أكثر الكفار في كل زمان ، ففرعون طاغوت مصر كان يقول لقومه : ((ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد )) .
وقال تعالى عن غيره: ((وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون )) .

وهكذا الكفار في كل زمان ، وحتى اليهود والنصارى يعتقدون أنهم مهتدون وأنهم هم المؤمنون وأصحاب الجنة الفائزون .
كما قال تعالى (( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه.. ))
وقال سبحانه ((وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى ))
وهكذا سائر الكفار ..
ومعلوم أن ذلك ليس بنافعهم عند الله ولا وهو بمانع من تكفيرهم في الدنيا ..

وعلى كل حال ، فتقييد التكفير بالاعتقاد هو مذهب غلاة المرجئة الذين يرون الإيمان اعتقاد القلب وحده فقط ومن ثم فلا يكون الكفر في مذهبهم إلا بالاعتقاد .. وانظر تفصيل هذا في كتابنا (إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر)
أضف إلى هذا أن الاعتقاد أمر مغيب في القلب غير ظاهر ولا يمكن ضبطه ما دام كذلك .. ولذلك لم يعتبره الشارع كمانع من موانع التكفير في أحكام الدنيا فقد تقدم في تعريف المانع : ( انه وصف وجودي ظاهر منضبط يمنع ثبوت الحكم ) فما لم يكن كذلك ، فليس بمانع من موانع التكفير ولا دخل لنا به في أحكام الدنيا ..

4- وليس من موانع التكفير، كون من كفر بسبب من أسباب الكفر أو ناقض من نواقض الإسلام يلتزم بعض شرائع الإسلام كالصلاة أو الإقرار بالشهادتين أو نحوهما(33) ..
فهذا لا يمنع من تكفيره لأنه لم يكفر من جهة الامتناع عن شيء من الشرائع المذكورة .. وإنما كفر بسبب أخر غير ذلك ..
وقد ذكر الله تعالى في كتابه أن للمشركين أعمالاً ، وأن بعضهم عنده من شعب الإيمان أشياء لم تنفي عنه الشرك كما قال : ((وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ))
وبين في موضع آخر أن الشرك محبط لجميع تلك الأعمال فقال تعالى : (( ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون )) .
ومعلوم ان الإنسان يدخل الإسلام بالإقرار بالشهادتين ثم لا يستمر إسلامه ولا تدوم عصمته إلا بالمحافظة على مجموع شعب هي أصل الإيمان .. بينما يحبط ذلك كله بسبب واحد من أسباب الكفر .

ومن الأدلة الواضحة على أن هذا الأمر ليس من الأعذار المقبولة عند الله تعالى ولا هو من موانع التكفير ..
قوله تعالى ((ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم )) [ التوبة 65-66] .
فإنها نزلت في شأن أناس كانوا من المصلين المقرين بالشهادتين قد خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم مجاهدين في غزوة هي من أشهر وأعسر غزوات المسلمين .. ثم لما قالوا ما قالوا من أسباب الكفر وهو الاستهزاء بالنبي وأصحابه من حملة القرآن ؛ كفرهم الله بهذا السبب ، ولم يمنع من تكفيرهم إقراراهم بالشهادتين ولا الصلاة ولا الجهاد ولا غيره من شعب الإيمان التي كانت عندهم ..

وعلى هذا فلو نطق المرتد الذي كفر بسبب نصرته للشرك والمشركين للشهادتين حال قتاله، لم يعصم ذلك دمه ولم يمنع من قتله لأنه لم يكفر بالامتناع عن الإقرار بها كي يقاتل عليها، وحتى يكون حكمه حكم من قتله أسامة بن زيد لما قالها .. بل هو يقولها ويقر بها ليل نهار ،وربما كان من المصلين ، فليس هذا سبب كفره الذي قوتل عليه ، و إنما سبب كفره الذي قوتل عليه هو تولي ونصرة القوانين وأهلها على الموحدين ، فلا يصير مسلماً حتى ينخلع ويبرأ من هذا السبب ويتوب منه ، فبذلك يرجع إلى الإسلام ، إذ هذا هو الباب الذي خرج منه ، فمنه يرجع ما دام مقراً بسائر الأبواب ..

وهذا أمر واضح معلوم من سيرة الصحابة مع المرتدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا أصنافاً،( قوم ارتدوا عن الدين بالكلية ، وقوم ارتدوا عن بعضه ، فقالوا : نصلي ولا نزكي ، وقوم ارتدوا عن إخلاص الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، فآمنوا مع محمد بقوم من النبيين الكذابين كمسيلمة الكذاب وطليحة الأسدي وغيرهما) فجاهدهم الصديق رضي الله عنه وسار فيهم سيرته في المرتدين ، فمن كان منهم يصلي ويقر بالشهادتين وارتد بمنع الزكاة قاتله حتى أداها .. ومن كانت ردته بالإيمان بمسيلمة ،قاتله على البراءة من مسيلمة والكفر بنبوته .. وهكذا ..
ولما أشكل ذلك بادي الرأي على الفاروق وسأله: كيف تقاتل الناس وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله … الحديث ) قال له أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة … ) فهذا يوضح أن ممن قاتلهم أبو بكر في حروب الردة من كان يصلي ويشهد الشهادتين.. وإنما ارتد من أبواب أخرى فقوتل عليها ..

5- وليس من موانع التكفير كون من ارتكب سبباً من أسباب الكفر الواضح المستبين مضللاً بتلبيس الأحبار والرهبان أو السادة والحكام .. أو غيرهم ..

فقد قدمنا لك أن مانع الجهل يعتبر في الأمور الخفية والمشكلة التي تحتاج إلى تعريف وبيان ، فلا بد قبل التكفير فيها من إقامة الحجة .. وسيأتي المزيد منه في أخطاء التكفير ..
لكن هذا لا يجب في أمور هي أظهر من الشمس في رابعة النهار ، كهدم أصل التوحيد أو مقارفة ما يناقضه من الكفر البواح والشرك الصراح الذي لا يخفى على صبيان المسلمين ، بل إن اليهود والنصارى يعرفون أنه مناقض لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ..
وسيأتي حديث عدي بن حاتم في عدم إعذار اليهود والنصارى بإضلال أحبارهم ورهبانهم لهم ، في صرف التشريع- الذي هو عبادة - إلى غير الله تعالى .. مع أنهم لم يكونوا يعرفون أن الطاعة في ذلك عبادة كما صرح بذلك عدي ، وكفر اليهود والنصارى أكثره كفر تقليد ولذلك قال تعالى فيهم ((اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله …. الآيات ))

وكذلك كفر أكثر الكفار .. قال تعالى (( وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول . قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون )) المائدة
وفي الحديث الذي يرويه البخاري في صحيحه يقول النبي صلى الله عليه وسلم في عذاب القبر : ( وأما الكافر أو المنافق فيقول : لا أدري ، كنت أقول ما يقول الناس ، فيقال : لا دريت ولا تليت ، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه …. الحديث ) .
هذا وقد بين الله في كتابه أن الضعفاء والمقلدين يتبرؤون يوم القيامة من ساداتهم الذين كانوا سببا في إضلالهم ، وأن ذلك ليس بعذر لهم ينجيهم ، ولا هو بمانع من موانع التكفير ..
فمن ذلك قوله تعالى : ((وبرزوا لله جميعا ، فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ، قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا مالنا من محيص )) * إبراهيم
وقال تعالى : ((إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا * خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا * يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا )) الأحزاب .
والآيات في هذا المعنى كثيرة …

هذا وقد ذكر العلامة ابن القيم في كتابه ( طريق الهجرتين ) في سياق ذكره لمراتب المكلفين ( الطبقة السابعة عشر ) وهم : ( طبقة المقلدين وجهال الكفرة وأتباعهم وحميرهم الذين معهم تبعا لهم يقولون : إنا وجدنا آباءنا على أمة ، وإنا على أسوة بهم ……. )
قال : (وقد اتفقت الأمة على أن هذه الطبقة كفار وإن كانوا جهالا مقلدين لرؤسائهم وأئمتهم إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنه لم يحكم لهؤلاء بالنار ، وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة ، وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة المسلمين لا الصحابة ولا التابعين ولا من بعدهم ، وإنما يعرف عن بعض أهل الكلام المحدث في الإسلام ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة )(34) ، وهذا المقلد ليس بمسلم ، وهو عاقل مكلف ، والعاقل المكلف ، لا يخرج عن الإسلام أو الكفر ….. ) إلى قوله :
( والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ، والإيمان بالله وبرسوله واتباعه فيما جاء به ، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم ، وإن لم يكن كافرا معاندا فهو كافر جاهل .
فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال غير معاندين وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفارا …)
ثم ساق الآيات التي تذكر عذاب المقلدين المتابعين غيرهم على الكفر .. وأن التابع والمتبوع في النار جميعا .. نحو قوله تعالى : ((وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار ، قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد )) [ غافر : 48 ]
ثم قال : ( فهذا إخبار من الله وتحذير بأن المتبوعين والتابعين ، اشتركوا في العذاب ولم يغن عنهم تقليدهم شيئا ، وأصرح من هذا قوله تعالى : (( إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا )) [ البقرة : 166-167 ] …) أهـ.

6-وليس من موانع التكفير كون المرتد من أهل العلم ، أو من أهل اللحى أو من الجماعة الإسلامية الفلانية ، أو كونه يحمل دكتوراه !! في الشريعة أو نحو ذلك مما يتوهمه البعض ..
فقد قال تعالى في بعض من كان أعلم أهل زمانه ( من كبار العلماء ) : ((واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آيتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين )) وقال تعالى في حق خيرة خلقه وهم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم : ((ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون * أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة … الآيات )) الأنعام .
ويدل على هذا أيضا قصة عبد الله بن سعد بن أبي سرح الذي كان من كتبة الوحي ، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ثم ارتد على عقبيه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله ولو وجدوه متعلقا بأستار الكعبة .. ثم انه تاب ورجع إلى الإسلام عام الفتح ، أحضره عثمان بن عفان – وكان أخاه من الرضاعة – إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبايعه .. وقصته برواياتها المختلفة بسطها وتكلم على فوائدها شيخ الإسلام في الصارم المسلول ، والشاهد منها أن كونه من كتبة الوحي عند النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع من كفره وردته .. لما أتى بسببها..

• لكن يفرق في هذا الباب بين ما كان كفراً صراحاً مخرجاً من الملة فهو على ما ذكرنا ..
وبين ما ليس بكفر من الاجتهاد الخاطئ الذي يؤجر صاحبه على اجتهاده، أو العثرات التي قد يقع بها بعض أهل العلم أو طلبته ، فلا ينبغي أن يساء الأدب معهم لأجلها ، أو يتطاول عليهم بسببها ، أو يزهد بعلمهم أو ينفر الشباب عن كتبهم بها .. خصوصاً إن كانوا من أنصار الدين القائمين به المتبرئين من الطواغيت والمرتدين ..

- ففي صحيح البخاري (كتاب مناقب الأنصار) باب قول النبي صلى الله عليه وسلم ( اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم ) وذكر فيه أحاديث منها حديث أنس في وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنصار وفيه قوله : (أوصيكم بالأنصار …) إلى قوله : ( فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم ) ..

- فأنصار الدين الذين هم من أهل الطائفة القائمة بدين الله ، الذين يفنون أعمارهم ويبذلون مهجهم في نصرة دين الله وتوحيده ، لهم نصيب من هذه الوصية النبوية في كل زمان ..
فلتحفظ وصيته صلى الله عليه وسلم فيهم ، وحذار من تسليط السفهاء وتطاول الرعاع عليهم ، فإن في ذلك إقرار أعين أعداء الله ، وأعداء هذه الدعوة المباركة .. ولا يقدم على مثل هذا عاقل أو فقيه ..

7- وليس من موانع التكفير في سبب معين من أسباب الكفر كون من سيكفرون به كثر .. فدين الله لا يحابي أحداً، وقد قال تعالى : ((وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد )) .
وقال تعالى : ((وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين )) وقال سبحانه : (( وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون )) .
وفي الحديث الذي يرويه أبو داود وابن ماجه عن ثوبان مرفوعاً : ( … ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين ، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان) وأخرج الحاكم وصححه عن أبي هريرة قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً )) .

قال : ( ليخرجن منه أفواجاً كما دخلوا فيه أفواجاً ) ، ويروى موقوفا على أبي هريرة .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (7/217) ؛ أن أتباع مسيلمة الكذاب نحو مائة ألف أو أكثر .

8- وليس من موانع التكفير باتفاق أهل العلم ؛ قول الكفر على سبيل الهزل واللعب واللهو والمزاح ، ودليله قوله تعالى : ((ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ، قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم)) .. فلم يعذرهم الله تعالى بهذا العذر ، مع أنهم كانوا خارجين في غزوة العسرة للقتال مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالوا تلك الكلمات على سبيل الهزل وشغل الوقت في السفر ، ( حديث الركب نقطع به الطريق) كما جاء في أسباب النزول ..

- يقول أبو بكر ابن العربي (543هـ) : ( الهزل بالكفر كفر ، لا خلاف فيه بين الأمة ، فإن التحقيق أخو العلم والحق ، والهزل أخو الجهل والباطل ) أهـ أحكام القرآن (2/964) وانظر القرطبي (8/197)

- ويقول ابن الجوزي (597هـ) : ( الجد واللعب في إظهار كلمة الكفر سواء ) أهـ زاد المسير (3/465) .

- ويقول النووي (676هـ) : ( والأفعال الموجبة للكفر ، هي التي تصدر عن عمد واستهزاء بالدين صريح ) أهـ روضة الطالبين (10/64) .

- ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول عند قوله تعالى : (( لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم )) : ( لم يقل {الله تعالى} قد كذبتم في قولكم ((إنما كنا نخوض ونلعب)) فلم يكذبهم في هذا العذر كما كذبهم في سائر ما أظهروه من العذر الذي يوجب براءتهم من الكفر لو كانوا صادقين ، بل بين أنهم كفروا بعد إيمانهم بهذا الخوض واللعب ) أهـ (517)
أي أنه كفرهم سبحانه وتعالى رغم عذرهم المذكور الذي أدلوا به ، ولم يكذبهم بوجوده سبحانه ، بل أنكر اعتباره ، فدل على عدم اعتبار هذا العذر من موانع التكفير .

- وقال ابن القيم في إعلام الموقعين بعد كلام له تقدم في اشتراط القصد لصحة الأحكام ، قال بعد أن ذكر خبر الذي قال لما وجد راحلته ، بعد أن أضلها : (أللهم أنت عبدي وأنا ربك ) أخطأ من شدة الفرح ؛ ( ولم يكفر بذلك وإن أتى بصريح الكفر ، لكونه لم يرده ، والمكره على كلمة الكفر أتى بصريح كلمته ولم يكفر لعدم ارادته ، بخلاف المستهزئ والهازل ، فإنه يلزمه الطلاق والكفر ، وإن كان هازلاً لأنه قاصد للتكلم باللفظ ، وهزله لا يكون عذراً له بخلاف المكره والمخطئ والناسي فإنه معذور مأمور بما يقوله أو مأذون له فيه ، والهازل غير مأذون له في الهزل بكلمة الكفر والعقود ، فهو متكلم باللفظ مريد له ، ولم يصرفه عن معناه إكراه ولا خطأ ولا نسيان ولا جهل ، والهزل لم يجعله الله ورسوله عذراً صارفاً ، بل صاحبه أحق بالعقوبة ، ألا ترى أن الله تعالى عذر المكره في تكلمه بكلمة الكفر إذا كان قلبه مطمئناً بالإيمان ، ولم يعذر الهازل بل قال تعالى : ((ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ، قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم)) أهـ (3/76) .

- ويقول ابن نجيم الحنفي (1005هـ) : ( ان من تكلم بكلمة الكفر هازلاً ، أو لاعباً كفر عند الكل ، ولا اعتبار باعتقاده ) أهـ . ( البحر الرايق شرح كنز الدقائق ) . (5/134)

9- وليس من موانع التكفير المعتبرة كون المكفِرين لا يقدرون على ترتيب آثار الكفر على من كفروه .. كإقامة حد الردة أو تغير الحاكم الكافر ونحوه .. فهذه شبه يطنطن بها مرجئة العصر .. وقد تقدمت الإشارة إلى أقاويل بعض شيوخهم في ذلك ، في الفصل الأول .. وقد تعلق بذلك وقلدهم به سفهاؤهم وجهالهم ، وهي من سفسطتهم وجدالهم بالباطل ، إذ لو التزموا ذلك لأبطلوا به جميع الأحكام الشرعية ..

- إذ يلزمهم ما دمنا عاجزين عن إقامة حد الزنا ، على من ثبت عليه الزنا بالبينة أو الاعتراف أو نحوه أنه ليس بزانٍ ، وليبحث له عن أخرى !!

- وما دمنا عاجزين عن إقامة حد القتل على القاتل فإنه ليس بقاتل ، ومن ثم فلا دية عليه ولا كفارة ولا توبة .. !!

- وما دمنا عاجزين عن إقامة حد القطع على السارق فلا يحل لنا أن نسميه سارقاً ، إذ ما الفائدة من ذلك –كما يقولون-؟! فلنسمه إذن أميناً ولنسلطه على أموال الناس !!

- وما دمنا غير قادرين على تغيير المنكرات الظاهرة ، فلا يحل لنا أن نعرّف بها أو نحذر منها أو نسميها منكراً ، وما لم تكن منكراً فهي حتماً معروف .. وهكذا …
وفي هذا من الباطل ما يلزم منه فتح أبواب الفساد والإلحاد ، وتسويغه وتهوينه على العباد ..

والحق والصواب في هذا هو ما أمرنا الله تعالى به في محكم كتابه بقوله : ((فاتقوا الله ما استطعتم )) وقال تعالى عن شعيب : ((إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت..))
ومنه وضع الفقهاء قاعدتهم الفقهية المعروفة في أن ( الميسور لا يسقط بالمعسور)

فإذا عجز المسلمون في وقت من الأوقات عن الخروج على الحاكم الكافر وتغييره ، فلا يعني هذا أن يتركوا تكفيره ، بل هذا حكم شرعي يستطيعونه فيجب عليهم أن يتقوا الله فيه .. وفي غيره مما هو من آثار تكفير الحكام ويستطيعونه ، فيجتنبوا نصرته وتوليه والتحاكم إلى أحكامه الكفرية ، ولا يولونه أمر دينهم ، ولا يجعلون له عليهم سبيلا ، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، ولا يدخلوا في بيعته أو يقاتلوا تحت رايته ، أو يعينوه على باطله أو يظاهروه على مسلم .. إلى غير ذلك مما يملكون فعله ويقدرون عليه ، وأيضاً فإن معرفة كفر الحاكم ، مدعاة إلى العمل الجاد والإعداد الذي يمكن في يوم من الأيام من تغييره ..
بخلاف من كان الحاكم عنده مسلماً ، فإنه لن يرفع بذلك رأساً، ولن يفكر يوماً ما بالإعداد الجاد لتغييره كما هو واقع مرجئة العصر في هذا الزمان ..

فاختلاف الحكم على الحاكم عند كل فريق ؛ هو الفرقان والميزان الذي يزن سلوك كل فريق ويميز توجهه وصبغته ، ما بين موحد كافر بالطاغوت معادٍ له ، أو مجتنب على أقل الأحوال ..
وما بين مبايع له مناصر ، أو مجادل عن باطله مهون من كفرياته .. وواقعنا وواقع خصوم هذه الدعوة أكبر شاهد على هذا .. فليتدبر المنصف أحوال الموحدين وسلوكهم ودعوتهم ومنهاجهم في واقع اليوم ..
ثم لينظر في واقع الخوالف الذين ناموا في أحضان الطواغيت ورضعوا من ألبانهم ، وسلطوا ألسنتهم وأقلامهم على كل من خرج عليهم أو نازعهم ، بلسانه أو سنانه..

10 – وليس من موانع التكفير المعتبرة ؛ سوء تربية المقترف للكفر ، كما زعمه بعض من يقتدى بهم ويشار إليه بالبنان في موانع تكفير ساب الرب أو الدين أو الرسول ، فإن أكثر الكفار والمشركين قد كفروا ونشأوا في الشرك لسوء التربية والتنشئة كما اخبر بذلك الصادق المصدوق فقال صلى الله عليه وسلم : ( يولد المولود على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو يشركانه ) رواه مسلم وغيره .
فلم يمنع ذلك من تكفيرهم .

11- وليس من موانع التكفير أيضاً ، اقتراف شيء من أسباب الكفر الظاهرة الصريحة ، بحجة الاستحسان أو الاستصلاح أو ما يسمونه بمصلحة الدعوة ..!! فليس ثم مصلحة معتبرة في الشرك أو الكفر ، لأنه أعظم ذنب عصى الله به في الوجود ، ولذلك قال تعالى : ((إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء )) وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم ؛ أي الذنب أعظم ؟ فقال : ( أن تجعل لله ندا وهو خلقك ) ..
فهو أعظم المفاسد في الوجود على الإطلاق ، ولذلك كان محبطا لسائر الأعمال قال تعالى : ((ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين )) . وكل مصلحة مزعومة أومدعاة في الشرك أو الكفر فهي مصلحة باطلة ملغاة شرعا ، لم يجعل الشارع لها اعتبارا ..

نعم قد يكون في الشرك مصالح دنيوية وشهوانية لبعض الناس ، يغطونها بمصلحة الدين ، والدين منها براء ..
فالله قد بعث كافة رسله وأنزل جميع كتبه كما هو معلوم لإبطال الشرك وهدم الكفر .. ومن ثم إخلاص العبادة لله وحده .. وهو سبحانه طيب لا يقبل إلا طيبا .. والمقاصد الشرعية المطهرة ، لا يجوز شرعا أن يتوصل إلى تحقيقها إلا بوسائل شرعية مطهرة صحيحة ، تماما كما لا تزال النجاسة ويتطهر منها بنجاسة أخرى ، وكما لا يستنجى من البول بالبول .. فلسنا ميكافيليين(35) تبرر الغاية عندنا الوسيلة .. حتى نختار ما نشتهي من وسائل ، بل قد سد الله جميع الطرق ، ولم يبق لنا إلا طريقا واحدا موصلا إليه وإلى جنته ومرضاته ونصرة دينه وتحقيق سعادة الدارين ؛ ألا وهو الطريق الشرعي التي بعث بها رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهذا من أهم معاني شهادة أن محمدا رسول الله . وقد بين الله ضلال سعي من يستصلحون الكفر ، وخسارة من يستحسنون صنعته ، فقال : ((قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا * أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا )) الكهف .

ورحم الله السلف الذين كانوا يسمون مثل هذه الإستصلاحات التي يلصقها أهلها بالدين : ( خديعة إبليس ) ، يطلقون ذلك على من داهن الأمراء وتقرب إليهم في أزمنة الخلافة والفتوحات ..
كما قال سفيان الثوري رحمه الله لبعض من يناصحه : ( إياك والأمراء أن تدنو منهم أو تخالطهم في شيء من الأشياء ، وإياك ويقال لك لتشفع عن مظلوم أوترد مظلمه ، فإن ذلك خديعة إبليس ، وإنما اتخذها فجار القراء سلما … ) أهـ.(36)

فتأمل إبطاله استصلاح واستحسان بعض الفقهاء الدخول على الأمراء والدنو منهم بحجة تخفيف الظلم ودرء الفساد .. !! ويسمي ذلك ( خديعة إبليس ) ، وفي أي وقت يقول ذلك .. في أوائل خلافة بني العباس قبل المعتصم وقبل المأمون ونحوهم ممن أظهروا بدعهم وامتحنوا الناس .. وكانت عزة الخلافة وهيبتها قائمة ، وفتوحات المسلمين وجحافلهم تدك حصون الكفر شرقا وغربا ..
العزة لله ولرسوله وللمؤمنين

أضف رد جديد

العودة إلى ”المجلس السياسي“