الشباب والغرب بين الأصالة والمعاصرة

مواضيع عامة حول الحياة الإجتماعية في نطاق الأسرة وخارجها
أضف رد جديد
فدك الزهراء
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 61
اشترك في: الأحد يونيو 20, 2004 1:17 pm

الشباب والغرب بين الأصالة والمعاصرة

مشاركة بواسطة فدك الزهراء »

الشباب والغرب بين الأصالة والمعاصرة

* السيد محمّد حسين فضل الله

إنّ قيمة الخطاب الاسلامي المعاصر ـ لا سيّما لدى الاسلاميين الحركيين ـ تتمثّل في قدرة الاسلام على أن يواجه مشاكل الانسان المتنوِّعة بطريقة واقعيّة لا تغيب في التجريد. ونحن ندرسُ القرأن الكريم، فنرى أنّ الله سبحانه الذي علا فلا شيءَ فوقَه قد دنا إلى خلقه فلا شيءَ دونَه، وخاطبهم من خلال آياته المتناثرة في الكون في عالم الحس، ومن خلال نعمه المتحرِّكة في مفردات حياتهم لينفتحوا على الغيب من موقع الشهود وعلى الخالق من خلال مخلوقاته.
إنّ ايماننا بالغيب لا يعني ابتعادنا عن الواقع من حولنا، بل إنّه يؤكِّدهُ ويقوِّيه ويوحي إليه أ نّه لا يتحرّك في فراغ، ولا يسقط في أجواء القلق والحيرة والفراغ عندما يواجه الصعوباتِ والضغوطَ القاسية والمشاكل المعقّدة والمتاهاتِ السّحيقة لأ نّه يعيش الاحساسَ بلطف الله ورحمته له ورعايته لحياته وإشرافه عليه من موقع الربوبيّة التي تربِّي للإنسان كلّ حياته، جسدَه وروحَه من دون أن تبعدَه عن ارادته واختياره وعن مسؤوليّاته العمليّة في بناء ذاته.
وهكذا نريد للإسلاميين أن يملأوا الخطاب الاسلاميّ بالله في روحانيّة الفكر وواقعيّة التحرّك من حيث أنّ الله ـ في كتابه ـ رعى الحركة الاسلاميّة الأُولى في خط الدعوة والحركة في إنطلاقة النبيّ محمّد (ص)، فكانت الآيات تراقب الواقع وترصده وتحاكمه وتقدِّم ـ في نهاية المطاف ـ وحي الرسالة الاسلامية ـ في سِلم المسلمين وحربهم ـ سواءً كانت فاشلة أو ناجحة، لتكتشف الصادقين والكاذبين ولتوجِّه المسيرة إلى المستقبل في(شجاعة الاعتراف بالخطأ ـ إذا أخطأت ـ وبطولة تغيير اتجاه المسار ـ إذا انحرف.

لقد كانت قيمة القرآن ـ الكتاب الإلهيّ الحركيّ ـ أنّه انطلق في أسلوبه ليعالج الواقع الممزوج بالغيب، فلم يبتعدْ الواقعُ عن واقعيّته في إطلالته على الغيب ولم يخرجْ الغيبُ عن عالمه في الوجدان في ملامسته لقضايا الواقع، لأنّ الخطاب كان للإنسان الذي هو حيٌّ في وجوده الجسديّ، وغيبيٌّ في أسراره الروحيّة وتطلّعاته الماورائيّة.
ولهذا فلا بدّ لنا أن يبقى خطابنا الاسلاميّ خاضعاً لخصوصيّاته وعناصره الذاتيّة في استنطاق النفس الانسانيّة في حركة الواقع، فلا يكون تجريديّاً يحلِّقُ في الخيال ولا يكون حسِّيّاً يغرق في ضباب المادّة، بل يأخذ من هذا قسماً يقترب فيه التجريد من الواقع، ومن ذلك قسماً ينفتح فيه الواقع على الغيب.

لقد أحببتُ الاشارة إلى هذه النقطة الحيويّة لأ نّني رأيت أنّ هناك اتجاهين متطرِّفَين في الخطاب الاسلاميّ، فهناك الاتجاه الغيبيّ التجريديّ الذي يدفعُك إلى أن تعيش في عالم كلّه غيب، فلا تحسّ بوجوده على الأرض، وهناك الاتجاه المادي الذي يلاحق الواقع ليخلدَ إلى الأرض ويستغرقَ في خصوصيّاته حتّى ينسى الله في أسراره الإلهيّة التي تمنحُ الانسان شيئاً من معنى الغيب في حركته في الحياة من خلال الامداد الغيبيّ الذي يرعى حركته ويقوِّمُ مسيرته ويملأ روحه بالثّقة والأمل.
إنّ علينا أن نعرف أنّ الاسلام دينٌ يستمدُّ خصائصه الحيويّة وجذورَه الفكريّة من الايمان بالله ورسله واليوم الآخر في عالم الغيب في العقيدة وفي عالم الشهود في الحركة والحياة، فلا بدّ للخطاب الاسلاميّ من أن يجمع ذلك كلّه لنعيش اسلامنا بطريقة متوازنة في عناصره ومتحرِّكة في أبعاده وتطلّعاته.

إنّ موضوع (الشّباب والغرب) يطرح قضيّةً من أكثر القضايا حسّاسيّة ومن أكثرها واقعيّة ومن أخطرها مستقبليّاً.
لأنّ المسألة تتّصل بالشباب الذي يمثِّل الطّليعة الانسانيّة التي بدأت حركة النموّ في الحياة من أجل أن تكون قاعدة الريادة والقيادة والانتاج في المستقبل لتخلّف جيل الآباء والأجداد الذين عاشوا تجربتهم السلبيّة في حركتهم في الماضي الذي يُطلّ بكل أثقاله على الحاضر ليترك تأثيراته على صناعة المستقبل.
ولعلّ من غير الواقعيّ أن نفكِّر بأنّ الشباب يمكن أن يخضع للقوالب الجاهزة المصنوعة من قِبَلِ الجيل الذي عاصره أو سبقه، فيُغلِقَ فكره عن جديد الحياة، وروحَهُ عن تطوِّرِ الواقع، وحركتَهُ عن متغيِّرات السّاحة لأنّ الاُفق الذي ينفتحُ عليه يختلف عن الآفاق التي انفتح عليها الناس من قبله، فهناك أوضاعاً جديدة فرضت نفسها على الواقع الانسانيّ من خلال سيطرة فكر معيّن أو قوّة كبيرة ساحقة، وهناك مشاكل معقّدة تتحدّى الكثير من قضاياه وتطلّعاته، وهناك المتاهات الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية التي لا يزال الانسان المعاصر يتحرّك لاهثاً من أجل اكتشافِ الخطوط التي تَدلّهُ على اتجاه الطريق الذي يؤدِّي إلى السلام.

ولعلّ هذا الواقع الشبابيّ في عالمه الجديد الذي يريد أن يصنع واقعاً جديداً هو الذي توحي به كلمة الامام عليّ (ع): «لا تخلّقوا أولادكم بأخلاقكم فإنّهم خُلِقوا لزمان غير زمانكم»، فقد يكون المقصود بها أنّ لكلِّ زمان أوضاعه التي تصنعُ له أخلاقاً جديدة بكل ما تعنيه كلمة الأخلاق المتّصلة بالسلوك الفكري والعلمي وبالمنهج الحركي على مستوى العلاقات العامّة والخاصّة وقضايا الانتاج وحركة الوسائل والأهداف وكل الاُمور المتحرِّكة في ساحة القلق الانساني الباحث عن كل جديد في المعرفة والواقع.
إنّني لا أقصد من ذلك الحديث عن الحياة الشبابية التي تستغرق في كلِّ جديد بما يُنتجه أيّ فكر يتحرّك به عصره، بحيث ينطلق الشباب بعيداً عن كل جذوره الفكرية التاريخية وفارغاً من كل عقيدته الاسلامية ليتمثّل في صفحة بيضاء لم يكتبْ له فيها شيء في الفكر وفي المنهج وفي السلوك، لأنّ ذلك لا يمكن أن يكون مضمون الكلمة العلويّة الرائدة، باعتبار أنّ هناك القضايا العقيدية والشرعية والمنهجية الاسلامية المعدودة من الثوابت باعتبار أ نّها تمثِّل الحقيقة الالهيّة المنزلة على الانسان ليهتدي بها من خلال الوحي الإلهي على النبيّ محمّد (ص) ممّا لا مجال لإثارة الجدل فيه أو لتغييره إلاّ من خلال مناهج التغيير القرآنية أو النبوية ممّا يمكن أن يسمح به الخط الفكري الاسلامي في دائرته الحركية في الداخل.

بل إنّني أقصد ـ في هذا الاستيحاء ـ إنّ على الجيل القديم أن لا يفرض خصوصيّاته الذاتية على جيل الشباب، فليس من الضروري أن يفهم الشباب من النص التراثي ـ الكتاب والسنّة ـ ما فهمه الآباء والأجداد، لأنّ من الممكن له أن يأخذ بالقواعد العلمية في فهم النص وتحريكه ليفهم منه غير ما فهموه وليجتهد في تحريك مفرداته بغير الطريقة التي اجتهدوا فيها، فقد يكتشف بعض الخطأ في اجتهاداتهم لتأثّرهم ببعض الظروف الموضوعية الثقافية والواقعية التي فرضت عليهم نوعاً من التصوّرات المعيّنة باعتبار أنّ من الصعب للمجتهد في أي موقع للفكر أن يتخلّص من ذاتيّات ثقافته الخاصّة في اجتهاده.

وليس من الضروري أن يكون فهم الشباب للحياة في أساليبها ووسائلها وعلاقاتها وحركيّتها ما فهمه الأوّلون أن تكون حاجاتهم المتحدِّدة هي حاجات آبائهم لأنّ التطوّر قد يصنع للانسان حاجات جديدة أو تكون أخلاقهم الاجتماعية هي نفس أخلاق المجتمع السابق.
إنّ هناك اُموراً ثابتة في العقيدة والشريعة والسلوك لا بدّ للمسلم أن يثبت عليها، وأنّ هناك اُموراً متحرِّكة يمكن للإنسان المسلم أن يحرِّكها في حياته أو يتحرّك من خلالها، وهذا هو الخط الفاصل بين الثابت والمتحرِّك والمتحوِّل في واقع الانسان المسلم في حركة الحياة عندما يريد أن يكسب نفسه وحياته ويصنع تاريخه ليتحمّل مسؤولية ذلك كلّه كما تحمّل الجيل الماضي مسؤوليته في صنع تاريخه كما جاء في قوله تعالى (تلك اُمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عمّا كانوا يعملون)، فلا بدّ أن يكون لهذا الجيل دور اختياري في انتاج كسبه الفكري والعلمي ليواجه مسؤوليّته عنه أمام الله، فلا يجوز له أن يقلِّد الاُمّة التي تقدّمته في الزّمن لأنّ ذلك لن يكون عذراً له أمام الله الذي يريد لكل نفس أن تجادل عن نفسها يوم يقوم الناس لربّ العالمين.

أمّا الغرب، فهو هذا العالم الجديد الذي يتميّز بفلسفته المادية المغرقة في عبوديّتها للحس بحيث عملت أن تحوِّل الغيب في تصوّراتها الدينية إلى عالم خاضع للأجواء المادية الحسية كما يتميّز بتصوّراته المطلقة في حرية الانسان التي تصنع القيمة الأخلاقية في السلوك بمقدار ما يقترب منها أو يبتعد عنها، وفي ضوء ذلك فانّ هناك بوناً شاسعاً بين التصوّر الاسلامي لله وللانسان وللحياة وبين التصوّر الغربي ـ في ذلك كلّه ـ كما هو الفرق بين الفلسفة التي تتصوّر الحياة خَلْقَ الله الذي أراد للانسان خليفته في الأرض ليديرها على أساس أن لا ينسى نصيبه في الأرض من حاجاته المادية عندما يريد التطلّع إلى الدار الآخرة التي تمثِّل العنوان المتحرِّك للقيم في الربط بين الوسيلة المادية والغاية الروحية لتتروّح المادّة ولتأخذ الرّوح إسلوباً ماديّاً في حركتها في الواقع فيكون الله كلّ شيء في معنى الانسان ويكون الانسان المخلوق الذي منحه الحرية في نطاق مسؤوليّاته أمامه في إدارة الحياة والفلسفة التي لا تجد لله دوراً في حركة الانسان في الواقع وفي عملية انتاج الحياة.

ولكنّنا في الوقت نفسه لا ننكر إنّ هناك بعض المواقع التي نلتقي فيها مع الغرب، كما أ نّنا نعترف بالتقدّم العلمي والتقني الذي بلغه الغرب ممّا يمثِّل حاجاتنا الضرورية إليه في مسألة التعامل.
وهناك نقطة حيوية مهمّة، وهي أنّ مجتمعاتنا الاسلامية لا تتمثّل الكثير من الاسلام على مستوى التصوّر والحركة والعلاقات، فقد غرقت بالأجواء الملبّدة من آثار الجهل والتخلّف بفعل مرور السنين الضائعة في متاهات الانحراف، الأمر الذي جعل الاسلام يعيش الغربة في مجتمع ممّا تعنيه العقلانية والموضوعية والانسانية والحرية ونحو ذلك سواء على مستوى الواقع الاجتماعي أو السياسي.

ونجد في المقابل بعضاً من هذه القيم موجودة في علاقات الانسان الغربي بالإنسان الآخر في مجتمع، بحيث تخفِّف من حدّة الانفعال ومن الاستغراق في الشخص ومن التدخّل في شؤون الآخر ومن الظلم الاجتماعي بدرجات متفاوتة بالرّغم من وجود بعض السلبيات في هذا الجانب أو ذاك، ممّا يجعل الصورة ـ في بعض جزئيات الواقع ـ في المجتمع الاسلامي أكثر ظلاماً وفي المجتمع الغربي أقلّ من ذلك في هذا الموقع أو ذاك ممّا يترك تأثيره على انطباعات الشباب عندما يبدأون المقارنة بين مجتمعاتهم ومجتمعات الغرب بقطع النظر عن صوابيّة هذا الانطباع أو عدمه.

إنّني اُريد ـ في هذه العجالة السريعة ـ أن اُركِّز بشكل مختصر حول دائرتين من الخطاب.
الدائرة الاُولى، حديثي مع الشباب الذين قد يتطلّعون إلى الاستغراق في عالم الغرب كما لو كان هو الجنّة الموعودة التي تحقِّق له أطيب الأحلام، إنّ عليكم أن تفكِّروا في أصالتكم الفكرية والعملية المتمثِّلة في أصالتكم الانسانية في الثّبات على الخط الاسلامي في حركتكم في الحياة، ولست أقصد بالأصالة أن تأخذوا بالماضي جملة وتفصيلاً، بل أقصد بها أن تؤكِّدوا إسلامكم في أي إنفتاح على كل ما هو جديد في الفكر والسلوك، لأنّ الجديد ليس هو جديد العصر ليقول قائل لكم أنّ على الانسان أن يعيش عصره في كلّ تطوّراته الفكرية حتى لا يكون متخلِّفاً عن واقع المعاصرة بما يمكن أن يجعله غريباً بين الناس لأنّ الأفكار القديمة أو الجديدة هي صنع الانسان لا صنع الزمن، فقد يخضع الناس لفكر معيّن بفعل القوى التي تملك السيطرة على الواقع وتفرضه على الحياة من دون أن يكون للحياة أي دور في انتاجه بفعل التطوّر.
وعلى ضوء هذا، فانّ من الضروري أن تدخلوا في عملية مقارنة ـ إذا كنتم في موقع الموضوعية الفكرية ـ بين الفكر الاسلامي الذي تنتمون إليه في إلتزامكم بالاسلام وبين الفكر الشائع لدى الناس بفعل عوامل القوّة التي فرضته على الواقع، فقد تجدون في الاسلام فكراً متقدِّماً منفتحاً على المصالح الانسانية الحقيقية، وتكتشفون في الفكر المعاصر فكراً متخلِّفاً بعيداً عن الواقعية في معالجة مشاكل الانسان المتعدِّد الأبعاد من حيث المادّة والرّوح.

إنّ المعاصرة في معناها الحيوي الانساني ليست شيئاً في حركة الزمن في المضمون، بل هي شيء في حركة الانسان في إنتاج إنسانيّته في قضاياه ومشاكله وأوضاعه، فلتكن لكم إرادتكم الفكرية في اختيار الفكر الذي تلتزمونه بوعي وانفتاح بعيداً عن كل الانفعالات المجتمعية التي تضغط على الانسان بفعل الأجواء العاطفية التي تستلب فكره بطريقة (العقل الجمعي) الذي يفقد الانسان معه استقلاله الفكري وخياره الحرّ في الاتجاه العملي.
إنّ الأصالة تمثِّل الجذور العميقة في إنسانية الانسان في الفكر الأصيل المنطلق من الله ورسوله الذي ينفتح على الزّمن كلّه والحياة كلّها فلا يخضع للماضي والحاضر والمستقبل في حدوده الزّمنية.

أمّا المعاصرة، فهي الانفتاح على العصر في حاجات الانسان وقضاياه الحقيقية في أبعادها المتنوِّعة بحيث يتمثّل الانسان فيها حياته بشكل متوازن من حيث التزامه بإسلامه وانفتاحه على قضايا عصره، من خلال وعيه لهذا وذاك في اجتهاداته الفكرية ووعيه الرّوحي ممّا يملك من عناصر الاجتهاد والوعي الذي يوهِّله ليدخل في حوار مع الفكر الآخر ومع الانسان الآخر.
وإذا كان الغرب يمثِّل القوّة العملية الكبيرة والتقدّم التكنولوجي الواسع، فإنّ علينا أن نفرِّق بين مفردات العلم في حركة الحضارة ومفردات الخطوط الفكرية والسلوكية في طريقة الانسان في علاقته بالله وفي نفسه وبالحياة، فلا نرى في النمو المعرفي والعلمي دليلاً على صحّة المنهج الفكري في قضايا العقيدة والأخلاق والسلوك وفي معاني الرّوح والوجدان، بل يجب دراسة كل قضيّة بحسب عناصرها الذاتية وتأثيراتها الحيويّة على الواقع في خط الحقيقة.

ثمّ.. لا بدّ من دراسة مسألة الحريات الانسانية في أكثر من جانب، فلا يجوز الانفتاح عليها من البعد الواحد الذي يمثِّل الحالة الفردية للانسان، بل لا بدّ من التأمّل الواعي للجانب الفردي والمجتمعي والعنصر المادي والرّوحي بالاضافة إلى الانتباه إلى حقيقة ايمانية واحدة هي انّ الانسان من خَلْقِ الله، وعليه أن يتحرّك من موقع إرادة الله في حركته في الحياة وفي إدارة شؤون نفسه وشؤون الأرض، ممّا يجعل القضيّة مرتبطة بعلاقة الانسان بربِّه وبنفسه وبالناس من حوله وبالأرض التي يتحرّك عليها في واقعها البيئي والتنموي وفي المخلوقات الحيّة أو النامية الموجودة على ظهرها، لتكون الحرية مسؤولة عن ذلك كلّه لأنّ الانسان ليس هو المخلوق الوحيد الذي يعيش المأساة في تقييد حرّيّته، فللمسأساة أكثر من موقع في مفردات النظام الكوني، الأمر الذي يفرض عليه أن لا يعيش معنى المأساة انفعالاً في ذاته التي تبكي من الحرمان الذاتي، بل يعيش معها وعياً لكلّ حاجات ما حوله ومَن حوله بالإضافة إلى حاجاته، فالكون ليس إنساناً وحده بل هي حيوان ونبات وبحر وبَر وسهل وجبل ومفردات متنوِّعة هنا وهناك، وكلّ واحدة من هذه تتطلّب من الاُخرى أن تتكامل معها في واقع الوجود ولا تتجاوزها لتُسقط كلّ أوضاعها الخاصّة والعامّة.

وهناك جوانب اُخرى لا يتّسع المجال للحديث عنها، ولكنّني أختصر الحديث في كلمة واحدة، وهي أنّ الشباب ليس لذّة وشهوة وانفعالاً وأحلاماً سعيدة، بل هو مسؤولية وجودية ترتبط بالوجود كلّه، وإنسانيّة تتّصل بالانسان كلّه، وروحيّة تنفتح على الله وعلى الدنيا والآخرة لتفكِّر في ذلك كلّه ولتحصل على سلامة المصير في كل أبعاده الدنيويّة والاُخرويّة.
الدائرة الثانية، هي دائرة العاملين للاسلام الذين يتابعون واقع الانسان المعاصر لدراسة كل أوضاعه وأفكاره وأبعاده ووسائله وأهدافه من أجل التخطيط للحركة التي تجمع ذلك كلّه لتنطلق في دراسة أفضل الوسائل لإنقاذ الانسان المسلم من سلبيّاته ولتوجيهه إلى الاستزادة من إيجابيّاته، ومن الطّبيعيّ أن تكون مسألة الشباب والغرب إحدى الاهتمامات الكبرى للحركة الاسلامية في حقل الثقافة والدعوة والحياة، في دراسة كل المؤثِّرات الفكرية والروحية والعلمية، السلبية والإيجابية، وكل القلق الفكري والإنحراف العملي والضّياع الشعوري ومواجهته بالوسائل العملية التي تمنحه الفرصة ليعبِّر عن كلّ ما في نفسه من تساؤلات وقلق وتمرّد وضياع، للإجابة على كلّ سؤال لدية، ولعلاج أ يّة مشكلة أو التخفيف منها، ولاحتضان كل مشاعره وأحاسيسه، وتقدير كل ظروفه الموضوعية المحيطة بحياته من خلال معرفة نقاط ضعفه وقوّته، وعدم الاكتفاء بالحديث عن انحرافات الشباب وضياعهم وتسجيل النقاط الاتهاميّة أو التجريمية ضدّهم.

إنّ على العاملين في سبيل الله أن يتفهّموا شباب الاُمّة ويتعرّفوا حاجاتهم الفكرية والعملية ويفسِّروا لهم كل المجملات الاسلامية، لأنّ الشباب في قلقه الرّوحي يتطلّع إلى الوضوح في الرؤية والوعي في المعرفة.
وإذا كنّا نعرف أنّ للشباب حاجاته الترفيهية واللّهوية والاجتماعية، فقد يكون من الضروري أن نعمل على انشاء النوادي الرياضية والترفيهية التي تأخذُ بأسباب اللّهو الحلال بما يملأ فراغ وقته ويبعده عن الاتجاه إلى مواقع أخرى تمنحه اللّهو المحرّم الذي يلجأ إليه عندما يعيش الفراغ عن الأخذ باللّهو المحلّل، وربّما كان الطبيعي أن نبتعد عن الفكرة التي تتحدّث عن سلبيّة اللّهو في حاجات الانسان العملية، فقد جاء الحديث المأثور: «ينبغي أن يكون للمؤمن ثلاث ساعات، ساعة يُناجي فيها ربّه وساعة يروم فيها معاشه وساعة يُخلي بين نفسه وبين لذّتها فيما يحلُّ ويجملُ أو في غير محرم فإنّها عون على تينك السّاعتين».

ثمّ.. العمل على توفير المحاضن الاسلامية من مساجد وحسينيات ومدارس ونواد ثقافية وأجواء اجتماعية، ولا بدّ من التكامل بين الهيئات والجمعيّات، فلا يبدأ كل فريق من نقطة الصفر بل ينطلق كل واحد مع الآخر.
إنّني ألاحظ أنّ الحركات الاسلامية الموجودة في الغرب تتنوّع في أوضاعها بين حركة تستغرق في السياسة، فلا تعطي للثقافة ولا للأجواء الروحية أيّ بُعد حركيّ، وحركة تستغرق في الثقافة والعبادة فلا تمنح السياسة والوضع الاجتماعي أيّ دور، وحركة تنكمش في داخل ذاتيّاتها فتبتعد عن الواقع كلّه لتعيش في عزلة ثقافية وروحية وسياسية.
ثمّ.. هناك العصبيّات الحزبية التي تخرج عن الالتزام الاسلامي في حلال الله وحرامه، وهناك المشاكل الهامشية والجزئية التي تأكل القضايا الأساسية والكلية ممّا يعطي للشباب الطّالع فكرة سلبية عن العمل الاسلامي، فيكفر بالشخصيات الاسلامية التي تتعصّب لذاتها أكثر ممّا تتعصّب لإسلامها ولربِّها ويكفر بالتجمّعات الاسلامية أحزاباً وحركات وجمعيّات التي تعمل على إسقاط الهيكل على رؤوس الجميع إذا لم يكن الهيكل لها وحدها، وتتعصّب للإطار الضيِّق الذي تحبس نفسها في داخله ولا تنفتح على الله والاُمّة والاسلام في الحاضر والمستقبل.
إنّ المرحلة التي نواجهها هي من أكثر المراحل صعوبة في حركة الاسلام ومسيرته، فانّ العالم المستكبر بدأ حرباً عالميّة ضدّ الاسلام كلِّه والمسلمين كلِّهم باسم الحرب على الاُصوليّة التي لا وجود لها ـ بحسب المفهوم الغربي ـ عندنا، وعلى الارهاب الذي لا مصداق له في حركتنا الاسلامية، فهل ننطلق من هذا الواقع لنواجه مسؤوليّتنا بالمستوى الذي نستطيع فيه أن نفتح ثغرة في الجدار الاستكباري الكبير الذي ينتصب ليكون حاجزاً بيننا وبين التقدّم إلى مواقعنا الاسلامية في مستقبل الحياة والإنسان.

إنّ الوحدة الاسلامية بين المذاهب والحركات والجماعات ليس مجرّد شعار نطرحه للاستهلاك، ولكنّه ضرورة حيويّة مصيريّة لكل الواقع الاسلاميّ لأنّ الاستكبارَ يريدُ رأسَ الاسلام كلِّه.. فهل نفهم طبيعة لعبة الاستكبار في واقعنا وحركتِنا وأهدافنا الكبرى؟


----------------------------
محاضرة اُلقيت في المؤتمر(31) لرابطة الشباب المسلم، الذي عُقِدَ في كانون الأوّل 1996، في لندن.
وأمض شيء للقلوب قطائع بالمروزان لهم وكرزكان

محمد الغيل
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 2745
اشترك في: الأحد إبريل 18, 2004 3:47 am
اتصال:

مشاركة بواسطة محمد الغيل »

:)
صورة
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون
صورة

أضف رد جديد

العودة إلى ”المجلس الإجتماعي العام“