في سبيل فهم التراث

هذا المجلس لطرح الدراسات والأبحاث.
أضف رد جديد
أمين نايف ذياب
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 70
اشترك في: الجمعة أغسطس 12, 2005 12:25 pm

في سبيل فهم التراث

مشاركة بواسطة أمين نايف ذياب »

في سبيل فهم التراث
الكلام والحديث والنطق واللفظ
الإنسان كائن مفكر ، فالفكر أهم صفة يتميز بها الكائن المعلوم (( البشر)) عن غيره من الكائنات ، بدونه ينزل الإنسان إلى درك الحيوان ، لكن الفرد الإنساني المفكر لا يكتفي بمباشرة التفكير ، بل يحاول نقل فكره إلى غيره من إخوانه من البشر ، هذا النقل هو الذي يجعله إنسانا ، والأداة الأمثل لنقل الأفكار هي الكلام ، والكلام هو الحروف المنظومة والأصوات المقطعة وفق نظام مخصوص ، والإشارة ليست من الكلام ، وإنما هي بديل للكلام ، يلجا إليها في حالات مخصوصة ، هي العجز والأسباب الخاصة ، والمهمل والمستعمل كله كلام ولكن المهمل يجري مجرى العبث حين التكلم به ، بخلاف المستعمل فإن الحكمة لا بد أن تكون واضحة فيه .
والكلام من نعم الله تعالى العظام على الإنسان ، به يتمكن من الإفهام والاستفهام ، ولا يقوم غيره مقامه ، ولا شيء يتسع اتساع الكلام ، للتعبير عن جملة المعاني التي تدور في خلد الإنسان ، فالتلازم بين إنشاء الأفكار إلى كلام أمر لا بد منه .
ومع أن الكتابة أدت ماضيا وحاضرا نفعا عظيما للإنسان ، إلا أن نفعها وفائدتها ترتبت على الفائدة بالكلام والكلام يضاف إلى موجده سواء أكان مسموعا من موجده أو من غيره وسواء أكان مكتوبا أو منطوقا به .
فسماع رائعة مالك بن الريب أو قراءتها من كتاب ، لا يغير من واقع هذه القصيدة إنها له دون غيره . فالكلام لا ينسب إلا لمن أوجده بغض النظر عن الصورة التي أوجده فيها .
والأصل في الكلام أن يكون حقا ، وان يعبر عن حق ، ولهذا وصفت الكتب السماوية المنزلة بأنـها كلام الله ، والكائن الإنساني هو الذي يخرج الكلام عن وظيفته الأصلية ، فيحوله من كلام طيب إلى كلام خبيث ومن كلام صدق إلى كلام كذب ومن كلام حسن إلى كلام سوء ومن كلام عدل إلى كلام ظلم
ومن كلام جميل إلى كلام قبيح .
والحديث وان كان يعبر عنه أيضا بالكلام المسموع أو المكتوب ،إلا إن الحديث لا يعبر عن إنشاء لقائله،وإذ الكلام بالحديث يتعلق بالحادثة والجدة نولكن الحديث من حيث هو حديث لايشترط جدته بل الجديد مجرد الحديث عنه وأغراض الحديث الإنس واللهو والأخبار والحدث ماض أو آت ورؤيا المنام ، ومن هنا افترق الكلام عن الحديث ، ليس من ناحية المعنى فقط بل من ناحية الغرض ومن ناحية الإنشاء،فالجملتان هذا كلام وهذا حديث لا يتطابقان في المعنى .
وما يلاحظ الآن من تغيير في المعنى بالقول هذا كلام ! مع أن المقصود مجرد كلام عديم النفع والفائدة ، فان المراد ليس وصفا للكلام من حيث هو كلام ، بل المراد هو الحالة الفصامية بين المتكلم وبين كلامه ، إذ يقول كلاما متعلقا بالإيمان لكنه من ناحية عملية يفرغ الكلام عن محتواه الإيماني ،أو يقول كلاما يدعو إلى أفعال فتراه أول من أدار ظهره للفعل .
وتحريف الكلام عن موضعه أو تبديله بلاء ابتليت به الإنسانية ، فحرفوا كلام الله عن موضعه بل وبدلوه ، ولا زالوا اليوم وأمس وغدا يمارسون التحريف والتبديل والتحوير وهكذا عمدوا إلى أعظم نعم الله فأفقدوها خاصيتها وميزتها .
وتحريف وتبديل الكلام يؤثر فيما يؤثر على العامة ، فيجعلها ذات عقل منحرف ولا تميز بين الحق والباطل ، وبين الرشد والغي ، وبين الصواب والخطأ وبين الحسن والسوء ، وبين الخير والشر ، وبين الحكمة والعبث ، وبين النافع والضار وبين الصلاح والفساد فيختل عندهم الميزان .
وما اختل ميزان قوم إلا وساروا إلى الهاوية ، وما صلح ميزان قوم إلاّ وساروا نحو العلو والرفعة ، والرقي ، واختلال الميزان أو صلاحه له أصل واحد لا غير هو الكلام ، فصلاح الكلام صلاح لأحوال الناس ، وفساد الكلام فساد الأحوال الناس . ذلك أن الكلام أداة التعبير عن الفكر .

وللناس ستة أحوال في طلب الصلاح هي :-
1- حال الفرد كفرد في الدنيا أي حال عيشه .
2- حال الفرد كفرد في الآخرة أي حال عبادته .
3- حال الفرد في الدنيا والآخرة أي حال عيشه وعبادته .
4- حال المجتمع والفرد جزء منه في الدنيا أي حال نظام المجتمع .
5- حال المجتمع والفرد جزء منه في الآخرة أي حال عبادات المجتمع .
6- حال المجتمع والفرد جزء منه في الدنيا والآخرة أي حال المجتمع على سبيل الشمول .
والحالة السادسة هي الحالة المثلى ، وما عداها من أحوال فهي الغثاء والحالة السادسة تضم الأحوال الخمسة وتحتويها ، وغيرها لا يضمها ولا يحتويها . واللادينيون خارجون عن الأحوال الستة فلا تضمهم إلا حالة العبثية والعدمية وهذه لا تسمى حالة حياة .
والرسل ارسلهم الله بكلامه لجعل الانسانية مجتمعا ودولة وفردا على الحالة السادسة ، والمصلحون نادوا بكلام من عندهم لجعل الانسانية على الصلاح مجتمعا ودولة وفردا على الحالة الرابعة . والمتصوفون والمتعبدون قالوا كلاما من عندهم لجعل الإنسانية على الصلاح مجتمعا ودولة وفردا على الحالة الخامسة ، والأحوال الثلاثة الأخرى مجرد أفراد ذاتيين ، يهتمون بأنفسهم من خلال قوة الغرائز لديهم .
وكلام الله حق يعبر عن فكر حق ، ليس لأنه من الحق بل لأن الناظر العاقل يدرك انه حق إذ يستطيع أن يعلم انه كلام مبني على التوحيد والعدل وهما أي التوحيد والعدل ميزان الإنسان لمعرفة الحق من الباطل .
والحديث أي حديث لا يعرف انه حق إلا بعرضه على كلام الله الحق وكلام الله لا يعرف انه حق إلا بميزان العدل والتوحيد ، ومن هنا تعلم أن الحديث لا يعلم أنه حق إلا بميزان العدل والتوحيد .
والحديث كلمة غير مرادفة للسنة ولا جذرا ولا معنى ولا يوجد قدر مشترك في المعنى بين الكلمتين ، فالحديث متعلق بالأخبار عن أمور ماضية أو آتية ، وقد تكون هذه الأخبار حقا أو باطلا والتي يجعلها حقا أو باطلا هو الميزان (( العدل والتوحيد )) أما السنة فهي تدل على أعمال سبق أن عملت ومطلوب عملها على سبيل المعاودة والاستمرار أما السنة المضافة إلى رسول الله كبيان لما أجمله كلام الله تعالى سواء ورد البيان قولا أو عملا أو إقرارا .أما النطق فهو التصويت بالكلام أو بكلام غيره ولهذا فإن من الغرابة أن يستشهد الأصوليون بقول الله تعالى (()وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم:3- 4) )) ظنا منهم أن هذا دليل على السنة ، إذ المعلوم أن تصويت الرسول بكلام غير القرآن ليس وحيا ،حتى تصويته بالسنة ليس وحيا ، وإنما الوحي هو المعنى فقط ، والدليل للسنة هي أدلة الطاعة للرسول وأدلة التبيين ، والنطق من أفعال بني الإنسان ، والنطق لا يجوز بحق الله تعالى إذ هو من أفعال المحدثين المخلوقين ، فالنطق يحتاج لمحل وحدث ويتغير ويتتابع النطق بالحروف لنكون الكلمة . والله منزه عن الحاجة للمجل والحدوث والتغير ، وأمر تنزيه الله عن النطق يعلم بدون إعمال ذهن المفكر والعالم بل المفكر العادي واللفظ من حيث اللغة أن ترمي بشيء كان في فيك ، ولفظت الشيء رميته ، والدنيا لافظة لأنها ترمي بمن فيها إلى الآخرة والأرض تلفظ الميت إن لم تقبله ورمت به . والبحر يلفظ ما في جوفه إلى الشطوط ومن المعاني الجديدة الاستعمال أن المجتمع يلفظ من لا يرضى عنه خارجه ومثل هذا الاستعمال ليس صحيحا ، لأن المجتمع ليس بطنا على الحقيقة أو على المجاز حتى يستطيع أن يلفظ من يريد لفظه من المجتمع ، وعلاقات المجتمع توصف بالولاية والبراءة والإقبال والأدبار والقبول والرفض .
ولفظ الرجل يعني انه مات ، لأنه لفظ آخر أنفاسه وأرماقه ، وقول الله تعالى ((مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)) (قّ:1 .يعني ما يخرج من كلام من فيه ، واللفظ هنا لا يراد به النطق أي التصويت بالكلام ، وإنما يراد به على ضوء معنى اللفظ إن المراد الأقوال التي تحوي مجازفات لا تجد لها لاقط لأنها من الأقوال الملفوظة أي المرمية فهي تعود على صاحبها باللوم ، ولا تنفع غيره وكون البحر يلفظ النافع والضار على شطوطه لا يعني أن اللفظ من الإنسان فيه النافع والضار بل هو الضار مطلقا ..
والحقيقة التي يراد التوصل إليها تكمن في إدراك الفروق في الجمل البسيطة التالية من خلال عملية تفكيكها :
1 - تكلم احمد في جمع من الناس .
2- حدّث احمد جمع الناس .
3- نطق احمد أمام جمع من الناس .
4- لفظ احمد قولا في جمع من الناس .
في هذه الجمل الأربع اسند الإسلام الكلام والحديث والنطق واللفظ لأحمد في جمع من الناس ولا أظن واحدا يتمتع بقليل من الحس اللغوي يقول بان هذه الجمل تخبر عن معنى واحد مجتمع في كل تفاصيله بحيث يقوم كل فعل مقام الآخر .
إن إدراك الفروق ضروري للفهم ، وبدون إدراك هذه الفروق تختلط الأمور علينا وتتشابك ، فالتفريق في الكلمات وهي مفردات ، والتدقيق في الكلام أي في الجمل والفقرات والسياق ، الربط الوثيق بين الكلام كمعاني وبين الواقع من حيث أن الكلام لا بد أن يدل على واقع ، أو يدعو لإيجاد واقع ،أو استبدال واقع بغيره ، كل هذا يشكل طريقا جليا لتوحيد الأفكار ، وإدراك معاني الأفكار , ومن ثم السير قدما نحو حياة متدفقة حيوية ممتلئة بالعطاء حافلة بمعاني الخير .
من الواضح أن هناك علاقة حيوية بين الفكر والنهضة والكلام ( اللغة ) فبمقدار سعة الوعاء ( اللغة ) وصدق الفكر وحيويته تحدث النهضة ، والتلازم بين الكلام ( اللغة ) والفكر شرط موضوعي لإحداث النهضة واللغة العاجزة جين التعبير عن الأفكار وإدراكها تفشل في إحداث النهضة لأن الأفكار يستحيل تجسيدها في كيان الأمة إلاّ عبر لغتها .
والعرب حين كانوا أهل لغة عربية فصحى على السليقة استوعبوا معاني الأفكار التي جاء بها القرآن بسرعة مذهلة ، وتغيرت حالهم تبعا لتغير أفكارهم ، وحين اختلط العرب بأمم أخرى من خلال الفتح واحتكوا بما لدى هذه الأمم من أفكار ، صارت الحاجة ماسة لوضع قواعد ومعاجم ودراسات في فقه اللغة ، للتمكن من استيعاب الأفكار الجديدة والتراثية ، واتخاذ موقف بشأنها من انتفاع أو رفض وسار الاجتهاد باللغة والاجتهاد بالفكر الإسلامي في خط صامد متلازم .
واللغة العربية اليوم ومنذ الغزو الثقافي تتعرض لهجوم شرس يحاول المهاجمون فيه إقناع الناس بان أحوال الأمة السيئة إنما هو بسبب من لغتها وتراثها ، وبعضهم يزعم وبلا خجل أن في القرآن أيضا يكمن سبب الانحطاط ، ومن يظهر بحسن النية منهم يحاول أن يرى في اللغة العربية لغة العواطف ، والإسلام غلي رأيهم من العواطف أو يراها لغة الأساطير ويدعو إلى قراءة القرآن قراءة السنية أو قراءة تاريخية .
أي إن أي قراءة للقرآن يجب أن تكون محكومة بمرجعية التوحيد والعدل ، بدون هذه المرجعية تتحول الحقائق إلى النسبية وتتحول الأهداف والغايات إلى النفعية ، وتصير الحياة مجرد عبث ، ويتحول المجتمع الإنساني إلى مجتمع من الأسماك ، يلهو ويلعب ويسبح ويتزاوج ويأكل الكبير الصغير ، وتبقى الحياة هكذا حتى يجف البحر .
إن الاستدلال في القرآن على ما يدل عليه ، لا يتأتى إلا لمن علم التوحيد والعدل ، فالتوحيد والعدل وسبيل إثباتهما العقل يجعلنا نعلم ما يجوز عليه تعالى وما لا يجوز ، والذين يزعمون أن القرآن هو الدلالة على التوحيد والعدل ، مثل هذا القول ظاهر الفساد إذ كيف يستدل بكلام من لا يعرفه ، ولا يعلم إن كان ممن يتكلم الحق والباطل ، أو الحق وحده ولهذا لا يعلم أن القرآن حق إلا ممن علم وإذ وجب تقدم معرفة التوحيد والعدل ليعلم بعد ذلك أن كلامه تعالى حق ودلالة فإن الواجب أن يعرض ما في كتاب الله من الآيات الواردة في العدل والتوحيد على علم الإنسان المقدم بالتوحيد والعدل فما وافق التوحيد والعدل العقلين حمل على الظاهر ، وما خالف حمل على المجاز وإلا كان الفرع ناقضا للأصل .

والذين يزعمون أن في القرآن تناقضا ، لا يمكنهم البقاء على هذا الزعم ، إذا ألزمناهم أن آياته المحكمة والمتشابهة لا بد من عرضها على دليل العقول ، أي على التوحيد والعدل ، ليفهم مراد الله فيها والحق جل جلاله توجه بالخطاب إلى أهل العقول دون غيرهم ، شريطة امتلاكهم أداة التعبير القرآني ( اللغة العربية ) .
القرآن الكرم ينبه على ما تعلمه العقول دون الهوى والظن والموروث والتقليد والمغالطات فهذه الخمسة هي التي تفسد العقول وتجعلها ف يمحل الخلاف أو التباين أو التناقض أو التضاد .
إن الاعتماد على اللغة سواء في المفردات وقواعد النحو والإعراب والعناية بالنظم القرآني وضرورة بقاء الصلة اللغوية والمعنوية قائمة بين الآية والآيات وضرورة معرفة البيان العربي في الحقيقة والمجاز ، وإدراك أن مفردات اللغة معقولة المعنى قبل دخولها في التركيب ، كل هذا مع رده إلى التوحيد والعدل يقيم منهجا واضحا للتعامل مع كلام الله تعالى دون تحميلهما لا يجوز في العقل .
الأحد الحادي عشر من محرم الحرام 1412 هـ
وفق الثاني عشر من تموز 992 م .
العقل أول الأدلة فالكتاب فالسنة فالإجماع
الشرع مصلحة للناس
www.almutazela.com

أضف رد جديد

العودة إلى ”مجلس الدراسات والأبحاث“