الذب عن التراث البلاغي للإمام يحيى بن حمزة

هذا المجلس لطرح الدراسات والأبحاث.
أضف رد جديد
علي شرف
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 14
اشترك في: الخميس إبريل 15, 2010 12:41 am
مكان: صنعاء

الذب عن التراث البلاغي للإمام يحيى بن حمزة

مشاركة بواسطة علي شرف »

في خضم الدراسات البلاغية كانت للإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة(745هـ) -سلام الله عليه- اليد الطويلة، التي أقر بها أهل المعرفة، وتناولوها بالبحث والتحليل في دراساتهم الأكاديمية، ولكن ما لفت انتباهي هو كتاب (من مباحث البلاغة والنقد بين ابن الأثير والعلوي) تاليف الدكتور/ نزيه عبد الحميد فراج، وفيه العجب العجاب، وقد صدّر المؤلف كتابه بعبارة عبد القاهر الجرجاني في الصفحة الثالثة منه حيث يقول: «إذا تعاطى الشيء غير أهله، وتولى الأمر غير البصير به، أعضل الداء، واشتد البلاء». وبعد أن يتصفح القارئ الكتاب يفهم المقصود بهذه العبارة، فهي تعريض بالإمام يحيى بن حمزة، فالإمام يحيى بن حمزة عند الدكتور/ نزيه فراج ليس من أهل البلاغة، ولا من أرباب البصيرة، فقد أعضل به الداء، واشتد به البلاء، في كتابه (الطراز، المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز).

وأكثر من هذا، فهو في المقدمة يذكر أن ابن الأثير (637هـ) ذو شخصية متميزة، وأنه كان الواسطة لإفادة الإمام يحيى عليه السلام من بلاغة الكشاف، ويقول أيضا: إن الإمام يحيى اعتمد كثيرا على كتاب ابن الأثير إلى درجة أنه نقل منه مباحث كاملة كثيرة، وكان نقله لهذه المباحث نقلا حرفيا وبرمته. ثم يتساءل عن سبب تجاهل البلاغيين الذين جاءوا من بعد الإمام يحيى بن حمزة لكتابه (الطراز)، على العكس من موقفهم من (المثل السائر) لابن الأثير، ثم يقول: «وللجواب عن هذا السؤال أقول: لو أن ابن أبي الإصبع المصري قدر له أن يأتي بعد الإمام العلوي، ويطلع على كتابه الطراز، ويقف على ما فيه من الخبط، والفساد، والتناقض، وسوء الفهم، وضعف المعرفة بقواعد وأصول وقوانين البلاغة والنقد، وعدم إدراك الفورق والحدود الفاصلة بين فنون البلاغة المختلفة، والذي ترتب عليه وضع أشياء في غير مواضعها التي ينبغي أن توضع فيها، والخلط بين أمور لا يجوز الخلط بينها، لقال فيه ما قاله في كتاب البديع في نقد الشعر لأسامة بن منقذ(584هـ) وهو : "وإذا وصلت إلى بديع ابن منقذ وصلت إلى الخبط والفساد العظيم، والجمع من أشتات الخطأ وأنواعه من التوارد والتداخل، وضم غير البديع والمحاسن إلى البديع، كأنواع من العيوب، وأصناف من السرقات، ومخالفة الشواهد للتراجم، وفنون من الزلل والخلل، يعرف صحتها من وقف على كتابه، وألغم [كذا] النظر فيه، لاجرم أني لم أعتد بكتابه في عدة من وقفت عليه من ذلك" وأحسب أن البلاغيين الذين اطلعوا على كتاب "الطراز" قد قالوا بلسان الحال ما قاله ابن أبي الإصبع في بديع ابن منقذ بلسان المقال».

إذن.. هذه هي الصورة التي حملها لنا الدكتور/ نزيه فراج عن الإمام يحيى بن حمزة في كتابه الطراز، وهي نظرة لا تقتصر في قدحها في مجال البلاغة، بل في عدالته، كأحد أئمة الدين، والعلم، والفقه، الذين عرفهم التاريخ الإسلامي، فهل طرح في كتابه ما يؤيد ذلك؟ أو أنه كان متجنيا عليه؟

وفي مدخل الدراسة ذكر الدكتور/ نزيه فراج أنه كشف عن حقائق كثيرة، وأهمها: أن الإمام يحيى بن حمزة يقف دائما عند الذي يقوله ابن الأثير، و لايتجاوزه، وأنه ينقل منه الغث والسمين، دون فهم، وكذا يزعم أن المفاهيم والأصول البلاغية مشوشة ومضطربة في ذهنه، وأن معرفته بالحدود التي تفصل بين الفنون البلاغية تكاد تكون معدومة، وهذا قليل من كثير مما عده المؤلف حقائق توصلت إليها الدراسة، ولولا معرفتي بمقام الإمام يحيى بن حمزة، ودرجته العلمية بين علماء اليمن لظننت المؤلف يتكلم عن أحد الجهال الطغام، والمتفيهقين السقام، ولكن، الفصل في ما سنراه في الدراسة التي كانت هذه القنابل الصوتية مجرد مقدمات لها، ومداخل تمهيدية إليها.

وفي هذا المقام أكتفي بإلقاء الضوء على جزء بسيط يفي بالغرض، وبيين محل تلك الآراء من الإعراب، و إن كان من الملائم أن أتناول الكتاب بالمتابعة والدراسة من أوله حتى آخره، لولا ضيق الوقت، والانشغال بما هو ألح منه، ولكن مادام في هذا القدر من الإضواء التي سنتعرض لها كفاية في بيان موضوعية الدكتور/ نزيه فراج ، ومنزلته العلمية، التي تؤهله لإصدار هذه الأحكام القاسية على الإمام يحيى بن حمزة، والبداية مع الفصل الأول من الكتاب، من مباحث البلاغة في المعاني، في موضوع الأجرف الجارة ودلالتها اللغوية والبلاغية.
والبداية هنا تكون مع نص أورده الدكتور من الطراز، وفيه: «فالباء للإلصاق، وفي للوعاء، ومن لبيان الجنس، إلي غير ذلك من المعاني»[الطراز:2/53]. وبعد أن يتحقق الدكتور من صحة هذه المعاني يقف عند معنى من، ويقول: «وأما قوله إن"من" لبيان الجنس فغير صحيح، والصحيح أنها لابتداء الغاية، قال الزمخشري: فمن معناها ابتداء الغاية، كقولك: سرت من البصرة، وكونها مبعضة في نحو: أخذت من الدراهم، ومبينة في نحو﴿ فاجتنبوا الرجس من الأوثان﴾ ومزيدة في نحو: ما جاءني من أحد، راجع إلى هذا المعنى، وقد ذكر لها المرادي وابن هشام خمسة عشر وجها»[من مباحث البلاغة والنقد بين ابن الأثير والعلوي:18]، قد أوردت نصه كاملا حتى يبين جهل الدكتور بشواهد اللغة، مصداقا لقول ابن أبي الإصبع المصري الذي أورده في شأن الإمام قبلا، حين قال: «ومخالفة الشواهد للتراجم». وهذا لأنه قد أورد شاهدا مشهورا في كتب النحو، يذكرونه ليوضحوا به أن "من" تفيد بيان الجنس، وهي التي قال عنها ناقلا، «ومبينة في نحو﴿ فاجتنبوا الرجس من الأوثان﴾» ، ولغفلته أو لجهله لم يفطن أن المقصود بالمبينة المبينة للجنس، وقد أورد هذا الشاهد في كتب النحو في هذا المقام ابن هشام في المغني، وقد أشار إليه متصنعا المعرفة وهو لم يقرأ على ما يبدو ما أورده ابن هشام في معاني "من"، قال ابن هشام: «الثالث بيان الجنس وكثيرا ما تقع بعد وما ومهما وهما بها أولى لإفراط إبهامهما نحو ﴿ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها﴾ ﴿ما ننسخ من آية ﴾ ﴿مهما تأتنا به من آية﴾ وهي ومخفوضها في ذلك في موضع نصب على الحال ومن وقوعها بعد غيرهما ﴿يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق﴾ الشاهد في غير الأولى فإن تلك للابتداء وقيل زائدة ونحو ﴿ فاجتنبوا الرجس من الأوثان﴾» أكتفي به كون الدكتور أشار إليه في كلامه، وبهذا يظهر أننا أمام طفرة علمية غير طبيعية، تمتاز بالتسرع، وعدم الدقة في القراءة، تقف من الحقيقة ودونها بون شاسع.

وفي هذا الموضوع نفسه ينقل الدكتور كلام الإمام يحيى بن حمزة في تناوله لقوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾[24:سبأ] حيث قال: «فانظر إلى براعة هذا المعنى المقصود، وجزالة هذا الانتظام بمخالفة موقعي هذيه الحرفين، فإنه إنما خولف بينهما في التلبيس بالحق والباطل، والدخول فيهما، وذلك من جهة أن صاحب الحق كأنه لمزيد قوة أمره، وظهور حجته، وفرط استضهاره، راكب لجواد يصرفه كيف شاء، ويركضه حيث أراد، فلأجل هذا جعل ما يختص به معدى بحرف "على" الدال على الاستعلاء، بخلاف صاحب الباطل، فإنه لفشله، وفرط قلقه، وضعف حاله، كأنه ينغمس في ظلام وموضع سافل، لا يدري أين يتوجه، ولا كيف يفعل، فلهذا كان الفعل المتعلق بصاحبه معدى بحرف الوعاء، إشارة إلى ما ذكرناه، ويؤيد هذا ما ذكره الله تعالى في سورة يوسف، حيث قال: ﴿قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ﴾[95:يوسف]»[الطراز:2/53-54], وأنا هنا سأورد كلام الزمخشري في الكشاف، ومن بعده كلام ابن الأثير في هذا المورد، قال في الكشاف: «فإن قلت : كيف خولف بين حرفيّ الجرّ الداخلين على الحق والضلال؟ قلت : لأن صاحب الحق كأنه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء ، والضال كأنه منغمس في ظلام مرتبك فيه لا يدري أن يتوجه»[الكشاف:3/582]، وقال ابن الأثير: «ألا ترى إلى بداعة هذا المعنى المقصود لمخالفة حرفي الجر ههنا فإنه إنما خولف بينهما في الدخول على الحق والباطل لأن صاحب الحق كأنه مستعل على فرس جواد يركض به حيث شاءِ وصاحب الباطل كأنه منغمس في ظلام منخفض فيه لا يدري أين يتوجهِ وهذا معنى دقيق قلما يراعى مثله في الكلامِ وكثيراً ما سمعت إذا كان الرجل يلوم أخاه أو يعاتب صديقه على أمر من الأمور فيقول له أنت على ضلالك القديم كما أعهدكِ فيأتي بعلى في موضع فيِ وإن كان هذا جائزاًِ إلا أن استعمال "في" ههنا أولى لما أشرنا إليهِ ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة يوسف ﴿قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ﴾[95:يوسف]».[المثل السائر، 2/49] ، والمقارنة بين النصوص الثلاثة تقول إن نص ابن الأثير أكثر شبها بنص الزمخشري، باستثناء كلمات يسيرة، وأما الإمام يحيى بن حمزة
فقد جمع بينما وجده أفضل عند كلا الرجلين السابقين له في الحديث حول هذه الآية، فزاد كلام الزمخشري شرحا، بعبارة أكثر بيانا، ولم يهمل إضافة ابن الأثير في الاستشهاد بسورة يوسف، لكنه أوجز الحديث فيه، ولكن كيف كانت نظرة الدكتور/ نزيه عبد الحميد فراج في هذا الموضع، فلنستمع إليه حيث يقول: «والعلوي لم يذكر شيئا سوى تطويل عبارة ابن الأثير بألفاظ مترادفة، أكثرها حشو مستغنى عنه»[من مباحث البلاغة والنقد بين ابن الأثير والعلوي:19]، ثم يقول بعد أن يسرد كلام الزمخشري وابن الأثير بأن الإمام يحيى بن حمزة إن الإمام لم يذكر من كلام ابن الأثير في الفقرة الأخيرة سوى الآية فقط، مع أنه زاد الكثير من الألفاظ والجمل التي لا معنى لها في أصل كلام الزمخشري، «وما ذاك إلا لكي يخفي ما أخذه»[من مباحث البلاغة والنقد بين ابن الأثير والعلوي:20]، وهكذا يحكم الدكتور نزيه بنزاهته على الإمام يحيى بن حمزة، في تعليله لما أورده في كتابه "الطراز" بأنه يريد التدليس، ولا أدري أين محل هذا الكلام الأخير من الموضوعية، فقد نتفهم رأي الدكتور في حكمه على زيادات الإمام على نص الزمخشري بأنها حشو، وما شابه ذلك من الأحكام، ولكن عندما يمارس دور المحلل النفسي، ويوضح لنا نوايا الصدور، وبواطن الأمور، فهذا لا يمت لنزاهة الباحث الموضوعي بصلة، لا سيما أن عينه عين سخط، تتلمس المساوئ، وإن لم توجد، فلما أطنب الإمام في الشرح بعباراته على نص الزمخشري عدّه الدكتور حشوا، ولما أوجز الإشارة في شاهد سورة يوسف التي أوردها ابن الأثير عده الدكتور مزورا ومدلسا، فلم يرض عن عمله في الإيجاز، ولم يستحسنه في الإطناب، ونقل أو أخذ الإمام أي شيء من ابن الأثير أو من الزمخشري لا يورد في مجال السرقة، لا سيما وقد صرح بأنه ما طالع من دواوين البلاغة سوى ما كتبه أربعة، «أولها كتاب "المثل السائر" للشيخ أبي الفتح نصر بن عبد الكريم المعروف بابن الأثير، وثانيها كتاب "التبيان" للشيخ عبد الكريم، وثالثها كتاب "النهاية" لابن الخطيب الرازي، ورابعها كتاب "المصباح" لابن سراج المالكي» [الطراز، 1/3-4]، وهذا منه –عليه السلام- عمل يتنافى مع من أضمر النية للسرقة، ونسبة ما أتى به غيره إلى نفسه، ولكنه، أراد أن يجمع بين التهذيب والتحقيق على نحو لم يجده فيما رأي من الكتب، حتى يناسب من عنده من طلابه، «فالتهذيب يرجع إلى اللفظ، والتحقيق يرجع إلى المعاني، إذ كان لا مندوحة لأحدهما عن الثاني»[الطراز،1/5].

وفي الموضوع ذاته، أعني موضوع الأجرف الجارة ودلالتها اللغوية والبلاغية، يورد الإمام يحيى بن حمزة الشاهد الثاني، وهو قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[60:التوبة]، حيث ناقش الإمام الزمخشري -وتابعه كل من ابن الأثير والإمام يحيى ابن حمزة- ورود حرف الجر "اللام" في المواضع الأربعة الأول، مع الفقراء ومن بعدهم، وورود حرف الجر "في" معم المواضع الأربعة الأخر، مع الرقاب وما بعدها. قال الإمام يحيى بن حمزة : «لكن الله خص المصارف الأربعة الأول باللام، دلالة على الملك والأهلية للاستحقاق، وعد عن اللام إلى حرف الوعاء في الأصناف الأربعة الأخر، وما ذاك إلا للإيذان بأن أقدامهم أرسخ في الاستحقاق للصدقة، وأعظم حاجة في الافتقار، من حيث كانت في دالة على الوعاء، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات، كما يوضع الشيء في الوعاء، وأن يجعلوا مظنة لها، وذلك لما في فك الرقاب وفي الغرم من الخلاص عن الرق والدين، اللذين يشتملان على النقص، وشغل القلب بالعبودية والغرم، ثم تكرير الحرف في قوله: ﴿وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ قرينة مرجحة له على الرقاب والغارمين، وكان سياق الكلام يقتضي أن يقال: "وفي الرقاب والغارمين وابن السبيل"، فلما جيء بفي مرة ثانية وفصل بها سبيل الله علم أن السبيل آكد في الاستحقاق بالصرف فيه؛ من أجل عمومه وشموله لجميع القربات الشرعية، والمصالح الدينية»[الطراز،2/54-55]، وأردف الدكتور/ نزيه هذا الكلام بقوله: «وهذا مأخوذ من "المثل السائر"، وأصله في "الكشاف"، والفضل في الأشارة إلى المعاني البلاغية لحروف الجر في النصين الكريمين للإمام الزمخشري، وليس لابن الأثير في دراسة حروف الجر جهد، إلا الشرح والاستنباط من كلام الزمخشري، أما العلوي فلا فضل له البتة»[من مباحث البلاغة والنقد بين ابن الأثير والعلوي:21]. وحتى نتحقق من موضوعية هذا الكلام نورد نص الزمخشري ونص ابن الأثير، حتى نرى فضل الشرح والاستنباط الذي نسبه الدكتور/ نزيه إلى ابن الأثير، ونزع عن الإمام كل فضل، قال في الكشاف: «وذلك لما في فكّ الرقاب من الكتابة أو الرقّ أو الأسر، وفي فكّ الغارمين من الغرم من التخليص والإنقاذ، ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال»[الكشاف،2/283]، وقال في المثل السائر: «فإنه إنما عدل عن اللام إلى ( في ) في الثلاثة الأخيرة للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره باللام،لأن "في" للوعاءِ فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات كما يوضع الشيء في الوعاءِ وأن يجعلوا مظنة لهاِ وذلك لما في فك الرقاب وفي الغرم من التخلصِ، وتكرير "في" في قوله ﴿وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ دليل على ترجيحه على الرقاب وعلى الغارمينِ وسياق الكلام أن يقال: "وفي الرقاب والغارمين وسبيل الله وابن السبيلِ" فلما جيء بفي ثانية وفصل بها بين الغارمين وبين سبيل الله علم أن سبيل الله أوكد في استحقاق النفقة فيهِ»[المثل السائر، 2/49-50]، والمتابع يرى أن لا فضل لابن الأثير في شرح ولا استنباط، وما فعله أقل مما فعله الإمام يحيى في هذا الموضع، ومع ذلك ترى المؤلف ناقما على الإمام يحيى بن حمزة، وائدا لكل حسنة، مصطنعا كل سيئة، فأقل ما يقال: إن الإمام يحيى بن حمزة مثلا أورد تعليلا لطيفا لتوكيد سبيل الله في الاستحقاق، لم يذكره ابن الأثير، حيث قال : «علم أن السبيل آكد في الاستحقاق بالصرف فيه؛ من أجل عمومه وشموله لجميع القربات الشرعية، والمصالح الدينية».

ثم يأتي الشاهد الثالث هنا، وهو مما لم يذكره الزمخشري ولا ابن الأثير، فالإمام يحيى في ذكره لما سبقه إليه الزمخشري أو ابن الأثير يريد أن يجمع أحسن القول في هذه المسائل، ولكنه غير كلٍّ على ما عندهم، ففي قدرته الإتيان بالجديد، والشاهد الثالث هو قول الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾[70:الإسراء]، قال الإمام يحيى بن حمزة: «إنما أعرض عن ذكر حرف الاستعلاء وهو "على"، وعدل عنه إلى حرف الوعاء، وهو "في"، مع أن الظاهر هو العلو على الأرض والفلك، إعلاما بأن حرف الوعاء أقعد وأمكن ههنا من حرف الاستعلاء، لأن "على" تشعر بالاستعلاء لا غير، من غير تمكن واستقرار، و "في" تشعر ههنا بالاستقرار والتمكن، ومن حق ما يكون مستقرا فيها متمكنا أن يكون مستعليا له، فيما كانت "في" تؤذن بالمعينيين جميعا آثرها، وعدل إليها، وأعرض عن "على" دلالة على المبالغة التي ذكرناها»[الطراز،2/55]، وقبل أن يورد الدكتور/ نزيه هذا الكلام قدم له بقوله: «انفرد العلوي بالكلام على سر التعبير بحرف الجر "في" دون "على" ولذلك أخطأ فيما قاله، وهكذا العلوي إذا حاول أن يستقل بنفسه، فإن الخطأ يلازمه غالبا فيما يقول»[من مباحث البلاغة والنقد بين ابن الأثير والعلوي:22]، وبعد هذا الكلام لا يملك المنصف إلا أن يقول: يا للعجب!!
وأين أخطأ يا ترى؟ سيبين بعد حين من الذي إذا استقل بنفسه يلازمه الخطأ فيما يقول، والإمام هنا لم يبتعد عن دلالة اللغة، ولم يركب مراكب الجهل والتخبط، فـ"حمل" في اللغة كما ذكر ابن فارس في مقاييس اللغة (أصلٌ واحدٌ يدلُّ على إقلال الشيء)، ومن هنا كان الفهم الذي انطلق منه الأمام في تحليله الدلالي ذي أصل أصيل ثابت، ويا ليت الدكتور/ نزيه كان موضوعيا في بحثه حتى ينال الحقيقة.

ثم يقول الدكتور/ نزيه: «ما ذكر العلوي في سر العدول عن الحرف "على" إلى الحرف "في" لم يشر إليه أحد من المفسرين أو البلاغيين أو اللغويين»[من مباحث البلاغة والنقد بين ابن الأثير والعلوي:23]، ويحق لنا هنا أن نتساءل: ما ذا في هذا؟ متى كان السبق والإبداع معرة؟ ولو كان ابن الأثير هو صاحب ذلك الكلام لعد الدكتور/ نزيه ذلك حسنة له، وإضافة في هذا المورد، ولمجد فضل سبقه إليها، ولكن لما كان الإمام يحيى بن حمزة صاحبها كانت عنده جريمة، وقد قام المؤلف بالتنقيب والحفر في هذه الدلالة التي عرضها الإمام عند غيره حتى يحصل على ما يمكنه من تخطيء الإمام، فلنتابع.

ثم أورد الدكتور نزيه ما حسبه الدلالة الصائبة للآية، حيث ذكر عن البيضاوي أن المقصود بحملناهم في البر والبحر أي على الدواب والسفين، من حملته حملا، إذا جعلت له ما يركبه، وذكر تعليق الشهاب على كلام البيضاوي بقوله: «"على الدواب والسفن" فهو من حملته على طذا إذا أعطيته ما يركبه ويحمله، وفالمحمول عليه مقدر بقرينة المقام، كما في قولهم: حملته، إذا جعلت له ما يركبه»[من مباحث البلاغة والنقد بين ابن الأثير والعلوي:23]، وحيال هذا نقول: إن ما ذكره هؤلاء المفسرون لا ينافي ما في كلام الإمام يحيى بن حمزة، فهم لم يتعرضوا لورود حرف الجر (في) بل جعلوا الآية من باب مجاز الحذف، فمعناها عندهم "وحملناهم في البر على الدواب وفي البحر على السفن" وهذا ظاهر لمن كان له قلب، ويشهد له قول الشهاب في تعليقه المنقول على كلام البيضاوي: "فالمحمول عليه مقدر بقرينة المقام".
و إيراد الدكتور/ نزيه لهذا الكلام في معرض الرد والتغليط للإمام يحيى بن حمزة غير مفهوم، إلا في سياق الخبط والعمى، وعدم فهم دلالات النصوص.

ثم يقول الدكتور/ نزيه: «ومما يقوي قول المفسرين هذا، ويضعف ما قاله العلوي: أن الفعل "حملنا" بمعنى أركبنا، جاء في القرآن مرة متعديا بنفسه، ومرة بالحرف "في" وثالثة بالحرف "على" قال تعالى: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾[التوبة:92]، وقال: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾[يس:41]، وقال: ﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ﴾[القمر:13]، فهذا الفعل شبيه بالفعل "هدى" يتعدى بنفسه تارة، وبالحرف "إلى" تارة أخرى، وباللام ثالثة، ولم يقل أحد من المفسرين بإفادته معنى بلاغيا، إذا عدي بحرف دون آخر، والله تعالى أعلم»[من مباحث البلاغة والنقد بين ابن الأثير والعلوي:23]، وفي هذا الموضع يأتي المؤلف بما يضحك منه كل ذي لب، فالفعل (حمل) جاء في القرآن وفي لغة العرب دائما متعديا بنفسه إلى مفعوله، والعجب أنه يورد ما يظنه دليلا على ما يزعمه من آيات الذكر الحكيم، ولكنها جميعا تخلوا مما أراده في قوله : "جاء في القرآن مرة تعديا بنفسه، ومرة بالحرف في وثالثة بالحرف على"، فالآية الأولى التي أوردها كشاهد على التعدي بنفسه قوله تعالى: ﴿لتحملهم﴾ مفعولها الضممير المتصل، ولم يذكر المحموول عليه، إذ هو مقدر بقرينة المقام، كما في كلام الشهاب السابق الذي نقله -لو كان يعقل-، وفي الآية الثانية والثالثة نجد الفعل لم يتعدَّ بحرف الجر، إنما صرحت الآيتان بذكر المحمول عليه فيهما، فـ ﴿حملنا ذريتهم في الفلك﴾ المفعول هو "ذريتهم"، من دون حرف جر، و﴿حملناه على ذات ألواح﴾ المفعول هو الضمير المتصل كما في الآية الأولي، مع التصريح هنا بذكر المحمول عليه.فتعجب من صخرة تناطح جبلا، ومن جاهل يتطاول على عالم.

وأما قوله لم يقل أحد من المفسرين بإفادة الفعل "حمل" معنى بلاغيا إذا عدِّي بحرف دون آخر فهي شهادة للإمام بإبداعه، وبقدرته على الاستنباط، على خلاف ما اتهمه الدكتور/ نزيه، وعلى خلاف الحقائق التي أنتجتها دراسته، وماذا يحصل لو كان المفسرون لم يذكروا مثل هذا الذي سبقهم إليه الإمام يحيى بن حمزة، ألم يعب الدكتور/ نزيه عليه أنه لم يأت بشيء من عنده، ثم لما جاء بما لم يسبق إليه جعلته عارا وشنارا!

والحق أن ما ذكره الإمام حقيق بالإشادة، فما أعجب القرآن وما فيه من دقيق الاختيارات، ففي موضع يقول عز وجل : ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ﴾[الحاقة:11] وفي آخر يقول: ﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ﴾[القمر:13]، وفي استخدام على في الثانية مناسبة للألواح والمسامير، لما كانت (على) تدل على الاستعلاء من غير تمكن ولا استقرار، فماذا تفعل ألواح ومسامير أمام الموج الذي يرتفع كالجبال؟ بينما في سورة الحاقة قال "في الجارية" فهي هنا موصوفة بأنها جارية تجري على الموج، فناسب هذا الوصف استعمال "في" الدالة على الاستقرار والتمكن.

وهنا ينتهي الموضوع، ويبدأ الدكتور في موضوع التقديم والتأخير، وأسأله تعالى أن يهيئ الفرصة لتناول ما كتبه الدكتور/ نزيه في سائر مواضيع الكتاب، حتى تظهر الحقيقة التي حاول بعضهم أن يطمسها، وتظهر منزلة كل أحد في العلم والمعرفة، وإن كان في هذه النماذج البسيطة كفاية، لما فيها من بيان التحامل، والتسرع، والجهل باللغة، والله تعالى أعلم.

المراجع:
- من مباحث البلاغة والنقد بين ابن الأثير والعلوي، د. نزيه عبد الحميد فراج،مكتبة وهبة، ط1، 1997م.
- المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، أبي الفتح ضياء الدين نصرالله بن محمد بن محمد بن عبدالكريم الموصلي(637هـ)، تح: محمد محيي الدين عبدالحميد، المكتبة العصرية - بيروت ، 1995م.
- الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل، جار الله أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري(538 هـ)، دار الكتاب العربي ـ بيروت، 1407 هـ.
- الطراز، المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، الإمام يحيى بن حمزة بن علي(745هـ)، دار الكتب الخديوية، طبع بطبعة المقتطف بمصر، 1914م.
لن يبرح الطغيان ذئبا ضاريا مادام يعرف أنكم أغنامُ

سليل-الحسين
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 11
اشترك في: الجمعة سبتمبر 17, 2010 2:28 am

Re: الذب عن التراث البلاغي للإمام يحيى بن حمزة

مشاركة بواسطة سليل-الحسين »

هذه سمة كل المثقفين المزيفين و الكتاب المفلسين في مملكة خادم الحرمين الشريفين
لن يلومك احد اذا تناولت احد المؤلفين (الزيود) بل ستلقى كل التشجيع والدعم حتى وان كنت بفشل نزيه عبدالحميد فراج
ولا استغرب هذا فتلك الجامعات في مملكة خادم تقوم على النزهه العلميه المحضه
نصيحه اخيره لنزيه الذي ليس له من اسمه اي نصيب حتى الافتراء والتلفيق له اصول و قواعد. لتثبت فشلك حتى كمفتري قمت باختيار الامام المؤيد (ع) لتفتري عليه وهو من كبار علماء الزيديه يجب ان تحسن اختيار فريستك القادمه على الاقل يكون شخص ذو لغه وبلاغه على قدر فهمك من الكتاب المعاصرين :mrgreen: :mrgreen: :mrgreen: :mrgreen: :mrgreen: :mrgreen: :mrgreen:

لن نذل
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 862
اشترك في: السبت مايو 28, 2005 9:16 pm

Re: الذب عن التراث البلاغي للإمام يحيى بن حمزة

مشاركة بواسطة لن نذل »

المحاولات مستمرة لتشويه الفكر الزيدي وأئمته في انظار الناس ولكن هيهات فالحق نوره ساطع وحده قاطع
سأجعل قلبي قدساً، تغسله عبراتي، تطهره حرارة آهاتي، تحييه مناجاة ألآمي، سامحتك قبل أن تؤذيني، وأحبك بعد تعذيبي..

أضف رد جديد

العودة إلى ”مجلس الدراسات والأبحاث“