أعرف عدوك!....نبذة عن الفكر اليهودي والصهيوني

هذا المجلس لطرح الدراسات والأبحاث.
محمد الغيل
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 2745
اشترك في: الأحد إبريل 18, 2004 3:47 am
اتصال:

مشاركة بواسطة محمد الغيل »

الصهيونية ومعاداة السامية: وجهان لعملة واحدة


د. عبد الوهاب المسيري

صحيفة الاتحاد الإماراتية 7/5/2005



ينطلق الصهاينة مما يسمونه "القومية اليهودية" والإيمان بأن أعضاء الجماعات اليهودية المنتشرة في أرجاء العالم هم في واقع الأمر شعب عضوي مرتبط ارتباطاً عضوياً وحتمياً بأرض فلسطين أو "إرتس إسرائيل" في المصطلح الصهيوني. ولهذا فاليهود المنتشرون في شتى أنحاء العالم، والذي يُسمى "المنفى" أو "الشتات" أو "الدياسبورا" حسب المصطلح الصهيوني، لا يدينون بالولاء لأوطانهم التي يقيمون فيها، ويحنون بطبيعتهم إلى العودة إلى "وطنهم"، أي فلسطين، لأنهم يعرفون أن جوهرهم اليهودي لن يتحقق إلا هناك، وأن وجودهم في أوطانهم المختلفة هو وجود مؤقت. والنتيجة المنطقية لنقطة الانطلاق هذه هو المفهوم الصهيوني الذي يُسمى "نفي الدياسبورا" negation of the Diaspora، فكل إنجازات عصور الشتات (عبر تواريخ كل الجماعات اليهودية) من المنظور الصهيوني هي محض خيانة للروح اليهودية النقية وللجوهر اليهودي.



ولكل هذا، يحول الصهاينة يهود العالم إلى وسيلة في خدمة الوطن اليهودي القومي وليس إلى غاية لها قيمة في حد ذاتها، وهو ما عبر عنه المفكر الصهيوني "كلاتزكين" بقوله إن "الشتات في حد ذاته لا يستحق البقاء، لكنه قد يكون مفيداً كوسيلة". وقد أوضح الصهيوني الروسي "أهارون جوردون" القضية كلها حين قال إن "الدولة الصهيونية ستكون الوطن الأم ليهود العالم وتكون الجماعات اليهودية في الشتات مستعمرات لها".



ولكن رفض الشتات هو في واقع الأمر رفض ليهود العالم وعداء لهم، أي أنه في جوهره تعبير عن عداء جذري عنيف لليهود، وهو ما يُطلق عليه اسم "معاداة السامية". وقد وصف المتحدثون الصهاينة يهود الشتات بأنهم "لعنة إلى الأبد"، "مجرد غبار إنساني" و"دمار وانحلال وضعف أبدي". ويُعد مثل هذا الوصف السلبي ليهود العالم "يهود الشتات" أمراً جوهرياً بالنسبة للفكرة الصهيونية، لأنه إذا افترض أن حياة اليهود في أنحاء العالم "خارج إسرائيل" حياة نشطة لها نصيبها الطبيعي من السعادة والمعاناة الإنسانية، فماذا يكون إذن مبرر وجود الدولة الصهيونية؟ ولماذا توجد الصهيونية أصلاً بحديثها عن الوطن القومي وضرورة بل وحتمية "العودة" إليه؟



والواقع أن مثل هذه المقولات تقود بالضرورة إلى السقوط في حبائل معاداة السامية. وقد لاحظ الكاتب البريطاني "ج. ك. تشسترتون" (1847-1936) أن ما يُسمى معاداة السامية هو في واقع الأمر الصهيونية. فالصهيونية تقول إن اليهودي يهودي، والنتيجة المنطقية أنه ليس روسياً ولا فرنسياً ولا بريطانياً. وميزة هذا بالنسبة لليهودي أنه سيستعيد أرض الميعاد، أما بالنسبة لغير اليهود فهو التخلص من المسألة اليهودية "أي الفائض البشرى اليهودي" الذي لم يعد العالم الغربي في حاجة إليه.



ويرى الصهاينة أن وجود اليهود خارج وطنهم القومي المزعوم قد حولهم إلى شخصيات هامشية طفيلية غير منتجة، وإلى كائنات شاذة وغير طبيعية. وقد عبر الكاتب الصهيوني "حاييم برينر" عن هذه الأفكار الصهيونية بكلمات فظة حين وصف اليهود بأنهم "مرابون" و"شخصيات مريضة" يحيون مثل "الكلاب والنمل"، وبأنهم "غجر وكلاب جريحة قذرة"، يجمعون المال ويتبعون قيم السوق، ودعاهم إلى الاعتراف بوضاعتهم منذ فجر التاريخ حتى الوقت الحاضر، وأن يبدأوا بداية جديدة في الوطن القومي.



وقاموس الأوصاف المعادية للسامية ضخم وطويل في الأدبيات الصهيونية، فكلاتزكين يصف اليهود بأنهم شعب بلا جذور يعيش حياة زائفة. وتظهر نفس النغمة المعادية للسامية بوضوح في كتابات الكاتب الصهيوني "إسرائيل سنجر"، شقيق الكاتب المرموق إسحق أشيفيس سنجر. فاليهود، حسب تصوره، "شعب منحط قانط يحيا في القذارة"، وهم "مجموعة من آسيا" تحيا وسط أوروبا، وهم - ككيان مستقل - يمثلون "حدبة واحدة كبيرة". وفي مقال بعنوان "دمار الروح"، يورد يحزقيل كوفمان مجموعة من أوصاف اليهود في الكتابات الصهيونية، على الوجه التالي:

فريشمان: حياة اليهود حياة كلاب تثير الاشمئزاز.

برديشيفسكي: اليهود ليسوا أمة، ليسوا شعباً، وليسوا آدميين.

أ. د. جوردون: اليهود عبارة عن طفيليات - أناس لا فائدة منهم أساساً.

شوادرون: اليهود عبيد وبغايا ... أحد أنواع القذارة ... ديدان وطفيليات بخسة بلا جذور.



وهذه نغمة متكررة في أعمال هرتزل "الليبرالي"، كما في أعمال برينر غير الليبرالي. وإذا كان الأخير قد استخدم كلمات شديدة الواقع، فإن هرتزل هو الآخر - كما قال كاتب يهودي معاد للصهيونية - قد وضع قوالب معينة لو كان أي كاتب غير يهودي قد استخدمها لاتهم بلا جدال بعنصرية تعادل "بروتوكولات حكماء صهيون".



ويرى أحد المستوطنين الصهاينة قبل سنة 1948 أن معاداة السامية كانت أمراً "إيجابياً" إلى درجة دفعته إلى الاعتقاد بأنها "مستوحاة من عقيدة إلهية" إلى حد ما. وهو في هذا كان يردد، دون وعي، نفس آراء هرتزل الذي ادعى أن "معاداة السامية ربما تنطوي على إرادة الرب الإلهية، لأنها تجبرنا على توحيد صفوفنا". وفي مناظرة أُقيمت في الجامعة العبرية في فلسطين خلال الثلاثينيات بين هذا المستوطن وكوفمان، وصف المستوطن نفسه بأنه "صهيوني، معادٍ للسامية" ثم أضاف أنه "لم يستطع أن يرى كيف يمكن لأي صهيوني أن يتجنب اتخاذ نفس الموقف". وقد صرَّح هرتزل نفسه بأنه إذا لم يسلم الصهاينة بعدالة معاداة السامية، فإنهم ينكرون بذلك عدالة الصهيونية ذاتها.



وقد أدى قبول جوانب معينة من معاداة السامية إلى اعتبار المعادين للسامين حلفاء طبيعيين وقوة إيجابية للصهاينة في سعيهم من أجل "تحرير" يهود الشتات من عبوديتهم المزعومة. وبدلاً من أن يصارع هرتزل معاداة السامية، كان يرى أن "المعادين للسامية سيكونون أكثر أصدقاء يمكننا الاعتماد عليهم، وستكون الدول المعادية للسامية حليفة لنا". وقد أدرك منذ البداية التوازي القائم بين الصهيونية ومعاداة السامية، ورأى الإمكانيات الكامنة للتعاون بينهما.



وقد وضع هرتزل الخطوط العامة لتصوره للأنشطة الصهيونية المستقلة، فأشار إلى أن الخطوة التالية ستكون "بيع الصهيونية"، ثم أضاف بين قوسين أن هذا "لن يتكلف شيئاً، لأنه سيسعد المعادين للسامية". وفي فقرة أخرى من مذكراته عدَّد هرتزل عناصر الرأي العام العالمي التي يستطيع حشدها لمناصرته في قتاله ضد "سجن" اليهود، أي حياتهم في الشتات، فذكر من بينها المعادين للسامية كأحد العناصر التي يمكن أن تعمل نيابة عن اليهود.



وتكرر هذا التصور الخاص بالصورة المشتركة للصهاينة والمعادين للسامية في أقوال الزعماء الصهاينة في المراحل التالية. ففي سنة 1925، قال "كلاتزكين" إنه "بدلاً من إقامة جمعيات لمناهضة المعادين للسامية الذين يريدون الانتقاص من حقوقنا، يجدر بنا أن نقيم جمعيات لمناهضة أصدقائنا الراغبين في الدفاع عن حقوقنا".



وهذا الرأي الشاذ هو جزء من نمط إدراكي متكرر تضمنته الأيديولوجية والممارسات الصهيونية، وأكدت عليه مراراً وتكراراً. وكان آباء الصهاينة المؤسسون هم أول من طرحوه، ثم جاء أحفادهم في "إسرائيل" فحافظوا على استمراره بنفس القوة والحماس. ولعل آخر تبدٍّ لهذا الموقف هو تصريحات شارون التي حث فيها يهود فرنسا على الهجرة إلى "وطنهم القومي" لأن معاداة السامية ستلحق بهم إن عاجلاً أو آجلاً، وهو الأمر الذي رفضته غالبية يهود فرنسا، فهو بهذه الطريقة يشكك في ولائهم لوطنهم، ويقلل من قيمة إسهاماتهم وإنجازاتهم، ويحولهم من غاية إلى وسيلة. والسؤال الآن: هل سيطبق جورج بوش "قانون معاداة السامية" على هذا الجانب الجوهري في الفكر الصهيوني؟.



والله أعلم.
صورة
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون
صورة

محمد الغيل
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 2745
اشترك في: الأحد إبريل 18, 2004 3:47 am
اتصال:

مشاركة بواسطة محمد الغيل »

د. عبد الوهاب المسيري
صحيفة الاتحاد الإماراتية 2/7/2005



في المقال السابق حذرت من أمرين: تصور أن "إسرائيل" دولة يهودية (وليست دولة استعمارية استيطانية إحلالية) ومما سميته مرض النصوصية، أي تصور أن ما يحدد سلوك الدولة الصهيونية هو الكتب المقدسة مثل التوراة والتلمود والقبالاة. وهنا يطرح السؤال نفسه. إذا كان الأمر كذلك لم تناولت إذن قضية العدوانية الكامنة في الرؤية اليهودية الحلولية؟.



للإجابة على ذلك السؤال يجب الإشارة إلى أن كثيراً من الحركات القومية العلمانية الغربية في القرن التاسع عشر حولت الدين إلى ما يشبه التراث الشعبي، وعلمنت المفاهيم الدينية واستوعبتها في نسقها الأيديولوجي القومي العلماني حتى يمكن تجنيد الجماهير، إذ لا يمكن تحريك الجماهير مهما كانت جاهلة ومغرورة وأنانية بالقول: هيا بنا نستعمر البلاد الأخرى، ولنستغلها بعد أن نبيد أهلها. لذا لابد من اللجوء إلى صيغة مراوغة مثل: نحن نستعمر بلاد الآخرين ونبيدهم أو نطردهم أو نسخرهم في خدمتنا، بسبب رسالتنا الحضارية وعبء الرجل الأبيض. ومثل "يأمرنا الإله في كتبنا السماوية أن نستقر في الأرض التي وعدنا بها، وإن وجدنا فيها سكاناً فمن حقنا، بل من واجبنا، أن نبيدهم عن بكرة أبيهم". والصهيونية تنتمي إلى هذا النمط، فقد علمنت المفاهيم الدينية اليهودية وحولتها إلى أساطير "قومية" ووظفتها في خدمتها.



فتفسير نزول التوراة يتحول إلى منطلق الاستعمار الصهيوني الاستيطاني الإحلالي. فأبناء إسماعيل، أي العرب، سرقوا الأرض، ولذا من حق أصحابها الأصليين (أي اليهود) أن يسرقوها أو يستردوها مرة أخرى لأن هذا في واقع الأمر حقهم المطلق. بهذه الطريقة تم توظيف بعض النصوص الدينية في خدمة الأيديولوجية الصهيونية بعد علمنتها وانتقائها ونزعها من سياقها. وقد أدى هذا إلى ظهور ما يمكن تسميته "التمركز حول اليهود واليهودية"، وهو مصطلح وضع على منوال مصطلحات مماثلة مثل "اثنو سنرسيتي" ethno-centricity أي " التمركز حول الاثنية" أو "يورو سنترستي" euro-centricity أي "التمركز حول الأوروبية".



وترجع ظاهرة التمركز إلى عدة عناصر ثقافية واقتصادية، من بينها الحلولية اليهودية التي تسم النسق الديني اليهودي الذي يجعل اليهود مركز الكون ومحوره والهدف من وجوده. كما أن وجود الجماعات اليهودية على هيئة جماعات وظيفية في كثير من المجتمعات (والجماعة الوظيفية تكون أساساً جماعة غريبة متماسكة) ولد لدى أعضائها استعداداً للتمركز حول الذات من الناحية الإدراكية. ويظهر التمركز حول اليهود واليهودية في التفكير "الديني" الحديث. وقد وضعنا كلمة "الديني" بين شولتين لأنه أبعد ما يكون عن التفكير الديني كما نعرفه، وكما اصطُلح عليه في معظم الدراسات التي تدور حول هذا الموضوع. ويعود هذا إلى أنه تمت صهينة وعلمنة الفكر الديني اليهودي، بل والعقيدة اليهودية بأسرها. ولنضرب مثلاً ببعض الفرق اليهودية الحديثة مثل اليهودية المحافظة واليهودية التجديدية التي تبني تصوراتها "الدينية" على أساس فكرة الشعب المقدَّس، مع إسقاط فكرة الإله أو وضعها في مرتبة ثانوية. ويصل التمركز اليهودي وعلمنة المفاهيم اليهودية إلى درجة متطرفة في كلمات الحاخام الإصلاحي "إيوجين بوروفيتز" حين قال إن حرب عام 1967 لم تكن تهدد دولة "إسرائيل" فحسب، وإنما تهدد الإله نفسه باعتبار أن الإله والشعب والأرض يُكوِّنان جوهراً واحداً.



والتمركز حول اليهود واليهودية مفهوم كامن وراء كثير من الدراسات والتصريحات الصهيونية والغربية، عن أعضاء الجماعات اليهودية، رغم علمانية هذه التصريحات. والذين تهيمن عليهم هذه الرؤية لا يرون الأحداث في تَعيُّنها، أو في علاقتها بالقوى التاريخية أو الاجتماعية التي أدَّت إلى ظهورها أو التي تدخل في تركيبها وإنما ينشغلون تماما بقضايا، مثل مدى تأثير هذه الأحداث في اليهود ومدى تأثرها بهم وبمغزاها بالنسبة إليهم. وبالتالي، فإن السؤال الذي يطرحه الشخص المتمركز تمركزاً يهودياً هو: هل هذا الأمر نافع لليهود أم ضار؟ وما معناه بالنسبة إليهم؟ ذلك بدلاً من: هل هو نافع للجنس البشري أم ضار؟ أو ما معناه بالنسبة للجنس البشري؟.



والتمركز حول اليهود واليهودية يؤدي إلى عزل اليهود عن مجرى الأحداث التاريخية العامة التي تتحكم بشكل أو بآخر في كل الجماعات البشرية الأخرى، وكأن لهم قوانينهم الخاصة التي تجعلهم سراً من الأسرار تحيطهم هالة من الغمـوض الميتافيزيقي. والصهيونية، في رؤيتها لتواريخ الجماعات اليهودية وفي برنامجها السياسي، متمركزة تمركزاً يهودياً تاماًً. فهي في قراءتها هذه التواريخ تراه تاريخاً يهودياً واحداً ذا مركز يهودي واحد وحسب، - يعبِّر عن نفسه من خلال حركيات يهودية. هذا التمركز يعزل الأحداث التي تقع لليهود عن سياقها التاريخي وينظر لها من الداخل (اليهودي) وليس من الخارج (الإنساني التاريخي)، أي ينظر لها من منظور يهودي خالص، لا من منظور تاريخي إنساني. خذ على سبيل المثال ظاهرة "الجيتو" وهي ظاهرة عامة في المجتمعات الإقطاعية، حيث تتعامل الدولة لا مع الأفراد وإنما مع الجماعات، ولذا يتم تركيزها في منطقة سكنية واحدة. ينظر الصهاينة إلى هذه الظاهرة من الداخل باعتبارها مؤسسة تعبر عن رغبة اليهود في الاستقلال القومي، وليس من الخارج كطريقة من طرق الإدارة في الدولة الإقطاعية التي كانت تُطبَّق على أعضاء الجماعات اليهودية وغير اليهودية دون تمييز أو استثناء.



ويَخلُص الصهاينة من قراءة التاريخ بهذه الطريقة المتمركزة تمركزاً يهودياً إلى الحديث عن اليهود باعتبارهم جماعة فريدة متميزة، ثم يتحدثون عن معجزة البقاء اليهودي، كما لو كان البقاء أمراً مقصوراً على اليهود وحدهم دون عشرات الطوائف والأقليات والشعوب الأخرى، مثل الأكراد أو الأرمن أو النوبيين، وكأن اليهود كتلة بشرية متجانسة حققت البقاء عبر آلاف السنين دون تغير أو تحول!



ويظهر التمركز حول اليهود واليهودية بشكل حاد في تناول كثير من المؤلفين الغربيين اليهود وغير اليهود لظاهرة الإبادة النازية، وهي أحد إفرازات الحضارة الغربية الحديثة التي أودت بحياة الملايين من اليهود وغير اليهـود داخـل وخـارج معســكرات الاعتـقال. ومـع هذا، لا حـديث إلا عن ضحايا النازية من اليهود، ويتم إهمال الإشارة إلى ملايين الضحايا الآخرين الذين يفوق عددهم عدد الضحايا اليهود. ومن المفارقات أن التفكير التآمري المعادي للسامية والذي ينسب لليهود كل الشرور ويراهم وراء كل المؤامرات والفساد والانحلال يدور في إطار التمركز حول اليهود واليهودية.



ونزع الظواهر اليهودية والصهيونية من سياقها التاريخي والإنساني العام، ووضعها في سياق يهودي، أو رؤيتها كمركز لكل ما يحدث في الكون، يجعل من اليسير على الصهاينة توظيفها في خدمة مشروعهم العنصري الاستعماري. ولكنه في الوقت ذاته ينزع عن اليهود إنسانيتهم، إذ يحولهم إلى ظاهرة لا تاريخ لها، توجد خارج الزمان والمكان. لكل ما سبق أذهب إلى أنه حين يقوم الصحفي أو الباحث برصد ظاهرة يهودية أو إسرائيلية يجب ألا يتلقى بشكل سلبي التفسير الصهيوني الذي ينظر للظواهر من الداخل، بل عليه أن يضع هذه الظواهر في سياقها التاريخي والاجتماعي والإنساني العام حتى يفهمها حق الفهم، أي أنه يجب أن ينظر للظاهرة أو الحدث لا من الداخل (اليهودي أو الصهيوني) وإنما من الخارج (الإنساني العام).



والله أعلم.
صورة
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون
صورة

إبن حريوه السماوي
مشرف الجناح التاريخي
مشاركات: 679
اشترك في: الأحد مايو 30, 2004 3:03 am

مشاركة بواسطة إبن حريوه السماوي »

أحسن الله إليش يا أخت وجدان ورضي عليش .

قد اليهودي يهودي ولو مابش زنانير
.
مدحي لكم يا آل طه مذهبي .... وبه أفوز لدى الإله وأفلح

وأود من حبي لكم لو أن لي .... في كل جارحة لسانا يمدح

الحسن بن علي بن جابر الهبل رحمة الله عليه


محمد عسلان
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 99
اشترك في: الأربعاء يناير 04, 2006 12:01 pm

مشاركة بواسطة محمد عسلان »

"ما بعد الصهيونية".. وتفنيد شرعية الوجود الإسرائيلي

10/08/2005
جلال الدين عز الدين علي**



يشير مفهوم "ما بعد الصهيونية" إلى معنيين:

المعنى الأول :

معنى ضيق يحصرها في المجال الثقافي؛ حيث يعبر هذا المصطلح عن خليط من الأفكار والأعمال ما بعد الحداثية التي تنظر في تاريخ إسرائيل وحاضرها ورؤى مستقبلها (أبعاد الأيديولوجية الثلاثة) بمنظار نقدي يكسر التقاليد السائدة في التفكير والتأريخ. وقد بدأ هذا المفهوم في المجال الأكاديمي في بداية الثمانينيات في حقول الاجتماع والسياسة والدراسات التاريخية والأدبية، ثم انتشر من خلال السجال والمعارك الفكرية عبر وسائل الإعلام في المجتمع العبري، وامتد إلى التعليم والفنون والآداب في إسرائيل؛ ليصبح ظاهرة ثقافية عامة، تتحدى التيار الصهيوني الأيديولوجي السائد في مختلف هذه الميادين.

والمعنى الثاني :

أوسع -وهو المعتمد هنا- وينحو إلى اعتبار ما بعد الصهيونية "حالة" هيكلية دخلت فيها إسرائيل في أعقاب حرب 1967، وتزايدت حدتها تدريجيا في أعقاب المواجهات الإسرائيلية المتتالية منذ حرب أكتوبر 1973، ومرورا بغزو لبنان عام 1982، والانتفاضتين الفلسطينيتين في 1987 و2000؛ حيث بدأ الإجماع الصهيوني حول ماهية المشروع وجوهر الكيان في التخلخل، وبدأت تسود على حسابه اتجاهات فردية وإثنية، تحمل في طياتها أحيانا لامبالاة بالصهيونية، وأحيانا أخرى انتقادات جوهرية لها، وتسعى إلى إحلال الولاء للدولة محل الولاء لما اعتبر في الفكر الصهيوني "الشعب اليهودي"، وتعرف إسرائيل باعتبارها "دولة إسرائيل" أكثر منها "أرض إسرائيل"، وتعرف واجبات الدولة بأنها تحقيق الرفاهية للمواطنين، وليس الدفاع عن "الأمة اليهودية" ككيان اجتماعي.

وتبرز في هذا السياق إشكالية مهمة حول حدود التداخل والافتراق بين "ما بعد الصهيونية" وكل من "الصهيونية" و"معاداة الصهيونية"؛ حيث لا يشير مصطلح "ما بعد الصهيونية" إلى شيء محدد المعالم، ولكن يتفق فقط على تجاوز الصهيونية. وقد يفهم البعض من هذا المصطلح أنه يذهب في وجهة معادية للصهيونية بالضرورة، وهذا أمر خاطئ في اعتقادنا؛ فمعظم من يطلق عليهم "ما بعد صهيونيين" يرون أن الصهيونية مبررة أخلاقيا، ولا يشككون في شرعيتها، ولكن يشككون فقط في قابليتها للحياة والتحكم في أنشطة المجتمع في الفترة الراهنة ومعالم مشروعها في مرحلة "ما بعد الأيديولوجية"، والقليل يوجه نقده إلى آثام الصهيونية بحق اليهود والفلسطينيين معا، وقد يوجهون إليها انتقادات جوهرية، ولكنهم لا يشككون في أصل الفكرة.

وقد تتفاوت المعايير المستخدمة في التمييز بين المصطلحات الثلاثة: "الصهيونية" و"ما بعد الصهيونية" و"معاداة الصهيونية"، ولكن يبدو أن الوجود الاستيطاني اليهودي في فلسطين هو جوهر الاختلاف بين الثلاثة؛ حيث تصارعت على الساحة الصهيونية ثلاثة تيارات؛ أحدها هو التيار الرئيس الذي ساد في النهاية، وهو الداعي إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين، من خلال تقسيمها بين اليهود والفلسطينيين، مع أقل عدد ممكن من الفلسطينيين داخل حدود الدولة اليهودية، وأقل عدد من اليهود داخل الدولة الفلسطينية، أما التياران الأخيران فكانا هامشيين، وأحدهما عارض مشروع تقسيم فلسطين والدولة اليهودية، ونادى بأن تكون هناك دولة واحدة في فلسطين للشعبين اليهودي والفلسطيني، مع اعتبار أن ليهود العالم الحق في الهجرة إلى فلسطين وفق ضوابط معينة، والأخير ينادي بدولة يهودية في فلسطين كاملة، بما يعنيه ذلك من استئصال الوجود الفلسطيني فيها، من خلال الإبادة والطرد.

وفي هذا السياق تختلف "ما بعد الصهيونية" عن معاداة الصهيونية، كما يقول إيلان بابيه أحد المؤرخين الإسرائيليين التصحيحيين، وهو أستاذ للعلوم السياسية بجامعة حيفا ومدير معهد جفعات حبيبا لأبحاث السلام- بأن معاداة الصهيونية تعني عمليا الهجرة من فلسطين أو الجلاء عنها، على اعتبار أن اليهود ليس لهم حق فيها. أما ما بعد الصهيونية التي يعرف نفسه في إطارها، فتعترف بالوجود اليهودي في فلسطين، وتطالب الفلسطينيين، في المقابل، بأخذ اليهود في الاعتبار عند صياغة أي رؤية لمستقبل فلسطين. ويعتبر بابيه أن الحل الأمثل في فلسطين هو إقامة دولة واحدة لشعبين، وليس دولتين كما يسود الرأي حاليا.

وعليه تعتبر ما بعد الصهيونية هي الحالة التي تحل محل هيمنة الصهيونية على المجتمع الإسرائيلي بعد انتهاء مهمتها وانكشاف أكاذيبها ومساوئها، وليست أمرا نقيضا أو ناسخا لها، حيث يندرج موقف ما بعد الصهيونيين في إطار الاعتراف بالأمر الواقع الذي أفرزته الصهيونية وقبوله. ولذا ليس غريبا أن ما بعد الصهيونية لا تناقش مسألة شرعية الوجود الإسرائيلي، ولكنها تناقش بالتحديد كيفية هذا الوجود، من خلال الدفاع عن خيارات معينة للهوية، والمشاركة مع الشعب الفلسطيني القائم الذي أقامت الصهيونية دولتها على أنقاضه، ثم تجاهلت وجوده، ومن ثَم جرائمها بحقه، في روايتها للتاريخ.

وبالمثل، لا يكون من الغريب أيضًا أن يكون تعبير "صهيوني" و"ما بعد صهيوني" مسألة تعريف ذاتي، وأن تجمع ما بعد الصهيونية بين مفكريها ومروجيها من ينأون بأنفسهم عن الصهيونية، ويعتبرون أنهم تجاوزوها، ويعتبرون أعمالهم أقرب إلى معاداة الصهيونية، من أمثال إيلان بابيه، ومن يعتبرون أنفسهم صهاينة مارسوا نوعًا من النقد الذاتي، أمثال بني موريس. في الوقت الذي يعتبرهم المتشددون من الصهاينة، وخاصة من اليمين الإسرائيلي، أعداء للصهيونية.

والوصف الذي يمكن أن يطلق على هذا التيار عندئذ هو أنهم معادون وانتقاديون للسياسات الصهيونية تجاه الفلسطينيين واليهود، وليس للصهيونية في ذاتها وجوهرها. على اعتبار أنهم يصنفون في النهاية ضمن أي من التيارين الأولين في الصهيونية، وهما دعاة الثنائية القومية في فلسطين أو التقسيم، ولا يخرجون عن هذا الإطار.

وكما يتضح من تعريف الظاهرة، فإنها تعالج قضايا متنوعة، تدور أساسًا في نطاق الهوية، ونمط الحياة الذي يجب أن يسود في إسرائيل، والعلاقات مع الأقلية الفلسطينية في إسرائيل، وعملية تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، في وقت يدور فيه صراع حاد حول تلك القضايا بين المجموعات الإثنية والأيديولوجية المختلفة، كنتيجة لفقدان المركز وانحلال الإجماع الصهيونيين.

وباختصار: ما بعد الصهيونية تشير إلى أن إسرائيل في هذه المرحلة بدأت تعاني مخاض عملية تطبيعها، وتعيين حدود إقليمها، وشعبها، وهويتها، ونظامها بمختلف أبعاده، بصرف النظر عن مدى النجاح أو الإخفاق الذي تم في المحصلة.


ما بعد الصهيونية وإشكالية الشرعية :

تطعن ما بعد الصهيونية في شرعية إسرائيل من عديد من الزوايا التي تعتبر في صميم البناء الأيديولوجي للصهيونية، ويمكن تناول هذه المشكلة من زاويتين:
أولاهما شرعية النظام السياسي
والثانية أعمق وأخطر وهي شرعية الوجود.


أولا: شرعية النظام السياسي:

أ - تمثيل إسرائيل ليهود العالم وكونها ملاذًا لهم من الاضطهاد:

أبرزت دراسات عديدة لمؤرخين ما بعد صهيونيين، وأبرزهم توم سيجف، وإيلان بابيه، على سبيل المثال، أن القيادات الصهيونية المختلفة تعاملت مع "الهولوكوست" تعاملاً انتقائيًّا، ولم تنقذ إلا من هو قادر على المشاركة في المشروع الصهيوني في فلسطين، وصرفت نظرها عن إبادة العجائز وغير القادرين على القيام بالمهام القتالية والاستيطانية. كما كان هناك اتفاق ضمني بين مختلف القيادات الصهيونية على أن الهولوكوست تمثل فائدة للمشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين؛ لأنها ستصب سيل المهاجرين اليهود من أوربا إلى فلسطين، وتدعم الوجود الاستيطاني فيها. وعلى الرغم من ذلك، فإن إسرائيل، كدولة صهيونية، احتكرت الهولوكوست، كرمز يهودي، لنفسها، واعتبرت نفسها الملاذ الآمن لليهود في العالم من احتمال تعرضهم لتجارب مماثلة في المستقبل.

ومن ناحية أخرى، يلاحظ أن إسرائيل، عندما زعمت أنها دولة جميع اليهود في العالم، كانت تعني بالتحديد اليهودي الأبيض، وعندما ووجهت بهجرة موجات من اليهود الشرقيين أبرزت طريقة استيعابهم مدى العنصرية والفوارق التي تضعها بين اليهود، وأنهم ليسوا جميعًا على قدم المساواة في اليهودية، على الرغم من انطباق المعايير الأرثوذكسية على اليهود الشرقيين بقدر أكبر مقارنة باليهود الغربيين الذين تبوءوا الصدارة في المجتمع.

وحتى هؤلاء المهاجرين الشرقيين، تعاملت معهم "الوكالة اليهودية" المسئولة عن تنظيم هجرتهم واستجلابهم لفلسطين بالمنظور النفعي نفسه، من خلال سياسة "الانتقاء الطبيعي"، أي ترك الضعفاء والعجزة منهم للموت في الطريق عن وعي من قيادات الوكالة اليهودية التي أشرفت على تهجيرهم، كما حدث مع يهود اليمن الذين كانت رحلتهم إلى فلسطين عبر الصحراء طويلة وشاقة.

وقد تردد أن إسرائيل اتبعت السياسة نفسها في التعامل مع المهاجرين الإثيوبيين مؤخرًا، وتخلصت من كثير من العناصر المريضة منهم، في إطار عملية للانتقاء النفعي للمهاجرين.


ب - يهودية الدولة:


تضمنت الهجرات الاستيطانية لفلسطين مجموعات متنافرة من البشر الذين تم تعريفهم جميعًا على أنهم يهود، بصرف النظر عن تعريف اليهودية ذاتها، وما إذا كانت ديانة أو قومية، وعلى الرغم من أن كثيرًا من التناقضات في هذا الموضوع تم احتواؤها بشكل عكس التوازن بين القوى العلمانية والدينية، حيث حشر الدين اليهودي في زاوية الرموز والمراسم، فتركت للقوى الدينية عمليات إضفاء الشرعية الدينية على الدولة من خلال التحكم في بعض الرموز والعمليات، من قبيل اعتبار العطلة الرسمية يوم السبت، أو قوانين الطعام الشرعي، والدفن الشرعي، والزواج والطلاق، فيما تركت للقوى العلمانية صياغة جوانب الحياة المختلفة، فقد ظل هذا التناقض متفجرًا باستمرار، وبلغ التوتر بين الطرفين ذروته مع ضعف الصهيونية كإطار مهيمن على مختلف أنشطة المجتمع.

وفي الوقت الراهن يزداد الاستقطاب حدة بين أنصار ما بعد الصهيونية وما يسمى "اليسار الجديد"، وبين قوى أقصى اليمين "القومي" (أي الصهيوني) والديني التي تعرف باسم "الصهيونية الجديدة"، فبينما يعتنق اليسار الجديد "الدين الديمقراطي"، بدلاً من الدين اليهودي، ويؤكدون على الدولة بدلاً من الأمة، فإن الصهيونية الجديدة -ومعظم أنصارها من الحاخامات "القوميين"- يتبنون مزيجًا من الأفكار الدينية و"القومية" المتطرفة، ويركزون، لا على الأمة، ولا الدولة، ولكن على الأرض، وتهويدها من خلال التوسع الاستيطاني ومعاداة الفلسطينيين والعرب.

وعلى هذه الخريطة من التيارات والتوجهات يصنف البعض ظاهرة ما بعد الصهيونية ضمن اليسار الجديد، وهي تقدم أفكارها الجديدة تحت عناوين ثار حولها الجدل مرارًا، وأهمها: أولاً محاولة تعريف اليهودية، حيث تثار حتى الآن مسألة ما إذا كانت اليهودية دينًا أم قومية أم إثنية أم ثقافة، وثانيًا تعريف طبيعة الدولة في حين يقترب البعض من المشكلة من خلال إسقاط مشكلة اليهودية، واعتبار أن اليهودية - أيًّا ما كان تعريفها- تتناقض مع الديمقراطية، وأن الدولة إما أن تكون يهودية، وإما أن تكون ديمقراطية، والتركيز على الطابع المدني للدولة بصرف النظر عن هويات مواطنيها وأصولهم وعقائدهم، وثالثًا علمانية العقد الاجتماعي أو ما يسميه البعض "الإيمان أو الدين الديمقراطي"، في مقابل "الإيمان القومي" الصهيوني، (وبالطبع متجاوزين الإيمان الديني برمته، بوصفهم ما بعد حداثيين، وبوصف الدين حسب فهمهم من الروابط الأولية التي تسمى مرحلة ما قبل الحداثة). ويعتبر هؤلاء أن ذلك الاستبدال هو الحل الوحيد لوقف التطرف في المجتمع الإسرائيلي، وتحقيق السلام الداخلي، بعد أن تفجرت التناقضات بين الطرفين، وتزايدت قوة المتدينين ودورهم في صنع القرار، أو في تعويق صنع قرارات مصيرية، مقابل مكاسب قطاعية آنية، ومن ذلك مثلاً تقلبات الحكومات الائتلافية، والاستقرار السياسي، وعملية التسوية للصراع العربي - الإسرائيلي، وكل ذلك بسبب هيمنة الصهيونية على الدولة، وارتفاع النبرة الثقافية والإثنية و"القومية" المتطرفة.

وتعتبر هذه المشكلة فاصلة وجوهرية في الحالة الإسرائيلية على اعتبار أن إسرائيل تستمد شرعيتها من تمثيلها ليهود العالم كونها دولة اليهود، فكيف تكون دولة اليهود دولة غير يهودية؟ وكيف يكون مواطنوها من غير اليهود؟ ومن الذي يحدد مَن هو اليهودي؟ ومن ثَم مَن هو المواطن؟ هذه التساؤلات ليست تجريدية ونخبوية فكرية تمامًا، ولكنها محل صراع شديد على الأرض يدور بين اليهود المتدينين و"اليهود" الملحدين. وقد احتدم الصراع بشكل خاص بين الطرفين مؤخرًا مع هجرة اليهود السوفييت في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين، حيث منعوا تحول اليهود الشرقيين إلى أغلبية في المجتمع الإسرائيلي، وأضافوا إلى رصيد العلمانية والتغريب؛ ولذا كانت ردة فعل اليهود المتدينين الشرقيين بشكل خاص -ناهيك عن اليهود المتدينين الغربيين- حادة جدًّا تجاههم، وتطعن ليس في طريقة معيشتهم في الدولة، ولكن في شرعية وجودهم أصلاً في دولة تعتبر نفسها دولة الشعب اليهودي أو دولة يهودية، وتم تعريفهم من قبل رموز التيار الديني الشرقي بأنهم "أغيار".


ج - مستقبل ديمقراطية الدولة:

تكشف ما بعد الصهيونية أن التاريخ السابق لإسرائيل منذ ولادتها لم يكن ديمقراطيًّا، وتفند مزاعم إسرائيل أن الديمقراطية هي سبيلها إلى تحقيق الاستقرار الداخلي بين الجماعات المختلفة من سكانها، وذلك من أجل تعزيز صورتها وشرعيتها في العالم الغربي كواحة ديمقراطية في فضاء عربي غير ديمقراطي، من عديد من الزوايا، وأهمها:
1 - عدم المساواة بين مواطني الدولة:

فقد خضع فلسطينيو 48 للحكم العسكري حتى عام 1966، وصودرت أراضيهم، وحرموا من شراء الأراضي، وفرضت عليهم قيود في مجالات البناء، والتوسع العمراني، وتحولت تجمعاتهم إلى ثكنات عسكرية ومستوطنات، واستخدمت مختلف الأدوات العسكرية والقضائية والاقتصادية لسلب أراضيهم والتضييق عليهم، من أجل إجبارهم على الرحيل. وتعمل إسرائيل قانونًا ليس له نظير في أي بلد ديمقراطي، حيث يعتبر بعض مواطنيها العرب لاجئين في الدولة التي ينتمون إليها، ويعرفهم القانون بأنهم "غائبون"، وأولئك "الحاضرون الغائبون" هم الفلسطينيون الذين كانوا في مدن أخرى وقت استيلاء القوات الإسرائيلية في حرب 1948 على مدنهم، فرغم دخول كل هذه المدن تحت الولاية القانونية للدولة وتكوينها لوحدة سياسية واحدة، أصبح الفلسطيني اليافاوي الذي كان في حيفا مثلاً وقت دخول القوات الإسرائيلية إلى يافا غائبًا، وحولت أملاكه إلى "القيم على أملاك الغائبين"، ولا يمكنه العودة إلى أرضه أو منزله في يافا الذي أصبح مسكونًا بغيره من المستوطنين. والسبب في ذلك أن إسرائيل تعاملت وما زالت تتعامل مع الأقلية الفلسطينية فيها على أنهم أقلية معادية وغير مرغوبة، وتعاملت معهم وفق منظور توسعي صرف باعتبارها "أرض إسرائيل" وليست "دولة إسرائيل"، فركزت على الاستيلاء التدريجي والقسري على أراضيهم، وأهملت مسئوليتها تجاههم كدولة.

ويهتم مثقفو ما بعد الصهيونية بالرواية الفلسطينية للتاريخ، وقد اعتنقوا الكثير من مفرداتها من خلال البحث العلمي والاطلاع على وثائق الدولة، وأكدوا بشكل علمي مدى عدوانية الدولة في الخارج وعنصريتها في الداخل، سواء في التعامل مع الأقلية الفلسطينية، أم اليهود الشرقيين، وبدأت تؤخذ في الاعتبار جوانب الروايتين التاريخيتين لهذين الطرفين في صياغة تاريخ إسرائيل، وتمثيلهما في الثقافة العامة والآداب والفنون، في فهم "ما بعد حداثي": تعددي ونسبي، حيث يحتمل التاريخ والواقع الإسرائيليان أكثر من رواية، وأكثر من زاوية تناول.

وفي حين يميل اليهود الشرقيون إلى تيارات تقليدية أقرب إلى الصهيونية الجديدة، وينظرون بحذر وبشيء من التردد إلى ما بعد الصهيونية، ويرونها ظاهرة لها رؤية غربية، فإن فلسطينيي 48 في المقابل يعتبرونها الحليف المحتمل، كونهم يتبنون كثيرًا مما يرونه الحقيقة، ويقعون مثلهم على يسار الخريطة السياسية الإسرائيلية. ومع ذلك لم يحدث التحالف المفترض بين الطرفين، ولم يترجم التعاون المشترك في مجالات فكرية إلى جبهة سياسية، ربما بسبب عدم تجانس ظاهرة ما بعد الصهيونية وتداخلها مع الصهيونية في كثير من الجوانب، على خلاف توجه معاداة الصهيونية الصريح. ففي حين ينتمي بعض المؤرخين التصحيحيين أمثال إيلان بابيه إلى "القائمة الديمقراطية للسلام والمساواة"- وهي تنظيم عربي يهودي في إسرائيل تغلب على قيادته العناصر العربية- ويدعو (بابيه) إلى إنشاء دولة واحدة للشعبين الفلسطيني و"اليهودي" في فلسطين، ويمزج ما بين التحليل التاريخي والسياسي في أعماله، معتبرًا أن هناك صلة بين التاريخ الاستعماري للصهيونية والواقع المعيش، ويصل في مواقفه إلى حد المطالبة بالضغط على إسرائيل من خلال عقوبات دولية ومقاطعة مؤسساتها ومثقفيها الذين يعبرون عن التيار الصهيوني، فإن غيره من المؤرخين التصحيحيين أمثال بني موريس يحللون التاريخ بطريقة وضعية باردة، ويعلن موريس باستمرار أنه صهيوني، وعندما يتعرض للسياسة يفضل الحل الصهيوني الوسط بتقسيم فلسطين، من منطلق الحفاظ على يهودية الدولة الإسرائيلية. وقد ارتد عن كثير من أفكاره حتى شاعت عبارة ساخرة أنه أجرى عملية زرع مخ، بعد تدهور عملية التسوية واندلاع انتفاضة الأقصى، حيث يلقي باللوم على الفلسطينيين في فشل عملية التسوية، ويرى فيما طرحه إيهود باراك في مفاوضات كامب ديفيد عام 2000 عرضًا سخيًّا لم يتردد الفلسطينيون في تضييعه مثلما اعتادوا تضييع الفرص! واستمر في ترديد المقولات الصهيونية التقليدية بشأن رفض العرب الدائم لمبادرات السلام الإسرائيلية، كما يرفض بشكل صارم عودة اللاجئين الفلسطينيين.


2- فساد المجتمع:

يهتم مثقفو ما بعد الصهيونية بنقد الحقبة الصهيونية، والسياسات الصهيونية التي لا يزال بعضها مستمرًّا في مجالات التعليم والإعلام والتأريخ والفنون، ويكتبون في فساد المجتمع الثقافي وغلبة البعد العسكري للدولة حيث تم تلوين كل شيء بصبغة أيديولوجية، وأخفيت الحقائق عن عمد، وخاصة بشأن تاريخ إقامة الدولة، والإرهاب الذي مارسته القوات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني، وعمليات الطرد المنظمة ضده، وجرائم الحرب الأخرى، ولا تزال صورة الفلسطيني النمطية في هذه الدوائر تحمل تعبيرات سلبية من قبيل الدونية والغباء والغدر والعدوانية... إلخ.

كما اهتم ناقدو ما بعد الصهيونية بتفنيد الصورة التي سادت عن الجيش الإسرائيلي، من عديد من الزوايا التي تطعن في بطولته، عندما كشفوا أن إسرائيل كانت دائمًا متفوقة على العرب في ميادين القتال، ومن ثَم انتفت أسطورة "قلة ضد كثرة" التي قدمت إيحاءات إعجازية لبطولات الجيش الإسرائيلي في المعارك، والأسطورة الأخرى وهي "طهارة السلاح"، حيث ظهر الجيش الإسرائيلي في أعمال ما بعد الصهيونية جيشًا دمويًّا، يرتكب جرائم حرب: من قتل الأسرى، إلى اغتصاب النساء، إلى تشريد السكان وإرهابهم. وكذلك كشفت أعمال ما بعد الصهيونية عن جرائم الفساد المالي والإداري في الجيش. وجميع هذه الأمور كانت فيما سبق من المحرمات التي لا يجوز التعرض لها.

ولم يقتصر الأمر على مجرد ترويج التضليل وإخفاء الحقائق في الماضي، بل إن مثقفي ما بعد الصهيونية الذين اهتموا بتفنيد الأساطير وإظهار الحقائق، ويطالبون بالتغيير، يتعرضون حاليًا لأشكال مختلفة من الاضطهاد، من قبيل الطرد من الجامعات، ومقاطعة إنتاجهم الفكري المنشور في الخارج غالبًا، وعدم ترجمته إلى اللغة العبرية، وعدم نشره، وحتى التعرض لرسائل تهديد من الاتجاهات المتطرفة. كما تعتبر الأعمال الفنية ما بعد الصهيونية من أفلام ومسرحيات أعمالا خاسرة بالمنظور التجاري والمادي، وبالمنظور السياسي، فلا يقبل عليها الكثيرون، ولم تنجح في أن تحدث تغييرًا كبيرًا في ثقافة المجتمع السائدة، أو تشكل حركة سياسية.

وهذه السمات لا تعبر عن وجهات نظر سائدة وأخرى جديدة وحسب، ولكنها تعبر عن مزايا لنخب معينة يهمها استقرار الأمور على النحو السائد حفاظًا على مصالحها، من قبيل العسكريين والمؤرخين والأدباء والفنانين المقربين من دوائر النفوذ الصهيونية، مما يعكس صراعًا على المصالح وليس فقط على القيم والبحث عن الحقيقة.


ثانيًا- شرعية الوجود:

يعتبر السؤال الفلسطيني في مجمل أعمال ما بعد الصهيونية هو مفتاح الشرعية وأزمة شرعية الوجود الإسرائيلي في آن واحد، سواء ما يخص قضية اللاجئين، أو فلسطينيي 48، أو الحل النهائي المتصور لقضية فلسطين.

فقد كشفت ما بعد الصهيونية أن فلسطين تم احتلالها بالقوة، وطرد أهلها عن عمد، لإحلال المستوطنين الصهاينة محلهم، وهذا ما يتناقض مع الأسطورة الصهيونية القائلة بأن الوجود الإسرائيلي لم يحدث على حساب أحد، فقد كانت فلسطين خالية من السكان، أو أن هؤلاء السكان رحلوا من تلقاء أنفسهم، وكذلك فندت ما بعد الصهيونية أسطورة "عبء اليهودي الأبيض"، القائلة بأن المشروع الصهيوني عاد بالفائدة على الفلسطينيين، وحول الصحراء الفلسطينية إلى جنة خضراء، وهي أسطورة متناقضة مع أن الأرض كانت خالية من السكان، فقد كان تدمير المجتمع الفلسطيني بشريًّا من خلال التهجير والقتل، واقتصاديًّا من خلال مصادرة الأرض والتهميش وغزو العمل، شرطًا لإقامة المجتمع الإسرائيلي، كما أن الهولوكوست التي تبرر بها إسرائيل جرائمها ضد الفلسطينيين، وتعتبرها سببًا لحق اليهود في دولة في فلسطين قد تم توظيفها في خدمة المشروع الصهيوني، وتعامل الصهاينة مع اليهود المعرضين للاضطهاد بشكل انتقائي نفعي أيديولوجي لا إنساني. ومن ثَم فالماضي لا يعطي شرعية للوجود الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، ولا لقيام إسرائيل، خصوصًا على أنقاض الشعب الفلسطيني. أما الحاضر، فإنه يعكس مجتمعًا ممزقًا بالصراعات، ويتقبل مئات الألوف من غير اليهود والمشكوك في يهوديتهم في إطار مواطنة الدولة والجنسية من أجل الاستمرار في الصراع وموازنة التفوق الديمغرافي للفلسطينيين واليهود الشرقيين، أي في النهاية يقبل بخيار الإسرائيلية في مقابل اليهودية.

هذا الوضع الإجمالي الماضي والحاضر، يثير التساؤلات عما يربط المستوطن الإسرائيلي بفلسطين، وعندئذ تأتي الإجابة أنه موجود بحكم الأمر الواقع، أي القوة الاستعمارية، وليس العدل والحق، وأنه مستعد وراغب في الهجرة عندما تتوافر ظروف أفضل، وهو ما يحدث حيث جعل بعض المهاجرين الجدد إسرائيل مجرد معبر للغرب، وهذا هو جوهر أزمة شرعية الوجود الإسرائيلي.


ثالثًا- الصراع على الهوية

تتجه الصهيونية في بنيتها وسياقها التاريخي إلى اعتبار اليهودي هو اليهودي الغربي الأبيض، وهو اليهودي المستهدف بالمشروع الصهيوني في فلسطين بالتحديد، باعتباره مشروعًا غربيًّا صرفًا. وقد تجلى ذلك في كتابات العديد من المفكرين الصهاينة الأوائل الذين عرفوا اليهودي المخاطب بالمشروع الصهيوني بأنه اليهودي الأبيض وحسب، وذلك اتساقًا مع أمرين هما الفكر الإمبريالي الغربي الذي استند إلى دعاوى عنصرية، وكون اليهود المستهدفين بالتهجير إلى فلسطين هم يهود أوربا، في حين لم يكن يهود الشرق نافعين بالقدر الكافي للحضارة الغربية حتى يتم انخراطهم في المشروع الصهيوني، وبقيت محاولات صهينتهم محدودة إلى ما بعد قيام الدولة الإسرائيلية لارتباطهم بمجتمعاتهم الأم وعدم معاناتهم من اضطهاد بها، خاصة في مجتمعات العالم الإسلامي.

وقد حاولت الصهيونية جذب العناصر اليهودية المستهدفة بالهجرة إلى فلسطين من اليهود الغربيين الذين نظروا إليها بتشكك، من منطلقات عملية خاصة بفرص نجاحها، أو دينية اعتبرتها خروجًا على الدين اليهودي لصالح مشروع حداثي علماني، من خلال المزج بين القومية والدين، من خلال توظيف الرموز الدينية، وسلبها محتواها الديني، وملئها بمحتوى استعماري علماني. وكان من ثمار ذلك التوجه، إضافة إلى توظيف كثير من الرموز الدينية في الخطاب الصهيوني العلماني، إنشاء حزب "المزراحي" الذي تحول إلى "المفدال" (الحزب الديني القومي) حاليًا، كما تركت للهوامش الدينية الحريدية (الأرثوذكسية المتشددة الرافضة للمشروع الصهيوني بسبب علمانيته وليس نقص عدالته) الفرصة للتعبير عن نفسها من خلال التعليم الديني، وتكوين أحزاب دينية لا صهيونية مثل "أجودات إسرائيل"، وحتى احتكار بعض المجالات الدينية العامة مثل قوانين الأحوال الشخصية وإجراءات الدفن والطعام الشرعي. وفي المجمل استطاعت الصهيونية الهيمنة على المجتمع الإسرائيلي وتوظيف طاقاته باتجاه بناء الدولة الصهيونية، ضمن سياق حضاري غربي قائم على الادعاءات القومية. ووجدت هذه الهوامش من مصلحتها الانخراط في النظام السياسي الإسرائيلي بدرجة أو أخرى للحفاظ على مصالح أتباعها، وإضفاء صبغة دينية على الدولة قدر استطاعتها.

أما الأقلية العربية في فلسطين التي تمتلك هوية ورؤية ومصالح مغايرة، فقد ظلت محرومة من حقوقها السياسية وخاضعة للحكم العسكري حتى عام 1966.

بيد أن هذا الاتساق (الغربي) وذلك التوازن الداخلي المحكوم بالصهيونية وُوجِه عقب إنشاء إسرائيل بتحد جوهري، عندما شهدت خلال عقدي الخمسينيات والستينيات موجات من الهجرة الجماعية ليهود العالم الإسلامي؛ الشرقيين الذين مثلوا تحديًا لنمط قيم الدولة وأسلوب الحياة فيها، وقد عكس نمط تعامل الدولة معهم وطريقة استيعابهم الطبيعة العنصرية الغربية للصهيونية، فابتداء، أطلق عليهم "أبناء الجوالي" (جمع جالية)، تمييزًا لهم عن المجتمع اليهودي الغربي من جهة، والتعامل معهم كلاجئين على هامش ذلك المجتمع، وإظهارًا لتشتتهم وعدم تكوينهم وحدة يعتد بها. وعملت الدولة على استخدامهم كدروع بشرية، فوزعوا على المستوطنات المتاخمة للحدود العربية، وفي الخطوط الأمامية للقتال، وجرى استيعابهم في قاعدة الهرم الإنتاجي، مع التمييز في الموارد والمخصصات التي منحت لهم بينهم وبين اليهود من العالم الغربي، واستيعابهم ضمن الثقافة اليهودية الغربية السائدة.

وعلى الرغم من وصول كثير من اليهود الشرقيين إلى مناصب قيادية في الدولة مع الوقت، فإن ذلك لم يؤثر في هوية الدولة الغربية، بل إن اليهود الشرقيين أنفسهم، شأنهم شأن الكثير من مواطني العالم الإسلامي، نظروا إلى التحضر والتقدم على أنه التماثل مع نمط الحضارة الغربية السائد، وحتى معاداة العالم العربي الذي وفد منه أغلبهم. ومن ثَم تكرس وضع الدونية لهؤلاء، وتأصلت معاداتهم للهوية العربية.

وفي هذا السياق يعتبر التحول التدريجي في مواقف اليهود الشرقيين من الخنوع إلى التمرد والمطالبة بالمساواة مع اليهود الغربيين، على نحو ما برز في أشكال مختلفة من التمرد سواء في شكل نضالي ظاهر مثل ثورة وادي الصليب في حيفا قديمًا، أو في شكل تنظيمي جلي مثل انسلاخ اليهود الشرقيين حديثًا من الأحزاب الأشكينازية، وتكوين أحزاب خاصة بهم، أو حتى حركات غير حزبية كحركات السلام اليهودية الشرقية مثلاً، يعتبر ذلك أحد التحديات المتصاعدة التي تقوض مركزية الصهيونية كأيديولوجية غربية في المجتمع الإسرائيلي، وتنحو به نحو التعددية الثقافية، وتمثيل مختلف الهويات فيه، حتى وإن كانت قطاعات كبيرة من اليهود الشرقيين قد تصهينت من زاوية العلاقة مع الشعب الفلسطيني والعالم العربي، والمساهمة بقوة في حركة الاستيطان، ولكنهم يبقون ضمن الإطار الشرقي الذي يتعامل مع قضايا مثل الدين والدولة والهوية ونمط الحياة بشكل فولكلوري شعبي مغاير للشكل الغربي العقلاني أو المتزمت. ويمثل ذلك تحديًا للروح الغربية للصهيونية واعتدادها بالتفوق على العالم الشرقي، ومن ثَم أهليتها لاحتكار الرؤية والرواية التاريخية للدولة، وما يترتب على ذلك من مزايا لقطاع من السكان دون غيره، وهم اليهود الغربيون.

وفي السياق نفسه، يمكن القول إن الأقلية العربية الفلسطينية تلعب الدور نفسه، وقد خاضت من أشكال النضال الكفاحي والتنظيمي ما يعبر عن تميزها، وهو تميز حرص عليه فلسطينيو 48 واليهود الإسرائيليون أيضًا، فعلى الرغم من محاولات إسرائيل الدائبة لفصل فلسطينيي 48 عن إخوانهم من فلسطينيي 67، وإطلاق صفة "عرب إسرائيل" عليهم، بما تتضمنه من تمييع للهوية الخاصة الفلسطينية وإغراقها في العموم العربي- وهو بالمناسبة يعتبر عموما معاديًا- وتمييز هؤلاء الفلسطينيين، بعد "تعريبهم"، عن بقية العرب بإلحاقهم بإسرائيل، ومحاولة فرض الهوية الإسرائيلية عليهم، فقد أخفقت الصهيونية في المقابل في استيعابهم ضمن المنظومة "القومية" الصهيونية التي تنظر إلى الدولة باعتبارها دولة ما يسمى "الشعب اليهودي"، وظلوا باستمرار أقلية خارج الإجماع القومي، وعلى هامش المجتمع الإسرائيلي، بل تحت تهديد أنهم أقلية غير مرغوبة ومهددة باستمرار بمشروعات الترحيل من قوى اليمين الإسرائيلي المتطرفة.

وقد قاد هذا الوضع الفلسطينيين في إسرائيل إلى الانسلاخ تدريجيًّا من التنظيمات الصهيونية التي لجئوا إليها للتعبير عن مصالحهم، ولجأت إليهم من جانبها لتعظيم قوتها الانتخابية، والاعتماد، بدلاً من ذلك، على الذات في تكوين أحزاب وتنظيمات فلسطينية تنامت قوتها مع الوقت. وهاجموا بشكل واضح الطبيعة العنصرية للدولة، وطرح بعضهم من أنصار التيار القومي العربي- وأبرزهم النائب والمفكر عزمي بشارة - طرحًا راديكاليًّا يتمثل في مشروع "دولة جميع المواطنين" الذي قوبل باستجابات متفاوتة من المجتمع اليهودي الإسرائيلي، من الهجوم والرفض، إلى التبني والمساندة، خاصة من أنصار ما بعد الصهيونية واليسار الجديد. ومع ذلك يشار إلى أن مواقف هؤلاء بشأن مستقبل فلسطين تنقسم بين مؤيدي مشروع الدولتين ومشروع الدولة الواحدة للشعبين، وهو ما يعتبر في التحليل الأخير قبولاً بالأمر الصهيوني الواقع، ولا يتجه إلى خيار الدولة الفلسطينية النقية سوى أطراف هامشية لا تذكر، وهو أمر مفهوم في إطار الملاءمة السياسية لأوضاعهم داخل دولة الاحتلال.


رابعًا- الحداثة وما بعدها وما قبلها
تشكل المشروع الصهيوني في إطار الفكر القومي الغربي، وعرفت الصهيونية نفسها على أنها الحركة القومية التحررية لما يوصف بالشعب اليهودي، كما عرفت إسرائيل ولم تزل تعرف نفسها بأنها دولة الشعب اليهودي في العالم.

وهذا الأساس "القومي" الجماعي الحداثي جرت عليه تحولات كبيرة في العقود الثلاثة الأخيرة، باتجاه ما بعد حداثي، بما تشمله ما بعد الحداثة من عودة إلى ما قبل الحداثة أحيانًا متمثلة في الرجوع إلى التدين أو التجارب الروحانية أو العودة إلى الطبيعة. وهذا الاتجاه يركز على الفردية بدلاً من الجماعية والقومية، والتعددية أكثر من الوحدة، وعلى الداخل أكثر من الاهتمام بيهود العالم، أو القضايا الخارجية، لا سيما وقد هاجر معظم من تنتظر إسرائيل هجرتهم من اليهود بحكم الكوارث التي لحقت بهم، ولم يبق أمامها سوى استقدام مستوطنين غير يهود لموازنة التفوق الديموغرافي الفلسطيني.

وبالمثل فإن يهود الخارج ليسوا مهتمين تمامًا بالهجرة إلى إسرائيل، وتضعهم سياساتها العدوانية تجاه الشعب الفلسطيني في حرج أمام الأغلبيات الغربية التي يعيشون في إطارها. ويتنازعون مع إسرائيل على المركزية في حياة ما يوصف بالشعب اليهودي، ويرون أن دور الصهيونية الآن هو ترشيد السياسة الإسرائيلية وعدم تأييد إسرائيل تأييدًا أعمى كما كان في السابق، وإدخالها في مسار التطبيع والاندماج في إقليمها العربي.

كذلك يلاحظ انتقال إسرائيل على الجاني الآخر -وباضطراد- بحكم التبعية الهيكلية للعالم الغربي- من النموذج القومي الأوربي إلى النموذج الاستهلاكي الفردي الأمريكي، وقد برزت علامات الأمركة هذه في مختلف مناحي الحياة الفنية (موسيقى الروك وأفلام الإثارة والعنف)، وجوانب الحياة الاجتماعية (انتشار ظواهر مثل الزواج المدني والمختلط بدلاً من الزواج الشرعي، بل وحتى زواج الشواذ، وإضفاء بعد رسمي وشرعي عليه)، وحتى في المجالات الدينية، بنمو الاتجاهات الإصلاحية في اليهودية داخل إسرائيل، وتنصيب حاخامات من النساء، إلى غير ذلك. ويعتبر حلم الهجرة إلى الولايات المتحدة والغرب بصفة أعم هو حلم كثير من الإسرائيليين، وخاصة المهاجرين الجدد من الاتحاد السوفييتي السابق الذين يعتبرون إسرائيل مجرد محطة إلى الولايات المتحدة وأوربا، ويحلم حوالي 25% منهم بالهجرة، أو حتى العودة إلى روسيا.

وعلى الرغم من أن المجموعة الأمريكية في المجتمع الإسرائيلي هامشية العدد، وتقدر نسبتها بأقل من 3.7% حسب إحصاءات 1993 - وهذا ما يؤكد عدم رغبة يهود الولايات المتحدة في الهجرة إلى إسرائيل، وأن الصهيونية تتغذى على كوارث اليهود في العالم التي تدفعهم إلى تلك الهجرة، وليس الانتماء القومي الأيديولوجي- فإن هذه المجموعة تتربع هي واليهود الغربيون بشكل عام، على قمة الهرم الاقتصادي الاجتماعي الثقافي في المجتمع الإسرائيلي، أي أن قمة هرم البنية الاجتماعية والفكرية الإسرائيلية هي قمة غربية أساسًا، وتتجه بشكل عارم -شأن الغرب كله- نحو ما بعد الحداثة.

ولعل ذلك من أهم عوامل التنافر والتضاد في المجتمع الإسرائيلي، بين المجموعات الإثنية ذات الأصول الغربية المنتمية إلى الحداثة وما بعدها، وبين المجموعات الأخرى، وخاصة اليهود الشرقيين والفلسطينيين التي تنتمي إلى إطار حضاري مختلف لا تزال تشكل فيه الرموز القومية، وبشكل أكبر الرموز الدينية والأواصر الاجتماعية والتقليدية قيمة كبيرة على غرار ما قبل الحداثة في الغرب. ولذا يلاحظ أنه في الوقت الذي بدأت الصهيونية الكلاسيكية (الاشتراكية والعمالية) في الاضمحلال والانحسار، فإن الأطراف التي بدأت تشغل الفراغ الناجم من ذلك هي ما يوصف بـ"الصهيونية الجديدة" التي يغلب عليها البعد الشرقي وأقصى اليمين الغربي في المجتمع الإسرائيلي، أي أنها صهيونية متطرفة، وغير علمية، وغير متجانسة، وتعبر عن فلول المشروع الصهيوني وهوامش المجتمع الإسرائيلي، وتخلط بين الأيديولوجية القومية والعناصر الطائفية والدينية، وذلك في مقابل ما بعد الصهيونية واليسار الجديد، وهو ما يؤدي إلى توتر شديد داخلها، وتوتر أشد بينها وبين ما بعد الصهيونيين واليساريين الجدد. ويتعمق هذا الصراع بفعل العوامل الاقتصادية أيضًا، واندماج اليهود الغربيين في منظومة الاقتصاد الحديث القائم على التكنولوجيا المتقدمة، في الوقت الذي يشغل فيه ما قبل الحداثيون قاعدة الهرم الإنتاجي والخدمي أو يقعون خارج ذلك الإطار تمامًا، حيث يكتفي البعض بدراسة التوراة والعلوم الدينية، ولا يمارسون أي عمل على الإطلاق.

وفي هذا السياق تجدر ملاحظة أن حزب شاس الذي أصبح ثالث قوة برلمانية (17 مقعدًا) ويتمتع بتأييد حوالي نصف مليون إسرائيلي، جلهم من اليهود المغاربة، قد شرع في عملية بالغة الخطورة، وهي استلاب الأيديولوجية الصهيونية، كأيديولوجية علمانية حداثية، وملؤها بمضامين دينية وطائفية، وفي هذا السياق مثلاً يقول الحاخام إيلي سويسا صراحة: "الصهيونية قيمة دينية وليست قيمة علمانية"، والحاخام أرييه درعي يقول: "الصهيونيون الحقيقيون هم الذين يحافظون على شرائع التوراة"، والحاخام عوفاديا يوسف يكفر القضاة العلمانيين ومن يتوجه إلى المحاكم العلمانية، ويصف المهاجرين السوفييت سابقًا بالأغيار. ونواب شاس- مثلهم مثل الفلسطينيين في إسرائيل- لا يقفون عندما يغني نشيد "الأمل" في الكنيست (النشيد الرسمي الصهيوني الإسرائيلي الذي يتحدث عن أمل اليهود بالعودة إلى فلسطين منذ ثلاثة آلاف سنة)، أو يتركون القاعة. وهذا الحزب هو أحد المكونات الرئيسية لما يوصف بالصهيونية الجديدة أو اليمين الجديد، بعد أن أفلست الأيديولوجية الصهيونية في قالبها الكلاسيكي الذي يمثله حزب العمل، وكذلك قالبها الليبرالي الذي يمثله الليكود الذي لم يتمكن من بسط مفاهيمه أو تأكيد سلطته منذ وصوله إلى السلطة عام 1977 بدون التحالف مع الهوامش الطائفية والمتزمتة "قوميًّا" أو دينيًّا.

وتحاول الصهيونية الكلاسيكية في هذه المرحلة القيام بما أسماه البعض "عملية إنقاذ" ضد كل من الطرفين: الصهيونية الجديدة، وما بعد الصهيونية، اللذين يتنازعان الهيمنة حاليا على الساحة الإسرائيلية، من خلال إعادة تقييم منطلقاتها ومقولاتها ومشروعها لإسرائيل في الوضع الراهن والمستقبل، ولكن من الملاحظ أن هذه المحاولات لا تحرز إلا الفشل الذريع على نحو ما تعكسه مراكز الأحزاب والقوى السياسية الإسرائيلية من انتخابات إلى أخرى، حيث تهبط باستمرار حظوظ القوى الصهيونية لصالح الأحزاب الإثنية التي تعبر عن تيارات اجتماعية معينة، كما أنها في النهاية لن تخرج عن أحد الطرفين: الصهيونية الجديدة أو ما بعد الصهيونية، مع الأخذ في الاعتبار أن ما بعد الصهيونية في أشد صورها بروزا وراديكالية لا تتخذ من الصهيونية موقفا عدائيا كما سلف، وهو ما يميزها عن معاداة الصهيونية، ولكنها تتفق فقط على تجاوز الحقبة الأيديولوجية والقومية ورموزها وسياساتها باتجاه "الإيمان الديمقراطي".

كما أن الطرف القومي المركزي الآخر الذي يكمل المشروع الصهيوني في فلسطين، وبالتحديد يمين الوسط، متمثلا في الليكود بمدرسته "الصهيونية المراجعة"، متردد بين الصعود على أكتاف الصهيونية الجديدة لمواجهة اليسار ويسار الوسط، ويتهم حزب العمل بأنه نسي الصهيونية، وبين الالتحام مع يسار الوسط، متمثلا في حزب العمل، لمواجهة صعود الأطراف الإثنية والدينية، وخاصة الشرقية، والقيام بمحاولات مشتركة لإنقاذ الصهيونية بجناحيها العمالي والليبرالي، وهو ما يعكس بجلاء مأزق المركز الصهيوني في الخريطة السياسية الإسرائيلية، ومعاناة الصهيونية، كجامع قومي، بين حسابات الأحزاب السياسية الضيقة والآنية، ومتغيرات السياسة المتقلبة، أكثر مما يعكس هيمنة للصهيونية على هذه السياسة وتوجيهها إياها كما كان الأمر في السابق.


ما بعد الصهيونية والمستقبل

وختاما.. هل استمرار الصراع العربي- الإسرائيلي وتصعيده يزيدان من التوجه الصهيوني أم ما بعد الصهيوني في إسرائيل؟.

المدخل الصحيح للإجابة هو التمهيد بتساؤل آخر: في ظل أي شروط اجتماعية وسياسية؟ حيث تتحدد الإجابة بناء على ذلك. ففي مجتمع يقوم على الشرعية والتماسك الداخلي وعدالة المطالب التي يتبناها في صراعه الخارجي، يصبح الاستمرار في الصراع الخارجي عاملا للتوحد، طالما لم تكن الخيارات الأخرى أفضل وأقرب إلى تحقيق المطالب العادلة المتجذرة في وعي أبنائه وتكوينهم الفكري والنفسي، وفي المقابل، تتزايد اتجاهات التراجع، ويصبح السؤال مثارا للانقسام والتناقض عندما تكون هناك خيارات أفضل من الصراع، وخاصة إذا كان هذا الصراع من أجل مطامع وأساطير مؤسسة للجماعة المتصارعة، غير المتجانسة، وهو ما ينطبق على إسرائيل بشكل واضح.

وبشكل عام، يمكن القول: إن المجتمع الإسرائيلي مهموم تماما بالسلام، ولكن رؤيته للسلام تتراوح ما بين استئصال الوجود الفلسطيني المزعج حتى ينعم بالراحة والأمان في فلسطين، والتوسع إلى أقصى حد ممكن لتأمين حدوده، وبين الهجرة المعاكسة والنزوح عن فلسطين، وتبني حلول أخرى للوجود غير المشروع الصهيوني. وبين هذين الطرفين الصهيوني في أشد صوره والمعادي للصهيونية في أشد صوره، تتواجد أطياف مختلفة في الساحة السياسية الإسرائيلية، ويظل السؤال منوطا بالوضع القائم للصراع: هل يسمح بنمو الأساطير والاستغراق في الأوهام المريحة؟ أم يفجر إشكالية شرعية الوجود ويدفع إلى البحث عن خيارات أخرى؟.

وعلى هذا الأساس يمكن فهم تجاور الاتجاهات المختلفة بشأن الصراع والتسوية في المجتمع الإسرائيلي، على الرغم من تناقضها الصارخ واستقطابها الحاد، بسبب حالة اللاحسم القائمة في الإقليم العربي، وتردد العرب أنفسهم بين روح المقاومة وروح الاستسلام، والانتصارات التي تحققها إسرائيل تارة والهزائم التي تمنى بها تارة أخرى، أخذا في الاعتبار التفوق الإسرائيلي الهائل في مجال السلاح والأهم من ذلك في مجال التكنولوجيا، وعجز ذلك التفوق عن تحقيق الحسم في الصراع الخارجي في الوقت نفسه.

وعليه لن نناقش في هذه النقطة إذا كان استمرار الصراع العربي- الإسرائيلي يزيد من التوجهات الصهيونية أو ما بعد الصهيونية، ولكن نشير فقط إلى ما أحدثه تطور الصراع بالفعل من تفنيد للعديد من الأساطير الصهيونية، واستعادة للحقائق، وذلك يبرز من خلال النقاط التالية:


أ- تدهور الأساس الأخلاقي لمعارك إسرائيل:

فقد أدى كشف الحقائق المتعلقة بحرب 1948، والتوازن العسكري المائل بشدة لصالح إسرائيل، وتحالفها مع الأردن قبيل الحرب من أجل اقتسام فلسطين -حسب الرواية التاريخية الإسرائيلية التصحيحية- إلى تدهور شديد في صورة الجيش الإسرائيلي، حيث اختفى الوجه الإعجازي والدفاعي للانتصارات الإسرائيلية، وبرز فيها وجه التفوق العسكري المدعوم إمبرياليا وعربيا والوجه الوحشي المنتهك للحقوق الأساسية للبشر.

وفي المرحلة الراهنة يعزز عدم التكافؤ القائم في الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني هذا التصور، ويبرز، إلى جانب ذلك، جرائم الجيش الإسرائيلي، وليس فقط عدم تكافؤ المعركة الذي يجعل أعمال الجيش مجردة من أي غطاء أخلاقي، وأقرب إلى القتل منها إلى القتال، وهو ما كان سببا لارتفاع معدلات الهروب من الخدمة العسكرية، أو رفضها لأسباب أخلاقية.

ويمكن القول إن هذه الصورة، والانتقادات الإسرائيلية للممارسات العسكرية الإسرائيلية، قد صاحبت هذه الممارسات منذ البداية، ولكنها كانت خافتة، كما كانت تحجب بواسطة الرقابة ومع الخصخصة الجزئية لوسائل الإعلام ابتداء من أواسط السبعينيات، وترافق ذلك مع انحسار الصهيونية الكلاسيكية مع صعود الليكود إلى الحكم عام 1977، حيث كانت فيما قبل ذلك وسائل الإعلام والتنشئة مسخرة لخدمة الصهيونية الكلاسيكية لحزب العمل، وكانت أجهزة الدولة هي أجهزة النخبة الحاكمة في الوقت نفسه، إلا أنه مع صعود الليكود إلى الحكم حدث الانشقاق والتناقض بين السلطة والنخبة، وانعكس ذلك في مزيد من النقد الإعلامي والثقافي لممارسات السلطة، على نحو ما برز في أعقاب غزو لبنان، ثم أصبحت الظاهرة شيئا مألوفا أكثر مع تزايد استقلالية وسائل الإعلام، ونقدها لتصرفات الحكومات الإسرائيلية من اليمين واليسار، على نحو ما برز في الانتفاضة الفلسطينية عام 1987 والانتفاضة الحالية، مع الأخذ في الاعتبار متغيرات العصر، وثورة الاتصال والعولمة.


ب- استعادة الفلسطيني الغائب:

في ظل هذا المناخ، لم يعد الفلسطيني مغيبا، كما كان في الرواية الصهيونية للتاريخ، التي نظرت إلى فلسطين على أنها أرض بلا شعب، وأنكرت المذابح التي تمت بحق الشعب الفلسطيني حتى تحولت إسرائيل إلى دولة ذات أغلبية يهودية، فقد انكشفت حقائق الطرد، وبرزت العلاقة بين الواقع والماضي من خلال تفجر تساؤلات من قبيل: لماذا يعتبر الفلسطينيون في إسرائيل أقلية معادية؟ ولماذا اندلعت المقاومة الفلسطينية؟ ومن المسئول عن ضياع فرص السلام؟ ومع نمو مثل هذا الوعي ظهرت أنشطة ثقافية مشتركة بين فلسطينيين وإسرائيليين، تهدف إلى إبراز الحقائق، والسعي إلى السلام، وهو اتجاه كان موجودا على المستوى السياسي متمثلا في الحزب الشيوعي الفلسطيني، ثم القائمة العربية للسلام والمساواة. كما بدأت وسائل الإعلام والسينما تشهد ظواهر جديدة على غرار تشبيه أعمال الجيش في الأراضي المحتلة في 1967 بالنازية، وتنتقد العنصرية الإسرائيلية في التعامل مع الأقلية الفلسطينية، أو تدين التطرف الديني الآخذ في التغلغل في المجتمع الإسرائيلي، كما برزت صورة مختلفة للفلسطيني من خلال الأفلام والمسرحيات التي اعتمدت على قصة روميو وجولييت، حيث تقع جولييت اليهودية في غرام روميو الفلسطيني الأنيق واللامع، ويحاربان معا التقاليد والأفكار المسبقة السائدة التي تحول بينهما.

ج- معضلة الأمن واستحالة "السلام الإسرائيلي":

على الرغم من حروب إسرائيل المتتالية، فإنها لم تتمكن من فرض الأمن والسلام الإسرائيليين على المنطقة العربية، ولا على الشعب الفلسطيني، وما زالت تواجه بمقاومة شديدة، تجلت في حرب 1973، وفي أعقاب غزو لبنان، وفي انتفاضتي 1987 و2000. وقد أبرزت هذه المواجهات في مجملها، فيما أبرزته، استحالة تحقيق الأمن والسلام كما تفهمهما إسرائيل، وبدا لكثير من الفئات، وخاصة الشباب الذين يدفعون أرواحهم ودماءهم في الحروب، أنه في حين تدعي الصهيونية أن الهدف من وجود إسرائيل أن تكون ملاذا ليهود العالم من الاضطهاد، وحتى لا تحدث لهم هولوكوست أخرى، فإن اليهود الموجودين في فلسطين هم أكثر يهود العالم تعرضا للمخاطر، وأما الذين لم يستجيبوا للمشروع الصهيوني، وبقوا في أوطانهم، فهم الأوفر أمنا ورفاهية.

وعلى ذلك زادت بشكل صارخ معدلات نزوح المستوطنين من فلسطين، وبخاصة في أوقات اشتداد المواجهات واليأس من قدوم السلام المنتظر، وبلغت هذه العملية ذروتها خلال الانتفاضة الحالية، وعجز إسرائيل عن قمعها في كل محاولة تعلنها، وخاصة لدى اليهود الغربيين والأغنياء، وأبناء النخبة الحاكمة الذين إما هاجروا إلى الخارج، أو يعيشون في الخارج لفترات طويلة تجنبا للمخاطر.

والطريف أن وسائل الإعلام الإسرائيلي لم تعد تتكتم على مثل هذه الأمور، بل بدأت تعلنها، وبدأ المهاجرون والناوون الهجرة من إسرائيل يحكون على الملأ عن تجاربهم، وينصحون أقاربهم بالسفر. كما بدأت تنتقد التمييز القائم في المجتمع الإسرائيلي، حيث يدفع ثمن المواجهة دائما الفقراء ومن لا يستطيع السفر، ونشر الشعراء شعرا يدعو اليهود لعدم السفر إلى إسرائيل حيث لن يجدوا في انتظارهم إلا المصاعب.


د- صخرة اللاجئين:

تدعي الرواية الصهيونية أن اللاجئين الفلسطينيين فروا بإرادتهم من فلسطين خلال حرب 48، واستجابة لنداءات قياداتهم العربية بالخروج منها لحين تحريرها، وعلى هذا الأساس فإن إسرائيل ليست مطالبة بتحمل مسئولية هجرتهم أو إعادتهم. ويعتبر هذا الموقف موقفا إستراتيجيا إسرائيليا يعبر عن أحد ثوابت الفكر الصهيوني الذي أراد دولة يهودية نقية أو بأقل عدد ممكن من الفلسطينيين. وتهدد عودة اللاجئين الفلسطينيين بتحول إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية، يصير فيها اليهود أقلية مع الوقت.

وقد فندت أعمال المؤرخين التصحيحيين هذه المقولة، وكشفت، بلا لبس، المجازر وأعمال "التطهير العرقي" التي حدثت من أجل طرد الفلسطينيين، وتدمير قراهم من أجل الحيلولة دون عودتهم. ‏‏وعلى الرغم من أن هؤلاء المؤرخين يختلفون حول ما إذا كان ذلك مجرد نتيجة لسير المعارك أم أنه كان وفقا لخطة مسبقة، فقد أبرز للمجتمع الإسرائيلي، ومن خلال البحث التاريخي الوضعي، حقيقة طرد الفلسطينيين، ومن ثم مسئولية إسرائيل عن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين.

وقد انعكس ذلك الاعتراف على الجدل الحالي بشأن عملية التسوية وإقرار البعض باستحالة حل الصراع بدون عودة اللاجئين الفلسطينيين؛ وهو الأمر الذي تتبناه القيادات الفلسطينية، حيث كان عرض باراك في كامب ديفيد هو مبادلة حق الفلسطينيين في معظم القدس الشرقية بحقهم في عودة اللاجئين، وهو ما رفضته القيادة الفلسطينية، وعلى أثره انهارت مفاوضات كامب ديفيد. وللخروج من هذا المأزق يقترح البعض إقامة دولة واحدة في فلسطين تشمل الفلسطينيين واليهود معا، وهو أحد الحلول القديمة لقضية فلسطين، ولكنه لا يلقى تأييدا كبيرا سواء من الفلسطينيين أم الإسرائيليين، ويكاد يكون رفض عودة اللاجئين، والسعي إلى توطينهم في الخارج، أحد الثوابت التي يتأسس عليها الإجماع الإسرائيلي في الوقت الراهن، وهو ما يجعل السلام في فلسطين أمرا شبه مستحيل في ظل ذلك الموقف الإسرائيلي الصهيوني.


قائمة المراجع:

- أحمد خليفة وصبري جريس (محررين)، دليل إسرائيل العام، 1996، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1997.

- إيمان حمدي، معسكر السلام الصهيوني- اتجاهات الثنائية القومية والتقسيم في الحياة السياسية الإسرائيلية- 1925-1996، ترجمة: صالح عزب، القاهرة: معهد البحوث والدراسات العربية، 1997.

- إيلان بابيه، "ما بعد الصهيونية- توجهات جديدة في الخطاب الأكاديمي الإسرائيلي حول الفلسطينيين والعرب"، مجلة الدراسات الفلسطينية، 31، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية 1997.

- إيلا حبيبة شوحط، "اليهود الشرقيون في إسرائيل- الصهيونية من وجهة نظر ضحاياها اليهود"، مجلة الدراسات الفلسطينية، 36، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1988.

- باروخ كيمرلنج، "لا هي ديمقراطية ولا هي يهودية"، في: مجلة الدراسات الفلسطينية، 33، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1998.

- بني موريس، "قمت بعمل صهيوني"، في: مجلة الدراسات الفلسطينية، 33، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1998. وللمؤلف نفسه: "عن سرد الرواية المغيبة وتحطيم الرواية الأسطورة"، صحيفة الأيام الفلسطينية، 17/6/1997.

- جلال الدين عز الدين علي، الصراع الداخلي في إسرائيل، دراسة استكشافية أولية، سلسلة دراسات إستراتيجية، أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث السياسية والإستراتيجية، 1999.

- حبيب قهوجي، العرب في ظل الاحتلال الإسرائيلي منذ 1948، بيروت: منظمة التحرير الفلسطينية، مركز الأبحاث، 1972.

- عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، (النسخة الإليكترونية) القاهرة: بيت العرب للتوثيق العصري والنظم، 2001.

- عبد الوهاب المسيري، من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية- أثر الانتفاضة على المجتمع الصهيوني، القاهرة: جمعية مصر للثقافة والحوار، 2002، ص.: 73 وما بعدها. وانظر للمؤلف نفسه: "أزمة الصهيونية"، مجلة البحوث والدراسات العربية، 28، القاهرة: معهد البحوث والدراسات العربية، 1996.

- كتاب "تصحيح غلطة" لبني موريس (10 حلقات)، صحيفة الرياض، ابتداء من 15/7/2001.

- معين حداد، "تحليل ظاهرة ما بعد الصهيونية"، مجلة شئون الأوسط، 72، بيروت: مركز الدراسات الإستراتيجية والبحوث والتوثيق، 1998.

- صحيفة العربي، القاهرة، 13/7/1998.

-Benny Moris, “Peace? No Chance”, The Guardian, 21/2/2002.

Charles S. Liebman, “Secular Judaism and Its Prospects”, Israel Affairs, Vol. 4, No. 3&4, (London: Frank Cass, 1998).

- “Ilan Pappe: Israeli Jewish Myths and Prospect of American War”, Interview by Greg Dropkin, (13/9/2002). http://www.labournet.net/world/0209/pappe1.html

- “Ilan Pappe: Israeli Jewish Myths and Prospect of American War”, op.cit.

- Ilan Pappe, “Post-Zionist Critique on Israel and the Palestinians, Part III, Popular Culture”, Journal of Palestine Studies, Vol. XXVI, No. 4, (Berkeley: Institute for Palestine Studies, 1997).

Ilan Pappe, “Post-Zionist Critique on Israel and the Palestinians, Part II, The Medea,” , Journal of Palestine Studies, Vol. XXVI, No. 3, (Berkeley: Institute for Palestine Studies, 1997).

Lilly Weissbrod, “Israeli Identity in transition”, Israel Affairs, Vol.3, No.3&4, (London: Frank Cass, 1996).

Oz Almog, “Shifting the Center from Nation to Individual and Universe: The New ‘Democratic Faith’ of Israel”, Israel Affairs, Vol. 8, No. 1&2, (London: Frank Cass, 2002).



--------------------------------------------------------------------------------

** باحث في العلوم السياسية، ومتخصص في الفكر الصهيوني والسياسة الإسرائيلية- مصر.

[/color]

أضف رد جديد

العودة إلى ”مجلس الدراسات والأبحاث“