ترجمة / الإمام يحيى بن عبدالله بن الحسن (ع)

أضف رد جديد
الكاظم
مشرف مجلس الدراسات والأبحاث
مشاركات: 565
اشترك في: الأربعاء مارس 24, 2004 5:48 pm

ترجمة / الإمام يحيى بن عبدالله بن الحسن (ع)

مشاركة بواسطة الكاظم »

بسم الله الرحمن الرحيم

الإمام يحيى بن عبدالله بن الحسن ابن رسول الله (ص) :

نسبه :

هُوَ الإمام يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) .

كُنيتهُ و لَقبُه :

يُكنّى (ع) بأبي الحسين ، وقيل أبو عبدالله ، و يُلقّب بـ ( صاحِِب الدّيلم ) ، نظراً لاستقراره حقبةً من الزّمن في بلاد الدّيلم . وكان (ع) يقول : " إنَّ للديّلم مَعَنا خَرجَة فَطَمِعتُ أن تَكونَ مِعِي " ، والذي اتُّفِقَ عليه أنّ هذه الخرجَة كانت من نصيب الإمام الحسيني الناصر الأطروش الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر الأشرف بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن علي بن أبي طالب (ع) ( ت 304 ) ،وهُو الذي أسلَم على يديه من عَبَدَة الأشجار والأوثان ألف ألفَ إنسان ، وهُوَ المقبور ببلاد طبرستان بالعاصمَة آمل ( في إيران حاليّاً ) .

والدُه:

* هُوَ عبدالله بن الحسن المثنى ويُلقّب بالمحض لأنّه أوّل فاطمي يَخرُج صَريحاً محضاً من أبوين فاطمِيّين فوالده الحسن المثني (ع) ، ووالدتهُ فاطمة بنت الحسين بن علي عليها وعلى آبائها السلام . ويُلقّب أيضاً بالكامل ، لظهور صفات الكَمال في كثيرٍ من أولاده (ع) ، فمنهُم الأئمة والفُضلاء ، فمِنَ الأئمة محمد النفس الزكيّة ، وإبراهيم النفس الرضيّة ، ويحيى صاحب الديلَم ( وهُوَ صاحب الترجمَة ) ، وإدريس صاحب المغرب ، ومِنَ الفُضلاء موسى الجون ، وسليمان وهُو الشهيد مع ابن أخته الإمام الحسين الفخي بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ت 169 ) .

* وعبدالله المحض (ع) أحَدُ أولئك النّفر الذي حبسَهُم الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور كافاه الله بصنيعه ، فأغلَظَ عليه وعلى بني الحَسن وأثقلَ قيودَهُم ، وأجهدَ نفسَهُ في أذيّتهُم ، فلا رُحما هاشميّة نفعَت ، ولا رُحما إسلاميّة أثَّرت ، وللّه درّ صاحب الترجمة يحيى (ع) عندما وصفَ حال أبيه وأبناء عمومتهُ مع أبي جعفرٍ المنصور فقال مُخاطباً لهارون الرشيد : (( وقَد قَتَلَ ( أبو جعفر المنصور ) قَبلَهُ ( أي قبلَ محمد النفس الزكيّة ) النّفسَ التقيّة أبِي عَبدالله بن الحسن وإخوَتُهُ وبَني أخِيه، ومَنَعَهُم رُوحَ الحياة فِي مَطَابِقِه، وحَالَ بَينَهُم وبَينَ خُروجِ النّفسِ في مَطَامِيرِه. لايَعرِفُون اللّيل مِنَ النّهارِ ولا مَواقِيتَ الصّلاة إلا بِقرَاءة أجزَاء القُرآن تَجزئةً ، لمّا عَانَوا مِن دِرَاسَته فِي آنَاء الليل والنهَار حِينَ الشتاء والصيف، حَالَ أوقَات الصلوات قَرمَاً منهُ إلى قَتلِهِم، وقَطعاً لأرحَامِهِم، وتِرَةً لرسول الله فيهِم. فَولَغَ ( أبو جعفر المنصور ) فِي دِمَائهِم وَلغَان الكلب، وضريَ بقتلِ صَغيرِهِم وكَبيرِهِم ضَراوَة الأسَد، ونهَمَ بِهِم نَهم الخنزير، والله لهُ ولمَن عَمِل بِعَمَلِه بِالمرصَاد )) .

* ويصفُ الإمام يحيى بن عبدالله (ع) والدَهُ بأفضل الأوصاف وهُو يتحسّرُ عليهِ وعلى أبناء عمومته من بني الحسن عليهم السلام ، فيقول مُخاطباً لهارون الرّشيد : (( وكَيفَ لا أطلُبُ بِدِمَائهِم وأنَامُ عَن ثَأرِهِم ؟ والمَقتُولُ بالجوعِ والعَطَش والنّكَال، فِي ضِيق المحَابس، وثِقَل الأغلال، وعدو العَذاب، وتَرادُف الأسواط، أبِي عَبد الله بن الحسن النفس الزكيّة والهمّة السنيّة، والدّيانَة المرضيّة، والخشيَة والبَقيّة ، شَيخُ الفَواطِم وسَيّد أبَناء الرّسُل طُرّا، وأرفَعُ أهل عَصرهِ قَدراً، وأكرَمُ أهل بِلاد الله فِعلاً. ثمّ يَتلوهُ إخوَتُه وبَنوا أبيه، ثم إخوَتي وبَنوا عُمومَتي، نجومُ السّماء، وأوتَاد الدّنيا، وزينَة الأرض، وأمَان الخَلق، ومَعدِنُ الحِكمَة، ويَنبوعُ العِلم، وكَهفُ المظلوم، ومَأوى الملهُوف، مَامِنهُم أحَدٌ إلا مَن لَو أقسَمَ عَلى الله لبرّ قَسَمه )) .

* استشهد عبدالله المحض (ع) سنة 145 هـ .

أمه:

هيَ قُريبَة ابنة عبدالله ( يُعرَف بربُيح ) بن أبي عبيدَة بن عبدالله بن زمعة بن الأسود بن المُطلب بن أسد بن عبدالعزى بن قصي .

نشأة الإمام يحيى بن عبدالله :

نَشأ الإمام يحيى بن عبدالله (ع) في بلادِ بني المحض في قرية سويقَة من قُرى المدينة المنورة ، وبها عاصرَ مَشيخَة بني الحسن عليهم السلام ، وعاصرَ نكبَاتهم وعَايَشَ مآسيهَم ، يتنقّلُ مُنذ نعومة أظفارَه بينَ الأراملِ واليتامَى ، يَرى الجوعَ والفقر ، ويَشهدُ الأمرَ بالمنكَر والنهيَ عَن المَعروف ، والتقرب إلى سلاطين الجور من عُمَّال السّوء ، عاصرَ صَلبَ وتحريق جسدَ عمّه زيد بن علي (ع) ، عاصرَ مُصيبةَ يحيى بن زيد قتيل أرض الجوزجان ، عاصرَ قتلَةَ أبيه المحض في مطابق بني العبّاس ، عاصرَ سيلانَ دم أخيه النفس الزكيّة إلى أحجار الزّيت ، عاصرَ مَذبحَة باخمرَى الدائرة على أخيه إبراهيم ، عاصرَ وعايشَ وشاركَ موقعَةَ ابن أخته الحسين الفخي في أرض فخ ، هكذَا نشأ الإمام صاحب الدّيلم ، الفَجيعَة تعقبها الفجيعَة ، البلاءُ يَتبَعهُ البلاء ، وللّه درّه عندما قال مُتوجّعاً من هذه البلاءات والمصائب المُتتابعَات على أهل بيته (ع) ، مُخاطباً لهارون الرشيد العباسي : (( فَما أنْسَ مِن شَيء فَلا أنسَى مَصَارِعَهُم ، ومَا حَلَّ بِهِم مِن سُوء مَقدِرَتِكُم، ولُؤم ظَفَرِكُم، وعَظيم إقدَامِكُم، وقَسوَةَ قُلوبِكُم، إذْ جَاوزتُم قتْلَة مَن كَفَر بالله إفرَاطاً، وعَذابَ مَن عَانَدَ الله إسرَافاً، ومُثلةَ مَن جَحَد الله عُتواً. وكَيفَ أنسَاه؟ ومَا أذكُرُه لَيلاً إلا أقَضَّ عَليَّ مَضجَعِي، وأقلقَنِي عَن مَوضِعِي، ولا نَهَاراً إلا أمَرَّ عليَّ عَيشِي ، وقَصّرَ إليَّ نفسِي، حَتى لَودَدْتُ أنِّي أجِدُ السبيلَ إلى الاستعَانةِ بالسّبَاع عَليكُم فَضلاً عَن الإنس فَآخُذَ مِنكُم حَقَّ الله الذي أوجَبَ عَليكُم، وأنتصِرَ مِن ظَالِمِكُم؛ فَأشفِي غَليلَ صَدرٍ قَد كَثُرَت بَلابِلُه، وَأُسْكِنَ قَلباً جمّاً وسَاوسه مِن المؤمنين، وأُذهِبَ غَيظَ قُلوبِهِم ولَو يَومَاً واحِداً ثمَّ يَقضِي الله فيَّ ما أحَبَّ .. )) اهـ ، ومنهُ نستشفُّ الويلات التي كانَ يُكابُدها إمامُنا يحيى بن عبدالله الحسني (ع) ، وحُقَّ له أن يتوجّع ، وحُقَّ لنَا أن نتوجّع لوجَعَه ، سلام الله عليه .

الإمام يحيى بن عبدالله مع الإمام الحسين الفخي :

* خرجَ الإمام الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) من المدينة المنورة إلى سويقَة ، بأمرٍ من الوالي العُمَرَي عمُر بن عبدالعزيز بن عبدالله بن عبيدالله بن عمر بن الخطاب ، لكي يُحضِرَ الحسن بن محمد بن عبدالله المحض إلى دار الإمارة ، وهُناك استقبله بني المحض وعلى رأسهِم الإمام يحيى بن عبدالله (ع) ، واجتمعَ الجميع على عدم التسليم للعُمري ولا للخليفة العبّاسي موسى بن محمد ، وعلى المُبايعَة للحسين الفخي إمامَ هُدىً عليهِم ، لهُ السمعَ والطّاعَة والمُناصرَة ، وفي بيعتهِ بالإمامَة الخاصّة يقولُ الإمام إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن المثنى (ع) : (( بايَعنَا الحُسين بن علي الفخي على أنّهُ الإمام )) روى هذا الأثَر عنه ابنهُ نجم آل الرسول وتُرجمانهُم القاسم الرسي (ع) ، وقَد كان الحسين الفخي (ع) يُريد اجتماعًا أكبرَ لبني فاطمة فأرسلَ إلى الإمام موسى الكاظم (ع) وإلى عبدالله الأفطس بن الحسن بن علي بن علي زين العابدين (ع) ، فكان الإمام يحيى بن عبدالله (ع) رَسولَ الحسين إلى الإمام موسى الكاظم (ع) . [ للتوسّع حولَ حادثَة فخّ راجع سيرة الإمام الحسين الفخي (ع) ، ونكتفي هُنا بإبراز دورِ يحيى بن عبدالله (ع) في هذه الحادثَة ] .

* الإمام يحيى بن عبدالله رَسُولٌ إلى الإمام موسى الكاظم (ع) :

يَروي مُحدّث الآل وحَافِظُهم أبو العبّاس أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن علي بن إبراهيم بن محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) ( ت 353 ) في كتابه المصابيح ، أنّ الإمام يحيى بن عبدالله (ع) قال بعدَ مُبايعتهِ وإخوته للحسين الفخي (ع) : (( خَرَجتُ عَلى دَابّتِي رَكْضَاً مُسرِعَاً حَتى أتيت حَدباً ، وهُوَ عَلى مِيلَين مِنَ المدينة وبِهَا مُوسَى بن جَعفر، وكانَ مُوسَى شَديدَ الغِيرَة، فَكَانَ يَأمُرُ بِإغْلاقِ أبْوابِه والاسْتِيثَاقِ مِنهَا، فَدَقَقْتُ بَابَهُ فَأطَلْتُ حَتَى أُجِبْت، وخَبَّرْتُ بِاسْمِي ، فَأخْبَرَ الغِلمَانُ بَعضَهُم بَعضَاً مِن وَرَاء الأبْواب وهِيَ مُقفَلَة حَتّى فُتِحَتْ وأُذِنَ لِي، فَدَخَلتُ،
فَقَال : أيْ أخِي فِي هَذِه السّاعَة؟!
قُلتُ: نَعَم ! حَتّى مَتَى لايُقَام لله بِحَقّ ؟! وحَتّى مَتَى نُضْطَهَدُ ونُسْتَذَل ؟
فَقالَ: مَا هَذَا الكَلام!؟
قُلتُ: خَرَج الحُسينُ وبَايَعنَاه، فَاستَرجَع ( أي قال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون )، قُلتُ:جُعِلتُ فِدَاك فِي أمْرِنَا هَذا شَيء ؟ )) اهـ ، ثمّ اجتمعَ الإمام الكاظم (ع) مع الحسين الفخي ، وبايعَه وأشركَ نفسهُ في أمرهِ هذا ، واعتذرَ عن المُشاركَة في الخروج لِثِقَلِ ظَهرِه ، وكَثرَة عِيالِه ، وفي ذلكَ يقول الكاظم (ع) : (( يا بني عمّي أجهِدُوا أنفُسَكُم في قتالِهِم ، وأنَا شَريكُكُم في دمائهم ، فإنَّ القومَ فُسّاق ، يُسِرّونَ كُفراً ، ويُظهرونَ إيماناً ))، وبيعَة الإمام الكاظم (ع) للحسين الفخي ، مأخذٌ يُؤاخَذُ بهِ أهل النصّ من الجعفريّة ، إذ كيفَ للإمام أن يُبايعَ غيرَه ؟! ، بل ويَطلُبُ السّماحَ من المُبايَع لَه ، لعدم المقدرَة على الخروج ! ، مهَما يكن ( فليسَ هذا مكان التوسّع بل مكان الإشارَة للباحِث ) .

* دخلَ الإمام الحسين الفخي المدينة المنورة صُبحاً ومعه أبناء عمومته ومواليهم ، وفي مسجد رسول الله (ص) كان المؤذن يتأهّبُ لأذان الفجر ، فداهمهُ يحيى بن عبدالله (ع) وكان مُتقلّداً سيفهُ ، فأمرَهُ أن يُؤذّن بـ " حيّ على خير العمل " ، فرفضَ المؤذّن ، فأصلت يحيى (ع) سيفَهُ ، فأذّن المؤذن وهو مَرعوب .

* هاجَم البربري عامل بني العباس على الصوافي وحاشيته الإمام الحسين الفخّي وهُو في المسجد النبوي الشريف ، فتقدّم البربري جنودَهُ وجعلَ يُغلِظُ الكلام على الإمام الحسين (ع) ، فتناولهُ يحيى بن عبدالله – وقيل إدريس بن عبدالله – بسيفهِ فَقَدَّ البيضَةَ والرفادَة والمغفَر، وخرّ صريعاً . فاختلّ جيش البربري وظفرَ الإمام الحسين الفخي (ع) ومَن مَعه عليهم .

* وفي ميدان المعركة ، وقبلَ أن تُقرَع طبول المَعركة بين الحق والباطل ، خرجَ يحيى بن عبدالله (ع) راكباً فَرَسَهُ ، وهُوَ مُحمَّلٌ بعزيمَة أهل البيت (ع) ، فاستقبلَ النّاس ، حامداً لله ، مُصليّا على نبيه (ص) ، قائلاً: (( أبْشِروا مَعشَر مَن حَضرَ مِنَ المُسلمِين ، فإنَّكم أنصَارُ الله وأنصَارُ كِتَابِه ، وأنْصَارُ رَسولِه وأعوانُ الحق، وخِيارُ أهلِ الأرض، وعَلى مِلّة الإسلامِ ومِنهَاجِه الذي اختَارَه لأنبيَائهِ المُرسَلين ، وأوليائه الصّابرين، أوَمَا سَمِعتُم الله يَقول: {إنَّ اللَّه اشْترَى مِن المؤمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالهُم بأنَّ لهُم الجنّةَ يُقاتلونَ في سبيلِ الله فَيقتُلونَ ويُقتَلون وعداً عليه حقّاً في التوراة والإنجيل والقرآن ، ومَن أوفَى بعهدِه من الله فاستبشروا بِبَيعِكم الذي بَايَعتُم به وذلكَ هُو الفوزُ العظيم ، التّائبون العابدونَ الحامدونَ الرّاكعونَ السّاجدونَ الآمرونَ بالمعروف والنّاهونَ عن المُنكَر والحافِظونَ لحدودِ الله وَبشِرِ المُؤمِنِين}.

ثم قال : والله مَا أعرِفُ عَلى ظَهرِ الأرضِ أحَداً سِواكُم، إلاّ مَن كَانَ على مِثلِ رأيِكُم حَالَت بَينَكُم وَبينَه المعَاذِير، إمّا فَقيراً لا يَقدرُ على مَا يَحتَمِلُ بهِ إلينَا فَهُو يَدعُو الله في آناءِ لَيلِه ونَهَارِه، أو غَنيّاً بَعُدَتْ دارُه مِنّا فَلم تُدركهُ دَعوتُنا، أو مَحبوسٌ عِند الفَسَقَة وقَلبُه عِندنَا، ممّن أرجُو أن يَكونَ ممّن وفّى لله بما اشترى مِنه، فَمَا تَنتظرونَ عِبادَ الله بِجهادِ مَن قَد أقبلَ إلى ذُرِّيَة نبيكم لِيَسبُوا ذَرَارِيهم ويجتاحوا بقيتهم؟.

ثم قال: اللهم احْكُم بينَنَا وبينَ قَومِنا بالحق وأنتَ خيرُ الحاكمِين
)). ومنها مع مواقفه المرسومَة نستشفّ حُسنَ استبسالهُ في مُناصرَة الحق ، معَ إمامه الحسين الفخي (ع) .

* اشتبكَ الحق والباطل في معركةٍ غير مُتكافئة ( معركة فخ ) في يوم التروية الثامن من شهر ذي الحجة سنة ستة وتسعون ومائة ، وفيها قُتِلَ الإمام الحسين الفخي وسليمان بن عبدالله المحض ، ونجَى منها إمامنا يحيى بن عبدالله (ع) والذي شبّههُ البعض بالقنفذ عندما نجى من المعركة ، وذلكَ لكثرة النشابات والجراحات التي عالجته ، ونجى معه إدريس بن عبدالله (ع) ( صاحب المغرب ) ، والدّماء تخضبُ بدنهُ وثيابه .

* ومن هُنا بدأ الإمام يحيى بن عبدالله (ع) رحلتهُ الآمرَة بالمعروف والنّاهيَة عن المُنكر، والتي يَدعو فيها النّاس إلى مُبايعته ونُصرته ، في سبيل إحياء السُنن وإماتة البدع ، وإظهار دين الله حقّاً حقّاً ، مُقتدياً بإخوته محمد وإبراهيم ، وبأبناء عمومته زيد وابنه يحيى ، ومُقتدياً بابن أخته الحسين الفخي (ع) ، وكانَ يعوقهُ عن هذه العقيدة الرّاسخة وتحقيها، تتبّع جواسيس بني العبّاس له ، واستبسالهِم في التضييق عليه ، ولهذا اضطرّ (ع) أن يَنفُذ بدينه ودَعوته إلى أرض الله الواسعَة حتّى تقوى شوكتهُ فتكون حركته مُحصّنةً وعلى الطّغيان قاضية .

الإمام يحيى بن عبدالله (ع) مُهاجراً إلى الحبشة :

وكمَا هربَ أصحاب نبي الله وخاتم رسله محمد بن عبدالله (ص) إلى أرض الحبشة هاربينَ بدينهم من كُفار قريش ، هَربَ يحيى بن عبدالله وأخوه إدريس وابن عمهم إبراهيم طباطبا ( والدُ وشيخ نجم آل الرسول القاسم الرسي (ع) ) ، ومَن معهُم ، إلى أرض الحبشة هاربين بدينهم خوفاً من بني العبّاس كافاهم الله ، وأعانهُم على هذه الرّحلة رجلٌ مِن بني خُزاعة ، وهُوَ الذي كان قَد اهتمّ بجراحاتهم بعد المعركة ، ثمّ قام بإمدادهم بالمركب والدليل ليشقّوا طريقهُم إلى الحبشة آمنين ، وهُناك استقبلَهُم مَلكُها فأجزَلَ صِلَتهُم وأحسنَ إليهِم ، وأقاموا فترةً من الزّمن على أمل أن تملّ أعين بني العبّاس من قصّ آثارهم ، وتتبع أخبارِهم في بلاد الإسلام، وهُناك عادَ هؤلاء النّفر من بني فاطمة (ع) إلى بلاد الإسلام على دُفعات مُتتابعَة ، فكانَ أوّلُ الواصلين منهم إلى المدينة المنورة عابدُ الآل إبراهيم طباطبا وهُناكَ أعقبَ (ع) ذريّته الطّاهرَة ، وقد كان أرادَ الارتحال إلى البصرَة ماراً بالكوفَة وهُناك وشَى به مَن وَشى ، فعالجتهُ جلاوزةُ بني العبّاس وطُرِحَ في المطبق العبّاسي بأمرٍ من موسى بن محمد الخليفة العباسي كافاه الله بعملِه ، وفي تلكَ الفترة تعرّض سادات أهل البيت (ع) لكثيرٍ من الأذى من قِبلَ السلطة العبّاسية ، القاسم بن محمد بن عبدالله المحض قُطّعت أعضاؤه بالمناشير، والحسن بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن ، بٌنيَ عليه في بيتٍ مليءٍ بالتبن ، وأثاروا الدخان فيه ، فأنجاه الله ، وحُبسَ مع خاله موسى الجون ، ولمّا كانت هذه الأخبار تقرع مسامع إمامنا يحيى بن عبدالله وأخوه إدريس (ع) فإنّهما تألّما الشيء الكثير .

الإمام يحيى بن عبدالله (ع) يلتقي شيعته ، ويبعث رسله إلى الأمصار :

ومعَ ذلك لم يسعهُم إلاّ العودة من الحبشة ، فقصدا مكاناً يُقال له ( فرع المسور ) ، وقد كان أيام إقامته في الحبشة قد أرسل كُتبه ورسائله إلى علماء المسلمين وعامّتهم ، يحثّهم على إجابة داعي الله ، وداعي آل الرسول ، فأجابه خلق من خيار أهل الأرض ، وواعدَهُم بمنى في شعب الحضارمة ، وهُناك التقى منهم سبعون رجلاً ، وشارورهم في الأمر ، فأشاروا عليه استجلاب المزيد من الأصحاب ، بالكتابة والمراسلة ، وأنّ فريضة الجهاد لا يعدلها عندَ الله شيء ، فوجّه (ع) إلى العراق ثلاثة ، وإلى المغرب أخوه إدريس ، وهُناك أوصاه ، وأخبرهُ أنّ لهم رايةٌ في المغرب ستُرفَع ، وهُناك أبلى إدريس بن عبدالله (ع) بلاءً حسناً ، وكان يمين أخيه يحيى وعضيده الأمين ، نعم ! ووجه الإمام يحيى (ع) إلى أهل مصر ثلاثة رجالٍ أكفّاء ، وكان قد كتبَ معهم الفقيه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى ( وهو أستاذ محمد بن إدريس الشافعي ) ، كتاباً إلى أبي محمد الحضرمي ، يحثّه فيه ومن معه على إجابة داعي أهل البيت ، وفي هذه المرحلة خطى يحيى بن عبدالله (ع) خطوةٌ قوية لتأسي ثورةٍ علويّة فاطميّة آمرةٍ بالمعروف ناهيّةٍ عن المنكر ، إلاّ أنّ أعين الخلافة العباسية لم تكن بعيدةً عن تصرفات يحيى ، ولا عن رُسله وأتباعه في الأمصار ، فتعقّبوا رٌسلَهُ واتباعهم ، وكانوا يُعذّبون من يقع تحت أيدهم عذاباً نُكراً ، إلى أن أفشلوا ما كان إمامنا الحسني يحيى (ع) قد بناه ، مما اضطرّه إلى الفرار فقصد بادئ الأمر بغداد .

الإمام يحيى بن عبدالله (ع) في بغداد :

دخل الإمام يحيى (ع) بغداد وسط أعينٍ عباسيّة مُتيقّظة ، ولجأ إلى بيت بعض أصحابه هناك ، فبلغ الخلافة العباسيّة وجود يحيى بن عبدالله في بغداد ، فمُنعِ الدخول والخروج منها ، وشُدّدت الحراسة ، وأُمرَ الحرّاس أن يأتوا بكلّ غريب من كل دربٍ وخانٍ وسوق ، بُغية القبض على الإمام (ع) ، فرجعَ صاحب الإمام يحيى (ع) مُغتماً لما أحدثته الخلافة في بغداد ، وأخبر يحيى بن عبدالله (ع) بهذه الأمور ، وهُناك أمره يحيى (ع) بأن يشتري له بغلين فارهين ، فاشتراها الرجل ، وجعلَ منها يحيى (ع) بغالاً تُشبه بغال البريد ، فلمّا مضى من الليل ثلثاه خرج على أنّه ساعي البريد ، وهُناك فتّحت له أبواب المدينة ، فمضى ومعه صاحبه ، فلمّا دنى من سكّة البريد ، نزلَ وتركَ البغل ، وبدّل من هياته ، وتعمّم بعمامة خَلِقَة كأنّه أعرابي ، وكانت شرطة البريد بأمر الخلافة مشدّدة في معرفة الأشخاص المارّين بها ، فلمّا أراد أن يُجاوز (ع) السكّة منعه صاحب المسلحَة ، فقال له يحيى (ع) : ويحُك أمثلِي يُمنَع ! ، إنّما يُمنع رجلٌ عليه شارة الدّنيا ، فما زال بالرّجل يُحاول معه ، حتّى اشترطَ العامل على يحيى (ع) أن يُنشده شعراً ويسمحُ له بالعبور ، فأنشده (ع) ، بشعرٍ تمثّل به زيد بن علي وابنه يحيى بن زيد وأخواه محمد النفس الزكية وإبراهيم النفس الرضيّة ، وهوَ الشعر الذي يجهله العبّاسيّون ، فأنشأ (ع) :

مُنخَرقُ الخُفَين يَشكو الوجَا ****** تَنْكُبُهُ أَطرافُ مَرْوٍ حِدَاد
شرَّدهُ الخوف من أوطانه ******* كذاك من يكره حرَّ الجلاد
قد كان في الموت له راحة ****** والمَوت حتم فِي رقابِ العباد


وما عرفَت السلطات بخروجه (ع) من بغداد ، إلاّ عند وجود البغلين في الطريق ، وعند سؤال أهل السكّة عن المارّين بهم ، فقالوا لم يمرّ بنا إلاّ أعرابي انشدهُم بعض أبياتٍ من شعر ، فسألوهم عن الأبيات ، فعرفوا أنّه يحيى بن عبدالله (ع) من شعره الذي ما تمثّل به إلى سادات الحسن والحسين (ع) . وكان يحيى (ع) قد قصد بلاد اليمن .

الإمام يحيى بن عبدالله (ع) في اليمن :

دخل الإمام يحيى بن عبدالله (ع) اليمن ، وهُناك قصد مدينة صنعاء ، واختفى عند رجل يُقال له زكريا بن يحيى بن عمر بن سابور ، ومكث عنده ثمانية أشهر ، وكان العلماء تلتقيه ، وكتبوا عنه علماً جمّاً كثيراً ، وكان الشافعي من أصحابه . ثمّ خرج (ع) من اليمن قاصداً بلاد طبرستان ، بعد أنّ مرّ بشعاب مكة المكرمة .

مكاتبة الإمام يحيى بن عبدالله لملك طبرستان ، ومكوثه في الديلم ، وأمان الرشيد:

كاتبَ الإمام يحيى (ع) ملك طبرستان ( شروين ) يسأله أن يؤويه ثلاث سنين ، فأجابه شروين : أنّه على استعداد أن يؤويه الدّهر كلّه ، ولكنّ بلاده غير منيعة إن طلبته السلطات العباسيّة ، ولكنّه أشار إليه بالالتحاق بملك الديلم ( جستان ) ، وسارَ معهُ (ع) إلى ملك الديلم ، وهناك استقبلهم جستان بكلّ تهليلٍ وترحيب ، فعُقِدَت المجالس ، وتبصّر النّاس ، وتعلموا شرائع الإسلام ، فدخلوا فيه على يديه أفواجاً بعد أفواج ، فعلا صيته (ع) ، وكاتبَه أهل الأمصار ، فأتته البيعات تحفُل ، فبلغ هذه الأخبار ، بل الصواعق، مسامع هارون الرشيد ، فاغتم لهذا ، غمّاً عظيماً ، فوجّه من فوره سبعين ألف رجل بقيادة يحيى بن خالد بن برمك ، وأمدّه بالمال والعتاد وأشرف بنفسه على القوات ، فسار البرمكي من ساعته ، وكانت الإمدادت تأتيه يوماً ، فكانت قوة الجيش في ازدياد مستمر، واستخدم هارون أيضاً حيلةً السياسة مع ملك الديلم ، فأغدق عليه من الهدايا ، المال وثياب الخز والحرير والديباج بكميّات كبيرة وخياليّة ، ولكنّ جستان رفض تسليم يحيى (ع) لهم ، وكتب هارون أماناً إلى يحيى بن عبدالله (ع) ، على ألاّ يتعرّض له ، وأن يعطيه من الأموال الشيء الكثير والأراضي ، وأن يُنزلَهُ من البلاد ما أحبّ ، فأجابه يحيى بن عبدالله (ع) ، مُرتكناً على الله ثمّ على حماية جستان التي قد أعطاهُ إياها ، فقال (ع) لهارون العباسي :

بسم الله الرحمن الرحيم

أمّا بَعد فَقد فَهمْتُ مَا عَرَضْتَ عليّ مِنَ الأمَان على أن تَبذُلَ لِي أمْوالَ المسلمين، وتُقطِعَنِي ضِياعَهم التي جَعَلها الله لهم دُوني ودُونَك، ولَم يَجعَل لنَا فِيهَا نَقيراً ولا فَتيلا، فَاستَعظَمتُ الاستمَاع لهُ فَضلاً عَن الرّكون إليه، واسْتَوحْشتُ منهُ تَنـزهاً عَن قَبولِه. فَاحبِس أيّها الإنسَان عنّي مَالَك وإقِطَاعَك وقَضَائِكَ حَوائجِي، فَقد أدّبَتْنِي أمّي أدَباً نَاقِصَاً وَولَدَتْنِي عَاقّا قَاطِعَاً [ هذا الكلام منه (ع) كناية عن المبالغة في عدم الانقياد منه لهارون ]، فَوالله لَو أنَّ مَن قَتلتُم مِن أهلِي تُركاً ودَيالِم على بُعدِ أنْسَابِهِم مِنّي وانقِطَاعِ رَحِمِهِم عنّي لَوجَبَت عَليّ نُصرَتُهم، والطّلبُ بِدِمَائهِم، إذْ كَانَ مِنكُم قَتلُهم ظُلماً وعُدواناً، والله لَكُم بالمرصَاد لمِا ارتَكَبتُم مِن ذَلك، وعَلى الميعَاد لما سَبقَ فِيه من قولِه ووعِيدِه، وكَفَى بالله جَازياً ومُعاقباً ونَاصِراً لأوليَائه ومُنتقمَاً مِن أعدَائه.

وكَيفَ لا أطْلُبُ بِدِمَائهم وأنَامُ عَن ثَأرِهِم؟ والمَقتولُ بِالجوعِ والعَطَشِ والنّكالِ، فِي ضَيّق المحَابِس، وثِقَل الأغلال، وعَدو العَذاب، وتَرادُف الأسْوُط، أبي عَبد الله بن الحسن النفس الزكية والهمّة السَنيّة، والدّيانَةِ المرضيّة، والخَشيَة والبَقيّة ، شَيخُ الفَواطم وسيّد أبناء الرّسل، زَمنه طرّا، وأرْفَعُ أهْلِ عَصرِه قَدراً، وأكْرَم أهلِ بِلادِ الله فِعلاً. ثمّ يَتلوه إخْوَته وبَنوا أبيه، ثمّ إخْوتي وبَنوا عمومَتي، نجومُ السّماء، وأوتَاد الدّنيا، وزِينَة الأرْض، وأمَانُ الخَلق، ومَعدِن الحِكمَة، ويَنبوعُ العِلم، وكَهفُ المظلوم، ومَأوى الملهوف، مَامِنهُم أحَدٌ إلاّ مَنْ لَو أقسَمَ عَلى الله لبرّ قَسَمُه.

فَمَا أنْسَ مِن شَيءٍ فَلا أنْسَى مَصَارِعَهُم، ومَا حَلّ بِهم مِن سُوءِ مَقدِرَتِكُم، ولُؤمِ ظَفَرِكُم، وعَظِيمِ إقْدَامِكُم، وقَسوَةِ قُلوبِكُم، إذْ جَاوزْتم قِتْلَة مَن كَفَرَ بالله إفْرَاطاً، وعَذَابَ مَن عَانَد الله إسْرافاً، ومُثلةَ مَن جَحَدَ الله عتواً. وكَيفَ أنْسَاه؟ ومَا أذْكُرُه لَيلاً إلا أقَضَّ عَليَّ مَضْجَعِي، وأقْلَقَنِي عَن مَوضِعِي، ولا نَهَاراً إلا أمَرَّ عليَّ عَيشِي وقَصّرَ إليَّ نَفسِي، حَتى لَودَدْتُ أنِّي أجِدُ السّبيل إلى الاسْتِعَانَة بِالسّبَاعِ عَليكُم فَضلاً عَن الإنس فَآخُذَ مِنكُم حَقّ الله الذي أوجَبَ عَليكُم، وأنْتَصِرَ مِن ظَالِمِكُم؛ فَأشْفي غَليلَ صَدرٍ قَد كَثُرَت بَلابِله، وَاُسْكن قلباً جماً وسَاوِسُه مِنَ المؤمنين، وأُذهِب غَيظَ قُلوبِهم ولَو يَوماً واحداً ثمّ يَقضِي الله فيَّ مَا أحب. فَإن أعِشْ : فَمُدْرِكٌ ثأرِي دَاعيَاً إلى الله عَلى سَبيلِ رَشَادٍ أنَا ومَنِ اتّبَعَني، نَسْلُك قَصدَ مَنْ سَلَفَ مِنْ آبآئي وإخْوتِي وإخْواني القَائمينَ بِالقْسط، والدّعَاة إلى الحَق. وإنْ أمَتْ: فَعَلَى سُنَنِ مَا مَاتوا ، غَيرَ رَاهبٍ لِمَصْرَعِهِم ولا رَاغِبٍ عَن هَدْيِهِم، فَلِي بِهِم أًسوَةُ حَسَنة ، وقًدوةٌ هَادِية.

فَأوّلُ قُدْوَتِي مِنهم: أمير المؤمنين صلوات الله عليه، إذْ كَانَ مَازال قَائماً حِينَ القِيامِ [على المؤمن] مَعَ الإمكَان حَتماً ، والنّهوضِ لمجَاهَدَة الجَائرينَ فَرضَاً، فَاعتَرَضَ عَليه مَنْ كَان كالظّلف مَع الخفّ، ونَازَعَهُ مَن كَانَ كَالظّلْمَةِ مَعَ الشّمْس، فَوَجَدُوا لَعَمْر الله مِنْ حِزبِ الشّيطان مِثلَ مَنْ وَجَدْتَ، وظَاهَرَهُم مِن أعَدَاء الله مِثلَ مَنْ ظَاهَرَكَ، وهُمْ لِمَكَانِ الحقّ عَارِفُون، وبِمَواضِعِ الرّشدِ عَالِمُون، فَبَاعُوا عَظِيمَ جَزَاء الآخرَة بَواتِحِ عَاجِلِ الدّنيَا، ولَذِيذِ الوَلاء الصّدقِ بَغَلِيظِ مَرَارَة الإفْك. ولَو شَاءَ أميرُ المؤمنين لَهَدأتْ لَهُ ، وَرَكُنَتْ إليهِ بِمُحَابَاةِ الظّالِمين، واتّخَاذِ المُضِلّين، ومُوالاةِ المَارِقِين. ولِكنْ أبَى الله ورَسُولَه أنْ يَكونَ للخَائنِينَ مُتّخِذاً، ولا للظّالمينَ مُوالياً، ولَمْ يَكنْ أمْرُهُ عِندَهُم مُشْكِلاً، فَبَدّلوا نِعمَتَ الله كُفراً، واتّخَذُوا آياتَ الله هُزؤاً، وأنْكَرُوا كَرَامَةَ الله، وجَحَدُوا فَضِيلَة الله لنَا. فَقَالَ رَابِعُهُم: أنّى تَكونُ لَهُ الخِلافَةُ والنبوّة؟__حَسَداً وبَغيَاً، فَقَدِيماً مَا حُسِدَ النّبيئونَ وآل النّبيئين، الذّينَ اخْتَصّهُم الله بِمِثلِ مَا اخْتَصّنَا، وأخْبَر عَنهم تَبارك وتَعالى فَقَال: (( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا )) ، فَجَمَعَ لهُم المكَارِمَ والفَضَائلَ والكِتابَ والحِكمَةَ والنبوّة والمُلكَ العَظِيم، فَلمّا أبَوا إلاّ تَمَادِياً فِي الغَيّ وإصْرَارَاً عَلى الضّلالِ جَاهَدَهُم أمِيرُ المؤمنينَ حَتّى لَقِيَ الله شَهِيداً صَلواتُ الله عَليه.

ثُمّ تَلاهُ الحَسَن ابنهُ ، سَلَيلُ رَسُولِ الله صلّى الله عَليه ، وشَبِيهُهُ وسَيّدُ شَبَابِ أهْلِ الجنّة ، إذْ كُلُّ أهْلِهَا سَادَةٌ فَكَيفَ بِسيّدِ السّادَات، فَجَاهَدَ مَنْ كَانَ أمِيرُ المؤمنينَ جَاهَدَه، وسَكَنَ إليهِ مِنَ المُسلِمِينَ مَنْ كَانَ شَايَعَهُ مِنْ ذَوِي السّابِقَةِ وأهْلُ المَأثَرَة، فَكَانَ أوّلَ مَنْ نَقَضَ مَا عُقِدَ لَه ونَكَثَ عَمّا عَاهَدَهُ: عَمُّكَ عُبيدالله بن العَبّاس، حِينَ اطْمَأنّ إليهِ، وظَنَّ أنَّ سَرِيرَتَهُ لله مِثلَ عَلانِيَتِه، وجّهَهُ عَلى مُقَدّمَتِهِ فِي نَحْوٍ مِنْ عِشرينَ ألفاً مِنَ المُسلِمِين، فَلَمّا نَزَلَ مَسْكَناً مِنْ سَوادِ العِرَاقِ بَاعَ دِينَهُ وأمَانَتَهُ مِنِ ابْنِ آكِلَةِ الأكْبَادِ بِمَائةِ ألْفِ دِرْهَم ، وفَرّقَ عَسْكَرَهُ لَيلاً، ولَحِقَ بِمُعَاويَة، فَدَلَّهُ عَلى عَوَرَاتِ عَسْكَرِ ابْنِ رَسُولِ الله ، وأطْمَعَهُ فِي مُبَارَزَتِهِ بَعدَ أنْ كَانَتْ نَفْسُهٌ قَد أُحِيطَ بِهَا، وضَاقَ عَليهِ مَورِدُهُ ومَصْدَرُه ، وظَنّ أنْ لا مَطْمَعَ لَهُ حِينَ اسْتدرج وامهل لَه. فَارْتَحَلَ الحسَنُ بِنَفْسِهِ بَاذِلاً لَهَا فِي ذَاتِ الله ، وَمُحتَسِباً ثَوابَ الله، حَتّى إذَا صَارَ بِالمَدآئنِ وَثََبَ عَليهِ أخُو أسَدٍ فَوَجَأهُ فِي فَخِذِهِ فَسََقَطَ لِمَا بِهِ واَيَسَ النّاسُ مِنْ إفَاقَتِه، فَتَبَدّدُوا شِيَعَاً وتَفَرّقُوا قِطَعَاً. فَلمّا قَصُرَتْ طَاقَتُهُ، وعَجُزَتْ قُوّتُه، وخَذَلَهُ أعْوانُه، سَالَمَ هُوَ وأخُوهُ مَعْذورِينَ مَظْلومِينَ مَوتُورِين. فَاسْتَثقَلَ اللّعينُ ابنُ اللّعينِ حَيَاتَهُمَا واسْتَطَالَ مُدّتَهُمَا فَاحْتَالَ بِالاغْتِيَالِ لابنِ رَسُولِ الله حَتّى نَالَ مُرَادَهُ وَظَفَرَ بِقَتلِه. فَمَضَى مَسْمُومَاً شَهِيداً مَغْمُومَاً فَقِيداً. وغبر شَقِيقِه وأخوه وابن أمه وأبيه، شريكه في فضله ونظيره في سودده على مثل ما انقرض عليه أبوه وأخوه حتى إذا ظن أن قد أمكنته محبة الله من بوارهم ونصرة الله من افترائهم، دافعه عنها أبناء الدنيا واستدرج بها أبناء الطلقاء، فبعداً للقوم الظالمين، وسحقاً لمن آثر على سليل النبيئين وبقية المهديين - الخبيث وابن الأخبثين، والخائن وابن الخائنين، فقتلوه ومنعوه ماء الفرات وهو مبذول لسائر السباع، وأعطشوه وأعطشوا أهله وقتلوهم ظلماً، يناشدونهم فلا يُجابون ويستعطفونهم فلا يرحمون. ثم تهادوا رأسه إلى يزيد الخمور والفجور تقرباً إليه، فبعداً للقوم الظالمين.

ثم توجهت جماعة من أهل العلم والفضل في جيش إلى سجستان، فتذاكروا ما حل بهم من ابن مروان فخلعوه وبايعوا للحسن بن الحسن، ورأسوا عليهم بن الأشعث إلى أن يأتيهم أمره، فكان رئيسهم غير طائل ولا رشيد، نصب العداوة للحسن قبل موافاته، فتفرقت عند ذلك كلمتهم، وفلَّ حدهم، ومزقوا كل ممزق. فلما هزم جيش الطواويس احتالوا لجدي الحسن بن الحسن فمضى مسموماً يتحسى الحسرة، ويتجرع الغيظ صلوات الله عليه. حتى إذا ظهر الفساد في البر والبحر شرى زيد بن علي صلوات الله عليهما نفسه، فما لبث أن قُتل، ثم صلب ثم أُحرق، فأكرم بمصرعه مصرعاً. ثم ما راعهم إلا طلوع إبنه يحيى صلى الله عليه من خراسان فقضى نحبه وقد أعذر صلوات الله عليهما.

وقد كان أخي محمد بن عبدالله دعا بعد زيد وابنه يحيى، فكان أول من أجابه وسارع إليه جدك محمد بن علي بن عبدالله بن عباس وإخوته وأولاده، فخرج بزعمه يقوم بدعوته، حتى خدع بالدعاء إليه طوائف.

ومعلوم عند الأمة أنكم كنتم لنا تدعون، وإلينا ترجعون وقد أخذ الله عليكم ميثاقاً لنا، وأخذنا عليكم ميثاقاً لمهدينا محمد بن عبد الله النفس الزكية الخائفة التقية المرضية، فنكثتم ذلك وادعيتم من إرث الخلافة ما لم تكونوا تَدَّعُونه قديماً ولا حديثا، ولا ادعاه لكم أحد من الأمة إلا تقولاً كاذباً، فها أنتم الآن تبغون دين الله عوجا، وذرية رسول الله قتلاً واجتياحا، والآمرين بالمعروف صلباُ واستباحا. فمتى ترجعون؟ وأنى تؤفكون؟، أولم يكن لكم خاصة وللأمة عامة في محمد بن عبدالله فضلا؟ إذ لا فضل يعدل في الناس فضله، ولا زهد يشبه زهده، حتى ما يتراجع فيه إثنان ولايتردد فيه مؤمنان، ولقد أجمع عليه أهل الأمصار من أهل الفقه والعلم في كل البلاد لا يتخالجهم فيه الشك ولا تقفهم عنه الظنون. فما ذُكِر عند خاصة ولا عامة إلا اعتقدوا محبته، وأوجبوا طاعته، وأقروا بفضله، وسارعوا إلى دعوته، إلا ماكان من عناد أهل الإلحاد الذين غلبت عليهم الشقوة وغمصوا النعمة، وتوقعوا النقمة من شيع أعداء الدين، وأفئدة المضلين، وجنود الضالين، وقادة الفاسقين، وأعوان الظالمين، وحزب الخائنين.

وقد كان الدعاء إليه منكم ظاهرا، والطلب له قاهرا، وبإعلان اسمه وكتاب إمامته على أعلامكم: "محمد يامنصور"، يُعرف ذلك ولا يُنكر، ويُسمع فلا يجهل، حتى صرفتموها إليكم وهي تخطب عليه، وكفحتموها عنه وهي مقبلة إليه، حين حضرتم وغاب، وشهدتم إبرامها ورأى قلة رغبة ممن حضر، وعظيم جرأة ممن اعترض. حتى إذا حصلت لكم بدعوتنا وهدأت عليكم بخطبتنا، وقرت لكم بنسبتنا؛ قالت لكم أجرامكم إلينا، وجنايتكم علينا: إنها لاتتوطأ لكم إلا بإبادة خضرائنا، ولا تطمئن لكم دون استئصالنا. فأغرى بنا جدك المتفرعن في قتلنا لاحقاً بأثرة فينا عند المسلمين، ولؤم مقدرة وضراعة مملكة، حتى أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، قبل بلوغ شفاء قلبه من فنائنا. وهيهات لن يدرك الناس ذلك، ولله فينا خبية لا بد من ظهورها، وإرادة لابد من بلوغها.
فالويل له، فكم من عين طال ما غضت عن محارم الله وسهرت متهجدة لله، وبكت في ظلم الليل خوفاً من الله، قد اسحّها بالعبرات باكية، وسمّرها بالمسامير المحمَّاة فألصقها بالجدرات المرصوفة قائمة. وكم من وجه طالما ناجى الله مجتهداً وعنا لله متخشعاً، مشوهاً بالعمد مغلولاً مقتولاً ممثولاً به معنوفاً. وتالله أن لو لم يلق الله إلا بقتل النفس الزكية أخي محمد بن عبدالله صلوات الله عليه للقيه بإثم عظيم وخطب كبير. فكيف؟ وقد قتل قبله النفس التقية أبي عبدالله بن الحسن وإخوته وبني أخيه، ومنعهم روح الحياة في مطابقه، وحال بينهم وبين خروج النفس في مطاميره. لايعرفون الليل من النهار ولا مواقيت الصلاة إلا بقراءة أجزاء القرآن تجزئة لما عانوا من دراسته في آناء الليل والنهار حين الشتاء والصيف، حال أوقات الصلوات قرماً منه إلى قتلهم، وقطعاً لأرحامهم، وتِرَةً لرسول الله فيهم. فولغ في دمائهم ولغان الكلب، وضريَ بقتل صغيرهم وكبيرهم ضراوة الأسد، ونهم بهم نهم الخنزير، والله له ولمن عمل بعمله بالمرصاد.

فلما أهلكه الله قابلتنا أنت وأخوك الجبار العنيد الفظ الغليظ بأضعاف فتنته وإحتذاءً بسيرته قتلاً وعدواناً وتشريداً وتطريداً. فأكلتمانا أكل الرُّبا حتى لفظتنا الأرض خوفاً منكما، وتأبدنا في الفلوات هرباً منكما، فأنست بنا الوحوش وأنسنا بها، وألفتنا البهائم وألفناها. فلو لم تجترم أنت وأخوك إلا قتل الحسين بن علي وأسرته بفخ لكفى بذلك عند الله وزراً عظمياً، وسيعلم وقد علم ما اقترف، والله مجازيه وهو المنتقم لأوليائه من أعدائه.

ثم امتحننا الله من بعده بك، فحرصت على قتلنا وطلبت من فّرَّ عنك منا، لا يؤمنهم منك بُعْدُ دار ولا نأي جار، تتبعهم حيلك وكيدك حيث سيروا من بلاد الترك والديلم، لا تسكن نفسك ولا يطمئن قلبك دون أن تأتي عن آخرنا، ولا تدع صغيرنا ولا ترثى لكبيرنا، لئلا يبقى داع إلى حق ولا قائل بصدق من أهله. حتى أخرجك الطغيان وحملك الحسد والشنئان أن أظهرت بغضة أمير المؤمنين وأعلنت بنقصه وقرّبت مبغضيه، وأدنيت شانئيه حتى أربيت على بني أمية في عداوته، وأشفيت غلتهم في تناوله، فأمرت بكرب قبر الحسين صلى الله عليه وتعمية موضعه وقتل زوّاره واستئصال محبيه، وأوعدت زائريه وأرعدت وأبرقت على ذكره.

فوالله لقد كانت بنو أمية الذين وصفنا آثارهم مثلاً لكم، وعددنا مساؤهم احتجاجاً عليكم على بعد أرحامهم أرأف بنا منكم، وأعطف علينا قلوباً من جميعكم، وأحسن استبقاء لنا ورعاية من قرابتكم. فوالله ما بأمركم خفاء ولا بشأنكم امتراء.

ولمَ لا نجَاهد وأنت معتكف على معاصي الله صباحاً مساءً، مغّتراً بالمهلة آمناً من النقمة، واثقاً بالسلامة؟ تارة تغري بين البهائم بمناطحت كبش ومناقرة ديك ومحارشة كلب، وتارة تفرش الخصيان وتأتي الذكران، وتترك الصلاة صاحياً وسكران. ثم لا يشغلك ذلك عن قتل أولياء الله وانتهاك محارم الله. فسبحان الله ما أعظم حلمه، وأكثر أناته عنك وعن أمثالك، ولكنه تبارك وتعالى لايَعْجل بالعقوبة، وكيف يعجل وهو لا يخاف الفوت؟ وهو شديد العقاب.

وأما ما دعوتني إليه من الأمان وبذلت لي من الأموال فمثلي لا تثني الرغائب عزمته، ولا تنحل لخطير همته، ولا يبطل سعياً باقياً على الأيام أثره، ولا يؤثر جزيلاً عند الله أجره بمالٍ فانٍ وعارٍ باقٍ، هذه صفقة خاسرة وتجارة بائرة. أستعصم الله منها وأسأله أن يعيذني من مثلها بمنّه وطوله. أفأبيع المسلمين؟ وقد سمت إليَّ أبصارهم، وأنبسطت نحوي آمالهم بدعوتي، واشرأبت أعناقهم نحوي. إني إذاً لدنيُّ الهمة، لئيم الرغبة، ضيق العطن.هذا والأحكام مهملة، والحدود معطلة‎، والمعاصي مستعملة، والمحارم منتهكة، ودين الله محقور، وبصيرتي مشحوذة وحجة الله عليَّ قائمة في إنكار المنكر. أفأبيع خطر مقامي بمالكم؟، وشرف موقفي بدراهمكم؟، وألبس العار والشنار بمقامكم؟. (( قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ )) .

ووالله ما أكلي إلا الجشب، وما لباسي إلا الخشن، ولا شعاري إلا الدرع، ولا صاحبي إلا السيف، ولافراشي إلا الأرض، ولاشهوتي من الدنيا إلا لقاؤكم والرغبة إلى الله في مجاهدتكم، ولو موقفاً واحداً إنتظار إحدى الحسنين في ذلك كله من ظفر أو شهادة. وبعد:

فإن لنا على الله وعداً لا يخلفه، وضماناً سوف ينجزه، حيث يقول: (( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )) . وهو الذي يقول: (( وَنُرِيدُ أنَّ نَمُنَّ عَلى الَّذِينَ اسْتُضعِفُوا في الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أئِمَةً وَنَجْعَلَهُم الوَارِثين )) . اهـ رسالته (ع) .

حيلَة أبو البختري ، والشهادة على يحيى بن عبدالله بالرقّ والعبوديّة ، وموقف يحيى (ع) :

فلمّا وصل كتاب الإمام يحيى بن عبدالله (ع) إلى هارون الرشيد ، زاد غمّه غمّاً ، وحُرقتهُ حُرقةً ، وظنّ أن قد انقضَت مُدّته ، فجمع بطانتهُ الخبيثة وشاورهُم في الأمر ، فأجابه أبا البختري بحيلةٍ خبيثَة ، خلاصتها ، أن يشهدَ هُوَ بصفته قاضي القضاة ، على أنّ يحيى بن عبدالله (ع) عبداً لهارون الرشيد ، ويُنكر نسبه إلى فاطمة ابنة الرسول (ص) ، وأن يشهدَ سليمان بن فليح على عبودية يحيى (ع) ، بصفته صاحب ديوان الخراج ، وأن يبعثَ معهم بوجوه القوم ليُعضّدوا شهادتهم ، وأن يُلزمَ النّاس الشهادة ، وأنّ مَن لَم يشهَد ، وامتنعَ عن تأديتها ، حُلّ قتله وتصفية ماله ، وأنّ من شَهِدَ على يحيى بن عبدالله بالعبودية ، أُكرِمَ وأُسقِطَ عنه الخراج ، فأعجبت هارون الفكرة ، بل الحيلة !! ، ووجّه بأبي البختري وسليمان بن فليح ومَن معهُم إلى الفضل بن يحيى البرمكي ، ونفّذ البرمكي ما أمرهُ هارون وجعل جنده بعددهم الهائل يشهدون على يحيى بن عبدالله بالعبوديّة والرّق . وهُناك وفي المشرق الأقصى جمعَ أبو البختري فقهاء وعلماء دسينا ، وقزوين ، وزنجان، وأبهر ، وشهربرد، وهمذان، والرَّي، ودنباوند، والرويان، وما جاورها من البلدان ، وخطبَ فيهم ، بأنّ يحيى بن عبدالله دخلَ الديلم ، عازماً على قتال أهل الإسلام بأهل الشرك ، ويُخرجَ يده من طاعة أمير المؤمنين ، وقد جاءت الرخصة في الكذب والخديعة في الحرب ، وقد رأينا أن نشهد أنّه عبداً لأمير المؤمنين ، نطلب بذلك الثواب من الله ، وأن ترجع الألفة إلى المسلمين ، وقرأ عليهم كتاب هارون ، وفيه النعيم لمن أجاب ، والتوعد والتهدد لمن انحاز . فأجابه خلقٌ من العرب والعجم في تلك البلاد ، وكان الشّرفاء أكثر من الوُضعاء في هذه الصفّة ، وبينهم عدد كبير من الفقهاء ، ىقفحضروا عند جستان ، وشهدوا على يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وابن فاطمة ابنة محمد بن عبدالله صلوات الله عليه وعليهم ، بالعبودية لهارون الغَويّ لا الرّشيد ، فصدَّق جستان دعواهُم على يحيى بن عبدالله ، وقال ليحيى : ما وَجدتَ غيري تخدَعهُ بدعوتكَ غيري ؟!! . فقال له يحيى بن عبدالله (ع) : (( أيها الرجل إنَّ لك عقلاً وإن لم يكن لك دين [ وذلك لأنّ جستان لم يكن مُسلماً ]، فتدبر مايقول القوم، وماتقدم منهم إليك، ورده على قلبك وعقلك، واجعل عقلك حكماً دون هواك؛ لو أني كنت كما قالوا ما وجهوا إليك بهذه الأموال وما أردفوها بهذه العساكر ولا بذلوا في دفعك إياي إليهم هذه الأموال، ولا جمعوا لك من ترى من وجوه الجبل وفقهائهم ومعدليهم ليشهدوا عندك بالزور، وما كان عليهم من رجل جاء إلى عدوهم، أو وليّهم ينتمي إلى نسب ليس منه؟ . )) ، فلم يقتنع جستان بهذا ، ولم يُسلّم ليحيى بن عبدالله براءته بَعَد مَا رأى منَ الشّهود ، فاقترح الإمام يحيى (ع) أن يبعَث من يتأكّد من نسبه فيسأل أهل مكة والمدينة ، فاستطال جستان المدّة ، ثمّ اقترح الإمام أن يبعثَ جستان رجالاً لتبيّنوا كذب هؤلاء الشهود ، فاستطال جستان المدّة ، فأوجسَ يحيى (ع) من جستان خيفةً ، لمّا رأى ميلَهُ إلى تسليمه إليهِم ، فاقترحَ اقتراحاً ثالثاً وهُوَ أن يجمَعَ بينهُ وبين هؤلاء الشّهود بحضور جستان ، فأجابه جستان إلى ذلك ، فلمّا حضر يحيى (ع) والشّهود وجستان ، جلس الإمام سلام الله عليه على كرسيّ وابتدأ الكلام قائلاً :

((الحمدلله على ما أولنا من نعمه وأبلانا من محنه وأكرمنا بولادة نبيه، نحمده على جزيل ما أولى وجميل ما أبلى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مقرٍ بوحدانيته خاضع متواضع لربوبيته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله انتخبه واصطفاه واختاره واجتباه صلى الله عليه وعلى آله أجمعين، أما بعد:

معاشر العرب، فإنَّكم كنتم في حمض من الدنيا، بشر دار وأضنك قرار؛ ماؤكم أجاج، وأكلكم ثماج من العلهز والهبيد، والأعاجم لكم قاهرة، وجنودهم عليكم ظاهرة، لم يمنعهم من تحويلكم إلا قلة خير بلدكم.

أنتم مع الدنيا بمنزلة السقب مع الناب الضبعة الضروس متى دنا إليها لينال من درها منعته. وإن أتى إليها من أمامها خبطته، أو من ورائها رمحته، أو من عرضها عضته، فما عسى أن يصيب منها، هذا على تفرق شملكم واختلاف كلمتكم، لا تحلون حلالاً ولا تحرمون حراماً ولا تخافون آثاما، قد ران الباطل على قلوبكم فلا تعقلون، وغطت الحيرة على أبصاركم فما تبصرون، واسكت الغفلة أسماعكم فما تسمعون. على أن عودكم نضار، وأنكم ذوو الأخطار. ثم مَنّ الله عليكم وخصكم دون غيركم فابتعث فيكم محمداً صلى الله عليه وآله منكم خاصة، وأرسله إلى الناس كافة، وجعله بين أظهركم ليميز به بينكم، وهو تبارك وتعالى أعلم بكم منكم بأنفسكم، فاستنقذكم من ظلمة الضلال إلى نور الهدى، وجلا غشاوة العمى عن أبصاركم بضياء مصابيح الحق، وأستخرجكم من عمى بحور الكفر إلى جدد أرض الإيمان، وجمَّل برفقه ما انفتق من رتقكم، ورأب بيمينه ما انصدع من شعبكم، وَلَمَّ بإصلاحه ما فرَّقت الأحقاد والجهل من قلوبكم. ثم اقتضب برمحه لكم الدنيا الضبعة فذلت بَعْد عَنَتْ، ثم أبسها بسيفه فأرزمت وتفاجت واجترت بعد ضرس، ودرت ومرى ضرعها بيمن كفه فاختلفت أخلافها وانبعثت أحالبها، فرأمتكم كما ترأم الناب المقلاة طلاها، فشربتم عَلَلاً بعد نهل، وملأتم أسقيتكم فضلاً بعد اكتظاظ، وتركها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تدور حولكم وتلوذ بكم كما تلوذ الزجور بسقبها. فلمَّا أقام أود قناتكم بثقاف الحق، ورحض بظهور الإسلام عن أبدانكم درن الشرك، ولحب لكم الطريق، وسن لكم السنن وشرع لكم الشرائع خافضاً في ذلك جناحه؛ يشاوركم في أمره، ويواسيكم بنفسه، ولم يبغ منكم على ما جاءكم به أجراً إلا أن تودُّوه في قرباه، وما فعل صلى الله عليه وآله ذلك له حتى أنزل الله عليه قرآناً، فقال تبارك وتعالى: (( قُلْ لاَ أسْئلكُم عَلَيِه أجْراً إلا المَوَدَة في القُرّبَى )) .

فلمَّا بلَّغ رسالة ربه وأنجز الله له ما وعده من طاعة العباد، والتمكين في البلاد؛ دُعِيَ صلى الله عليه فأجاب، فصار إلى جوار ربه وكرامته، وقدم على البهجة والسرور، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فوعده الشفاعة عنده والمقام المحمود لديه. فَخلَّف بين أظهركم ذرّيَّته فأخرتموهم وقدمتم غيرهم، ووليتم أموركم سواهم. ثم لم نلبث إلا يسيراً حتى جُعِلَ مال ولده حوزاً، وَظُلِمت ابنتُه فدفنت ليلاً، وقتل فيكم وصيه وأخوه وابن عمه وأبو ابنيه، ثم خذل وجرح وسمَّ سبطه الأكبر أبو محمد، ثم قتل سبطه الأصغر أبو عبدالله مع ثمانية عشر رجلاً من أهل بيته الأدنين في مقام واحد، ثم على أثر ذلك نُبِش وصُلب وأُحرق بالنار ولد ولده. ثم هم بعد ذلك يُقتلون ويطرَّدون ويشردون في البلاد إلى هذه الغاية، قُتِلَ كِبَارُهُم وأوتم أولادهم وأرملت نساؤهم.

سبحان الله ما لقي عدوٌّ من عدوه ما لقيَ أهل بيت نبيكم منكم من القتل والحرق والصلب.
وليس فيكم من يغضب لهم إلا هزؤاً بالقول، إن غضبتم لهم زعمتم وقمتم معهم كي تنصروهم لم تلبثوا إلا يسيراً حتى تخذلوهم وتتفرقوا عنهم. فلو كان محمد صلى الله عليه وآله من السودان البعيدة أنسابهم المنقطعة أسبابهم - إلا أنه قد جاوركم بمثل ما جاوركم به - لوجب عليكم حفظه في ذريته. فكيف وأنتم شجرة هو أصلها، وأغصان هو فرعها، تفخرون على العجم، وتصولون على سائر الأمم، وقد عاقدتموه وعاهدتموه أن تمنعوه مما تمنعون منه أنفسكم وذراريكم؟. فسوءة لكم ثم سوءة، بأي وجه تلقونه غدا؟، وبأي عذر تعتذرون إليه؟. أبقلة؟ فما أنتم بقليل. أفتجحدون؟! فذلك يوم لا ينفع جحد، ذاك يوم تبلى فيه السرائر. أم تقولون: قتلناهم؟ فتصدقون. فيأخذكم الجليل أخذ عزيز مقتدر.

لقد هدمتم ماشيد الله من بنائكم، وأطفأتم ما أنار من ذكركم، فلو فعلت السماء ما فعلتم لتطأطأت إذلالاً، أو الجبال لصارت دكاً، أو الأرض لمارت مورا. أي عجب أعجب من أن أحدكم يَقْتُل نفسه في معصية الله ولا ينهزم، يقول بزعمه: لا تتحدث نساء العرب بأني فررت. وقد تحدثت نساء العرب بأنكم خفرتم أماناتكم ونقضتم عهودكم، ونكصتم على أعقابكم، وفررتم بأجمعكم عن أهل بيت نبيكم، فلا أنتم تنصرونهم للديانة وما افترض الله عليكم، ولا من طريق العصبية والحمية، ولا بقرب جوارهم وتلاصق دارهم منكم. ولا أنتم تعتزلونهم فلا تنصرونهم ولا تنصرون عليهم عدوهم؛ بل صيرتموهم لُحمةً لسيوفكم، ونهزة ليشتفي غيظكم من قتلهم واستئصالهم. وطلبتموهم في مظانهم ودارهم، وفي غير دارهم؛ فصرنا طريدة لكم من دار إلى دار، ومن جبل إلى جبل، ومن شاهق إلى شاهق. ثم لم يقنعكم ذلك حتى أخرجتمونا من دار الإسلام إلى دار الشرك، ثم لم ترضوا بذلك من حالنا حتى تداعيتم علينا معشر العرب خاصة من دون جميع العجم من أهل الأمصار والمدائن والبلدان، فخرجتم إلى دار الشرك طلباً لدمائنا دون دماء أهل الشرك تلذذاً منكم بقتلنا، وتقرباً إلى ربكم باجتياحنا؛ زعمتم لأن يبقى بين أظهركم من ذرية نبيكم عين تطرف ولا نفس تعرف. ثم لم يقم بذلك منكم إلا أعلامكم، ووجوهكم وعلماؤكم وفقهاؤكم والله المستعان. )) .

فما أن بلغ يحيى بن عبدالله (ع) آخر كلامه ، حتّى انفجر النّاس بُكاءً ، فقام فقام قائمُ منهم يقول : ويلكم، هل بقيَ لكم حجة أو علة؟ لو قُتِلتُم عن آخركم وسبيت ذراريكم واصطفيت أموالكم، كان خيرأً لكم من أن تشهدوا على ابن نبيكم بالعبودية وتنفونه من نسبه . فلمّا سمعَ أبو البختري كلام القائل ، تهدّدهم وزادَ في التخويف بالانتقام الشنيع ، وأجبرهُم على الشهادة ضد يحيى (ع) . فانذهلَ الإمام (ع) لمّا رآهم اجتمعو على شهادة الزور ، بعد أن كان بكلامه السّابق طمعَ أن يتفرّقوا ، فعودهُم بالخطاب قائلاً : ((مَا لَكُم فَرّق الله بين كلمتكم وخالف بين أهوائكم ولا بارك لكم في أنفسكم وأولادكم، أما والله لولا خوف الله ومراقبته لقلت مالا تنكرون، ولكن أمسك مخافة أن تُقتلوا وأن أُشرك في دمائكم، ولكن لأن أكون مظلوماً أحب إليَّ من أن أكون ظالما. ثم قال: وقد علمت أنكم مكرهون، وأنكم ضعفتم عن الصبر على القتل فوسع الله عليكم وسلمنا وإياكم من هذا الجبار العاتي. )) .

ثمّ توجّه جستان تجاه الإمام (ع) ، فقال : بقيَ لكَ علّة تعتلّ بها ، بعد شهادة هؤلاء ؟ ، فقال الإمام يحيى بن عبدالله (ع) : (( قد تبين لك ببكائهم، وترددهم يظهر أنهم مكرهون، فإذا أبيت إلا غدراً فأنظرني آخذ لي ولأصحابي الأمان على نسخة أنشؤها أنا وأوجهها إلى هارون حتى يكتب إقراره بذلك بخطه، ويجمع الفقهاء والمعدلين وبني هاشم فيشهدون عليه بذلك. )) . ففرحَ هارون بطلب يحيى هذا ، وكتب يحيى بأمانٍ عزيز الأركان ، قوي الحجّة والإعذار ، جاء فيه :

أمان الإمام يحيى بن عبدالله (ع) ، وأتباعه ، بكتابة يحيى بن عبدالله :

بسم الله الرحمن الرحيم

(( هذا كتابُ أمان من أمير المؤمنين - هارون بن محمد بن عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب - ليحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب، ولسبعين رجلاً من أصحابه:

أني أَمنّتُك يا يحيى بن عبدالله وسبعين رجلاً من أصحابك بأمان الله الذي لا إله إلا هو الذي يعلم من سرائر العباد مايعلم من علانيتهم؛ أماناً صحيحاً جائزاً صادقاً ظاهره كباطنه، وباطنه كظاهره، لا يشوبه غل، ولا يخالطه غش يبطله بوجه من الوجوه، ولا سبب من الأسباب. فأنت يا يحيى بن عبدالله والسبعون رجلاً من أصحابك آمنون بأمان الله على ما أصبت أنت وهم من مال أو دم أو حدث على أمير المؤمنين - هارون بن محمد - أو على أصحابه وقواده، وجنوده وشيعته، وأتباعه ومواليه، وأهل بيته ورعيته وأهل مملكته. وعلى أنَّ كل من طالبه أو طالب أصحابه بحدث كان منه أو كان منهم من الدماء والأموال، وجميع الحقوق كلها فاستحق الطالب ليحيى بن عبدالله والسبعين رجلا من أصحابه فعلى أمير المؤمنين ضمان ذلك وخلاصه حتى يوفيهم حقوقهم أو يرضيهم بما شاؤا بالغاً ما بلغت تلك المطالبة، من دم أو مال أو حق أو حد أو قصاص. وأنه لا يؤاخذه بشيئ كان منه أو منهم مما وصفنا في صدر كتابنا هذا، ولا يأخذه وإياهم بضغن ولا ترة ولا حقد ولا وغر بشيء مما كان من كلام أو حرب أو عداوة ظاهرة أو باطنة ولا بما كان منه من المبايعة والدعاء إلى نفسه وإلى خلع أمير المؤمنين وإلى حربه.

وأن أمير المؤمنين - هارون بن محمد بن عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب - أعطى يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب، والسبعين رجلاً من أصحابه: عهداً خالصاً مؤكداً وميثاقاً واجباً غليظاً، وذمة الله وذمة رسوله، وذمة أنبيائه المرسلين، وملائكته المقربين. وأنه جعل له هذه العهود والمواثيق والذمم ولأصحابه في عنقه مؤكدة صحيحة، لا برآءة له عند الله في دنياه وآخرته إلا بالوفاء بها. وأني قد أنفذت ذلك لك ولهم ورضيته وسلمته، وأشهدت الله وملائكته على ذلك وكفى بالله شهيداً. فأنت وإياهم آمنون بأمان الله، ليس عليك ولا عليهم عتب ولا توبيخ ولا تبكيت ولا تعريض ولا أذى فيما كان منك ومنهم إذ كنت في مناواتي ومحاربتي من قتل كان أو قتال أو زلة أو جرم أو سفك دم أو جناية في عمد أو خطأ أو أمر من الأمور سلف منك أو منهم في صغير من الأمر ولا كبير في سر ولا علانية. ولا سبيل إلى نقض ما جعلته لك من أماني ولا إلى نكثه بوجه من الوجوه، ولا سبب من الأسباب. وأني قد أذنت لك بالمقام أنت وأصحابك أين شئت من بلاد المسلمين، لاتخاف أنت ولا هم غدراً ولا ختراً ولا إخفارا ، حيث أحببت من أرض الله. فأنت وهم آمنون بأمان الله الذي لا إله هو؛ لا ينالك أمر تخافه من ساعات الليل والنهار. ولا أُدخِل في أماني عليك غشاً ولا خديعة ولا مكراً، ولا يكون مني إليك في ذلك دسيس، ولا جاسوس، ولا إشارة، ولا معاريض، لاكتابة، ولا كناية، ولا تصريح ولا بشيء من الأشياء مما تخافه على نفسك من جديد، ولا مشرب ولا مطعم، ولا ملبس، ولا أضمره لك. وجعلت لك ألا ترى مني انقباضاً، ولا مجانبة ولا ازورارا .

فإنْ أمير المؤمنين - هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبدالمطلب - نقض ما جعل لك ولأصحابك من أمانكم هذا، أو نكث عنه أو خالفه إلى أمر تكرهه أو أضمر لك في نفسه غير ما أظهر، أو أدخل عليك فيما ذكر من أمانه وتسليمه لك ولأصحابك المسَمَّين التماس الخديعة لك و المكر بك أو نوى غير ما جعل لك الوفاء به؛ فلا قبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، وزبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر طالق ثلاثاً بتة، وأن كل مملوك له من عبد أو أمة وسرية وأمهات أولاده أحرار، وكل امرأة له وكل امرأة يتزوجها فيما يستقبل فهي طالق ثلاثا، وكل مملوك يملكه فيما يستقبل من ذكر أو أنثى فهم أحرار، وكل مال يملكه أو يستفيده فهو صدقة على الفقراء والمساكين. وإلا فعليه المشي إلى بيت الله الحرام حافياً راجلاً وعليه المحرجات من الأيمان كلها، وأمير المؤمنين - هارون بن محمد بن عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس - خليع من إمرة المؤمنين، والأمة من ولايته براء، ولا طاعة له في أعناقهم. والله عليه وبما وكد وجعل على نفسه في هذا الأمان كفيل وكفى بالله شهيداً )) .

قال الإمام القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) : لما بعث يحيى بالأمان - كتب إلى هارون أن يجمع الفقهاء والعلماء ويحلف بطلاق زبيده باسمها واسم أبيها، وعِتْق كل ما ملك من السراري، وتسبيل كل ما ملك من مال، والمشي إلى بيت الله الحرام، والأيمان المحرجات، وأن يُشِهد الفقهاء على ذلك كله. قال: فأسرع هارون إلى أمانه وأعطاه الشروط التي اشترط له كلها، والأيمان التي طلب والإشهاد عليها.

الإمام يحيى بن عبدالله (ع) ، في المدينة المنوّرة ، وغضب هارون عليه :

عاد الإمام يحيى (ع) وأصحابه إلى بلدانهم ، بعدَ أن أخذَ ميثاق الله وأمانه من هارون الرشيد ، ولكنّ الرشيد ما زال في خاطره هنّ وهنّ من يحيى بن عبدالله ، قال الإمام محمد بن القاسم الرسي الحسني (ع) : (( كان سبب سخط هارون على يحيى أنه لما أمر له بأربعمائة ألف دينار، وأمر له يحيى بن خالد بن برمك بمثلها، صار إلى منزله بأثيب - ناحية سويقة - من أرض الحجاز، فوصل كل من كان له به نسب أو خؤولة أو محبة من العرب وغيرهم حتى أغناهم، فكثر اختلاف الناس إليه وتعظيمهم له )) ، فكانَت هذه المنزلة العظيمة التي نزلَ بها يحيى بن عبدالله صلوات الله عليه ، كفيلةً بإحياء غضب هارون على يحيى (ع) ، ولكن لم يكن غضب هارون بقدرِ غضبه الذي كان بسبب وشاية بكار بن مصعب الزّبيري ، فيقول الإمام محمد بن القاسم الرسي (ع) : (( حدّثني أبي قال: كان بكار بن مصعب بن ثابت الزبيري عاملا لهارون على المدينة، فوشى بيحيى بن عبد الله بعدما رجع إلى الحجاز، فكتب إلى هارون أن بالحجاز خليفة يعظمه الناس ويختلفون إليه من جميع الآفاق، ولا يصلح خليفتان في مملكة واحدة. وذكر أنه يكاتب أهل الآفاق )) . فاستدعا هارون يحيى بن عبدالله (ع) من المدينة إلى بغداد ، وهناكَ ضيّقَ عليه وحبسَه .

الإمام يحيى بن عبدالله (ع) ، واليمين الزّبيرية :

فحصلَ أن أمرَ به هارون ، فأُحضِرَ (ع) من حبسِه ، وتراشقَ هو والزّبيري الكلام ، فكان الزّبيري يُحرّض هارون على إيذاء يحيى بن عبدالله (ع) ، فعندها أخبرَ يحيى بن عبدالله أنّ بكّاراً هذا ، كانَ ممّن رثى أخاه محمد النفس الزكيّة ، وأنّه وعدهُ بالخروج معهُ إن خرج ، فالتفت هارون ناحية بكّار وهُوَ مُغضَب ، فزادَ الإمام يحيى (ع) في البيّنة فذكرَ رثاء الزبيري لأخيه ، ولكنّ الزبيري أنكرَ هذا كلّه ، وعندها حلّفَهُ الإمام يحيى (ع) ، بيمينٍِ غموسٍ عسيرة ، عُرفَت بعد هذه الحادثة باليمين الزبيرية ، فقال الغمام يحيى بن عبدالله (ع) ، قُل : ((بَرَأك الله من حَولِه وقوته وَوَكلَكَ إلى حَولَكَ وَقوتِك، إنَّ كنت قلت هاتين المرثيتين ولا المديح الأول )) فقال الزبيري: بَرأني الله من حَولِه وقوته ووكَلَني إلى حَولِي وقوّتي إنْ كنتُ قلتُ شيئاُ ممّا قال. فلمّا حَلف، قال يحيى صلى الله عليه: قَتلتَه والله يا هَارون ، فأمرَ هارون بيحيى وحُبس .

هارون الرشيد ونقض الأمان اليحيَويّ :

ولكنّ الرّشيد لم يستطع التخلّص منه ، لمكان الأمان الذي أشهَدَ عليه الفقهاء ، وهُنا عمل على جمع الفقهاء وكان منهم محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة ، وهو القائل : ((لما سألني هارون عن أمان يحيى أراد مني ومن غيري أن ندله على رخصة يصل بها إلى قتل يحيى. قال: فدفع إليَّ الأمان، وقال: انظر في هذا الأمان الفاسد. قال: فنظرت فيه فرأيته أصح أمان، ولو كلفت أن أكتب مثله على صحته لصعب علي. قال: فقمت قائما، فقلت: يا أمير المؤمنين حرام الدم ما رأيت أمانا قط أصح منه، ولا أوثق منه، وليس في نقضه حيلة. قال: فأخذ دواة بين يديه فرماني بها فَشجَّ رأسي. ودفعه إلى غيري حتى عرضه على جميع من حضر، فقالوا كلهم: مثل قولي إلا أنهم لم يبادوا به، فقال: وهب بن وهب البختري بعدما قال هو: أنه صحيح، هاهنا حيلة. قال: ما هي؟ قال: إنْ قال الفضل ابن يحيى إنه نوى وقت ما أعطاه الأمان غير الوفاء فالأمان باطل. قال هارون: فالفضل يقول هذا. قال: فدعا بالفضل ويحيى بن خالد، وابنه جعفر بن يحيى حاضران. فقال هارون: يا فضل ألست إنما نويت بالأمان غير الوفاء. قال الفضل: لا. ما نويت بالأمان إلا الوفاء. قال: فغضب هارون، وقال: ويلك. أليس إنما نويت غير الوفاء؟. قال: لا يا أمير المؤمنين ما نويت إلا الوفاء به. فاشتد غضب هارون، وقال: ويلك أليس نويت غير الوفاء؟. قال: لا، والله الذي لا إله إلا هو ما نويت غير الوفاء يا أمير المؤمنين. ونظر أبو البختري إلى يحيى بن خالد، وجعفر بن يحيى، قد تغيرت وجوههما وأربدت، ورمياه بأبصارهما فعرف الشر في وجوههما. فقال: يا أمير المؤمنين ما تصنع بهذا. أدع لي بسكين. فأحضر له سكين، فقطع الأمان، ثم قال: يا أمير المؤمنين أقتله ودمه في عنقي. قال: فقاله له يحيى: " يا دَاعِيُّ والله لقد علمت قريش إنك لقيط، وإنك تُدعى إلى غير أبيك، وأبوك الذي تدعي أبوته لم يصح له نسب في قريش، إنما هو عبد لبني زمعة، فأنت مُدَّعٍ إلى دَعِيٍّ، وقد جاء في الأثر عن الرسول صلى الله عليه وآله: (إنَّ من ادعى إلى غير أبيه أو اِنتمى إلى غير مَواليه فليتبوأ مقعده من النار). فكيف ترى حالك وأنت مصرٌ على الدعوة بعد معرفتك بالأثر عن النبي عليه السلام، ثم جرأتك على الله، واستخفافك لمحارمه في تمزيق أمان قد وكده ووثقه جماعة من علماء المسلمين، فهب أن لا مراقبة عندك في رجاء ثواب، ولا خوف من عقاب، فهلا سترت على ما يخفي ضميرك مما قد أبديت من هتك سترك، وإبداء عورتك؛ معاندة لله ولدينه، وعداوة منك لله ورسوله ولذرية رسوله . ثم التفت إلى الرشيد. فقال له: يا هارون اتق الله وراقبه فإنه قل ما ينفعك هذا وضرباؤه (( يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا )) . (( وَيَوم لاَ يَنْفَعُ الظَالِمِين مَعْذِرَتُهم وَلهُم اللَّعْنَةُ وَلَهُم سُوء الدَّار )) " . فقال الرشيد لمن حضره من الفقهاء وغيرهم: انظروا. لا يستحلَّ أن يقول يا أمير المؤمنين. وأراد هارون أن يحتج عليه ليبطل أمانه. فقال يحيى صلى الله عليه: ما جزعك من اسم سمَّاكه أبوك، وقد كان يقال لرسول الله صلى الله عليه: يا محمد، فما ينكر على الداعي له بذلك، وقد سماه الله: رسول الله عليه السلام. )) .

وفاته صلوات الله عليه :

فأمرَ الرّشيد بيحيى بن عبدالله (ع) إلى الحبس ، وهُناك مات إلى رحمة الله ورضوانه ، وفي هذا يروي علَمُ آل الرّسول موسى بن عبدالله بن موسى الجون (ع) ، مقولَة بعض أهلِه : ((إنَّ رجلين من أفضَلِ أهلِ زَمَانِهِمَا، وأفضل أهلِ عَصرِهِمَا، أحَدُهُما مِن ولَد الحسَن والأخَر مِن ولَد الحُسين ، لا يُوقَفُ عَلى مَوتِهِمَا ولا على قِتلِهِمَا كَيفَ كَان ، موسى بن جعفر، ويحيى بن عبد الله )) ، ولا يشكّ آل الرّسول (ص) في سمّ هارون الرشيد له صلوات الله عليه وهو في حبسه عن طريق مسرورٍ الخادم ، والله المُستعان ، فسلامٌ على أمير المؤمنين يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، وعلى أبيه المحض شيخ آل الرّسول ، وعلى جدّه الحسن الرّضا رضيعُ العلوم ، وعلى جدّه الحسن السبط ريحانة الرسول ، وعلى جده المرتضى وصيّ الرسول ، وعلى أمّه فاطمة البتول ، وعلى جدّه رسول الله المُصطفى الأمين ، يومُ وُلِدَ ، ويومَ ماتَ ، ويومَ يُبعثُ حيّاً .

15/1/1427هـ

------------------

مصادر :

أخبار فخ ويحيى بن عبدالله ، لأحمد بن سهل الرّازي .
التحف شرح الزلف للإمام الحجّة مجدالدين المؤيدي الحسني (ع) .
الشافي للإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة الحسني (ع) .
صورة
الوالد العلامة الحجّة عبدالرحمن بن حسين شايم المؤيدي
صورة

صاحب فخ
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 56
اشترك في: الخميس إبريل 27, 2006 12:07 pm
مكان: اليمن
اتصال:

مشاركة بواسطة صاحب فخ »

شكرا لك اخي وبارك الله فيك
على هذه الترجمه الرائعه عن هذا الامام العظيم
ومن اراد المزيد لمعرفته عن هذا الامام فعليه
بكتاب الشهيد يحي المؤيدي
اصدار مؤسسة الامام زيد بن علي عليه صلوات الله
لي خمسة اطفئ بهم نار الجحيم الحاطمه
المصطفى والمرتضى وابنيهما والفاطمه

أضف رد جديد

العودة إلى ”مجلس السيرة وتراجم الأئمة“