بقلم المحامي أ/ أحــــمــــد الــــوادعـــــــي
المحاكم الابتدائية تختص وحدَها بالفصل في جميع الجرائم التي تقع في دائرة اختصاصها
} لا أظنُّ أني سأضيفُ جديداً على ما قاله الأستاذُ/ حسن محمد زيد عن الحُـكم الصادر ضدَّ العَالِـمَينِ الجليلَينِ العــــــــــلاَّمة/ يحيـــــــــى بن الحســـــــين الديلــــــمـــي، والعـــــــــلامة/ مــــــحمـــــد بن احمد مفـــــتـــاح، فقد قال فيه وأوفى، ولهذا جعلتُ حديثي مجردَّ هوامش على الحُـكم تنبِهُ على تفاصيلَ لم يتسع البحثُ الرصين للأستاذ/ زيد لها.
إعداد: أحمد الوادعي
أولاً: [يقرر الدستـــــــــــــور في المــــــــــادة 150 التي أوردنا نصها في صــــــدر هذا الحديث أن إنشاء وتحديد درجات المحاكم واختصاصاتها يتم بطريق القانون: (ويرتب القانون الجهات القضائية ودرجاتها ويحدد اختصاصاتها..).]
ومعنى ذلك أن إنشاءَ المحاكم وتحديدَ اختصاصاتها ودرجاتها لا يجوزُ أن يكونَ بناءاً على قانون ولا بلائحة أو قرار وإنما ذلك يصدُرُ به قانون من المشرع العادي المولج دستورياً بسن القوانين، وهذا يطابقُ مبدأً من أهم مبادئ الشرعية الدستورية هو مبدأ (الانفراد التشريعي).
والمقرر في المادة 62 من الدستور التي تقول: »مجلسُ النواب هو السلطة التشريعية وهو الذي يقرر القوانين«.
ومن النصين يتبين أن المشرِّعَ وحدَه هو المختصُّ بإنشاء المحاكم وتحديد اختصاصاتها، وأنه لا يجوزُ أن تسطوَ السلطةُ التنفيذيةُ على سُلطة مجلس النواب في التشريع، كما لا يجوزُ للسلطة التشريعية (مجلس النواب) أن تتنازلَ عن سُلطتها هذه للسلطة التنفيذية أو تتنصلَ منها.
وإذا كان ذلك في أي شأن من الشؤون فإنه أولى في مجال الحقوق والحريات؛ لأن مبدأَ (انفراد التشريع) يهدفُ -كما تقول المحكمة الدستورية العليا المصرية- إلى أن يكونَ تنظيمُ ممارسة الحقوق والحريات ورسمُ حدودها بواسطة الشعب والحيلولة دون تدخل السلطة التنفيذية في المساس بهذه الحقوق والحريات دون موافقة السلطة التشريعية الممثلة للشعب، فـالتشريعُ: هو التعبيرُ عن موافقة الشعب عما يمكنُ القيامُ به في مجال يتعلقُ به وحدَه وهو الحقوق والحريات. (أحكام الدستورية العليا في يناير 1991م ق31 لسنة 71
والقضيةُ التي نحن بصددها تقعُ في صُلب الحقوق والحريات؛ لأن ما نشكوه فيها ويشكوه العالمان (الديلمي ومفتاح) هو أنهما يُحاكمان أمامَ غير قاضيهما الطبيعي، والقضاءُ الطبيعيُّ يقومُ على دعامتـَين كُلٌّ منهما تكمِّـلُ الأخرى، وهما استقلال القضاء والمساواة أمام القضاء، وكلاهما من أهم ضمانات الحقوق والحريات كما هو معلوم.
فمن حيث استقلال القضاء لا يجوزُ أن يخضَعَ القاضي إلا للقانون الذي يستمدُّ منه شرعيتـَه وولايتـَه دونَ تدخل في اختصاصه بنزع القضية من يد قاضيها المختص بنظرها قانوناً وإعطائها لقاضٍ أو محكمة أخرى أي تنحية قاضٍ عن قضيته وإعطاء الاختصاص لغيره بطريق التحكم.
وأما بشأن مبدأ المساواة أمام القضاء فهذا يتجسدُ في أن يحاكَمَ كُلُّ المواطنين أمامَ قضاء واحد هو القضاءُ الطبيعي ووفق مقاييس واحدة دون تمايز بحيث تتكافأ مراكزهم القانونية.
وهذا كُـلـُّه لا يتوفرُ في حق العَالِـمَينِ الجليلينِ فقد أُتهما أمام محكمة غير التي تختصُّ قانوناً بنظر خصومتهما وهي المحكمةُ التي يقعُ موطنُ كل واحد منهما في دائرتها أي أمام غير القاضي الطبيعي لكل منهما؛ لأن العلامة/ الديلمي يسكُنُ صنعاء القديمة وقاضيه الطبيعي محكمة شرق الأمانة، بينما العلامة/ مفتاح يسكُنُ الروضة (بني الحارث) فقاضيه الطبيعي محكمة بني الحارث التابعة لمحافظة صنعاء وليس للأمانة التابع لها القاضي الطبيعي لزميله في القضية، أما غيرُهما من مواطنين دائرتهما يُحاكمان أمام محكمة شرق الأمانة -بالنسبة للأول أو أمام محكمة بني الحارث بالنسبة للثاني، وهما يُحاكمان أمام المحكمة المتخصصة، وهذا إهدارٌ كلي لمبدأ المساواة أمام القضاء.
ثانياً: تبين مما سبق أن الفقرة [ب] من المادة (8) من قانون السلطة القضائية قد خولت مجلسَ القضاء الأعلى سلطة إنشاءَ محاكم متخصصة، ووفقاً لما قلناه سابقاً عن المبدأ الثابت في الدستور اليمني وهو مبدأُ »الإنفراد التشريعي« لمجلس النواب، فإن هذا المجلسَ حين أوكل الى مجلس القضاء إنشاءَ مثل تلك المحاكم يكونُ قد خرَقَ المبدَأَ المذكورَ وتنازَلَ عن سُلطته في التشريع لغيره!!!!، وقد رأينا سابقاً أن هذا ليس من حق المجلس ليس اقتضاءً لمبدأ الانفراد التشريعي فحسب، وإنما اقتضاءٌ ايضاً للمادة(150) من الدستور التي قررت أن إنشاءَ المحاكم وتحديدَ اختصاصاتها يكونُ بقانون وإنشاءُ المحاكم بقرار من مجلس القضاء الأعلى مؤداه إنشاؤُها بلائحة أو بقرار وليس بقانون.
وبناءاً على ما سبق فإن الفقرة [ب] من المادة (8) من قانون السلطة القضائية والتي يعتمدُ عليها قلةٌ من رجال القانون ومعهم جُلُّ قضاة اليمن الأجلاء في القول بدستورية المحاكم المتخصصة هي مادة مخالفة مخالفةً صريحةً لمادتين من الدستور هما المادة 26 التي حكرت سلطةَ القوانين على مجلس النواب، والمادة (150) التي منعت إنشاءَ محاكم وتحديد اختصاصاتها بغير طريق القانون، وعدم جواز عمل ذلك بطريق قرار أو بلائحة تصدرُها السلطةُ التنفيذية.. وتأكيداً للطابع الاستثنائي للمحكمة المتخصصة نعرض بالقول المختصر لنشأة هذه المحكمة.
ثالثاً: في 17/ 11/1999م أصدر فخامة المشير/ علي عبدالله صالح قراراً تحت رقم (391) قضى بإنشاء محكمة جزائية ابتدائية متخصصة وشعبة جزائية استئنافية متخصصة، وفي 20/4/2004م أصدر قراراً أضاف مادة واحدة إلى قراره السابق.
ويتكوّنُ القرارُ مع الزائدة المتأخرة من 12 مادة، الأولى منها عن التأسيس، والثانية عن تكوين المحكمة، والثالثة وتتكون من سبع فقرات مكرسة لتحديد اختصاصات المحكمة، أما بقية الفقرات (وهي تسع) فموضوعُها الوحيدُ هو الإجراءات الخاصة بهذه المحكمة.
ونشيرُ هنا إلى الخـُطوط العامة لمضمون هذا القرار بما يكفي للحُكم عليه مع بيان مصادمة أحكامه للدستور أو القانون.
} ١- تحدِّدُ المادةُ (٣) اختصاصات المحكمة الابتدائية المتخصصة، ويشملُ اختصاصُها الحرابةَ والخطفَ والقرصنةَ بأنواعها وجرائمَ الإتلاف والحريق والتفجير للمنشآت والمرافق الاقتصادية، وسرقَ وسائل النقل بالقوة أو بواسطة عصابات، وعصابةَ التعدي على الأراضي، والإعتداءَ أو الإختطافَ لرجال القضاء وأسرَهم والجرائمَ الماسة بأمن الدولة الجرائم ذات الخطورة اجتماعياً أو اقتصادياً...الخ.
ومن الواضح أن مجمَلَ هذه الاختصاصات يشكّلُ قائمةً طويلةً من الجرائم جميعُها سُحبت من اختصاص المحاكم العادية بقرار إداري »بجرة قلم!!« فـالقرارُ خالَفَ قواعدَ الاختصاص المقررة في ثلاثة قوانين ودفعة واحدة، فهو خالف المادة (١٣٢) من قانون الإجراءات التي تقولُ بأن المحاكم الابتدائية تختص وحدَها بالفصل في جميع الجرائم التي تقع في دائرة اختصاصها، وخالف المادة (٩٨ فقرة -أ) من قانون المرافعات وتقرر اختصاص المحكمة الابتدائية بجميع الدعاوى أياً كان نوعُها.
وخالف قانون السلطة القضائية في مادته (٧٤) وتقول: »تكونُ للمحكمة الابتدائية الولايةُ العامة للنظر في جميع القضايا«.
وهذه النصوصُ القانونيةُ التي أهدرها قرارُ إنشاء المحكمة المتخصصة جاءت تطبيقاً للمبدأ الدستوري الذي منع إنشاءَ محاكم استثنائية، إذ مقتضى هذا المنع وغاية الدستور منه هو شمول اختصاص القضاء العادي جميع الجرائم أياً كان نوعها أو جسامتها.
ووجهُ مخالفة القانون يكمُنُ في أنه نزَعَ جملةً من الجرائم الداخلة في اختصاص المحاكم العادية بحكم القانون!!، وجعلها من اختصاص هيئة أخرى بطريق قرار إداري صادر عن رئيس الجمهورية!!.
وفضلاً عن ذلك وأهم منه خالف الدستور، فقد رأينا سابقاً أن الدستور جعل لتحديد اختصاصات المحاكم طريقة واحدة هي القانون، ومفهومُ المخالفة للمبدأ الدستوري المذكور عدمُ جواز وعدمُ شرعية أي هيئة حُـكْم يتحدَّدُ اختصاصُها بطريق ما هو أدنى مرتبةً من القانون كاللائحة والقرار سواء كانا من إصدار السلطة التنفيذية أو غيرها من سلطات الدولة.
ومن الطبيعي أن شرطَ الدستور تحديدَ اختصاصات المحاكم القضائية بطريقة القانون معناه أنه أسند سُلطةَ تقرير هذه الاختصاصات إلى السلطة التشريعية حصراً، وبما أن قرارَ إنشاء المحكمة المتخصصة صادرٌ عن السلطة التنفيذية ممثلة في رئيس الجمهورية فإن معنى ذلك وبدون أدنى شك أن القرارَ يمثلُ اعتداءً صريحاً من السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية، واغتصاباً لسلطاتها الدستورية.
ومما سبق يتضحُ أن الطابعَ الاستثنائي للمحكمة المتخصصة لا يرجعُ إلى منشأها بخصوصه، وإنما الشذوذ طاوَلَ اختصاصاتها، وبعبارة أخرى لا يرجع طابعها الاستثنائي إلى شكلها، وإنما أيضاً إلى مضمونها فهي استثنائيةٌ في قالبها وفي قلبها على السواء، ومن ثم فـوجودُها لا يصادمُ نصوصَ الدستور، وإنما يجافي أيضاً روحَه ويصادمُ غاياته؛ وذلك لأن الدستور وإن لم ينص صراحةً على مبدأ الفصل بين السلطات، إلا أن ذلك كان الناظم لمعظم نصوصه إن لم تكن كلها، ولا شك أن القرار الذي نناقشه هنا من أهم النماذج الزاخرة بها حياتنا للمستوى المتدني الذي بلغه مبدأُ الفصل بين السلطات ومدى العبث الذي يتعرض له من قبل السلطة التنفيذية.
٢- والمادة (٤) من قرار إنشاء المحكمة المتخصصة مكرسةٌ لتحديد الاختصاص المكاني لها، وجعلته شاملاً لكل الجرائم التي تقع في إقليم الجمهورية اليمنية أو أجوائها أو مياهها الإقليمية تماماً كما هو حال كل المحاكم الاستثنائية طبيعةً لصيقةً بها لا تعفي حتى المحكمة المتخصصة ذاتها.
وإذا قسنا الاختصاصَ المكاني المقدر قانوناً لجميع المحاكم الجنائية العادية في البلاد على الاختصاص المكاني الذي حدده هذا النصُّ للمحكمة الجنائية المتخصصة -بطريقة القياس المنطقي والواقعي- سنجد أن الإختصاصَ المكاني الذي أعطته هذه المادة للمحكمة المتخصصة على سعة الجمهورية هو أبرزُ مظاهر الطابع الاستثنائي!! والاستثنائي جداً لهذه المحكمة!!، إذ كلُّ محكمة جنائية عداها لها اختصاصٌ مكاني محدودٌ، فهو بحسب المادة (٤٣٢) من قانون الإجراءات والذي يحدد الاختصاص المكاني للمحاكم الجنائية، إما بالمكان الذي وقعت فيه الجريمة، أو الذي يقيم فيه المتهم، أو قـُبض عليه فيه، وكل هذه الأماكن محدودة لا يتسع أيٌّ منها لليمن كله.
إن من أهم صفات [المحـــــــــاكم الاستثـــــــنائية ]أنها لا تخضَعُ لقواعد الإجراءات المتبعة أمام محاكم القانون العام بما في ذلك قواعد الإجراءات المتعلقة بالإختصاص المكاني وغير المكاني، فكان من الطبيعي وقد قررت السلطةُ التنفيذية عام ٩٩٩١م استعادةَ نظام المحاكم الاستثنائية التي ألغاها دستورُ الوحدة قبل ذلك أن يأتيَ اختصاصُ المحاكم المتخصصة على هذا النحو المجافي للدستور وللقوانين في أهم حقوق المتهم المكفولة له حتى تتسق مع الغاية من إنشاء المحكمة المتخصصة!!.
٣- وما دامت المحكمةُ المتخصصةُ من جنس المحاكم الاستثنائية فإن القرارَ المنشأَ لها استقصى لها كلَّ خصائص تلك المحاكم سيئة السُمعة!!، فالمادة (٥) من القرار المذكور أجازت للمحكمة أن تعقدَ جلساتها في أي مكان من أراضي الجمهورية اليمنية، وهذا لا تملكُه أيةُ محكمة في اليمن سواء محاكم الموضوع (الابتدائية، والاستثنائية)، أو محكمة القانون وهي المحكمة العليا، فقانون المرافعات وهو الشرعةُ العامة المنظـِّمُ لإجراءات الترافع أمام المحاكم سواء منها المحاكم المدنية أو الجنائية يوجبُ على المحكمة (م ٧٥١) أن تعقدَ جلساتها في مبنى المحكمة وفي القاعة المخصصة لتلك.
ولم يُجِزْ لها أن تعقدَ جلساتها خارج مبنى المحكمة إلا على سبيل الاستثناء وبشرطَين:
أولهما: أن تدعوَ الضرورةُ لذلك، كأن يتعذر على المحكمة عقدُ جلستها في مبناها لدواعي الأمن أو لأية ضرورة ملجئة أخرى.
ثانيهما: أن يتمَّ ذلك بإذن مُسبق من وزير العدل.
فالأصلُ أن تعقدَ المحكمةُ جلساتها في مقرها ويجوزُ عقدُها في مكان آخر على سبيل الاستثناء، لكن المحكمة المتخصصة بحسب النص تعقد جلساتها في أمانة العاصمة أو في مكان (مناسب) بحسب قرار إنشائها!!، فـكلُّ مكان في الجمهورية صالحٌ لانعقادها وعلى السواء في ذلك، فليست مقيَّدةً بشرط الضرورة، وإذن وزير العدل كمحاكم القضاء العام!!، فهي استثناءٌ منها -كما أكدنا مراراً- ومع ذلك يُعابُ علينا إذ ننعتها بأنها محكمة استثنائية، بل إن في زملائنا المحامين مَن جهلنا بسبب ذلك.
٤- ويأبى قرارُ إنشاء [المحكمة المتخصصة ]إلا أن يتوِّجَها في خاتمته بتاج الاستثنائية الذي تتوجت به محاكم الثورة، وأمن الدولة، ومحكمة الشعب وسائر المحاكم الاستثنائية بمختلف مسمياتها!!، وذلك في المادة (٦) من القرار التي دمغتها بالميسم الأبرز للمحاكم الاستثنائية والخاص بالإجراءات الواجبِ اتباعُها أمام المحكمة المتخصصة.
تقول المادة المذكورة: »تـُتـَّبَعُ في إجراءات المحاكَمة القواعدُ والإجراءاتُ المتعلقة بالمحاكمة المستعجلة المنصوص عليها في المواد (٦٩٢) وما بعدها من قانون الإجراءات«.
ودلالةُ هذا النص على الطابع الاستثنائي للمحكمة المختصة واضحةٌ، ولا تحتاج إلى مزيد بيان، فـهذه المحكمةُ تنظـُرُ القضايا أمامها بأقصى سُرعة، وهو ما يعني أنها تتبعُ في ذلك إجراءات غيرِ تلك المتبعة في المحاكم العادية!!، ويتفق الفقهاء أن أهمَّ ما يميِّزُ المحاكمَ الاستثنائية عن القضاء العادي يرجعُ إلى أن الإجراءات المتبعة أمام المحاكم الاستثنائية تختلفُ عن الإجراءات المتبعة أمام المحاكم العادية (المرافعات، فتحي وإلى ص ٦٩٣)، والاستعجالُ الذي وسمَ به قرارُ الرئيس المحاكم المتخصصة معناه أن الإجراءات المتبعةَ أمامَها لا تـُـراعَى فيها حُقوقُ المتهم وحُريته في الدفاع!!، كما هو الشأنُ في المحاكم العادية، وهذا ما قرره قانونُ الإجراءات الذي أحال إليه قرار إنشاء المحكمة المختصة، فالمادة (٩٩٢) إجراءات حددت معنى الاستعجال في نظر الدعوى الجزائية بأن المقصودَ به أن تنظرَ المحكمة الدعوى فورَ إحالتها إليها، وبالأقصى بعد أسبوع من الإحالة، وأن تنظرَها في جلسات متعاقبة وتفصُلَ فيها على وجه السرعة، وهذه الإجراءاتُ تختلفُ كليةً عن الإجراءات المتبعة أمام المحاكم العادية!!، فالسرعةُ أمام هذه الأخيرة من أخطر معايب الإجراءات وما يطلبُه القانونُ من المحكمة على العكس من ذلك هو التؤدة والبحثُ المتأني والمستقصي عن الحقيقة، وإفساحُ المجال واسعاً أمام المتهم كي يدافعَ عن نفسه، ولذلك قررت المادة (٨٦٢) إجراءات وجوب مَدِّ الجلسات إلى أن تنتهيَ المحاكمة، وإذا اقتضت الدواعي تأجيلـَها أو وقفـَها وجب المصيرُ إلى ذلك.
ومجملُ القول في ذلك: إن الغايةَ من القضاء العادي الوصول إلى الحقيقة بينما غاية القضاء الاستثنائي الزجر والردع!!، ولذلك السرعةُ في الإجراءات مطلوبةٌ للأخيرة بينما هي معوِّقٌ كبيرٌ بالنسبة للمحكمة العادية.
٥- واستكمالاً للطابع الاستثنائي للمحكمة المتخصصة ينص قرارُ إنشائها في المادة (٩) منه على أن »تكونَ للمحكمة مخصصاتٌ ماليةٌ مستقلةٌ بما يفي بحاجاتها«!!!!.
ويكفي تعليقاً على هذا النص أن نضَعَ خطاً بالبنط الكبير تحت كلمتي (مستقلة)، و(بما يفي بحاجاتها)، ثم نتذكر أن المحكمةَ المتخصصةَ وحدَها من بين سائر المحاكم في الجمهورية لها مالية مستقلة، وبما يفي بكامل احتياجاتها، وهذا الاستثناءُ العريضُ الطويلُ للمحكمة المتخصصة ودونَ غيرِها من المحاكم لم يُقنعْ بعضَ قومنا بأن هذه محكمةٌ استثنائيةٌ!!.
رابعاً: تلك لائحةٌ بالمكونات الأساسية للمحكمة المتخصصة: نشأتها- أصل مشروعيتها- اختصاصاتها، الإجراءآت المتبعة أمامها، ومنها تبيُّنُ خصائصها الاستثنائية بكامل بشاعتها!!، وبقي لها ذيولٌ أهَمُّها:
١- في البدء نقفُ عند تسميتها والتي قـُصد بها التلبيسُ على الناس بشأن الطبيعة الحقيقية لها، إذ يوهمُ الاسمُ أنها من قبيل القاضي المتخصص المعروف في بعض الأنظمة القضائية، ولا يُعابُ عليها فيه بنقيصة الاستثنائية، وهذا فيه نظرٌ، إذ لا عبرة بالاسم وإنما العبرةُ بحقيقة المسمى، وقد أبانت اللائحة السابقة التي عرضت لأهم ما تضمنه القرار الجمهوري بإنشائها أن هذه المحكمة جمعت أهم خصائص المحاكم الاستثنائية.
٢- ونزيد على ما سبق فنزن المحكمة المختصة بالمعيار السائد لدى فقهاء القانون والذي يميزون به بين المحاكم العادية والمحاكم الاستثنائية الموازية لها، ولهم في ذلك عدة معايير وأهمها -فيما نحسب- معيار المصالح وهو المعيار الذي أخذ به الدكتور/ فتحي والي (مرجع سابق ص ٦٩١) مأخوذاً من فقيه فرنسي اسمه (كيوفوندا) وآخرين ويقوم على أساس المصالح التي يحميها قضاء المحكمة، فإذا كان يحمي المصالح العادية التي تهم عموم الأشخاص فهي محكمة عادية، أما إذا كان قضاء المحكمة يحمي مصالح خاصة ذات وصف محدد أو تتعلق بشريحة معينة من الأشخاص فهي محكمة استثنائية، فالصلة بين المحاكم العادية والمحاكم الاستثنائية كالصلة بين القاعدة العامة والاستثناء.
وبتنزيل الاختصاصات المناطة بالمحكمة المتخصصة والسابق ذكرها على المعيار المذكور نجده ينطبق عليها تمام الانطباق فهي لا تحمي المصالح التي تهم عموم المواطنين مباشرة وإنما معنية بحماية مصالح خاصة تتصل بأمن الدولة؛ لأن الجرائم التي تفصل فيها تقع على خلفية هذه المصالح مثل الحرابة، والقرصنة البحرية والجوية، والجرائم الماسة بأمن الدولة، وجرائم إتلاف أو تفجير المنشآت النفطية والاقتصادية، وجرائم التعدي من قبل عصابات منظمة على الأملاك العامة أو المواصلات العامة...الخ.
وخيرُ نموذج تطبيقي لما سبق تقدمه قضية العَالِـمَينِ الفاضلين الديلمي وابن مفتاح، فالتهم التي وجهتها إليهما المحكمة تستند إلى المواد (١٢١، ٨٢١، ٩٢١، ١٣١، ٥٣١، ٦٣١) من قانون العقوبات وجميع هذه المواد تقع في الباب الأول من الكتاب الثاني المعنون (في الجرائم المتعلقة بأمن الدولة) ومثل ذلك القضايا التي سبق للمحكمة المتخصصة أن فصلت فيها، ومن أشهرها قضايا المدمرة الأمريكية (كول) والفرقاطة الفرنسية (ليمبرج) وجرائم الإرهاب التي حوكم بشأنها أتباع القاعدة..
وحتى لو أخذنا المعايير التي قال بها فقهاء آخرون وهم يميزون بين المحاكم العادية والمحاكم الاستثنائية فلن تخرُجَ المحكمةُ المتخصصة عن ذلك قيد شعرة فبعضُهم يأخذ بمعيار طبيعة الإجراءات المتبعة أمامها أو طبيعة قضاتها، فالإجراءاتُ تكونُ مستعجلةً ولا تحفل بحقوق الدفاع وهذا موجودٌ في المحكمة المتخصصة بأوفر ما يكون وغالباً ما يكونُ قضاتـُها من العسكريين وقضاة محكمتنا ليسوا عن ذلك ببعيد إذا أخذنا السيرة الظل لقضاتها بدرجتيها.
هوامش على محــاكمــه العـــــالمـــين الجـــليـــلـــين
-
- مشترك في مجالس آل محمد
- مشاركات: 96
- اشترك في: الأحد يناير 01, 2006 10:40 am
- اتصال: