[b] مِنةُ اَلمنَان
في الدفاع عن القرآن
تأليف
ا السيد محمد الصدر
الجزء الأول[/b]
Alkofa_7day@yahoo.com
المقدمه
-1-
كتاب منة المنان : للسيد الشهيد محمد الصدر
لا حاجة في البدء إلى الالماع بتعريف القرآن الكريم فأنه لدى البشر أجمعين أشر من أن يُذكرلدى المُسلمين أقدس من أن يُكفر كما قالت الخنساء في أخيها صخر :
وأن صخراً لتأتمُ الهداة به كأنه علم في رأسه نارُ
أو كما قال الشاعر الأخر
وإذا أستطال الشئ قام بنفسه ومديح ضوء الشمس يذهب باطلأ
ويكفينا من ذلك ما ذكره القرآن الكريم نفسه عن نفسه من المزايا . وما ذكره سيد البلغاء أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة من أوصافه , فعلى القارئ الكريم أن يرجع الى ذلك أن شاء.
والمهم ألان أن كلام الله سبحانه , وهو أصدق القائلين وأعدل الفاعلين وأحكم الحاكمين , كيف يمكن أن يناله السؤال والأشكال أو الوهم والاعتراض ؟. حاشا لله سبحانه وتعالى عما يشركون .
كل ما في الأمر أن نتيجة جهل الفرد أو قصوره أو تقصيره أو نسه الأمارة بالسوء .
غير أنه يمكن القول بأن ذلك ممايحصل لغلب الأفراد بل كلهم , مما قد يؤثر أحياناُ حتى على عقيدة الفرد وإخلاصه , أو يجعله في حيرة وتردد من أمره أو يدفنه في نفسه يحاول عدم أظاهره للآخرين لكي لا يكون مطعوناً في دينه .
غير أن القرآن الكريم يحتوي على كثير من موارد الأجمال وصعوبة الفهم بلا إشكال .
قد يكون الفرد معذوراً نسبياً في ما خطر في باله من السؤال ومخلصاً في البحث عن الجواب وقد لايجد ظالته في التفاسير السائدة أو لا يجد نسخها بين يديه .
فأن التفاسير بالتأكيد لم تتعرض لكل المشاكل والأسئلة ألوارده حول أي القرآن الكريم بل وجدنا ذلك أيضاً ,حتى في الكتب المخصصة لذلك ككتاب العكبري وكتاب القاضي عبد الجبار .
ويحصل ذلك من مناحي متعددة من المؤلفين : أما بأعتبار أنه إذا ذكر السؤال فأنه يفترض فيه القوة والدقة في الجواب , وإذا فقدهما أعيب في بحثه . إذن , فخير له أن يترك لالتفاتٍ الى السؤال رأساً , من أن يتورط في جواب ناقص .
أو قد يكون متشرعاً, بأعتبار أن إثارة السؤال سيكون مضاداً للقرآن الكريم لا محاله , ليكون سبباً لإثارة الشُبهة لدى القارئ الاعتيادي ., فقد يُلزم الحال , أن هذا القارئ يكون قد فهم السؤال ولم بفهم الجواب , ويكون المؤلف سبباً لذلك , فيتورط في الحرام من حيث يعلم أو لا يعلم , لأنه يتحمل هذه المسؤولية يوم القيامة ,كما في الحديث ( كسرته وعليك جبره ) فخير له أن لا يثير الشبهة , من أن يثيرها ولا يتوفق في حلها .
ومن هنا زادت الأسئلة المدفونة في النفوس , والشبهات المعقودة في الرؤوس , حتى أصبحت مدخلاً للظلال ولدعاة الكفر واللالحاد , لأجل رد الناس عن دينهم وسحب يقينهم .
ومن هنا احتاج الأمر الى قلب قوي والى عقل سوي , من أجل التصدي الى ذكر كل تلك الأسئلة وعرض كل تلك الشبهات , مما يحتمل أن يثور في الذهن ضد أي آية من آيات القرآن الكريم , والتصدي لجوابها بجدارة وعمق , لكي يتم أغناء المكتبة الإسلامية العربية بهذا الفكر الذي لم يسبق إليه مثيل . بعد التوكل على الله والاستعانة به جل جلاله .
-2-
لكن ينبغي الالتفات سلفاً , الى أني لم أكتب هذا الكتاب لكل المستويات , ولا يستطيع الفرد المُتدني الاستفادة الحقيقة منه , وإنما أخذتُ بنظر الاعتبار مستوى معيناً من الثقافة والتفكير لدى القارئ .
وأهمها أن يكون في الثقافة العامة على مستوى طلاب الكليات ونحوه . وأن يكون من الناحية الدينية قد حمل فكرة كافية , وان كانت مختصرة عن العلوم الدينية المتعرفة كالفقه والأصول والمنطق وعلم الكلام والنحو والصرف ونحوها , مما يُدرس في الحوزة العلمية الدينية عندنا في النجف الاشرف .
فأن أتصف الفرد بمثل هذه الثقافة , كان المتوقع منه أن يفهم كتابي هذا , وألا فمن الصعب له ذلك .
ولكن لا ينبغي أن يأنف من عرض ما لا يفهمه من الكتاب على من يستطيع فهمه وإيضاحه .
فأن لم يكن على أحد هذين المستويين فلا يجوز له شرعاً أن يقرأ هذا الكتاب , لأنه يوجد احتمال راجح عندئذ أن يفهم السؤال ولا يفهم الجواب . فتعلق الشبهة في ذهنه ضد القرآن الكريم , مما قد يكون غافلاً عنه أساسأ فيكون هذا الكتاب أدى به إلى الضرر بدل أن يؤدي به إلى النفع , وبالتالي يكون قد ضحى بشئ من دينه في سبيل قرأت الكتاب . وهذا ما وأعتقد أن هذا التحذير كاف في الردع عن الإطلاع على هذا الكتاب. من قبل الأفراد العاديين في الثقافة , فأن حاول أحد منهم ذلك وحصلت له أية مضاعفات فكرية غير معهودة في دينه أو دنياه . فلا يلومن إلا نفسه , وقد برأت الذمة منه .لأنني ذكرت ذلك ألان بوضوح وأقمت الدلالة عليه .
فأنني , وان حاولت الإيضاح والتبسيط في البيان ,إلا أنه بقي الغموض النسبي موجوداً بلا إشكال , لوضوح أن التبسيط الزائد المتوقع يقتضي التضحية بالمعاني الدقيقة واللطيفة , وإنما تقوم بذلك : اللغة الاصطلاحية المتفق على دقتها و صحتها , وليست هي لغة الجرائد كما يعبرون .
-3-
هذا , وقد يفهم القارئ اللبيب المتأمل ، إن في بيان الأمور المعروضة في هذا الكتاب بعض الفجوات , وهي متعمدة بمعنى وأخر . لعد م أمكان الاستيعاب التام وكونه تطويلاً بلا طائل .
فحسب هذا الكتاب , كما في العديد من كتبي السابقة , وتجعل الطريق – بعد ذلك – قابلاً للسير فيه لمن يرغب بذلك . ويبقى الأمر قابلا للتفلسف والزيادة ممن أوتي إلى ذلك سبيلا . وأنني لا أعتقد لنفسي الكمال ولا لعقلي الجلال , بل كله قيد الضعف والنقصان , لولا منة المنان ورحمة الرحمن وفيض الديان . وفي الحكمة : أن الله تعالى ينصر دينه على يد من خلاقَ له من خلقه .
- 4-
والأسئلة المعروضة في هذا الكتاب إنما هي بالمباشرة والدلالة المُطابقية ,تعتبر ضد القرآن الكريم , وتحتاج إلى ذهن صافِ وبيان كافِ لرفعها ودفعها .ويجب على القارئ الكريم أن يواكب النص , وأن يعطي وقته ونفسه ليصل إلى النتائج الحاسمة , وإلا فخير له الأعراض عن هذا الكتاب بكل تأكيد .
هذا , وقد اتخذت في جواب الأسئلة أسلوب الاطروحات , على ما سوف أقول في معناه , الأمر الذي أستوجب في الأعم الأغلب , أنني لم أعطِ الرأي القطعي أو المختار , بل يبقى الأمر قيد التفلسف في الأطروحات .والمفروض أن أيا منها كان صحيح , كان جواباً كافياً عن السؤال . ويبقى اختيار الأطروحة الواقعية منها , موكولاً ظاهراً إلى القارئ اللبيب , وواقعاً إلى المقاصد الواقعية للقرآن الكريم .
وعلى أي حال , فلا ضرورة دائماً إلى البت بالأمر , كأنك تلقي محاضرة في أمور قطعية محددة , أو رياضية غير قابلة للنقاش ., مادام أسلوبنا هذا كافياً في الدفاع ضد الشبهة وللجواب على السؤال .
بل أن هذا الأسلوب له عدة مزايا , منها :
أولاً :بقاء الباب مفتوحاً لزيادة في لتفلسف والتفكير , كما سبق . فبدلا من ذكر ثلاثة أطروحات مثلا , يمكن – بعد ذلك – طرح خمس أو عشرة , مما لم يتيسر فورياً الالتفاف اليها أو الاعتماد عليها .
ثانياُ :الالماع إلي أن الأسئلة المعروضة ضد القرآن الكريم , ليس لها جواب واحد , بل يمكن أن يتحصل عليها عدة أجوبه , ومن جوانب متعدة , الأمر لا يقتضي القناعة بمضمون القرآن وصحته , بل القناعة أيضاً بسقوط السؤال وذلته , وأن السائل من التدني والإهمال , بحيث لم يفهم شيئاً من هذه الأجوبة والاطروحات ولم يلتفت اليها .
فيكون مجرد عرض للسؤال مصادقاً لقول الشاعر :
إذا كنت لا تدري فتلك مُصيبة أو كنت تدري فالمصيبة أعظمُ .
وهذه نتيجة صحيحة ولطيفة , ضد كل المتعصبين ضد الدين من كفار وملحدين وفساق ومعاندين .
ثالثاً :أننا – بهذه الطريقة – لا نكون ممن فسر القرآن برأيه لكي نهلك , وانما يكون ذلك لمن بتً بالأمر وجزم بأحد الوجوه .
وأما إذ اعرض الأمر في عدة أطروحات ومحتملات , فقد أبرأ ذمته من الجواب وأرشد القارئ إلى الصواب . بدون أن يكون قد تورط في المضاعفات .
هذا , وأعتقد أن الأعم الأغلب من أساليب هذا الكتاب هو مما أصطلحنا عليه بالأطروحة , سواء سميناه فعلا, خلال حديثنا هنالك بالأطروحة أم لا . فإذا قلنا مثلا : أن في جواب عدة وجوه أو محتملات أو مناقشات . ففي الحقيقة يصلح كل وجه منها أن يكون أطروحة كافية في بيان الجواب .
- 5 –
بقي لدينا الآن ضرورة تعريف الأطروحة . وأنها ليست مجرد احتمال مهما كان حاله . ولكنها ذات أهمية معينة . وقد سبق في عدد من أبحاثي أن عرفتها بتعريفين منفصلين .كلاهما صادق , إلا أن الثاني أدق من الأول :
فقد عرفتها أولا : بأنها فكرة محتملة , تعرض عادة فيما يتعذر البت فيه من المطالب , ويحاول صاحبها أن يجمع حولها أكبر مقدار ممكن من القرائن والدلائل على صحتها . لكي يرجح بالتدريج على أنها الجواب الصحيح .
وعلى هذا , لا يتعين أن تقع الأطروحة في مجال الجواب على السؤال , بل يمكن أن يبين بها الفرد أي شئ يخطر في البال .
ولكن لا ينبغي أن ندعي أن كل المحتملات بالتالي أن تكون أطروحة بهذا المعنى , بل ما يصلح لها , هو ما يمكن للفرد تكثير القرائن على صحته وتجميع الدلائل على رجحانه . وإلا لم يكن أطروحة , بل احتمالا .ومن الواضح جداً أنه ليس كل المحتملات على هذا المستوى .
وهذا هو معنى الأطروحة الذي سرتُ عليه في كتب موسوعة الإمام المهدي عليه السلام , في ما كان يعنِ من المصاعب التاريخية والعقائدية والحديثية , وغيرها .
إلا أنني عرفتها ثانياً : بأنها الاحتمال المسقط للاستدلال المضاد . من باب القاعدة القائلة , إذا دخل الاحتمال بطل الاستدلال .
من حيث أن الاستدلال لابد وان يكون قائماً على الجزم ومنتج لليقين بالنتيجة . أذن فأية فكرة طعنت في ذلك استطاعت ازلة اليقين به , كافية في الجواب على السؤال وأسقاط الاستدلال .
فمثلا , في ما يخص كتابنا هذا , فأن كل سؤال سيكون بمنزلة الاستدلال ضد القرآن الكريم , من حيث فتح فجوة في مضمونه أو الاعتراض على أسلوبه . وحاشاه . ومن ثم تكون الاطروحات كافية لإسقاط ذلك الاستدلال واماته في التفكير .
وهذا هو المهم بغض النظر البت بأي وجه من تلك الوجوه , والأخذ بأي من الاطروحات , إلا ما قد يحصل من ذلك صدفة , مما يواجهنا فيه ظهور معتبرة ونحوه , وأي من تلك الاطروحات تمت فقد تم الجواب وانتفى الاستدلال المضاد .
هذا ولا ينبغي لنا هنا أن نقارن بين هذين التعريفين , فأنه تطويل بلا طائل ,بل نوكله إلي فطنة القارئ اللبيب .وانما نقتصر هنا إلي الإشارة الإمكان الجمع بين هذين التعريفين. من حيث أن الاحتمال مهما كان صفته وقيمته يكون مسقطاً للاستدلال لا محاله , مادام مرتبطاً بموضوع السؤال . كما هو منطوق التعريف الثاني , إلى أن هذا لا يعني تحول معنى الأطروحة إلى مجرد الاحتمال . بل تبقى الأطروحة هو ذلك الاحتمال المحترم الذي يمكن أن نجمع حوله أقصى مقدار متيسر من الدلائل والإثباتات . وبذلك يكون أشد أسقاطا للاستدلال بطبيعة الحال . وهذا ما توخيناه فعلا في المباحث الآتية .
- 6-
هذا , وقد عبر بعض فضلاء طلابي عني بأني قد أخذت خلال هذه المباحث , بأسلوب ( آلا تفريط) في القرآن الكريم , وهذا واضح من بعض المباحث الآتية . ولعل أول تطبيق لهذا الأسلوب .
الخاص بالقرآن الكريم من كتاب الصلاة (1)حيث ذكرت في محصله :أن القرآن يمكن أن يحتوي على اللحن في القواعد العربية ومخالفتها وعصيانها و كما هو المنساق من بعض آياته ,وذلك لأن مقتضى قوله تعالى : ما فرطنا في الكتاب من شيء .هو احتواء القرآن الكريم على كل علوم الكون ظاهراً وباطناً .
ومن المعلوم أن هذا الكون يحتوي على النقص كما يحتوي على الكمال ,وفيه الخير والشر , وفيه القليل والكثير . أذن , فيمكن التمسك بإطلاق تلك الآية الكريمة ,لاحتواء القرآن على كل ما في الكون , بما فيه ما نحسبه من النقائص والحدود .
ولا ضير في ذلك , ما دامت هذه الصفة تُعُد كمالا له , من حيث الاستيعاب والشمول وللاتفريط .
فكما يحتوي القرآن الكريم , على الفصاحة والبلاغة , وهذه هي الأساسية فيه ,فقد يحتوي أيضاً , بل من الضروري أن يحتوي على ضدها , لانه ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ) .
وكما يحتوي على اللغة العربية , وهي سمته العامة , ينبغي أ ن يحتوي على أخرى , يحتوي على الظاهر العرفي , ينبغي أن يحتوي على الباطن الدّقّي , وهكذا .
وبهذا بتبرهن أسلوب اللاتفريط المأخوذ لفظه من الآية المشار إليها . وهو باب واسع يمكن على أساسه صياغة كثير من الاطروحات لكثير من المشاكل التي قد تثار في عدد من المواضع أو المواضيع . وينسد الاعتراض عليها بأن فيها اعترافا بنقص القرآن العظيم .
1) ج1 , ق2 , ص130 .
- 7 –
هذا , وسيجد القارئ , بعض ما يمكن أن نسميه بالاطروحات الشاذة أو الآراء النادرة . مع محاولة التأكيد عليها والتركيز فيها .
فقد يحصل الاستغراب من ذلك . وخاصة بعد أن التفتنا إلى أن أمثال هذه الأسئلة والبيانات , تحتاج إلى أطروحات واضحة وأجوبة مقنعة .
والواقع أن هذه الاطروحات الشاذة ,لم تطرحها وحدها كجواب كافِ , بل طرحت معها دائما أطروحات كافية في الجواب , بحيث لا تبقي في الذهن شبهة أو إشكال , ولكن مع ذلك قلت : أن هذه الأطروحة الشاذة أو تلك , هي كافية أيضاً للجواب لمن يقتنع بها أو يستند إليها .
والفائدة الرئيسية التي توخيناها من وراء عرض مثل هذه الاطروحات , هي فتح عين القارئ اللبيب . والفاته الى امكان تجاوز الفكر التقليدي أو المتعارف في كثير من أبواب المعرفة , لا في جميعها بطبيعة الحال .بل في تلك النظريات المشهورة التي تعصب لها الناس وأخذ بها المفكرون .بدون أن تكون ذات دليل متين أو ركن ركين. وأن كثيراً من العلوم المتداولة , تحتوي على شيء من ذلك , وخاصة في مجال القواعد العربية ,كالنحو والصرف وعلوم البلاغة .
فأن أمثال هذه العلوم مشحونة بالنظريات التي أحترمها أصحابها وأخذوها وكأنها مسلمة الصحة , وبنوا عليها نتائج عديدة . في حين يبدو للمتأمل زيفها وبطلانها مع شيء من التدقيق . ويكفي في أطروحتنا هذه أن تكون صالحة لإسقاط الاستدلال بأمثال تلك النظريات والأفكار .
وعلى أي حال , فهذه الاطروحات , بصفتها مخالفة للمشهور العظيم من المفكرين ,ستكون شاذة ومثيرة للاستغراب . وأما إذا لوحضت بدقة وموضوعية , فستكون كسائر الاطروحات الصالحة للجواب عن السؤال التي هي بصددها .
- 8 -
ومما ينبغي أن نلتفت هنا إليه أيضاً : أن الاتجاه الواضح لكل المؤلفين تقريبا هو أن يعطي المؤلف للقارئ كل ما يعرف . ويحاول أن يسجل في كتابه كل شاردة وواردة مما يرتبط بموضوعه .
الأمر الذي ينتج أكيداً , أننا نستطيع أن نقيم المؤلف من خلال الاطلاع على كتابه . لا أننا نقيم الكتاب بغض النظر عن مؤلفه . لان المفروض أن المؤلف ذكر كل ما يعرفه فيه . فلو كان يعرف أمورا أخرى لذكرها . وحيث أنه لم يذكرها أذن فهو لم يعرفها . ومن هنا تظهر الحدود الرئيسة لثقافة المؤلف لا محاله .
ولعل هذا , الى حد ما , هو الاتجاه الذي كتبت به موسوعة الإمام المهدي عليه السلام , تأثرأ بالاتجاه الواضح للمؤلفين كما أشرنا . ولآن الحقائق المبينة كلما كانت أكثر وكلما كان الاطلاع عليها أوسع لدى الآخرين , كان ذلك أكثر فائدة واوسع همة , وبالتالي فهو أرجح في الدين وأرضى لرب العالمين .
الا أن هذا الاسلوب مما تم رفضه من قبلي أكيداً , بعد ذلك , أنطلاقاً من الحكة القائلة : أن الحكمة ينبغي لها أن تخفي عن غيرها أهلها . فاذا أصبح الكتاب مطروحا في السوق , وبيد تناول الجميع , كانت النتيجة على خلاف ذلك بكل تأكيد . وقديماً قيل : أن الكذب حرام , ولكن الصدق ليس بواجب . وقيل : أن كان الكلام من فضه فالسكوت من ذهب وعلى أي حال , فلا يجوز للفرد أن يقول كل ما يمكن أن يُقال , بل من الضروري أن يقتصر على ما ينبغي ما يُقال .
فاذا عطفنا ذلك الى المشاكل والاطروحات التي سبق أن استقرأناها , عرفنا كيف كان تأليف هذا الكتاب صعباً ومعقداً على المؤلف , بحيث يكون المؤلف فيه بين حدي السكين أو بين طابقي الرحى , أو بين المطرقة والسندان , كما يعبيرون .
وهذا المأزق مما لا مناص منه , كما لا خلاص منه الا برحمةٍ من الله ولطف , اذ من الواضح أن عمق الكلام قد يستلزم وصول الحكمة الى غير أهلها , وأن قلة الكلام قد يستلزم ضمور الدليل وضحالة الفكرة ., الأمر الذي يقتضي بقاء الشبهة وعدم حصول الجواب الوافي عن السؤال .وبالتالي عدم الدفاع الحقيقي والكامل عن القرآن الكريم . وكلا هذين الأمرين المتنافيين ظلم حرام .
فابتهل إلى الله بحق أوليائه الطاهرين . أن يغفر لي ما قد يكون بدر مني في هذا الكتاب من أحد هذين الشكلين من الظلم أو من أشكال أخرى من الشطح في الكلام وكونه على غير المرام . وخاصة أن المورد هو الدفاع عن الكتاب الكريم وعقيدة ديننا الحنيف .أن الله ولي كل توفيق , وهو أرحم الراحمين .
فإذا علمنا أن هذا الكتاب , قد تم تسيطره بناء على هذا المسلك , كما أن الدرس والمحاضرات التي استخلص منها هذا الكتاب , قد أتبعت فيها ذات الأسلوب . ومع ذلك فقد حذفت بعض الأمور التي قلتها في الدرس ولم أسجلها في هذا الكتاب زيادة في الحذر وتركيزاً في الاحتياط . وأمري وأمر القارئ بعد ئذ إلي الله تعالى .بل دائما إلي الله تعود الأمور
9-
هذا ,ولا ينبغي أن يلحق هذا الكتاب , بكتب التفسير العامة , فأنه ليس كذلك إطلاقا . وقد تجنبت فيه عن عمد كل ما يرتبط بالتفسير المحض , لو صح التعبير .الا ما نحتاج اليه أحيانا على سبيل الصدفة . وعلى القارئ الكريم أن يرجع في التفسير الى مصادره وما أكثرها .اذا لعل تفاسير القرآن في كل فرق الإسلام تزيد على المئة بمقدار معتد به . ولا حاجة الى تكرار ما قالوه منها وانما يُلحق هذا الكتاب بحقل الكتب التي أختصت بمشاكل القرآن لو صح التعبير . ومنها المصادر التي اعتمدتها في البحث , ككتب العكبري والرازي والقاضي عبد الجبار والشريف الرضي . وغيرهم .
ويفترض أن يكون المنهج هنا , هو التعرض إلى أي سؤال أو مشكلة , قد تخطر في الذهن بغض النظر عن نوعيتها .وبخلاف المصادر الأخرى التي حاولت الاختصاص ببعض الحقول , كالجانب اللغوي أو الجانب العقلي , أو غيرهما .
ومن هنا نجد في هذا الكتاب حديثاً من كل نوع : من الفقه والأصول وعلم الكلام والنحو والصرف وعلوم البلاغة وشيء من التفسير .مضافاً الى بعض العلوم الطبيعية , كالفيزياء والفلك والتأريخ وغيرهما .
-10-
وسيجد القارئ الكريم أنني بدأت من المُصحف بنهايته , وجعلت ُ التعرض الى سور القرآن بالعكس .
فأن هذا مما ألتزمته في كتابة هذا نتيجة لعاملين , نفسي وعقلي .
أما العامل النفسي : فهو تقديم الطرافة في الأسلوب وترك التقليد للأمور التقليدية المشهورة , في ما يمكن ترك التقليد فيه .
وأما العامل العقلي : فلأن التفاسير العامة , كلها تبدأ من أول القرآن الكريم , طبعاً .
فتكون أكثر مطالبها وأفكارها قد سردته فعلا في حوالي النصف الأول من القرآن الكريم . وأما في النصف الثاني فلا يوجد غالباً إلا التحويل على ما سبق أن ذكره المؤلف .
الأمر الذي ينتج أن يقع الكلام في النصف الثاني من القرآن مختصراً ومُقتضباً . مما يعطي انطباعا لطبقة من الناس , أنه أقل أهمية أو أنه أقل في المضمون والمعنى , ونحو ذلك .
في حين أننا لوعكسنا الأمر , فبدأنا من الأخير , لأ ستطعنا أشباع البحث في السور القصيرة , وتفصيل ما أختصره الآخرون , ورفع الاشتباه المشار إليه . فأن لم نكن بمنهجنا هذا قد استنتجتا أكثر من هذه الفائدة لكفي . إلا أن هذا لا يعني بطبيعة الحال , بدأ السور من نهاياتها . بل أن السير القهقري هذا , إنما هو باعتبار السور لا باعتبار الآيات . فنبدأ في كل سورة من أولها . وننتهي الى أخرها . ثم نبدأ بالسورة التي قبلها وهكذا .
وهذا لا يعني ألخدشه بترتيب المصحف المتداول , وخاصة بعد أن ناتفت الى ما سيأتي من أطروحات أسماء السور , حيث سنعطي لكل سورة رقمها في المصحف . وسيكون له وجاهتة وأحترامه , ولعله سيكون أفضل تلك الاطروحات .
غير أنني أتقد أننا لو أردنا النظر الى ترتيب النزول بدقة , لم نحصل على طائل , لآن أخباره كلها ضعيفة , وليس فيها من المعتبر إلا النادر جداً , إذن فترتيب القرآن الكريم بطريقة النزول , مما لا يمكن إيجاد الآن .بحجة شرعية تامة .
ألا أن هذا مما لا ينبغي أن يهمنا كثيرا , مع اشتهار المصحف المتعارف , وإقراره جيلا بعد جيل من قبل علماء المسلمين , وأنتهاءا بالجيل المعاصر للأئمة المعصومين عليهم السلام .
-11 –
هذا , ولا ينبغي إهمال أسماء السور في هذه المقدمة عن سيء من الحديث , من حيث إننا لا نعلم من الذي استعملها ووضعها لأول مرة . كما نعلم إنها مختلفة من حيث الأهمية والصحة .
فأن بعضه وأن كان جيداً في المعنى كسورة الحمد والتوحيد , إلا أن بعضه ليس كذلك , كذكر الحيوانات : البقرة والفيل ,أو ذكر الكافرين والمنافقين , أو بأسم غير موجود لفظه في السورة كالأنبياء والممتحنة . وغير ذلك , إلا أنه لا سبيل اليوم الى إحداث بعض التغير .
ومن هنا أمكننا أن نعرض لأسماء السور عدة أطروحات لا تحتوي على ذلك التغير الكثير :
الأطروحة الأولى : الأسم المشهور أو المتعارف في المصاحف المتداولة .
الأطروحة الثانية : أنه قد يوجد أحيانا أسم أخر غير مشهور أو أكثر من أسم قد أطلقته عليه بعض المصادر . فنسجله في هذه الأطروحة
الأطروحة الثالثة : أن نسير على غرار أسلوب السيد الشريف الرضي قدس سره في تسمية السور في كتابه :مجازات القرآن . حيث كان يقول : السورة التي ذكرت فيها البقرة والسورة التي ذكر فيها النساء .
وبالرغم من إن كتابه كله لم يصل إلينا , وإنما وصلنا جزء بسيط منه , قد لا يتعدى السور الأربعة الأولى من القرآن الكريم ومن ثم لا نعلم ما الذي فعله في جميع السور .إلا أنه على أي حال , فتح لنا باب واسع من هذه الجهة , وأسس لنا قاعدة يمكن العمل عليها في أغلب السور .
الأطروحة الرابعة : أن نُسمي السورة باللفظ الوارد في أولها كما يسير عليه العرف الأجتماعي في بعض السور . كقل هو الله أحد . وإنا أنزلناه . وإذا وقعت الوقعة . وغيرها .
الأطروحة الخامسة : أن نترك تسمية السور , ونستعيض عنه برقمها من المصحف . كما يقترح البعض . من حيث أنه متكون من 114 سورة فلكل سورة رقم معين يصلح أن يكون عنوان لها .وهو نحو من الفكر التجريدي الرياضي أتجاه القرآن الكريم . من حيث الميل الى ترقيم آياته وأجزائه وأحزابه وسوره وكلماته وحروفه وغير ذلك .
وعلى أي حال , فبهذا النحو ,لا تتساوى السور في الاطروحات . بل قد تزيد فيها وقد تنقص , حسب ماهو متوفر في كل منهاج .
فمثلا قد يكون ما ذكرناه في الأطروحة الثانية متعدداً , بحيث يصلح أن يكون عدة أطروحات : اثنان أو أكثر , كما قد تكون أطروحة الشريف الرضي متعذرة , فمثلا , لا يمكن القول : السورة التي ذكر فيها ألممتحنه , لآن هذا اللفظ غير موجود في السورة .
وكذلك قد يصعب تسمية السورة بألفاظها الأولى , بأعتبار اشتراك أكثر من سورة بنفس الألفاظ كسورتي الملك والفرقان , وسورتي الكهف والأنعام , وسورتي الجمعة والتغابن .
وعلى أي حال , فقد أعطيت عناية خاصة في أول كل سورة , للفحص عن التسمية بمثل هذه الاطروحات وهذا مما أغفله الكثير , بل الجميع .
-12 –
ومما ينبغي الالماع إليه , أنني بطبعي لا أميل الى الأخذ بروايات موارد النزول وأسبابه . فأنها جميعا ضعيفة السند وغير مؤكدة الصحة . بالرغم من أهتمام بعض المؤلفين بها كا لسيوطي وغيره .
وانما المهم في نضري , كما ينبغي أن يكون هو المهم في نظر الجميع : أن كل آية من آيات الكتاب الكريم تعد قاعدة عامة ومنهج حياة وأسلوب سلوك، قابل للأنطباق على جميع المستويات وعلى جميع المجتمعات. بل على جميع الأجيال بل كل الخلق أجمعين .فان القرآن هو خلاصة القوانين و المعارف المطبقة فعلا في الكون و الموجودة في أذهان الأولياء والراسخين في العلم .
وهذا واضح وهذا واضح من جميع القرآن , وظهور القرآن حجة ,غير أننا نستطيع بهذا الصدد الاستدلال بالأخبار ( 1) الدالة على أن القرآن يجري في الناس مجرى الشمس والقمر . وأنه لو نزل بقوم ومات أولئك القوم لمات القرآن ولكنه حي لا يموت لأنه نازل من الحي الذي لا يموت .
ومرادي : أن أسباب النزول ونحوها , لن تصلح في كتابنا هذا الا كأطروحة من عدة .
...........................................
(1) البحار ج 35 ص 404
أطروحات , يمكن أن تشكل جواباً على السؤال الرئيسي في أي مورد . وأما أن تكون هي الجواب الرئيسي أو أن تكون سبباً لأختلاف ظهور القرآن . فلا . ما لم تقم عليها بنفسها حجة شرعية كافية .
- 13 -
لا شك أننا في المصحف نقرأ القراءة المشهورة للقرآن الكريم , وهي قراءة حفص عن عاصم . ومن الواضح عند المسلمين أنها ليست القراءة الوحيدة , أو التي يمكننا أن نعدها هي الوحي المنزل نفسه . بل القراءات أكثر من ذلك بكثير . وقد أجاز مشهور علماءنا القراءة على طبق القراءات السبعة بل العشرة , بل كل قراءة مشهورة في زمن ألائمة المعصومين سلام الله عليهم .
الا أن نقطة الضعف المهمة في هذا الصدد , هو إننا لا نستطيع أن نقيم دليلأ معتبرا على أنتساب القراءة الى صاحبها في الأغلب , فضلا عن انتسابها الى ر سول الله صلى الله عليه وآله .
غير أن تعدد القراءات قد تشكل نقطة قوة في بحثنا هذا , من حيث أن جملة منها تستلزم تغير المعنى . الأمر الذي ينتج أختلاف السياق القرآني , أو حل مشكلة فعلية ناتجة عن قراءة أخرى أو عن القراءة المشهورة , وهكذا .
غير أن هذه الحلول أنما تصلح كواحدة من أطروحات عديدة ومن الصعب أن تكون هي الأطروحة الأهم , على أي حال , باعتبار ضعف إسناد أكثرها كما أشرنا .
مضاف الى نقطة أخرى يقل الالتفات إليها عادة , وهي إن من أستقرأء القراءات وطالع وجوهها وأختلافاتها سيجد بوضوح أن الأعم والأغلب من القُراء كانوا يقراءون القرآن بآرائهم , حسب ما يخطر لهم من التطبيقات اللغوية والنحوية والصرفية والبلاغية ونحوها وليست غالبها برواية مسندة عن النبي (ص) . وخاصة القراءات القليلة والشاذة .
الى حد يمكن التعرف على مستوى القارئ من قراءاته , وفيها ما يدل على جهل القارئ وتدني ثقافته , كما أن فيها ما يدل على علمه وتبحره .
وحسب فهمي : أن ذلك الشخص الذي أختار قراءت حفص عن عاصم . وجعلها مشهورة , وهو شخص مجهول على أي حال , لم يقصّر في أمره , بل كان دقيق النظر , باعتبار أن هذه القراءة بالرغم مما فيها من بعض النقاط , تعد فعلا أفضل القراءات وأفصحها , لو نظرنا بمنظار عام .
ومن هنا قلنا في عدة موارد أن الاحوط فعلا اختيار هذه القراءة في الصلاة .
أولا : لفصاحتها .
ثانياً : لوجود دليل معتبر على انتسابها لصاحبها وهو الاستفاضة المتحققة جيلا بعد جيل .
ثالثا : لوجود الدليل المعتبر على إمضائها من قبل المعصومين (ع) باعتبار حجية الدليل القائم على وجودها في عصرهم سلام الله عليهم .
ولكننا مع ذلك يمكننا الاستفادة من سائر القراءات كاطروحات محتملة , لدفع مشكلة أو لتغير سياق أو لإيضاح معنى .
- 14 -
وهنا يحسن بنا إن نلتفت إلى كلمة ولو مختصرة من أغراض السور وأهدافها , فأنه قد يثار السؤال عما إذا كان لكل سورة على الإطلاق غرض معين . أو أن لبعضها ذلك أو لا يوجد لأي منها أي غرض .وإنما هي مجموعة معاني لا تربطها رابطة معينة.
إذ لاشك إن هناك غرضاً عاماً لنزول القرآن الكريم ككل. وقد نطق به القرآن في عدد من آياته كقوله تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (الشعراء:194)
وقوله تعالى تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً) (الفرقان:1)
وقوله تعالى وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً)(النحل: من الآية89)) .
وإنما الكلام هنا عما إذا كان لكل سوره غرضها الخاص بها . كجزء من الغرض العام للقرآن، أو كتطبيق من تطبيقاته، كما هي جزء منه. ام لا ؟
وهذا الغرض واضح في بعض السور بلا شك ، كما في سورة الحمد والتوحيد والكافرون والواقعة، وغيرها، إلا انه تبقى كثير من السور الطوال وغيرها. ممالا نفهم منها غرضا محدداً .
فان قلت : أن قوله تعالى : ()ْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)(الأنعام: من الآية38)) ، يدل على وجود أغراض للسور ، إذ يدونها يكون التفريط محققا .
قلت : جوابه من جهتين :
أولاً : إن ذلك فيه وجود الهدف لبعض السور دون جميعها .
ثانيا : إن الهدف من ألسوره قد يكون مختصا بأهله ، وغير مفهوم فهما عرفيا عاما ، الأمر الذي يغلق أمامنا طريقة استنتاجه .
فان قلت :ألا يمكن أن تكون هداية الناس هي الهدف من كل سوره .
قلنا : نعم ، فان هذا هو هدف القرآن ككل ، وإنما السؤال عما إذا كانت هناك أهداف تفصيلية لكل سوره ، زائداً عن ذلك .
وعلى أي حال ، فلا يوجد دليل عقلي أو نقلي على وجود مثل هذه الأهداف لكل واحدة من السور . بل إن بعض الآيات تعرضة إلى معاني متباينة وأهداف متعددة ، كقوله تعالى : أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ (المائدة: من الآية1)) ، فإذا كان ذلك في الآية الواحدة ، فوجوده في السورة أولى .
والمهم في كتابنا هذا ، هو محاولة تصيد ذلك ، مهما أمكن . فان كان للسورة هدف معروف فعلا ، ذكرناه، وألا أمكن التعرض له كأطروحة ، أو حصر عدة أهداف لسور واحدة . كل ما في الأمر إنها أهداف محدده ، وليست مجملة . وهكذا .
ولعل التدقيق في التعرف على معاني القرآن الكريم وتفاصيله يفتح لنا طريق الاهتداء فيما لم يكن معروفاً من أهداف بعض السور بتوفيقه سبحانه .
-15-
وإذا سرنا في طريق فهم بحثنا هذا ، أمكننا التعرض إلى عدة أمور :
منها : إن فائدة الكلام إنما هو إيصال المعنى إلى السمع بأي قالب كان وبأي لفظ كان . فاختيار الألفاظ وصياغتها ستكون بطبيعة الحال اختيارية للمتكلم , فله إن يختار من الالفاض ما يشاء من دون إن ينطبق قانون الترجيح بلا مرجح . لان هذا القانون منطبق على العلة القهرية لا على العلة الاختيارية . ومع وجود الاختيار فالترجيح بلا مرجح ممكن . لان الاختيار والإرادة هو الذي يكون مرجحا , ثبت في علم الكلام . ومعه فلا يمكن السؤال بأن الله تعالى : لماذا قال كذا ولم يقل كذا . لأنه سبحانه إنما يريد أن يوصل المعاني إلينا لا أكثر ، واختياره لهذه الالفاض يوافق الحكمة والفصاحة والمصلحة التي هي في علمه .
وبذلك يندفع كثير من الاسئله التي يمكن إثارتها عن التعبير القرآني . لأن جوابها إن الله تعالى أراد هذا التعبير اختيارا وليس لنا أن نناقش فيه . فمثلآً : لمجرد الإيضاح ، ليس لنا أن نسال أنه تعالى : لماذا جعل آيات سورة البقرة طوالاً وآيات سورة ق قصاراً ؟ أو انه لماذا جعل النسق في السورة الفلانية بالنون والأخرى بالقاف والأخرى بالميم ؟ وهكذا . فأنها كلها أمور اختيارية غير قابلة للمناقشة .
ومنها : إن قصور اللغة يمكن أن يكون هو المسؤول عن كثير من الظواهر الكلامية . في حين إن التوسع في اللغة هو الحاجة الضرورية لكثير من الأمور كالقوافي الشعرية والسجع ولزوم ما لايلزم ، كما في لزوميات المعري ومقامات الحريري وغيرها . فإذا لم يوجد قي صدد معين إلا ثلاث كلمات أو أربع اضطر المتكلم إلى حصر حديثه في نطاق ضيق أو إلى تكرار العبارات نفسها لإتمام مقصودة . وهذا هو الذي اعنيه من قصور اللغة . وهو باب واسع لا يقتصر على هذا المجال .
ولعل هذا هو الذي يفسر لنا عددا من ظهور النسق القرآني ، اعني نهايات الآيات ، أو الروي وهو ماقبل النهاية . كتكرار لفظ الناس في سورة الناس ، والتكرار في سورة ق و ص وغيرهما . ومن ذلك تغير النسق في سورة مريم بمقدار ست آيات ونحو ذلك.
فان قلت : ولكن الله قادر على كل شئ ، فهو قادر على أن يوجد كلمات كثيرة غير مكررة لحفظ النسق .
قلت :هذا وهم فان القدرة وان كانت تامة ولا نهائية في ذات الله سبحانه ، لكنها تتعلق بالممكن والمقدور . إما المستحيلات فلا تتعلق بها القدرة ، كما هو المبرهن عليه في محله من علم الكلام ، لقصور الموضوع لا لقصور الفاعل .
ومن جملة قصور الموضوع ، قصور اللغة ، فأنها ليس فيها من الكلمات ما يكفي لأجل سد الحاجة . ولايمكن اختيار الكلمات إلا با لمقدار المناسب مع المجتمع وما يفهمه الناس ، ولا يمكن ان نتكلم بكلام غير مفهوم باعتبار إتمام السجع أو النسق أو الرويَ ، بطبيعة الحال .
- 16-
أننا لو تأملنا مخلوقات الله تعالى في هذا الكون وجدناه مشحونا بالذوق الجمالي سواء من الناحية البصرية والسمعية أو اللمس أو الناحية العقلية أو النفسية أو غيرها كشكل الورد وأجنحة الفراش وأصوات العصافير والجمال البشري أو تناسق أوراق النبات وغير ذلك كثير ومن موارد وجود الذوق التكويني هو الذوق الفني والأدبي في القرآن الكريم ولا ينبغي أن نقترح على الله أي شيء في هذا الصدد لان أي تغير فيه سيخل بهذا الذوق وسيخرج السياق القرآني عن هذا الجمال والهيبة والرصانة والتناسق بين نهايات الآيات له حصة من الذوق ولو كان الكلام منثورا تماما لما اتخذ سياقا من هذا القبيل فنهايات الاي لها معنا خاص بها لا يمكن أن نسميه سجعا وأما نسميه نسقا لان السجع فيه نقطتان للضعف لا تنطبقان على القرآن الكريم
أولهما : أن سمعته غير جيدة بين الناس مثل قوله سجع كسجع الكهان ,ولا ينبغي أن ننسب إلى القرآن ما نكره
ثانيهما : أن هناك فرق بين السجع والنسق القرآني . فأن نهايات الآيات في كثير من الاحيان لا تنتهي بحرف واحد , بل بأكثر من حرف , كما قد يكون المتناسق فيها هو الروي وهو الحرف الأسبق على الأخير . في حين أن السجع مشروط فيه تماثل الحروف الأخيرة ذاتا وصفة ( أي سكون ) كما في القوافي الشعرية تماماً
نعم , لا نعدم من بعض السور , ما يكون من قبيل السجع , أو أنه متصف بصفاته , مصداق لقوله تعالى : مَا (فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)(الأنعام: من الآية38) كسورة الناس وعامة اللآيات في سورة محمد وسورة قاف.الا أننا مع ذلك يمكننا أن نسميه تناسقا أو نسقا لا أن نسميه سجعا لان كل سجع فهو نسق وليس كل نسق فهو سجع . فقد يكون في مثل هذه السورة سجع ونسق في عين الوقت .
-17-
بقيت لنا كلمة في التعريف بالسياق ووحدته ووحدة الساق .فأنه باب مهم من أبواب فهم اللغة عموما , والقرآن الكريم خصوصأ , وقد أستخدمناه في كثير من أبحاثنا هذه . فينبغي أن نحمل فكرة كافية عن حقيقته وعن نتائجه .
فأن السياق على قسمين : سياق المعنى وسياق اللفظ :
أما السياق المعنوي , فهو يمثل الاتصال والتماثل في مقاصد المتكلم والمعاني الذي يريد بيانها والأعراب عنها . فاذا شككنا في أي مقصود من مقاصده , أمكن جعل المقاصد الأخرى دليلاً عليه كقرينة متصلة عرفية وصحيحة , وهذه هي قرينة وحدة السياق التي تستعمل عادة في الاستدلال الفقهي والأصولي .
فلو وردتنا السنة الشريفة عدة أوامر في سياق واحد , وكان بعضها أكيد الاستحباب , وبعضها مشكوك الوجوب , قلنا باستحبابه لاجل وحدة سياقه مع المستحب .
وأما السياق اللفظي , فهو أمر أخر تماما , وان كان كل اللفظ فله معنى , ومن هنا فكل سياق لفظي له سياق معنوي , إلا أن العمدة هناك اختلاف الجهة الملحوظة في السياق .
ومرادنا من السياق اللفظي تناسقه العرفي في الذوق واللغة , بحيث لو زاد شيئا أو نقص , لكان ذلك إخلال به , ومن ثم يكون ذلك قرينة كافية على عدم موجودة وعدم قصده من قبل المتكلم .
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاس إِلَهِ النَّاسِ . بدون وجود الواو بينها . فلو وجد الواو أختل السياق اللفظي بكل تأكيد . ولعل أوضح منه اختلال السياق لو وجد الواو , في البسملة وهكذا .
بينما نجد أمورا أخرى غير مخلة بالسياق لو تبدلت. ومن أمثلة ذلك الفاء بالواو في قوله تعالى : (َالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً فَالْمُورِيَاتِ قَدْحا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) .
فأن الجمل اللفظي يبقى مستمرا بحسب ما ندرك من الذوق اللغوي العرفي . وهكذا .
وعلى أي حال , فكلا الشكلين من السياق : اللفظي والمعنوي , يمكن استعماله في أبحاثنا هذه , وجعله قرينة على مختلف الأمور , إلا أن السياق اللفظي فيها أهم وألزم . كما كان السياق المعنوي في تلك العلوم , أعني الفقه والأصول , أهم وألزم .
- 18-
ولا ينبغي لنا في هذا الصدد , أن نهمل الحديث عن المصادر , التي يمكن للقارئ الاعتماد عليها لو أراد التدقيق والتوسع أو الإضافات حول بحثنا هذا .
فأنه على العموم نجد التفاسير العامة للقرآن مفيدة في هذا الصدد أكيدا , ايا كان مذهبها ومهما كان اتجاهها . وهي فيما أعلم على ثلاث اتجاهات :
الاتجاه الأول : التفسير الباطني للقرآن الكريم . وهي صادرة عادة أو غالبا من مشايخ الصوفية كأبن عربي وغريه .
الاتجاه الثاني : التفسير بالحديث , بمعنى تورع المؤلف عن إبداء رأيه . والاقتصار بالتفسير على سرد السنة الشريفة المختصة بإيضاح هذه الآيات أو تلك كتفسير البرهان للبحراني .
الاتجاه الثالث : التفسير بالرأي المعتبر , أو محاولة الفهم من ظواهر وسياقات القرآن نفسه . وهي عامة التفاسير لدى الفريقين . ونعتمد منها على الخصوص تفسير الميزان للسيد محمد حسين الطبطبائي . وأن كان كلها مفيدة .
وكذلك يفيد في هذا الصدد : كتب أعراب القرآن الكريم وهي عديدة , يحضرني منها الآن اثنان : إملاء ما به من الرحمن من وجوه الأعراب والقراءات في جميع القرآن الأبي البقاء العكبري . والملحة في إعراب القرآن لمحمد جعفر الكرباسي .
ومنها : الكتب المختصة بتعريف القراءات في القرآن وهي عديدة , يحضرني منها أثنان :
النشر في القراءات العشر , لابن الجوزي , والمعجم الحديث للقراءات القرآنية .
وكذلك الكتب التي خصصت فصولا منها للبحث في بعض الأمور القرآنية أو الدفاع ضد الاشكالات أوردت ضد الدين وضد القرآن . وهي عديدة , لا تدخل تحت الحصر من كل مذاهب الإسلام , يحضرني منها اثنان: كتاب الامالي للسيد المرتضى وما وراء الفقه للمؤلف .وخاصة ما ذكرناه في كتاب الصلاة حول القرآن الكريم .
وكذلك الكتب المخصصة لبيان لغة القرآن الكريم نفسه , كمفردات القرآن للراغب كلسان العرب لابن منظور , والقاموس المحيط وتاج العروس , وغيرها كثير .
وكذلك الكتب المخصصة لما يسمى بعلوم القرآن وهي التي تتحدث عن وجود الإعجاز فيه أو عن القراءات أو عن التجويد أو عن الحساب الرياضي للقرآن وغير ذلك . منها كتاب عبد القاهر الجرجاني , والإتقان في علوم القرآن للسيوطي والجزء الأول من البيان للخوئي . وفي اعتقادي أن هذه العلوم تصلح كمقدمات لفهم التفسير لا أكثر .
ومنها الكتب المخصصة للفهم الطبيعي أو العلمي الحديث للقرآن الكريم , وهي عديدة أشهرها تفسير الجواهري للشيخ طنطاوي جوهري , والآيات الكونية في القرآن الحنفي أحمد والطبيعة في القرآن الكريم للدكتور قاصد ياسر الزيدي وغيرها .
وكذلك الكتب المختصة بالتاريخ الديني لو صح التعبير , كالكتب المختصة بقصص الأنبياء والمتصلة بالحديث عن الأمم السابقة , أو الحيث ‘ن الحنة والنار ويوم القيامة .
سواء كانت كتب حديثية تقتصر على نقل السنة الشريفة , أو كتب رأي وتحليل .
وقد يفيدنا في هذا الصدد أيضا من بعض الجهات , الكتب المختصة بالتربية الأخلاقية للفرد , هي كتب عديدة من الفريقين , يحضرني منها الان : أحياء علوم الدين للغزالي وجامع السعادات للنراقي وفقه الأخلاق للمؤلف .
هذا , مضافا الى الكتب الواردة في حقل اختصاص هذا الكتاب نفسه , مما اعتمدناه ومما لم نعتمده , وهي المخصصة لدفع الشبهات عن القرآن الكريم , وهي أيضا عديدة , نعتمد منها : كتاب الرازي المطبوع في هامش كتاب العكبري , وتنزيه القرآن عن المطاعن للقاضي عبد الجبار وتلخيص البيان في مجازات القرآن للشريف الرضي .
-19 –
وهذا لا يفوتنا , ونحن بصدد الحديث عن المصادر : القول بأن الآراء المعروضة فيها تنقسم بحسب فهمي إلى قسمين رئيسين :لأراء ثابتة في الرتبة السابقة , والآراء المتحققة في الرتبة المتأخرة عنه .وما هو المعتمد في فهم القرآن الكريم هو القسم الأول فقط .
والمراد في الآراء الثابتة في الرتبة السابقة , هي الآراء التي تتحدث عن اللغة وعن قواعد العربية أو الأنظمة العقائدية ,بغض النظر عن آيات القرآن .يعني الحديث عن تلك الأمور في أنفسها ومن ذلك ما ثبت للمفكر من معاني لغوية مغيرها عن الحقبة الجاهلية السابقة على الإسلام مباشرة , فإنها في الحقيقة تمثل عصر النص , والمجتمع الذي نزل فيه القرآن , فيكون هو المعتمد في فهمه , كمصدر رئيسي بلا إشكال .
والمراد من الآراء المتحققة في المرتبة المتأخرة عن القرآن , كل الآراء المعروضة بعد أخذ القرآن بنظر الاعتبار ومحاولة الاستفادة والاستظهار منه .فأن مثل هذه الآراء تؤخذ كاجتهادات لاصحابها .وتكون غالبا قابلة للمناقشة . ومتعارضة ومتعددة .ويمكن أن يكون لأي مفكر رأي بازائها وفي مقابلها .
ومن أمثلة هذا الخلاف قوله تعالى : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ) في أن هذا المؤمن دخل الجنة حياً أم ميتا ؟ من حيث أن الآية لم تنص على موته .أذن ,فهو لابد من أن يكون حياً. ومن حيث أن دخول الجنة لا يكون الا بالموت ,فهو لابد من أن يكون قد مات ودخل الجنة .
ومحل الشاهد أن كل ذلك وغير ذلك , إنما هي استفادت بعد أخذ المدلولات القرآنية بنظر الاعتبار , فتكون أراء خاصة بالمؤلفين ,وقابلة للمناقشة وقابلة لإفادات أراء أخرى بازائها .
فما هو المعتمد في الحقيقة في فهم القرآن الكريم , هو القسم الأول من الآراء والاتجاهات ويكون حجة في إثباته عادة وغالباً ,دون القسم الثاني لا محالة .
-20 –
وستكون العناوين العامة في البحث الآتي , هي عناوين السور ذاتها .ثم نعرض في كل سورة اسئلة وأجوبة ,نحاول أن تكون مرتبة بترتيب آيات السور ة.حتى اذا ما أنتهت السورة بدأنا بالسورة التي قبلها وهكذا اخذاً بالمنهج القهقري الذي التزمناه .
وهذه الاسئلة اما بعنوان سؤال وجوابه , كما هو الغالب , أو بعنوان الاشكال مع رده أو بعنوان: أن قلت :قلنا . ونحو ذلك , وكلها على أي حال , تعد من الناحية النظرية طريقة واحدة أو متشابهة في المنهجية العامة .
هذا , وأنني لاأدعي , الاستيعاب والشمول,وخاصة بعد القيود التي عرفناها , كما لا أدعي التناهي في العلم . وانما الأمر كما قال تعالى : ( وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) . وانما هذا الذي تراه بين يديك هو بمقدار الميسور , بحسن منة المنان سبحانه وتعالى .
هذا وأني أشكر كل وازرني وشجعني واعانني على هذا المشروع الطيب . من فضلاء طلابي ومن المؤمنين الذين يحسنون بي الظن .وجزاهم لله جميعا خير جزاء المحسنين .
الحمد لله وصلاة على على عباده الذين آصطفى . آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ .اعاننا الله على انفسنا وعلى جميع مشاكلنا وعلى كل وجودنا , أنه ولـي التوفيق , وهو على كل شي قـدير , وبالاجابة جدير وهو أرحم الراحمين.
حرّره بتأريخ السادس والعشرون من شهر رمضان المبارك عام 1416
محمّد الصّدر .
بسم الله الرحمن الرحيم
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق ِمِنْ شَرِّ مَا خَلَق َوَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) (الفلق:5)
صدق الله العلي العظيم
وفي تسميتها الاطروحات التي سبقت في سورة الناس ,فراجع وطبق .وهي أقل نسقا من سورة الناس ,لن فيه حرف القاف والباء والدال في نهاية الآيات ,ولكنها متحدة في الروي ,, وهو فتح ما قبل الآخر .مضافأ إلى الوقف بالسكون عند نهايات الآيات ,كما هو مستحب شرعاً.
والفلق بالسكون , مصدر يراد به التفريق بين جزئين من شيء واحد . قال الراغب (1):
الفَلق شق الشيء وإبانة بعضه عن بعض .يقال فلقته فأنفلق .قال تعالى : فَالِقُ الْإِصْبَاحِ)(الأنعام: من الآية96) (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى)(الأنعام: من الآية95) فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)(الشعراء: من الآية63)
والفَلَق بالفتح : صفة مشبهة بمعنى أسم المفعول : أي مفلوق , كالقصص بمعنى المقصوص .
أقول : ويمكن أن يتخذ معنى الفلق في السورة أحد أمور ثلاثة :
الأول : فلق الصبح . باعتبار إن ضوء الفجر يفلق ظلام الليل ويقسمه الى قسمين .
الثاني : الخلق أو الوجود لأن الوجود يفلق العدم ويبدده .
الثالث :جب في جهنم يتقوض أهل النار من شدة حره ,على رواة ضعيفة ذكرها في مجمع البيان (2) .
ونستفيد من المعنى الأول : أن رب الفلق أي رب الصبح أو الفجر . وهذا الوقت لعله افضل الأوقات من الناحيتين الدنيوية والأخروية .
أما من الناحية الدنيوية فباعتبار أن أنفلاق الفجر أمر عجيب إذ يحصل الضوء في ظلام دامس . ثم يتدرج الى أن يصبح نهاراً . وتتكر هذه الحالة في كل يوم .ففي ذلك عبرة وفضل من الله تعالى .
(1) المفردات مادة ( فلق )
(2) ج 10 ص 568 وكذلك أنظر تفسير علي بن ابراهيم ج2 ص 449
واما من الناحية الأخروية فلما هو معروف في الشريعة من أن ما بين الطلوعين أفضل الأوقات للتوجه والذكر والدعاء .
أما على هذا المعنى الثاني , فيكون المعنى : رب المخلوقات كلها أو رب كل شيء أو رب العالمين .
والمعنى الأول , وان كان أقرب إلى الذوق , ولكن فيه نقطتا ضعف :
النقطة الأولى : أنه أضيق من المعنى الثاني . وعلى هذا يكون المعنى الثاني – من الناحية الاعتبارية – أنسب لله سبحانه .
النقطة الثانية : أن محصل الآية في المعنى الأول يكون : أعوذ برب الصبح من شر الخلائق كلها .فتكون هنا الإشارة إلى الذات بذكر مزية لها , وهي انفلاق الفجر .
بينما يكون التناسب بين الآيتين , بناء على المعنى الثاني , اللطف وأكثر انسجاماً . أي أعوذ بالخالق نفسه الذي هو أعلم بالمخلوقات كلها من شر المخلوقات كلها في الدنيا الآخرة . فتكون الاستعاذة أنسب بالله سبحانه وتعالى
وهنا قد يقال : أن الشر غير موجود في الخليقة , فهل يستعاذ من شيء غير موجود ؟
وجواب ذلك : أن للفلاسفة في تفسير الشر عدة أراء , نذكر أهمها :
الرأي الأول : أن الخير والشر موجودان . والله تعالى خالق الخير والشر , وقادر على كل شيء أي على كل من الخير والشر . وفي بعض الأخبار ( 1) في وصف الله سبحانه أنه ( خالق الخير والشر ) .
فأن قُلت : أنهم قالوا في علم الكلام : أن الله خير محض , والخير لا يصدر منه الا الخير , ولا يمكن أن يصدر منه الشر , لضرورة التناسب والسنخين بين العلة والمعلول , كما قرر الفلاسفة . فالشر سواء كان وجودياً أم عدمياً , لا يمكن صدوره من الخالق , لأنه خير محض .
جوابه : أن هذا قابل للمناقشة , من أكثر من جهة :
الوجه الأول : أن الله سبحانه لا يمكن أن نسميه خيراً محضاً . والآية:( فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً) (يوسف:64) , لا تدل على ذلك , بل هي بمعنى أنه سبحانه خير الحافظين .
(1) الوافي ج ص 117
الوجه الثاني : أن الفلاسفة , لم يقولوا أنه خير محض , بل قالوا : أنه وجود محض , أي وجود بلا ماهية , وبسيط غير مركب .
وأما كونه خيراً , فهذا مترتب على كون الوجود خير وليس بشر .وهذا مترتب على أن الشر عدم وليس بوجود . في حين إننا نتكلم في هذا الوجه الأول بناء على أن الخير والشر معاً موجودان .
الوجه الثالث : أنه أتضح التناسب بين العلة والمعلول , وهو الاشتراك في الوجود , للخير والشر معاً .
الوجه الرابع : أن عنوان الخير وعنوان الشر كل منهما مفهوم انتزاعي ذهني , وليس أمراً خارجياً كما سنذكر وما هو موجود أنما هو الموجود لخارجي خاصة .
الرأي الثاني : ما قربه الشيخ المظفر قدس سره في محاضراته : من أن الخير وجود والشر عدم .والقدرة والإرادة والمشيئة إنما تتعلق بالوجود لا بالعدم . والعالم الخارجي إنما هو وجود , وهو كله خير وليس بشر لأنه تعالى لم يخلق إلا الخير .
وكان يمثل لذلك : أن شخصاً ضرب بسكين فسال الدم . فوجود الخير ووجود اللحم خير ووجود الليونة في اللحم و بحيث قابلاً للقطع خير أيضأ ووجود خير , وقدرة الضارب على الحركة خير . أما الشيء العدمي الذي هو شر , فهو انفصال أحد الجزئيين عن الآخر بالضربة . وكذلك الموت , هو أمر عدمي لأنه أنفصال الروح عن البدن
وينتج من ذلك : أن الشر مادام عدماً , فأنه لا تتعلق به القدرة والمشيئة وانما تتعلق بما هو موجود ز لآن العدم لا يمكن أن يوجد بما هو عدم . وعالم الخارج ليس صقعاً للعدم وأنما هو صقع للوجود خاصه .
وهذا لا ينافي ما قلناه من أن الله تعالى على كل شيء قدير , لآن العدم هنا ليس عدماً محضاً , بالمعنى الفلسفي , بل هو بمعنى النقص , وإيجاد الناقص معقول , من حيث كونه موجوداً . فالله تعالى قادر على العدم بقدرته على الموجودات .
الرأي الثالث : أن الخير والشر أمران انتزاعيان ذهنيان .أو قل أنهما قيمتان أخلاقيتان مدركتان للذهن . وأما الخلقة الخارجية , فلا خير ولا شر وانما هي وجود .
والقيمة الأخلاقية الانتزاعية , تختلف باختلاف الجانب الحاكم بتلك القيمة . ويوجد في باطن الإنسان عدة ملاكات مقيمة للأشياء , لا أقل من أمرين :
الأول: العقل العملي .وهو حاكم عدل وكل قضاياه صادقه ,ركزه الله فينا لنفعنا وهدايتنا ,وليس فيه خطاء , وهو الذي يحكم بحسن العدل وبقبح الظلم .
وكان الشيخ مظفر (قدس سره ) ينزل الى معنى حكم العقلاء (1), ولكنني أراه فوق ذلك . بحيث لو زال العقلاء كلهم بقي ذلك الحكم صادقاً بنفسه .
فالعدل يعود إلى اللسان الذي نتكلم به ,والشر يعود إلى هذا اللسان أيضاً .
الثاني : النفس أمارة بالسوء .وهي حاكم باطل وكل قضاياه باطلة , على عكس العقل العملي .فهي ظالمة ومظلمة وليس فيها حق إطلاقا .وهي قد تصبح ربا لصاحبها اذا ( اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)(2) فهذا التقيم الضال والمضل هو الذي أفسد البشرية من لدن آدم إلى يوم القيامة ,إلا على تقادير من رحمة الله .
والفرق بين هذين المقيّمين أمور :
الأمر الأول :أن أحكام العقل محدودة في الأمور القطعية , ولا أقل من حصول الاطمئنان العرفي بشيء أنه عدل أو ظلم ,وأما في صورة الشك والتعارض والتزاحم ونحوها ,فلا حكم للعقل .
ومن هنا قيل :أن العقل غير صالح بمجموع أحكامه لقيادة المجتمع البشري , لأنه قليل الأحكام . في حين أن الفرد يحتاج في كثير من خصائص حياته إلى البت والفتوى في كثير من الموارد .
في حين أن النفس تتدخل في الصغيرة والكبيرة , وتحكم على أي شيء يطرأ عليها .فاحكام العقل أقل من أحكام النفس .
الأمر الثاني :أننا نجد عداوة بين العقل والنفس وتنافيا في أحكامها .فما ترغب النفس يمجه العقل وما يمجه العقل ترغب به النفس .
بل يمكن القول أن كل ماهو عدل في العقل العملي ,وهو خلاف حكم النفس . وكل ماهو وفق الشهوة النفسية,بما
(1) راجع أصول المظفر ج1 ص 225 (2) الفرقان /43 والجاثية /23
فيها المحرمات والمكروهات ,فهو ظلم بنظر العقل , بطبيعة الحال .
أذن بينهما تعارض وتعادي في أغلب الأحكام بل كلها .
الأمر الثالث : ان هناك عداء بين النفس والله تعالى .في حين أن العقل إلى جانب الأحكام الإلهية .وأما النفس فهي ضدها وتمجها وتفضل الحرية على مسؤولياتها .في حين أن العقل ليس كذلك بل هو (عبد)لله عز وجل .وفي الحديث القدسي (1)وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحب ألي منك ولا اكملتك إلا فيمن أحب .أما أني إياك آمر وإياك أنهى وإياك أعاقب وإياك أثيب .
والعقل يُمضي كل الأحكام الشرعية وكلها موافقة للعقل وكلها موافقة للعقل حتى قيل بالملازمة بين أحكام العقل وأحكام الشرع . ولم يقل أحد بالملازمة بين حكم النفس وحكم الشرع .بل الرشد خلاف النفس وعصيانها .لأن الرشد في خلاف دائم مع أعداء الله أينما وجدوا .
والملازمة بين حكم النفس وحكم الشرع , وأن لم تثبت عندي في علم الأصول , ولكننا خارجاً ,لم نجد حكما عقليا الا وعلى طبقه حكم شرعي إلزامي أو استحبابي ,كما لم نجد حكما شرعياً , إلا على طبقه حكم عقلي بالرجحان وأن تطبيقه موافق للعدل .
هذا كله بمنزلة الكبرى ,في قوله تعالى : ِمِنْ شَرِّ مَا خَلَق .
فلاستعاذة ليس مما خلق الله سبحانه وتعالى . بل من شرهم .فأن وجودهم وذاتهم نعمة وخير فلا يستعاذ منه . وانما يستعاذ مما قد يأتي منها من سوء ونقص .
سؤال : هل الاستعاذة عامة لجميع الناس ؟
جوابه :انما هي لمن يجمع بين خوف الله وخوف الخلق , وهم الأعم الأغلب من الناس , أما الذين يتمحضون في الخوف من الله . فهم يخشون الله (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ)(الأحزاب: من الآية39) ولا يخافون من شر ما خلق الله سبحانه . فتكون الاستعاذة بمنزلة السالبة بانتفاء الموضوع
ولكن مع ذلك نقول : أن القرآن أنزل لكي تستفيد منه كل الطبقات .
سؤال : ما هو الفرق في الاستعاذة في المعوذتين ؟
جوابه : الاستعاذة في سورة الناس من الشيطان فقط , بينما الاستعاذة هنا من سائر ما خلق الله . فموضوع سورة الفلق أعم من موضوع سورة الناس .
سؤال : ما هو شر ما خلق ؟
جوابه : له عدة تفسيرات تختلف باختلاف المعاني السابقة :
الأول : الشر الذي خلقه الله تعالى , بناء على اختيار الرأي الذي يقول : بأن الشر موجود .
الثاني : النقص الذي خلق , بناء على أن الشر هو النقص والعدم سواء كان هذا النقص اختيارياً وهو الذنب , أو غير اختياري وهو الشامل لسائر الخلق وغيره .
الثالث : الفعل الاختياري ولعله الأقرب إلى المعنى العرفي .
فأن الفعل الاختياري منسوب إلى فاعله كما حُقق في محله , فتكون الإضافة في قوله تعالى :من شر ما خلق , إضافة منشأية . وما خلق أعم من كل فاعل مختار , على هذا الوجه . فهو يشمل كلًا من الجن والملائكة وغيرهم .
وأما الله سبحانه وتعالى , فلا يختار لنا إلا الخير , سواء قلنا بأن الشر موجود أو غير موجود .أما إذا نفينا وجوده فواضح . وأما إذا أثبتنا فلأن الرحمة سابقة , فالقدر الإلهي لكل فرد إنما هو في صالحه محضاً . كما قال الفلاسفة :ليس في الإمكان خير مما كان . وهو يشمل الكل والبعض من الأفراد , وأن لم ندرك ذلك .
وهذا لا يعني أن نقول : أن التخطيط لمصلحته الدنيوية .وانما هو لمصلحة كيان الفرد في الدنيا والآخرة . فأن حصل هناك تنافي بين المصلحتين أختار الله الأهم في الحكمة ,وهو في الأغلب مصلحة الآخرة ,وان تخلفت مصالح الدنيا .
فليس في أفعال الله سبحانه شر ,ولا يصح الاستعاذة منها ,.لأن الخلاص منها يوقع الفرد خلاف الحكمة .بخلاف (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) فأنه موجود ويمكن الاستعاذة منه ,ولذا يدعو بعضنا :كفانا الله شر بني آدم .
قوله تعالى (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ)
قال الراغب (1) غسق الليل شدة ظلمته. والغاسق الليل المظلم .أقول حسب فهمي , فأن الغاسق أول الليل , لأنه الفاعل للظلمة الشديدة و ذلك فيما إذا ذهب الشفق أي الحمرة المغربية وتم الظلام .
وقال الراغب (1) الوقب كالنقرة في الشيء , ووقب إذا دخل في وقب ,
(1) المفردات : مادة ( غسق )
أقول : يعني اذا دخل في النقرة أو الثقب , ويستعمله الفقهاء في اللواط , وعن المرآة يعبرون بالدخول حتى لو كان دبرا.
سؤال : أن قوله : من شر ما خلق , استعاذة عامة و:من شر غاسقٍ إذا وقب من شر النفاثات في العقد ... الخ استعاذة خاصة , ألا تكفي الاستعاذة العامة عن الاستعاذة الخاصة ؟
جوابه : أن في عطف الخاص على العام حكماً عديدة نذكر منها :
أولا : ما ذكره صاحب الميزان من أنه (2) : لزيادة الاهتمام .
وقد أهتم في السورة بثلاثة من أنواع الشر خاصة:هي شدة الليل إذا دخل وشرُ سِحر السَحرةِ وشر الحاسد اذا حسد , لغلبة الغفلة فيهن .
ثانياً : لأن هذه الثلاثة اشد الشرور المتصورة عادة .
ثالثاً : إنها أغلب من غيرها باعتبارها أكثر مصادفة للأنسان .
رابعاً : إنها أسباب الشر , فيكون سبب الشر شراً , وهذا أوفق بالسياق فتكون الاستعاذة من شر الخلق ومن شر سبب الشر وهي الليل والحسد والسحر فتكون الاستعاذة من العلة والمعلول معا .
سؤال : ما هو الوجه في تقييد(غاسق ) ب ( إذا وقب ) ؟
جوابه : لأن الليل اذا لم يدخل فلا وجود له ومن ثم فلا وجود للشر الناتج عنه .
والاستعاذة ليست من ذات الليل بل من الشر الحاصل فيه أي بعد دخوله , وبحسب التعبير الأدبي : هناك صورة متحركة : ضوء ثم ظلام نهار ثم ليل .
سؤال : ما هو الوجه من استعمال غاسق ووقب بالخصوص دون : مظلم ودخل , اللذين هما بنفس المعنى ؟
جوابه : أن كلا اللفظين ( يعني غاسق ووقب ) يدلان على الشدة , فالأول يدل على شدة الظلام والثاني يدل على شدة الدخول وفي الآية إشعار واضح بذلك كأن الليل يدخل على حين غفلة ويسيطر ولا يكون الفرد مستعداً للتلافي والدفع . ومن الواضح أن الليل غالباً ليس كذلك وهذا بنفسه يكون قرينة على احتمال أن يكون المراد أمرا أخر غير الليل , فأنه ذكر الظلمة والغاسق , ولم يدكر الليل , ومشهور المفسرين أخذوا الجانب المادي أو الدنيوي في الآية ,
والذي ينبغي أن يفهم من الظلام قد يكون مهما ومن الدخول ما يكون مؤلما ومن هنا تكون عدة اطروحات لفهم الغاسق ودخوله و بشكل يحفظ فيه سياق الآية :
الأطروحة الأولى : أن نفهم من الغاسق : الليل وما فيه من وحوش ووحشة ولصوص وأمراض وحوادث ,مع قلة إمكانية الفرد في الدفع وانقطاعه عن الناس أو كونه نائماً لا يعي أصلا .
الأطروحة الثانية : ظلام النفس والقلب فأنه منتج لكثير من البلايا , كالعصيان والأنانية وعدم سماع الموعظة الآمر بالمعروف .
وهذا الظلام أشد على الإنسان من ظلام الدنيا , ولذا ورد عن الأئمة الهداة سلام الله عليهم (3) : أجعل نفسك عدواً تُجاهدهُ .وورد :افضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه .
أن قُلت : أن ظاهر العبارة : أنه وقب حيث لم يكن كذلك , مع أن ظلام النفس والقلب دائم فلا يكون مناسب معها .
قُلتُ : هذا له جوا بان :
الأول : النظر إلى الفطرة الأصلية للأنسان , فأنها خالية عن الظلمة , قال الله تعالى فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)(الروم: من الآية30) وورد . (4) أيضا : كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه أو ينصرانه. أي يجعلونه غافلا , ومن أهل الدنيا , فقد وقب فيها الظلام عندما تسببت أسبابه أي دخل على حين غرة , بعد أن لم يكن .
الثاني : قد يفرض أن الفرد طيب ونير القلب ألا أنه قد يناله الظلام من أسباب عديدة , باطنية وظاهرية كالطعام والمعاشرة , فينتج شرورا وضيقاً يستعاذ منه .
(1) المفردات : مادة(وقب ) (2) الميزان ج 20 ص 393 (3) وسائل الشيعة ج11 ص 123و124
(4) البحار ج67 ص 133 والمعجم الكبير للطبراني ج1 حديث 835
الأطروحة الثالثة : بلاء الدنيا من حوادث ومرض وفقر وموت حبيب وغيرها .فانها الى طبقة من لناس بنفسها شر ,وبالنسبة إلى طبقة أخرى منتجة للشر والمضاعفات النفسية والخارجية . ولا أقل من أن يكون رد فعل الإنسان تجاهها غير مرض لله عز وجل ,كا لاعتراض عليه . فيكون المعنى : الدعاء بأن يعيذه الله من شر هذا البلاء .
الأطروحة الرابعة :الغفلة :قال تعالى : (َعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم:7)
وهي بيت الداء وأصل خسران الآخرة فيستعاذ منه . وهذا البلاء الباطني مرفوع عن المعصومين عليهم السلام . قال أمير المؤمنين (1) ( لو كُشف لي الغطاء ما أزدتُ يقيناً ) وقال : ( ما رأيتُ شيئاً إلا ورأيت الله قبله وبعده ).
قوله تعالى :(وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ )
النفث هو النفخ . وكان الساحرات يقرأن طلاسم ويعقدن شيئاً وينفخن على العُقدة , حتى تؤثر التأثير المعين الذي يردنه .
سؤال : لماذا خصت النساء بالذكر مع أنه ممكن للرجال أيضا ؟
جوابه : ما قاله صاحب الميزان قدس سره (2) :لآن السحر فيهن ومنهن أكثر من الرجال .
أقول : ويمكن أن تكون هذه الحصة من السحر مما يتبناه النساء أكثر من الرجال .
الا أن هذا الجواب يصلح ( أطروحة) وأن كانت إجماعية بين المفسرين .إلا أنه يمكن تقديم أطروحات أخرى . لان الله تعالى أستعمل معنى قابلاً للانطباق على حصص متعددة ولم يذكرالعقد ما هي ولا أن النافث من هو , ولا أن العقد شر , بل قد تكون خيراً , بل قد يكون النفث خيراً , لكن لا يخلو من شر , كما سيأتي .
ومن هنا يمكن أن نعرض عدة اطروحات في معنى العقد والنفث منها :
الأطروحة الأولى : العقد هي ملكات السوء التي في الإنسان . باعتبار أن الملكة هي الصفة الراسخة غير القابلة للانفكاك .فتشبه العقدة .
والنفث فيها ,التسبب إلى بقائها وزيادتها . كالنفخ في النار لاجل زيادتها .
الأطروحة الثانية : أن تكون العقد ملكات الخير للأنسان والنفث فيها , هو التسبب لأضعافها أزالتها .
الأطروحة الثالثة : العقد هو السلوك الصالح للأنسان , وهو الاعتياد على طاعة الله سبحانه .والنفث فيه هو محاولة إفساد ذلك وتبديله .
الأطروحة الرابعة : العقد هو السلوك الطالح للإنسان أو الحال السيئ له دنيوياً وأخروياً . والنفث فيه هو معاونته ومحاولة زيادته (3)
فأن قلت : فأنك قلت في جانب الخير أن النفث هو التسبيب إلى نقصانه . وفي جانب السوء أن النفث هو التسبيب إلى زيادته .
فأن قلت : فانك قلت في جانب الخير أن النفس هو التسبيب إلى نقصانه وفي جانب السوء أن النفث هو التسبيب الى زيادته.
(1) إرشاد القلوب للديلمي ص – 124 .
(2) (2) ج2 ص 323 .
(3) فالتقسيم يكون على شكلين :
أحدهما : أن صفات الإنسان أما صالحة وأما طالحة .
ثانيهما : أن صفات الإنسان أما ظاهرية واما باطنية , أي ( الملكات الحسنة والملكات الرديئة , فتكون معاني العقد أربعة حاصلة من ضرب 2×2 .
والمراد بالملكة الصفة الراسخة في النفس فنعبر عنها مجازاً بالعقدة , لأنها صعبة الانفكاك ومنها العقد النفسية ( باللغة الحديثة ) وكذلك يمكن أن نسمي سلوك الإنسان ( عقدة ) اذا كان ملتزما به ويمثل شخصيته وحياته .شراً كان أو خيراً فالسلوك بمنزلة المعلول والملكات بمنزلة العلة أي أن الملكات الحسنة تنتج سلوكا حسننا والملكات السيئة تنتج سلوكا سيئا . فانظر يكون أما من جانب العلة وأما من جانب المعلول وكله من سنخ العقد لترسخهُ وقوته .
قلتُ :
أولاً: أن هذا هو معنى الشر المنصوص عليه في الآية ,إذ من الواضح أن النفث الذي يزيد في الخير ويُنص من الشر ليس شرا بل هو خير .
ثانيا : اننا وان سلمنا شموله لمثل ذلك وهو خير إلا أنه قد تحصل منه مضاعفات باطنية أو دنيوية أو أخروية قليلة أو كثيرة , كتحميلنا قوة الطاعة من الأمر بالمعروف ونحوه , فيستعاذ من شره .
الأطروحة الخامسة : العقد هو عقد الصداقة والعهود بين الأشخاص أو المجتمعات , والنفث فيه هو التسبب إلى إزالته وقد لا يكون في زواله مصلحة , كما هو الغالب .
فأن قُلتَ : العقل جمع عقدة ولا يشمل العقد المعاملي
قلتُ :
أولاً : انهما من مادة واحدة , غاية الفرق في التأنيث والتذكير وهو غير مهم .
ثانياً : أنه ورد التعبير في القرآن الكريم عن المعاملة بالعقدة في قوله تعالى( الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ )(البقرة: من الآية237) .
سؤال : لماذا أنث النفاثات , مع أن التذكير أسم جنس يشمل الذكر والأنثى ؟
جوابه : أننا اذا فهمنا من النفاثات الساحرات كما عليه المشهور إذن يتعين التأنيث في التعبير ولا يكون في هذه القضية مفهوم مخالفة من حيث أن الاستعاذة من النفاثات يعني عدم الاستعاذة من النفاثين بل يقتضي ذلك بصفتهم شراً أيضاً .
وان كان المراد منها الملكات و السلوك , فيكون المعنى التسبب إلي إنجاحها أو إبطالها فيعود الأشكال مرة أخرى , يعني أن نقول : أنه ينبغي التذكير .
وتوضيح جوابه : أن نقول : أن العلل في الكون كله ذات صفتين : الخير والشر , والفرق بينهما – نعرضه كأطروحة - : أن قوى الخير أقوى وأوسع في الكون بمجموعه من قوى الشر , ونريد به مجموع الكون المادي والروحي .
فلو نظرنا الى الكون المادي , فقد نجد أن التسبيب إلى الشر أقوى كقوله تعالى :(وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) (النمل:48) فهم على قلتهم مفسدون في المدينة ولكن لو نظرنا إلى الكون الروحي والمادي معا لقلنا أن الخير أقوى بكثير .
والكون الروحي وان أحتوى جزئياً على الشر , الا أنه ضعيف وقليل , قال الله سبحانه : ( إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً)(النساء: من الآية76) وقال : (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي)(إبراهيم: من الآية22) .
فاتسبب الى الخير في مجموع الكون أضعاف أضعاف التسبيب إلى الشر , والتسبيب إلى الشر قليل وضعيف , فيعبر عنه مجازاً بالأنثى , لأن الرجل أقوى من المرآة ,فيكون المراد لاستعاذة من التسبيبات الضعيفة الموجودة في الكون للشر , وفي الآية أشعار واضح للقلة النسبية للنفاثات , وهو صحيح , لضآلة أسباب الشر بازاء أسباب الخير كما قلنا .
فأن قلت : لكن في الآية اشعاراً بقوة النفث وعمق أثره , فكيف قلنا : أنه ضعيف بازاء قوى الخير ؟
قلتُ : ان ما قلناه في قوى الخير , يشمل الكون المادي والروحي معاً ,اما تأثيره على وجه الأرض فليس ضعيفاً ولا قليلا ’ مضافاً الى أن قِلتهُ لا تعني ضعفه وعدم تأثيره فهو قليل ولكنه شديد .
وهذا هو الذي يشير اليه سياق الآية , أما دنيويا فلانه يوجب شدة الضيق , وأما أخروياً فلانه طريق جهنم. وبتعبير أخر: ان سياق الآية يدل على قوة النفث وعمق تأثيره , باعتبار أن الشر عليّ غالباً والخير اقتضائي غالباً .
سؤال :لماذا عَرّف الله سبحانه وتعالى النفاثات , ونكّرَ ما قبلها وما بعدها وهما : الغاسق والحاسد ؟
جوابه : من وجهين :
الأول : ما ذكره الرازي في هامش العكبري حيث قال : (1) لان كل نفاثةٍ لها شر وليس كل غاسق – وهو الليل – له شر – وكذا ليس كل حاسد له شر بل رُبَ حسد محمود وهو الحسد في الخيرات .
أقول : فيراد بالنكرة وهما : غاسق وحاسد , ذلك الفرد منها القليل المتصف بالشر
الثاني : أننا هل نريد اشتراك الجميع في التعريف أو اشتراكها في التنكير وكلاهما باطل لأنهما معا مغيران للسياق والذوق القرآني
أما تنكير المعرف وهو النفاثات : فهو باطل بأن نقول : ومن شر النفاثات ما في العقد وهو لا يعطي العموم المطلوب لان القضية المهملة بمنزلة الجزئية .وعندها تكون القضية جزئية يعني أعوذ من بعض النفاثات , لا من الجميع :
وأما أن نقول : نفاثات العقد , فهو يوحي , مضاف ألي الإشكال السابق , وإضافة المفعول إلى أسم الفاعل وأن العقد في النافثة , في حين أنها هي المنفوث فيها .
وأما احتمال تعّريف المنكر وهو الغاسق والحاسد , كما لو قلنا : ومن شر الغاسق إذا وقب ومن شر الحاسد إذا حسد .
فهذا كله ليس بصحيح , لان ( الآلف واللام ) لهما معنيان :أما جنسية وأما عهدية .ونحن كليهما .
فالجنسية غير مراده , لأنني لا استعيذ من الحاسد بل من شره أي ذلك الحاسد الذي يترتب عليه الشر , وليس من كل حاسد . وهذا لا يكون بحسب السياق البلاغي إلا عن طريق التنكير .
والعهدية أيضاً غير مراده , لآن المعنى يكون : الحاسد المُعين . أي فلان بن فلان . في حين المراد الاستعاذة من أي حاسد .
هذا بالنسبة الى تعريف( حَاسِدٍ ). ونفس الشي على تعريف ( غَاِسِقٍ ) , ونوكله الى فطنة القارئ اللبيب .
سؤال :لماذا قال : (حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) فأن مادة الحسد مأخوذة من لفظ الحاسد .فيكون تكرارها بلا موجب !
جوابه : أن المراد : الاستعاذة من شر الحاسد . وهذا الشر انما يترتب على الحسد بعد وجوده لا قبل .فقوله : حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ يعني اذا تحقق بحيث يترتب عليه الشر .
فأن قلت : أن هذا المعنى مفهوم من مادة الحاسد . يعني بصفة حاسداً فعلا .
قلتُ : كلا , بل يراد بالحاسد , ذات الحاسد , لا بصفته حاسداً . كأنه قال : ومن شر إنسان إذا حسد .ولا يصدق على الفرد أنه حاسد مطلقاً , إلا إذا كان من عادته أو طبعه كثرة الحسد .وهو نادر . في حين المُراد الاستعاذة من الجميع
وكذلك , فأن المراد بقوله : إِذَا حَسَدَ . الحسد المؤثر , يعني : إذا أثر حسده أو إذا حسد حسداً مؤثراً .وأما غيره فلا شر فيه , ولا موجب للاستعاذة منه . ومن الواضح أن ذات الحاسد , وأن لوحظ بصفته حاسداً لم يُأخذ فيه كون حسده مؤثراً . في حين أن السياق واضح بالاستعاذة من خصوص الحسد المؤثرة .
والحمد لله رب العالمين
يقع الكلام في تسميتها , فأن لها عدة أطروحات :
الأولى في تسميتها المشهورة : الناس . من حيث أن المفروض تسمية السورة بأي لفظ وارد فيها . وهذا منها .
الثانية : ما سار عليه السيد الشريف الرضي في كتابه : حقائق التأويل . فنقول : السورة التي ذُكر فيها الناس .
الثالثة : ما اقترحه بعضهم من تشخيص السورة بالترقيم ورقمها بحسب التسلسل القرآني الحالي 114 .
الرابعة : تسمية السورة بأول جملة فيها فنقول سورة : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) (الناس:1) وأما الكلام عن البسملة , قد سبق , وبه نستغني عن تكراره في صدر كل سوره .
سؤال : قل .ما هو الموجب لذكرها هنا ؟
جوابه : أنه ورد لفظ قُل في القرآن الكريم (332 ) مرة (1) . وأعتقد أنها وردت لثلاث أغراض :
* الغرض الأول : التبليغ إلى الناس . ومنه قوله تعالى : (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ (لأعراف:158) )قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ )(الفرقان: من الآية77)
* الغرض الثاني : نفع المأمور بالقول أي القائل له . حيث يأمرنا الله سبحانه أن نقول : الله أحد الله الصمد لنفعنا . ولأجل أن نعرف التوحيد وأن نعرف نسبة الرب , ونحو ذلك .
* الغرض الثالث : عدم مناسبة نسبته إلى الله سبحانه . فالاستعاذة إنما هي للمخاطب دائماً . وهي شيء أدنى من ان ينطق بها الله سبحانه عن نفسه . لانه تعالى منيع لا يتضرر ولا يخاف .
وهذا هو الفرق بين المعوذتين وسورة التوحيد .فأن الله تعالى شهد لنفسه بالتوحيد في قوله : (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ ...)(آل عمران: من الآية18) لأن التوحيد أن ينطقه الخالق والمخلوقات معاً . فالله يقول : اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ) بينما الاستعاذة خاصة بالمخلوق . فلا بد أن تكون لفظة قُل : موجودة .
وعلى أي حال , فكلا الغرضين الأخيرين متحققان لنا , في هذا المورد . فلا يمكن حذف قُل . بخلاف مثل قوله تعالى : )الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الفاتحة:2) وقوله : )سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الحديد:1)
(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الحشر:1)
(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الصف:1)
ونحوها من فواتح السور , فأنه يناسب صدورها من الباري نفسه .
سؤال : قالوا في علم الأصول : أن صيغة الأمر ظاهرة في الوجود . ومن المعلوم أن (قُل ) هي من صيغة الأمر فهل ظاهرة بالوجوب أو في مطلق المطلوبية , أعني الأعم من الوجوب والاستحباب ؟
جوابه :أنه يمكن إقامة عدة اطروحات على أن قُل لا تدل على الوجوب .
الأطروحة الأولى : أن المراد منها الأثر الوضعي ( الدنيوي أو الأخروي ) وهو دفع الشر , والاستعاذة بالله من حصوله . وليس المراد منها الحكم التكليفي . والوجوب هو حكم تكليفي لا وضعي . فلا تكون دالة عليه .
الأطروحة الثانية : أن صيغة الأمر إنما يراد بها الوجوب , في ما لا يقع في مورد احتمال الحظر .واما إذا كان في ذلك المورد , فيراد بها الاباحه كما في قوله تعالى : ( وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا )(المائدة: من الآية2) أي يجوز لكم الصيد ,لا أنه يجب عليكم.
فإذا التفتنا ان احتمال الحضر موجود في مورد الآية. فانه قد يتصور الإنسان انه لا يجوز له أن يستعيد من الشر أو الخطر، بل يجب عليه التسليم والرضا بقضاء الله سبحانه، أو قد يعتبر ذلك شكلا من إشكال إساءة الأدب أمامه سبحانه . فجواباً على ذلك يُجيز لنا الله تعالى أن نستعيذ به عندما نقع في ضرر أو ضرورة .
أذن , فالاستعاذة هنا في مورد احتمال الحظر , فيكون الأمر بها دالاً على الإباحة لا على الوجوب .
الأطروحة الثالثة :إن هذا بمنزلة المر التقديري أو التعليقي . وليس صريحاً . كما لو قال : إذا أردت الاستعاذة فقل كذا . فيكون معلقاً على أمرٍ غير واجب فلا يكون للوجوب . كما لو قيل : إذا أقمت للنافلة فتوضأ وإذا أكلت فقل بسم الله . وهنا : إذا وقع عليك الشر والضرر فقل أعوذ برب الناس . فهو ليس ابتدائياً , بل هو منوط بشعور الفرد بالخوف والعجز والحاجة . والمفروض بالمؤمن أن يكون دائم الشعور بالحاجة إلى الله سبحانه .
إن قُلتَ : أن هذه التعليقة لا تنافي الوجوب , بل تكون موضوعاً له . كما في قولنا : إذا استطعت فحج . قلنا : إن ذي المقدمة لما لم يكن واجباً , لم تكن المقدمة وأجبة . وهنا ليست الاستعاذة إلزامية في نفسها .ولا يحتمل وجوبها في الارتكاز المتشرعي , فلا يكون النطق بها وأجباً أيضاً . وهذا قرينة على أن ( قُل ) ليست للوجوب , وانما هي للحكم الوضعي أو للاستحباب أو لجامع المطلوبية بعنوان إظهار الضعف والخضوع أمام الله سبحانه . قال الله تعالى : ( وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً)(الفرقان: من الآية3) . إذن , وفعل الآمر هذا لا يدل على الوجوب من الناحية الفقهية . وأن كان دالآ عليه من الناحية الأخلاقية .
فأن قلت : أن قراءة السورة والاستعاذة بها مقدمة لدفع الخطر فينبغي أن نحمل ( قُل ) على الوجوب لا على الاستحباب .
قُـلت ُ : جواب ذلك من عدة وجوه :
الوجه الأول : أن هذا يختص بالخطر الواجب الدفع . وهو المتصف بأمرين : أن يكون داهماً وعظيماً وأن يكون ممكن الدفع . وليس كل خطر ممكن الدفع على أي حال . فإذا لم يكن الخطر كذلك لم يكن واجب الدفع . فلا تكون مقدمته وهي الاستعاذة واجبة .
الوجه الثاني : يختص الوجوب – على تقدير ثبوته – بما إذا كانت قراءة السورة مؤثرة في دفع الخطر عنه .وذلك فيا إذا كان الإنسان بدرجة عالية من درجات اليقين . وأما لو كانت قراءته لها غير مؤثرة , كما هو الحال في أغلب الناس , فلا تكون مقدمة لدفع الخطر , فلا تكون قراءتها واجبة .
الوجه الثالث : أنه بعد التنزل عن الوجهين السابقين , قلنا أن (قُـل ) هي لجامع المطلوبية , فأن استعملت للحصة الاستحبابية كانت مصداقاً للجامع , وإذا استعملت بالحصة الوجوبية كانت مصداقاً له أيضاً . وكلاهما أستعمل حقيقي بنحو الاشتراك المعنوي , وليس بنحو الاشتراك اللفظي .
ونظيره من القرآن قوله تعالى : ( إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ )(المائدة: من الآية6) . لدى تطبيقه على الفريضة تارة وعلى النافلة أخرى .
سؤال: لماذا نُسبت هذه الأسماء الُحسنى إلى الناس , وأختص بذكرهم دون غيرهم , كالعالمين . فقا تعالى : إِلَهِ النَّاسِ , ولم يقل اله العالمين , مثلاً , وكان التركيز على الناس ثلاثاً في السورة .
جوابه :من عدة وجوه :
أولا :عدم وجود كلمات لغوية عديدة تناسب التناسق السيني الموجود في السورة الكريمة , إلا الناس والخناس .
ثانياً : الاهتمام والتركيز على الناس ,لان الاستعاذة إنما هي لهم لا للملائكة ولا للحيوانات . لان الملائكة أعلا من الشعور بالخوف والحيوانات أدنى من ذلك .
ثالثاً : أن كل رحمة أنما هي لموضوعها , والاستعاذة رحمة , وموضوعها الناس . وذلك لاجل العموم والخصوص , فالعموم للناس كلهم والخصوص بهم دون سواهم .
فالاستعاذة تكون معقولة من زاويتين : من زاوية العبد لكونه مستعيذا . ومن زاوية الرب سبحانه لأنه عائذ وراحم ومجيب الدعاء . فيجيب دعاء العبد بصفته واحداً من الناس .
رابعاً : أن هناك مصلحة في تكرار كلمة الناس في زيادة التركيز والاهتمام بهذه الطبقة التي تدعي الكمال وليس الكامل , فالكاملون (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ) (الأحزاب:39) ولا تخطر في ذهنهم الأسباب والمخاوف الأخرى ليجدوا حاجة إلى الاستعاذة ,وانما الاستعاذة للمتدنين ثقافيا وإيمانيا وعمليا ,وهم من يشعر بالخوف من الأسباب , وهذا من درجات الشرك الخفي .
قال الله تعالى : (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (يوسف:106)
وقد أشرنا إلى نكتة يحسن ذكرها هنا :
وهي أن لفظ الناس استمله في القرآن الكريم وأراد به البشر المتدنين في الإيمان والثقافة والمقتربين إلى الذنب والرذيلة ,قال تعالى : ( إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ)(آل عمران: من الآية173) ,وكلا الاستعمالين للناس هنا كذلك .والأعم الأغلب من الآيات القرآنية التي ذكرت الناس كذلك .فإذا استطعنا القول أن الأعم الأغلب يكون قرينة على غيره ,فيكون ذلك قرينة على أن المراد بهم في هذه السورة أيضاً ذلك .
ولان الله سبحانه وان كان هو اله الناس , وملك كل الناس ورب كل الناس , بمختلف مستوياتهم ,الا أن الذي يقصد الاستعاذة هو الذي يشعر بالخوف ,وهم طبقة غير عالية في درجات اليقين .
سؤال : لماذا كرر الناس عدة مرات ,ولم يعد الضمير لهم في المرتين الأخيرتين ؟ (1)
جوابه : مضافا الى ما قلنا في أجوبة السؤال السابق من ضرورة حفظ النسق القرآني السيني أولا .وبيان الاهتمام والتركيز على الناس ثانياً , وحفظ السياق القرآني في السورة ثالثا ,وحفظ الذوق العام اللطيف رابعا ً .
مضافاً الى كل ذلك , قال صاحب الميزان (2) ( وبذلك يظهر تكرار الناس من غير أن يقال :ربهم ألههم وملكهم . فقد أشير الى كلا من الصفات الثلاثة , يمكن أن يتلق بها العوذ وحدها من غير ذكر الآخرين لاستقلالها ) أي استقلاليتها في دفع الشر, فكل واحد منها له استقلالية , وانما اجتمعت كلها لمزيد الرحمة والعطاء , ولو ذكر الضمير لكان جملة واحدة أو شيئاً مجملاً , فاقداً للاستقلالية .
هذا مضافاً إلى وجهين آخرين محتملين :
الوجه الأول : إن هذه الأسماء الحسنى إنما تكون مؤثرة في الاستعاذة إذا أسندت إلي الظاهر دون الضمير.
الوجه الثاني : أنها لو أسندت إلى الضمير ,أقتضت التعاطف بالواو. بأن يقول : رب الناس والههم وملكهم ونحو ذلك . ولا معنى لحذف الواو عندئذ .مع العلم أن الحكمة أقتضت حذفه فلزم ذكر الظاهر من أجل ذلك .
سؤال :لماذا ذكرت السماء الثلاثة , ولم يكتف بواحد منه ؟
جوابه : من عدة جهات منها :
أولاً :ما أشرنا اليه من زيادة الرحمة في البشر المستعيذين من الشر .من حيث دفع أن دفع الشر وان كان يحدث في واحد من الأسماء إلا أن دفعه ثلاث مرات أو بثلاث أسماء أوكد وأشد وأسرع .
ثانياً : زيادة التركيز لذات الله سبحانه .فهو اله ورب وملك ,وقد يجمع هذه الصفات كلها لنفسه ,وكان من الحكمة التنبيه على ذلك , قال تعالى : (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)(الزمر: من الآية6)
ثالثاً : وهو ماندفعه كأطروحة لدفع الاستدلال المقابل :
ان هذه الاسماء قد تكون مفردة , كما هو مشهور المفسرين , وقد تكون مركبة . فاله أسم مفرد. ولكن