سقراط (469–399 ق م)

مواضيع ثقافية لاترتبط بباقي المجالس
أضف رد جديد
لــؤي
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 3099
اشترك في: الخميس نوفمبر 17, 2005 4:22 pm
مكان: قلب المجالس

سقراط (469–399 ق م)

مشاركة بواسطة لــؤي »


Socrates


مازال سقراط، الذي يمكن اعتباره أبا الفلسفة الغربية، شخصية يكتنفها الغموض بشكل عام؛ وذلك عائد، ربما، إلى أنه لم يترك لنا أيَّ أثر مكتوب. فقد عرفناه إما من خلال المشنِّعين عليه (كأرستوفانِس في كتابه السحب الجشاء Les Nuées)، الذين صوَّروه كشخص مثير للسخرية و/أو كسفسطائي خطير، و/أو من خلال أتباعه المتحمِّسين (ككسينوفانِس وأفلاطون وأرسطو)، الذين صوَّروه، وفق المنقول المعروف، كـموقظ استثنائي للنفوس وللضمائر. لذلك نرى أفلاطون (الذي كان تلميذه) طارحًا عقيدته على لسانه؛ فسقراط كان بطل معظم حوارات هذا الأخير. من تلك الحوارات الأفلاطونية نذكِّر تحديدًا بـدفاع سقراط وفيذون، اللذين تَرِدُ فيهما كلُّ المعلومات المتعلقة بحياة أبِ الفلسفة وموته. ونتذكَّر هنا، للطرافة، ما جاء على لسان ألكبياذِس في نهاية محاورة المأدبة، حين قارن بين قبح سحنة سقراط العجوز وبين جمال أخلاقه، مشبهًا إياه بالتمثال المضحك لسيليني الذي كان يتوارى خلفه أحد الآلهة.

ولد سقراط في أثينا من أب نحَّات وأمٍّ قابلة؛ وقد مارس في البداية مهنة والده، مكتفيًا بالعيش عيشة بسيطة برفقة كسانتيبي، زوجته التي لا تطاق، حتى وقع ذلك الحدث الذي أيقظ موهبته الفلسفية، حين أخبرت البيثيا، كاهنة هيكل ذلفُس، أحدَ أصدقائه ذات يوم بأن سقراط هو أكثر البشر حكمةً؛ الأمر الذي دفع به، وقد بدا مشكِّكًا في ذلك بادئ الأمر، لأن يندفع في محاولة تلمُّس أبعاد تلك الكلمات التي حدَّدتْ مسار حياته. وهكذا بدأ مسيرته، متلمسًا طريقه من خلال مواطنيه، محاولاً استكشاف مكامن تفوُّقه المفترَض – ذلك المسار الذي أوصله إلى تلك النتيجة التي مفادها أن "كل ما أعرفه هو أني لا أعرف شيئًا، بينما يعتقد الآخرون أنهم يعرفون ما لا يعلمون". تلك الحقيقة التي جعلت من فكره الثاقب أمرًا مزعجًا، حينما يقارَن بالامتثالية الفكرية للكثير من معاصريه. فقد كانت نقاشاته التي لا تنتهي تلقى اهتمامًا كبيرًا من قبل الشبيبة، مما أثار قلق أولياء الأمور، الذين سرعان ما اتَّهموه بالإلحاد وبالتجديف وبإفساد أبنائهم؛ الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى محاكمته والحكم عليه بالموت – تلك المحاكمة الشهيرة التي حاول سقراط عبثًا الدفاع عن نفسه خلالها (راجع دفاع سقراط لأفلاطون).

كانت فلسفة سقراط، أولاً وقبل كلِّ شيء، إجابة على طروحات أناكساغوراس، الذي كان يعتقد بأن فطنة الإنسان إنما تعود فقط لامتلاكه يدين (أدوات عمل). أما سقراط فقد كان يعتقد بأن فطنة الكائن البشري إنما علَّتُها تلك الروح العاقلة القوَّامة على الجسد، والتي تشارك الإله في طبيعته. انطلاقًا من هذه القناعة ومن هذا الاعتقاد انبثق العديد من تعاليمه؛ لأنه إن كانت نفس الإنسان ذات أصل إلهي (ونشير هنا إلى أن سقراط، خلافًا للمعتقدات السائدة، لم يكن يعتقد بأن الآلهة تعاني من انفعالات بشرية)، فإنه يصير بوسعنا قبول ذلك المفهوم الداعي إلى ضرورة تفهُّم أفضل للنفس، أي "اعرف نفسك"، العبارة المنحوتة على واجهة هيكل ذلفُس، التي اتخذها سقراط شعارًا: "حياة لا يُفحَص عنها لا تستحق أن تعاش". لأن أكثر ما يشدِّد العزيمة، حينما يتعلق الأمر بفناء الجسد، هو الإيمان بخلود الروح (راجع فيذون لأفلاطون). ونشير هاهنا، بالإضافة إلى ما سبق، إلى شجاعة سقراط وهدوئه قبل أن يجرع كأس السمِّ الذي وضع حدًّا لحياته؛ ونستذكر أقواله حين قارن نفسه بالبجعة التي تغني قبل أن تموت، ليس لأنها تخاف الموت، وإنما بدافع ما تتطلَّع إليه من سعادة ومن أمل.

يعتقد سقراط أن الكرامة الحقيقية للنفس إنما تنبثق من العلم الذي هو ميراثها الحق. لكن العلم الذي يعتقد به لم يكن يرتكز، كما هي حالنا اليوم، على ظواهر العالم الخارجي: فقد اتخذ سقراط، منذ البداية، موقفًا معارضًا من منظِّري الطبيعة لافتقارهم إلى الحسَّ الإنساني؛ واتخذ أيضًا، في الوقت نفسه، موقفًا معارضًا من مذهب السفسطائيين، الذين لا يمتلكون موهبة الحسِّ العلمي. فقد جمع سقراط بين المبادئ المقبولة للفيزياء وبين إتقان الجدل – جمع ما بين الشكل العلمي للمذهب الأول وبين الهمِّ الإنساني للثاني – جاعلاً من علم الأخلاق في القلب من مسعاه الفلسفي. لأنه، وفق مفهومه، بات يجب على الروح، التي تخلَّت عن محاولة فهم الكون، الهبوطُ إلى أعماق نفسها، كي تستنبط الحقائق الأساسية الكامنة في تلك الأعماق على شكل حالات بالقوَّة (راجع النظرية الأفلاطونية المتعلقة بالتذكُّر reminiscence)؛ الأمر الذي يجعل النفس قادرة على الإحاطة بالمعرفة، بدون أن تقع أسيرة للأشياء الخارجية (وهذا ما سيبرهن عليه لاحقًا كلٌّ من ديكارت وكانت). إذ إنه أضحى من واجب العلم الرافض للانفعالات البشرية أن يركِّز على ماهية المعاني المجردة (أو الـconcepts)، التي كان سقراط أول من اكتشف مفهومها. فعن طريق السكينة والاستقرار الداخليين، نتوصل إلى استنباط جوهر الأشياء، ونتمكَّن من التعبير عنه بواسطة التعريفات. وكان هذا ما فعله سقراط – ممهدًا بذلك الطريق للنظرية الأفلاطونية التي ستليه – حين حاول، على سبيل المثال، تعريف مفهومي "الشجاعة" lachès و"الصداقة" lysis.

وبما أن موهبة (فنَّ) العيش السليم، كطريق إلى السعادة (والخير هو السعادة وفق المأثور القديم)، مرتبطة بمعرفة النفس، فإنها، متجاوزةً حذاقة السفسطائيين، تكشف ضلال البشر الذين لا يهتمون، في معظم الأحوال، إلا بالأشياء التافهة الزائلة (كالثروة، والسمعة، إلخ)، ويتجاهلون ما هو أساسي، أي الحقيقة الكامنة في نفوسهم. وتبدأ المعرفة، بحسب سقراط، بفعل تطهُّر (سبق أن دعا إليه الأورفيون والفيثاغوريون)، يُظهِر، من خلال التخلُّص من الأفكار المسبقة بإظهار بطلانها، مختلف الخصال الحميدة (كالاعتدال، والعدالة، إلخ)؛ تلك التي، إنْ أحسن المرء استعمالها، تتحول إلى فضائل؛ إذ "لا أحد شرير باختياره"، وإنما بسبب الجهل. هذا وترفض طريقة سقراط لبلوغ المعرفة كلَّ وحي يتجاوز العقل – فـ"شيطان" سقراط هو في المقدرة على الإقناع، وليس في الإبداع – وتعتمد الجدلية dialectique؛ لأن هذه الأخيرة، عِبْر مرحلتيها اللتين هما التهكُّم والتوليد (الذي هو، على طريقة سقراط، استيلاد الحقيقة من النفس maïeutique) تسمح – وسط أجواء من الصداقة – باستخلاص نقاط التلاقي بين المتحاورين، أي الحقائق الكونية المتعارَف عليها وفق متطلَّبات المنطق.

لقد كان سقراط بحق مؤسِّس فلسفة الأخلاق وأول منظِّر للعقلانية (الأمر الذي سيُكسِبُه عداء نيتشه). كما كان داعية إلى حرية الرأي والتفكير الفردي؛ مما
جعل منه، بالتالي، مثالاً يُحتذى في كلِّ موروث فلسفي لاحق.
إن إنجاز سقراط في الفكر يكاد يتلخص في شيئين( حسب ما يرى المثقفين ): الأول أن الفضائل التي نادت بها الأرستقراطية مسؤولية إنسانية لا علاقة لها بالآلهة ولا تكتسب بالدم الأزرق، والثاني أن المسؤول عن هذه الفضائل هم الفلاسفة والحكماء وليس أبناء الأرستقراطية الذين بدأ الجهل يخيم عليهم في تلك الآونة.‏

من ناحيتنا ليست بأنجاز يذكر

موقف سقراط هذا أثار عليه حفيظة كل الفرقاء، فهو ضد الديمقراطية وضد الأوليغارشية وضد حكومة الطغاة، وكان صديقاً لبعضهم، وضد الحكم الفردي. كان يريد جمهورية الحكماء. وهو لا يستطيع إلا أن يكون هكذا. فالديمقراطية لم تعد كما كانت من قبل. لا يوجد أرستقراطيون منضبطون ويتمسكون بالقيم والفضائل التي وضعوها. والاوليغارشية أيضاً لا تصلح للحكم. فجنون الثروة يفسدها. وهناك مثل يوناني قديم -أصدرته الأرستقراطية كما نظن- وهو أنه لا حدود للثروة، أي أنها جنون لا نظام لها، تجعل الإنسان تحت سيطرتها بدلاً من أن تكون تحت سيطرته. ولم يكن سقراط بعيداً عن هذا المثل في موقفه.‏

لكن لو تريثنا قليلاً >>>>>عند نظرة سقراط لرأينا أنها تقوم على ميكانيزما النظرة الأرستقراطية. إنه يريد استبدال الأرستقراطيين بالحكماء، عن طريق إثبات الجدارة لا عن طريق الوراثة أو الانتخاب فالاقتراع. شروط الترشيح كانت متوافرة في الأرستقراطيين فيما مضى، فكيف نضع الشروط المتوافرة في الحكماء حتى يصلوا؟‏

وقد رأى سقراط أن الأرستقراطيين باتوا حمقى لأنهم لا ينشدون العلم والحكمة. إنهم ما يزالون يؤمنون بالنبالة الموروثة. ولكنه رأى من باب آخر أن محدثي النعمة يشكلون خطراً ساحقاً على المجتمع. كما أن الغوغاء والرعاع يبثون الفوضى في المجتمع بحيث لا يتيحون للحكماء أن يمارسوا التدبير الاجتماعي بكفاءة وسوف يفشلون في ظل نفوذ محدثي النعمة وفي ظل فوضوية الغوغاء والرعاع. فلا عجب في ظل هذه الظروف أن تتحالف جميع هذه القوى ضده. وأصوات المحلفين الذين انحازوا له كانت أصوات الديمقراطيين المتنورين الذين يؤمنون بأرستقراطية الفكر لا أرستقراطية الدم.‏

ومما هو طريف أن نذكر هنا أن الدباغ (واسمه انيتوس) الثري الكبير هو نفسه الذي أقام الدعوى على سقراط واتهمه بالكفر والإلحاد وإفساد الشبان..
>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>> كان يريد إجماعاً حول شخصه فاختار الإلحاد وسيلة.‏

من هنا يتبين كيف أن كل فريق كان ضد بقية الفرقاء، ولكن كل واحد له طريقته، فالأرستقراطية بسلطتها الأخلاقية وانفاقها الثقافي والفلاسفة بحكمة العقل ومحدثو النعمة بثرواتهم الطائلة التي بدأت تؤثر تأثيراً كبيراً في ظل الاضطرابات التي تعاني منها أثينا.‏

لكن سقراط من جهة أخرى لم يكن يؤمن إيماناً كبيراً بجدوى وسائل الأرستقراطية، فهو يسخر من الشعر والشعراء والأساطير والخرافات معتقدا أنه لا يمكن إدارة المجتمع من دون النظرة الواقعية البعيدة عن الآلهة.‏
رب إنى مغلوب فانتصر

أضف رد جديد

العودة إلى ”مجلس الثقافة العامة“