السـيــف المســلــول - في الشفاعة والرد على المجسمة

مجلس للحوار والنقاش مع المذاهب الأخرى ( كثيرا من المواضيع والمشاركات فيه يطرحها المخالفين للفكر الزيدي )، فللزائر الباحث عن الفكر الزيدي عليه التوجه لمجلس الدراسات والأبحاث ومجلس الكتب.
أضف رد جديد
لن نذل
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 862
اشترك في: السبت مايو 28, 2005 9:16 pm

السـيــف المســلــول - في الشفاعة والرد على المجسمة

مشاركة بواسطة لن نذل »

السـيــف المســلــول

تأليف
عبد الله بن حسين بن محمد الكبسي الديلمي

تمهيد

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً ، والصلاة والسلام على الرسول الأمين وعلى آله حماة الدين.

وبعد ؛ يقول الله تعالى : (( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَاُخَرُ مُتَشَبِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ )) [ آل عمران : 7 ] .

كان مما ابتلى الله به عباده وامتحنهم أن قرن المحكم بالمتشابه في كتابه الكريم ، وفي ذلك من الفوائد الجمة ما لا يخفى على عاقل ؛ منها تمحيص وتمييز الثابت على الحق من المتزلزل في دينه و الباني لدينه على شفا جرف هار ، ومنها ما في مشقة النظر من الأجر الكبير والثواب العظيم.

وفي هذا الكتاب قام المؤلف أحسن الله جزاءه بتبيين معاني بعض الآيات المتشابهة التي تعلق بها بعض أولي الزيغ والهوى تاركين المحكم من القرآن ، موضحاً معانيها ومفنداً مزاعم المخالفين بحجة قوية وأدلة ظاهرة جلية لا يخالفها بعدُ إلا مكابر للحق.

وما مخالفة طريق الحق إلا ناتج من نواتج هوى النفس الأمارة بالسوء ، لأن الكثير يمنعه تعصبه من الانقياد للدليل ويؤدي به إلى التعنت ومخالفة الحق ، ولكن الواجب على جميع من عرف الحق أن يتبعه أين ما كان وعند من كان فالحق أحق أن يتبع ، نسأل الله أن يهدي قلوبنا وعقولنا إلى الحق ، إنه سميع مجيب .

علو الله عز وجل

قال المخالف : مذهب هؤلاء كما هو مذهب المعتزلة إنكار علو الله تعالى معرضين بذلك عن الأدلة الشرعية والبراهين العقلية التي تدل على علو الله سبحانه ، قال تعالى : (( ءَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ )) [ الملك : 16 ] ، (( وَهْوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ )) [ الأنعام : 18 ] ، والخلق جميعاً يرفعون أيديهم عند الدعاء ويقصدون جهة العلو .

قلت : نحن لا ننكر علو الله الذي هو علو قهرٍ وسلطان ، بل ننكر العلو الحقيقي لأن العلو في المكان ما هو إلا تجسيم وتشبيه لله عز وجل ، والله منزّهٌ عنه.
والذي يدل على أن العلو يُستَعْمَل ويراد به المعنى المجازي أن العرب تقول : الملك أعلى من الوزير ، والمراد علو الأمر والنهي ، يدلك على هذا أن الملك قد يكون في مكان حقيقي أسفل من الوزير ، وقال تعالى حاكياً عن سليمان : (( أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ )) [ النمل : 31 ] أي علو قهر بعدم الامتثال لأمر سليمان عليه السلام ، إذ لا يعقل أنه عليه السلام نهاهم عن العلو الحقيقي.

وقال تعالى : (( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ )) [ القصص : 4 ] ، والمراد أنه لعنه الله تكبّر وتجبر وقهر العباد ، وليس المراد الإخبار أن فرعون لعنه الله اتخذ مكاناً حقيقياً عالياً على الناس ، وقال تعالى : (( وَلاَ تَهِنُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ )) [آل عمران : 139 ].

ولما انتصر المشركون يوم أحد قال أبو سفيان : أُعلُ هُبَل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مُعلماً أصحابَه أن يردوا على أبي سفيان : الله أعلى وأجل . والمراد أن الله أقهر سلطاناً وقدرةً يدلك على هذا أن أبا سفيان كان في أسفل الجبل ورسول الله كان في الأعلى فمراد أبي سفيان أن هبل علا على المسلمين علو قهر بفوز المشركين على المسلمين.

ثم إن من عقائد هؤلاء أن الله ينزل بذاته إلى سماء الدنيا ، ويلزمهم على قولهم هذا أن صفة العلو لله تنتفي عن الله حينما ينزل ، ويلزمهم أن يكون الله تعالى حينما ينزل محصوراً بين طبقتين من العالم ذلك أنهم يقولون إنه ينزل نزولاً حقيقياً ، والنزول كما قال ابن القيم : النزول المعقول عند جميع الأمم هو إنما يكون من علوٍ إلى سُفل () . وقال ابن القيم : إن رسول الله قال في الكتاب الذي كتبه الرب إنه عنده فوق العرش ().

قلت : فهل الكتاب مشاركٌ لله في الفوقية ، وهل الكتاب ليس في جهة ومكان تحيط به فيكون مشاركاً لله في عدم احتياجه إلى مكان وجهة مخلوقين ، ومشاركاً لله في الفوقية والعلو ؟!
وقوله تعالى : (( ءَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ )) [ الملك : 16 ] ؛ المراد ءأمنتم ملائكته الموكلون بالعذاب أن تخسف بكم الأرض أو ءأمنتم مَن مَقدورُه في السماء أن يخسف بكم الأرض ، فالآية لا تدل على أن الله في السماء إذ لو قلنا أنّ الله في السماء لجعلنا السماء تحيط بالله عز وجل ، ولجعلنا السماء أكبر من الله وأقوى من الله بحيث أنها حملته ومحيطة به، ولجعلنا الله عز وجل مادياً جِسْماً تعالى عن ذلك علواً كبيرا.

قال المخالف : إن ( في ) بمعنى على أي ءأمنتم من على السماء ؛ قال تعالى : (( لأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ )) [طه : 71 ] أي على جذوع النخل .
قلت : فليس في ظاهر الآية ما يدل على أنه عز وجل في السماء التي فوق السماوات السبع ، ثم إن قوله : إن ( في ) بمعنى (على) خروجٌ عن الظاهر وتأويل منعتم منه مخالفيكم وأجزتموه لكم ؛ لأن ( في ) تفيد في أصل وضعها الظرفية .

ونقول لكم ما قلتم لنا : هل في ظاهر الآية الضلال بحيث قلتم بأن في بمعنى على ؟
إن قلتم : نعم .
قلت : فلماذا التشنيع على من أوّل اليد بالقدرة أو النعمة وأوّل الوجه بالذات ؟
وإن قلتم : لا .
قلت : فلماذا القول بأن في بمعنى على .
وأما ( في ) في قوله تعالى : (( وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ )) [طه : 71 ] فهي مجاز واستعارة ؛ لأن الاستعارة كما تكون في الأسماء والأفعال تكون في الحروف ، فكيف عدلتم عن الحقيقة إلى المجاز وأنتم ترفضون التأويل وتنكرون المجاز ؟!
إن قلتم : إننا ننكر المجاز في صفات الله .
قلت : فالعلو الحقيقي عندكم صفة وظاهر الآية أنه تعالى في السماء – ولذلك قلتم بأن في بمعنى على - وأن السماء ظرفٌ لله عز وجل .

قال المخالف : إن السماء تطلق ومعناها مطلق العلو ؛ تقول : سما الشئ . أي علا .
قلت : العلو الحقيقي في كلام العرب لا يكون إلا في جهةٍ ومكان لأن العرب تخاطبوا بهذه المفردات من واقعٍ ملموس يعيشونه ، وأما العلو المجازي فصحيح والمراد علو الأمر والنهي .
أما إذا أردت علواً حقيقياً لا في جهة ومكان مخلوقين فهلمّ الدليل على أن العرب ذكروا العلو الحقيقي من دون أن يكون في جهة ومكان ، إذ أن القرآن نزل بلغتهم .
قال المخالف : إنّ رفع المسلم يده إلى السماء يـدل على أن الله في العلو .
قلت : رفع المسلم يده إلى السماء لا يعني أنه عز وجل حال في السماء بإجماع علماء الأمة حتى علماء هذا المخالف ، فهل تقولون إن الله في السماوات السبع ؟!
وأما السماء التي لا تعني السماوات السبع فالمسلمون لا يرفعون أيديهم إلى هذه السماء التي هي عدمية ، لأنك تقول في علو عدمي ومكان عدمي وجهة عدمية ، ذلك أن المسلم لا يرفع يده إلا إلى السماء المخلوقة الظرفية المحيطة بمن داخلها ، فهل الله فيها فيكون محاطاً ؟ والعلو العدمي لا يمكن أن يشار إليه لأنه عدمٌ وغير موجود أصلاً !
فإذا بطل كون الله في مكان تعين أن رفع الأيدي إلى السماء هو لكونها قبلةً للدعاء كما أن الكعبة قبلة للصلاة ، وكما أن توجه المسلم إلى الكعبة وسجوده وركوعه إلى الكعبة لا يعني أن الله في الكعبة كذلك ما نحن فيه .

قال أحمد بن جبريل الكلابي في رسالته في نفي الجهة : وأما رفع الأيدي إلى السماء فذلك لأجل أن السماء منزل البركات والخيرات والأمطار ، والإنسان إذا ألِفَ على حصول الخيرات من جانب مال طبعه إليها ؛ قال تعالى : (( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ )) [الذاريات : 22 ] اهـ .
قلت : أيها الأخوة ؛ كيف سميتم ما وراء العالم علواً مع أنه عدمٌ ؟ وأين كان الله قبل أن يخلق العرش والسماوات والأرض وما بينهن ؟!
إن قلتم : في العلو .
قلت : كيف تقولون علو ولا يوجد سفل ؟
ومن أين لكم أن ما وراء العالم الذي هو عدمٌ يسمّى فوقاً وعلواً حقيقياً من الشرع ؟! ومن أين لكم أن يوجد علوٌ حقيقي في جهة ومكان عدميين من لغة العرب ؟! .
ويلزمك على قولك بأنه فوق العالم أَنْ يكون اللهُ تعالى إمّا أكبر من العالم أو أصغر منه أو مساوياً له ، وهذا كله محالٌ في حقه تعالى، أمْ انك ستكابر العقل القطعي قائلاً من دون كيف مع أن هذا لإلزام حكم عقلي قطعي لا يختلف فيه العقلاء .

إثبات التأويل

اعلم أن أهل السنة والجماعة ينكرون التأويل في القرآن والسنة مع أن كتبهم الحديثية تنص على التأويل ، ويدعون بأن الصحابة لم يؤوّلوا مع أن الصحابة لم يردْ عنهم منع للتأويل أو تحريمه ، ولا نسلم أن عدم ورود أحاديث عنهم يعني تحريمه لأنهم فهموا أن اليد مثلاً في قوله تعالى : (( أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ))[ ص : 75 ] بقدرتي لأنهم عرب والعرب تكلمت بالحقيقة والمجاز ، والحقيقة هنا محالة لأنها تستلزم التجسيم والتشبيه، والقولُ بالمكان العدمي واليد الحقيقية المجهولة الكيف غيرُ معروفٍ في لغتهم لأن العرب لم تتخاطب بيد حقيقية مجهولة لهم ، وبكون اليد والوجه صفة .

ومما يدل على أن التابعين أوّلوها قول ابن جبير : كرسيه علمه () .
وقال البخاري في قوله تعالى : (( كُلُّ شَئٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ )) [ القصص : 88 ] ؛ إلا ملكه () .
وقال زيد بن أسلم : (( إِنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ )) [ يونس : 2 ] ؛ محمد صلى الله عليه وآله وسلم ().
وقال البخاري في قوله تعالى : (( سَنَفْرُغُ لَكُمْ )) [ الرحمن : 31 ] ؛ سنحاسبكم لا يشغله شئ عن شئ وهو معروفٌ في لغة العرب يقال : لأتفرغنّ لك وما به شغل لآخذنك على غرتك () . وقال في الكبرياء : الملك () . وقال في قوله تعالى : (( آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا )) [ هود : 56 ] ؛ أي في ملكه وسلطانه () .
وقال في قوله تعالى : (( لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ )) [ الروم :30 ] ؛ أي لدين الله () . وقال في قوله تعالى : (( نَنسَاكُمْ )) [ الجاثية : 34 ] ؛ نترككم () .
قال النووي : قوله صلى الله عليه وآله وسلم إن الله تعالى ليس بأعور معناه أن الله منزه عن سمات الحدوث وعن جميع النقائص ، وأن الدجال مخلوق من خلق الله تعالى ناقص الصورة .
وقال النووي في شرح مسلم : قوله صلى الله عليه وآله وسلم : فلا يزال يدعو حتى يضحك الله منه . قال العلماء : ضحك الله تعالى هو رضاه بفعل عبد ومحبته إياه وإظهار نعمته عليه () .
وقال : وأما إطلاق اليدين لله فمتأولٌ على القدرة وكنى عن ذلك باليدين لأن أفعالنا تقع باليدين فخوطبنا بما نفهمه () .
وقال : إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يميناً إلى آخره؛ قال ابن عرفة: وكلتا يديه يمين فتشبيه على أنه ليس المراد باليمين الجارحة () .
وقال النووي : يقرب المؤمن يوم القيامة من ربه دنوّ كرامةٍ وإحسان لا دنو مسافة إنه سبحانه منزهٌ عن المسافة () .
وقال القسطلاني : الغضب في المخلوقين شئ يداخل قلوبهم ولا يليق أن يوصف الباري تعالى بذلك فيؤول ذلك على ما يليق به تعالى متحمل على آثاره ولوازمه () .
وقال : عن مالك أنه أوّل النزول بنزول رحمته تعالى وأمره أو ملائكته () .
وقال : قوله تعالى : (( يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ )) [ الفتح : 10 ] يريد أن يد رسول الله صلى الله عليه وآله التي تعلو أيدي المبايعين هي يد الله ، وهو سبحانه منزهٌ عن الجوارح وصفات الأجسام ، وإنما المعنى تقرير أن عقد الميثاق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم كعقده مع الله () .

وقال شارح العقيدة الطحاوية : وإحاطته عظمته .
قلت : وهذا تأويلٌ عابوا به خصومهم .
قال الألباني معلّقاً : وهو من التأويل الذي ينقمه الشارح مع أنه لا بد منه أحياناً () .
قلت : كيف جاز لكم التأويل وهو محرمٌ عندكم، مع انه في باب الصفات على حد زعمكم.

آية الاستواء

قال المخالف مستدلاً على أن الله استوى على العرش استواءً حقيقياً : إن العلماء أجمعوا على أن الله ذكر أنه استوى على العرش في مواضع كثيرة .
قلت : ليس محل النزاع ورود الآيات بلفظ استوى ، فنحن لا ننكر ذلك ، بل من أنكر هذه الآيات فهو كافرٌ ، وإنما محل النزاع هل هي على حقيقتها أو على المجاز ! وعلى هذا فلا إجماع في تفسير الاستواء بمعنى الارتفاع حقيقة ، كيف ونحن الزيدية والأشعرية والمعتزلة والإمامية والأباضية لم يقولوا إلا أن معنى استوى استولى ، فأين الإجماع؟ أم أن الإجماع هو إجماع فرقتك والمسلمون غيركم كفار .

وإذا سلمنا جدلاً أنهم أجمعوا على أن استولى لا يأتي بمعنى الاستيلاء ؛ فيمكن أن تكون الآية استعارة مركبة نحو أراك تقدم رِجلاً وتؤخر أحرى، هذا والأول الذي هو : أن العرض هو الملك هو الصحيح لمن تأمل.

وأما قول المخالف : إن لفظ الاستواء إذا قُيّد بـ( على ) فإن معناه الارتفاع والعلو بإجماع أهل اللغة فباطلٌ إن أراد الارتفاع والعلو المكاني الحقيقي في أي لفظ لأن الجوهري نص في الصحاح على أن الاستواء يأتي بمعنى الإستيلاء وإن عُدِّي بعلى ، واستشهد صحاب الصحاح الذي هو من أئمة اللغة بقول الشاعر :
من غير سيفٍ ودمٍ مهراقِ

قد استوى بشرٌ على العراق

وهذا الشعر الذي هو من لغة العرب يدل على أن الاستواء هنا بمعنى الاستيلاء لأن القول بأن الاستواء هنا حقيقةٌ محالٌ ؛ إذ كيف يستقر بشرٌ على دولة العراق حقيقة ! بل المراد أنه استولى على العراق من غير نزاعٍ ، فأين إجماع أهل اللغة ؟ أم أنه استقرار يليق بجلالة بشر؟!!

ثم كيف تقول أجمعوا ثم تنص على واحد تزعم أنه أنكر وجود استوى بمعنى استولى مع أن إنكاره لا يضر إذ كان المثبت له دليلٌ على قوله، ومع إننا إذا سلمنا فلم يجمعوا بأن معناه الارتفاع حقيقة وإذا قلت بل على حقيقته، قلنا: وبملامسة من دون انفصال بحيث يكون آخر جزء ملامس لأول جزء من الشيء المرتفع، ثم هل عندك أن استواء الله كاستواء المرء على ظهر الحمير ؟ لأن الاستواء على ظهر الحمير هو بملامسة وفي مكان وجهة فهل تقول كذلك في الله ؟ إن قلت : نعم ؛ كفرت ، وإن قلت : لا ؛ فكيف صح لك الاستشهاد بالآيتين وبقوله تعالى : (( وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ )) [ هود : 44 ] إذ ليس معنى ارتفاعها وعلوها مطلق الارتفاع والعلو ، بل ارتفاعها مع الملامسة وكونها في جهة ومكان الذي هو الجبل المعروف بالجودي في العراق .

قال المخالف : ولم يذكر في موضع واحد أن معناه استولى .
قلت : قد ذكر الله أنه نزل القرآن بلسان عربي مبين ، والعرب تخاطب بالحقيقة والمجاز ، وحقيقة الاستواء الذي هو القعود محال في حق الله والقعود المكيف بكيف مجهول غير معروفٍ في لغة العرب وغير معقول أيضاً.

قال المخالف ناقلاً عن أبي الحسن الأشعري : ولو كان هذا كما قالوا لكان لا فرق بين العرش والأرض السابعة ، فلو كان الله مستوياً على العرش بمعنى الاستيلاء والقدرة لكان كل شئ تحت قدرته واستيلاءه .
قلت : الاستواء بمعنى الاستيلاء ، والعرش هو الملك ، فالسماوات والأرض وما فيهن وما بينهن ملكوته، ولهذا فالله مستوٍ على عرشه أي مستولٍ على ملكوته بالأمر والنهي ، والمراد بالاستيلاء تصرفه في الكون أمراً ونهياً ، وليس المراد بالعرش العرش الحقيقي على ما يقول ابن تيمية أنه كروي وأن العرش موجود مع الله في الأزل ؛ لأن هذا يؤدي إلى كون العرش أزلياً قديماً ، والمعلوم أنه لا قديم إلا الله ، ويمكن أنه أراد عز وجل أنه مستولٍ على أعظم شئ من مخلوقاته الذي هو العرش الذي يدل ضرورةً على أنه مستوٍ على ما دونه وهذا على قول من قال بأن العرش حقيقي من دون أن يقول إن الله مستوٍ عليه حقيقة بل مستول عليه، مع أنه قبلةٌ للملائكة عندهم مستدلين بقوله تعالى : (( وَتَرَى الْمَلآئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ )) [ الزمر : 75 ] .

قال المخالف : فيلزم أن يكون العرش قبل تمام خلق السماوات والأرض لغير الله .
قلت : هذا الكلام الحاصل من المخالف ناتج عن توهمه أن الاستيلاء يدل على أن الله أخذ العرش من غيره وبالتالي يكون العرش قبل ذلك مع هذا الغير، وهذا الكلام غير صحيح لأن الاستيلاء لا يدل على ذلك ولو لم يكن هنالك إلا قرينة العقل لكفى، إذ العرض عندنا هو المُلك الذي يدل على الأمر والنهي ، والمعلوم عقلاً ونقلاً أن مَنْ له الأمر والنهي هو الله.
وعلى قول مَنْ قال أن العرش قبلة للملائكة فأن الاستيلاء لا يدل على ماقاله المخالف لأن الله عَبّرَ بالاستيلاء عن كونه قهاراً كما قال تعالى (( لمن الملك اليوم)) فلا يدل التقييد باليوم انه قبل ذلك اليوم كان لغيره فتأمل.

قال المخالف : إن الغالب من كلمة استولى أنها لا تكون إلا بعد مغالبة ، فمن الذي غالب الله على العرش حتى أخذه الله منه واستولى عليه ؟
قلت : هذا اعترافٌ منه أن كلمة استولى لا تكون في جميع حالاتها للمغالبة ، ولهذا نقول : إن المراد بالاستيلاء هو عدم المغالبة لأن لفظة استولى لا تعني باعترافه المغالبة في كل حالاتها للمغالبة ، بل في الغالب فقط ، ويدلك على عدم كونها للمغالبة قول الشاعر العربي كما نقله صاحب الصحاح في مادة سوى :
مِن غَيرِ سَيفٍ ودمٍ مهراقِ ***قَدِ اسْتوى بِشْرٌ على العراقِ

فقول الشاعر من غير سيفٍ ودم مهراق نص على أن لفظة استوى التي بمعنى استولى من دون مغالبة ، والمعلوم أن القرآن نزل بلسان عربي مبين وهذا شاعرٌ عربي .

فإن قيل : إن الشاعر نصراني .
قلت : نحن نحتج بلغته التي هي لغة العرب ، ولهذا ترى علماء العربية يحتجون بأقوال المشركين العرب ، فما بالك بأقوال النصارى العرب؟ ثم إن البخاري في صحيحه احتج بقول امرئ القيس وهو مشرك ، وما أوردناه هو قول أحد أئمة اللغة وهو الجوهري صاحب الصحاح وكذا قول صاحب القاموس مجد الدين الفيروز آبادي بأن استوى تأتي بمعنى استولى .
وقال تعالى (( وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ )) [ يوسف : 21 ] ؛ فهل هذه الآية تدل على المغالبة والمقاومة ؟‍ المعلوم قطعاً عدم دلالتها وإلا فمن هو الذي تغالب هو والله ، نعم لا تدل على المغالبة ولا تعلم الآية بذلك فكذلك آيات الاستواء التي بمعنى الاستيلاء .

والقول بأن الله لا بدّ له من مكان وعلو ، ولا بُدَّ له من استواءٍ على العرش استواء حقيقياً يُبطل كونه تعالى غنياً لأن الغني لا يحتاج وأنتم جعلتم الله في مكان وجهة وأنه مستوٍ على العرش استواء حقيقياً يليق بجلاله، وجعلتم من المحال أن لا يكون في مكان وجهه وأن يكون غير متصف بالعلو الحقيقي المكاني.

وقولهم : إنه ينزل بذاته . يصادم ما قالوه من أنه في جهة العلو إذ يلزم منه أن تنتفي عنه هذه الصفة حين ينزل ، ويلزم منه أيضاً أنه - تعالى عما يقولون - يصغر حجمه ، ويلزمهم على قولهم - تعالى الله عما يصفون - أنه يصعد بذاته أنه يكبر عند الصعود ، فيكون متغيّراً من حال إلى حال ، وهذه الإلزامات لازمة عليهم لأنهم يقولون ينزل بذاته ويصعد بذاته نزولاً وصعوداً يليق بجلاله ، وعدم اعترافهم بهذه الإلزامات لا يضر لأنها لازمةٌ لقولهم ، وهي لوازم قطعية عقلية ، وعدم اعترافهم بهذه الإلزامات كعدم اعتراف النصارى بإلزامات المسلمين لهم في قولهم بأن عيسى البشري إله .

عدم تصور الشئ لا يعني عدم تعقله :

اعلم أيها المستحق للخطاب أن نفي المكانية لله لا يعني نفي وجود الله لأنه لا تلازم في حق الله بين إثبات المكان لله وإثبات الوجود بل بينهما تضاد ، يوضح ذلك أن المكان مخلوقٌ لله وما كان مخلوقاً فلا بد لأن يتقدم خالقُه عليه ، وهذا يعني أن الخالق قبل خلقه للمكان لم يكن في مكان فهو عز وجل كان موجوداً لا في مكان، ولا يمكن أن يكون في مكان بعد أن يخلق المكان لأن التغير والتبدل من صفات المخلوق ولأنه تعالى غني عن المكان والزمان .

والقول بأن الله في مكان فيه إثبات لأزلية المكان والدليل دل على أنه لا قديم إلا الله ، وعدم تصور كون الله لا في مكان لا يعني أن نفي المكان لله أمر لا يعقل لأن لا تلازم بين عدم التصور وعدم التعقل ، فكما أن الإنسان لا يمكن أن يتصور موجوداً لا خالق له ولا يحتاج ولا يفنى فلا يمكنه أن يتصور عدم كون الله في مكان ، وكما أن عدم تصور وجود شئ لا خالق له ولا يحتاج لا يعني عدم تعقله فكذلك عدم تصور كون الله لا في مكان لا يعني عدم تعقله ، والقول بالمكان العدمي سخافة لأن العدم لا شئ ولا يمكن أن يوصف أو يشار إليه .

آيات اليد

قال المخالف : ثانياً تحريف صفة اليد لله سبحانه وتعالى إلى النعمة والقدرة .. إلى أن قال المخالف : إن الأصل في نصوص الصفات الحمل على الحقيقة لا على المجاز .
قلت : من أين لك أنها صفات حتى تحملها على الحقيقة؟!! إننا نتنازع حول هذه الآيات آيات اليد والرجل والساق والجنب هل هي على حقيقتها أم أنها مجاز فيكون الرد من هذا المخالف والاستدلال منه علينا بنفس ما نتنازع فيه .
ثم إن قوله إن الأصل حملها على الحقيقة باطل لأن الحقيقة هي أن اليد هي الجارحة كما نص عليه صاحب القاموس والصحاح في مادة يدى ؛ فهل يدُ الله عندكم هي هذه الجارحة ؟ وليس في لغة العرب أن اليد وضعت لصفة ومجهولة لهم.
ثم كيف تقولون إنّ الأصل في الصفات الحقيقة مع أن مفردات اللغة في أصل وضعها وُضِعت لمعانٍ وأرضية بشرية ؛ فكيف نطبقها على حقيقتها على الله ؟!

قال المخالف : إنَّ اليدَ وإنْ أَتَتْ في اللغة بمعنى القدرة والنعمة إلا أن حملها هنا على ذلك يستحيل لأنه تعالى قال : (( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ )) [ المائدة : 64 ] فهل له نعمتان فقط مع أن نعم الله لا تحصى ، وقدرة الله واحدة .
قلت : أن العرب تقول : ما لي بفلان يدان . أي طاقة ، ويقال : هذا ما قدّمت يداك . أي ما قدّمْتَه أنت ، كما يقال : ما جنَت يداك . أي ما جنيته أنت ؛ انظر مادة يدى في مختار الصحاح ص741-742 .
قال النووي في شرح مسلم : وأما إطلاق اليدين لله تعالى فمتأول على القدرة ، وكنى عن ذلك لأن أفعالنا تقع باليدين فخوطبنا بما نفهمه () . انتهى كلامه رحمه الله .

قال المخالف : فأقرهم الله [ أي اليهود ] في وصفهم له بأن له يداً .
قلت : تكلمت اليهود بلغة العرب ، والعرب تكني باليد عن النعمة وبالقبض عن الحرمان والبخل ، فلماذا ينكر عليهم الوضع اللغوي المستعمل في غير الحقيقة ؟!
نعم ؛ أنكر عليهم القول بأن الله لا ينفق فقال : (( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ )) [ المائدة : 64 ] أي نعمته كما تقدم من أن العرب تثني والمراد النعمة أو القدرة لا غير مع جواز أن يقال إن يداه نعمته وقدرته ، وكل هذا من لغة العرب .
ومما يدل على أن اليدين في الآية مجاز قوله تعالى : (( غُلَّتْ أَيْدِهِمْ )) [ المائدة : 64 ] فالمراد الدعاء عليهم بالبخل فاليد المضافة إلى اليهود مجاز ، وليس المراد أن أيديهم مغلولة حقيقة ، فكيف يكون قوله (( يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ )) [ المائدة : 64 ] حقيقة وفي الآية() الأولى مجاز ؟!

قال المخالف : ولو كان المراد النعمة أو القدرة لما كان لآدم فضل على إبليس فإنه أيضاً خلق بقدرته .
قلت : أخرج البخاري في كتاب التفسير باب تفسير سورة الإسراء أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : فيأتون آدم فيقولون : أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه ...إلخ () . فذكر الحديث أن الناس يأتون إلى آدم ويقولون له بأن الله خلقك بيده ونفخ فيك من روحه مع قوله تعالى : (( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي )) [ الحجر : 29 ] ؛ فهل هذا اختصاص لآدم حقيقة مع أن الله قال في مريم (ع) : (( وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا )) [ الأنبياء : 91 ] وعلى هذا نقول : كيف سألوا آدم عليه السلام وخصّوه بشئٍ موجود لدى غيره كمريم عليها السلام .

فإذا عرفت أن المراد بقوله تعالى : (( لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ )) [ ص : 75 ] أي بقدرتي أي لمصنوع ومخلوق من مخلوقاتي ، وليس المراد الاختصاص بدليل أن الناس سألوا آدم الشفاعة وذكروا له شيئاً موجوداً لدى غيره الذي هو نفخ الروح ؛ إذ أن الله نفخ في مريم ، وإلا فيلزم أن يكون آدم (ع) أفضل من نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه لم يخلقه الله بيده ، والأمة مجمعة على أن محمداً عليه وآله أفضل الصلاة والسلام أفضل الأنبياء.
ومما يدل على عدم اختصاص آدم وعدم كون اليد حقيقة قوله تعالى : (( أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ )) [ يس : 71 ] ؛ فالآية صريحة في أن الله خلق الأنعام بيده أي بقدرته ، والأيدي هنا جمع يد .

قال المخالف : لما كان لآدم فضل على إبليس.
قُلت : لم يأمر الله الملائكة وابليس ان يسجدوا لآدم لأنَّ آدم مفضلٌ عليهم وذلك لأن سجودهم لآدم عليه السلام ليس شكراً لنعمة قَدّمها آدم عليه السلام لهم بحيث يستوجب شكره ، حتى ولو كان آدم أفضل منهم من ناحية الخلق فأن الموجد لذلك الخلق هو الله .
فلا علاقة إذاً بين أمر الله الملائكة بالسجود لآدم وبين كونه مفضلاً عليهم وتخصيص الله السجود لآدم لحكمة وليست لأنه مخلوق من مخلوقات الله حتى يُقال انهم مخلوقون كذلك .
مع انه لو قيل بأن معنى بيديّ أي لمخلوقٍ عجيب خُلِقَ ابتداءًً على صورته هذه من دون أن يَمر بمراحل النطفة والعلقة والطفولة وما أشبه ذلك ، هذا المخلوق بقدرتي لما كان بعيداً من دون أن تكون علة السجود إذ لا علاقة .
ثم من هو الذي كان يمسك السماوات والأرض أن تقع أثناء خلق الله لآدم بيديه ؟ وهل عجزَّ أن يخلق آدم على تلك الهيئة من دون يدٍ

قال المخالف : إن الفعل عُدّي إلى اليدين ثم أدخل الباء وهذا نصٌ صريح ...إلخ .
قلت : القرينة تخرج اللفظ من حقيقته إلى مجازه ؛ مثل قولنا : رأيت أسداً ونحن نُشِيْر إلى رجل، وقولنا: رأيت أسداً مع عدم وجود قرينة ؛ فالقولان متفقان في اللفظ مع أن أحدهما مجاز والآخر حقيقة ، والتفرقة بينهما كانت بالقرينة، والقرينة تكون عقلية ولفظية وحاليّة، وفي مثالنا القرينة حاليّة ، ولو قلنا بالحقيقة هنا لزِم أن اليد هي الجارحة المكيفة بكيف معلوم ، والكيف المجهول غير معلوم في لغة العرب .
ويلزمكم على قواعدكم المنهارة المنهدمة في قوله تعالى : (( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي )) [ الحجر : 29 ] أن يكون لله نفخ لأنه أضاف النفخ إلى نفسه فقال : (( نَفَخْتُ )) وَرُوْحٌ لأنه أضاف الروح إلى نفسه فقال ((رُُّوْحي)) فأضاف الروح إلى نفسه مع إجماع الأمة على أن الروح مخلوقة ، فهل الروح الذي نفخ فيها في آدم روح قديمة عندكم أم مخلوقة ؟! فتأمل...

قال المخالف : وماذا يقولون في قوله تعالى : (( وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ )) [ الزمر : 67 ] هل المراد مطويات في نعمته ؟
قلت : إننا نقول بقدرته وقوته ؟! وأن العرب تعبّر باليمين عن القوة ، وأن المراد بالآية أن قدرته نافذة وأنه لا يعجزه شئ ؛ قال تعالى : (( تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ )) [ الصافات : 28 ] ، قال في القاموس : أي تخدعوننا بأقوى الأسباب انتهى . وانظر كلام صاحب الصحاح ، وهل عند هؤلاء المخالفين أن لله يدين يمين وشمال ؟!! قالت العرب : فلانٌ في يمين فلان . أي متنفذٌ عليه بالأمر والنهي .
وأتمنى منهم أن يفسروا قوله تعالى : (( لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ )) [ فصلت : 42 ] وقوله تعالى : (( بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ )) [ الأعراف : 57 ] وقوله تعالى : (( بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ )) [ سبأ : 46 ] ، فهؤلاء المجسمة ينكرون المجاز في القرآن والسنة ، وعليه نقول : هل للقرآن يدان ؟! وكذا العذاب والرحمة يا هؤلاء؟!!

قال المخالف : وليعلم أن مجئ اليد بمعنى النعمة أو القدرة في لغة العرب هو خلاف الأصل ولا بد فيه من القرائن.
قلت : اليد في الحقيقة هي الجارحة التي لها كيفٌ معلوم ، وليس في لغة العرب يدٌ حقيقية ليس لها كيف معلوم ، وعلى هذا نقول قال تعالى : (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئٌ )) [ الشورى : 11 ] ، واليد شئ والله نفى أن يكون له مثلٌ من أي الأشياء ، وقال تعالى : (( لَمْ يَكُن لَّه كُفُؤاً أَحَدٌ )) [ الإخلاص : 4 ] ؛ فنفى عن نفسه أن يكون له مكافئ ، والعقل ناطق بأن الأعضاء والجوارح أجسام مخلوقة ، واليد في اللغة وفي حقيقتها هي الجارحة، و العرب لم يعرفوا ولم يضعوا في قاموسهم ولم يستعملوا في لغتهم يداً حقيقية وأرادوا بها يد الله عز وجل، فهذه هي القرائن العقلية والنقلية.

فإن قيل: المراد ليس لذاته ولا صفاته مثلٌ؟
قلت : كلامنا مبنيٌ على أن العرب لم يعرفوا يداً ولا رجلاً وساقاً وجنباً بمعنى صفة، وأن العرب حصرت لفظ اليد في الجارحة والقدرة والنعمة ، وأن العرب لا تعرف ولم تستعمل لفظ اليد مريدة الحقيقة من دون كيف لتلك اليد، وأن الشارع لم يذكر أن لله يداً حقيقية، وأن الشارع لم يذكر أن لله يداً بكيفٍ مجهولٍ، وأن الشارع لم يذكر أن اليد وغيرها صفات، وأن العقل ينكر التركيب في حقه تعالى، وأن العقل ينكر وجود الكيف في حقه تعالى سواء كان معلوماً أم مجهولاً، وأن العقل ينكر إمكان التركيب وإمكان الكيف في حقه تعالى، فعليكم أن تثبتوا ما أنكرناه، ثم تثبتوا أن الذات غير والصفة غير آخر.

ثم كيف تجمعون بين كون يده تعالى مبسوطة وكون يده تعالى فوق أيدي أهل بيعة الرضوان وكون يده ممسكة للسموات والأرض أن تقع وبين خلق آدم بيده؟!! فهل كانت يد الله فوق أيدي أهل بيعة الرضوان مع كون راحته إلى جهة أسفل وهل كانت يداه مبسوطة وراحته إلى جهة أعلى؟ ثم كيف ينفق تعالى بيده فهل أعطى اللهُ بيده الحقيقية أحداً شيئاً؟ أم أنه بلا كيف؟ فما معنى أنه ينفد بيده الحقيقية؟ اذكروا المعنى والحقيقة من تلك الجملة واتركوا الكيف، أم أنكم تجهلون المعنى الحقيقي والكيف، وماهو الفرق بين المعنى الحقيقي والكيف؟!!

آيات الوجه

قلت : قال تعالى : (( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ )) [ الرحمن : 27 ] ؛ أي يبقى الله ربُّنا ورب محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم ، فرفع (( ذُو )) لأن المراد بالوجه الله عز وحل الذي هو ربنا جل جلاله ؛ يقال : جاء زيدٌ وجهه . أي جاء هو لا غيره .
فمن أثبت لله عز وجل وجهاً حقيقياً وصفةً له على حد زعمه فيلزمه أن لا يبقى ذات الله بل تبقى صفة الوجه فقط ، وهذا هو الكفر بعينه .

فإن قالوا : يبقى الوجه مع الذات .
قلت : من أين لكم أن الوجه لا يعني الذات ، ثم إن قولكم هذا تأويل وأنتم حرّمتم التأويل ، فمن أين عرفتم بقاء الذات مع الوجه ؟! لأن الآية تنص على بقاء الوجه فقط !
وقال تعالى : (( كُلُّ شَئٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ )) [ القصص : 88 ] فيلزمكم اضمحلال الذات واليد والرجل والساق والجنب إلا الوجه التي هي صفة عندكم .

فإن قالوا : إن المراد كل شئ هالك إلا الله المتصف بأن له وجهاً .
قلت : فيلزم اضمحلال الصفات التي هي عندكم اليد والرجل والساق عدا الذات التي لها وجه ، وما الفائدة من التنصيص على ذكر الوجه مع بقاء الذات والوجه؟ ويكون هلاك بقية الصفات هلاكاً يليق بجلاله؟!

وقولهم : إن صفة الوجه غير صفة اليد وغير صفة الساق وغير صفة القدم . فيه إثبات للأجزاء ؛ لأن لفظة ( غير ) لا تكون إلا بين شيئين ، وهو إثبات للتعدد ، والتعدد شرك ، وهلمَّ الدليل على وجود الصفات والمعاني التي زعمتم (( قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ )) [ البقرة : 111 ] .
ثم إن قولكم إن هذه الصفات التي زعمتم قائمة بالله وبذاته تصريح بحلولها في ذاته تعالى ، والحلول من صفات الأجسام والله منزه عنها، أم أنه حلولٌ يليق بجلاله تعالى.
واعلم أن صفات الله من كونه عالماً وقادراً وحياً وأزلياً هي ذاته لا غير ، بمعنى أنه لا يستحقها لفاعل أو معنى وليس المراد أنها غير الله أو أنها حالة في الله فمثلاً الإنسان لا يستطيع القيام إلا إذا كانت فيه صفة القدرة وهي غير الإنسان بدليل أن ذات الإنسان موجودة ومفقودة فيه صفة القدرة كالمشلول ، أما الله عز وجل فقادر من دون هذه الأشياء ، فتأمل هذه الفائدة فهي تفيدك .

قال المخالف : أن نثبت أن لله وجهاً حقيقياً.
قلت : يا ترى ما هو هذا الوجه الحقيقي وما مرادكم بقولكم حقيقياً ؟!!
واعلم أن هؤلاء المخالفين يأخذون بالأحاديث الظنية التي يمكن أن يسهو فيها العدل الثقة أو أن يخطئ ، مع أن المطلوب في أصول الدين العلم اليقيني ، أما فروع الدين فيكفي فيها الظن ، لأن المطلوب في أصول الدين الاعتقاد أما فروعه فالمطلوب فيها العمل ، وبهذا تعلم أن دين هؤلاء ظني، بل إن من شروط صحة الحديث الآحادي أن لا يستلزم الشهرة فإذا استلزمها ولم يشتهر فلا يفيد لا علماً ولا ظناً.

ولهذا قلت : لو جاء لك حديث ظني يزعم قائله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال بأن لله فرجاً لا كالفروج فماذا ستقول ؟!! فانقطع المخالف !!
واعلم أنهم يجوزون أن يُرى الله في المنام ، وهذا القول دليلٌ قطعي على أنهم مجسمة على الحقيقة ، وأنهم لا يقولون بكلام غير معقول فقط بل يصرحون بالتجسيم لأن الرؤية المَنامِيَّة لربهم لن تكون إلا بكيف معلوم للرائي .

نداء ودعوة إلى الرجوع إلى الحق


أيها الأخوة ؛ إنكم حينما تقولون إن لله يداً ورجلاً وعيناً وساقاً وجنباً وقدماً ووجهاً قد شبهتم الله بخلقه فجعلتم الله جسماً .

قالوا : نحن لسنا مشبهة ، والله لا يشبهه شئ بل إن المشبه كافرٌ .
قلنا : إنكم رفضتم تأويل اليد بالنعمة أو القدرة ، ورفضتم تأويل الوجه بالذات ، وأنكرتم المجاز ، ولم تفوضوا ، وقلتم بأن لله يدين حقيقيتين كريمتين ، ويمكن أن يشار إلى الله ، وأن له وجهاً حقيقياً ، وعلى هذا فقد وقعتم في التشبيه .

قالوا : لا ؛ (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئٌ )) [ الشورى : 11 ] نحن نرفض التأويل والتفويض ، ونقرّ بظاهر الحديث أو الآية الحسي الحقيقي من يدٍ ورجل وساق وقدم وجنب ، ونرفض كذلك التشبيه .
قلنا : أيها العقلاء ؛ بالله عليكم كيف لا تعتقدون التجسيم وأنتم تقولون إن له يَدَين حقيقيتين ، وأنه ينزل بذاته ، وقلتم بأنه على العرش مستوٍ استواء حقيقياً ، وأن هذا العرش كالقبة ؛ فيكون الله كروياً ! وتقولون بأنه يصعد بذاته ، ثم لماذا النزول ؟ وأي فائدة في نزوله وهو يمكنه أن ينادينا على العرش أو على السماء العليا على حد زعمكم !! وهل منا من يسمع ندائه حين يقول هل من مستغفر فأغفر له ؟!

قالوا : نحن نقول في كل ذلك بما يليق بجلاله .
قلت : ما أسهل الأمر عليكم أيها الأخوة ؛ كل الإلزامات العقلية والنقلية من الحدوث والجسمانية والعرضية ومن الحلول والصغر والكبر والانتقال والقعود والأعضاء والجوارح والتغير من صورة إلى أخرى يتم حلها عندكم بقولكم كما يليق بجلاله !!!
أي جلالٍ بقي لله وأنتم تقولون بأنه يضع قدمه في النار ، وأن النار تنزوي لأجل أنه وضع قدمه فيها ؟!

أتعقلون أنكم تجعلون القدم محسوساً جسماً بحيث أن بعض النار تنزوي ! وتجعلون الله عز وجل أو صفته كما تقولون تحُل في مكان الذي هو النار ! ويتم حل ذلك بقولكم تليق بجلاله ؟!!

أيها الأخوة ؛ انتبهوا من هذا التجسيم وإن قلتم إنكم لستم مجسمة وإن قلتم إن الله لا يشبه شيئاً ، إن قولكم هذا لا يزيل التجسيم بل قولكم هذا كقول وكمثل من يشرب خمراً ويقول : أنا لا أشرب الخمر ، إنما بمجرد أن وضعت الكأس في فمي صار الخمر شراباً طهوراً ! ومثل من يقول : إنه تعالى يحزن لا كحزننا وله بطن لا كبطوننا وفرج لا كفروجنا؟!!

قالوا إن هذا لا يصح لأنها لا تدل عل الكمال.
قلت : ألم نقل لا كحزننا ولا كأمعائنا ولا كفروجنا؟ فكان هذا النفي نفياً للنقص، فقولنا له حزن وأمعاء وفرج إثبات، وقولنا لا كحزننا ولا كأمعائنا ولا كفروجنا نفي للتشبيه والنقص مع إنه حزنٌ يليق بجلاله وليس فيه من الكيف المعلوم حتى تقول إنه نقص، إذ قولكم إنها نقص ناتج عن تشبيه فرج الله بفروجكم مع إن الحزن والفرج والأمعاء لها كيفية مجهولة.
ثم نقول هي صفة الكمال في اليد والساق والجنب والأصابع؟، مع أنه تعالى يقول (( إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون))، وقولكم إن اليد يكون بها الإنفاق ينافي الآية المتقدمة وينافي كونه تعالى الغني الذي لا يحتاج إلى شيء، إذ الإنفاق متوقف على اليد، وما هي فائدة بقية الأعضاء والجوارح التي هي عندكم صفات ؟

قالوا : لا ندري لكن الله قد أخبرنا بأن له يداً وساقاً وغير ذلك فلا بد أن تكون له صفات كمال.
قلت : لكنه أخبركم بأنه نزل القرآن بلسان عربي مبين ولغة القرآن لا يوجد فيها يدٌ ورجلٌ وساقٌ بمعنى صفة، ولغة العرب فيها الحقيقة المجاز، والحقيقة في اليد والرجل والساق هي الجوارح والأعضاء وإن تفاوتت من حيوان إلى آخر، وما ذكرتم ليس في لغة العرب لا حقيقة ولا مجازاً، ثم هل أخبركم الله بأن له يداً لا كالأيدي ورجلاً لا كالأرجل؟!!
أيها الأخوة ؛ الحقيقة لا تتغير أبداً بقول شخص : تليق بجلاله . اللغة العربية التي أنزل القرآن بلغتها هي من وضع البشر ، وهم وضعوا في لغتهم معانيها الحقيقية كاليد والساق ونحوهما على أرضية بشرية ، وأنتم رفضتم المجاز والتأويل ، وأبيتم إلا المعاني الحقيقية التي هي من قاموس بشري .

فمن أين لكم أنه يوجد لله مكانٌ عدمي وأنه فيه وكذا جهة عدمية من لغة العرب ؟!
ومن أين لكم أن لله يدين ورجلاً وساقاً وقدماً حقيقة في لغة العرب ؟!

أما قوله تعالى : (( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ )) [ المائدة : 64 ] ؛ فمعناه نعمته والتثنية جائزة كما نصّ عليها صاحب الصحاح وغيره ، وكما قال صلى الله عليه وآله وسلم في يأجوج ومأجوج : لا يدانِ لأحد بقتالهم . أي لا قدرة ولا طاقة () .

إن قلتم : حملها على الحقيقة لا يضر، والإشتراك في الصفات لا يستلزم تماثل الموصوفات فيما اشتركت فيه .
قلت : فما هو المشترك بين يد ورجل وساق وجنب وأصابع وحقو وسمع وبصر الله وبين يد ورجل وساق وجنب وأصابع وحقو وسمع وبصر الإنسان؟ فهل هو اشتراك في الاسم فقط؟ فهذا لا غبار عليه، لأن يد الإنسان هي الجارحة ويدُ الله هي نعمته أو قدرته، أم انه اشتراك في الصفة؟ فأخبرونا عن هذا الأمر المشترك وإن تفاوت فيه، ما معنى اشتراكهما فيه وكيف يشترك في صفة مع عدم التماثل فيما اشتركا فيه وإن تفاوتا فيه؟ فإن حاسة السمع عند زيد مثلاً وإن كانت بمقدار 1% وعند عمرو 100% متماثلٌ وإلا لما صَحَّ القول بالاشتراك مع تغير معنى اليد والرجل والساق وغيرهما في حق الله تعالى، مع معنى اليد والرجل والساق وغيرهما كلياً في معنى واحدٍ.
لأننا نقول : إنه صحيح أن الحيوانية المجردة ليست موجودة إلا في الذهن ، لكن عدم وجود الحياة في زيد والفرس وغيرهما من أفراد الحيوان العاقل مكابرة للعقل، هذه الحياة التي يجمعهما حقيقة واحدة وحَدٌّ واحد .
فإن أفراد الحيوان متصف بالحيوانية وهي أَمْرٌ يشترك فيه كل أفراده، والحيوانية في كل فرد من الحيوانات صفة يتصف بها الحيوان العقل وغير العاقل، وموجودة في كل أفراد الحيوان، والحيوانية في كل فرد متماثلة .

فإذا كانت الكليات حاصلة في الأذهان ولا وجود لها في الخارج مع عوارضها الغير ذاتية فمن أين تحققت الكليات؟ ويلزم أن حقيقة الإنسان والحيوان وغيرهما من الكليات تبطل وتنعدم حال مقارنتها للعوارض الموجودة بالإنسان والحيوان.

فنحن نقول بوجود الكليات في الخارج مع غيرها لأن القدرة والعلم مثلاً في الكائن الحيِّ معان وهذه المعاني لا تستقل بذاتها وعدم استقلالها لا يعني أنها لا توجد مع غيرها من الأمور الذاتية ولا يعني أن المتصف بها هو و غيره لا يشتركون إلا في الاسم لأنها معانٍ وأعراض وإذا ثبت وجودها مع غيرها في الخارج ثبت الاشتراك فيها وثبت ان الاشتراك في الصفات يقتضي التماثل في المواصفات وتفاوت العلم والحياة والقدرة، هو تفاوت في القَدْر كما يثبت التماثل في مربعين وإن كان أحدهما أكبر حجماً ، ثم نقول انه لا اشتراك في يد الله ويد الإنسان حتى على قاعدتكم ، لأن اليد في الإنسان عضوٌ وكذا الوجه والساق والرجل والقدم والأصابع وليست صفات، وعلى هذا فلا يوجد اشتراك ، لأنها على حد زعمكم في الله صفة ، بينما هي في الإنسان عضو وجارحة .
ولماذا قلتم إن القول بأن العبد فعال مختار له تأثيرٌ وأنه خالقٌ لأفعاله كما قال تعالى : (( وتخلقون إفكاً )) ، يستلزم أن يكون شريكاُ لله في صفة الخالقية مع اختلاف حقيقة الخلق عند الله وحقيقة الخلق عند الإنسان ، وعدلتم إلى القول بأنَّ الله خالق أفعال العباد فراراٌ من القول بأن الإنسان فاعلٌ لإفعاله وله تأثير حقيقة لأفعاله.

فعلى كلامكم هذا ينهدم ما قلتم فيما زعمتموه صفات ويلزمكم الشرك في اعتقاد المشاركة في صفة الحياة والعلم مع الله ، وإن كانت الحقائق متعددة على حد زعمكم .
ثم كيف يكون الشيء مشتركاً بين شيئين من دون جامع لهما وإن تفاوت، فنحن حينما نقول الله عالم والإنسان عالم فإن الله عالمٌ حقيقة،ً بينما كون الإنسان عالماً (أي له عقل) مجازٌ إذ أنه مُعْلَم، أي أن الله أعطاه عقلاً، وكون الله قادراً حقيقةٌ وكونُ الإنسان قادراً مجازٌ، إذ أن الله هو الذي أعطاه القدرة مع الاختيار في تلك القدرة فيكون مُقْدَراً، أي أن الله خلق فيه القدرة لا أفعاله إذ أن القدرة لا تعني الفعل بل تعني إمكان فعل أحد الضدين فعلى هذا فهو اشتراك في الاسم لا في الصفة .

ثم إن الحقيقة في لغة العرب في هذه الأشياء أن الجهة والمكان واليد والرجل وغيرهن أمور وأشياء مخلوقة ؛ لأن العرب لا يعنون بالجهة والمكان إلا التي هي موجودة وتحيط ، ولا يعنون باليد في الحقيقة إلا الجارحة المكيفة بكيفٍ معلوم ، وكذا الرجل والساق ، أما في المجاز فيعنون باليد النعمة في موضع والقدرة في موضع وغير ذلك ، ويعنون بالرِجْل أو القدم ما يقدمه الإنسان أمامه كما نص عليه صاحب القاموس والصحاح وشارح القاموس .

ولماذا أوّلتم بعض الآيات كقوله تعالى : (( وَهُوَ مَعَكُمْ )) [ الحديد : 4 ] ، وقلتم هو معنا بعلمه مع أن لفظة (( هُوَ )) لا تعود على الصفات بل على الذات؟
ولماذا حينما حملتم بعض الأحاديث كقوله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قِبَل وجهه فإن الله قبل وجهه إذا صلى . وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد . أفلا يدل ظاهر قوله : فإن الله قبل وجهه . أنه تعالى أمام المصلي وأنه قريبٌ منه قرباً حسياً لأنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : فإن الله !! وقال : مِن ربه !! حملتموها على العلم والإحاطة رفضتم تأويل خصومكم أن اليد بمعنى النعمة أو القدرة ، وأن الوجه بمعنى الذات ، وأن الاستواء هو الاستيلاء ، وأن العلو هو العلو المعنوي الذي هو علو قهر وسلطان وإحاطة ؟!!

ومن أين لكم أنه يوجد مكان عدمي ومكان وجودي ! وجهة عدمية وجهة وجودية ! وعلو عدمي وعلو وجودي ! وأين هذه التقسيمات في كلام العرب ؟!
وأين الدليل من الكتاب والسنة وكلام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتابعين على أن الله في مكان عدمي وجهة عدمية ؟!
فالساق بمعنى الشدة ، والجنب بمعنى الحق ؛ فمعنى (( في جنب الله )) قوله تعالى : (( يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُّ فِي جَنبِ اللهِ )) [ الزمر : 56 ] ؛ في حقه تعالى الذي هو طاعته ؛ تقول العرب : فلان أساء في جنب فلان . أي في حقه ، إذ التفريط في جنب الله الذي هو على حقيقته عند المجسمة لا يعقل .
فأنت ترى أيها القارئ الفطن أن تفسيرنا هو الصحيح الذي هو مراعٍ لبلاغة القرآن والذي هو على أعلى قمة في البلاغة والذي تحدى الله به العرب بأجمعها ، وأن تفسيرنا للآيات المتشابهة مفهوم يفهمها كل من له بعض إلمام بلغة العرب مفرداتها وتركيبها .

فهل يصح أن يخاطبنا الله بكلام لا يفهمه أحدٌ ؟! وبكلام لا فائدة فيه غير حروف يجب أن تعتقدها في الله ؟! ومع أن الخطاب بكلام لا يُفهم عبث أو جهل وكلاهما محال على العارف منا فكيف بالله العالم الحكيم !

ومع أن ابن تيمية وأتباعه عابوا على المفوضية حينما فوضوا وردوا عليهم بأن الله لم يخاطبنا بما لا نفهم ، بل خاطبنا بما نعقله ونفهمه ، بل استدل ابن تيمية على أن الراسخين في قوله تعالى : (( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ )) [ آل عمران : 7 ] ؛ فاعل وأنهم يعلمون تأويله .
فلماذا يعتقد ابن تيمية وأتباعه عقيدة لا تُعقل ؟ ولماذا جعلوا القرآن ألغازاً لا تفهم معانيها ؟! قال تعالى واصفاً القرآن بأنه (( كِتَابٌ مُّبِينٌ )) [ النمل : 1 ] ! فأين الإبانة مع أن ما فسروه غامض بل وغير معقول ؟!

شبهة وحلها

:

قالوا : لو كانت اليد والوجه والاستواء بمعنى القدرة أو النعمة والقوة والذات والاستيلاء ؛ فلماذا موّه علينا ولم يقل نعمته ، كل شئ هالك إلا ذاته ، الرحمن على العرش استولى ؟
قلت : ليس هذا تمويهاً لأنه تعالى أخبر بأنه نزل القرآن بلسان عربي مبين ، والعرب تتخاطب بالحقيقة والمجاز مع وجود قرائن عقلية ولفظية ، فخاطبنا تعالى بالحقيقة مع قوله تعالى : (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئٌ )) [ الشورى : 11 ] واليد والوجه وغيرهما أشياء فنفاها الله عز وجل عنه ، ومع وجود الله الذي هو الدليل على معرفة الله وصدق المبلغ .
ثم إن الله تعالى يقول : (( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ )) [ الإسراء : 24 ] مع عدم وجود جناح للذل والمراد الكناية عن الخضوع للوالدين وامتثال أمورهما .
وقال تعالى : (( لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ )) [ فصلت : 42 ] ، وقال : (( بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ )) [ الأعراف : 57 ] ، فهل للقرآن والرحمة يدان حقيقيتان تليق بجلالهما ؟! ولماذا لم يقل عز وجل بين قُدّام رحمته ، ولا يأتيه الباطل من ظاهره ولا من باطنه ؟!!
وأيضاً فالله ذكر أن القرآن يشتمل على المحكم والمتشابه ، فلماذا لم يجعل القرآن كله محكماً بهذا الاعتبار ؟ ولماذا جعل في القرآن آيات متشابهة يتبعها الذين في قلوبهم زيغ إرادة الفتنة في الدين ؟!

إن الإجابة على هذه التساؤلات هي نفس الإجابة على ما قالوه ، والإجابة هي أن يميز الله من يتبع المحكم ويرد المتشابه إلى المحكم ممن يتبع المتشابه إرادة الفتنة في الدين ، وأن يرفع الله مراتب العلماء الراسخين حتى يكون الأجر بقدر المشقة مع وجود قرائن في المجاز والمتشابه تدل على أنها مجاز ومتشابه.

قالوا : إذا أردتم أن نقول لكم بكيفية الاستواء والصعود والنزول والعلو واليد والرجل والجنب والحقو فقولوا لنا كيف ذاته والمعلوم أنكم ستقولون لا نعلم كيفية ذاتها قلنا ونحن لا نعلم كيفية الاستواء.
قلت : سنقول إن الله ليست له كيفية لا مجهولة ولا معلومة، ولن نقول لا نعلم كيفية الذات لأننا نريد بإثبات الذات نفي العدم وإثبات الوجود لله عز وجل المتصف بكونه عالماً قادراً حياً أزلياً، إذ أن الكيف هو السؤال عن الحال والهيئة وهما عرضان يختصان بالمتغيرات، والله هو الحق الثابت الذي ليس كمثله شيء، فهل ستقولون بنفي الكيف المعلوم والمجهول؟
مع أنكم لا تنفون عن الله مطلق الكيف بل تنفون الكيف المعلوم، فهل تعلمون كيفية الملائكة والروح والجنة؟ وهل عدم علمكم بتلك الكيفية لكونها مجهولة يعني أن الملائكة ليس كمثلهم شيء ، وكذا الروح نجهل كيفيتها مع أنها لا تخرج عن أحد شيئين إما جسم وإمَّا عرض ، الذي يدل على أن لها كيفاً مع أننا نجهل كيفيتها ، فهل الروح ليس كمثله شيءٌ؟!!
لابُدَّ أن تعلموا أن نفي الكيف المعلوم دون الكيف مطلقاً لا يعني التنزيه لله تعالى عن مخلوقاته.

الشفاعة

قال المخالف : أما هؤلاء فقد ساووا بين المؤمن الموحد القائم بفرائض الله المجتنب لمحارم الله إلا أنه وقع في زلة وهفوة ولم يتب منها ساووا بينه وبين الكافر الملحد الذي لم يشهد لله بالربوبية ولا لنبيه بالرسالة ؛ فجعلوهما سواء في التخليد في النار .
قلت : ما هذه الهفوة والزلة ؟ إنها عندهم الزنى واللواط وشرب المسكرات وأخذ أموال الناس ظلماً والقتل وغيرها من كبائر الذنوب التي مات فاعلها ولم يتب منها ! والله يقول (( وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ )) [ الأنعام : 28 ].

ثم إننا لم نساوِ بينهما في مقدار العذاب وشدته لأن النار دركات ، كما لم نساوِ بين فرعون المُدّعي للربوبية والمجرم السفاك للدماء وكشارون وإسحاق رابين ونتنياهو وغيرهم من المتجبرين وبين الكافرين الذين لم يعملوا كما عمل هؤلاء وإن كانوا جميعاً مستحقين للخلود .

والذي ساوى بين الزاني والقاتل والسكران واللوطي والملحد والوثني والمشرك في الخلود هو الله عز وجل كما في كثير من الآيات وكما في الأحاديث الكثيرة المتواترة ، وكيف يكون مجتنباً لمحارم الله مع قول المخالف : ( إنه وقع في زلة وهفوة ) التي هي الزنى وشرب المسكرات ونحوهما ؟!!
قال تعالى : (( وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَّعَدَّ حُدُودَهُ نُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ )) [ النساء : 14 ] ، هذه الآية واردة بعد آيات المواريث أي أن الخطاب هو للمسلمين والسياق يدلك على ذلك .
فقوله تعالى (( مَن )) مِن ألفاظ العموم يدخل فيها الكافر والفاسق والمسلم والمنافق ، وقوله تعالى (( يَعْصِ )) عموم لأنها نكرة في سياق الشرط والجزاء فيدخل في ذلك أي معصية كفر أو فسق أو نفاق ، وأخرجنا المعصية الصغيرة لقوله تعالى : (( إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ )) [ النساء : 31 ] ولإجماع الأمة على أن الصغيرة مكَفَّرة ولا يستحق صاحبها النار ، وأخرجنا الفاسق التائب للآيات المتكاثرة والأحاديث المتواترة التي تنص على قبول توبته ، وعلى هذا فيبقى اللفظ على عمومه إلا ما دل عليه دليل ، والدليل دل على استحقاق الفاسق الذي لم يتب النار والخلود .

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( لا يدخل الجنة نمام ) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( لا يدخل الجنة قتّات ) () ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً ، ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحسّاه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ، من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ) () ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب له النار وحرم عليه الجنة ) ، فقال رجل : وإن كان شيئاً يسيرا يا رسول الله ! قال رسول الله : ( وإن قضيباً من أراك ) () .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( ما مِن عبد يسترعيه الله رعيّة يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة ) () .

وأنت أيها المستحق للخطاب تعلم أن النميمة وقتل النفس وأخذ مال الغير والغش لا توجب الكفر؛ وأنها من الكبائر ، ومع ذلك استحق فاعلها الخلود في النار كما مرّ معك ، وتأمل قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( وإن قضيباً من أراك ) ، وقول هؤلاء الذين يمنون على الناس بالجنة وإن عصوا الله عز وجل .

فإذا علمت هذا فاعلم يا من يعقل الخطاب أن أي حديث منسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخالف القرآن العزيز المصرح بخلود العصاة الفاسقين الذين لم يتوبوا من ذنوبهم العظام ويخالف الأحاديث التي رواها المؤالف والمخالف المتواترة التي تنص على أن الزاني والسكران واللوطي وتارك ما أوجبه الله عليه من الطاعات إذا مات ولم يتب مخلد في النار ؛ أي حديث مخالفٌ لما مر مردودٌ لأن القرآن لا يتعارض مع كلام المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لأن القرآن حجة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم حجة وحجج الله لا تتعارض .

فيأيها العقلاء ؛ إذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيشفع للفاسقين فلماذا أمرنا بالتوبة والإنابة والرجوع إليه ؟!
ثم إن الله يقول إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سوف يشكو أمته، وهو ينافي أن يتوسط لمذنبيها ؛ قال تعالى حاكياً قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لربه : (( يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً )) [ الفرقان : 30 ].
واعلم أن هؤلاء يقولون إن الزاني واللوطي والسكران وآكل أموال الناس ظلماً والقاتل تعدياً وشاهد الزور سوف يشفع لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى ولو كانت هذه الكبائر في رجل واحد .

قال المخالف : قوله تعالى : (( وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدينَ فِيهَا أَبَداً )) [ الجن : 23 ] ؛ يدل على أن المعصية هنا ليست على إطلاقها بل المقصود معصية الله في عدم الإيمان به وبرسوله .
قلت : هذه الآية غير آية النساء المتقدمة ، ومع هذا فيجب حمل الآية على عمومها ، وكون الآية هنا واردة في سياق خطاب الكفار لا يقصر عليهم لأن العبرة بدلالة اللفظ ، واللفظ هنا للعموم إلا دليل يدل على خلاف ذلك كما ثبت في آيات الطلاق وغيرها فإن شيئاً من ذلك لم يقصر على سببه الذي ورد عليه .
وأما استدلاله بقوله تعالى : (( إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ )) [ النساء : 48 ] على أن الفاسق إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له فاستدلالٌ باطل لأن هذه الآية مقيّدة بقوله تعالى : (( إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ )) [ النساء : 31 ] ، وإلا فهل تُجَوِّزُ أن يغفر اللهُ عز وجل للذي لا يؤمن بسيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ أو لا يؤمن بأن الربا أو الخمر حرامٌ ويؤمن برسول الله (ص)؟ مع أنه مؤمن بالله عز وجل ولا يشرك به عز وجل، وكذا بعض المسيحيين الذين لا يؤمن بأن عيسى إله بل يقول انه عبدٌ لله ورسوله إلا أنه خاتم الأنبياء؟ أو لا يؤمن بالأنبياء ، أو لا يؤمن بكتب الله ولا بملائكته وهو مع ذلك يؤمن بالله ولا يشرك به عز وجل أحداً ؟.

ثم إن الله تعالى يقول : (( ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم)) ، فقد علق حصول العذاب و المغفرة بالمشيئة فهل تعليق المشيئة يدل على أنه يمكن شرعاً أن يعفوا الله عن المنافقين؟ وهل يجوز أن نُجَوِّز شرعاً عدم تعذيب المنافقين لأجل تعليق المشيئة ؟

ثم إن الله تعالى قد بَيَّنَ لنا مشيئته في الفاسقين بقوله تعالى : (( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيرا ))، وبقوله تعالى : (( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ))، وبقوله تعالى : (( ومَنْ يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً ))، وبَيَّنَ لنا أنه لا يغفر لهم إلا بالتوبة والإنابة فقال تعالى : (( ومَنْ يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً ))، وقال تعالى : (( وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى))، وبيّنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما تقدم وذلك في الآحاديث الآنفة الذكر .

فإذا قيل فما هو الفارق بين المسلم والكافر ؟
قلنا : إن العذاب يختلف حتى بين الكفار كلٌ حسب معصيته ، والاشتراك إنما هو في الخلود.
ثم لو قلنا لكم ما هو الفارق بين المعتقد لوحدانية الله وإلوهيته الذي يقول : ( لا إله إلا الله ) وبين المنكر ؟ وماهو الذي جعل المسلم غير مخلد في النار؟ هل هو إيمانه بالله ورسوله من دون عمل؟ إذا كان الأول : فهل كل من قال : ( لا إله إلا الله ) و يؤمن بسيدي رسول الله (ص) يخرج من النار؟ وإذا كان الثاني فهل في هذا دعوة إلى فعل القبيح وإبطال لجميع القوانين الإلهية من ناحية التنفيذ؟ ثم ما هو الدليل ؟..

والذين يسألون عن العدل الإلهي لا بُدَّ أن يعرفوا مَنْ هو الله ، ومامعنى أن نعصي جَبَّار السماء، والذي لا يعجزه شيءٌ، والقادر على كل المقدورات ، والذي لا يخفى عليه شيءٌ ، ما معنى أن نعصيه ولا نتوب إليه مع إمهاله لنا وتوبته علينا، وإرشاده لنا بالعقل والكتاب والرسل، وانعامه لنا العظام المتوالية ، ما معنى أن نعصي الذي خلق الأجرام وخلق الإلكترون والنترون والبروتون من العدم المحض ، الذي بيده كل شيء وإليه ترجعون، الذي إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، الذي أوجدنا وخلق لنا الأرض، الذي يعفو عنا إذا أذنبنا ، ويقبل توبتنا ويغفر ذنوبنا التي أوترت ظهورنا وأفنت أعمارنا، الذي يجيبنا إذا دعوناه ويسرع بالإجابة، الذي نناديه كُلما شِئنا لحاجاتنا، ونخلوا به حيث شِئنا بلا حجاب ولا مواعيد، يتحبب إلينا بالنعم ونعارضه بالذنوب، خيره إلينا نازل وشرنا إليه صاعد، ومع ذلك لا يمنعه ذلك من أن يَحوُطَنا بنعمه العظام، ويتفضل علينا بالآئه الجسام، ومن أن يقبل توبتنا ويغفر ذنوبنا إذا رجعنا إليه مع أننا أصحاب الدّواهي العُظمى، والذي على سيده اجترى، والذي عصيت جبار السماء ، والذي أمهلنا فما أرعويت، وسترت عليَّ فَمَا استحييت، وعملت بالمعاصي فَتَعدَّيْتُ، واسقطتني من عينك فما باليت، ثم قبلت توبتي وحوبتي حين رجعتُ إليك.

لا بُدَّ أن نعرف مَنْ هو ومَنْ نحن، فيا مَنْ سأل عن عدل الله هذه عدالته ، ((وماظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )) ، ويا مَنْ سأل عن رحمة الله ومكانها هذه هي وهذا مكانها.

ثم أليس الله بإجماع المسلمين يخلد شخصاً مات على الشرك ولو استغرق عمره في طاعة الله وأشرك في فترة زمنية قصيرة، مثلاً خمس دقائق وأطاع في بقية عمره ولو سبعون عاماً، فهل يُقال أين عدل الله أين رحمته أين عفوه أين مغفرته !!!

إن هذا لو عاش ألفي سنة فستكون في شرك لأنه تعالى قال : ((ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ))، نعم هم كاذبون حينما قالوا : ((رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت )) لأن قولهم هذا ليس توبة لأجل ما صدر عنهم من قبيح أعمالهم بل لأنهم شاهدوا العذاب وذاقوه فتوبتهم لأجل الآلام ، ولذلك (( لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه )) وهذا لا يعني أن الله عاقبه لما سيكون بل لما كان ومرادنا إثبات أنَّ الله رحيم لأنه أخبر أن هؤلاء لو ردوا لعادوا لما نُهُوا عنه ...

هذا والله الموفق إلى كل خير

كتب /
عبد الله بن حسين الديلمي
لطف الله به في الدارين آمين اللهم آمين
صنعاء – اليمن 5/12/1420 هـ
المرفقات
السيف المسلول.doc.zip
(31.33 KiB) حُمِّل 125 مرةً
سأجعل قلبي قدساً، تغسله عبراتي، تطهره حرارة آهاتي، تحييه مناجاة ألآمي، سامحتك قبل أن تؤذيني، وأحبك بعد تعذيبي..

أضف رد جديد

العودة إلى ”مجلس الحوار مع الفرق والمذاهب الإسلامية الأخرى“