الحلم القريب

مجلس للمشاركات الأدبية بمختلف أقسامها...
أضف رد جديد
أحمد بنميمون
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 10
اشترك في: الخميس سبتمبر 15, 2005 4:26 pm
مكان: المغرب
اتصال:

الحلم القريب

مشاركة بواسطة أحمد بنميمون »

الحلم القريب

(الى السيد حسن نصر الله ، رائي وبشير التحرير الشامل المقبل )

1-
صحوتُ لأجد نفسي منهكا، فاغتظت، لكني لم أدهش، فأن يلازمني الإرهاق منذ أول يومي فأمر لا يحمل على الدهشة، بل المدهش هو أن يحل بعض أسباب الراحة بي أو قريبا من داري، في ظل زمن مشتعل وقوده أعصاب الأهالي ودماؤهم، اقتنعت نفسي بذلك، فسكت عني غيظي، حتى أن شفتيّ حاولتا إظهارا لهذا الهدوء أن تتبسما، فأحستا أن هناك شيئا يمنعهما فلم تستطيعا انفراجا، ثمّ انتبهن أكثر، فوجدت أن يديّ قد شدتا إلى جانب السرير حيث أرقد برباطين جلديين، وحاولت تحريك مدميّ فلم تطاوعاني، فأدركت أنهما قيدتا أيضا إلى حديد السرير نفسه، فأنا مقيد إلى الذقن إذن، مُـقـمَحٌ كثور إذن، منذ وقت لا أذكره، لإحساسي بما يشبه تسلخ جلد ظهري ، وبخدر غير لذيذ يدب في كل بدني.
2 ـ
كنتُ في الحجرة وحدي، ففكرت أن أصيح مناديا، وحتى مستعطفا، من يسعفني. فتذكرت أن فمي المطبق على الرغم مني لا يستطيع ذلك، فأغمضت عينيّ مستشعرا مزيدا من القهر، فعاودني غيظي، وحاولت النوم فامتنع عليّ، لتهاجمني وساوس سودٌ ، ازدحمت على باب خلوتي من كل نوع، وكل ناحية، فأينما وليت وجهي كانت صورها تهمي عاصفة، وبقدر ما يتزايد خوفي واضطرابي كانت أهوالها تتزايد انهمارا، حتى أغرقني طوفانها، وخنقني ما تعالى من خضمها، موجا من فوقه موجٌ من فوقه رذاذ ثقيل، ثمّ لم أعد أر مما حولي شيئا، بعد أن رحمتني كفّ ُ نعاسي، لأحتمي بظلمات نوم أراحتني مما أرى في ضوء بروق من صور تتهددني.
3 ـ
لم أصح ثانية إلا لأرى جو الغرفة وقد بدأ يعتم، فعادت الأشباح تتراقص من حولي ، دون أن يطرق باب خلوتي الإجبارية من يمكنه إسعافي ، أو حتى من يمكن أن أسأله عن سبب وجودي هنا، ثمّ أحسست أن ما يمنع فمي من النداء أو الصراخ ليس أثر تخدير، ولكن شيءٌ لزج ملتصق بمسام جلدي حول شفتيّ، حتى لا أصدر صوتا يعلن عن وجودي ، فيمكـِّنَ العابرَ قريبا من حجرتي ، من الاهتداء إليّ ...
ـ من جاء بك إلى هنا ؟
كان المكان الذي يبدو أني احتجزت فيه غرفة في مستشفى عام، أو ربما كان إحدى حجرات عيادة خاصة.
ـ أفتكون انهرت لطارئ صحيّ ، أم اخترقت رصاصة ٌ جهة ً ما من بدنك، وأنت تشارك في تجمّع أطلقتْ فيه قنابل مسيلة للدموع أو رصاص حيّ ٌ ؟
طفوت فوق موج أسئلة ليطير بي ـ وأنا ذاهل عما يحيط بي ـ ما تبادر إلى ذهني من مشاهد رأيتُ ما كان يتساقط فيها من أجسادٍ غضة، تواجه بصدور عارية مجنزرات مدججة برصاص وخوَذ ٍ ، فحاولت أن أرفع يديّ احتجاجا، وأن أصرخ، فمنعني ما يقيّد يديّ وصوتي في آن، لأعود إلى جو الغرفة الطافية بي على بحر الدنيا، تتلاعب بي فيها أمواجُ هواجس سودٍ، ورياح اضطراباتٍ تعصف بتقديراتي التي لا تهتدي...
ـ أتكون إحدى سياراتهم قد داهمتك؟ وإلا فلماذا أنت هنا؟
ـ وهذه الحجرة ، أين تقع ؟ وخل أتيت إليها راجلا، طوع إرادتك؟ أم هل جيء بك مقيدا؟
وتتابعت الأسئلة، حول أسباب ربطي بهذه القسوة، إلى هذا السرير، وعما إذا كان هناك من يخشى ثورتي، فصبني في كل هذه الأغلال ، التي إن استطاعت منع يديّ ورجليّ، وحتى فمي من الحركة ، فهي لا تستطيع تقييد رأسي أو منع خفقات قلبي من أن تذهب إلى حيث تدوّي الزغاريد، ويشق التكبير سحاب السماء كلما انضاف شهيد جديد إلى اللائحة،
4 ـ
لم يخرجني من دوامة الصور إلا صرير الباب التي ظهر من ورائها رجل بزيّ ٍ عسكري ّ ٍ ، وهو يرميني بشرر يتطاير من نظراته التي كانت تلمع بما يدل على أن بيني وبينه حسابا يجب أن يصفى في الحال ، وإلا فلا معنى لأن ْ يركز كل نار حقده عليّ ، كل هذا التركيز الذي يكاد يشعل إهابي:
ـ بريْ أنت في نظر نفسك، إرهابيّ في نظر العالم.
وعرفت أن عينيه استقرأتا بعض خواطري ، أو ربما يكون أراد استباقي إلى القول حتى لا يُسمع في أجواء الغرفة إلا صوتـُه، فما أعجب نزوات هؤلاء حين يعمدون إلى قلب المنطق والطاولة وحقائق الأشياء ، فكيف يتكلم وحده قـُبالة متهم مـُقيد مكمّم ٍ ، كل ما يملكه هو هذا الرصيد المتزايد من البراءة أمام جور قـُـوى وقوانين تجتهد في الالتفاف على حقوق من كان مثلي؟
كانت البزة العسكرية لا تزال تخطو نحوي ،وهي تصرخ:
ـ أأنت هو؟
وقد أعتم جو الغرفة كثيرا، وأصبحت لا ترى فيها إلا الصوت العسكري الذي لا يرتد إلى صاحبه شيءٌ من صداه، بين جدران صماء، داخل فضاء أعمى، وحاولت أن أصدع بما أحبّ قوله، لكن الشريط اللاصق على شفتيّ، منع صوتي من أن يزاحم ذبذبات الوعيد التي تحتل الأرض والهواء، فيرتج لها سمعي، فعادت إلى الصراخ:
ـ حسابي معك عسير، وعقابي شديد.
حاولت أن أحرك شفتيّ ساخرا، فمنع الشريط اللاصق ضحكتي من الانتقال إلى الرجل الذي أراح أذنيه من أية نأمة يمكن أن تصدر عني، إذ كـُمِّمت حتى قبل أن يحضر، وقد استعرض في مجابهتي ، أقسى ما تقوم به بزة عسكرية أمام مستضعف مُـقيَّــد، لا يقوى حتى على فتح فمه ليتساءل عن سبب وجوده في مكان كهذا. ولم استطع أن استرجع شيئا من ذكرياتي ، أو ماضيّ القريب إلا حينما ضغط الرجل على زرّ ٍ بالحائط فأضيئت الغرفة، لأرى أن بالباب امرأة ً عرفتها على الفور ، واتضح لي من يكون ذو البزة العسكرية، شديد البياض جلدة ورأسا، وقد ازداد بدانة إلى درجة أصيح معها قصير القامة، وأن قامة المرأة العجوز قد قصرت أيضا، صحيح أن قامات الناس تقصر كلما تجوزت أعمارهم الستين,
اقتربا مني ليكتسي وجهاهما بأكثر ألوان الامتعاض والغيظ شراسة، رغم أن عينيّ كانتا تضجان بأنين مبين، أكثر مما تستطيع حنجرة أن تفعل.
قالت(غ) :
ـ إنه نفس الجنين،
نفس الوليد.
والبريق الثاقب النظرة في عينيه إنذارٌ بزلزال ٍ أكيد.
وكأن صوتها كان في سمع (ش) صادرا عني، فأطبقت الظلمة دون أن أدري ما إذا كان ذلك بسبب ضغط على زرّ ٍ ، في الأرض أو جدار الغرفة، أو نتيجة انقطاع مفاجيءٍ للتيار.
5 ـ
عدت إلى الصحو لأجد نفسي في مكان ما في البرية، على مرتفع تترامى وراءه ألوان سحر حميميّ، وإلى جانبي أشخاص غلاظ شدادٌ، لا يعصون ذا البزة العسكرية ،والمرأة العجوز ما أمراهم، ويفعلون ما يؤمرون.
صرختْ فيّ َ بزة ٌ أخرى ، وقد تدججت ْ بكل ما استطاعت ارتداءه من ملابس وافية وخوذة خطت رأسها ومعظم وجهها، محتمية بمجنّ ٍ طويل عريض:
ـ لماذا كنت هناك؟ بل فيم وجودك في أي مكان؟
أردت أن أجيب ، لكن فمي كان لا يزال مكمما، فسجل أحدهم في أوراق بين يديه ما أحب ّ َ أن يقوِّلني إياه، وسمعتُ صوت(غ) مرة أخرى وهي تدينني :
ـ جريمتك أنت، أن رأسك سقط على هذه الأرض لمضايقتنا منذ اليوم الأول،
كان بريق عينيّ يحتجّ، ونبضي يرتجّ، وأنفاسي تعلو ، وهم يلوّحون أمام وجهي بكل أنواع الأسلحة والرشاشات الأوتوماتيكية ، ما طاب لهم التلويح، لكن قبل أن يشربوا نخب انتصارهم عليّ، كان دويّ ُ صرختي ينزع عن شفتيّ الشريط اللاصق الذي تطاير متشظيا، فصعق كل من بالمكان:
ـ ماذا تريدون مني ؟
وبكل قسوة وعدوانية أجاب (ش) في عجرفة:
ـ أن تقبل بمشروعنا... مقابل سلامتك
ـ وما مشروعكم؟
ـ أن تنبطح طوعا أو كرها، وأن تذوب في ما نراه لك وما لا نراه... و... و... وظل معجم القسوة يلد من شروط المحو والمصادرة وإملاءات الاستخذاء على لسان (غ) حينا و(ش) حينا آخر، كلمات ومصطلحات تصور حلما مكذوبا ، وأن أسمع ولا أصدم، ولكني من سخريتي من منطق ما يجري كنت أنظر إلى الأعالي ، وأغوص إلى أعماقي حيث تتردد هنا وهناك قهقهات تاريخ عن مهازل تتكرر، سرعان ما تتحول إلى شبيه بكاء هستيري وصرخات احتجاج على من يريد لي أن أرى المقاييس مقلوبة ،والمكاييل مزدوجة ، وأن أراني في قمة هواني على نفسي وعلى الناس ظالما غشوما...

فطفقتً أغوص في التربة ، وخطاب المفاوض يعلو... وحين عمد أحدهم إلى تنبيهي أو استعادتي بوكزي للقضاء عليّ، وجدني كالشجرة انغرست ْ جذورها في الأرض ، ورفتِ أغصانها ، وأثقلت بأزاهير آوت أسراب فراشاتٍ تسقى من عذب رحيقها... فراشات ملونة بصور تصدح بإيقاعات تسحر العين ، والعين تطرب مثل الأذن أحيانا، فامتدت إليّ أنيابٌ من فكّ معدنيّ ٍ بعد أن جيء بجرّافة لاقتلاعي، فلما تعذر عليهم ذلك، لاحتماء جذوري بصخور المرتفع الذي يشرف على أمداء الوطن وأفيائه المغتصبة،شرعوا في إطلاق النار عليّ، فازداد توافد الفراشات في أسراب هائلة تملأ الآفاق...فراشات تتوزع بيضا وسودا في صفاء الفضاء ات وحمرا وخضرا ، بما تتوزع به ألوانها هذه وتلك ساعات أيامي وفصول أعوامي. فتطوق الأشخاص الغلاظ الشداد الذين رغم أنهم فزعوا لم يلقوا بأسلحتهم، وإنما بدوا وكأن اللعبة أعجبتهم، فلجوا في إطلاق النار ، حتى وهم يرون رجالا كثيرا ونساء من أهاليهم يُهرعون إليهم ، ليشاهدوا من يتساقط منا برصاصهم، فيحسبوننا كائنات في أفلام كارتونية ، فيزدادون إعجابا ببطولة العفاريت من صبيتهم، وتزداد أحداقهم حمرة كلما ارتفع عدد الضحايا في صفوفنا، أصبحت أنياب وأظفار جنودهم تقطر دما في مواجهة فراشات جميلة رائعة، كانت إذا أصابتها نيرانهم تتحول طيورا ، ترد هجومهم وهي ترميهم بحجارة مسوَّمة، ليزداد تمسكي بالأرض بينا يرحل دمي في أعماقها سيولا دافقة، ويكبر حبي للطيور العائدة، وأنا أحلق معها في الأعالي... قريبا قريبا للإمساك بما نحلم به جميعا،
ومن فوق ُ ، بصُرنا بالأرض وقد أشرقتْ بخضرة أشجارها ، وبياض أزهارها، وبولادات أحلامها يما كان يجري صاخبا على وجهها ، من دم ٍ صارخ ٍ معلنا رفض ليل الاحتلال .
أحمد بنميمون
Abm_chaouen@yahoo.fr
http://www.abmchaouen.jeeran.com

أضف رد جديد

العودة إلى ”مجلس الأدب“