في الجحيم...أحمد بنميمون

مجلس للمشاركات الأدبية بمختلف أقسامها...
أضف رد جديد
ا ل م
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 10
اشترك في: الجمعة أغسطس 05, 2005 8:10 pm

في الجحيم...أحمد بنميمون

مشاركة بواسطة ا ل م »

ولدت في أعماقها، وكلما تقدمت في الزمن ازددت توغلا في فجاجها ومنحدراتها، وفي كل جهة كنت أرى الناس يتلقون أنواعا من العذاب، بينا كان نصيبي يصلني، فتخترقني سكاكين الانتقام والدناءة، وتمزقني البراثن الفجائعية، وكنت لا أموت في الجحيم ولا أحيى، وما لم أكن أحس وقعه المباشر عليّ ، كانت الأخبار الحادة التي تتكسر على قلبي تحمل إليّ آثاراً عميقة منه، هكذا كنت بعجزي في كل الأوقات، الضحية الحاضرة اللامرئية، المفقودة في المذابح والحروب التي تشن ّ ُعلى جموع أو أقليات، ويندلق من فمي دمٌ، ومن بين أصابعي، ومن كل ما فوقي وتحتي، يتدفق في الكأس، ووعاء الأكل، وفي الهواء، وتتدخل كل الألوان لتصنع المشهد الدموي الباكي، ومواقف عديدة للموت والجلد والنفي والانسحاق، يملأ كل ذلك عليّ حواسي، ويملك جماع مشاعري، لأنني بكليتي سواء انتميت إلى دائرة الضوء أم إلى دائرة الظلمة، مسؤول بشكل أو بآخر، عما يجري .وتصغر أو تعظم مسؤوليتي بقدر ضيقي بالآخرين، أو نفورهم مني، أو بقدر احترامي لما هو مشترك بيننا، لما جعلته باختصار قضيتي العامة، وبحسب ما أوتيت من ضعف أو قوة، في التقوقع داخل الذات، أو التفتـّـح على الموت، في الاتحاد بالعمى المطلق، أو الاستغراق بشهية الشره، في السفر إلى الأعماق التي لا نعود منها، إلا رمادا أو شعاعاً . ومن يكن رمادا يسهل الهوان عليه، والمشعّون يبثون أضواءهم في العقول والوجوه، في الدهاليز والآفاق معاً، ليرسخ الشهداء بعدهم ما بثوهُ، فيبعثوه فعلاً معجزاً، فإن تكن النفوس أول من يبكي، وآخر من يضحك، فلا عجب، فالزوايا أول ما يظلم وآخر ما يضاء، وفي الجحيم كل ما نراه يحيد عنا، ولا نضم أو نعانق إلا الخواء، واحتراقا داخلياً، في مدارات الظمإ، الذي لا ينتهي، فلا ظلام ولا ضياء، ولا انقباض ولا انبساط، ولا بكاء ولا ضحك، إنما توقع قاس للألم في الخطوة المقبلة، والأيام القليلة القادمة احتمال لآلام ٍ لا تتوقـّـف.

مكانك الحالي جحيم المطاردات اللاهثة في واضحة النهار، لا يمكن أن يكون فردوسا للضحية ولا للجلاد، والذين رأوا الفردوس ذات النمارق هنا ذات يوم ٍ، ما لبثوا أن هاجروا إلى أقصى الجهات، والأيام والليالي إن صحّ أن لها طعماً بهذه الديار، فهو طعم الخوف الكبير، لأنك إن كنت مختلفاً، ومغايراً ومتبايناً، فأنت الشهيد القادم. والرقم الجديد الذي سيضاف إلى العدد المتنامي لضحايا يتساقطون في مهرجان المتواليات الدموية، حيث يصلي الجميع مسترحما الغيث :أن ارو شجرة الحرية، ولتستمر مورقة مزهرة، صامدة أمام كل إعصار عبر ديمومة الاستشهاد، ولا تسمق شجرة المقاومة إلا إذا استمرّ المفيئون إلى ظلها في إروائها . فلا تكفّ عن العطاء إلا حين يكفون هم قبلها عن البذل بسخاء، وذلك جدل لا يعيه إلا من يرتبط بالأرض يتقشر جسده في عناقها، فأثناء التهابات الجدب وفي حالات الارتواء , يتجدد ويتفتح .

تكبر النفس في الجحيم، وتستوعب الحقائق المرة، ولا إجابة عن سؤال : لماذا نحن هنا ؟ إلا ضمن ما يثبت صحته التاريخ، ولا يكفي تغيير الجلد، أو الهجرة في الزمان والمكان، أو التنكر بقلب ظهر المجن للتخلص من نفسك القديمة، فالجحيم حقيقتك أينما كنت، فراشك الليلي ولقاؤك مع نصفك الثاني في حب بلا طعم , ومداك اليومي، أنك في الجحيم ولا يجدي البكاء أو الندم، وأن تتجرع المرارة بمقدار أكبر، يسكرك العجز والانتظار، أنت في مواجهة بلا حَـكـَـم يحميك من أي خرق ٍ، فادفع عن نفسك اليأس، فإن استسلمت للانتقام من نفسك بازدرائك إياها، يفرح الخصوم ويطربوا، وإن فعلت تعط الرقابة انتصارا بأن تنوب عنها في تقييد فعلك، وتكميم قولك.

آه ... يا للجحيم، حيث تصير أهدأ العلاقات معربدة ً، وحيث تنتهي إلى التشنج كل المواقف، ويغدو النضال، أيّ نضال ٍ تحريضاً، وكل تقاطع معركة، ويصبح النقيض المتورط في امتصاص دمك احتمالا ًبتفجيرك في الخطوة المقبلة، أو الالتفاتة الآتية، في إقبالك أو إدبارك، في النظرة إلى حيث تقف، يسعى إلى كل أشكال الدسائس ضدك، ولا يكفّ عن الاحتيال والتواطؤ للإيقاع بك، مستخذيا أو ثائراً .

هل ذكرت الخوف، إنه سوط الرقيب المصلتِ عليك، ولسان الإيديولوجيا المتحدث فيك إليك، والموحي بأظلم المغالطات، وعزيمة الخصم وحصانه لاقتحام أسوارك، ,لا شيء يحميك من خصمك إلا قوة تشبثك بقناعاتك المبدئية، التي بها تخرس اللسان الذي يضاعف من أقاويله لتدميرك، لتثبت ... ذلك ما تهتف به في أعماقك الأصوات الآتية من خارج الجحيم، وينضاف إليها صوتك في اقتناع المؤمن : سأثبت، وسأضاعف من صلابتي في كل مواجهة آتية، في حين يتعملق في أحلام خصمك الخوف من أيّ إجماع شعبيّ ٍ يطالب بضمان مصالح الأغلبية، حتى ولو تجلـّى ذلك قي تنظيم ٍ قانوني ، فيضاعف من أساليب قهره إياك، ولا وسيلة له إلا اللجوء إلى الترهيب، والتلويح بالعصا، فهل عاقل يجد لذلك تسويغا أو تبريرا في دولة تريد أن تكون حديثة ً ؟ أم هل يريد لنا خصمنا ألا نرى ولا نسمع، وألا نتكلم ؟ دون أن ندرك ــ نحن وهو ــ أن التهميش ليس سبيلا للتحرير الذي نرومه، بل للاستعباد الذي لا نريده، دون أن نرفع صوتنا مرة واحدة لنقول : احترموا مصالحنا في أوطاننا، واحترموا القوانين، وأوفوا بالعهود والمواثيق .

يتدافع المشعّون في الجحيم نهراً هادئاً، وفي أعماقهم حركة احتفال فرح ٍ بالحياة، في حين تيبس البحار على شفاه الخصوم، وفي فراديسهم الوهمية، ويطلبون النجاة ولا نجاة، فلا تسير بهم سفن مخاوفهم على يبس ٍ يمتدّ ُ ويتسع، من جفاف الضمير، وفظاعة الحلم، وخداع السراب، فقد رأوا أن بإمكانهم الاستمرار رغم النهب، والبقاء رغم الابتزاز، والعيش على ريع يأتي منا موفورا .

وفي أعماق الجحيم تشع الجذور، ولا تسقط الأشجار . ففي خلايا هذا الكائن المستوحش، والذي يدب هنا، ولا تتعرف إلى نوعه، إلا من خلال إصرار رغبة لا تريد الانطفاء في ذهنه، ومن ثمّ فعيناه تتفتحان وتغمضان على نبضات حلم ٍ قديم بالحرية والانطلاق من كل قيد، يظل قلبه يتطلع عاضا بنواجذ الفكر والغريزة عليه، كأمانة بينا يخزه التهاب الجمرات من حوله، فكل ما يحيط به يدعوه إلى الاندماج قي السائد ونسيان الكرامة .

المكان قريبا كان أم بعيدا جمر متقد ٌ، والزمان ماضيا كان أم حاضراً التهابات في النفس، وتعطش متأجـّجٌ إلى كل الآفاق والينابيع والأسرار والكلمات المجنحة .

والرؤى المطلة على المجاهيل الغريبة الآسرة .

نسمي الجحيم أرض الموتى، والمواليد الصم البكم العمي، وخير منهم أحلام منفيين موعودين بالاستقرار الذي لا يأتي، والسكون الذي لا نجده إلا على وجه طلل أو في قرارة ضريح .

وتطلب صهوة ٌ عاصفة ً ولكن ضياع الريشة أن تسافر في الأعاصير.

وتطلب ظهر موج ٍ فتدرك ضعفك أمام إغراءات الأعماق، وأعباء أخرى بلا حدود .

المنفى خيرٌ أم أرض الموتى ؟

يتدفق من عين في بيتي صمت رضى،

وحدي بين الصخر وبين اللاهث منتفعا

تترقب أسئلتي صوتا،

أتحجّـر في أفـُـق ٍ،

الورد يسيّـجه في عينيّ وفي الكفين الحجرُ العاري،

لذوات من خشبٍ وخيانات ٍ فيها النور المتراقص والنبع الجاري،

فهنا ارتجّـت تحت الظلمات جبال ٌ تسكن فقراً قهرّيا، ومنازل من آلام ْ،

وهنا انتفضت أيدي المغضوب عليهم في مذموم الأيام ،

لكن لم يتذبذب في الأعماق الزلزالُ سؤالا ً تنجاب به آفاق الأحلامْْ

***

وحين رأيت الحجر يترقرق مبتسماً، لم أكن أعرف كيف أينعتُ، مستعيداً عنفواني في انفجارات

التحـوّل ِ والغضب باسم هؤلاء الذين أراهم أمامي ، وقد وقع عليهم من شظايا السياط ما يدمي القلب والجبين، وأصناف من الإكراه والاستبداد، وأفانين من الاستعباد، فمن عيني يتدفـق جمرٌ، ومن شفاهي يتصاعد دخان ولهب، وعلى لساني شرار الغضب .

ما الجحيم إذن ؟ حالات رعب لا تنتهي حتى تبدأ حالات توتـّـر ٍ، وحذر اشتعال على مشارف اللحظة المقبلة، بسبب ِ الإرهاب في أبشع أشكاله، الذي يركز حملاته على أعز ما فيك : كرامتك التي تدفعك إلى الاستماتة متشبثا باحترامك لذاتك، فهل هذا سبب كاف ٍ لإدانتك ؟ أم هل هو خوفٌ من أن تتسرب منك إلى المحيطين بك ـ هؤلاء الذين يرسفون في سلاسل طول كل منها ثمانون ألف ذراع ٍ ــ هذه العدوى الغريبة عدوى التحرر من الأوهام والارتقاء إلى معانقة إمكان تحقيق الحرية، وحقوق أخرى، على درب التحرر الكامل الشامل، ما أغرب أن تصبح مدعاة الإدانة، ومبررا للمضايقة والمطاردة، .

أنا معك : قوليها أيتها الجبال المحيطة بي، بكل ما فيك من الحجارة، والجذور الممتدّة منك إلى الجحيم، ومن الجحيم إليك، ليتفجّـر رصيدك الخالد المبذر من الهدير، لإرواء ما يشتعل فينا من الغليل .
سؤال يطارده المنتهى *** وتشعله الحرب والعافيه

أضف رد جديد

العودة إلى ”مجلس الأدب“