بسم الله الرحمن الرحيم
من وراء الأسوار خواطر محبوس ( لبيك اللهم لبيك)
أبلغ وأسمى وأجل وأعظم شعار لأقدس وأروع وأعظم معراج للروح وأزهى وأبهى وأمتع رحلة للنفس وألذ وأصرم وأنفع تمرين للجسد ، ومن لا يفقه الحكمة البليغة والبعد الإيماني والإيحاء الرمزي لكل جزئية من مناسك الحج يفوته القسط الأكبر من منافع الحج الروحية والبدنية التي ينبغي أن يشهدها مستمداً من وهجها مستنيراً بهديها منتشياً بأريجها ، مستغرقاً في مضامينها ومدلولاتها ليعود كيوم ولدته أمه نقياً من الذنوب خالياً من الحقد والكراهية بالباطل بنفس زاهدة ورعة متنصلاً عن المطامع الزائفة ، ومقبلاً على الله بعزيمة تقهر الهوى وتسمو على الشهوات مستعداً للقاء ربه على أفضل وأحسن حالة يرغب الإنسان أن يلقى بها ربه الكريم الذي خلقه فسواه فعدله ، وفي أنسب صورة ركبه، وأحسن تقويم أنشأه، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنه . وإن مما يؤسف له شديد الأسف أن تكون الأغلبية من الحجيج محرومين من التهيئة النفسية والمعرفية لأداء هذه الفريضة ولذلك تقع حوادث مؤسفة وتنجم إشكالات مزعجة ومخلة تتحمل الجهات المنظمة للحجيج والمشرفة عليهم تبعتها ومسؤوليتها لأنها تفرط في الإعداد المعرفي والتهيئة النفسية اللائقة بفريضة عظمى من فرائض الله ، وركن من أركان الإسلام ، وشعيرة من أعظم شعائره حيث تهمل هذه الجهات ماهو أهم وأسبق من القدرة المالية والصحة البدنية لتصب كل جهدها على الجوانب المالية ومكاسب الوظيفة الإدارية وكأنها الغاية من الحج وليست وسيلة مسهلة له وموصلة إلى أدائه على أكمل وجه ، وقد جعل الله سبحانه الإهلال بالحج والإحرام له أول ركن وأبرز منسك ، والإحرام معنى نفسي قبل أن يكون مظهراً شكلياً ولتنظيمه أحاط الله مكة من جميع جهاتها بمواقت مكانية لا يجوز لقاصد الحرم تجاوزها إلا محرماً ، وشرع الله لمن أراد الإحرام أن يتخذ من أحد هذه المواضع المعروفة لدى الناس أو ما يقابلها منطلقاً لإحرامه فيغتسل أو يتوضأ ويصلي ما تيسر من فريضة أو نافلة ثم يهل بحجة مفردة أو بالعمرة متمتعاً بها إلى الحج أو بالعمرة فقط في غير أشهر الحج ، ويكون قد تجرد من المخيط من الثياب بما في ذلك السراويل بالنسبة للرجال ومن ثياب الزينة بالنسبة للنساء ، ويدخل في غمار نسك الإحرام مردداً التلبية المشهورة كاملة معقبا على ذلك بقوله ( أحرم لك دمي ولحمي وشعري وبشري وما أقلت الأرض مني ومحلي حيث حبستني ) فيصير محرماً ويحظر عليه قص أي شيء من شعره أو نتفه وقلم أظافره والتطيب بدهن أو رائحة ولبس المخيط ، ويجب كشف الرأس ولا يجوز لبس أحذية تغطي الكعبين وظاهر القدمين ، ويحرم صيد البر اصطياداً وأكلاً ،ويحرم الجماع ومقدماته ، ويحرم الجدل والفسوق ، والمتأمل في هذا النمط الصارم من السلوك الجسدي والالتزام الديني يجد أن ذلك يعكس في النفس أرقى مظاهر تعبد النفس والجسد لخالق الإنسان ومنشئه الذي غمره بالعافية وأسكن فيه عجائب الأجهزة الدقيقة ، ومكنه من مختلف المشتهيات ، ويجد أيضاً أن الإنسان بهذا السلوك الإلزامي يعود إلى إنسانيته الفطرية البسيطة بعيداً عن تعقيدات المألوف وبهارج المراتب المعيشية وقيود العرف الاجتماعي ويجد أن الفوارق بين الطبقات والفروق بين المراتب والفئات تضمحل وينصرف اهتمام الإنسان عن متعة الجسد وشهوات النفس إلى البحث عن السمو الروحي والكمال النفسي فتتوحد الأشكال والهيئات في شكل وهيئة واحدة ، وتتآلف القلوب وتنسجم النفوس على رغبة واحدة وتنصهر الألسنة والألوان والشعوب والأمم المتنوعة وتلتقي على شعار واحد ( لبيك اللهم لبيك) يزحفون بشوق نحو المسجد الحرام وكيانهم كله يترقب لحظة الاقتراب منه ، ويالها من دهشة وروعة لا توصف عندما يجد الإنسان نفسه وجهاً لوجه أمام المسجد الحرام بروعته التي لا مثيل لها ونوره الذي لا نظير له وبهائه وسحره الذي يسبي العقول ويخلب الألباب إنه كما قال الله تعالى عنه ( فيه آيات بينات ) هنالك يسترعي انتباهك كثرة الأفواج التي تتقاطر من كل حدب وصوب في أمواج بشرية لا تتوقف قدموا من كل بقاع الأرض يملأ ون تلك الأرجاء عبقاً إيمانياً ، ويمتلأ ون منها في تمازج وتناسق وائتلاف بين الإنسان والمكان بجلاله وقدسيته ، إنها روعة اللحظة ولحظة الروعة التي لا تغادر الذاكرة ولا تنسى أبداً . ولنا وقفة في اللقاءات القادمة "أمام الكعبة المشرفة" " وفي مرابع منى" " وصعيد عرفات" "وليلة العمر" "وساعة الحظ" "وطواف الوداع" "في مدينة الرسول(ص) وبين يدي رسول الله(ص)".