مفهوم التربية وأهدافها عند الإمام علي كرم الله وجهه

يختص بقضايا الأسرة والمرأة والطفل
أضف رد جديد
محمد عسلان
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 99
اشترك في: الأربعاء يناير 04, 2006 12:01 pm

مفهوم التربية وأهدافها عند الإمام علي كرم الله وجهه

مشاركة بواسطة محمد عسلان »

هكذا وجدت هذا البحث

مفهوم التربية وأهدافها عند الإمام علي كرم الله وجهه

إعداد : الدكتور/ مسلم عبد القادر أحمد
كلية التربية الحصاحيصا – جامعة الجزيرة


مقدمة :

إن رسالة الإسلام في مجملها رسالة تربوية أتت لخير الناس وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، وقد تمكن المسلمون الأوائل عن طريق رسالة الإسلام وما فيها من قيم تربوية من سيادة العالم ونشر الأخلاق الحميدة فيه دون إكراه وتسلط .
ويلاحظ أن التربية في العالم الإسلامي ما زالت تعتمد بصورة أساسية على ما وصل إليه الفكر التربوي الغربي من تعريف لمفهوم التربية وأهدافها ، الأمر الذي أدى إلى فقد الأمة الإسلامية لهويتها ، مما ترتب عليه قعودها عن آداء دورها المتمثل في نشر قيم الدين الحنيف والقيام بوظيفة الشهادة على الأمم الأخرى.
وإذا أرادت الأمة الإسلامية اليوم الرجوع إلى أيام عزها ومنعتها عليها أن تبدأ أولاً في تصحيح كثير من المفاهيم التي تستعملها في حياتها ، والتي منها مفهوم التربية وأهدافها ، فالرجوع إلى هذا المفهوم – كما عرفه المسلمون الأوائل – وتطبيقه في الواقع التربوي والتعليمي يمثل المدخل الأساسي في مواجهة التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية ، وتقديم نموذج تحتذى به أمم العالم قاطبة والتي تبحث الآن عن المخرج فيما أدخلتها فيه مناهجها التربوية من قلق واضطراب نفسي ترتب عليه تفشي الجريمة والأمراض الفتاكة .


مشكلة الدراسة :

كانت للتربية التي تلقاها الإمام علي – كرم الله وجهه – آثار عظيمة في شخصيته تمثلت في قيامه بأدوار مهمة في مطلع الدعوة الإسلامية يرجع إليها الفضل في تثبيت دعائم الدين الجديد ونصرة رسوله صلى الله عليه وسلم .
نبع تميز الإمام علي – كرم الله وجهه – من اقتدائه بمربيه الأول الرسول صلى الله عليه وسلم وأخذه من علمه وأخلاقه مباشرة دون وسيط إضافة لسعة أفقه واجتهاده ، الأمر الذي قاد إلى الاهتمام بحياته وبما قام به من أعمال خالدة وما تركه من آثار قيمة من جانب كثير من الباحثين في شتى المجالات ، السياسية والاجتماعية وغيرها .
من المجالات التي أظهر فيها الإمام علي – كرم الله وجهه – التميز والتفرد – مجال التربية والتعليم ، لذلك كانت الحاجة ماسة في نظري للكشف عن مفهوم التربية وأهدافها عنده بياناً لأصالته وأهميته في ربط حاضر الأمة الإسلامية بماضيها تطلعاً لمستقبل أفضل .


أهمية الدراسة :

تتمثل أهمية هذه الدراسة في الآتي :
1. شغلت شخصية الإمام علي – كرم الله وجهه – الدارسين على اختلاف مدارسهم الفكرية والمذهبية ، فأفردوا له دراسات شملت جوانب عديدة من شخصيته، ولكن جانب التربية عنده – حسب علمي – لم يحظ بدراسة وافية.
2. لم يجد الفكر التربوي عند الخلفاء الراشدين الاهتمام الكافي وعليه فإن هذه الدراسة ستسهم في الكشف عن الممارسات التربوية في هذا العهد .
3. تبحث هذه الدراسة في التراث الإسلامي في مطلع الدعوة الإسلامية محاولة الكشف عن مفهوم التربية وأهدافها .
4. ستسهم هذه الدراسة – بحول الله تعالى – في دحض الافتراءات التي تدعي أنه ليس للمسلمين قديم وحديث فهم مستقل للتربية والتعليم ، وإنما دورهم ينحصر فقط في النقل من الشعوب الأخرى وبالذات الغربية منها .


أهداف الدراسة :

تهدف هذه الدراسة إلى :

1. تعرّف مفهوم التربية وأهدافها عند الإمام علي – كرم الله وجهه.
2. الاستفادة من هذا المفهوم في تأصيل الفكر التربوي المعاصر .
3. توجيه أنظار الباحثين في مجال التربية والتعليم إلى إثراء حياة الخلفاء الراشدين – رضي الله عنهم – بالممارسات والأفكار التربوية .

من خلال دراسة أقوال الإمام علي – كرم الله وجهه – وأفعاله يمكن استنباط التعريف الآتي للتربية عنده : التربية هي إعداد الإنسان لحياتي الدنيا والآخرة في ضوء نظرة الإسلام للإنسان وعلاقاته بالخالق والكون ، والمجتمع الذي يعيش فيه .
وهذا المفهوم للتربية عند الإمام علي – كرم الله وجهه – يقوم على ثلاثة أبعاد رئيسة : بعد الماضي ، وبعد الحاضر ، وبعد المستقبل ، وهذه الأبعاد الثلاثة ليست منفصلة وإنما تتداخل وتتكامل فيما بينها لتكون في النهاية البعد الزماني لحياة الإنسان .
فكل مجتمع له خبراته التي تتمثل فيما تحتفظ به الأجيال المختلفة من تقاليد ونظم وقيم ، ودون شك فإن أفراد هذا المجتمع - وبالذات الصغار منهم - يحتاجون إلى استدعاء هذه الخبرات المتراكمة ، لحل مشكلات الحاضر ، ووسيلة هذا الاستدعاء والنقل ، هي التربية ، قال الإمام علي في وصيته لابنه الحسين : " واعرض عليه – أي القلب – أخبار الماضين ، وذكره بما أصاب من كان قبلك ، من الأولين ، وسر في ديارهم ، فانظر فيما فعلوا ، وعما انتقلوا " (1) . وأوصاه كذلك بقوله : " ... وتستقبل بجد رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب رغبته ، وتجربته ، فتكون قد كفيت مؤونة الطلب ، وعوفيت من علاج التجربة ، وأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه ، واستبان لك ما ربما أظلم علينا منه " (2) ، وتتبين أهمية الرجوع إلى خبرات الأجيال السابقة إذا علم أن الوجود المادي للإنسان محدود في هذه الحياة الدنيا .
وكل مجتمع كذلك يعيش حاضراً له قضاياه ومشكلاته وتحدياته ، والتي يسعى إنسان هذا المجتمع لمواجهتها مستخدماً في ذلك إمكانياته الذاتية مستعيناً بالله تعالى ، رغبة في توفيقه عندما تعجز خبرات الماضي في حل مشكلات الحاضر على أن يكون كل ذلك وفق خطة مدروسة . قال الإمام علي في وصيته لابنه الحسن : " فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلم ، لا بتورط الشبهات ، وعلق الخصومات ، وابداً قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك والرغبة إليه في توفيقك " (3) .
والتربية في طبيعتها عملية مستقبلية ، تسعى إلى إعداد الإنسان لحياة قادمة قد تختلف فيها وسائل تحقيق الأهداف نفسها عما هو متعارف عليه في الماضي والحاضر ؛ لأن التغير سمة ملازمة للإنسان ، ولحياته على مر العصور المختلفة ، قال تعالى :  إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم  (4) ، فالطبيعة الإنسانية لديها القابلية والمرونة للتشكيل ، قال الإمام علي : " لا تعودوا بنيكم على أخلاقكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم " (5) .
ويرى الإمام علي – كرم الله وجهه – أن التربية من الحقوق الأساسية التي يجب على الحاكم آداءها للناس كافة ، قال الإمام علي : " إن لي عليكم حقاً ولكم عليّ حق . وأما حقكم فالنصيحة لكم ، وتوفير فيئكم عليكم ، ونعلمكم كيلا تجهلوا ، وتأديبكم كيما تعلموا .. " (6).
وقد أدى الإمام علي – كرم الله وجهه – هذا الحق على خير وجه ، فحلقته العلمية بمسجد الكوفة دليل واضح على ذلك ، كما أنه مارس تعليم أصحابه وهو في ساحة القتال ، عن الأصبع بن نباتة ، أن رجلاً سأل علياً بالمدائن وهو في مسيرة للقاء معاوية ، عن وضوء رسول الله – صلى الله عليه وسلم 0 فدعا بمخضب* من برام* قد نصّفه الماء ، قال علي : " من السائل عن وضوء رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ؟ فقام الرجل ، فتوضأ علي ثلاثة ومسح برأسه واحدة ، وقال : هكذا رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يتوضأ " (7) .
وكان الإمام علي – كرم الله وجهه – يطلب من ولاته على الأقاليم آداء هذا الحق للرعية ؛ فمن كتاب له لأحد عماله : " أما بعد ، فأقم للناس الحج ، وذكرهم بأيام الله ، واجلس لهم العصرين ، فأفت المستفتي ، وعلِّم الجاهل " ( .
والتربية عند الإمام علي – كرم الله وجهه – حق مكفول لكل أفراد المجتمع قطاعاتهم كافة ، حتى لمن هم في ساحات القتال ، فمن كتاب للإمام علي إلى زياد بن النضر : " فإني قد وليتك هذا الجند ، فلا تستطيلنّ عليهم وإن خيركم عند الله أتقاكم ، وتعلّم من عالمهم ، وعلم جاهلهم " (9) .
وحق التربية والتعليم ، هو ما نادت به التربية الحديثة في الآونة الأخيرة ، وقد أصبح هذا الحق منصوصاً عليه في مواثيق المنظمات الدولية .
وما بينه الإمام علي – كرم الله وجهه – من حق الرعية في التعليم يوضح أن مهمة الحاكم في الدولة الإسلامية إنما هي مهمة تربوية في المقام الأول .


طبيعة المتعلم :

تتأثر العملية التربوية بطبيعة المتعلم ، وما يصدر عنه من سلوك ، وقد وفقت النظريات التربوية المختلفة مواقف متباينة إزاء هذه الطبيعة ، ويمكن تمييز ثلاثة اتجاهات رئيسة في هذا الشأن (10) :
أولها : يرى أن عنصر الشر متأصل في الإنسان ، ومتغلب على كل العناصر الأخرى ، في شخصيته ، وهذا الاتجاه ، يؤيده العالم " لورنز " ، الذي يرى أن عنصر الشر متأصل في الإنسان ، ولا يقل عن الرغبة في الاعتداء عند الوحوش .
وعلى من يقوم بعملية التربية وفق هذا الاتجاه ، استئصال هذا الشر والقضاء عليه بوسائل العقاب المختلفة .
ثانيها : يرى أن عنصر الخير هو المسيطر على طبيعة الإنسان ، الذي هو خير بطبيعته ، ويؤيد هذا الاتجاه المربي الفرنسي جان جاك روسو ، الذي يرى ترك الطفل للطبيعة لتربيه ، لأن الطبيعة خيرة في نظره ، ويفسدها تدخل الإنسان فيها .
ثالثها : يرى أن طبيعة المتعلم محايدة والبيئة هي المسؤولة عن سلوك الإنسان واختياره للخير أو الشر ، وتبنى هذا الاتجاه عالم النفس " سكنر " ، الذي يقرر أن البيئة هي التي تتحكم في سلوك الإنسان حتى في الحالات التي يحاول أن يفرض الإنسان عليها سيطرته . وهذا الاتجاه هو المسؤول حسب اعتقاد " سكنر " عن اعتناق أبناء المسلمين الدين الإسلامي وأبناء المسيحيين الديانة المسيحية (11) .
يرى الإمام علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – أن طبيعة المتعلم خيرة والشر عارض عليها ، قال تعالى :  فطرة الله التي فطر الناس عليها  (12) . قال الإمام علي : " إلهي خلقت لي جسماً ، وجعلت فيه آلات أطيعك بها وأعصيك وأغضبك بها وأرضيك " (13) ، فلا البيئة لوحدها ولا الوراثة لوحدها كذلك تستطيع أن توجه سلوك المتعلم ، وهو في هذا يخالف " سكنر " ، فتأثير البيئة ليس كافياً بمفرده لفعل الخير أو الشر ، ويتضح هذا جلياً في موقف امرأتي نوح ولوط ، وامرأة فرعون ، فالأوليان كفرتا . وزوجاهما كانا رسولين مؤمنين ، والثالثة أسلمت ، على الرغم من أن زوجها كان كافراً . قال تعالى : (ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين ، وضرب الله مثلاً للذين آمنوا إمراة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ، ونجني من القوم الظالمين " (14) .
فطبيعة المتعلم عند الإمام علي – كرم الله وجهه – هي نتاج عاملي الوراثة والبيئة معاً ، وهذا ما أكدته الدراسات الحديثة في علم النفس ، وأصبح البحث يجري الآن في بيان مقدار أثر كل منهما في طبيعة الإنسان : قال الإمام علي في وصيته لابنه الحسن : " فإنك أول ما خلقت جاهلاً ثم علمت ، وما أكثر ما تجهل من الأمر ، ويتحير فيه رأيك ، ويضل ، ثم تبصره بعد ذلك " (15) .
وبهذا يتبين أن الإمام علي – كرم الله وجهه – يقر بمرونة الطبيعة الإنسانية وقابليتها للتشكل قال تعالى :  والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة  (16) . ولابد من تعاضد أثر كل من الوراثة والبيئة لكي يظهر السلوك المعين قال الإمام علي :
رايت العقل عقلين : فمطبوع ومسموع
ولا ينفع مسموع إذا لم يك ممنوع
كما لا تنفـــع الشمـس
وضــوء العين مطبوع (17)

وقد أكد الإمام علي – كرم الله وجهه – أهمية استخدام الإنسان لاستعداداته الفطرية بعد الفهم . قال الإمام علي في وصيته لابنه الحسن : " فإن ابت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا ، فليكن طلبك ذلك بتفهم ، لا بتورط الشبهات ، وعلق الخصومات " (1 ، وقال الإمام علي مؤكداً نفس هذا المعنى : " فإن أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع ، وتم رأيك فاجتمع ، وكان همك في ذلك هماً واحداً ، فانظر فيما فسرت لك ، وإن أنت لم يجتمع لك ما تحب من نفسك ، وفراغ نظرك ، وفكرك ، فأعلم أنك إنما تخبط العشواء ، وتتورط الظلماء " (19) .
وقد أخذت التربية الحديثة بمبدأ التعليم الذاتي ، الذي يقوم على استخدام الإنسان لقدراته وإمكانياته واستعداداته الذاتية .
ويذهب الإمام علي – كرم الله وجهه – إلى ضرورة إعطاء المتعلم الثقة بنفسه ، حتى يتمكن من استغلال طاقاته الذاتية إلى ما فيه فائدته ، وأن يعامل غيره بحسب ما يتوقعه من الآخرين من معاملة . قال الإمام علي في وصيته لابنه الحسن: " يا بني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك ، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك وأكره له ما تكره لها ، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم ، وأحسن كما تحب أن يُحسن إليك ، واستقبح من نفسك ، ما تستقبحه من غيرك ، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك " (20) .


بداية تعليم الناشئ :

لم يحدد علماء المسلمين السن التي تبدأ عندها عملية التربية إلا أن المأثور عنهم ، قولهم بضرورة بدء التعليم في سن مبكرة ، مستندين في ذلك إلى قول المعلم الأول الرسول صلى الله عليه وسلم : " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع"(21) . وأثر عن الحسن البصري في قوله في هذا الشأن : " الحفظ في الصغر كالنقش في الحجر" (22) ، وكذلك أكد الإمام الغزالي على أهمية بدء التربية والتعليم في سن مبكرة في قوله : " الطريق في رياضة الصبيان من أهم الأمور ، وأوكدها ، وقلبه الطاهر ، جوهرة نفيسة خالية من كل نقش وصورة ، وهو قابل لكل ما نقش فيه " (23) .
وقد ذهب الإمام علي – كرم الله وجهه – إلى القول بأهمية التعليم في سن مبكرة ، لقابلية الطفل الكبيرة في التعليم ، وسهولة توجيهه وإرشاده من جهة ، ولصعوبة قدرة الطفل على الاختيار من بين الخبرات التربوية المتعددة والمتراكمة من جهة أخرى ، قال الإمام علي : " أي بني إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي ، فقد نظرت في أعمالهم ، وفكرت في أخبارهم وسرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم ، بل كأني بما انتهى إليّ من أمورهم ، قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم ، فعرفت صفو ذلك من كدره ، ونفعه من ضرره ، فاستخلصت لك من كل أمر جليلة، وتوخّيت لك جميلة ، وصرفت عنك مجهولة ، ورأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق ، وأجمعت عليه من أدبك ، أن يكون ذلك وأنت مقبل العمر ، ومقتبل الدهر ، ذو نية سليمة ونفس صافية" (24) .
فالإمام علي – كرم الله وجهه – يشير هنا إلى أن الإرث الثقافي للمجتمع ليس كله صالحاً ومفيداً للأجيال الجديدة الناشئة ، الأمر الذي يستوجب معه تنقيته من الشوائب ، والاختيار من البدائل المتعددة ، بما يتناسب مع تحديات الحاضر ومشكلاته ، وهنا يظهر أثر المعلم المسلم في تدعيم الطبيعة الإنسانية نحو الخير أو الشر لأنها قابلة للتوجيه ، والتعديل والتهذيب نحو الأفضل (25) .
وقد أكد علماء التربية وعلم النفس على أهمية السنوات الأولى من عمر الطفل ، إذ إن السيطرة فيها تكون للعقل الباطن على العقل الواعي ، والعقل الباطن مستعد إذ ذاك لتقبل كل الإيحاءات ، والمفاهيم ، لذلك فكل ما يوحيه محيط الطفل الخاص في هذه المرحلة أبواه وأولو الأمر ، إنما يتقبله الطفل ويرسخ في قلبه وفي عقله (26) .
ولما كانت التربية عملية إنسانية ، فإنها بالتالي تقوم على الاختيار من متعدد من الخبرات الإنسانية المتراكمة على مر العصور ، ومن هنا تظهر الحاجة إلى تنقية واستخلاص أفضل الخبرات التربوية وتقديمها للمتعلم الناشئ .
ولا يعني هذا القول أن من فاته تلقي العلم وهو في مرحلة الطفولة لن يتعلم في المراحل التالية من العمر ، فالتعليم في الإسلام لم يتقيد بسن محددة ، فقد كان مجلس الرسول  العلمي ، يضم كل الفئات العمرية ، الأمر الذي أدى إلى تعليم كثير من الصحابة ، وعمرهم قد تجاوز مراحل متقدمة ، وقد أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: " اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد" (27).
والنتيجة المستفادة من كل هذا أن العمر كله يجب أن يكون مسرحاً لتلقي التعليم (2 .
ويقرر الإمام على – كرم الله وجهه – أن الطفل يتميز بخاصيتين أساسيتين عن بقية الكائنات الحية هما :


1- اعتماده على غيره مدة طويلة في حياته .
2- قابليته للتشكيل والتوجيه والإرشاد .

قال الإمام علي في وصيته لابنه الحسن : " إن قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها شئ إلا قبلته ، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك . ويشتغل لبك ، لتستقبل بجد رأيك ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته فتكون قد كفيت مؤونة الطلب وعوفيت من علاج التجربة " (29) .
فهذا القول يفسر اعتماد الطفل على غيره مدة طويلة ، خاصة في أيام حياته الأولى ، وطول هذه المدة ، يتيح له الاتصال بالآخرين للأخذ منهم ، وتشرب الخبرات المختلفة ممن حوله ، وهنا تبرز ما يعرف بسلطة الكبار في التوجيه والإرشاد ، حيث إن الطفل لم يتمكن بعد من الاعتماد على نفسه بدرجة كاملة ، حتى يمكنه توجيه نفسه ، وفق استعداده وميوله ورغباته ، وخبرة الكبار وقدرتهم على توجيه النشء آمنت بدلالتها كل الشعوب ، والحضارات ، فاتجهت بشكل طبيعي أو فطري إلى تربية الصغار منذ أيامهم الأولى واتبعت معهم الأساليب المناسبة لنمو قدراتهم الجسمية والعقلية دون حاجة إلى تجريب ، وقياس ووضع نظريات هادية ومرشدة (30) .
ومن حسن الحظ أن فترة الطفولة عند الإنسان تعد من أطول الفترات العمرية مقارنة ببقية الكائنات الحية الأخرى مما يتيح فرصة أكبر للمربين لغرس السلوك المرغوب فيه .
وعلى هذا يمكن القول أن الإمام علي – كرم الله وجهه – قد سبق التربية الحديثة إلى ما يعرف الآن بإشراف الدولة على التعليم وما يعرف كذلك بالتوجيه التربوي .
أهداف التربية عند الإمام علي :
يمثل تحديد الأهداف أهمية خاصة في كل عمل يقوم به الإنسان فإذا لم تحدد هذه الأهداف التي يراد تحقيقها من عمل ما أدى ذلك إلى التخبط وعدم إنجاز العمل بالصورة المطلوبة ، وينطبق هذا القول على مجال التربية ، فالأهداف التربوية تعتبر نقطة الارتكاز في أي عمل تربوي .
والهدف في التربية يعني " التغيير المرغوب الذي تسعى العملية التربوية ، والجهد التربوي إلى تحقيقه سواء في سلوك الفرد ، أو في حياته الشخصية ، أو في حياة المجتمع ، أو في البيئة التي يعيش فيها الفرد ، أو في العملية التربوية نفسها ، أو في عمل التعليم كنشاط أساسي وكمهنة من المهن الأساسية في المجتمع" (31) .
وهناك اختلاف كبير في وجهات نظر علماء التربية في تحديد الأهداف التربوية ومصادر اشتقاقها ومعايير تحديدها ووسائل تحقيقها .
ومن خلال دراسة حياة الإمام علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – أرى أن أهداف التربية عنده تتمثل في الأهداف الآتية :


أولا: الأهداف الدينية :

الأهداف الدينية واضحة وبارزة عند الإمام علي – كرم الله وجهه – وحرصه على تحقيق هذه الأهداف والتأكيد على أولويتها ، أمر غير مستغرب ، فقد سبق أن أوضحت في هذا البحث نشأة الإمام علي بن أبي طالب ، وحياته والعوامل التي أثرت في شخصيته والتي جعلت منه شخصية متفردة بين صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولكل هذا يلاحظ أن الإمام علي قد نادى وحرص على الالتزام بالدين الإسلامي في كل ما يتعلق بحياة الفرد والجماعة .
فالتقوى تمثل محور الدين الإسلامي فبواسطتها ينال الإنسان الدرجات العليا عند الله تعالى " وكلما أوغل القلب في هذا الطريق – طريق التقوى – تكشفت له آفاق ، وجدت له أشواق ، وكلما اقترب بتقواه من الله ، تيقظ شوقه إلى مقام أرفع ، مما بلغ ، وإلى مرتبة وراء ما ارتقى ، وتطلع إلى المقام الذي يستيقظ فيه فلا ينام " (32) ، والتقوى هي وصية الله تعالى للناس كافة قال تعالى : ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله  (33) .
ولا تكاد تخلو أقوال الإمام علي – كرم الله وجهه – من ذكر التقوى ، وحثه عليها سواء أكان بطريقة مباشرة أم غير مباشرة ؛ لأن تقوى الله هي صفة ملازمة لأولياء الله تعالى تحميهم من اتيان محارم الله تعالى ، وهي سبيل الخوف منه، والعمل لإرضائه ، وهي فوق ذلك كله دافعهم للعمل للآخرة ، استعداداً لها ، قال الإمام علي في إحدى خطبه : " عباد الله إن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته ، حتى أسهرت لياليهم ، وأظمأت هواجرهم ، فأخذوا الراحة بالنصب ، والري بالظمأ واستقربوا الأجل ، فبادروا العمل ، وكذبوا الأمل ، ولاحظوا الأجل " (34) .
وخير ما يتواصى به الناس فيما بينهم في نظر الإمام علي – كرم الله وجهه – تقوى الله تعالى ، قال الإمام علي : " أوصيكم عباد الله بتقوى الله فإنها خير ما تواصى به العباد ، وخير عواقب الأمور عند الله " (35) .


ثانياً : الأهداف الفكرية :

" يهدف الإسلام إلى جعل التفكير العلمي أساس كل شئ في الحياة ، لذلك يختم القرآن كثيراً من التوجيهات في مجال التشريع وشؤون الحياة المختلفة بالدعوة إلى إعمال العقل والتفكير والتدبر " (36) .
وهذه الأهداف عن الإمام علي – كرم الله وجهه – تتصل بالمعرفة وتعمل على تنمية ذكاء الإنسان الذي يؤدي إلى تنمية قدرته على التأمل ، والنظر في آيات الله تعالى ، في الآفاق والأنفس ، وليصل إلى الإيمان بالله تعالى ، وليتمكن من تسخير قوى الكون المختلفة لمصلحته لتساعده في القيام بأعباء الخلافة في الأرض.
وهذه الأهداف التربوية يكون تحقيقها بالوسائل الآتية في نظر الإمام علي :

1- التأمل العقلي :


ميز الله تعالى الإنسان عن سائر المخلوقات بالعقل " واعتبر الإسلام العقل أداة التفكير والفهم معياراً للحكم على كثير من القضايا ، في إطار الحرية والتحرر من الخوف ، وفي إطار القيم الإنسانية التي هي الضمان الوحيد لضبط منطقه ، وحركته ، وما يصدر عنه من تعبير لفظي " (37) .
والعقل عند الإمام علي – كرم الله وجهه – هو الموجه والمرشد للإنسان لسلوك طريق الخير ، واجتناب طريق الشر ؛ لأن نظرة الإسلام للخير والشر ، تقوم على بيان النتيجة النهائية لكل منهما ، قال تعالى :  ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها (3 ، وذلك حتى تتحقق للإنسان حريته الكاملة في الاختيار ، قال الإمام علي : " كفاك من عقلك ما أوضح لك سبل غيك " (39) ، والغنى عند الإمام علي ليس هو امتلاك المال الكثير وإنما هو امتلاك الإنسان لعقل معافى يهديه سبل الرشاد ، قال الإمام علي: " لا غنى كالعقل" (40) وأوصى الإمام علي ابنه الحسن بقوله: " إن أغنى الغنى العقل " (41) ، والعقل عند الإمام علي خزانة لحفظ التجارب ، والتي يتمكن من خلالها الإنسان حل مشكلاته ، قال الإمام علي : " العقل حفظ التجارب " (42) .


2- العلم :

فالإسلام يؤكد " قيمة العلم ، فهو الحاكم والضابط لكل شيء مما يقع تحت إمكانية إدراك الحس ، أو في مقدور العقل أن يدركه " (43) .
وقد أولى الإمام علي – كرم الله وجهه – العلم عناية خاصة تليق بمكانته في حياة الإنسان ، فالعلم عنده خير من المال . قال الإمام علي لتلميذه كميل بن زياد النخعي : " يا كميل . العلم خير من المال ، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة ، والعلم يزكو بالإنفاق " (44) ، والخير كله في كثرة العلم قال الإمام علي : " ليس الخير أن يكثر مالك ، وولدك ولكن الخير أن يكثر علمك" (45).
وأفضل طريقة عند الإمام علي – كرم الله وجهه- لتحصيل العلم هي الإكثار من مجالسة العلماء ومناقشتهم وفي هذا تنمية للقدرة على التأمل والنظر والتفكير ، وعن طريق محاورة العلماء تتم عمليات نقل الأفكار إلى الأجيال اللاحقة، قال الإمام علي في كتابه لعامله على مصر مالك الاشتر النخعي : " أُكثر من مدارسة الحكماء " (46) .


3- التفكير في مخلوقات الله تعالى :

عن طريق التفكر والتأمل في مخلوقات الله تعالى يتيقن الإنسان من قدرة الله تعالى ، ودقة صنعه للوصول إلى الإيمان به تعالى ، فقد آمن عن هذا الطريق كثير من الأنبياء والصالحين وخير مثال لذلك سيدنا إبراهيم عليه السلام . قال تعالى:  إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب * الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار (47) .
تحدث الإمام علي – كرم الله وجهه – في كثير من خطبه عن الحيوانات والنباتات والسحاب والمطر ، وعن أحوال الناس وما يمرون به في حياتهم من مواقف ، مما يدل على ممارسته لما يعرف الآن بالتفكير العلمي الذي يقوم على الوصف الدقيق للظاهرة من جهة ، وحثه للناس من حوله على استعمال قدراتهم العقلية في التفكر والتأمل في مخلوقات الله تعالى ليتأكدوا من صدق ما أتى به الوحي المسطور ومقارنته بالكون المنظور ومن تلك المخلوقات التي وصفها الإمام علي النمل والخفاش ، قال الإمام علي في وصف الخفاش : " ومن لطائف صنعته ، وعجائب خلقته ما أرانا من غوامض الحكمة . في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكل شيء ويبسطها الظلام القابض لكل حي " (4 .


4- التريث في إصدار الأحكام :

دعا القرآن الكريم إلى التريث في إصدار الأحكام على الأمور المختلفة إلا بعد التحقق . قال تعالى :  يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين (49) وقال  : " إن الظن أكذب الحديث " (50) . فالقرار الصائب دائماً يأتي بعد إعمال الفكر فيما يتوافر من الحيثيات والبيانات المتعلقة بالقضية المعنية .
وقد حذر الإمام علي – كرم الله وجهه – من العجلة في اتخاذ القرارات ؛ لأنها قد تكون مبنية على معلومات كاذبة وبالتالي الوقوع في الخطأ ففي كتاب له لعامله على مصر مالك الأشتر النخعي " إياك والعجلة بالأمور قبل أوانها " (51) .


ثالثاً : الأهداف الاجتماعية :

" إن غنى الإسلام بالتشريعات الاجتماعية التي تحدد العلاقات الاجتماعية السوية بين البشر لا يصل إلى مستواه أي تشريع ، أو اجتهاد بشري " (52) . فالعلاقات الاجتماعية بين الناس يجب أن تكون قائمة على العدل والإحسان فيما بينهم بما يحقق الاستقرار في المجتمع .
وقد أكد الإمام علي – كرم الله وجهه – أهمية سيادة العدل والمساواة بين أفراد المجتمع ، فالمجتمع في رأيه يتكون من طبقات مختلفة لكنها ليست كالطبقة التي سادت في مجتمع اليونان القديم ، ولا طبقية أهل الهند وإنما طبقية أملتها طبيعة الحياة وتعدد الوظائف فيها ، وهذه الطبقات يكمل بعضها بعضاً .
ولكل فرد في أي طبقة من هذه الطبقات حرية الانتقال إلى طبقة أخرى بما يتوافر لديهم من إمكانيات ومؤهلات ، ويجب إعطاء كل طبقة منها حقها وفق شريعة الله تعالى ، فمن كتاب للإمام علي لعامله على مصر مالك الأشتر النخعي : " إعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض ولا غنى لبعضها عن بعض ، فمنها جنود الله ، ومنها كتاب العامة والخاصة ، ومنها قضاة العدل ، ومنها عمال الإنصاف والرفق ، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس ، ومنها التجار وأهل الصناعات ، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة ، وكل قد سميّ الله له سهمه ووضع على حده فريضة في كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم عهداً منه محفوظاً " (53) .
فهذا التقسيم الدقيق يستوعب كل أفراد المجتمع مما يدل على نظرة الإمام علي – كرم الله وجهه – الدقيقة والمتعمقة فيما يدور حوله من حراك اجتماعي مستمر داخل المجتمع وبوظائفه المختلفة .
ولما كان وجود الإنسان المادي محدوداً في هذه الحياة ، فإنه بالتأكيد لن يتمكن من الوقوف على كل المعلومات والخبرات والمعارف ، التي أنتجتها البشرية لذلك أضحى من أوجب واجبات الإنسان الانفتاح على الآخرين بما يتيح الإطلاع على تجاربهم وخبراتهم للاستفادة منها في مواجهة القضايا المتشابهة .
ومما يؤكد أهمية هذا الانفتاح ، تراكم المعرفة والتقدم التقني الحادث الآن في العالم .
فالاكتفاء بما حصله أفراد المجتمع الواحد فقط من معارف ومهارات يقود إلى التأخر عن ركب التقدم ، كما أن المعرفة البشرية ليست ملكاً لعصر معين أو لأمة محدودة ، " ما نعى به القرآن الكريم على اليهود والنصارى أن كل فريق منهم التزم موقفاً متزمتاً من الفريق الآخر والنظر فيما عنده رفضاً كاملاً " (54) ، قال تعالى :  قالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون  (55) .
وقد أكد الإمام علي – كرم الله وجهه – على ضرورة الانفتاح على الآخرين أياً كانت عقيدتهم ما لم يتعارض مع عقيدة المسلمين وقيمهم ، قال الإمام علي : " العلم ضالة المؤمن خذوه ولو من أيدي المشركين ، ولا يأنف أحدكم أن يأخذ الحكمة ممن سمعها منه " (56) وأوصى الإمام علي عماله على الأقاليم بهذا الأمر وجعله واجباً لابد من إتيانه ، لأنه يساعد على تسيير أمور الدولة بالصورة المطلوبة ، قال الإمام علي في وصيته إلى عامله على مصر مالك الأشتر " الواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة ، أو سنة فاضلة وأثر عن نبينا  ، أو فريضة في كتاب الله فتهتدي بما شاهدت مما عملنا به فيها ، وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت إليك " (57) .


رابعاً : التغير الاجتماعي :

يقصد بالتغير الانتقال من حالة إلى أخرى سواء أكانت من الأحسن إلى الأسوأ أم من الأسوأ إلى الأحسن ، فالتغيير سمة أساسية من سمات الحياة وتفرضه عوامل متعددة ومتداخلة ، داخلية وخارجية " فحياة المجتمعات البشرية لا تستقر على حال واحدة فهي في تغير مستمر يعتريها تبعاً لتغير حاجات الإنسان واتسـاع أفقه الثقافي " (5 .
يؤكد الإمام علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – على أن التغيير الاجتماعي يكون منطلقه الأول النفس ثم يأتي بعد ذلك التغيير الكامل في كل مناشط الحياة ، قال الإمام علي : " عباد الله زنوا أنفسكم قبل أن توزنوا وحاسبوها قبل أن تحاسبوا " (59) .
فالأفراد الذين يقع عليهم عبء التغيير في المجتمع لابد لهم من أن يهيئوا أنفسهم أولاً لتقبل هذا التغيير ، فقد أكد القرآن الكريم أن التغيير في جوانب الحياة كافة يكون أولاً بتغيير ما بالنفس ، قال تعالى :  إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم  (60) .
وهذه النظرية التي تبدأ " التغيير من الداخل إلى الخارج ، من الإنسان إلى الطبيعة والكون ، هي النظرية الأكثر حظاً في الانتشار والتنويه .. نوه بها الفلاسفة الأقدمون والحكماء والمصلحون من كل أمة ، وفي كل حضارة ، واعتمدها الأنبياء، والمرسلون من لدن آدم عليه السلام . وقامت عليها حضارات الصين والهند وفارس واليونان " (61) .


خامساً : الأهداف الثقافية :

الثقافة تعني الكل المركب الذي يشتمل على المعرفة والعقائد والفنون والقيم والقانون والعادات التي يكتسبها الإنسان كعضو في المجتمع " (62) .
وأي مجتمع لا تستمر حياته بالصورة المثلى ما لم ينقل التراث الثقافي فيه من الأجيال السابقة إلى الأجيال اللاحقة لتقف عليه ، وتدرسه ، وتختار منه في ضوء مطالب التغيير الاجتماعي الذي وجدت نفسها فيه لأن الخبرات البشرية لم تأت نتيجة مجهود جيل واحد أو عصر معين .
ولابد أن تقوم جهة معينة ذات مقدرة وكفاءة عالية تتوافر فيها الشروط اللازمة للقيام بعملية النقل هذه ، والتي من أهمها القدرة على تنقية هذه الخبرات والتجارب وفق متطلبات العصر ، وقد أصبحت المؤسسات التربوية المختلفة مسؤولة عن القيام بهذه المهمة بصورة تضامنية .
وعملية التنقية والتصفية هذه تعد من أهم العمليات التي تقوم بها التربية ، وتحدث هذه العملية غالباً ، بعد النظر في خبرات الأجيال السابقة . مع أخذ العظة والعبرة فيما آل إليه حالها ، وذلك حتى لا تضل الأجيال الجديدة ، أو تجد مشقة في اختيار الخبرات النافعة لها .
وقد أكد الإمام علي – كرم الله وجهه – على عملية تنقية التراث الثقافي من الشوائب وتقديمه للناشئين بعد ذلك ، قال الإمام علي في وصيته لابنه الحسن : " أي بني إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي ، فقد نظرت في أعمالهم ، وفكرت في أخبارهم ، وسرت في آثارهم ، حتى عدت كأحدهم ، بل كأني بما انتهى إليّ من أمورهم قد عمرت مع أولهم ، إلى آخرهم ، فعرفت صفو ذلك من كدره ، ونفعه من ضرره ، فاستخلصت لك من كل أمر جليلة وتوخيت لك جميلة ، وصرفت عنك مجهولة ، ورأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق ، وأجمعت عليه من أدبك أن يكون ذلك وأنت في مقبل العمر ، ومقتبل الدهر ، ذو نية سليمة ، ونفس صافية " (63) .
ويرى الإمام علي – كرم الله وجهه – أن أول ما يجب تعليمه للأجيال الجديدة ، القرآن الكريم وتفسيره ؛ لاشتماله على كل ما يحتاج إليه الناس في حياتهم الدنيا والآخرة ، ولبيانه لكثير من أحوال الأمم الماضية ، قال الإمام علي في وصيته لابنه الحسن : " إني ابتدئك بتعليم كتابه عز وجل وتأويله وشرائع الإسلام وأحكامه وحلاله وحرامه ، ولا أجاوز ذلك إلى غيره " (64) .
ويشير الإمام علي – كرم الله وجهه – إلى أن التراث الثقافي ليس كله نافعاً للأجيال الناشئة ، وواجب المربي حينئذ تنقية هذا التراث من الشوائب قبل تقديمه للمتعلم ، قال الإمام علي في وصيته لابنه الحسن : " ثم أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم مثل الذي التبس عليهم ، فكان إحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحب إليّ من إسلامك إلى أمر قد لا آمن عليك به الهلكة ورجوت أن يوفقك الله لرشدك ، وأن يهديك لقصدك " (65) .


الخلاصة :
مما سبق يتبين تأكيد الإمام علي المفهوم الشامل للتربية الذي يتناول الإنسان بكل مكوناته منظوراً إليه في ابعاد الحياة المختلفة ، بعد الماضي وخبراته ، وبعد الحاضر وتحدياته ، وبعد المستقبل بطموحاته في تداخل كامل بينها ، وهذا مما يؤدي إلى قيام التربية بوظائفها المتمثلة في تصفية واستخلاص التراث الثقافي المؤدي إلى حل مشكلات الحياة الراهنة ، والتطلع إلى حياة أفضل في المستقبل .
وكلما بدأت عملية التربية هذه في سن مبكرة أدى ذلك إلى غرس الأخلاق الحميدة في نفس الناشيء ، حيث صفاء النفس واستعدادها الكامل .

وهذا اوكلما بدأت عملية التربية هذه في سن مبكرة أدى ذلك إلى غرس الأخلاق الحميدة في نفس الناشيء ، حيث صفاء النفس واستعدادها الكامل .
لوضع يتطلب وجود المربي القدوة الذي يتمكن من استغلال طاقات الناشيء الذاتية وتطويعها لمصلحته ، فالتربية عند الإمام علي ليست عملية تفرض من الخارج فقط على الناشيء ، إذ لابد من الأخذ في الاعتبار ما يتمتع به هذا الناشيء ، من استعدادات وميول خاصة تختلف عما لدى غيره من الناشئين والكبار، وواجب المربي في هذه الحالة مراعاة طبيعة كل ناشيء على حدة وتوجيهه على ضوئها ، وتهيئة الظروف المناسبة لاستغلال هذه المكونات الذاتية ، وبتبصيره بما يترتب على سلوكه لطريق الخير أو الشر من نتائج .
وإذا روعيت كل تلك الاعتبارات المهمة أدى ذلك إلى تحقيق الأهداف المرغوب فيها من التربية في نظر الإمام علي – كرم الله وجهه – بطريقة متكاملة ومتوازنة على خلاف التربية الحديثة التي تجزي هذه الأهداف .


الهوامش :

(1) علي بن أبي طالب ، نهج البلاغة ، جمع الشريف الرضي ، شرح محمد عبده ، تحقيق عبد العزيز سيد الأهل ، ج2 (بيروت ، دار الأندلس ، د . ت) ص 475 .
(2) نفس المرجع ، ج4 ، ص 476 .
(3) نفس المرجع ، ج4 ، ص 478 .
(4) سورة الرعد الآية 11 .
(5) تركي رابح ، أصول التربية والتعليم (الجزائر : الدار الوطنية للكتاب ، 1991م) ص 29 .
(6) محمد يوسف الكاندهلوي ، حياة الصحابة ، تحقيق نايف العباس ومحمد علي دولة ، ج2 (دمشق : دار القلم 1403هـ ، 1983م ) ص 448 .
(7) نصر بن مزاحم ، وقعة صفين ، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون ، ج2 (القاهرة دار إحياء الكتب الدينية ، د. ت) ص 163 .
( علي بن أبي طالب ، نهج البلاغة ، شرح محمد عبده ، ج4 ، ص 555 .
(9) نصر بن مزاحم ، مرجع سابق ، ج2 ، ص 137 .
(10) Abdul Rahman Abdalla, Educational Theory, Makla: University of King Saud, Aquaranic look Educational & Psychology Research Centre 1982. P. 59.
(11) Ibid P. 60
(12) سورة الروم الآية 30 .
(13) علي بن أبي طالب ، نهج البلاغة ، جمع الشريف الرضي ، شرح ابن أبي الحديد ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، ج3 (بيروت: دار الجيل،1407 هـ /1987م) ، ص 127 .
(14) سورة التحريم الآيتان 10 ، 11 .
(15) نفس المرجع (13) ، ج16 ، ص 74 .
(16) سورة النحل ، الآية 78 .
(17) أبو حامد الغزالي ميزان العمل ، تحقيق سليمان دنيا ، ط1 (القاهرة : دار المعارف 1964م ) ، ص 337 .
(1 نهج البلاغة ، شرح ابن أبي الحديد ، ج8 ، ص 70 .
(19) نفس المرجع ، ج16 ، ص 48 .
(20) نفس المرجع ، ج16 ، ص 48 .
(21) محمد بن عيسى الترمذي ، سنن الترمذي ، تحقيق مصطفى الذهبي ، ج1 (القاهرة : دار الحديث ، 1419هـ/1999) ، ص 201 .
(22) الخطيب البغدادي ، الفقيه والمتفقه ، تعليق إسماعيل الأنصاري ، ج9 ، ط2 (بيروت : دار الكتب العلمية 1400هـ/1980م) ، ص 90 .
(23) أبو حامد الغزالي ، إحياء علوم الدين ، تحقيق سيد إبراهيم ، ج2 ، ط1 (القاهرة : دار الحديث 1414هـ/1994م) ، ص 193 .
(24) علي بن أبي طالب ، نهج البلاغة ، شرح بن أبي الحديد ، ج16، ص 67.
(25) صالح صغيرون ، محمد بن علي الشوكاني وجهوده التربوية ، ط1 (بيروت : دار الجيل 1409هـ/1989م) ، ص 79 .
(26) سعيد إسماعيل علي ، أصول التربية ، ط1 (القاهرة: دار الفكر العربي 1413هـ/1993م) ، ص 145 .
(27) محمد بن يزيد بن ماجة ، سنن بن ماجة ، تحقيق ناصر الدين الألباني ، ج1، ط3 (بيروت : دار الكتب العلمية 1410هـ/ 1989م) ، ص 27 .
(2 أحمد شلبي ، التربية والتعليم في الفكر الإسلامي ، ط1 (القاهرة : مكتبة النهضة المصرية 1994م) ، ص 307 .
(29) علي بن أبي طالب ، نهج البلاغة شرح ابن أبي الحديد ، ج8 ، ص 168.
(30) كمال علي إبراهيم ، الإمام الغزالي ، ط1 (الدوحة ، جامعة قطر 1406هـ 1986م) ، ص 234 .
(31) عمر محمد التومي الشيباني ، فلسفة التربية الإسلامية ، ط1 (طرابلس: الدار العربية للكتاب 1988م) ، ص 282 .
(32) سيد قطب ، في ظلال القرآن ، ج1 ، ط7 (بيروت : دار إحياء التراث ، 1391هـ / 1971م) ، ص 222 .
(33) سورة النساء ، الآية 131 .
(34) علي بن أبي طالب ، نهج البلاغة ، شرح محمد عبده ، ج1 ، ص 220 .
(35) نفس المرجع ، ج1 ، ص 108 .
(36) عباس محجوب ، أصول الفكر التربوي الإسلامي (جامعة الإمارات 1404هـ/ 1984م) ، ص 116 .
(37) محمود السيد سلطان ، مسيرة الفكر التربوي عبر التاريخ ، ط1 (القاهرة : دار المعارف ، 1979م) ، ص 104 .
(3 سورة الشمس الآيات 7 – 10 .
(39) علي بن أبي طالب ، نهج البلاغة ، شرح محمد عبده ، ج4 ، ص 652 .
(40) علي بن أبي طالب ، نهج البلاغة ، شرح ابن أبي الحديد ، ج18 ، ص 185 .
(41) نفس المرجع ، ج18 ، ص 157 .
(42) نفس المرجع ، ج6 ، ص 97 .
(43) علي خليل أبو العينين ، أصول الفكر التربوي الحديث (القاهرة : دار الفكر العربي ، د . ت) ، ص 111 .
(44) محمد بن عبد البر القرطبي ، جامع بيان العلم وفضله ، ج1 (بيروت : دار الكتب العلمية ، د . ت) ، ص 57 .
(45) علي بن أبي طالب ، نهج البلاغة، شرح بن أبي الحديد، ج18 ، ص250.
(46) علي بن أبي طالب ، نهج البلاغة شرح محمد عبده ، ج4 ، ص 522 .
(47) سورة آل عمران ، الآيتان 190 – 191 .
(4 علي بن أبي طالب ، نهج البلاغة ، شرح محمد عبده ، ج9 ، ص 181 .
(49) سورة الحجرات ، الآية 6 .
(50) مسلم بن الحجاج ، صحيح مسلم ، ج6 (القاهرة: دار الحديث 1419هـ) ، ص 118 .
(51) علي بن أبي طالب ، نهج البلاغة ، شرح محمد عبده ، ج3 ، ص 439 .
(52) محمود السيد سلطان ، مرجع سابق ، ص 157 .
(53) علي بن أبي طالب ، نهج البلاغة ، شرح محمد عبده ، ج4 ، ص 522 .
(54) ماجد عرسان الكيلاني ، مفهوم النظرية التربوية الإسلامية ، ط1 (المدينة المنورة : مكتبة التراث 1407هـ/1987م) ، ص – ص- 62 ، 63 .
(55) سورة البقرة ، الآية 113 .
(56) محمد بن عبد البر القرطبي ، مرجع سابق ، ج1 ، ص 101 .
(57) علي بن أبي طالب ، نهج البلاغة ، شرح محمد عبده ، ج4 ، ص 339 .
(5 عبد المجيد إبراهيم ، مبادئ التربية وطرق التدريس ، ط3 (القاهرة : مكتبة الأنجلو المصرية 1987م) ، ص 38 .
(59) علي بن أبي طالب ، نهج البلاغة ، شرح بن أبي الحديد ، ج11 ، ص 395 .
(60) سورة الرعد ، الآية 11 .
(61) زكريا بشير إمام ، أصول الفكر الاجتماعي في القرآن الكريم ، ط1 (عمان: مكتبة روائع مجدلاوي 1420هـ /2000م) ص 114 .
(62) محمد الهادي عفيفي ، الأصول الثقافية للتربية ، ط11 (مصر: دار المعارف 1976م) ، ص 123 .
(63) علي بن أبي طالب ، نهج البلاغة ، شرح بن أبي الحديد ، ج16 ، ص 168 .
(64) نفس المرجع ، شرح محمد عبده ، ج4 ، ص 477 .
(65) نفس المرجع ، شرح ابن أبي الحديد ، ج16 ، ص 68 .
تعـودت مـس الضر حـتى ألفته
و اسلمني حـسن العزاء إلى الصبر
و صـيرني يأسـي من الناس واثقا
بحسن صنيع الله من حيث لا ادري

إن الكلمة التي كنا نخشى قولها في الخفاء ستقال يوماً في العلن
و كل ما آمنا به في الخلوات سيعلن يوماً على رؤس الأشهاد

أضف رد جديد

العودة إلى ”مجلس الأسرة والمرأة“