نقد التجديد الديني (مقالات عبدالله حميد الدين)

هذا المجلس للحوار حول القضايا العامة والتي لا تندرج تحت التقسيمات الأخرى.
أضف رد جديد
عبدالوكيل التهامي
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 105
اشترك في: الخميس مارس 30, 2006 2:21 pm

نقد التجديد الديني (مقالات عبدالله حميد الدين)

مشاركة بواسطة عبدالوكيل التهامي »

بسم الله الرحمن الرحيم

"ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين"، توكلت على الله رب العالمين

نقد التجديد الديني (بحث تأجل نشره منذ نوفمبر 2010 للكثير من الأسباب)

قراءة بعض مقالات الأخ عبدالله حميد الدين في صحيفة الحياة السعودية محيرة وتحتاج لجهد لا بأس به لاستيعاب مراده أما قراءة ما بين السطور وما الذي يهدف إليه فهو ما يحتاج لجهد أكبر ويثير خلافا أكثر فما الذي أراده عندما قال كذا وكذا وهل يؤيد الفكرة الفلانية أم يرفضها؟ وهل أصبح الأخ عبدالله حميد الدين جزءا من المشروع السياسي والفكري للنظام السعودي؟ مشروع مبادرة السلام "الواقعي" ومشروع الليبرالية الفكرية "التحرري"؟
إذا حاولنا تحديد الاتجاه الفكري له فإننا حتما سنجد صعوبة وغاية ما سنصل إليه بعد التدقيق في مقالاته الأخيرة أنه عندما يكتب فإنه يحاول أن لا يضع نفسه في قالب جاهز ويحاول أن يصف ما يكتب عنه وصفا محايدا ويعمل بجد ليكون تحليله واقعيا بعيدا عن المثاليات حتى ولو كانت تلك المثاليات بعض الثوابت في مجتمعنا الإسلامي.
وأبرز انطباع بعد تأمل فكره أنه يعيش فترة مراجعة شاملة يحاول أن يثير بها جدلا محدودا ومدروسا ينفتح فيه على مختلف الآراء سيما الليبرالية والعلمانية منها ولا يتبنى فيه فكرة دون فكرة ولا يحشر نفسه في زاوية اعتقادات جازمة وأحكام قطعية، ولا أدري هل ستكشف الأيام عن برنامج زمني لطرح أفكار أخرى مثيرة للجدل في المستقبل؟
في موضوع "التجديد الديني" يتحدث الأخ عبدالله عن تيارين، تيار "شمولية التشريع الديني" ويشير به إلى الإسلام العتيق كما نعرفه، وتيار "شمولية معنى الدين" ويشير به إلى إسلام يقبل التغيير والتجديد.
وكما هو أسلوب الأخ عبدالله مؤخرا فإنه لم يعبر بصراحة عن تأييده لأحد التيارين دون الآخر إلا ان هناك الكثير من الإيحاءات بأنه يتبنى "تيار شمولية معنى الدين" بل إنه هو من اخترعه ويسعى بأن يجعله قسيما للإسلام.

ملخص لنظرية الأخ عبدالله عن التجديد الديني :

خلاصة النظرية أنه يقسم المسلمين إلى تيارين ، تيار يرى ثبات الشريعة الإسلامية وعدم جواز تغيير أحكامها اصطلح عليه بتيار "شمولية التشريع الديني" وتيار يرى عدم ثبات الشريعة الإسلامية ويرى انها تتغير كلما تغير وعي الإنسان كميا ونوعيا، كميا بالتراكم المعرفي ونوعيا بلقاء حضارات أخرى، ويبرر ذلك بأن الشريعة ما هي إلا نتاج تفاعل الإنسان مع الوحي، فإذا عرفنا ان الإنسان متغير، فإن نتاج هذا التفاعل لا بد أن يكون متغيرا ألا وهو الشريعة.
وبما أن الشريعة السابقة هي مجرد اجتهاد توصل إليه إنسان الأمس، أو مجرد وجهة نظر ساهمت جملة من المتغيرات في تكوينها بما في ذلك رؤيته لنفسه وللقوى المهيمنة على الكون، فلماذا نقدسها كما نقدس الوحي نفسه؟ فهي في النهاية ليست الوحي بل هي وجهة نظر معينة عن الوحي..
ولأن إنسان اليوم قد تغيرت رؤيته لنفسه وللقوى المهيمنة على الكون ولأن وعيه قد تراكم كما بالعلوم ونوعا بلقاء حضارات أخرى فمن الطبيعي أن قراءته للوحي ستختلف في نتاجها عن قراءة الإنسان السابق وبالتالي ستنتج شريعة جديدة قد تكون موافقة أو مخالفة في تفاصيلها للشريعة الأصلية.
وهذا النتاج الجديد أو الشريعة الجديدة هي اجتهاد أيضا وله نفس قيمة الاجتهاد القديم المسمى بالشريعة الأصلية.

حجر الزاوية في منطق الأخ عبدالله :


بعد أن حاولت تحليل المنطق الذي بنى عليه الأخ عبدالله للخروج بنظريته خلصت إلى أنه يستند على هذه القضايا وينطلق منها كمسلمات :

القضية الأولى: الإنسان قد تغير، رؤيته للكون ولنفسه قد تغيرت.
القضية الثانية: تفاعل إنسان اليوم مع الوحي لن ينتج بالضرورة نفس ما سينتجه تفاعل إنسان الأمس مع الوحي
القضية الثالثة: الاجتهاد متاح للجميع سيما لإنسان اليوم
القضية الرابعة: معظم الشريعة الإسلامية مبني على أدلة ظنية وذلك يعني الشك في ثبوتها.
القضية الخامسة: الأصول الأساسية المبنية على العقل هي الحاكم والمهيمن على أحكام الشريعة الظنية وذلك يعني أن بالإمكان إسقاط ما تعارض مع العقل منها.
القضية السادسة: الشريعة السابقة كانت نتاج رؤية أسطورية لكن الرؤية اليوم قد تغيرت وأصبحت علمية.
القضية السابعة: الشريعة السابقة كانت نتاج فلسفة عن نظام كوني يحكم كل شيء بما في ذلك الموقع الاجتماعي للفرد، ولكن الفلسفة اليوم تؤمن بأن الموقع الاجتماعي لا يخضع لأي نظام كوني بل هو نتيجة تفاعلات معقدة من الاختيارات وظروف الحظ.
القضية الثامنة: القرءان كتاب هداية وينبغي أن يكون ذلك مستوعبا لمتغير الحضارات والأزمان والأطوار لا أن يفرض فيه الفهم العربي على سواه من الأفهام.
القضية التاسعة: يجب أن نقرأ القرءان ونحن نستحضر أنه مخلوق بمعنى أنه قابل للزيادة والنقصان ومتغير بحسب الوقائع والزمان والمكان
مجموع القضايا: إنسان اليوم بالتغير في رؤيته للقوى المتحكمة في الكون وفلسفته عن الموقع الاجتماعي لن يتفاعل مع الوحي بحسب ذهنية إنسان الأمس برؤيته عن قوى الكون وفلسفته عن الموقع الاجتماعي ويحق له الاجتهاد مثل الإنسان السابق لكي تتحقق الهداية بالوحي ونتاج هذا الاجتهاد هو شريعة جديدة قد تكون موافقة أو مخالفة للشريعة القديمة.

---------------------------------

بعد هذا السرد الموجز لنظرية الأخ عبدالله ومسلماته سأتناول بالنقاش جملة ما ذهب إليه بحسب هذه الخطة :

الخط الأول: نقاش المسلمات التي انطلق منها
أ- القضية الأولى: الإنسان قد تغير، رؤيته للكون ولنفسه قد تغيرت (التغير الكمي – التغير النوعي).
ب- القضية الثانية: التفاعل مع الوحي يختلف من زمن إلى زمن ومن شخص إلى شخص (متغير التفاعل مع الوحي)
ج- القضية الثالثة: الاجتهاد متاح للجميع (بين الاجتهاد والليبرالية)
د- القضية الرابعة: الشريعة ظنية ومشكوك في صحتها (النصوص الظنية ووجوب العمل بها – الخلافات الفقهية – أصول الفقه)
هـ - القضية الخامسة: الأصول الأساسية والشرع (ما هي دلالة قولنا إن الله عدل - الثنائية بين العقل والشرع)
و- القضية السادسة والسابعة: الشريعة هي نتاج رؤية أسطورية ونظام كوني يحدد الموقع الاجتماعي
ز- القضية الثامنة: القرءان كتاب هداية للعرب وغيرهم
ح- القضية التاسعة: القرءان مخلوق
ط- مجموع القضايا السابقة

الخط الثاني : الدافع
أ- إقناع الغربيين والمستغربين بالإسلام
ب- الخشية على مستقبل الإسلام
ج- العيش في مجتمع وهابي جامد
د - الحياة المثالية في الغرب
و- هبت رياح النسبية

الخط الثالث : نقاط أخرى:
أ- ماذا أعطينا للمرأة
ب- التشابه مع الغرب أم التشابه مع السلفيين
ج- تقتله الفئة الباغية
د - كيف يتفاعل الناس مع نظريتك
هـ - التشريع بغير الشريعة
و - الأبعاد السياسية لفكرة التشريع بغير الشريعة

------------------
خاتمة الرسالة
----------

ملحق " تحليل الدين كظاهرة اجتماعية"
---------------------------------

عبدالوكيل التهامي
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 105
اشترك في: الخميس مارس 30, 2006 2:21 pm

Re: نقد التجديد الديني (مقالات عبدالله حميد الدين)

مشاركة بواسطة عبدالوكيل التهامي »

الخط الأول: المسلمات التي بنى عليها:

أ- القضية الأولى: الإنسان قد تغير، رؤيته للكون ولنفسه قد تغيرت:

الشريعة عندما نزلت فإنها نزلت على مجموعة من الأشخاص المتغايرين لكنها كانت ملزمة لهم جميعا رغم تغايرهم لأنها متعلقة بماهية الإنسان أو فطرته أو الثابت فيه، فإذا سلمنا أن الإنسان اليوم مغاير لإنسان الأمس فإننا لن نسلم بأن ماهية إنسان اليوم مغايرة لماهية إنسان الأمس ولن نسلم أن المخاطب بالشريعة هو إنسان الأمس فقط.
ففكرة التغير التي نصف بها الإنسان هي فكرة عامة ومتصورة ولكنها ليست شاملة، وليس معنى قبولنا بفكرة "تغير الإنسان" أن كل شيء فيه قد تغير بما في ذلك ماهيته وفطرته ومن زعم غير ذلك فعليه بالبيان والدليل.
وهذه الفكرة "تغير الإنسان" ومداها ليستا مادة لممارسة الاجتهاد الشرعي، فلا يسمى صاحب الرأي فيها "مجتهدا شرعيا" ولا يمكنه أن يحمي رأيه ويجعله مشروعا وأن يجعله موازيا لآراء الأئمة الهادين لمجرد أنه يقول إنه "يمارس حق الاجتهاد" فهذه الفكرة "تغير الإنسان" هي أحد مواد علم النفس والاجتماع وهما علمان حديثا النشأة ومازالا حافلين بالنظريات أكثر من الحقائق العلمية، ومن المجافاة للتحري والموضوعية أن يبني عليهما الباحث أي شيء فضلا أن يهدم شريعة الإسلام العتيقة بنظرياتهما.

(عنوان1) التغير الكمي في وعي الإنسان:

بالنسبة للتغير الكمي الحاصل نتيجة تراكم المعرفة الإنسانية فهذا التراكم إما أن يكون مصيبا أو أن يكون مخطئا، فإن أدى إلى تأييد شريعة الله فهو مصيب وإن أدى إلى التعارض مع شريعة الله فهو مخطئ
لأن الفرض الجوهري أن الشريعة هي أمر الله ونهيه وهو العليم المطلق والحكيم المطلق فمن المستحيل أن لا يتبين بالمعرفة السليمة أن الشريعة صواب، وأي تراكم معرفي سيتعارض مع هذه الحقيقة لا بد أن يكون خاطئا أو موجها لتحقيق أهداف أيديولوجية معينة كما هو الحال مع نظرية التطور.
ويمكن قراءة الفكرة بالعكس هكذا: المعارف التي تتراكم في تاريخ البشرية هي نوعان النوع الأول معارف مقطوع بصحتها والنوع الثاني معارف نظرية مظنون بصحتها، فالنوع الأول المقطوع بصحته من المستحيل أن يتعارض مع الشريعة الإلهية والتعارض هنا سيخلق إشكالا لا بد من حله، فلا بد من إسقاط أحد الطرفين المتعارضين فإما أن نسقط تلك المعرفة المقطوع بها ونسقط المنهج العلمي الذي استندت عليه أو نسقط جزئية معينة من الشريعة قد تنسحب على جميع الشريعة ونحكم باستحالة نسبتها إلى الله.
ولكن هل هناك معارف مقطوع بصحتها من الممكن أن نواجه معها تلك الوضعية الحرجة في النظر إلى الشريعة؟ إلى الآن لا يوجد.. وغاية ما نسمعه هنا وهناك هو مجرد نظريات لا بد من التحقق من قطعيتها، لكن أولا علينا الحذر من تأثيرات الترويج الفكري الموجه والذي يخدم أغراضا أيديولوجية مستخدما شعار العلم والحقائق العلمية، فالبعض ينخدع بالدعاية الجيدة لبعض النظريات ويظن أنها قد أصبحت حقائق معرفية قطعية، والخدع العلمية في التاريخ خير شاهد على ذلك؟
ومن زاوية أخرى بالنظر لهذه القضية فإن من الممكن أن نصنف المعارف إلى صنفين: الصنف الأول معارف تتعلق بالطبيعيات والصنف الثاني معارف تتعلق بالنفس المدرِكة، فالصنف الأول لا يتعلق بالشريعة إلا ما ندر ولا يمكن أن يوجد بينه وبين الشريعة ظاهرة تعارض، بينما الصنف الثاني صنف النفس المدركة وهو الذي يتعلق بالشريعة فمعارفه حتى الآن نظرية وغير قطعية لأن موضوعها في غاية التعقيد والإبهام ألا وهو النفس المدرِكة، ولذلك فأي تعارض بين معارف الصنف الثاني وبين الشريعة لن يكون له قيمة موضوعية بهذا الاعتبار.
وأنا أعلم جيدا أن الأخ عبدالله ينظر إلى شريعتنا من ناحية ثبوتها رؤية شك لأنها تبنى في معظمها على أدلة ظنية ولأن الاختلافات تتعاورها، ورغم أني لا أسلم بظنية الشريعة وسأتوسع في نقاش ذلك لاحقا (القضية الرابعة)، إلا إني سأفترض جدلا أن الشريعة ظنية في ثبوتها، ولن يلزمني من هذا الافتراض الجدلي إلا حدوث التعارض بين المعارف المقطوع بصحتها وبين الشريعة المظنون نسبتها إلى الله، أما المعارف المظنونة والخاطئة وما أكثرها فلن تقوى على إسقاط الشريعة التي سلمنا "جدلا" بظنية ثبوتها عن الله.

(عنوان2) التغير النوعي في وعي الإنسان :

أما بالنسبة للتغير النوعي الحاصل نتيجة لقاء حضارات أخرى سيما الكفرية والمادية منها فإما أن يكون هذا التغير في قضايا غير مناقضة لأسس الإسلام الغيبية التي جاء ليثبتها في وعي الناس كقضايا: تكتيكات الحرب أو سياسات الاقتصاد أو أسلوب العمارة أو ثقافة الطعام وذوق اللبس أو نظريات التقنين أو علم الإدارة أو تنمية الإنسان فهذا التغير لا يتعارض مع الإسلام في أساسه وتشريعه وفلسفته وبالتالي لن يرفض ابتداء وسينظر إلى تفاصيله لاتخاذ موقف تجاهه، هذا كان التغير النوعي الأول.
أما التغير النوعي الثاني فهو التغير الذي يتناول الفلسفة نفسها ويمس بنظرة الإنسان لنفسه ولقوى الكون من حوله، وهذا التغير قد يكون مضمونه مناقضا لأسس الإسلام الغيبية التي جاء ليثبتها في وعي الإنسان كأن تقوم تلك الحضارة على فلسفة مادية نفعية نسبية تبلورت على أنقاض الإيمان بالله بل إنها متطرفة في نظرتها العدائية للدين كتطرف الكنيسة في نظرتها القمعية للعلم فلا يصح أن يكون هذا التغير النوعي منطلقا لقراءة جديدة للوحي، أما لماذا قلنا ذلك؟
فالجواب يحتاج لتأمل ثلاث نقاط :

1- أن الله قد اختار الوعي العربي أساسا لقراءة تشريعات الوحي في زمن كان زاخرا بالحضارات وجعله حاكما عليها في مجال استنطاق القرءان والتوصل للشريعة، وهذا هو الأصل ومن زعم سواه فعليه بالدليل.
2- أن الدين الإسلامي أحدث تغييرات إيجابية في الوعي القرشي ولم يتشكل سلبيا في ذلك الوعي كالماء المصبوب في إناء بل أعاد تشكيل الإناء بثورية وشجاعة صدمت المجتمع الجاهلي وكان بإمكانه المضي قدما في ذلك التشكيل وتلك التغييرات ليشمل ما ستبتكره الحضارات القادمة من تشريعات أكثر أفضلية وأكثر حقوقية وأكثر تقدما من التعديلات الثورية التي أدخلها على الوعي القرشي ولكنه لم يفعل، فهل وقف علم الله عند هذا الحد ولم يتنبأ بأن هناك تشريعات تحقق العدالة أفضل من التعديلات التي اكتفى بها؟ أم معنى ذلك أن الله قد اختار أفضل صيغة تشريعية ممكنة لتحقيق العدالة؟
3- أن الوعي الغربي المادي النسبي ذا النزعة الإنسانية "النزعة الشهوانية" يقوم على أسس تناقض دين الإسلام، وقراءة القرءان من خلاله فكرة تنطوي على تناقض، فمن تأثر بالغرب نوعيا فإنه حتما لن يقرأ القرءان وهو يعتقد أنه وحي بل سيقرأه باعتباره كتابا عاديا.
فإن قرأه باعتباره وحيا وجزم بأنه كتاب الله جزما قاطعا وصدق كل ما فيه من الغيبيات واعتبر كل ما فيه من أمر ونهي وفق الدلالة العربية ملزما وأن هناك طائفة من الأحكام البلائية تقوم على التفاضل بين بني البشر وسيكون العوض عليها في الآخرة فمعنى ذلك أنه تخلى عن ماديته ونسبيته و"نزعته الإنسانية" في قراءة القرءان، وهو عندما يفعل ذلك فسيكون إما غير مستوعب لمعنى قراءة القرءان بوعي غربي، أو سيكون كاذبا في دعوى اعتبار القرءان وحيا من الله.
ولمزيد من التوضيح نقول: نعرف أن هناك فروقا حضارية نوعية بين وعي الإنسان المسلم، وبين وعي الإنسان في قريش أو في فارس أو في بيزنطة جعلته قد لا يستسيغ جملة من الأحكام، فإنسان فارس كانت حضارته تقوم على أساس طاغوتية كسرى أما إنسان قريش فكان يعتقد أن المرأة مجرد قطعة متاع أما إنسان روما فحضارته كانت تقوم على أساس أن عيسى هو المؤثر، وفي المقابل لم يكن الإسلام سلبيا إزاء تلك الفروق النوعية الحضارية ولم يقترح أن تتأقلم الشريعة مع تلك الحضارات كما يتأقلم الماء في الإناء بل أصر على تغيير الإناء لأنه كان مخالفا للأسس التي قام عليها ولم يُعفِ المتأثرين بتلك الحضارات من القراءة العربية للوحي أو من الالتزام بالشريعة الناتجة عن تلك القراءة بل زاد على ذلك بأنه فرض عليهم تغيير وعيهم الحضاري ليكون ملائما لوعي العرب المسلمين بالوحي أي بما يلائم أصول الإسلام والشريعة.
وهذا تماما ما ينطبق على إنسان اليوم ووعيه الحضاري بنفسه وبالقوى المسيطرة على الكون من حوله فالمعلوم أن الانبثاق الحقيقي لهذا الوعي كان بالثورة العلمية على الكنيسة في أوروبا والتي أوصلت الغربيين إلى ما وصلوا إليه من تقدم علمي باهر على أنقاض المؤسسة الدينية الظالمة، هذا ما جعل الربط بين التقدم العلمي الباهر وبين التخلص من المؤسسة الدينية أمرا مسلما به وواضحا جدا لدى الكثيرين وهو ما لا نسلم بعمومه.
ومن هنا وجدت فلسفات العلمانية والليبرالية والبراجماتية والنزعة الفردية والنسبية طريقها لكثير من العقول الحرة في العالم ومنها عقول كثير من المسلمين، ليحدث ما تكلم عنه الأخ عبدالله من تغير نوعي في وعيهم بلقاء حضارة أخرى ألا وهي الحضارة الأوروبية الغربية.
ما هو مضمون هذا التغير النوعي بعد لقاء الحضارة الأوروبية الغربية ؟
مضمونه باختصار: أن السبيل للتقدم العلمي والاجتماعي والاقتصادي والتخلص من الاستبداد والظلم والحصول على الحريات لا يكون إلا على أنقاض السلطة الدينية، وإسقاط السلطة الدينية هنا لا يكون فقط بالحؤول دون ديكتاتورية رجال الدين وتحريم توليهم السلطة العامة بل يتعدى ذلك بالتخلص من الشريعة الدينية التي فيها حلال وحرام والتي كانت أساسا لنفوذ رجال الدين وقد استغلوها مرارا للحد من الحريات الفردية والفكرية.
الثورة على ديكتاتورية رجال الدين في أوروبا كان لا بد أن تمر بالثورة على التشريع الديني وإسقاط قدسيته وإلا فإن الوصول للحريات الفردية كان ضربا من الخيال.

(فرع1) نظرة الإنسان لنفسه عند الغربيين:
بناء على هذا المضمون الثائر على الدين ورجاله وفي ظل النزعة الفردية تغيرت نظرة الإنسان لنفسه ولم يعد رجال الدين هم من يحدد له موقعه الاجتماعي مسبقا سيدا كان أو عبدا رجلا كان أو امرأة بل أصبحت قراراته ومواهبه الفردية وإرادته من يحدد له ذلك ومن جهة أخرى لم يعد للشريعة رأي في ما يحل له أو يحرم بل أصبح هو سيد نفسه حرا طليقا لكن في إطار القانون الذي تقرره البرلمانات حسب المصلحة وتوازنات القوى الاجتماعية ولا عبرة بما أمر الله أو نهى إلا إذا اختار الناس ذلك.
وبذلك فإن فكرة الابتلاء التشريعي وكل تشريع لا يمكن تبريره بالمصلحة الملموسة فهو طقوس اختيارية لا إلزام فيها وكل مساواة لا تتطابق فيها الأحكام فهي ظلم ومن هنا فقط ستنبثق الحرية الحقيقة والمساواة والعدالة.
وذلك التقويض لفكرة الابتلاء التشريعي يعود أساسا إلى عدم الثقة أن هناك دين لله أصلا لأن هناك شك في وجود الله ثم هناك شك في صحة أي وحي ثم هناك شك في مدى نقاء ذلك الوحي بعد تلك القرون من التحريف والعقليات المتخلفة التي قرأته والمؤسسات الدينية التي نقلته وصاغته بناء على مصالحها.

(فرع2) نظرة الإنسان للقوى المسيطرة على الكون من حوله عند الغربيين :
ومن جهة أخرى وبناء على هذا المضمون الثائر على الدين ورجاله وفي ظل الشك المنهجي والمذهب الحسي التجريبي تغيرت نظرة الإنسان للقوى المسيطرة على الكون من حوله فلم تعد الغيبيات هي الإجابة كما كانت في السابق وأصبحت الإجابات التي لا يمكن تأكيدها حسيا بالتجربة في المعمل إجابات لا قيمة لها بل أصبحت القضايا التي يتم طرحها للنقاش ولا يمكن قياسها الحسي بالتجربة في المعمل مجرد لغو، وبالتالي فإن فكرة الله الغيبية التي لا يمكن قياسها حسيا بالتجربة في المعمل أصبحت فكرة مشكوكا بصحتها بل فكرة مناقضة للعلم و محطا لسخرية المتنورين وتعبيرا عن الماضي المظلم المتخلف، وكذلك الحال بالنسبة لجميع الغيبيات الأخرى كالملائكة والوحي والرسل والمعجزات والجن والشياطين والبرزخ والبعث والمعاد.

(فرع3) قيمة هذا التغيير النوعي:
من الواضح أن هذا التغير النوعي لن يتم إلا على أنقاض الأسس التي قام عليها الإسلام، فالإسلام يقوم على الإيمان بجملة من الغيبيات إيمانا قاطعا جازما، كما أن الإسلام يقوم على فكرة الابتلاء التشريعي والاصطفاء فإن أدى ذلك التغير النوعي إلى التشكيك في هذه الأسس الإسلامية وفتح باب الاجتهاد فيها فإن ذلك يعني أننا سنعيد النظر في دين الإسلام كرسالة خاتمة من الله وأننا ننزع قدسيته تماما ومثل هذا من المستحيل وصفه بالاجتهاد الإسلامي لأنه ينطوي على تناقض.

(فرع4) قيمة إسقاط التجربة الأوروبية على الإسلام:
بعض المثقفين يقرأون التجربة الأوروبية التي صارعت الكنيسة باعتبارها صراعا مع كل دين بما في ذلك الإسلام، ولذلك فليس من الغريب أنهم يخلصون لتعميمات كثيرة خاطئة منها:
- الدين عموما عائق للتقدم العلمي
- الدين عموما لا يمت بصلة إلى الله
- الوحي الديني محل شك في نسبته إلى الله
- الغيبيات الدينية هي نتاج نظرة أسطورية وليست من الله.
ومن الواضح أن تلك التعميمات هي تعميمات خاطئة ولا يصح تصديقها على الإسلام، على الأقل بالنسبة لنا كمسلمين يعلمون جيدا أن الدين الكنسي هو دين محرف وأن الكهان يشترون بآيات الله ثمنا قليلا وأنهم من اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله.
فإذا لم تكن تلك التعميمات صحيحة فعلى أي أساس حدث التغير النوعي لدى بعض المسلمين؟ وإذا كانت صحيحة فمعنى ذلك أنهم يعتقدون أن دين الإسلام ليس منسوبا إلى الله وأنه تعرض للتحريف عبر القرون فلا معنى إذن لنظريات التجديد الديني وليقولوا بكل صراحة "لنترك دين الإسلام الذي لا نعلم مدى صحته ولننعم في رحاب العلمانية والمادية بالحريات والمصلحة والتقدم العلمي والاجتماعي والاقتصادي".

(فرع5) خلاصة الفكرة :
لا يصح أن يكون التغير النوعي الناتج بلقاء حضارات أخرى أساسا جديدا لقراءة الوحي سيما وتلك الحضارات تتعارض في أسسها مع أسس الدين الإسلامي، فالحضارة الغربية مثلا تقوم على أساس مادي ينكر الغيبيات وعلى نزعة فردية تنكر الابتلاء التشريعي وعندما تكون هذه الحضارة خلفية لقراءة الوحي فذلك ينطوي على تناقض فضلا عن كونه اقتراحا بدون دليل بل مناقضا لما حدث في التاريخ من فرض الوعي العربي الإسلامي الذي اختاره الله على جميع الحضارات الأخرى لا التأقلم معها كما يتأقلم الماء في الإناء.

(فرع6) بعض التطبيقات المحتملة بعد التغير النوعي :
عندما يقرأ أحدهم الوحي في ظل تغير نوعي غربي طرأ على تفكيره فليس من البعيد أنه سيقرأ الوحي مستبعدا الأحكام الشرعية البلائية والتي لا فائدة ملموسة منها في الدنيا ويكون العوض عنها في الآخرة، وعلى الأقل إذا لم يفعل ذلك فإنه سيستنتج أن العمل بهذه الأحكام هو اختياري لا إلزامي.
وعلى ذلك فإن العبادات ستكون اختيارية لا إلزامية (والإلزام الذي أعنيه هنا هو الإلزام الشرعي لا الجسدي القانوني)، كما أن فكرة التفاضل بين الرجال والنساء في الأحكام كابتلاء والعوض عن ذلك في الآخرة لن تكون مقبولة من حيث المبدأ وسيتم استبعادها قبل النظر في الدليل.
كما وسيكون من المعقول لأولئك المتغير وعيهم نوعيا أن يحلل أحدهم ظاهرة الوحي في إطار نظرته العلمية الجديدة لقوى الكون منكرا جملة الغيبيات في الإسلام وتأويلها برموز أو ما شابه تليق من وجهة نظره بعصر العلم والتجربة فيصح حينئذ أن يكون الله هو الطاقة الخالصة أو أنه المادة عالية الكثافة قبل الانفجار الكبير وأن يكون اليوم الآخر هو الوصول إلى ذروة "الكارما" وأن يكون الملائكة هم الكواركات وأن يكون الجن هم المادة المظلمة وأن تكون النبوة اضطرابا نفسيا وانفصاما في الشخصية (لكن بغرض الإصلاح)، وسيعني ذلك أن الإلحاد والاستهزاء بالقرءان وإفراغ الدين من محتواه من الممكن أن يرتكز مستقبلا على نص قرءاني في ظل نظرية الأخ عبدالله.

(عنوان 3) الإنسان ليس الإنسان :

رغم أنك لا تعول كثيرا على الدليل الظني إلا أنك لم تجد مشكلة في تأسيس بنائك النظري على مقولة غير واضحة ولا ثابتة وهي "متغير أطوار الإنسان" الذي هو أقرب ما يمكن إلى وصفه بالدعوى المجهولة القائمة على رمال متحركة، وحتى إن ثبت هذا المتغير حقا وعُلم مقدارا ونوعا واتجاها فإنه لا يصح كدليل لأنه ذو قيمة مجهولة كما ونوعا - في أحسن أحواله - ومع تسليمك بأنه يتعارض مع الأصول الأساسية في الإسلام فإنك وبحسب منطقك في إسقاط أصول الفقه "الظني" تسقطه أيضا من الاعتبار إلا لو كنت ممن ينظر إلى الأشياء بعين واحدة لا بعينين.
ولنفرض جدلا أن الإنسان قد تغير كما تقول ... ولكننا لن نتفق هل تغير بالقدر الذي أصبح به لا يتلاءم به مع الشريعة وبما يقتضي تغيير الشريعة؟ هذا كما هو واضح تعد على اختصاصات الله ويحتاج لدليل قطعي وواضح جدا يبرره وينسبه إلى الله، فالأصل هو استصحاب الحال الأولى للتشريع، وضربك المثل بحدوث النسخ سابقا لا يبرر نسخك الشريعة اليوم لأن النسخ هو اختصاص الله عبر أنبيائه الموحى إليهم وأنت لا يوحى إليك.
ثم إن بناءك المنطقي المرتكز على قضية "لقد تغير الإنسان" مشفوع بالإيهام، لأنك تتحدث عن تغير عام بدون تحديد وكأن إنسان اليوم قد أصبح كائنا آخر مغايرا لإنسان الأمس بحيث لم تعد الشريعة العتيقة ملائمة له وأنت تستغل بذلك تصور الناس للفروق الموجودة بين إنسان اليوم والأمس من حيث الشكل والثقافة والهوايات وهي أمور سطحية لا تعني تغير فطرة الإنسان وماهيته التي يعلمها الله أكثر من الإنسان نفسه - تلك الفطرة والماهية التي هي مناط التشريع.
وعليك أن تجيب نفسك: كم هو مقدار التغير النوعي اللازم لتبرير عدم ملائمة التشريع لجيل من الأجيال؟ هل لديك ميزان قطعي دقيق لقياس ذلك؟
وقضية كقضية "الإنسان قد تغير" ليست موضوعا للاجتهاد الإسلامي لكي نصف أصحاب وجهات النظر فيها بأنهم مجتهدون إسلاميون، بل هي قضية تتعلق بعلم الاجتماع وربما العلوم النفسية وهذه المجالات ليست علوما - وإن سميت علوما - بل هي فلسفات ومن الخطأ الموضوعي الاعتماد عليها باعتبارها حقائق علمية أو الانطلاق منها لاستنطاق الوحي والشريعة وهو نفس الخطأ الموضوعي الذي وقع فيه بعض المنبهرين بالماركسية باعتبارها "النظرية العلمية" ثم قرءوا الوحي على أساس ذلك الانبهار.
------------------------------

عبدالوكيل التهامي
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 105
اشترك في: الخميس مارس 30, 2006 2:21 pm

Re: نقد التجديد الديني (مقالات عبدالله حميد الدين)

مشاركة بواسطة عبدالوكيل التهامي »

ب- القضية الثانية: التفاعل مع الوحي يختلف من شخص إلى شخص ومن زمن إلى زمن:


الفكرة الأساسية في هذه القضية هي أن الشخص الذي يتفاعل مع الوحي لا يمكن أن يتخلص من تأثيرات ذاته كليا !! وحتى بعد التسليم جدلا أنه يستطيع التخلص من بعض ذلك التأثير فإنه لن يستطيع الخروج تماما من ذاته، وسيبقى كل اجتهاد في النهاية هو وجهة نظر ذات تفاعلت مع وحي والتجرد وإن حد من ذلك فإنه لا يلغيه.
فإذا سلمنا بما سبق، وبما أن التفاعل مع الوحي ليس هو الوحي نفسه فمن الخطأ أن نقدسه كما نقدس الوحي لأنه في النهاية مجرد وجهة نظر خاصة بصاحبه تتغير من شخص إلى شخص ومن زمن إلى زمن
إذن لدينا "ثابت الوحي" الذي هو مقدس وثابت كما أن لدينا "متغير التفاعل مع الوحي" الذي هو نسبي ومتغير حسب الشخص والزمن فلا ينبغي أن نخلط بين المفهومين لأننا نخلط حينئذ بين المقدس وبين غير المقدس.
والملاحظ أن هذه المشكلة هي إسقاط لمشكلة فلسفية شهيرة تتبناها الفلسفة المثالية التي تتناول فلسفة المعرفة وفلسفة الوجود وتشكك في إمكان أية معرفة موضوعية ولذلك كان من الطبيعي أن لا يكون لها قيمة علمية تذكر فهي فلسفة جدلية يمكن اعتبارها سفسطة معاصرة، فالضحية المباشرة لاعتناق هذه الفلسفة المثالية هو العلوم الطبيعية فلا قيمة فلسفية للعلوم الطبيعية في ظلها.
فإذا كانت هذه المشكلة الفلسفية هي مشكلة جدلية تتعلق بنظرية المعرفة والوجود معا وتنسف أي إمكان لمعرفة علمية بما يعارض الحدس فإن إسقاطها على الوحي خطأ أكبر وأعمق لأنه قياس صامت (الطبيعة) على متكلم (الله) لأن المفترض بالوحي أن يكون خطابا واضحا مبينا من الله تتم به الحجة على عباده بينما تلك المشكلة الفلسفية الشهيرة متعلقة بالطبيعة الصماء – متناولا وجودها ومعرفتها .
وعلى كل لنفترض أن كلام الأخ عبدالله على عمومه صحيح بالنسبة لاستحالة التخلص من تأثير الذات ولكنه لن يكون صحيحا بالمطلق بل سيتعلق بجزء يسير جدا من الوحي ولن يتعلق بمعظم الوحي، فمعظم الوحي ليس ألغازا يستعصي فهمها أو تتعدد قراءتها بحيث يكون للذات تأثير في تشويهها وعدم النظر إليها بنقاء وصفاء كما أراد الله تعالى إيصالها، وإن كانت هناك نصوص تطرح احتمالات متعددة لفهم نص معين في إطار السياق واللغة العربية فهي احتمالات محدودة وليست مفتوحة، بمعنى أن بعض النصوص تطرح احتمالين أو ثلاثة فقط بسبب السياق واللغة العربية ولا يعني أن بإمكاننا فهمها كما نشاء حسب المتغيرات الثقافية والتيارات العالمية، علما بأن تلك الاحتمالات قد أشبعت درسا ممن كانوا أدرى باللغة والسياق وأدت إلى مذاهب واتجاهات مختلفة تمت مناقشتها وتحديد الموقف منها، وأصبح الحديث عن فتح باب الاحتمالات في نفس النصوص اليوم أقرب إلى الأدلجة منه إلى البحث العلمي الموضوعي.
وغني عن القول أن تلك المذاهب إنما أقرت في ظل شروط في شخصية المجتهد وشروط في موضوع الاجتهاد، فالمجتهد كلما قويت آلة الاجتهاد لديه وهي اللغة العربية والإلمام بنصوص وخلفية الوحي وامتلاك ذهن فطن وقاد كلما زاد احتمال إدراكه لمراد الله بدقة أكبر والنص محل الاجتهاد كلما كان مباشرا وواضحا ولا يطرح أي احتمالات فإن خلفية الذات عند قراءته ستنعدم.
وأكرر إن هذه الإشكالية هي نفس الإشكالية الفلسفية النسبية التي تتناول معرفة الواقع وتتناول وجوده، وهي إحدى مشاكل تسرب النسبية إلى العقول وقد تؤدي في صورتها المتطرفة إلى إنكار الواقع الموضوعي وإنكار قدرتنا على معرفته كما هو، وسيمس ذلك قيمة كل العلوم والحقائق بالشك سواء العقلية منها والطبيعية والدينية !!! ولو صح ذلك لكانت كتابات الأخ عبدالله لغوا لأنه يخاطب بها جمهورا تشك هذه القضية في وجودهم وتشك في قدرتهم عموما على تبين مراده، والحقيقة أنه إنما كتبها لكي يتبين الآخرون مراده لأنه يجزم بأن ذاتيتهم لن تكون حائلا لإدراك ذلك المراد إلا لعلة موضوعية أخرى ليست الذاتية.
ولنفترض جدلا أننا لا نستطيع أن نتجرد عن ذواتنا عند قراءة الوحي، فإن ذلك العجز عن التجرد سيكون معلوما بالقطع لله الذي يخاطبنا ويحملنا الحجة بلغة معينة وفي سياق معين، و العبرة حينئذ هي بفهم الذوات التي اختارها الله ابتداء لقراءة الوحي، وأي كلام آخر لا بد أن يقوم على دليل قوي وواضح وإلا فلا قيمة له.

(عنوان 1) هل بالإمكان التعرف على الوحي بشكل موضوعي مستقل عن الذاتية ؟

يمكننا قراءة القضية الرئيسية بصيغة أخرى قد تفتح لنا نافذة أخرى لتفهم الإشكال وحل المشكلة وتتمثل هذه الصيغة بالسؤال التالي: بما أن الوحي هو الصيغة اللغوية للتعبير عن إرادة الله.. فهل بالإمكان التعرف على الوحي بشكل موضوعي مستقل عن الذاتية؟ فالفكرة الأساسية في القضية الرئيسية هي أن الوحي معزول عن الإدراك الموضوعي ولا يمكن قراءته بدون أن تتداخل العوامل الذاتية لدى القارئ والتي ستؤثر على نقاء القراءة!! وفي ظل هذه النظرية فأي قراءة للوحي لن تكون مقدسة بل ستكون مجرد محاولة لا يمكن فصلها عن الشوائب ويمكن التعبير عن هذه الفكرة بـ"متغير التفاعل" فكل إنسان يتعامل مع القرءان إنما يتفاعل معه بشكل مغاير للآخرين حسب ثقافته وذكائه وخلفيته الفكرية والاجتماعية وزمنه ولذلك فالوحي خاضع لمتغير التفاعل عند قراءته ولا يمكن فصله عنه وبناء على ما سبق فلا يمكن أن نجعل قراءة إنسان حاكمة على قراءة إنسان آخر سيما إن كانا في زمنين متباعدين.

نقاش هذا الفرض : مثلما نستطيع التعرف على قوانين الطبيعة واستنطاقها باستقرائها دون أن تحول ذواتنا للوصول إلى معرفة موضوعية دقيقة فإن بإمكاننا استنطاق الوحي ومعرفته معرفة موضوعية دقيقة دون أن تحول ذواتنا دون ذلك ومثلما نعتمد في تعرفنا على قوانين الطبيعية على مناهج علمية وثوابت تضمن لنا الحصول على معايير وموازين دقيقة نستطيع أن نفرز بها الغث من السمين بحيث نستطيع الجزم بأن هذا صواب وهذا خطأ فإن بإمكاننا الاعتماد على معايير وموازين وثوابت دقيقة نستطيع أن نفرز بها الغث من السمين والصواب من الخطأ !!
وبالنسبة لقوانين الطبيعة فإن استنطاقها يعتمد على ثلاثة ثوابت رئيسية لا يمكن الاستغناء عنها :

الثابت الأول: هو وجود الطبيعة وإمكان التعرف عليها فالتشكيك في وجود الطبيعة أو في إمكان التعرف عليها يقتضي اللغو والوقوع في التناقض.
الثابت الثاني: اطراد قوانينها " لغة الطبيعة" وأفضل طريقة لقراءة تلك اللغة هي الاستقراء فإذا لم تكن للطبيعة لغة فلا يمكن أن نفهم قوانينها والفرق أن التعرف على لغة الطبيعة هو تراكمي يزيد بتقدم العلوم وقد يكون هذا الجيل أكثر إلماما بلغة الطبيعة من الأجيال السابقة، بخلاف اللغة العربية التي ينقص الإلمام بها منذ جيل الوحي وحتى جيلنا هذا.
الثابت الثالث: المنطق

وأي محاولة للتعرف على قوانين الطبيعة دون التسليم بهذه الثوابت الثلاثة هي محاولة ستكون خارج الاطار العلمي والمعرفي ولا قيمة لها، هذا من ناحية ومن ناحية ثانية يمكننا بتفعيل هذه الثوابت الثلاثة أن نفرز أي رأي أو قول يتبنى وجهة نظر علمية وأن نحدد ما هو الأقوى والأقرب للصواب منها.

وبالنسبة للوحي فإن قراءته تتعلق بثلاث ثوابت لا يصح منطقيا تغيرها :

- الثابت الأول هو النص فإن أعاد أحدهم النظر في ثبوته فإن ذلك لن يكون من داخل الإسلام أو على الأقل لا يصح منطقيا أن يوصف بأنه "مجتهد إسلامي" لأن هذا مما يلزم معه الدور
- الثابت الثاني هو اللغة العربية، فإن اعتمد أحدهم غير اللغة العربية الجاهلية الفصيحة في قراءة الوحي فقد أسقط الآلة المعيارية الأساسية التي يمكن بها فهم الوحي وهو كمن يأمر الأعمى بالمشاهدة وهذا لغو واضح.
- الثابت الثالث هو المنطق فإن أعاد أحدهم النظر فيه وفي قواعده ولم يلتزم بها عند قراءة الوحي فغني عن القول إن اجتهاده لن يكون منطقيا وسنعدم الطريقة لقياسه ومعرفة صحته من خطأه وسينطوي على تناقض حاد

فإذا أدركنا بهذه الثوابت الثلاثة فإن مشكلة النسبية في قراءتنا للوحي ستتحول إلى مشكلة استكشاف موضوعي قابل للقياس يكون حجة على الجميع يستوي في ذلك من قرأه ومن لم يقرأه وهو ممكن فلسفيا إن توفرت شروطه القياسية.
وفي ظل حيرتنا: أي القراءات مطابقة بشكل موضوعي للوحي، سيتوفر لدينا ثلاث فلترات لغربلة القراءات المتباينة للوحي الواحد لنتوصل في النهاية لمقياس موضوعي ندرك به مدى إدراكها لمراد الله من وحيه.
وإن أصبحت مشكلتنا هي الاستكشاف الموضوعي للوحي فإننا سنمر خلال رحلة استكشافنا بنصوص تكون أوضح من غيرها للاستكشاف سنعرف مباشرة أنها مطابقة لمراد الله، وسنمر بنصوص غامضة وأخرى ملتبسة تنتج عنها وجهات نظر متباينة وهنا يكون بمقدورنا قياسها بالثوابت الثلاثة والترجيح بينها باعتبار أن واحدا منها هو مراد الله لا باعتبار أنه لا مراد لله فيها أو أنه لا يمكن إدراك مراد لله منها وهناك فرق فتأملوا.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هو مصير مشكلة الذاتية بعد التسليم بهذه الثوابت الثلاثة؟ الجواب: إن مشكلة الذاتية في حال تسليمنا بهذه الثوابت الثلاثة ستحل لأننا بصدد معايير موضوعية لإدراك الوحي كما هو بشكل موضوعي مستقل عن ذواتنا.
أما "ثابت اللغة" فهو الثابت الحاسم لأي تعارض في قراءة الوحي بين جيلنا وجيل الأقدمين، لأن اللغة العربية هي ترجمان الوحي والأداة التي اختارها الله للتعبير عن مراده بآيات بينات، وبسبب ضعف علاقتنا باللغة – وإن كنا ننطق بها - وابتعادنا عن بيئتها السليقية الفصيحة فإن قراءتنا لن توازي أي قراءة للأقدمين، بل ستبدو قراءة متكلفة وغير موضوعية مهما استندت على القواميس والتحليلات لسبب يفرضه المنطق ألا وهو تقديم التخصص والإدراك والسليقية في"اللغة" على التعلم والتكلف والقواميس.
أما "ثابت النص" فهو متعلق بالظروف والملابسات التي أحاطت بالنص وكلما كنا على معرفة بتلك الظروف والملابسات كان إدراكنا لمراد المتكلم منها أقرب، وعلى ذلك فهناك أقسام تتفرع من "ثابت النص" أولها المنطوق المباشر عن الله "القرءان" وثانيها فهم النبي لذلك المنطوق وبيان تفاصيله وطريقة تطبيقه على أرض الواقع "السنة" فهذا الفهم وهذا البيان وهذا التطبيق هو جزء لا يتجزأ من الوحي، بل يكاد يكون الجزء الأهم والفيصل بين الباطل والحق وبين الجهل والعلم فيه، ومن إدراك مضمون هذا الثابت نعرف أنه كلما زاد إلمام القارئ بمعطيات الوحي كلما كانت قراءته أدق وأقرب إلى مراد المتكلم، وفي هذا المجال المعلوم ندرك أن أي تنافس بيننا وبين الأقدمين الذين اتصلوا مباشرة بالرسول والرعيل الأول فالأول في مجال الإلمام بمعطيات الوحي لن يكون في مصلحتنا، فنحن البعيدون جدا عن عصر الرسالة نجد أنفسنا عاجزين عن الإلمام بالنص بحيث اكتفى بعضنا بالاعتراف بالمنطوق المباشر عن الله منه "القرءان" منكرا ثبوت بقية الوحي رغم عدم قدرته على إنكار وجوده أو وقوعه!! فمن ذا الذي سينكر أن النبي قد فسر القرءان وبيّن مجملَه وخصص عامّه وطبقه على أرض الواقع؟ فإذن من يحاول فهم الوحي وهو يجهل الجزء التفصيلي والعملي والتطبيقي - الجزء الأكبر منه – ليس كمن يقرأ الوحي وهو ضليع بكل ذلك، هكذا يقضي العقل والمنطق، وبذلك فلا تستوي قراءة الجاهل مع قراءة العالم في القيمة المعرفية وبالتالي فالتفاوت بين القراءتين لا يطرح أي مشكلة قد تضطرنا للاعتقاد بعدم إمكان إدراكنا للوحي كما هو وغاية ما في الأمر أن أحد القراءتين تعاني قصورا أكثر في المعطيات أدى بها إلى قصور في الإدراك.

(فرع1) اغتيال فلان بن فلان
ولبيان فكرة الاستكشاف الموضوعي أورد هذا المثال: إذا كان كلام الله خاضعا "لمتغير التفاعل" فإن كلامي وكلامك أخي عبدالله خاضع أيضا لذلك المتغير، ولنفترض أن أحد المتشددين قد قرأ مقالي بحسب نظرية "متغير التفاعل" وتفاعل معه بحسب عقليته وزاوية رؤيته وفهم منه الدعوة للكفر فأهدر دمي ونفذ الحكم فعلا فهل هو معذور باعتباره مجتهدا في العدوان علي؟ بناء على منهجك سيكون معذورا وسيسمى مجتهدا وينبغي علينا أن نتعامل مع فتواه في حقي بأنها جزء صحيح من الإسلام لأنه تفاعل مع النص بطريقة مختلفة عما يتفاعل بها الآخرون ويجب علينا أن نعتبر عدوانه اجتهادا حتى وإن كانت طريقته في القراءة شاذة وعدوانية.
بينما وبناء على الثوابت الثلاثة فإنه لن يكون معذورا وسيكون مدانا وسيقال له: أنت لم تفهم مراد الأخ فلان بن فلان فهو لم يرد الدعوة للكفر وإنما يحاول أن يبتكر نظرية جديدة يكون بها الإسلام مقبولا لدى أبناء الجيل الجديد، فإن قال لم ألمس ذلك من الزاوية التي أرى منها فإنا سنقول له لا عبرة بلمسك ذلك أو عدم لمسك والعبرة في النهاية هي بمراد الأخ فلان بن فلان وكونك قاصرا عن فهم مراده لا يعني تعدد مراد الأخ فلان بن فلان ولا نسبيته، فهل يمكن أن نقنعه بقدرته على إدراك مرادي أخي عبدالله أكثر من قدرته على إدراك مراد الله الذي أنزل القرءان آيات بينات؟
وهل يمكن أن تقترح أنه يمكنك إيضاح مرادك أكثر من قدرة الله على إيضاح مراده سيما وهو يعتبر عزوجل أن ذلك الإيضاح هو الحجة له على الناس؟
وعندما تتكلم أخي عبدالله فإنك تتكلم لكي يدرك الآخرون مرادك إلا إن كنت محتالا أو معتوها، وعندما تتكلم ولا يدرك أحدهم مرادك ويحرفه عن معناه فإنك قد تستاء من غبائه، فكيف تجوز كل ذلك في حق الله وبيانه ومراده وهو أبلغ البلغاء؟
فإذا كنت ستستاء من غبائه عندما أساء فهمك و حرف كلامك عن معناه وأنت البليغ الفصيح فإنك لا بد أن تصنف القراء لمقالاتك والمدركين لمغزاك ومرادك إلى أربعة أصناف:

- الصنف الأول : الصنف الذكي المثقف المتحري القادر على فهمك وتفهم وجهة نظرك وقراءة ما بين السطور .
- الصنف الثاني : الصنف الذكي المراوغ القادر على فهمك وتفهمك ولكنه يأبى إلا أن يحرف كلامك عن معناه.
- الصنف الثالث : الصنف متوسط العقل والثقافة لكنه متحري يجد صعوبة في فهم مرادك ويحاول جهده ولكنه لا يصيب إلا البعض وكان بإمكانه سؤال من هو أكثر منه ثقافة وذكاء لاستيضاح مرادك.
- الصنف الرابع : الصنف ضعيف العقل والثقافة وضعيف التحري يجتزئ طرفا من مقالاتك ويحمل كلامك ما لا يحتمله ويبدأ في مجاملتك أو محاكمتك.
وما بين هذه الأصناف تجد أن مرادك المخبوء في مقالاتك الذي تريد أن يفهمه الآخرون فلا بد من توفر شرطين:

- الشرط الأول: أن تكون أنت متكلما فصيحا وبليغا وحكيما في الترتيب والطرح وملما بالموضوع الذي تكتب فيه، ومهما بلغت فصاحتك وبلاغتك وحكمتك وإلمامك فلن يكون شيئا بالمقارنة مع فصاحة الله وبلاغته وحكمته وإلمامه بأبعاد الأمور وخبايا الأنفس ومعادلات الزمن.
- الشرط الثاني: أن يمتلك القارئ لمقالاتك المكتوبة باللغة العربية لغة عربية عالية المستوى وذكاء لا بأس به للربط بين المعلومات وثقافة جيدة لإدراك المصطلحات، فمن غير المعقول أن تتوقع من شخص هندي أن يقرأ مقالك العربي ويفهمه وحتى لو بدأ في تعلم اللغة العربية فإنه قد يفهم كلمة هنا أو هناك ولكن من البعيد جدا أن يدرك أبعاد مقالك وعمق مرادك!! بل إني سأذهب أبعد من ذلك فحتى لو كان الشخص الذي سيقرأ مقالاتك عربي النشأة والبيئة والمنطق فذلك لا يكفي لكي يفهم مقالاتك ويدرك عمق مرادك منها بل يجب أن يكون ذا مستوى معين في اللغة العربية لكي يفهم المقالات الفكرية والفلسفية العميقة.
كما أن من غير المعقول أن تتوقع من شخص أمي مستوى ذكائه دون المتوسط أن يفهم مقالاتك ويدرك عمق مرادك منها، وحتى لو كان الشخص عربيا سليقيا وألمعيا ذكيا فإنه يحتاج أيضا لإدراك السياق الذي جاءت فيه والخلفية الاجتماعية والسياسية والفكرية للكاتب وللموضوع المكتوب عنه وفحوى الكثير من المصطلحات التي تسردها في مقالاتك ولديه خلفية عن طبيعة المشكلة التي تطرحها وتناقشها.
وبعد هذا العرض السريع يمكننا أن نتأكد أن تنوع الذوات التي تقرأ مقالاتك لا تعني نفي القدرة على الإدراك الموضوعي لتلك المقالات ولا تعني تعدد مرادك منها ولا تعني أن تلك القراءات متساوية في القيمة المعرفية ولن يبقى هناك مكان "لمشكلة الذاتية".

(فرع2) القرءان كتاب هداية للبشرية جمعاء لا للعرب فقط:
وهنا قد تستدرك قائلا: أليس كتاب الله هداية لجميع البشرية ولم ينزل للعرب فقط فكيف نقصر فهمه وإدراك مراد الله فيه على من يتقنون اللغة العربية ونختزله في زمن معين؟
القرءان كتاب هداية لجميع البشر ولكنه يحتاج آلة لفهمه وإدراك مراد الله فيه والآلة هي إتقان اللغة العربية والإحاطة بمغازيها وأبعادها سيما في زمن النزول وعلى ذلك فالاهتداء بالقرءان ليس ميسورا لجميع الناطقين باللغة العربية فرب ناطق بلغة العرب لكنه أعجمي القلب واللسان، وكلما ابتعدنا عن زمن النزول فإن الهوة تزيد وتتسع وعدد القادرين على استنطاق القرءان بشكل موضوعي يقل بل يكاد ينعدم.
وحتى لو تكلم الله بكلام مسموع لهداية جميع البشر فإنهم يحتاجون آلة لسماع ذلك الكلام ألا وهي السمع فإن وجد أشخاص صم فعليهم الاستفادة من بقية حواسهم لتقصي كلام الله الذي لم يسمعوه عبر من امتلك آلة وسمعه وهذا هو تكليفهم، ولا يعني ذلك بحال من الأحوال سقوط تكليفهم بل قد يعني أن مسؤوليتهم في تبليغ الدعوة أقل ممن امتلك الآلة.
ولذلك فإن قضايا مثل قضايا الأمر والنهي في القرءان وإدراك مراد الله فيها قد تم وانقضى ومضى وأغلقت الملفات فيه على احتمالات معينة كان النص يطرحها، وعندما يأتي شخص اليوم لاستنطاق القرءان الكريم باحتمالات جديدة بعد انبهاره بحضارات أخرى فهذا ليس ببحث موضوعي بل هو بحث موجه ولا يسمى اجتهادا مهما استند على القواميس والتحليلات اللغوية.
كما يجب علينا التفريق بين طائفتين من الآيات في القرءان الكريم ، الطائفة الأولى هي طائفة الأوامر والنواهي والتي يمكن استنباط التشريعات منها، والطائفة الثانية هي ما عدا الأوامر والنواهي، فأما الطائفة الأولى فإن الاهتداء بها لا يقتضي ضرورة معرفة أبعادها وفلسفاتها بل مجرد تطبيقها وتبليغ جميع البشر بها ليتوحد الناس بفعلها على دين ربهم من أول وهلة للوحي حتى الساعة، فلم يشترط القرءان الكريم أن يتوصل كل فرد من المسلمين العرب لحكم الله بقراءة القرءان مباشرة باعتباره كتاب هداية للجميع بل أمر البعض بالنفرة ليتفقهوا في الدين ولينذورا قومهم إذا رجعوا إليهم، فاكتفى هنا بتفقه البعض ثم أمرهم بإبلاغ الأغلبية المشتغلة بأمور أخرى دون أن يتخلى عن شعاره بهداية العالمين، فلا تناقض بين كون القرءان هداية العالمين وبين احتياج فهمه لشروط معينة لا تتيسر لجميع الناس بل تتيسر لخواصهم على أساس موضوعي.
ولعل أوضح مثال قد يلخص خطأ هذا الاشكال هو أن يأتي أحدهم ليقول في حق الطب والأطباء: "إن الطب هو لمنفعة الناس جميعا وليس لمنفعة الاطباء فقط .. فلا ينبغي أن يحتكره الأطباء.

عبدالوكيل التهامي
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 105
اشترك في: الخميس مارس 30, 2006 2:21 pm

Re: نقد التجديد الديني (مقالات عبدالله حميد الدين)

مشاركة بواسطة عبدالوكيل التهامي »

ج- القضية الثالثة: الاجتهاد متاح للجميع سيما إنسان اليوم:

لطالما كان الاجتهاد عنوانا لفكر أهل البيت ومميزا لهم عن سواهم، كما كان احترامهم لفكر من خالفهم من الأئمة الأعلام عنوانا آخر يدل على السماحة والإنصاف لدى مدرستهم، ولكن ذلك الانفتاح والقبول بالآخر لم يكن مطلقا بل كان مؤطرا بشروط تحفظ الدين من التحريف والاستهزاء فلم يكن أهل البيت باعتبارهم الثقل الثاني يقبلون أي رأي باعتباره اجتهادا طالما لم يكن صاحبه فقيها تقيا نقيا ملتزما بأصول الشريعة والدين وموضوعه لا يمس الضروريات ولا يتعدى حدود الأساسيات.
ولعل الحوار الذي دار بين الباقر وأبي حنيفة أوضح مثال على ذلك، فالباقر عندما بلغه أن أبا حنيفة يتلاعب بالشريعة المقدسة متحججا بالعقليات اعتبره محرفا لدين جده النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما أن أبا حنيفة دفع عن نفسه تلك التهمة الخطيرة لأنه كان يدرك أنها تتجاوز عنوان الاجتهاد وتخرج عن حدود المقبول إسلاميا.
وإذا كان الاجتهاد ضمانة لحركية الدين وأداة لتفاعله مع المستجدات في كل عصر إلا أن المنطق يفرض على الاجتهاد شروطا موضوعية لكي نستطيع أن نفرق بينه وبين التحريف والتلاعب والاستهزاء، ولكي لا نقع في تناقض.
فالاجتهاد الإسلامي له نطاق معين لا يتعداه وإلا لم يعد هذا الاجتهاد إسلاميا، فلا يصح أن يجتهد أحد لينفي وجود الله مثلا وإن فعل أحدهم ذلك فلا يسمى اجتهاده هذا إسلاميا، كما لا يصح أن يجتهد أحدهم ليثبت تحريف القرءان أو إسقاط السنة النبوية أو إسقاط المعلومات من الدين بالضرورة أو يجتهد ليرد حكما من أحكام الله وهو يعترف أنه حكم من أحكام الله بحجة عدم ملاءمته لعصر من العصور أو بلد من البلاد أو شخص من الأشخاص ما لم يكن يتحدث عن "ضرورة" لا ترفع الحكم الأصلي أو عن "نسخ إلهي" يرفع به الحكم الأصلي إلى حكم جديد ملائم للعصر.
والاجتهاد في الإسلام باعتباره تخصصا وعملا دقيقا وشاقا ليس حقا ليبراليا للتعبير عن الرأي والاعتقاد ولا أداة لتعديل الشريعة بحسب التيارات العالمية والأهواء الدولية بل هو عملية استكشاف موضوعية لمراد الله من خلال قراءة الوحي، وهذا التفريق في التكييف يستتبع شروطا موضوعية في عملية الاستكشاف لتكون عملية علمية صحيحة.
والاجتهاد باعتباره عملية استكشاف لمراد الله لا بد له من آلة وهي الإلمام باللغة التي اختارها الله لخطاب الناس، ولا يمكن فصل هذه الآلة التي هي اللغة عن السياق الذي جاءت فيه وهو الوعي العام الذي كان يسود الحاضنة التي اختارها الله للوحي، فلا بد من الإلمام به أيضا واعتباره خلفية مقصودة لفهم الوحي لتكون عملية الاجتهاد موضوعية ومصيبة لمراد الله وهذا هو الأصل وما عداه فهو بحاجة إلى دليل.
كما أن الاجتهاد باعتباره عملية استكشاف لمراد الله من خلال قراءة النص لا يصح أن تتداخل مع ذات المجتهد وميوله وخلفيته الفكرية والفلسفية والعلمية، ولذلك فإن التجرد في المجتهد شرط من شروط الاجتهاد.
وإذا سلمنا جدلا أن الذات لا تستطيع التجرد تماما من المؤثرات المحيطة بها عند قراءة الوحي فلا يعني ذلك تصحيح كل القراءات والاجتهادات بل يعني أن المرجع لقياسها هو ما توصلت إليه الذوات المتأثرة بالحاضنة التي اختارها الله للوحي.

(فرع1) التجرد لا يلغي أن الذات هي التي تتفاعل مع الوحي:
قد يقول الأخ عبدالله: هذا هو ما نختلف عليه لأني أعتبر أن المجتهد لا يمكن أن يتخلص من تأثيرات ذاته كليا حتى وإن سلمت جدلا أنه يستطيع التخلص من بعض ذلك التأثير فإنه لن يستطيع الخروج تماما من ذاته، وسيبقى كل اجتهاد في النهاية هو وجهة نظر ذات تفاعلت مع وحي والتجرد وإن حد من ذلك فإنه لا يلغيه.
الجواب: منعا للتكرار يراجع نقاش القضية الثانية

(فرع 2) بين الاجتهاد والتحريف:
إذا أراد أحدهم أن يحرف الدين، أليس بإمكانه أن يرفع شعار "أنا مجتهد" أو "أنا أمارس الاجتهاد" ليكون تحريفه مستساغا بين المسلمين؟ وكذلك إذا أراد أحدهم الاستهزاء بالدين، ألا يمكنه أن يرفع شعار الاجتهاد في وجه المسلمين؟ فكيف إذن نستطيع التمييز بين الاجتهاد – التحريف – الاستخفاف؟ ما هو المعيار الذي نستطيع بواسطته أن نفرق بين هذه العناوين؟
من الواضح أن الاجتهاد قيمة إيجابية يتقبلها المسلمون ويحترمونها بينما التحريف والاستهزاء قيمتان سلبيتان لا يمكن تسويقهما بين المسلمين بل هي مما يستفزهم ويستنفر دفاعاتهم، ولذلك لم نسمع أحدا قد تجرأ وتبنى نظرية هدفها العلني هو "تحريف الإسلام" بقدر ما سمعنا عن نظريات عدة هدفها العلني هو "الاجتهاد في الإسلام".
وفي المقابل من الممكن أن يرفع أحدهم شعار "الاجتهاد" صادقا لكن يتهمه الآخرون بالتحريف والاستهزاء، بعضهم من باب الحسد وسوء الطوية، والبعض الآخر من باب المحدودية وسوء الفهم.
كما أن من الممكن أن يرفع أحدهم شعار "الاجتهاد" صادقا ظانا أنه يدافع عن دين الله وهو لا يدري أنه إنما يمارس عين التحريف..
ومن خلال تأمل هذه النماذج الثلاثة نسأل: كيف يمكننا أن نميز بين الاجتهاد والتحريف؟
هل هناك معايير لقياس ذلك وتمييزه؟
إلى جانب صدق النية، فإن بإمكاننا تصور بعض الضوابط والمعايير والمقاييس والحدود والخطوط الحمراء تكون بمجملها ما يصطلح عليه الأصوليون بـ"شروط الاجتهاد" وهي شروط عقلية تتلاءم مع فهمنا بأن الاجتهاد ليس وسيلة من وسائل الترفيه أو اللهو أو التنافس أو التسلط أو الشعوذة أو الكهنوت أو الأدلجة أو الاستغلال أو إبداء الرأي بل هو عملية استكشاف علمية موضوعية لمراد الله يقوم بها أشخاص مؤهلون ومتخصصون وموضوعيون ومتجردون قدر الامكان من ذاتيتهم.

(فرع3) بين الاجتهاد والليبرالية:
البعض يفهم الاجتهاد في الإسلام كما يفهم حرية التعبير عن الرأي والمعتقد في الليبرالية، كحق شخصي فهل هذا صحيح؟ والمتابع لشبكات التواصل الاجتماعي في النت يلمس وجود شريحة واسعة من الشباب يعبرون عن آرائهم إزاء فتاوى شرعية مستخدمين عبارات من قبيل "هذه الفتوى لم تدخل عقلي"، أو "هذا الكلام لا يمكن أن يصدر عن الله" أو "لم اقتنع بهذا الطرح" ثم يصرح عما ينبغي أن يصدر عن الله وما لا ينبغي مطالبا الجميع باحترام رأيه وقناعته معتبرا أن ذلك من حقه!!
فهل قضية الافتاء الشرعي الذي هو في مقام الحديث "بلسان الله" هو حق شخصي يملكه كل فرد لمجرد أنه يفكر ويتكلم؟ كيف نفهم الآية الكريمة :"ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون"
إذا اتفقنا أن الهدف من عملية الاجتهاد هو استكشاف مراد الله من النص بشكل موضوعي مستقل عن أهوائنا ومصالحنا قدر المستطاع فإن ذلك سيختلف عما إذا كان هدفنا من عملية الاجتهاد هو تسويغ ما نريده أو نحبه أو نقتنع به سلفا قبل البحث ثم استنطاق النصوص به، وهذا الفرق بين العقليتين في فهم الاجتهاد هو الفرق بين اعتبار الاجتهاد حقا شخصيا يتساوى في اكتسابه الجميع باعتبار بشريتهم وانسانيتهم، وتتساوى بموجبه القيمة الافتائية للجميع باعتبار قدرتهم على التفكير والكلام، وبين اعتبار الاجتهاد منهجا علميا للاستكشاف يحتاج لتخصص وشروط علمية وموضوعية ليس من الضروري أن يتمتع بها الجميع، وتتفاوت بموجبه القيمة الافتائية بين مستكشف وآخر حسب تلك الشروط الموضوعية باعتبار تخصصهم ومواهبهم، وهم يتحملون مسؤولية أمام الله وأمام المسلمين لأجل ذلك.
ولأنهم يفتون بلسان الله فإن من يمارسون الاجتهاد يتحملون مسؤولية أمام الله وأمام الناس وليسوا مطلقي اليد والتصرف فيما ينسبونه إلى الله أو ينفونه عنه، ولذلك فالاجتهاد قد يكون حراما شرعا ومذموما عقلا على من ليسوا مؤهلين للتعرض له ولا متخصصين للقيام بمسؤوليته وتجب حمايتهم من أن يجترحوا الكذب على الله أو ان يصدوا عن سبيل الله وهم يظنون أنهم يمارسون الاجتهاد لمجرد أنهم يفكرون ويتكلمون..
أما الليبرالية في فلسفتها لحرية الرأي والتعبير والمعتقد فهي بخلاف ذلك لا تشترط شروطا موضوعية أو غير موضوعية ولا يتحمل فيها الشخص سوى المسؤولية الأدبية بسبب آرائه –إن كان يهتم بآراء الناس وموقفهم - فمن الممكن أن يؤمن الإنسان بما يشاء وأن يعتقد ما يشاء وأن يعبر عن رأيه بما يشاء وكيفما يشاء (بشرط أن لا يسيء للاخرين)، وليس مطلوبا منه أن يبرر رأيه أو معتقده أو تعبيره لأحد وليس مسؤولا عنه أمام أحد حتى وإن كان رأيه هذا مجرد هوى أو لغو أو وهم أو هراء، حتى إن لم يلتزم فيه المنطق ولا العقل ولا الأخلاق فهو حر فيه وهو من حقوقه باعتباره إنسانا لا متخصصا.
ولأننا لسنا هنا بصدد تقييم ما هو الأفضل وما هو الأصوب بينهما، يكفينا القول إن الفرق بين حق التعبير عن الرأي وبين الاجتهاد الشرعي هو فرق يضرب بجذوره في الاصل الفلسفي لكل منهما، حيث أن لكل منهما أصلا فلسفيا يختلف عن الآخر كما أنه فرق في الوظيفة وفي نطاق التطبيق ومنهجه.

(فرع4) قواعد تتعلق بالاجتهاد: كل مجتهد مصيب– الإمام حاكم– مراد الله من عباده الاجتهاد:
رغم أن استراتيجية الأخ عبدالله تقتضي إعادة النقاش في مدى ثبات أصول الفقه وقواعده إلا أنه لم يجد مشكلة في الاحتجاج ببعض القواعد الأصولية المتعلقة بالاجتهاد لتبرير جواز التحلل من الضوابط الاجتهادية الأخرى مثل استشهاده بقاعدة "كل مجتهد مصيب" وقاعدة "الإمام حاكم" وقواعد أخرى لم يستشهد بها مثل "مراد الله من عباده الاجتهاد".
ومن الواضح أن هذه القواعد إنما هي ثمرة منظومة فكرية متكاملة ولا فاعلية لها إلا في إطار تلك المنظومة، ولا معنى للاحتجاج بها من شخص ينكر أو يشكك أو يعيد النظر في تلك المنظومة كما لمسناه من حال الأخ عبدالله، ومثله كمثل شخص يتمسك بحقوقه ويتجاهل تماما واجباته، فتلك القواعد هي كل متكامل يتمم بعضه بعضا ومن الخطأ النظر لزاوية التسامح فيها لإهدار الضوابط كما أن من الخطأ التشبث بالضوابط لنقض التسامح.
ومثل ذلك : أن يأتي ملحد ليحتج ببعض قواعد الاجتهاد التي توحي بالسعة، ليصف آراءه المنحلة بالاجتهادات الإسلامية ويخدع بها المسلمين وهو أصلا من غير المسلمين، والمشكلة المنطقية في هذا المثال هي أن الملحد ينكر أصول الإسلام الفكرية فلا يحق له أن يتشبث بقاعدة فرعية في الإسلام بينما هو ينكر أصول الإسلام التي انبثقت عنها تلك القواعد الفرعية وذلك تناقض واضح ونوع من الخداع والتضليل لا تصح به دعوى!!
وكذلك - وبدرجة أقل - ينطبق الحال على المسلم الذي يشكك في الأصول والقواعد الفقهية عموما ثم ينتخب بعض القواعد التي يتوسم فيها السماحة والاحتمال للغير وينبذ الأخرى التي يتوسم في الضوابط والشروط، ففعله أيضا ينطوي على تناقض طالما وهو لا ينتمي للمنظومة التي أنتجتها ولا يتقيد بالضوابط الاجتهادية التي انبثقت عنها، ولا يحق له أن يحتج بهذه القواعد ولا قيمة لتلويحه بها.
أما إن احتج بهذه القواعد لمجرد الاستظهار فلا معنى لذلك أيضا، فهو لم يفهم تلك القواعد حق الفهم إن كان يستظهر بها ليدلل على جواز الاجتهاد بدون ضوابط ، لأن تلك القواعد إنما سيقت في إطار اجتهاد بضوابط، واحترام المجتهدين بضوابط لا سواهم.
ويجب أن نلتفت إلى أن هذه القواعد قد ظهرت متأخرة عن عملية الاجتهاد لتنظيم العلاقة بين المجتهدين الذين انطبقت عليهم ضوابط الاجتهاد من العلم والتقوى والتحري والاستدلال غير الشاذ، وكان لا بد من التعامل مع أهل هذه المنظومة بطريقة مختلفة عما يكون التعامل مع الجاهلين والشواذ من الإنكار والإدانة والتحذير، وفي المقابل كان لا بد من حمل المجتهدين الملتزمين بضوابط الاجتهاد وحمل مقلديهم على السلامة طالما كان لهم محمل أو متأوَّل ولكن بدون أن يعني ذلك تصويب اجتهادات الجميع أو الاعتقاد بأن مراد الله متعدد.
فالأصل هو الاجتهاد بالضوابط والشروط ثم أتت السعة لاحقة لتنظيم العلاقة بين المجتهدين الملتزمين بتلك الضوابط والشروط ولا يصح قراءة الفكرة بالعكس بحيث نتخلى عن الضوابط لصالح السعة والتسامح والاحتمال للغير.
وبعد وفاة النبي وفي زمن الإمام علي عليه السلام لم يكن اجتهاد الإمام علي مساويا لاجتهاد سواه بل كان اجتهاده معبرا عن الصواب بينما اجتهاد غيره المخالف له وقوعا في الخطأ (والخطأ هنا لا يعني الإثم)، ولو كانت القضية نسبية ولا يمكن الوصول للوحي وصولا موضوعيا كما يطرح الأخ عبدالله لكانت قراءة الإمام علي كقراءة غيره في عصره، وهذا ما لم يعتقد به أمير المؤمنين ولا أئمة أهل البيت عليهم السلام من بعده.

(عنوان1) جرائم باسم الاجتهاد:

من المعروف تاريخيا أن الكثيرين قد استغلوا عنوان الاجتهاد لتبرير شطحاتهم وشذوذهم بل وحتى جرائمهم ولكن ... هل يصح أن يُفتح الباب باسم الاجتهاد لكل ملحد وعدو للإسلام - ولا أقصدك أخي عبدالله - أن يبتكر منظومة من المصطلحات يكون شعارها هو مواكبة العصر ولكن حقيقتها هي إفراغ الإسلام من محتواه وخيانته ولكن بأسلوب ملتو ومصطلحات رنانة؟!
ما هي ضمانات الحفاظ على الدين من التحريف باسم الاجتهاد إذا كان مثل الأخ عبدالله لا يرى نفسه ملزما بضوابط الاجتهاد؟ ويرى لنفسه الحق في إدخال الشريعة كلها في نفق النسبية المظلم الذي يصبح فيه كل شيء ظنيا وغير ثابت ولا مقدس وربما لا يثبت فيه شيء، والأدهى أن نظرية الأخ عبدالله لا تتعلق بقضية واحدة من قضايا التشريع بل تتعلق بالتشريع كاملا!
أخشى أن يقول الأخ عبدالله: دع الجميع يقول ما يشاء ويعبر عن رأيه وفلسفته بالأسلوب الذي يشاء والناس هي من ستقرر ما هو الحق من الباطل والله سيحكم بين الجميع يوم القيامة!! وسيكون جوابي حينئذ: أنا لا أستطيع منع احد من الحديث ولا أستطيع منع أحد من الضلال ولا أستطيع إجبار أحد على الهداية ولكني أستطيع أن أعلن على الملأ أن الاجتهاد لا بد له من ضوابط ومن خالفها فهو ليس بمجتهد ولا يسمى رأيه اجتهادا شرعيا بل ذوقا شخصيا وهذا واجبي الذي لن تبرأ ذمتي إلا به وفي المقابل يمكنني أن اخدع الناس وأقول لهم اجتهدوا واشطحوا وافرحوا وامرحوا باسم الاسلام والشريعة ثم أكون شريكا لهم في كل ما سيخرجون به من ضلال وإضلال بين يدي الله.

(فرع1) قتل الإمام يحيى رحمه الله كان اجتهادا :
لقد ذكرتني بمن تجرأ على قتل الإمام يحيى رحمه الله باسم الاجتهاد والرغبة في إصلاح شأن اليمن؟ فكيف مد له الشيطان مدا في غواه وسمى له الجهل اجتهادا والهدم إصلاحا؟!
ربما كان أولئك القتلة يرون فعلهم اجتهادا شرعيا ولكن لا عبرة برؤيتهم له كذلك وسنكون لهم شركاء في جريمتهم إن وصفنا عدوانهم بالاجتهاد الشرعي.
وقد تقول أخي عبدالله: كيف نصبت نفسك حاكما وفيصلا لتحدد الاجتهاد الشرعي من سواه؟ سأجيب: إن كنت ممن يزعم الانتساب لخط أهل البيت وقد شيدت منبري بين جماهيرهم واكتسبت شعبيتي من الانتماء إليهم وما زلت أصدح بشرعيتهم فلا بد أن يكون لي موقف واضح على ضوء تراثي الذي أعتقد به بأنه خط أهل البيت والثقل الثاني بعد القرءان الكريم يتحدد بذلك الموقف ما هو صواب وما هو خطأ لا أن أبقى حائرا مترددا عاجزا عن الحكم بشيء بعد أن اجتاحت النسبية كل الأسس في نفسي.
وأعلم جيدا أن الكثير من المفكرين في هذا العصر هم نسبيون يتحسسون من القطعية والجزمية التي أصدح بها هنا وتحسسهم له أسباب وجيهة ولكنها غير كافية وغير ملائمة للفكر الديني الذي يرى نفسه وارثا لشريعة الله.
هل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشك للحظة في أنه على الحق الصراح، وهل كان يشعر ولو للحظة أن قريش قد تكون على حق في شركها؟ بالطبع لا، وكذلك أهل البيت المطهرين تاريخيا لم يكونوا يشكون ولا للحظة أن ما يحملونه ويقدمون دماءهم وأبناءهم لأجله هو الدين القيم، وهذه السلسلة استمرت حتى وصلت إلينا وينبغي علينا التصرف كما تصرفوا لا أن نستسلم لرياح النسبية تجتاح نفوسنا فنعجز عن الجزم بأي شيء حتى أننا قد كنا وما زلنا على المحجة البيضاء.
هل كان النبي سيشك في نبوته لو سمع محللا بريطانيا في هذا الزمن يتحدث عن إمكانية أن دماغ النبي هو الذي خلق تصورات لاهوتية ذهنية وتجارب دينية وهمية مؤيدا كلامه ببعض التجارب هنا وهناك؟ هل كان الإمام علي سيشك في نبوة النبي حينئذ؟ هل كان أئمة أهل البيت سيشكون في نبوة النبي؟ هل يمكن أن يساورك الشك أخي عبدالله ولو بنسبة ضئيلة بعد التغيرات النوعية الطارئة على وعيك والتي ترفع من شأن التجربة والمنهج العلمي وتستسخف الطريقة الاسطورية اللاهوتية القديمة في التفكير؟ هل سينعكس كل ذلك شكا بقدسية ما جاء به النبي من تراث وشريعة؟ هل يصح بعد ذلك أن نسمي مثل هذا الشك ونتاجه المجهول ومنهجه النسبي المرتبك اجتهادا إسلاميا وهو يرى نفسه فوق الإسلام؟
كما يجب أن لا ننسى أن أول شرط من شروط الاجتهاد هو الاعتصام بالتقوى والتحري قبل الإقدام على الفتوى والورع، فأحيانا يجد المرء نفسه متصديا للزعامة والتنظير متقلبا في المواهب والفرص وفي غمرة من التصفيق الحار والطموح الوقاد ينجر تلقائيا للتفوه بما ليس متأكدا منه ومن صوابيته ومن عاقبته.
وقديما كان يقال للمفتي عندما يفتي بدون تحري: اتق الله يا هذا؟ ولكن اليوم ماذا سيقال للأخ عبدالله وهو يعلن نظرية غير واضحة ولا مكتملة يبرر بها الافتاء من الجميع للجميع في جميع الدين بالنسبية ونسف المنظومة التشريعية العتيقة في الإسلام؟

(فرع2) الجرائم التي يمكن اعتبارها اجتهادا :
كثير من الجرائم في التاريخ بررت بالاجتهاد، فالبغاة برروا عصيان معاوية لأمير المؤمنين عليه السلام بالاجتهاد وطلب دم عثمان، وحتى لينين وهو يضع الإلحاد بديلا عن الأديان من الممكن أن يقال إنه إنما كان مجتهدا يهدف إلى الارتقاء بالمجتمع حسب زاوية نظره، وحتى ستالين عندما قرر التنكيل بالملايين إنما كان مجتهدا يهدف إلى ما يظنه ترسيخا للقومية السوفيتية. ما الذي سيحمينا من الجريمة التي سيعتبرها صاحبها اجتهادا؟

(فرع3) القطعيات والظنيات :
قد تقول إن التمثيل لك بلينين وستالين لا يلزمك لأنهما قد خالفا ما تراه قطعيا من حرمة الدماء والإيمان بالله ولكن وفي ظل النسبية التي تنطلق منها فإن ما ستعتبره أنت قطيعا قد يعتبره آخرون عقلاء ظنيا بل قد يعتبرونه باطلا أصلا، فإما أن تتخلى عن النسبية كمنطلق للتنظير أو تكون مطردا في الأخذ بها وفي إلزاماتها حتى النهاية وإلا وقعت في تناقض يهدم نظرياتك من الأساس.
---------------------

عبدالوكيل التهامي
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 105
اشترك في: الخميس مارس 30, 2006 2:21 pm

Re: نقد التجديد الديني (مقالات عبدالله حميد الدين)

مشاركة بواسطة عبدالوكيل التهامي »

د- القضية الرابعة: الشريعة ظنية ومشكوك في صحتها:

القول بأن الشريعة الإسلامية ظنية هو نتاج هذه القضايا :
1- معظم النصوص التي تتــأسس عليها الشريعة آحادية في سندها ورواية الآحاد تفيد الظن لا العلم
2- معظم النصوص الآحادية في سندها ظنية في دلالتها أيضا على المراد وتطرح أكثر من احتمال ويمكن قراءتها من أكثر من زاوية وكذلك هو الحال مع النصوص القطعية في سندها فهي ظنية في دلالتها أيضا.
3- قاعدة وجوب العمل بالظني التي جعلت المسلمين مهتمين بتلك النصوص الظنية هي قاعدة ظنية في حد ذاتها بل إن أصول الفقه ظني بمعظمه.
فإن كانت هذه القاعدة ظنية وأصول الفقه ظنيا مع الظنية في ثبوت أغلب النصوص والظنية في دلالتها فنحن نتحدث عن ظن مشوب بظن مشوب بظن نتاجه كان الشريعة الإسلامية التي يعتبرها الكثيرون مقدسة وغير قابلة للمساس والتعديل رغم الخلافات الشديدة بين الفقهاء في تحديدها، بينما هي في الحقيقة ظنية في ثبوتها وظنية جدا في نسبتها لله والمساس بها ليس كالمساس بالقطعيات وليس ردا لما ثبت عن الله بل ردا لما يظنه الناس عن الله ولا يعلمونه تحقيقا.
فإن صح أن الأخ عبدالله يتبنى هذا المنطق وينتهي إلى وجهة النظر تلك فهو مخطئ لأنه اعتمد على منطلقات خاطئة أدت به في نهاية المطاف إلى نتيجة خاطئة.
فمعظم النصوص وإن كانت آحادا في سندها فذلك لا يعني أن قيمتها المعرفية ظنية، كما أن النصوص وإن كانت ظنية في قيمتها المعرفية إلا أن العقل يحتم علينا أن لا نتعامل معها كما نتعامل مع العدم أو مع الأساطير والخرافات، ومعظم النصوص وإن كانت ظنية في دلالتها وتطرح أكثر من احتمال على مراد الشارع فذلك لا يعني تعدد مراده منها كما لا يعني إمكانية طرحها لاحتمالات جديدة في الحاضر، وقاعدة وجوب العمل بالظني ليست ظنية بل هي معلومة من الدين بالضرورة وقطعية في قيمتها كما أن أصول الفقه ليس ظنيا بل هو ضرورة عقلية ودينية.

(عنوان1) النصوص الظنية ووجوب العمل بها :

قد تقول إن الكثير من النصوص لا ينهض ليكون مادة للاستدلال على شريعة منسوبة إلى الله، هذا الكلام صحيح ولكن ليس بالمطلق وقد تنبه له الأولون مبكرا و ظهرت القواعد والمؤلفات وبذلت الجهود لفرز تلك النصوص لما يصلح وما لا يصلح وانتهت القضية وحسمت المعركة وتحددت الملامح وتبين الحق من الباطل في زمن كان حديث عهد بزمن الوحي والرسالة، وكان لأهل البيت عليهم السلام موقف من ذلك ودور فيه.
وكون الكثير من النصوص ظنية فذلك لا يعيبها و لا يفقدها قيمتها ولا يجعلها مساوية للعدم، بل تبقى ملزمة في الفروع ويبقى إعمالها واجبا في العمليات ويبقى تجاهلها جريمة نكراء عند الاجتهاد والفتوى، أما لماذا ذلك؟ وما هو الدليل عليه؟ الدليل على ذلك هو الواقع وما يحكم به العقل قطعا، فالواقع أن النبي اكتفى بخبر الآحاد لتبليغ الكثير من الأحكام الشرعية وتوقع من المبلغين أن يعملوا بموجبها لا أن يردوها بل وعاقب من خالفها وبهذا الاعتبار علينا أن نفعل ما توقعه النبي منا في التعاطي مع خبر الآحاد بهذه الجدية والإلزام، فإن قلت: ولكن هذا الدليل لا يثبت عندي وهو ظني في ثبوته سأقول لك: إذا كان هذا محل شك عندك فهذا سينسحب تلقائيا على جميع تراث الإسلام ليصبح محل شك بما في ذلك ظروف الرسالة نفسها والمعجزات وعجز الكافرين عن الرد على النبي فكل ذلك مروي في كتب التاريخ كأخبار وبسند غير متواتر، ليس هذا فحسب بل جميع أخبار التاريخ البشري والتي تبنى عليها الكثير من النظريات في علم الاجتماع والتي تساهم بقسط وافر في نظريتك عن التجديد الديني جميعها سيصبح محل شك وكذلك الحال مع الأخبار التي تصلنا عن رقي الحضارة الغربية والفتوحات العلمية وانقسام الذرة والوصول إلى الفضاء وغيرها سيصبح بالإمكان التشكيك فيها، وهذا كما هو واضح سفسطة هي أبعد ما تكون عن البحث العلمي الموضوعي الجاد!
ومن الواقع أيضا أن أئمة أهل البيت وقادة الفقه الإسلامي في التاريخ عامة قد استدلوا بتلك الأخبار الظنية وعرفوا بها الحلال والحرام ولم يتجاهلوها رغم أنهم من أسس لكم أخي عبدالله قواعد التفريق بين القطعي والظني.
وإن شككت في وضوح وجوب العمل بها عقلا فاعلم أنك أنت بنفسك في حياتك اليومية تتعامل مع الأخبار الظنية بجدية وإلا عدك العقلاء ناقص عقل فعندما يبلغك أحد العدول خبرا مفاده أنك إن لم تفعل كذا وكذا فإن ابنك سيموت فأثار الظن فقط لا اليقين في نفسك بصدقه، فإنك لا بد أن تتصرف بناء على صحة ذلك الخبر وإن لم تكن قيمته قطعية لديك وهذا ما يحكم به العقل قطعا.
ويكفي في هذا المقام أن الأمة الإسلامية قد اتفقت بمجملها في جميع الأزمان والأحقاب على وجوب العمل بالظني وعدم تجاهله وهذا الاتفاق يجعل "وجوب العمل بالظني" قطعيا كقطعية القرءان الكريم نفسه لأن قطعية القرءان الكريم كنص من الله وصل إلينا لم تكن إلا لأن الأمة الإسلامية بفرقائها المتباينين قد اتفقت بمجملها على أن ما بين الدفتين هو القرءان الكريم ولا عبرة بالأصوات النشاز في ذلك ولا الروايات التي تفيد بالزيادة أوالنقصان في نصه.
فإن وصل بك الشطط للشك في ثبوت القرءان الكريم وحفظه فمن الواضح أن اجتهادك حينئذ لن يكون إسلاميا بل خارجا عن ملة الإسلام.

(عنوان2) الخلافات الفقهية وقاعدة كل مجتهد مصيب:

استغلال وجود خلافات فقهية بين الأئمة لتبرير سقوط الشريعة عموما وفتح الباب لأي شطحة وأي تحريف واعتباره اجتهادا هو كاستغلال وجود خلافات في الفلسفة لإسقاط المعرفة البشرية عموما والقبول بأي فكرة دون قيد أو شرط.
فالخلافات في تأويل النصوص موجودة في حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكن ذلك لم يعن سقوط قدسية الشريعة ولا فتح باب الاجتهاد على مصراعيه وتصحيح كل الآراء، فالحق يبقى واحدا وإن كان من اجتهد بخلافه معذورا بشرط أن يكون مستوفيا لشروط الاجتهاد.
وللتدليل على ذلك نستذكر قول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة" فقد أقر صلى الله عليه وآله الاجتهادين رغم أن مراده كان واحدا من النص ولم يعن ذلك بحال من الأحوال سقوط الشريعة وقدسيتها.
وقد تقول أخي عبدالله .. دعنا من مراد النبي الذي لا يمكن تبينه ومادام النبي قد أقر الاجتهاد في هذا النص فلماذا نمنع من يجتهد فيه برأي ثالث اليوم؟
والجواب: لأن الاحتمالات التي تتعلق بالنص قد استنفدت في ساعتها ولا مجال لاستنطاق النص بسواها إلا بالباطل ولو قررنا شرعية الاجتهاد في هذا النص اليوم فقد يستخرج أحد المجتهدين الجدد حكما من هذا النص مفاده "نهي النبي عن صلاة العصر مطلقا إلا في بني قريظة في حق كل مسلم وفي كل وقت" وقد ينشئ فرقة إسلامية تؤسس مسجدا في بني قريظة يكون قبلة لأتباعها ومريديها لأداء صلاة العصر بين الفينة والفينة ، فهل سنصف هذا الاجتهاد بالصحيح والشرعي؟وهل سنقول ان كل مجتهد مصيب أو أن الإمام حاكم هنا .. بالطبع لا.
وخشية أن تقول نعم .. حرصا منك على حرية الاجتهاد والتعبير عن الرأي، أؤكد لك أني عندما أنفي الشرعية والصحة عمن يفتي بمثل تلك الأباطيل لا يعني ذلك أني سأذهب لأقتله بالضرورة بل يعني أن لي موقفا مما يفعل وهو عدم اعتبار شرعيته ثم ليفعل ذلك من يفعل وليقل ذلك من يقول.
وفي الختام لنفترض أن أحدا جاء ليستفتيك عن صوابية هذا الاجتهاد ويسألك هل يلزمه أن يطبقه ويذهب للصلاة في هذا المسجد، فماذا سيكون جوابك له؟

(فرع1) صلوا كما رأيتموني أصلي (ألاعيب الشياطين) :
لو قلنا بأن باب الاحتمال ما زال مفتوحا في قراءة النصوص بناء على ما تطرحه اللغة العربية فإنا سنصل إلى حالة نكون فيها مجبرين على قبول الاستهزاء بالشريعة باسم الاجتهاد فمثلا وفي نص النبي "صلوا كما رأيتموني أصلي" قد يستغل أحدهم الاحتمال اللغوي في هذا النص معتبرا أن لا صلاة عليه طالما لم ير النبي وهو يصلي ثم يقول إنه مجتهد في التوصل إلى هذا الحكم !

(عنوان3) نظارة أصول الفقه :

عندما يصل بنا الشك لنفقد الثقة حتى بدلالة مصطلحات القطعي والظني وهما حصيلة تجربة الأمة الإسلامية ولغتها الأصولية ومنطقها فإننا إذ نعبر عن اهتزاز ثقتنا بتراثنا فإننا نجسد أيضا البُعد السفسطائي للنسبية الذي تسرب إلى عقولنا وأصبح مسيطرا على طريقة تفكيرنا، إنه بُعد التخريب الفكري الذي نشأ علمُ المنطق من أجل السيطرة عليه والحد من أضراره. قد يكون الشك منطلقا منهجيا لليقين والعلم والثبات والمعرفة، ولكن السفسطة إذا سادت أي عقل فإن الحصيلة هي انهيار الثوابت والحيرة المزمنة والتباس الحق بالباطل وضياع جميع القيم لأن كل شيء – منهجيا - يصبح نسبيا وإثبات أي شيء متوقف على ذكاء وفطنة وشراسة صاحب المصلحة فيه، ومن الطبيعي أن نفقد القدرة على التحاكم لأي شيء لأن أي حكم بيننا قد يصبح محل شك أيضا ويصبح التحاور في أي شيء هو عملية تفاوض!
وعلماء المسلمين العباقرة منهم والأفذاذ ولأجل الاحتكام لمنطق متحد عند الاختلاف يمنع التلاعب المعرفي ويظهر الخطأ في الاستدلال ابتكروا مصطلحات وقواعد يحتمها العقل ولا يستطيع إنكارها حتى الملحد إلا لو كان سفسطائيا يجد صعوبات في التأكد من وجوده.
علم أصول الدين وعلم أصول الفقه والكثير من المصطلحات المتعلقة بالفنين كانت للدين بمثابة علم المنطق للحوار تلك القواعد التي تضمن اكتشاف التخريب الفكري والمغالطات الاستدلالية التي ترفع شعار البرهان والاستدلال والرأي والاجتهاد.
ولأن الكثير من المجددين يعتبرون أصول الفقه أكبر عائق أمام تجديدهم، فكان لا بد من المواجهة معه، وإذا كان من الممكن التشكيك في وجود الإنسان وفي وجود الله وفي وجود الوجود، وبما أن "ظني" هي الكلمة السحرية لنزع الغطاء عن أية فكرة في جدالنا المعاصر، فقد أصبح أصول الفقه ظنيا، وأصبح الإجماع بالذات أكثر ظنية وأصبحت السنة النبوية في مهب الريح بل وأصبح القرءان الكريم بنفسه - لأن العصر تغير - في خطر ، فماذا سيبقى لنا من الإسلام؟ هل نستطيع بالتفاوض مع المجددين أن نحافظ على جزء يسير منه؟
وإذا كان الدور اليوم على أصول الفقه فغدا سيأتي الدور على أصول الدين عندما تقف عثرة أمام التجديد لتصبح ظنية بعد أن كانت لا تمس ويفتح فيها باب الاجتهاد والتنطع ليتم البدء في نظارات أصول دين جديدة تسلب اختصاصات الله منه طالما كانت تلك الاختصاصت ضد تحرر الانسان وكرامته و و و، ثم لا يبقى لنا من الإسلام سوى الإسم وبعض الشعارات والرموز تماما كحال المسيحيين في الغرب اليوم، وإذا كان واجبنا هو تبليغ الرسالة السماوية والحفاظ على الأمانة المحمدية فهل هناك من ضمانة لحماية ديننا من التفريغ والتحريف وأصولنا من التدنيس والضياع؟ لا توجد ضمانة طالما أصبحت النسبية مهيمنة على تفكيرنا!
أصول الفقه هو قواعد منطقية في غاية البساطة بعضها مبني على بعض تماما كعلم المنطق، وأظن أن الأطفال يفطنون لبعضها كالتفريق بين المجمل والمبين والعام والخاص، بل إن بعض الحيوانات تفطن لذلك أيضا بعد التعليم فالقط قد يدرك أن صاحب الدار يأبى عليه أن يتبرز في عموم البيت ولكنه يدرك أيضا الاستثناء المتعلق بمكان محدد في البيت.
أما مفاهيم كالقطعي والظني والمتواتر والآحاد فهي أيضا مما تفطن إليه العقول البسيطة.
والآن وأمام دعوى من قبيل أن أصول الفقه مجرد نظارة يمكن نظريا افتراض نظارة أخرى ستوصلنا إلى نتائج مختلفة، ورغم أن هذا الكلام مجرد افتراض ما زلت أشك في قدرة احدهم على تحقيقه وأحس أن الغرض منه هو مجرد الرغبة في إسقاط اصول الفقه فقط، نسأل: بعد الفراغ الذي سيخلفه إسقاط علم أصول الفقه وابتكار المزيد من النظارات التجديدية هل سيتعرف جيلنا على مراد الله أكثر أم سيؤلف كل شخص دينه بالطريقة التي يراها صحيحة؟ هل هذا هو الغرض من هذا الكلام؟
وإذا كان علم أصول الفقه قد ظهر متأخرا في التاريخ الإسلامي فليس معنى ذلك انفصاله عن الوحي والدين، فكذلك علم المنطق الذي ظهر على يد أرسطو متأخرا في التاريخ البشري لكنه ثابت أصلا في عقول البشر منذ أن كانت لهم عقول، وبالمثل أيضا علم النحو الذي ظهر متأخرا كقواعد مصفوفة ومنظومة في تاريخ اللغة العربية لكنه كان واضحا في عقول العرب أيام الجاهلية قبل تقعيده وتدوينه، وعلى ذلك فمن الصواب مقاربة أصول الفقه لا على أساس متى ظهرت كقواعد مصفوفة ومنظومة في كتب بل ما هو منبعها وأصلها.

عبدالوكيل التهامي
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 105
اشترك في: الخميس مارس 30, 2006 2:21 pm

Re: نقد التجديد الديني (مقالات عبدالله حميد الدين)

مشاركة بواسطة عبدالوكيل التهامي »

هـ - القضية الخامسة : الأصول الأساسية والشرع (ما هي دلالة قولنا إن الله عدل - الثنائية بين العقل والشرع):

الأصول الأساسية المبنية على العقل هي الحاكم والمهيمن على أحكام الشريعة الظنية وذلك يعني أن بالإمكان إسقاط ما تعارض مع العقل منها.
وتلخيص الإشكال هنا: إذا كنا قد توصلنا إلى الإيمان بالله ومعرفته وعدله وجميع الأصول الأساسية بالعقل فذلك يعني أنه لا يجوز أن يأتي شرع ليخالف تلك الاصول الاساسية او يخالف العقل الذي قامت عليه وإلا وقعنا في تناقض منطقي.. فلا يجوز أن يخالف الفرعُ أصلَه ولا النتيجةُ سببَها، فكيف إذا كان ذلك الشرع ظنيا في ثبوته ودلالته وأصوله وفصوله فأنى له أن يقارع العقل القطعي؟!
ولأنه لا يمكن أن نتصور شريعة تأتي بما يخالف وجود الله أو غناه أو حكمته أو صدقه كان أوضح مصداق لهذا الإشكال هو أننا وفي ظل معرفتنا العقلية القطعية بأن الله عدل، لكننا نواجه حالات في الشريعة (الظنية) تتعارض مع هذه المعرفة وتنطوي على ما يناقض العدل والمساواة.. فهل من الممكن أن يكون الله عدلا وهو في نفس الوقت يشرع شريعة لا عدالة فيها ولا مساواة؟ كيف يصح ذلك؟ ألا ينبغي أن نسقط هذه الشريعة لحماية عقائدنا الأساسية؟
هذا الطرح وقع في مشكلتين، فالمشكلة الأولى هي أنه قرأ معرفتنا بأن "الله عدل" قراءة منقوصة ومجتزأة ومعكوسة، فالمجتزأة أنه لا يمكن أن نعرف أن "الله عدل" بمعزل عن اليوم الآخر والابتلاء والتكليف والمسؤولية والعوض، والمعكوسة انها قراءة تتعارض مع الغرض من هذه المعرفة، فالغرض من اعتقادنا أن "الله عدل" هو تثبيت الشريعة وقبولها مهما بدت غير عادلة أو شاقة وليس الغرض قياسها وردها ومحاكمتها.. هذه هي المشكلة الأولى التي وقع فيها الطرح السابق، أما المشكلة الثانية فكانت اعتبارأن لدينا القدرة على قياس العدالة والمساواة في الشريعة.
(ملاحظة هامة: جزئية أن الشريعة ظنية فهذا ما تمت مناقشته في القضية الرابعة فيراجع منعا للتكرار.)

(عنوان1): القراءة المنقوصة والمجتزأة والمعكوسة لمعرفتنا بأن الله عدل:

إن عدل الله لا يتعلق فقط بالشريعة، بل يتعلق قبل ذلك بالتكوين والخلق والنظام الذي يسير عليه الكون، فالتساؤلات المتعلقة بعدل الله لا تقتصر على بعض أحكام الشريعة بل تتعداها لتصل إلى نظام الكون والخلق، لماذا توجد كوارث؟ لماذا نعاني ونتألم؟ لماذا يموت الأطفال ويعذبون؟ ولماذا يتمادى الظالمون بلا عقاب؟ وغيرها من الأسئلة.. وعندما يعتقد المرء أن الله عدل فإن ذلك لا يلغي تلك الكوارث ولا تلك الآلام ولا العذابات ولا يتجاهلها بل يعيد تفسيرها من خلال اعتقاده الجازم بأن الله عدل، ولكن كيف يستطيع أن يفعل ذلك؟ الجواب: يستطيع أن يفعل ذلك إذا أدرك أن مفهوم "الله عدل" مرتبط ارتباطا عضويا بمفاهيم أصولية أخرى كالدنيا والآخرة والابتلاء والتكليف والمسؤولية والعوض، حينئذ تكتمل الصورة المنقوصة والمجتزأة ويدرك جيدا من خلال معرفته لعدل الله أن حياتنا المليئة بالمآسي والكوارث والاحباطات والمظالم ليست سوى مرحلة مؤقتة تسمى الحياة الدنيا وأن الغرض منها هو الابتلاء والتكليف وتحمل المسؤولية وأنها مقدمة لحياة أخرى تسمى الدار الآخرة يكون فيها الجزاء والحساب والتعويض ويتم فيها تقسيم المواهب والأرزاق والأحلام على أسس موضوعية واستحقاقية لا ابتلائية تمحيصية حينئذ يكتمل فهمنا لعدل الله.
إذن فالقراءة المجتزأة المنقوصة لعدل الله والتي لا تتضمن اليوم الآخر والعوض والابتلاء تجعلنا غير قادرين على تفسير الكوارث والآلام والعذابات، مما حدا بالبعض إلى إنكار تلك الكوارث والمظالم والآلام وتجاهلها ظنا منه أنه يحمي إيمانه بعدل الله.. أما البعض الآخر فقد حدا به ذلك إلى فقدان رباطة الجأش وإنكار عدل الله والاعتراض عليه والدخول في نفق السخط المظلم، والعلة هنا هي القراءة المجتزأة والمنقوصة لعدل الله ولقصة الخلق.
وبدلا من أن تكون قادرا على استيعاب وتفسير جميع الكوارث والآلام والاحباطات في الدنيا فتكون أكثر قدرة على الصبر والتحمل والفهم في إطار إيمانك الجازم بأن الله عدل وأنه لا يضيع أجر المحسنين والصابرين فإنك وفي حالة القراءة المعكوسة لعدل الله حين ترى أحد الكوارث تقول: "الله عدل إذن لا ينبغي أن يعرضنا لمثل هذه الكوارث" فمثل هذه القراءة المعكوسة المضادة لغرض الإيمان بعدل الله تضع عدل الله كحل وبديل للواقع المر، ويضعك في خيار صعب، فإما أن تنكر عدل الله أو أن تنكر الكوارث وتتجاهلها، ولأن الكوارث جزء من حياتنا فلن تستطيع إنكارها أو تجاهلها مما يعني أن عليك التضحية حينئذ بعدل الله..
وبنفس الكيفية يمكننا أن نتعاطى مع الشريعة، فإن انطلقنا أن عدل الله حل وبديل لبعض أحكام الشريعة فإن ذلك سيؤدي بنا إلى التصادم بين فهمنا لعدل الله وبعض أحكام الشريعة، وسنضطر بعد ذلك للتضحية بأحدهما، أما إن كانت الشريعة جزءا من الصورة الكلية في إطار عدل الله فلن يكون هناك أي تصادم أو تعارض أو تناقض.
إذا صح التحليل السابق فسيكون من الواضح أن القراءة المجتزأة والمنقوصة والمعكوسة لفكرة "الله عدل" ليست قراءة ملائمة للفكر الإسلامي وللأصول الأساسية فيه.. ولكن كيف توصلنا في الأصل أن الله عدل؟

(فرع 1) كيف توصلنا بعقولنا إلى ان "الله عدل"؟ وكيف توصلنا للتشريع؟ وهل يمكن أن يقع تناقض؟
إن اعتقادنا الجازم بأن "الله عدل" هو فرع لاعتقادنا بأن الله عزوجل واجب الوجود، وقادر غير عاجز، وغني غير محتاج، وحكيم غير عابث، ولذلك وبناء على تلك القضايا الأربع فمن الممتنع عليه عزوجل أن يظلم، وبالتالي فلا يتضمن هذا الاستدلال فرضا لقياس عدالة الله أو تعريفا معينا للعدل ولكنه يتضمن حكما عاما بأن الله تعالى عدل بمعنى عدم حاجته لأن يظلم وعدم عبثه لكي يظلم، مع العلم أنه تعالى قادر على أن يظلم ولكنه مستغن عن ذلك فلا يفعل ذلك إلا المحتاج أو العابث والعاجز وهذا مستحيل في حق الله.
من هنا نعرف أن التوصل لعدالة الله بالعقل هو توصل عام لا مقياس عقلي له سيما لمن يشاهد المآسي والمظالم والكوارث والتفاضلات في المواهب والأرزاق والمعطيات، ولطالما طرحت الإنسانية أسئلة كثيرة بشأن غياب العدالة في العالم فكان جواب الأنبياء واضحا ليتضمن وجهين لمضمون واحد، الوجه الأول منهما هو ضرورة تغيير النظرة للحياة باعتبارها مرحلة مؤقتة سريعة غرضها الابتلاء ولا يمكن أن يكون هناك ابتلاء سوى بالتخلية والاطراد في القوانين الطبيعية، والوجه الثاني من جواب الأنبياء كان افتراض وجود حياة بعد الموت تكتمل فيها الصورة ويحضر فيها مبدأ العوض عن النقص والمسؤولية في الزيادة وتتحدد فيها المصائر والمقامات والمواهب والأرزاق وفق معايير العمل والانجاز والاستحقاق لا الابتلاء والاصطفاء والتكليف، وتقام فيها محكمة العدل الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة لتنتهي بالعقوبة والإثابة بصورة عميقة ودائمة كمصير نهائي.
بهذه الطريقة حل الدين مشكلة الظلم بناء على اعتقاده العام بأن "الله عدل" جنبا إلى جنب مع اعتقاده الجازم بوجود يوم آخر وحياة أخرى وتكليف وابتلاء وبهذا فقط استطاع أن يجيب عن جميع الأسئلة ويحل كل التعقيدات المتعلقة بمشكلة الظلم والعدل والخير والشر، ومن خلال هذا الاعتقاد الجازم بالآخرة وذلك الاعتقاد العام بالعدل وتلك الرؤية الأعمق للحياة وللموت وللمسؤولية والتكليف أبدى المؤمنون قدرة فائقة على تقديم التضحيات الكبيرة عبر التاريخ وقدرة استثنائية على الصبر والثبات والتسامح والتسامي، وكان التزامهم بالتشريع في ظل اعتقادهم الجازم ذاك جزءا من عملية التضحية التي يمارسونها يوميا وحلقة من حلقات تحمل المسؤولية التي يفرضها الابتلاء والتكليف، لقد كانوا يفهمون عدل الله فهما عاما من خلال فهمهم للابتلاء ولذلك فلم يكونوا في حاجة أن يسألوا: هل هذا التشريع عادل أم لا؟ حقوقي أم لا؟ يتساوى به الجميع أم لا؟ بل كان يكفيهم أن يتساءلوا: هل هذا التشريع ثابت عن الله أم لا؟ ليدركوا أنه عدل محض في ظل اعتقادهم العام الجازم بأن "الله عدل"
وفي المقابل نجد أن من كان يقرأ المسألة بالمعكوس ويتعمق في المسائل من خلال تصوره الخاص عن العدل كان في أحيان كثيرة ينتهي به الحال إلى السقوط المريع في الامتحان، والقرءان الكريم يحكي لنا عن أولئك الذين كانوا يضعون الإشكالات حول عدالة الاختيارات الالهية بما في ذلك التشريع والاصطفاء ونظام الحياة والكون، فكانوا إذا اختار الله أمرا أو تشريعا أو اصطفاء جادلوا الله والأنبياء في عدالته وفائدته وجدواه ثم ما لبثوا أن خالفوه واستهانوا به وفرطوا فيه، وابليس أبرز مثال لهذا النموذج فقد انطلق من التشكيك في عدالة اختيار الله وانتهى به المطاف إلى اللعن والطرد، وأصحاب السبت أيضا انطلقوا من فكرة التشكيك بعدالة تشريع الله وانتهى بهم المطاف إلى المسخ، واخوة يوسف انطلقوا من فكرة التشكيك بعدالة اختيار نبي الله وانتهى بهم المطاف إلى الخزي والفضيحة، وسادة قريش انطلقوا من فكرة ترجيح اختيار رجل من القريتين عظيم وأن ذلك أكثر انسجاما مع تصورهم عن العدالة والمصلحة وانتهى بهم المطاف ان اصبحوا مع المعاندين والجاهلين قرءانا يتلى وعبرة لمن اعتبر.
إن اعتقادنا العام بأن "الله عدل" لم ينطلق من استقرائنا لما يحدث حولنا في الكون بل لم ينسجم في كثير من الأحيان مع ذلك الاستقراء، ولذلك كان استمرارنا في الاعتقاد بأن "الله عدل" مرهونا بافتراض أن الصورة لا تكتمل في الدنيا التي هي مجرد مرحلة مؤقتة للابتلاء بل تحتاج للايمان بحياة بعد الموت وبعث ويوم آخر وهناك فقط تكتمل الصورة التي لن يلتبس فيها عدل الله على عقل أبدا.
وهذا يعود بنا إلى النقطة الأولى التي انطلقنا منها وهي التسلسل العقلي الذي توصلنا به إلى الحكم العام بأن "الله عدل" ذلك التسلسل الذي يعتمد على عدة معارف أولية تتعلق بالله العلي القدير: أنه واجب الوجود، أنه قادر غير عاجز، أنه غني غير محتاج، أنه حكيم غير عابث، أنه صادق غير كاذب بالإضافة إلى مفاهيم اليوم الآخر والابتلاء والتكليف والمسؤولية والعوض فهذا هو الاساس العقلي لفكرة "الله عدل" فهل توجد شريعة في الإسلام تعارض هذا الأساس أو هذه الأصول الأساسية؟ الجواب: يستحيل ذلك.

(فرع 2) : ما معنى قولنا إن الله عدل؟
وعندما نقول هذا يخالف عدل الله وهذا لا يخالف عدل الله فإن ذلك يقتضي أن ندرك ما معنى عدل الله أولا.. فما معنى قولنا "الله عدل"؟
لعدل الله معنيان اصوليان:

المعنى الأول: أن الله لا يفعل الظلم فهو عز وجل لا يعذب إلا بعد أن يبعث رسله ويتم حجته ولا يكلفنا ما لا طاقة لنا به ولا يعاقبنا على أشكالنا أو ألواننا أو أعراقنا، ولا يجبرنا على المعصية جبرا ثم يعاقبنا عليها، وهو عزوجل وإن خلق بعضنا مريضا أو معوقا أو ناقص الحظ في الدنيا بأي وجه من الوجوه فإن ذلك إنما هو لغرض الابتلاء وسيكون مقابله عوض في اليوم الآخر، كما أنه إن خلق بعضنا جميلا قويا كامل الحظ في الدنيا بأي وجه من الوجوه فإن ذلك هو لغرض التكليف وسيكون مقابله تحمل مسؤولية يوم القيامة.
إذن اعتقادنا أن الله لا يفعل الظلم لا يمكن فهمه إلا في إطار الصورة الكلية فإن استشكلنا ظاهرة ما في حياتنا تخالف ذلك الاعتقاد ربطناها وأكملناها باليوم الآخر والابتلاء والتكليف والمسؤولية والعوض حينئذ لن نعدم جوابا.. أما إذا لم نجد جوابا بعد ذلك الاكمال والربط ولم نجد وجها من وجوه الحكمة في فعل ينسب إلى الله تعالى حينئذ يجب أن ننفي ذلك الفعل عن الله تنزيها له عن الظلم سبحانه وتعالى عما يصفون، وهذا ما نفعله عندما ننزهه تبارك وتعالى عن إجبارنا على المعاصي ثم عقابنا عليها فهذا يعارض الأصول الأساسية في كونه لا حكمة منه ولا عوض عليه.

والمعنى الثاني: ان الله لا يأمر بالظلم ولا يرضى بالظلم، ومن منطلق فهمنا أن لا مصلحة لله تعالى في ما يأمرنا به أو يناهانا عنه بل المصلحة لنا ، فجميع أوامر الله إنما هي لجلب مصلحة ما أو لدرء مفسدة ما كونه العالم بالسر وأخفى، وعلى ذلك فإن الله إنما يأمر بالعدل والمساواة ورعاية الحقوق والحريات والمصالح ودرء المفاسد، فما كان في الشريعة من تفاوت أوتفاضل أو اصطفاء أوتضحيات أوغيبيات إنما كان ذلك لغرض الابتلاء وسيكون مقابله عوض في اليوم الآخر أو لغرض التكليف وسيكون مقابله تحمل مسؤولية يوم القيامة.
ومن خلال فهمنا لهذا المعنى الثاني من معاني عدل الله، نستطيع أن نفهم ما هو التكليف الملقى على عاتق أولئك القوم الذين لم تبلغهم شريعة الله والمصطلح عليهم بأهل الفترة؟ فهم مكلفون بتحري إقامة العدل والمساواة ورعاية الحقوق والحريات والمصالح ودرء المفاسد قدر مستطاعهم بناء على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين ضمن الصورة المجتزأة لا الكلية لأن ما سيشرعونه حينئذ لن يكون شريعة لله بل شريعتهم.. ولكن هل هناك في هذا الزمن أحد يمكن اعتباره من أهل الفترة في ظل وجود شريعة الإسلام الثابتة ثبوت القرءان في ديننا والمشفوعة بالأوامر الواضحة الصريحة في كتاب الله؟

(فرع 3) ما هي ثمرة اعتقادنا بأن الله عدل؟
لاعتقادنا بأن الله عدل ثمرتان:
الثمرة الأولى: هي تقدير قيمة العدالة وتحريها في جميع حياتنا ومعاملاتنا وأحكامنا أفعالنا وتقاييمنا باعتبارها قيمة مقدسة وضرورية ومعيارية وفطرية.
الثمرة الثانية: القبول بحكم الله وشريعته مهما انطوت على تضحيات أو تفاوت أو ابتلاء أو اصطفاء أو مشقة أو غيبيات، فقد مدح الله أولئك الذين يؤمنون بالغيب ويطيعون الله ورسوله ويصبرون ويتقون ويفضلون ما فضل الله وينتهون عما نهى عنه حتى لو لم يدركوا وجه المصلحة أو الحكمة وحتى لو ظنوا ذلك غير ملائم للعدل والمساواة والحقوق والحريات، كما أنه عز وجل قد ذم من يعصونه ويخالفون شريعته واصفا إياهم بالظالمين وحكم عليهم باللعنة والفسق والكفر والشقوة والتفريط مهما كانت مبرراتهم مستندة على العقل أو العدل أو المساواة أو الحرية أو الحقوق أو المصلحة.
ومن خلال فهم الثمرة الثانية ندرك جيدا أن إيماننا بأن الله عدل هو قوة إضافية تعيننا على الالتزام بالشريعة مع ما فيها من مشقة محتسبين أجرنا عند الله في اليوم الآخر... أما من يقرأ المسألة بالعكس ويبدأ في محاكمة الشريعة بناء على تصوره الخاص عن العدل فيثبت فيها وينفي عنها ويقبل منها ولا يقبل فهذا إنما مثله كمثل إبليس وإخوة يوسف وأصحاب السبت أجارنا الله.

(فرع 4) هل هناك أهل فترة في هذا الزمان؟
خطر في ذهني أن بعض من ضاقت صدورهم بالشريعة في هذا الزمان قد يحبون أن يتم التعامل معهم كأهل الفترة من ناحية التشريع بحيث يشرعون لأنفسهم متحررين من قدسية الشريعة وقيودها غير العصرية، وقد يصل بهم الحال واليأس لكي يحققوا هذا الهدف إلى أن يستهدفوا الشريعة منهجيا لإضعافها وإسقاطها والتشكيك فيها لأنهم يرونها عقبة في طريقهم وفي طريق طموحاتهم التحررية، ولكن هل يصح ذلك؟
من ناحية موضوعية لا يصح ذلك حتى وإن ظنوا ذلك خدمة للاسلام وتسويقا له.. فهذا تحايل مخالف للأمانة في البحث العلمي الذي يتحرى الحق والحقيقة، ولا أتوقع أن يهتم بذلك الكثيرون ممن أصابتهم حمى الانبهار بالغرب إلا من كانت دوافعه شريفة وعالية لا غريزية متدنية فلربما يفهم هذا الخطاب.
نحن لسنا أهل فترة طالما كانت لدينا شريعة محفوظة نقلتها أمتنا جيلا بعد جيل واعتنت بها وبتفاصيلها أعظم العناية واتفقت عليها بعمومها وبمعظم تفاصيلها مثلما نقلت القرءان الكريم واعتنت به واتفقت عليه، والتشكيك في وجود الشريعة وثبوتها هو تماما كالتشكيك في وجود القرءان وثبوته.
إننا إذ تصلنا أخبار الفتوحات العلمية في الغرب والكثير من وقائع التاريخ نصدقها ونتعامل معها باهتمام ونبني عليها النظريات والأفكار ثم تؤثر على عقلياتنا وحياتنا وقناعاتنا أبلغ الأثر رغم أن تلك الأخبار العلمية والوقائع التاريخية لم يتم نقدها وغربلتها بنفس الكيفية العلمية التي تم فيها نقد وغربلة التراث النقلي في الإسلام، والاستمرار في الطعن في القيمة الثبوتية للتراث الإسلامي لمجرد أن ذلك ممكن جدليا هو شيء لا يؤثر في ثبوتيته، فلا يوجد شيء لا يمكن الطعن فيه جدليا بما في ذلك الله والوجود بأسره.
فإذا نجحنا في استبعاد فكرة أن المسلمين اليوم هم من أهل الفترة، لكن تبقى فكرة أخرى شبيهة بهذه الفكرة ولكنها لا تتناول المسلمين بل تتناول بعض الكافرين في هذا الزمان، فهل يوجد كافرون اليوم يمكن اعتبارهم من أهل الفترة؟
ورغم أن الفسحة التي سيستفيد منها أهل الفترة هي تعليق العمل بالشريعة وليس العقائد العقلية إلا أنه وبسبب الإعجاب ببعض الشخصيات الغربية والشرقية غير المسلمة لم يتصور بعض المسلمين كيف يكون أولئك "العظماء والمناضلون" من الهالكين؟! ولكي يبرر لهم من الممكن أن يذهب به التفكير إلى اعتبارهم من أهل الفترة، وهذا خطأ..
أولا أهل الفترة مكلفون بالتكاليف العقلية كالإيمان بالله وبجميع الأصول الاساسية في ديننا ولذلك يجب استبعاد الملحدين (حتى وإن اعتبرهم البعض عظماء ومناضلين) ينبغي استبعادهم من أهل الفترة.. فإن قيل إنما ألحدوا بالله بناء على الصورة السلبية التي كرسها أصحاب الأديان وطبعوا بها فكرة الله.. كان الجواب عليهم أن هناك الكثير ممن تربوا على الصورة السلبية التي كرسها أصحاب الأديان عن الله ولكنهم رفضوها وفرزوها وتوصلوا إلى عقيدة غير إلحادية أليق بعقولهم، بما يدل على أن تلك الصورة السلبية ليست مانعا عقليا من توصل العقلاء للايمان بل هي مانع عند الممتنعين الذين أعموا أنفسهم بأنفسهم وليست لديهم أسباب موضوعية وبذلك فلا يحق لنا أن نعذرهم ونبرر لهم.
كما يجب استبعاد أهل الكتاب أيضا من تصنيف أهل الفترة لأنهم مكلفون أيضا بالنظر في دعوى نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله ولا مجال لهم إلا بتصديقها (ولا يعني ذلك أن نقتلهم)، فإن لم يصدقوها لا ينبغي لنا أن نوحي لهم بأنهم قد يكونون من أهل النجاة يوم القيامة، لأن معنى ذلك أن "تصديق النبي غير واجب" وهذه الفكرة وأشباهها هي خارج عنوان الاجتهاد الإسلامي. ومن زاوية أخرى يجب التنبه إلى أن السمة الغالبة على أهل الكتاب اليوم هي الاعتقاد بعقائد تخالف التكليف العقلي كالقول بأن عيسى هو الله أو هو ابن الله، والكثير من الغربيين اليوم منكرون لفكرة الله من حيث الاساس ويعتبرونها فكرة مجافية للعلم.. فمن سيبقى مصنفا في هذا الزمان من ضمن أهل الفترة؟
كقاعدة عامة كل من لم تبلغه رسالة الله فهو من أهل الفترة وهو مكلف بالتكليف العقلي الذي ينبغي أن يوصله في الحالات الطبيعية للايمان بالله وتنزيهه ولكن هل من المعقول أن يوجد شخص في هذا الزمان لم تبلغه رسالة الله ولم تنره ألطافه؟ على المستوى النظري ذلك ممكن، ولكن على المستوى العملي الواقعي تحتاج دعوى مثل تلك لدليل دامغ قوي، وإن فرضنا ووجد أحد ما لم تبلغه رسالة الله فالتقصير هنا سيكون علينا نحن المسلمين أولا لأننا المكلفون اليوم بتبليغ رسالة الله إلى جميع الناس.. وانسجاما مع هذا التكليف لا ينبغي لنا أن نبرر ونعذر ونترحم على من مات على غير ملة الإسلام بحجة أن الله غني أو أن الله رحيم، فهذا معاكس تماما لفكرة تبليغ رسالة الله وحث الناس على الاهتمام بها والتأمل فيها بجدية بالغة باعتبارها سببا في فوزهم بالجنة ونجاتهم من النار، بل يتعدى ذلك ليصبح صدا عن سبيل الله... وسيكون لسان حال من يبرر للكافرين ويترحم عليهم: "ليس من الضروري اعتناق دين الإسلام للفوز بالجنة والنجاة من النار" أو "ليس من الضروري أخذ دين الإسلام بجدية كشرط للفوز بالجنة والنجاة من النار" فإذا لم يكن هذا صدا عن سبيل الله فما هو الصد؟!

وفي هذا المجال بلغني أن الأخ عبدالله يترحم على أحد الملحدين المشهورين بمعاداة الأديان باعتبار أن هذا الشخص كان عظيما ومضحيا وأخلاقيا وصاحب قضية في الحياة!! وقد ظن الأخ عبدالله أنه بهذا يعلي من شأن القيم الإيجابية التي كان يمثلها ذلك الملحد محتجا بأن الله غني عنه وعن إيمانه وعبادته، ولم يلتفت أنه بهذا إنما يقول لمن سمعه وتأثر به "ليس اعتناق الإسلام ضروريا المهم هو الأخلاق" فتخيلوا لو أصبح هذا عنوانا شائعا في الإسلام، كم من شباب المسلمين سيترك جميع فروضه والتزاماته الدينية ركونا على غنى الله ورحمته التي وسعت ملحدا يجاهر بمعاداته لدين الإسلام فكيف لا تسع مسلما يستهين فقط بما أوجب الله عليه؟ وكم من الشباب غير المسلمين لن يهتم بدين الإسلام ولن يأخذه بجدية ركونا على غنى الله ورحمته؟! ومن الناحية التربوية سيؤدي رأيك هذا إلى ما يؤديه الاعتقاد بالشفاعة والخروج من النار والجبر من الاستهانة بالدين والشريعة وجميع الاعتقادات الخطيرة الباطلة التي ناضل أهل البيت طويلا لتصويبها وتفنيدها.
والحقيقة أنني شخصيا أتمنى أن تسع ذلك الملحد رحمة الله وغناه ولكن ليست القضية بأمنيتي ولا بأمنية الأخ عبدالله ولا بأماني أهل الكتاب، فمن يعمل سوءا يجز به ولا سوء أكبر من الشرك بالله ولا ظلم أشد من معاداته والصد عن سبيله... نعوذ بالله.
وإذا كنا نقول للناس إن الله غني ورحيم فينبغي علينا أن لا ننسى أن نقول لهم إن الله صادق الوعد والوعيد أيضا، وإذا كنا نريد أن نتعلق برحمة الله وغناه فينبغي علينا أن لا نفصل ذلك عن جبروته وصدقه وعدله، وإذا كنا نبحث بإصرار عن مبررات للاعتذار للملحدين والمجاهرين بمعاداة الدين وأن الدين لم يبلغهم إلا مشوها، فعلينا أن ندرك أن الأنبياء جميعهم تعرضوا للتشويه والحرب الإعلامية المنظمة والاتهام بالسحر والشعر والجنون والكذب ولكن الله لم يعذر من وقع في براثن تلك الدعاية المضللة ولم يعدهم بالرحمة والتجاوز بل قرعهم أشد التقريع وتوعدهم أشد الوعيد لأنهم جعلوا من أنفسهم وعقولهم لعبة بيد شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.
أما في هذا الزمن فمن يعجز عن الحصول على كتب تعرفه بالخطوط العريضة لدين الإسلام سيما في أوروبا وحتى لو كان ذلك الشخص مشغولا بالخمور والمخدرات فلن يعدم الوقت والمال والجهد لمثل هذا البحث المصيري سيما إن قام المسلمون بواجبهم وأوضحوا له بدون مواربة أن هذا البحث مصيري للنجاة في يوم عظيم ولم يغروه بالأمنيات الفارغة والمشاعر الخادعة، وكيف ننسى دور الله وهدايته وتوفيقه وألطافه بمن هو صادق ونزيه وجاد في البحث عن الحق والحقيقة وهو القائل : "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا"، وأحيانا تتجلى ألطاف الله للصادقين والمضحين والأحرار في رؤيا أو محنة أو موقف من المواقف يكون سببا للتبصر والعظة.

(عنوان 2): الثنائية بين العقل والشرع : ما هي حدود قدرتنا على أن نقيس الشرع بالعقل؟

الثنائية بين العقل والشرع هي ثنائية معروفة وربما يكون لها شواهد في تاريخ الإسلام فبعض المنحازين للعقل لم يستسيغوا الكثير من الشرع لأنه يزخر بالعبادات والعلل الخفية، وعادة ما يعتبر أولئك العقليون الكثير من أحكام الشرع طقوسا لا فائدة منها طالما لم يلمسوا ثمرة مادية مباشرة عند أدائها، ولذلك عمد بعضهم لإسقاط الشريعة أو بعضها بحجة أنها لا تتلاءم مع العقل.
وبعض العقليين إذا أقروا بالعبادات على مضض فإنهم يتكلفون لها الفوائد المادية ليبرروا لأنفسهم ولسواهم فعلها يوميا وكأن الإلمام بالمصلحة وراء الحكم شرط في قبول الحكم وهذا ليس صحيحا.
وكما أعلم فإن منهج أهل البيت ومثله منهج المعتزلة العقلي لم يكن منحازا للعقل على حساب الشرع ولم يرد أي حكم شرعي ولو كان دليله ظنيا بموجب العقل.
وأذكر هنا اللقاء الشهير الذي جرى بين الإمام الباقر عليه السلام وبين الفقيه العاقل أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه حين اتهم الباقر أبا حنيفة بأنه يقيس في دين جده (بمعنى يرد بالعقل أحكاما شرعية) فما كان من أبي حنيفة إلا أن وضح موقفه بكل تواضع نافيا تلك التهمة الشنيعة.
واليوم وبفعل الهيمنة الغربية والهزيمة الفكرية التي يعاني منها الكثير من المسلمين أخذ قياس الشرع بالعقل عناوين أخرى كالعدل والمساواة والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وهذا ما سنحاول إلقاء الضوء عليه تباعا في الفروع التالية.

(فرع 1) العقل يقيس الشرع (العدالة):
لو شاهدنا رجلا معروفا بالاتزان والحكمة والعدل يعطي أحد ولديه ألف دولار ويعطي الاخر 500 دولار فإن ما سيتبادر إلى ذهننا بالنظر إلى هذه الحادثة المجتزأة أن الرجل لا يعدل بين ولديه، ولكنا وبالتحقق في خلفية الحادثة قد نعلم أن الاب أعطى (في الماضي) أو سيعطي الولد الاخر ( في المستقبل) أجهزة كهربائية بقيمة 500 دولار وعندئذ يتغير التقييم بالنظر إلى الصورة الكلية بعكس ما كان عليه بالنظر إلى الحادثة المجتزأة.
وعند تحليلنا للفارق بين التقييمين نجد التالي :

أ- لايصح من الناحية المنطقية أن يكون الاجتزاء سندا لتقييم العدالة بل يجب أن نحيط علما بالصورة الكلية قبل أن نستطيع الخوض في تقييم العدالة.
ب - أن طريقة التقييم يجب أن تنطلق من قاعدة بيانات ومعلومات وافية عن الموضوع قبل الانطلاق إلى الحكم وكلما كانت المعلومات والبيانات أوفى حول الموضوع يكون التقييم أكثر دقة وموضوعية.
ج - أن التقييم يجب أن يكون نابعا من معرفة راسخة بأصول التقييم بحيث يكون بالإمكان أن يستوعب الشخص الذي يتصدى لعملية التقييم يجب أن يستوعب أن 500+500 = 1000 ، فإذا لم يكن يستوعب ذلك فإنه غير مؤهل في الاصل للتصدي لعملية التقييم، ولذلك فلا نستغرب منه أن لا يستوعب بعد مراجعة الصورة كاملة أن الاب عدل بين ولديه.
وعند تعليق هذا التحليل على الشرع الذي قد يبدو لبعضنا غير عادل يمكن أن نفهم:

أ - أن الاجتزاء في ملاحظة الاحكام الالهية كمعتمد لتقييمها هو مسألة لا تصح منطقيا ولا توصف بالموضوعية بل يجب أن نحيط خبرا بالصورة الكلية التي نبعت الاحكام منها وفيها وبالعلاقة بين منظومة التشريعات العامة وبين منظومة الخلق العامة التي تنبني في مجموعها على قاعدة الابتلاء والتكليف والمسؤولية والعوض والتي تؤدي في مجموعها إلى العدالة الحتمية والمساواة العميقة العادلة.
ب- أن تقييم الاحكام الالهية يجب أن ينطلق من قاعدة بيانات ومعلومات وافية عن موضوعها الذي هو الانسان واستخلافه في الارض وذلك مستحيل عقلا وشرعا لانه يفترض أن نمتلك قاعدة بيانات مطلقة وهذا ما يختص به الله تعالى عزوجل بلا شريك أو ند.
ج - أن التقييم للاحكام الالهية يجب أن ينطلق من معرفة مطلقة وعدالة مطلقة، وهذا يختص به الله تعالى أيضا فالبشر والحضارات جميعها لا يمتلكون من أصول التقييم - لو سلمنا لهم بذلك - سوى معلومات نسبية لا نستبعد أنها وبعد توفر الصورة الكلية في قاعدة بياناتها - وذلك مستحيل - أن لا تستوعب وجوه العدالة الالهية المطلقة.

(فرع 2) العقل يقيس الشرع (المساواة):
عندما نطالب بالمساواة فإنما نرجو بذلك إقامة العدل بين من نساوي بينهما، ولذلك فكل ما قيل عن العدالة في الفرع السابق يمكن تطبيقه على المساواة، فإذا لم تؤد المساواة في حكم من الأحكام إلى العدالة بين المتساويين فهي قيمة سلبية لا إيجابية وهذا ما سنحاول تبيينه في المثال التالي:

فلنفترض أن الاسرة (أ) لديها ولدان شقيقان (لبيب) و (أديب) (يتساويان) في الظروف الاجتماعية والبيئية والاسرية ولكن لدى كل منهما ميول فكرية تختلف عن الاخر، فالشقيق (لبيب) يميل جدا إلى علوم الرياضيات والطبيعة، بينما الشقيق (أديب) يميل جدا إلى علوم الادب والشعر والفن، وقد حان الوقت الذي يمكن لوالديهما إدخالهما إلى المدرسة الخاصة حيث سيتم تأهيلهما تأهيلا عاليا حسب المجال الدراسي الذي سيموله الوالدان، وهنا سيواجه الوالدان الاشكال التالي المرتب في قضايا:

القضية الاولى : نريد المساواة بين أبنائنا
القضية الثانية : لذلك سندخلهما في مجال واحد وهو مجال الرياضيات والعلوم الطبيعية حتى لا يكون مستقبل أحدهما أفضل من الاخر.
القضية الثالثة : لكن أحدهما يميل إلى هذا المجال أكثر من غيره
القضية الرابعة : سينعكس التباين في الميول إلى تباين في المحصلة الدراسية فيتفوق أحدهما على الاخر
القضية الخامسة : سينتج في النهاية حصيلة غير متساوية بين الولدين يكون أحدهما متفوقا على الاخر وربما يصاب الثاني بنكسة ما ويظل بقية حياته يدفع الثمن.

ولذلك أستفادت الاسرة (ب) من تجربة الاسرة (أ) في التعامل مع ولديها وقررا أن يغيرا طريقة التعاطي مع الولدين كالتالي:

القضية الاولى : من العدالة والرحمة مراعاة الفروق الفردية بين أبنائنا .
القضية الثانية : لذلك سندخل كل واحد منهما المجال الذي يميل إليه فواحد سيكون طبيبا والاخر أديبا (أي سنضحي بالمساواة في المجال الدراسي)
القضية الثالثة : سيحب كل منهما مجاله وسيتفوق فيه
القضية الرابعة : سيتساوى الولدان في التفوق رغم عدم تساويهما في التخصص وسيعيشان في استقرار واتزان متساويين في تحقيق الذات وعليهما أن يتكيفا مع هذا التباين برضا وسعادة.

فأي الاسرتين يمكن أن نعتبره قد ساوى بين أولاده؟ الاسرة (أ) التي انطلقت من المساواة لتنتهي إلى التباين؟ أم الاسرة (ب) التي انطلقت من التباين وانتهت إلى المساواة؟!

بالطبع يمكننا أن نقول نظريا أن كلا الاسرتين قد ساوت بين الاولاد ولكن أسلوب المساواة هنا لم يكن مثل ذاك وبالتالي قيمة المساواة هنا لم تكن مثل تلك ؟
فالاسرة (أ) طبقت ما يمكن تسميته (بالمساواة الايديولوجية) السطحية الاستبدادية في ظل انكارها للتباين في المعطيات وللفروق الفردية والتي أدت إلى نتائج لم يكن مرغوبا بها
والاسرة (ب) طبقت ما يمكن تسميته بالمساواة العميقة العادلة التي راعت التباين في المعطيات والفروق والفردية وأدت إلى نتائج محمودة ومطلوبة.

ومن هذا المثال البسيط يمكن لنا أن نستخلص بعض العبر المهمة التي تؤكد لنا أن قيمة المساواة في ذاتها ليست قيمة إيجابية بالضرورة ما لم تكن هذه القيمة مقرونة بالعمق والعدالة ومبنية على قاعدة بيانات دقيقة تراعي الفروق الفردية العميقة العميقة وإلا فإنها ستظل مساواة ظاهرية استبدادية ذات قيمة سلبية مذمومة.
والعمق هنا والعدالة في هذا المثال هما معطيان ضروريان يرتبطان بمدى المعلومات المتوفرة لدى الابوين في تحديد الميول الخاصة بالولدين والفروق الفردية بينهما ، وكلما راعى الابوان هذه الفروق قبل اتخاذ أي قرار هام يتعلق بحياتهما ومستقبلهما فإن المساواة ستكون أقرب إلى الايجابية والعدل، وبالطبع لا يخفى أن إدراك الفروق هي مسألة تتعلق بالثقافة والعلم والمعرفة والحكمة والذكاء وكلما كان الابوان أحكم وأعلم وأذكى وألصق بولديهما كلما كانت المعطيات المتوفرة لديهما أوضح للانطلاق نحو تحقيق المساواة العميقة العادلة بين ولديهما العزيزين.

لعلنا الآن قد أدركنا المغزى من ضرب هذا المثال، فعند تطبيقه على شرع الله مالك الملوك أحكم الحاكمين العليم الخبير فإن كفة الله ترجح على كفة أي إنسان أو ثقافة أو حضارة أو قوة تتجرأ وتقول إن الشرع الالهي غير ملائم لقيمة المساواة، فهو ربما لا يكون ملائما للمساواة السطحية الاستبدادية، ولكنه حتما سيكون محققا للمساواة العميقة العادلة.
وهنا نجد أنفسنا مضطرين للعودة لاستعراض التصور العام لاصول الدين ومعرفة الله وصفاته عزوجل فنحن نفترض كمسلمين أن الله تعالى هو خالق الانسان الاعلم به وبتكوينه وغرائزه وخفاياه فهو عليم علما مطلقا وحكيم حكمة مطلقة وغني عنه غنى تاما، وعندما "يبتلي أو يصطفي" فإن ذلك الابتلاء أو الاصطفاء لا يتعارض بالضرورة مع قيمة المساواة العميقة العادلة رغم أنه قد لا يتلائم مع المساواة السطحية، واي دعوى بشرية تصر على أن ذلك الابتلاء الالهي الخاص أو الاصطفاء الخاص مناف لقيمة المساواة العميقة العادلة ستكون دعوى منافية للمنطق قبل منافاتها للشريعة ومن كابر في ذلك فإنما يلبس نفسه ثوب الالهية المختص بمطلقية العلم والحكمة والمعرفة بالانسان وخفاياه.

ولكي تتضح الصورة أكثر من المناسب لو توسعنا في الفكرة وخرجنا من تأمل الشرع وبدأنا في تأمل النظام العام لادارة الكون والخلق فكيف سنجده؟!
أليس النظام الكوني من حولنا مصمما على قاعدة التباين والتفاضل؟!
ولولا التباين والتفاضل لما ميزنا شيئا من شئ في هذا الكون ولأصبح الكل يشبه الكل ولما اكتسب شئ قيمة أبدا لان القيمة كما يقول الاقتصاديون هي قرين الندرة والتميز.
التباين هو السمة البارزة في الكون من حولنا، فهناك جماد وحياة وهما بالطبع غير متساويين وهناك إنسان وحيوان وهما بالطبع غير متساويين وهناك الموجب والسالب وهناك ذكاء وبلادة وفقر وغنى وجمال وقبح وطول وقصر وقوة وضعف وصحة ومرض ومواهب متنوعة فهذا شجاع وذاك كريم وذاك شاعر وذاك قيادي وذاك اقتصادي وذاك فيلسوف وذاك فيزيائي وذاك أسود وذاك ابيض وذاك حنطي وذاك أصفر وذاك أشقر وذاك أجعد وتلك أنثى وذلك ذكر وغير ذلك من التباينات الكونية والتفاضلات الخلقية الواضحة جدا التي لا تمت للتشريع بصلة.
ولكننا إذا تقبلنا تلك التباينات وتعايشنا معها إلا أن البعض لا يتقبلها ولا يقبل فكرة التعايش معها لاسيما إذا لم تكن الاخرة حاضرة في ذهنيته ويظل دائما مستشكلا في سنن الخلق تلك عدم مراعاة قيمة المساواة السطحية العاجلة في النظام العام لادارة الكون ثم يبني على ذلك أن الحكمة والعدالة مفقودة في تصميم هذا الكون فيلحد تلقائيا بالله ويقطع بعدم وجود قوة واعية حكيمة وراء هذا الخلق العظيم مغيبا عقله ومطلقا العنان لطبيعته الطينية الضحلة.
ولذلك نعرف جيدا أن الاختلاف والتباين والتفاضل كلها سنة من سنن الكون التي وإن لم نحط علما بوجوه الحكمة فيها فإننا ملزمون بالتسليم بها لا على سبيل التدين والالتزام والتضحية بل على سبيل الواقع الذي لا مهرب منه ولا ملجأ، فلا يوجد كون آخر يمكننا أن نعيش فيه غير الكون الذي خلقه لنا ربنا، والفرق بين الذي يسلم بها على سبيل التدين وبين الذي يسخط أن الاول ربما سيفوز بهذا التسليم والإذعان بينما يظل الساخط أسيرا لعدم الرضا بالقضا غاضبا على خالقه الحكيم وهو غير قادر على إلغائها.
ومن هذا المنطلق الذي استخلص منه الملحدون إلحادهم لعدم اكتمال الدائرة لديهم بالايمان باليوم الاخر يمكننا أن نفهم جيدا جميع التباينات والتفاضلات والاختلافات التي ظهرت في التشريع بموازاة الاختلاف في الخلق فالاختلاف في الشرع أيضا هو سنة معروفة ولا يمكن إلغاؤها وإن كان من الممكن أيضا السخط عليها والتحايل منها وتعطيلها لانها سنة مرنة قابلة للتحدي أرادها الله كذلك حتى تكون محلا للتكليف والبلاء ولذلك فهي قابلة للتلاعب ولكنها في النهاية تؤدي بالمتلاعبين إلى أسوأ مما كانوا يكرهونه من التباينات الدنيوية البسيطة إلى تباينات أخروية هائلة خالدة لربما لا تستوعبها عقولنا الدنيوية البسيطة {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ( في الدنيا) وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً }.

نماذج أيديولوجية للمساواة :

1- المساواة بين الاغنياء والفقراء في النظام الشيوعي :الشيوعيون رفعوا شعارات العدالة والمساواة في ثورتهم على الرأسمالية لانهم أحسوا بأن المجتمع قد انقسم إلى فئتين فئة ثرية جدا، قليلة العدد تستأثر بالاموال والخيرات، وفئة فقيرة كثيرة العدد ليس لها إلا الفتات، ولذلك فقد قرروا مساواة الجميع مساواة أيديولوجية بواسطة قوة الدولة السياسية والعسكرية والاعلامية، وبالفعل فقد فرضت تلك المساواة الايديولوجية وتحققت بعض المكاسب على هذا المستوى فأصبح المجتمع بالعموم متساويا في الحقوق والواجبات، يحصل على نفس المأكل والمسكن والملبس، وفي المقابل عليه أن يقدم الكثير من التضحيات من رصيد طموحاته الشخصية الفردية من أجل سمو مجتمعه ودولته وأمته.
هذه المساواة أدت في نهاية المطاف إلى أن يحصل كل فرد على نفس الكمية من المكاسب والحقوق سواء أنتج أم لم ينتج كان مجتهدا أم كان كسولا ومهما رفع من مجهوده وابتكر في أسلوبه فإنه لن يحصل على المزيد من المكاسب التي ستخل بالمساواة الايديولوجية، وبالتالي كان الإحساس العام لدى الأفراد في ظل الاشتراكية هو غياب الدافع للعمل والانتاج والابداع والابتكار والاجتهاد لأن النتيجة دائما ستكون نفسها مما أدى إلى توقف العجلة الاشتراكية عن الحركة والعمل وافتقدت الدافعية اللازمة للاستمرار وانتهت للسقوط واضطر منظروها للتعديل فيها وفي أسسها لحل هذا الخلل ومعالجته مستقبلا مما يدل وبشكل واضح وصريح لا لبس فيه أن ذلك الاسلوب في المساواة الايديولوجية المتعالية على الفروقات الفردية في المجتمع كان أسلوبا خاطئا وظالما ومدمرا رغم انبهار البشرية به لعقود من الزمن.

2- المساواة بين الرجل والمرأة في النظام الغربي: وفي المعسكر الغربي قرر الغربيون أن من العدالة وجوب فرض المساواة بين الرجل والمرأة، ورفعوا شعارات كثيرة دغدغت مشاعر الملايين وداعبت آمالهم بمستقبل مشرق زاهر تنال فيه النساء بعض العدالة بعد قرون عجاف من الظلم والسحق والطغيان، ولكن يبقى السؤال الذي يفرض نفسه دائما: هل سيكون مصير هذه النزعة هو نفس مصير النزعة الاشتراكية؟
فالمرأة في الغرب تعمل مثل الرجل خارج البيت وبالتالي أهملت أولادها وهي المهيأة فسيولوجيا لرعايتهم وملازمتهم أكثر من الرجل مما أدى إلى تفكك أواصر الأسرة، ومنذ الانفتاح الجنسي في هذا المجتمع تقل معدلات الزواج التي لا تحدث إلا في سن متأخرة نسبيا مما أثر على نسبة النمو السكاني، وفي المقابل تزيد معدلات الطلاق وتتضاعف ظاهرة الأطفال غير الشرعيين والأطفال الذين لا يعرفون آباءهم، وفي هذا المجتمع لم يعد للرجولة والأنوثة من معنى سوى تحديد ذوقك من المتع الجنسية الرخيصة السريعة كسرعة الوجبات السريعة.
والعجيب أن ذلك لم يحد من ظواهر مؤلمة جدا على المستوى الانساني كظاهرة ضرب الزوجات والصديقات ضربا مبرحا وكظاهرة الاغتصاب وكظاهرة الزنا بالمحارم وظاهرة إغواء القاصرات وإجهاضهن...
وظهرت طرق أخرى لاستغلال النساء منها عروض الازياء والدعايات الاعلانية وملكات الجمال والافلام الاباحية والتحرش الجنسي في العمل والمدرسة والجامعة وغيرها.
لم تعد المرأة (المسترجلة) في الغرب سكنا للرجل وبابا للاسرة الدافئة بل مشروعا جنسيا لمتعه الرخيصة المتعددة بتعدد النساء في حياته ووظيفته ودراسته وتسليته وتجارته غير آبه باختلافها عنه في مشاعرها المرهفة الممزقة المجروحة المتعطشة لبعض الدفء والسكينة والحميمية في أسرة مستقرة لا تكون فيها رجلا ثانيا أو مادة عابرة من مواد المتعة الذكورية الرخيصة وما أن يقول لها رجل بعد سنوات المعاشرة الطويلة " نتزوج" حتى تدمع عينها من الفرحة والرضا والسعادة.
وربما توصل الغربيون بحقل تجاربهم الكبير المسمى (مجتمعا) إلى جنس ثالث ظاهره الانوثة وباطنه الرجولة يفند جميع الاجيال البشرية التي صمدت بنا إلى اليوم ولكن وحتى الان نحن نرى جنسا ثالثا ظاهره (عمليات النفخ والزرع والشد) وعجلة الحياة تدفعه إلى الرجولة في معاشه و بياته بينما باطنه حتما ممزق ومدمر وتائه وتعيس منذ حكم عليه الفراغ أن ينتقل إلى فراغ أشد وأوحش وأسوأ ولسان حاله قول الشاعر :
لا تحسبوا رقصتي من عزفكم طربا *** فالطير يرقص مذبوحا من الالم
فهل من مصاديق احترام إنسانية المرأة وعقلها أن يتعامل معها الرجال انطلاقا من شكلها الجذاب ورائحتها الزكية وقوامها الممشوق الذي لا يكاد يتوارى خلف أحدث الصرعات والموضات العالمية؟ أم أن يتعامل معها من وراء حجاب وبتجرد تام مجبرا على استحضار إنسانيتها وعقلها دون اعتبار لشكلها؟
وأعلم جيدا أن المؤمنين في هذه الحالة متهمون بأنهم شهوانيون وحيوانيون بسبب تفاعلهم الذكوري بمجرد حضور جسد المرأة ولكني أؤكد أن الغربيين هم حيوانيون أيضا عند حضور جسد المرأة وإن أتقنوا اخفاء ذلك فإن لم يكونوا كذلك فهم مصابون بعلة البرود الجنسي الخطيرة وهم ليسوا طبيعيين.
وهل من مصاديق مساواة المرأة بالرجل واحترام إنسانيتها وعقلها أن تـقبل المرأة في الوظائف كمشهيات لما ستضفيه كيماؤها من تسلية على جو العمل وترغيب للموظفين والزبائن بالصيد في مياهها لعلهم يحظون بسمكة هنا أو حوت هناك فيحضرون إلى العمل زرافات ووحدانا؟! وإذا لم تع المرأة تلك الحقيقة واعتقدت أن من الممكن قيام علاقات صداقة وزمالة بريئة بينها وبين الرجال في العمل والدراسة والشارع فهي غافلة تماما عن طبيعة الرجل وتفاعله المباشر والمستمر مع حضور المرأة.
قد لا تكون وجهة نظري مقنعة وقد يوجد عليها الكثير من الملاحظات والمداخل هنا أو هناك وقد يجدها البعض جاحدة للكثير من المكاسب التي حققتها النساء في الغرب ونعمن في ظلها ببعض الحقوق المسلوبة عبر التاريخ فأصبحن أندادا للرجال وشركاء لهم، ولكني أذكر الجميع أن الرجل في الغرب هو من أعطى المرأة تلك المكاسب وأميل إلى الاعتقاد أنه لم يعطها إلا لمصلحته لا لمصلحتها فهو ليس بقديس ولا نبي وتاريخه مثل فلسفته ملطخة بالدماء والدموع، بينما في ديننا الاسلامي الحنيف الذي كانت وصية نبيه الخاتمة فيه "أوصيكم بالقوارير" الله تعالى هو الذي أعطى المرأة حقوقها وهو العالم بها وبأغوارها وبشقيقها الرجل وهو منزه تماما عن المصلحة أو الاغراض والتحيز والظلم لا سيما وقد جعل الاخرة خيرا وأبقى ووعد بها المتقين رجالا ونساء وضمن العوض لكل تضحية ونقيصة وضمن السؤال عن كل نعمة وزيادة وفضل.
وإزاء الاصرار على تحدي طبيعة الإنسان وسنن الخلق ونظام الكون ومحاولة التحايل على تلك القوانيين الطبيعية بتشريعات ثورية على الفطرة يقول السيد الشهيد محمد باقر الصدر رحمه الله ما معناه: "من الممكن أن أبتني قصرا وأن أجعل حدادا يقوم على عمل النجارة فيه وأن أجعل نجارا يقوم على عمل الحدادة فيه وربما يقف ذلك البناء لبرهة من الزمن شامخا بشكله الجميل الجذاب ولكنه في النهاية سينهار ومعه كل من ركن إليه ودعا الناس للسكن فيه".
إنما الجلد ملبس وابيضاض النفس خير من ابيضاض اللباس

(فرع 3) العقل يقيس الشرع (الحرية):
أولا وقبل كل شيء، يجب أن نقرر حقيقة لا لبس فيها ولا مواربة أنه في ديننا نحن نجزم وبكل فخر أننا عبيد الله وملكه وطوع أمره، فلا مجال للحرية هنا.. وفي المقابل فإن الثقافة الليبرالية السائدة اليوم قد لا تجد نفسها متفقة مع هذه الفكرة، فأنت حر بين أن تكون عبدا لله أم عبدا للنفس أوالهوى أو الشيطان أوالطاغوت.. أنت حر إن قررت أن تعبد صنما، أو أن تشرك مع الله أحدا بينما في ديننا لست حرا بفعل ذلك.
ولذلك فإن أية مناداة بالحرية ضد عبودية الله أو ضد طاعته لن تكون حرية داخل النطاق الإسلامي، وأية مناداة بالحرية تتضمن عصيان أوامر الله لن تكون حرية داخل النطاق الإسلامي، وأية مناداة بالحرية تتضمن تجاهل أوامر الله أو الاستهانة بها لن تكون حرية داخل النطاق الإسلامي.
ولمن يتماهى مع شعارات الحرية ونذر حياته للنضال من أجلها دون أساس فلسفي صلب ومتين فيجب أن يعلم أن الحرية بحد ذاتها ليست قيمة إيجابية بالضرورة وأن معناها جدلي ومطاط، وأنه لا بد لكل حرية من حدود وإطار ومرجعية تستقطب جدلا واسعا ووجهات نظر متعددة، ولا يحق لليبرالية (على الأقل) أن تزعم احتكار حقيقتها والنطق بلسانها والمزايدة على الآخرين بشعاراتها وإلا فإنها ستقع في تناقض بنيوي.

(فرع 4) العقل يقيس الشرع (حقوق الإنسان):
بقطع النظر عن الأصل الفكري لحقوق الإنسان بشكلها المعاصر إن كانت من النتائج السياسية للحرب العالمية الثانية أوكان الغرض منها هو فرض حكومة عالمية يقودها الحلفاء، أو كانت أداة استراتيجية لممارسة الابتزاز السياسي بهدف إخضاع الآخرين فإن حدث الخضوع فلا مشكلة كما هي حالة الصمت الغريب عن انتهاكات حقوق الإنسان في السعودية والديكتاتوريات العربية مثل حسني مبارك وزين العابدين بن علي وغيرهم.
لكن من البديهي أنه لا يمكن لأي فكر عظيم أن يتهاون بشأن حقوق الإنسان فلا جدال في أن هذا هو من أهداف المسلمين أيضا ولكن ولأن عنوان حقوق الإنسان هو عنوان مطاط ويجتذب العديد من الآراء والتفسيرات ووجهات النظر فإنه سيبقى معضلة فلسفية وفكرية جدلية لا يحق لليبرالية (على الأقل) أن تزعم امتلاك حقيقتها ومصادرة النطق بها وحدها وإلا وقعت في تناقض بنيوي.
حقوق الإنسان تتعلق أساسا بالمعطيات، فالمعطيات هي التي تجعلك متعاطفا مع حالة إنسانية، فإذا تغيرت المعطيات لديك فقد تتغير مشاعرك لتجد نفسك متعاطفا ضد تلك الحالة الإنسانية نفسها، فالمقتول الذي قد تتعاطف مع دمائه المسفوكة من أول وهلة تجد نفسك متعاطفا ضده في طرفة عين حين تتغير المعطيات لديك فتعلم أنه كان ينوي القتل والاغتصاب والدمار!!
وهكذا تلعب المعطيات دورا أساسيا في تحديد ما هو ضروري للحفاظ على حقوق الإنسان وما قد يؤدي إلى انتهاكها، وفي حين تقتصر المعطيات لدى الغربيين على الحياة الدنيا فإن لدى المسلمين جزما يقينيا بوجود يوم آخر تترتب على الجزم به آثار ثورية في أبجديات حقوق للانسان، فكما أن من حق الإنسان المادي أن يوفر لأبنائه ما يضمن عيشهم الكريم في الدنيا فإن من حق الإنسان المؤمن باليوم الآخر أن يوفر لأبنائه ما يضمن عيشهم الكريم في الدنيا ويضمن استعدادهم التام وتيسير مهمتهم فيما يتعلق باليوم الآخر، فمن حق ابنك عليك وحق المجتمع وحق كل إنسان مسلم يجزم جزما قاطعا باليوم الآخر أن تكون البيئة التي يعيش فيها معينة له على ذلك تماما كما أن من حق التلميذ أن يتوفر له جو الدراسة المثالي ثم جو المذاكرة المثالي حتى وإن وجده البعض مملا، وعلى ذلك فمن حقوق الإنسان المسلم أن يضمن عدم فتح منابر علنية للالحاد أو لأي فكر يمس بقدسية الأفكار الاساسية في دين الإسلام. ومن حقوق الإنسان المسلم أن يضمن البيئة التي يكون له بها أب شرعي معروف، كما أن من حقوقه كإنسان وقد أقفل في وجهه باب الزنا أن تتيسر له فرص الزواج بيسر وسهولة ومن حقوقه ايضا أن تتم إعانته على عدم الوقوع في الإغواء والحرام سواء في الشارع أو المدرسة أو التلفزيون أو أو ، ومن حق النساء المسلمات في ظل تحريم الزنا ورغبتهن الطبيعية في تاسيس أسرة شرعية وانجاب أطفال شرعيين من حقهن أن يتم تسهيل تعدد الزوجات وهكذا..
في دين الإسلام يتحدد الهدف من وجود الإنسان في اليوم الآخر أولا وتصبح الحياة الدنيا مجرد مرحلة بلائية عابرة يتزود الإنسان منها لدار البقاء في الآخرة، ولذلك فالمسألة في غاية الخطورة ويتحدد بها مستقبل الإنسان ومصيره في الأبد ولا تحتمل أن يتم التعامل معها كترف فكري أو غيبيات على الرف ومن حقوق الإنسان المسلم أن لا يتم تجاهلها في مرحلة تقييم حقوق الإنسان حتى لو لم يقتنع بها الغربيون أو يفهموها.
-----------------------------------------

عبدالوكيل التهامي
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 105
اشترك في: الخميس مارس 30, 2006 2:21 pm

Re: نقد التجديد الديني (مقالات عبدالله حميد الدين)

مشاركة بواسطة عبدالوكيل التهامي »

و - القضيتان السادسة والسابعة: الشريعة هي نتاج رؤية أسطورية ونظام كوني يحدد الموقع الاجتماعي :

الجواب على هاتين القضيتين قد تم التوسع فيه في القسم (أ) من المسلمات (القضية الأولى) العنوان الثاني (التغير النوعي في رؤية الإنسان) فيراجع

---------------------

ز- القضية الثامنة : القرءان كتاب هداية للعرب وغيرهم :

لتجنب التكرار يراجع في نقاش المسلمات (القضية الثانية) – (العنوان 1) – (الفرع 2)

---------------------

ح- القضية التاسعة : القرءان مخلوق:

ما نعلمه عادة من العلمانيين العرب هو العمل على تحييد السنة النبوية التي تشكل أهم مصدر لمعرفة التفاصيل في دين الإسلام، وتاريخيا فإن العلمانيين الأوربيين عندما طعنوا في دينهم وسلطة الكنيسة فإنهم استطاعوا تحييد كتابهم المقدس ولم يواجهوا المشكلة الثبوتية التي يواجهها العلمانيون العرب مع القرءان الكريم، فالطعن في القرءان الكريم عند المسلمين هو خروج عن دين الإسلام، ولا سبيل لمن يريد تحريف (تجديد) دين الإسلام إلا بالاعتراف به وبثبوته وقدسيته أولا ثم محاولة التحايل عليه وعلى أحكامه في مراحل لاحقة عبر الجدل والتأويل والاجتزاء، ولكن كيف سيتسنى للمحرفين تجديد الإسلام وهم مضطرون أن يعترفوا بقدسية القرءان وثبوته؟
إنهم ورغم الاعتراف بقدسية القرءان وثبوته إلا إن ذلك لم يعن الاعتراف بالمعاني التي نقلها المسلمون معه، وهذا ما فتح لهم نافذة واسعة للتجديد تشمل الكثير من معالم دين الإسلام، ولكن هذه النافذة رغم وسعها إلا انها ليست شاملة ولا تحل مشكلة العلمانيين من جذورها، فإنهم وإن وجدوا الكثير من آيات القرءان قابلة للجدل والتأويل والاجتزاء إلا إنهم سيواجهون آيات من الصعب تطويعها والالتفاف عليها للتوافق مع أغراض التجديد والعصر، ولذلك بقيت قدسية القرءان عائقا أمام إسقاط الشريعة وأمام التجديد الشامل لدين الإسلام.

حسب معلوماتي القاصرة - حتى الآن لم يجرؤ أي علماني عربي يريد العبور إلى قلوب المسلمين – لم يجرؤ على المس بقدسية القرءان، وما طرحه الأخ عبدالله تحت عنوان " تطور مفهوم خلق القرءان" هو أول محاولة علمانية للمس بقدسية القرءان الكريم.
ورغم الصعوبة البالغة في فهم مراد الأخ عبدالله في هذه النقطة الحساسة بالذات، ورغبتي الصادقة في عدم تقويله ما لم يقله، فإن خلاصة ما فهمته – وله مطلق الحرية في التصحيح- كان:

انطلاقا من قرءاة خاصة غير واضحة ولا مكتملة الأبعاد والمعالم لمقولة "خلق القرءان" عند المعتزلة، دلل الأخ عبدالله على عدم قدسية نص القرءان الكريم الذي بين أيدينا بعدة قضايا:

1- نص القرءان مرتبط بالمكان والزمان الذي نزل فيه بدليل أن الكثير من الآيات نزلت تعقيبا على حوادث معينة، ولذلك فليس لنا بالضرورة أن نربط ذلك النص بأمكنة أخرى وأزمنة أخرى (عزل النص – تجميده في الزمن الماضي).
2- يجب أن نستحضر أنه يمكن لله تعالى أن يزيد في القرءان وأن ينقص فيه، وهذا يعني أن نص القرءان قابل للتغيير.. (عدم ثبات النص)
3- لو نزل القرءان على الهنود لكان نصه مختلفا وكذلك لو نزل القرءان اليوم علينا لكان نصه مختلفا، ولكن ورغم نزع القدسية والثباتية عن نصه يبقى جوهره في جميع الحالات والأمكنة والأزمنة واحدا (عدم ثبات النص – ثبات الجوهر).

ولأن هذه القراءة الخاصة لمقولة "خلق القراءن" الشهيرة عند المعتزلة لا تتلائم مع الخلفية التاريخية لهذه المقولة، و لا مع غرضها ولا مع أدلتها وحيثياتها الموضوعية، برر الأخ عبدالله قراءته الخاصة تلك بأن مفهوم "خلق القرءان" عند المعتزلة لم يتطور، أو لم يُسمح له بالتطور ليصل إلى ما وصل إليه الأخ عبدالله من المس بقدسية نص القرءان وثباته!
وقد ذكرني موقفه هذا بنكتة ظريفة كان بطلها أحد الملحدين الذين أوصلهم الجدل معي للحديث عن الصدفة، فقال ذلك الملحد في سياق المحاججة: "لقد تغير مفهوم الصدفة" فقلت له مستهجنا: ومن غير ذلك المفهوم؟ ومتى؟ ومن يحق له تغيير المفاهيم أصلا؟ وكيف يتم تغييرها؟ بالديمقراطية؟ بالانتخابات؟ بالدعاية؟ لقد تغير مفهوم الحمار ليبقى حمارا ولو طار.
لماذا لم يتطور مفهوم "خلق القرءان"؟ ما الذي كان ينتظره لكي يتطور؟ ما هو الجديد؟ مئات السنين من العلماء والمفكرين عجزوا عن الوصول لذلك التطور؟ هل كانت تنقصهم العبقرية؟ أم كانوا بانتظار حقنة انبهار صاعقة بالثقافة الغربية وهزيمة نفسية ماحقة لكي يتطور مفهومهم إلى نزع القدسية عن القرءان الكريم؟ لماذا لا نقول "لم ينتكس" مفهوم خلق القرءان لديهم ليصل إلى ما وصل إليه الأخ عبدالله؟

هل يمكن أن يؤدي التعاطف مع بكاء تلك المرأة التي ذكرها الأخ عبدالله في أحد مقالاته للتفكير جديا بتغيير ألفاظ القرءان الكريم وتبديل معانيه وشرع ما يكفكف دموعها ويمنحها ما لم تمنحها الكتب العتيقة؟ فما هو التحريف بعد هذا؟ وما هو التسليم لحكم الله بعد هذا؟
أنا كمعجب بتراث المعتزلة أعتبر ما ألصقه الأخ عبدالله بهم تدنيسا لجهادهم وتراثهم وخدمة لأعدائهم وابتكار طريقة جديدة لاتهامهم والتشنيع بهم وبمقصدهم الشريف في تنزيه الله وحماية دينه، وأخشى أن تصبح نظرية الأخ عبدالله في يوم من الأيام حجة على المعتزلة يعيرون بها ويساؤون بجريرتها فيقال لهم: انظروا إلى ماذا أوصل أتباعكم القول بخلق القرءان، لقد أوصلهم إلى نزع قدسيته والاستهانة بألفاظه.

وأقول بكل وضوح: إن كان معنى خلق القرءان كما يظن الأخ عبدالله فأنا أبرأ إلى الله منه وأرى أن أحمد بن حنبل كان على حق في خوفه على القرءان من هذه الفلسفة المشبوهة.
والواقع ليس كذلك لأن مسألة خلق القرءان كمسألة متعلقة بفعل من أفعال الله ألا وهو كلام الله هي مسألة في غاية الوضوح وليست مفهوما متطورا ولا لغزا معقدا ولا علاقة لها بالتشريع ولا يمكن أن تكون أساسا لأي تحريف بل هي مجرد تنزيه لله عن شريك له في الأزلية، كما أنها نشأت للرد على حجج النصارى بأن عيسى كلمة الله كان قديما.
المسألة بهذه البساطة: لو أمر الله تعالى البشرية بأمر هذه اللحظة وبأي لغة فهذا الأمر سار على جميع الأعناق والأزمان ما لم يأت نسخه من عند الله مع العلم بأن هذا الأمر "مخلوق" أو "محدث" وليس "قديما".
فإن لم يكن الكلام واضحا فعلينا أن نتأمل السؤال التالي: ما هو الفرق العملي بين ثلاثة أشخاص الأول قرأ القرءان مستحضرا قدمه والثاني قرأه مستحضرا حدوثه والثالث لم يستحضر اي شي؟ عند الجواب سيتضح أنه ومهما تكلفنا من فرق بينهم سيتبين أن الفرق لا علاقة له لا بقدم ولا بحدوث.. تماما كما أنه لا فرق بين أن يقرأه أحدهم وهو مستحضر أنه كتاب في 600 صفحة أو في 550 أو 500
والمعلوم أن المسلمين تاريخيا كانوا يقرأون القرءان ويفرقون بين بعض النصوص التي تتناول حادثة خاصة كالاحكام الخاصة بالنبي كقوله تعالى "خالصة لك من دون المؤمنين" وبين بقية النصوص التي لا تتقيد بزمان أو مكان أو شخص وهم في حموة النقاش لإثبات أن القرءان مخلوق أو غير مخلوق.
فإذا كان مراد الأخ عبدالله من نظريته أنه يمكننا أن نغير بعض الأحكام في القرءان الكريم وتجميد العمل بها وعدم تقديس ألفاظها بعلة أنه مخلوق (كأحكام المرأة مثلا)، فلماذا لا ينسحب ذلك على القرءان كله فيتحول إلى مجرد كتاب تراثي مجمد غير مقدس الألفاظ لا قيمة له تلاوة أو حكما لأنه مخلوق؟! وما هو الفرق حينئذ بين وصفنا القرءان بأنه مخلوق وبأنه لا قيمة له ولا قدسية؟!

وقد يقول الأخ عبدالله: لم أرد نزع القدسية عن القرءان ولا تحريفه ولكني أريد أن نقرأه وفي أذهاننا أنه مخلوق لا قديم.. سأقول له: نحن نفعل ذلك وقد فعل ذلك من قبلنا دون أن يتبادر إلى ذهن أحد الاستهانة بلفظ القرءان الكريم كما هو أو جواز تحريفه أو تحريف الشريعة.
وربما التبس على الأخ عبدالله لفظ "مخلوق" المضاف للقرءان ومعنى مخلوق هنا هو : "أن الله أوجد القرءان وهو قادر أن ينقص فيه أو يزيد وما زال قادرا أن ينقص فيه أو يزيد" ومن هنا نعرف أن إمكان الزيادة أو النقصان المضاف للقرءان متعلق لله وحده وحتى إن كان ممكنا اليوم فإنه بيد الله عبر أنبيائه لا بيد المجددين.
وعندما يقول الأخ عبدالله إننا نتعامل مع القرءان باعتباره قديما!! هل يعني بذلك أننا نتعامل مع القرءان دون أن نستحضر أن الله يقدر أن يزيد فيه وينقص؟ هل يريدنا أن نستحضر هذا عند تلاوة القرءان؟ أم يريدنا أن نستحضر أن المجددين يستطيعون أن يزيدوا فيه وينقصوا؟ هناك فرق..

فكرة "لم يتطور" هذه ونسبتها إلى المعتزلة هي أشبه ما تكون بالاستغلال منها إلى البناء العلمي المنطقي، وهناك العديد من الأمثلة التي تبين كيف يمكن استخدام "لم يتطور" كأداة للتشنيع وإلزام وتشويه الخصوم الفكريين:

1- إن مفهوم نفي الجسمية عن الله عند المعتزلة لم يتطور ولم يسمح له بالتطور وإلا لكان قد وصل إلى نفي الله والتحرر من الدين لصالح العقل وإثبات المنهج العلمي في التفكير.
2- أن مذهب المجسمة لم يتطور ولم يسمح له بالتطور وإلا لاتخذ المجسمة أصناما يزعمون أنها للبارئ عزوجل وسجدوا لها وعبدوها.
3- إن وجهة نظر الأخ عبدالله لم تأخذ مجالها في النمو والتطور بسبب القمع الفكري وإلا لكانت قد صدحت بعقيدة الإلحاد دون مواربة وبالعلاقة مع مشروع آل سعود دون خفاء.
فهل هذا أسلوب بحث علمي أم أسلوب هجوم تشنيعي؟

ما أخشاه أنه وفي ظل الشعور الحاد بالتناقض لدى أولئك المجددين بين تقديسهم للتراث وبين رغبتهم الشديدة في تعديله وتغييره وتطويعه ليصبح ملائما للذوق المعاصر .. ولأن فكر المعتزلة قد ارتبط تاريخيا بالعقل وتعرض للاقصاء الفكري ولأنهم بحاجة إلى مستند تاريخي وذريعة أصيلة لتمرير تجديدهم وتسويق شطحاتهم! لا أدري هل بالإمكان ان تتطور آراء المعتزلة عندهم بواسطة "لم يتطور" إلى أفكار أخرى تخدم منهجهم وأهدافهم في تغيير معالم الدين؟ أتمنى أن لا يحدث ذلك.

(خلاصة الفكرة): وإزاء كل ما سبق يمكننا تلخيص الموقف إزاء فهم الأخ عبدالله لخلق القرءان عند المعتزلة بالتالي:

- لو كان هذا هو أحد معاني مصطلح "خلق القرءان" أو مما يلزم منه لكان هذا المصطلح خاطئا وللزم تصحيحه فإن لم يكن بالإمكان تصحيحه لجزمنا بأن هذا المصطلح باطل من أساسه ولما كان مذهبا للمعتزلة بل أصبح مذهبا لأهل الضلال والتحريف، ولو فرضنا جدلا أن أحدهم قد أثبت يوما أن هذا هو مذهب المعتزلة فعلا ومرادهم من هذا المصطلح لكان مذهبهم باطلا ولرفضناه بجملته، ولكنه ليس مذهب المعتزلة ونسبته إليهم هو إساءة لهم وتحريف لمرادهم وتدنيس لمنهجهم.
- هذا يتعارض مع منهج المعتزلة في أصول الدين ذلك المنهج الذي يرتكز على تنزيه الله تعالى وتثبيت دينه وقدسيته في قلوب وعقول المسلمين ولم يكن غرضهم يوما الانتقاص من قدسية القرءان الكريم ولا ألفاظه ولا معانيه ولا الانتقاص من السنة النبوية وليس لهم سلطان في ذلك لا بالعقل ولا بسواه.
- هذا القول سيتحول في المستقبل إلى أداة للتشنيع على المعتزلة وتأكيد جميع التهم التي رماهم بها مخالفوهم عبر التاريخ، وهذا ظلم لا يقوم على دليل وينطوي على جهل شديد بمذهب المعتزلة ومرادهم، وهو استخدام غير أخلاقي لاسم المعتزلة في معركة العلمانيين للمس بقدسية القرءان وثباته.

(فرع1) القرءان الهندي وأبو سفيان النبي :
لم أجد معنى لطرحك مثل هذا الفرض الغريب إلا أن لديك ملاحظات جوهرية بشأن القرءان الكريم وأنه لا يصلح لهذا الزمان، وأنه لو نزل اليوم لكان مضمونه مختلفا، لكنك تظن أنه سيكون متسقا مع العصر! فهل تتوقع أن ينزل الله كتابه العصري الجديد باللغة الانجليزية مثلا؟ هل تتوقع أن يكون مضمونه ليبراليا يقترب في صياغته من دستور الولايات المتحدة الأمريكية ونصوصه موافقة لمواثيق الأمم المتحدة وحقوق الإنسان وحقوق المرأة والحرية الاقتصادية والمنهج العلمي في التفكير؟ هل تتوقع أن يختار اللهُ حلف الناتو لحمايته وتحقيق أهدافه أم سيختار الصين أو الهند؟ هل تتوقع أن يعتبر فيه الخمر والزنا والافلام الإباحية مجالا للحرية الشخصية، والعلاقات الجنسية العابرة بديلا عن الزواج ويصبح به الأطفال غير الشرعيين شرعيين؟ أم سيقتصر جديده فقط على نزع الحجاب وإلغاء الوضوء وتخفيف طقوس الصلاة وتحريم زواج الفتيات دون 18 عاما وإجازة الزواج المدني؟
اتسائل: هل سيتحدث هذا القرءان عن مدى إنسانية قنبلة هيروشيما أو عن مدى عدالة قضية فلسطين أو عن مدى سلامة الاحتباس الحراري أو عن مدى مساعدة البنك الدولي لنهضة الشعوب الفقيرة؟ ماذا سيكون موقفه من اللوبي الصهيوني المتحكم بالمال والإعلام والعقول والشعوب؟ هل تتوقع أن يكون لله رأي آخر بشأن هذه القضايا في هذا العصر خلاف رأيه سابقا في القرءان الكريم؟ هل يصلح القرءان الكريم دستورا لهذا العصر؟ هل انتهى أوانه وأصبح من الضروري أن يرسل الله كتابا آخر ونبيا آخر وشريعة أخرى؟
هل تعرف الإجابة عن هذه الأسئلة؟ إذا لم تكن تعرف فهل هناك من يعرف؟ هل هو نبي؟ أم هو مثقف تغير وعيه نوعيا وكميا؟ أخشى أن الأمريكيين هم من نالوا قدم السبق في هذا المجال منذ أن أعلنوا عن مشروع "القرءان الحق".
وبعد الاطاحة بقدسية اختيار الله ومزاحمته في حكمته بدعوى الإلمام بجوهر ما يقول وما يريد، وفي مقابل افتراضك للقرءان الهندي قد يورد غيرك هذه الافتراضات لاسقاط قدسية القرءان الكريم والشريعة:

1- لو اختار الله أبا سفيان نبيا لاختلف دين الإسلام ولربما اختلفت حتى تسميته فأصبح مثلا يعرف باسم "دين المصالح الشخصية والتجارة المثمرة" ولربما اختلف مضمونه ولكن سيبقى جوهره!
2- لو خلق الله بني آدم كالأسماك في الماء لاختلفت أحكام الإسلام في الوضوء ليصبح غسلا!
3- لو أوصلنا التطور إلى أن نكون مزدوجي الجنس فسيعني ذلك أن الشريعة ستفرض مهرا متبادلا بين الزوجين.
دعنا من هذه الافتراضات التي لم تحدث ودعنا ننتقل إلى الوقائع التي حدثت فعلا، دعنا من الخرص والتخمين وقم بنا إلى الحق واليقين، فقد اختار الله النبي محمدا واختار هذا الدين واختار هذا القرءان واختار هذا المجتمع بلغته وعقليته وفهمه للحياة كحاضنة لهذا الدين وهو يدرك جيدا معادلات التفاعل مع أولئك البشر وهذه البيئة وتلك العقليات ومدة السنين، وسمى ذلك الدين دينا خاتما ومهيمنا وعالميا، وبالفعل فقد خضعت له الحضارات الأخرى ودارت في فلكه لا العكس، بينما أنت وبعد التغير النوعي الطارئ على وعيك بالعالم بسبب تأثرك بحضارات أخرى تقترح الآن أن ندور في فلك آخر وأن نمسك بالقرءان ليدور معنا في ذلك الفلك دون أن تعطينا معجزة لنصدق ما تقول لأن ما تفعله هو وظيفة الأنبياء لا العلماء.

(فرع2) بين وظيفة العلماء ووحي الأنبياء :
إن الحديث عن نص آخر للقرءان في هذا الزمان ، والتنظير لنسخ الشريعة القديمة وفرض شريعة جديدة هو من اختصاص الأنبياء ، بينما تقتصر وظيفة العلماء على الاستنباط بقواعد من نفس الشريعة التي جاء بها الأنبياء بشكل لا يلغي نفس الشريعة ولكن يضيف عليها ما يجد من تفصيلات.
والعجيب أن النبي صلى الله عليه وآله كان قد أخبر ذاما عن أمته في آخر الزمان وأنها ستحذو حذو اليهود والنصارى حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلته أمة الإسلام مبررا ذلك بتحكيم الهوى واتباع الجهلاء وهذا ما هو حاصل هذه الأيام ، فقد راجت مؤخرا الفتاوى العصرية التي تجيب السائل حسب هواه وهذا النوع من الفتوى يتوصل للحكم قبل الدليل ثم يبحث بعد ذلك عن الدليل ويستنطقه بما يشاء.
---------------------

ط- مجموع القضايا السابقة :

"إنسان اليوم بالتغير في رؤيته للقوى المتحكمة في الكون وفلسفته عن الموقع الاجتماعي لن يتفاعل مع الوحي بحسب ذهنية إنسان الأمس برؤيته عن قوى الكون وفلسفته عن الموقع الاجتماعي ويحق له الاجتهاد مثل الإنسان السابق لكي تتحقق الهداية بالوحي ونتاج هذا الاجتهاد هو شريعة جديدة قد تكون موافقة أو مخالفة للشريعة القديمة".
بعد أن حاولنا مناقشة جميع القضايا المكونة لهذه الجملة الطويلة فإننا قد نصل لتقييم شامل بشأن قيمة نظرية الأخ عبدالله التي يعتبرها مبررا لفتح المجال لتجديد الدين واللحاق بالعصر، كما أن من المناسب قراءة ملحق هذه الرسالة بعنوان "تحليل الدين كظاهرة اجتماعية" والذي تمت فيه مناقشة هذه القضية من زاوية أخرى وبأسلوب مختلف اختاره الأخ عبدالله بنفسه.
وباختصار يمكن قراءة نظرية التجديد الديني للأخ عبدالله كالتالي: من أجل اللحاق بالعصر لا بد أن تتغير الشريعة ولكي تتغير الشريعة فلابد أن تسقط كل خطوط الدفاع التي تحصنها من التغيير، أصول الفقه مجرد نظارة قديمة مليئة بغبار البداوة عفى عليها الزمن يجب أن نخلعها ونلبس غيرها بما يلائم عصر العلم والتكنولوجيا -وابعد من ذلك- القرءان الكريم لم يعد مقدسا كما كان فلا قدسية لألفاظه المخلوقة التي لو نزلت على الهند لكانت مختلفة، ولا قدسية لمعانيه التي ليست سوى تفاعل بدوي مؤقت حصل في الماضي لا يلزم بقية الأمم منه شيء طالما اعتقدنا أن القرءان هداية للعالمين.
قد أكون مخطئا في قراءتي لنظرية الأخ عبدالله وتحديد مضمونها، ولست مصرا على إلصاقها به، ويكفي منه مجرد النفي لكي يتأكد النفي، حينئذ سأعتبر هذا البحث قراءة لنظرية افتراضية تستهدف دين الإسلام وتضع مبررا نظريا لتحريفه في المستقبل من قوم استطاع الغربيون (الأقوياء المنتصرون) تغيير عقليتهم الفلسفية ومقاييسهم الأخلاقية وقيمهم الاجتماعية، نظرية تستهدف نزع قدسية القرءان الكريم لفظا ومعنى وتحويله إلى مجرد اسم ورمز ينسب إليه الناس ما شاؤوا وليس له سوى التوقيع والإمضاء ومنح البركة والمشروعية تماما كعلاقة ملكة بريطانيا برئيس وزرائها.
أتساءل: كيف سيفند الأخ عبدالله مثل هذه النظرية التي تستهدف دين الإسلام؟
--------------------

عبدالوكيل التهامي
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 105
اشترك في: الخميس مارس 30, 2006 2:21 pm

Re: نقد التجديد الديني (مقالات عبدالله حميد الدين)

مشاركة بواسطة عبدالوكيل التهامي »

الخط الثاني : الدافع :

تجديد الدين يعد عند الكثيرين مرادفا لتحريف الدين ورضوخا لتأثيرات أعداء الدين ، فإذا صدرت هذه الفكرة من شخص نكن له كل الاحترام ونعرف من هو ومقدار ثقافته وذكائه فإنا نتساءل : ما هو دافعك أخي عبدالله من إثارة موضوع حساس وخطير كهذا ؟ سأحاول الإجابة عن ذلك ولكن تبقى هذه الأجوبة مجرد تخمينات قد تعين الأخ عبدالله لمراجعة نفسه وله كل الحق في نفيها أو إثباتها.

أ - إقناع الغربيين والمستغربين بالإسلام :

بسبب احتكاكك بالكثير من الغربيين أو المغسولين دماغيا بثقافة الغرب تضطر حين نقاشهم أن تواجه الكثير من الاستهجان بشأن بعض الأحكام الشرعية العتيقة لاسيما بخصوص المرأة والحدود الشرعية والتي تتعارض اليوم مع الثقافة الإعلامية والشبابية الدارجة ، يبدو لي أنك عجزت عن تبرير تلك الأحكام فقررت أن أسلم طريقة هي بالتخلص منها مع الاحتفاظ بالأصول الأساسية ولكن المشكلة كانت كيف سيكون رد فعل "من يشعرون بالتهديد" أو "القابعين في قوقعة الماضي" ولا يعرفون ما يجري من تطورات في العالم ؟ كيف سيتقبلون هذه الثورة ؟ فكان لا بد من إبتكار نظرية مخملية لعرض ذلك في أبهى حلة ممكنة وإظهار الأمر وكأنه مجرد تدوير للزوايا لا أكثر أو تصويره كأنه خروج من الإطار الضيق إلى إطار أوسع وأشمل يتلاءم مع روح العصر ويجب أن يبقى كل شيء مطاطا وقابلا للتأويل كيفما يريد المؤلف يفسره متى شاء وأنى شاء ليبقى الأمر تحت السيطرة.

ب- الخشية على مستقبل الإسلام :

ومن دوافعك التي خطرت لي أيضا أنك تفكر كثيرا في مستقبل الإسلام وفي خطر عدم قبوله بين شباب المسلمين وفتياتهم فقررت الخضوع لمطالبهم وإعطائهم بعض الحرية والمتنفس قبل أن يرتدوا على أدبارهم مفارقين ويميلوا نفسيا إلى سواه.
ولكن ، هل هذا الدافع الذي يعكس همومك الكبيرة يبرر لك ما فعلت ؟
بالطبع لا : فما تفعله هنا هو هدم للاسلام وتحريف للشريعة وتضليل للناس ، فما أنت عازم على تقديمه للناس ليس الإسلام بل دينا يخترعه الناس وإن سموه إسلاما ، فإذا كان هذا هو همك وبت تخشى أن لا يتقبل الكثيرون أحكام الإسلام فاعلم أنه ليس من الحكمة في شيء الخضوع لرغبة المستفتي إذا ظن المفتي أن المستفتي لن يعمل بالفتوى بل الحكمة قد تكون أحيانا بالسكوت ودعه يفعل ما يشاء دون أن تعطيه الشرعية بمخالفته وتبذل له صك أمان وغفران في ما يفعل وتأكد أن الأيام ستتحول وأن الإنسان الذي تظنه قد تغير وعيه سيعود إلى فطرته بعد زوال المؤثر الذي لن يظل للأبد.

ج- العيش في مجتمع وهابي جامد :

لعل العيش في مجتمع جامد يحرم التفكير ويطعن في العقل ويكفر بالشبهة ويظلم باسم الدين لا بد أن يولد ردة فعل لدى العقلاء وبدلا من تسديد الضربات للفكر الوهابي تسدد الضربات لأسس الدين الإسلامي ككل ويصبح كل شيء ضبابيا.

د - الحياة المثالية في الغرب :

قد تكون قد اقتنعت بأن نمط الحياة في الغرب مثالي وتخيلت بأن فرض بعض الأحكام الشرعية على ذلك المجتمع قد يفسد تلك المثالية ويحول الحلم إلى كابوس.
وبالتالي فقد خلصت إلى أنه لا يمكن أن يؤدي تطبيق الإسلام إلى تحويل الأحلام إلى كوابيس فما هي مصلحة الله في ذلك؟ ، فلا بد إذن من طريقة يكون بها الإسلام مطاطا كفاية بحيث يستوعب نمط حياة الغرب وتشريعاتها لتصبح إسلامية مع بعض التعديلات الطفيفة التي لا تخل بصميم النموذج.

هـ - هبت رياح النسبية :

النسبية فكر مستشر هذا العصر وهو نتاج الثورة العلمية في أوروبا كما أنه القاعدة التي تأسست عليها فلسفة الليبرالية وفكرة الحريات سيما حرية الاعتقاد وحرية التصرف ، والكثيرون يعتبرونها خطأ الأساس الفكري لمنهج البحث العلمي الذي يعتبر في إحدى مدارسه المتطرفة أن الجزم والقطع واليقين مستحيلا إلى جانب كونه عائقا أمام التقدم العلمي.
والنسبية التي تصيب الإنسان بداء التشكك وقد تعصف بكثير مما كان يعتقد ، تنعكس تلقائيا في أسلوب الشخص وطريقة طرحه لأفكاره وإدارته لنقاشه، وينقل القلق والشك الذي يساوره إلى الموضوع ويبدو غير حاسم ولا منحاز لطرف ويميل للتركيز على المتغيرات ويتكلم كثيرا عن فضيلة إثارة الجدل ويثمن مبدأ الاستفزاز الفكري للاخرين للتعبير عن آرائهم حتى في المواضيع المقدسة لأن المواضيع الحساسة بالنسبة له قد انتهت ولم يعد هناك خطوط حمراء سوى احترام وجهة نظره و حقه في التعبير عن رأيه.. ورغم أن النسبية تفرض عليه أن يكون متواضعا في طرح رأيه ونقد الرأي الآخر وعاجزا عن الجزم إلا انه لا يتحلى بهذا التواضع في كثير من الأحيان حتى وإن دل خطابه على غير ذلك.
والنسبية كمنطلق للتنظير لا تؤدي منطقيا لنتيجة يقبلها العقلاء فمصير كل ما تبنيه من فلسفة هو التناقض.
ولست بحاجة لأبين أن ذلك مخالف لشخصية أهل البيت الذين كان المعروف عنهم القطع والحسم والجزم إزاء دينهم حتى قال أمير المؤمنين عليه السلام : "والله ما شككت في الحق مذ عرفته" وقوله "والله لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا".
كما أن أهل البيت لم يكونوا يعتبرون الشعور بالتهديد من الباطل نقيصة يتبرأون منها وكانوا في منافحتهم عن تراث جدهم صلى الله عليه وآله منحازين بوضوح تام لفكرة دون فكرة بلا ريب أو شك مصداقا لحديث الثقلين.
----------------

عبدالوكيل التهامي
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 105
اشترك في: الخميس مارس 30, 2006 2:21 pm

Re: نقد التجديد الديني (مقالات عبدالله حميد الدين)

مشاركة بواسطة عبدالوكيل التهامي »

الخط الثالث : نقاط أخرى

أ- ماذا قدمنا للمرأة على أرض الواقع :

ليست القضية ماذا قدمنا للمرأة او ماذا لم نقدم فنحن لسنا في سباق تملق للمرأة مع الغرب من يقدم أكثر ومن يقدم أقل ، ليست شريعتنا شركة تجارية تتنافس مع الغرب وتستهدف أكبر شريحة ممكنة من النساء ليكنَّ من زبائنها فالقضية هي قضية أمانة وتبليغ رسالة سماوية كما أنزلت وكما هي بغير تعديل أو تحريف "ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" ، عقليتك أخي عبدالله في النظر للشريعة عقلية خاطئة ولا تسمى مجتهدا بهذه العقلية إلا لو كان بولس الرسول مجتهدا عندما حرف الدين المسيحي وأحل بعض الحرام لكي يدخل الناس فيه أفواجا !!
أما في مجال الترويج للشريعة الإسلامية - إن صح التعبير - فواجب العلماء سيكون مختلفا ويصح أن نسأل فيه : ماذا قدمنا للمرأة ؟ فيجب أن يبين العلماء الحكمة وراء أحكام الشريعة وأن يبذلوا جهدا في توضيح فلسفتها بما يلائم تحديات العصر وبما ينفي أنها ظالمة للمرأة وبما يؤكد أنها أفضل وأنسب للمرأة وهذه هي معركتنا اليوم مع الغرب ، فإذا خسرنا معركة الترويج تلك وقد بذلنا وسعنا فيها دون تفريط بأمانتنا فقد فعلنا ما علينا والله تعالى كفيل بأن يحفظ دينه وليس علينا أن نكون ملكيين أكثر من الملك إلى حد مخالفة الملك نفسه ، النقطة الأولى التي يجب أن ننطلق منها في الترويج لشريعتنا هي أن نعتقد بصدق أنها عادلة وضرورية حتى وإن أخبرنا الواقع والمصالح الظاهرية عكس ذلك لأنها من الله العدل الحكيم ، فهذا هو البلاء وهنا يكون الثبات ، ولنا في قصة أصحاب السبت عبرة ولربما ما كان ينقصهم هو بعض المفكرين النسبيين والبراجماتيين والعلمانيين لتنميق تحايلهم على الشريعة وفلسفته ليصبح اجتهادا يعصمهم من الإدانة والمسخ.

ب- التشابه مع الغرب أم التشابه مع السلفيين :

أولا يبرر الأخ عبدالله التشابه مع الغرب باعتبار أن لا مشكلة في مشابهتهم ثم ثانيا يلوم من يشبه السلفيين !!
فعلا .. التشابه في التشريع مع الغرب ليس مشكلة إذا كان هناك استقلال في مقدمات هذا التشريع والمشكلة في التشابه حين يكون تقليدا ومحاكاة لما هو في الغرب من تشريعات.
وفي المقابل فإن التشابه مع السلفيين ليس مشكلة أيضا ، فليس السلفيون شرا مطلقا وليس كل ما هم عليه باطل بل إننا نتفق معهم في الكثير الاعتقادات والتشريعات والهموم.
ولو خيرت بين أن أكون سلفيا متشددا في الأخذ بمندوبات الشريعة وظواهر النصوص على أن أكون علمانيا محرفا للشريعة متهاونا بالنصوص فسأختار السلفية.

ج- تنبحها كلاب الحوأب :

عندما أخبر النبي نساءه محذرا من نباح كلاب الحوأب، خرجت إحداهن فعلا ونبحتها تلك الكلاب فترددت قليلا إزاء هذه الآية العظيمة والمعجزة البينة ولو كان التوفيق حليفها لرجعت من فورها إلى بيتها وصرفت من رأسها مخالفة الله حين قال "قرن في بيوتكن" ومخالفة رسوله حين قال "كلاب الحوأب" ولكنها لم توفق وفتحت أذنيها لشياطين الإنس من حولها يزينون لها الأمر ويؤلون خبر رسول الله بأن هذه الكلاب ليس كلاب الحوأب بل الجوأب.
هذه القصة تبين لنا كيف يمكن أن يخدع الإنسان نفسه – ولو كان أطهر الناس وأوسطهم حسبا ونسبا وأقدمهم إسلاما - فيتجاهل الآيات البينات إذا فقد البوصلة وتاه في خضم الفتن المتلاطم.
وفي هذا الزمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخبرنا ببعض الأخبار كما أخبر عن كلاب الحوأب وكما أخبر عن الفئة الباغية فقد ذم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمة المسلمين عندما يتخذون رؤساء جهالا فضلوا وأضلوا يفتون بالأهواء ويصير بهم المنكر معروفا والمعروف منكرا وأن الدين سيعود غريبا كما بدأ غريبا كما أخبر أمته أنها ستقلد الكافرين حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه وكأنه صلى الله عليه وآله وسلم يصف في جملة تلك الأحاديث من ينادون بالتجديد الذي سيجعل الإسلام إسلاما أمريكيا.
والسؤال هنا موجه لأئمة التجديد: ألا تخشون من تحمل مسؤولية تحريف الدين بين يدي الله ورسوله؟
ألا تخشون من أن هذه الأحاديث هي في ذمكم وتحذيركم؟
أعلم جيدا أن بإمكانكم التنصل من هذه الأحاديث بإسقاط السنة أو الاستهانة بظنيتها أو بالتشكيك في مدى انطباقها على تجديدكم ، ولكني أردت مخاطبة ما بقي في قلوبكم من ورع ومن حمية لهذا الدين لعلكم تتقون ، وأنا أعلم علم اليقين أن مثل هذه الآيات لا تردع الكثيرين عن غيهم كما لم تردع من قبلهم الفئة الباغية وسيجدون ألف حجة للالتفاف عليها كما وجدت.
كما أذكركم بأن التراجع عن الخطأ وإن كان صعبا إلا أنه فضيلة كبرى لصاحبه وتذكروا كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام للزبير بن العوام حين اعتذر بالخشية من العار بعد أن حشد الحشود وهيج الناس على القتال فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : "لتجمعن بين العار والنار".
وفي الختام لابد من التذكير أن العديد من الروايات تفيد بأن صاحبة الحوأب قد تابت آخر حياتها وندمت على ما فعلت وأن الزبير قد تراجع وترك ميدان القتال بعد أن تذكر مقالة النبي، وأتمنى أن يتحلى المجددون بنفس القدر من الشجاعة والتقوى حين يسمعون أحاديث النبي عن آخر الزمان فيتراجعون.. ولكن تبقى هذه مجرد أمنية

د - كيف يتفاعل الناس مع نظريتك:

بقطع النظر عن حسن نيتك وحقيقة هدفك من طرح نظريات التجديد تلك ولكن الواقع الفعلي مؤداه أن من يجد في كلامك حجة ومخرجا هم من ضاقوا ذرعا بأحكام الإسلام لا من يسعون للبحث الموضوعي الجاد ، وأعرف أنا شخصين على الأقل كانوا قد تجرأوا على فعل الحرام قبل قراءة بحثك ولم يكن يعنيهم أن ما يفعلونه حلال أو حرام ولا يفرقون بين قطعي وظني ولا بين حق وباطل (أحدهم من بيت حميد الدين ينكر الصلاة المفروضة) وعندما سيقرأون بحثك فيجدوا فيه القشة التي يتعلقون بها ويبررون سقوط الشريعة ، كيف لا وأنت حفيد الإمام يحيى رحمه الله تخبرهم بأن لهم الحق في استنطاق القرءان وفق وعيهم بماهية الإنسان والعصر.
مثل نظريتك قد تمنحهم الراحة النفسية عند فعلهم الحرام وتركهم الواجب، فهل ترضى أن تقابل الله تعالى وأنت إمام لأمثالهم؟
أخشى أن يكون هدفك هو أن يتصرف كل منهم بحرية في مجال الدين ويفتي لنفسه ويفهم القرءان والشريعة كما يشاء لأنك قد أصبحت تؤمن بالليبرالية وتدين بها وتتولاها وتقدسها وتحرص على تطبيقها وتعميمها أكثر من أي مقدس آخر في قاموسك!
أنصحك لله قبل أن تطرح خواطرك المتنافرة على الملأ فيأتي الجهلة ويتخذونك إماما ومبررا لضلالهم وتركهم المحجة البيضاء وسفينة النجاة أن تتقي الله وتتحلى بالتواضع وتعطي نفسك المزيد من الوقت للتأمل والتعرف على أبعاد ما تدعو إليه ثم -وإن كان لا بد- تخرج للناس بنظرية شاملة واضحة تبرئ بها ذمتك أمام الله.
ما هو البديل بعد أن تسلب التشريع الإسلامي العتيق قدسيته؟ أهو أن كل شخص يفتي لنفسه بنفسه من خلال فهمه للمنطق العام للقرءان ولو كان ذا عجمة في عقله وقلبه؟
صدقني .. إنتماؤك للإمام يحيى رحمه الله لن يشفع لك حينئذ ولن يعفيك من العتاب والاستنكار بل ستكون الزلة منك أقبح فالجميع يذكر أن بعض أبناء الإمام يحيى قد كانوا يتجرأون على الكبائر وهم الأدباء والعلماء وأن بعض أبناء الإمام يحيى قد تحالف مع الانجليز؟!

هـ - التشريع بغير الشريعة :

رغم انك تتكلم في سياق نظرياتك عن أحكام شرعية كالولاية على المرأة وتحاول تعديلها ، إلا انك بعد ذلك تقول إنك لا تتحدث عن الشريعة بل عن التشريع بمعنى التقنين ..
هل يجوز عندك أخي عبدالله الحكم بما لم ينزل الله؟ هل يجوز أن يحرم التقنين حلالا وأن يحلل حراما؟
قد تقول إن المسائل الشرعية التي ترى جواز التشريع بخلافها هي ظنية، وهنا سيعود الحديث عن إسقاط الشريعة نفسها لا عن التشريع، فلماذا المراوغة؟

و- الأبعاد السياسية لفكرة التشريع بغير الشريعة :

المعلوم أن المنطقة اليوم يتجاذبها استقطابان رئيسان ومعسكران سياسيان، المعسكر الأول هو معسكر الاعتدال العربي بقيادة النظام السعودي والمصري والأردني والمعسكر الثاني هو معسكر الممانعة الإسلامية بقيادة الجمهورية الإسلامية وسوريا القومية وحزب الله وحماس وعدد من التنظيمات القومية والإسلامية العربية في العراق ولبنان وفلسطين وأخيرا تم تصنيف الحركة الحوثية لتكون ضمن هذا المعسكر الممانع.
معسكر الاعتدال العربي والذي نشأ لانجاز حل سياسي لقضية فلسطين وآمن بعملية السلام، هذا المعسكر له شعاراته المعروفة وأهدافه الاستراتيجية وأجندته المعلنة وغير المعلنة التي تجاوز بها قضية فلسطين وعملية السلام في ظل شعارات الواقعية السياسية ليطرح مشروع إسلام بديل وعصري نقي من الإرهاب والتطرف والتخلف كفيل بالحقوق والحريات ، بل إن الموضوع لم يقف عند حد الشعارات بل تجسد على أرض الواقع بعملية تقنين (تشريع حسب مصطلحك) حرموا به تعدد الزوجات -كما في تونس- ومنعوا به المسلمات من ارتداء النقاب في المدارس -كما في مصر- وباسم حرية الرأي والفكر دافعوا عن حقوق نشر كتب الإلحاد والتهكم على النبي والأفلام التي تثير قضايا جدلية تمس أسس العقيدة وفي نفس الوقت جرموا نشر التشيع كما في محاكمة خلية حزب الله!
الأمر لم يقف عند هذا البعد بل تعدى إلى حد التعاون الأمني والاستخباري المعلن بين هذا المعسكر وبين أمريكا وإسرائيل لضرب ما يسمونه بالحركات الأصولية للحد من نفوذ الإسلاميين واحتواء التوسع في حركات المقاومة المتنامية في المنطقة بعد انتصار حزب الله في تموز 2006م وما زال الإسلاميون في كثير من دول الاعتدال العربي والغربي يتعرضون للاضطهاد وتكميم الأفواه والسجن والقمع والتعذيب باعتبارهم خطرا استراتيجيا على المنطقة.
وفي مقابل معسكر الاعتدال العربي فإن معسكر المقاومة الإسلامية يتبنى سياسة مغايرة في التعاطي مع الهيمنة الأمريكية والصهيونية ويتخذ في هيكله الأساسي من الالتزام بالدين الحنيف جُنة أعادت رسم موازين القوى السياسية بما لا يتناسب مع التفوق المطلق لأمريكا وإسرائيل عسكريا. نعم لقد كان الدين والحركات الإسلامية بما تتضمنه من إيمان والتزام بطقوس وهيئات لا يدرك أهميتها الكثيرون هو عامل القوة الجديد الذي أدى إلى صمود مجتمعات المقاومة الإسلامية رغم التدمير الرهيب الذي تعرضت له بآلة حرب جبارة ولكن ذلك الإيمان في قلوب مجتمعات المقاومة الإسلامية أخل بموازين القوى العسكرية بل ورجح كفة الفئة المستضعفة محدودة التسليح والتكنولوجيا وفضح وعرى الأنظمة العربية سيما معسكر الاعتدال العربي الذي يرفع شعارات الواقعية السياسية ليبيع بها قضية فلسطين باسم عملية السلام.
ولأن معسكر الاعتدال العربي الذي راهن على عملية سلام فاشلة مع صهاينة غاصبين لا يؤمنون بالسلام قد انفضح وتعرى فقد أحدث ذلك فراغا سياسيا هائلا في المنطقة وخطرا داهما يهدد بثورة عارمة تجتاح المنطقة تطيح بالعروش وتزيد من المخاطر على المشروع الصهيوأمريكي كان لا بد لمعسكر الاعتدال العربي من التحرك سريعا واحتواء ما حدث، ولكن كيف تم ذلك؟
اتخذ هذا المعسكر المعتدل استراتيجيتين لاحتواء فلسفة المقاومة الإسلامية واستعان في تنفيذهما بمزيج متنافر من العناصر استنفرت به الأجهزة الأمنية والاستخبارية بالقبض والقمع والمحاكمات وتلفيق التهم ونعقت بها المنابر الإعلامية المشبوهة بالافتراء والكذب والبهتان ولهجت به ألسنة علماء السوء من أعوان السلاطين بالفتاوى والخطب والمحاضرات.
الاستراتيجية الأولى هي تأجيج الحالة المذهبية والطائفية في المنطقة لأن ذلك كفيل بتفكيك معسكر المقاومة الإسلامية أو إضعافه على الأقل وخلق التباينات فيه.
وتجسدت هذه الاستراتيجية في إثارة الروح المذهبية على الساحة قدر الإمكان وإستحضار نقاط التنافر التاريخية العويصة من جديد -كما فعلت قناة المستقلة- وترويج مصطلحات مذهبية وسياسية تزيد الشق والقطيعة على المستويين المذهبي والقومي كالرافضة والمجوس والهلال الشيعي والخطر الصفوي.
كما أن حركة محمومة من التأليف ضد الشيعة الاثني عشرية للتحذير منها ومن خطرها وبطلان مذهبها بدأت في الانتشار لعزل الجمهورية الإسلامية عن معظم سكان المنطقة الذين ليسوا على مذهبها وكانت خيوط هذه اللعبة عادة ما تبدأ وتنتهي بيد النظام السعودي وأتباعه في المنطقة فمرة مؤلفات باسم الزيدية ومرة باسم الصوفية والشافعية ومرة باسم أهل السنة ومرات ومرات باسم السلفية ومما زاد الطين بلة وصب الزيت على النار عمليات القتل المنظم التي مارسها تنظيم القاعدة ضد الشيعة في العراق وباكستان وما نسب من تعديات على أهل السنة في العراق أيضا ، وهكذا يعود أبناء المنطقة من التركيز على ما حدث من انتصار عظيم لحزب الله في تموز 2006 للتركيز على التباينات المذهبية والطائفية بينهم وهي تباينات غير قابلة للالغاء إلا بين يدي الله.
أما الاستراتيجية الثانية التي استخدمها معسكر الاعتدال العربي لاحتواء معسكر المقاومة الإسلامية المرتكز على فكرة التدين التقليدية ، فهي ضرب ذلك التدين في روحه التي هي قدسية الشريعة برفع شعارات التباكي على الحقوق والحريات باعتبار أن التدين الإسلامي العتيق الذي يرتكز عليه معسكر المقاومة ويتضمن مفردات معينة عن الجهاد والتضحية والشهادة كما يتضمن طقوسا دينية عتيقة تحد من أثر الدعاية الغربية وتعزز الانفصال عنها والاعتزاء والانتماء للمجد الإسلامي الغابر فكان لا بد من ضرب هذا الفكر وتشويش هذا الإيمان ، ومن هنا بذلت الخارجية الأمريكية والمنظمات الأوروبية ملايين الدولارات دعما للمرأة وتعديلا للتشريعات وتحريرا للمجتمع الإسلامي من ظلم تليد استمر 1400 سنة ، فهل هذه الميزانيات الضخمة هي حسنة لوجه الله وصدقة من أجل إنصاف المرأة المسلمة المظلومة ؟ يصعب علي تصديق ذلك ، فلم أتعود ممن يغتصب المسلمات في سجن أبو غريب ويبرر طرد ملايين المسلمات من أرض فلسطين أن يتصرف من أجل المرأة المسلمة في اليمن وغيرها كالجمعيات الخيرية.
وقد تحول ذلك الدعم المالي والسياسي إلى حركة تقنين فعلية (تشريع حسب مصطلحك) ففي اليمن مثلا تحركت الكثير من القوى الحقوقية اليمنية المدعومة ماليا من الخارج من أجل قانون تجريم الزواج بمن هي أقل من 17 سنة ، بينما المعلوم أن ذلك جائز في الإسلام ، كما أن هناك المزيد من القوانين المطروحة للنقاش اليوم كقانون يجرم وصف ابن الزنا بأنه ابن زنا والاكتفاء بالإشارة إليه بأنه ثمرة علاقة والمثير للريبة أن من يدعو لتجريم زواج من هي أقل من 17 سنة هو نفسه من يدعو لضرورة اختلاطها بالذكور في أماكن الدراسة بعد بلوغها الشرعي ؟! وكأن الخطة العامة هي : إثارة الكيمياء الجنسية بالاختلاط + تحريم الزواج المبكر = بيئة أصلح للزنا في المدارس الثانوية.. لا شك أن إبليس متحمس جدا لهذه المعادلة لاسيما إن أضفنا عليها عوامل مهمة مثل : الأفلام المجانية على قنوات إم بي سي وفوكس السعوديتان + طريقة اللبس العصرية التي تخرج بها الفتيات والفتيان + التكنولوجيا المتطورة التي تسهل قنوات التواصل والتفاعل بين الذكور والإناث + فتاوى دينية تبرر لكل ذلك = انحلال أخلاقي عام.

عبدالوكيل التهامي
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 105
اشترك في: الخميس مارس 30, 2006 2:21 pm

Re: نقد التجديد الديني (مقالات عبدالله حميد الدين)

مشاركة بواسطة عبدالوكيل التهامي »

خاتمة الرسالة :

في زمن السيد محمد باقر الصدر راجت أفكار الاشتراكية والشيوعية بين أوساط المثقفين والشباب المسلمين وحاول بعضهم إسقاطها على الإسلام وعلى رموزه كأبي ذر رضي الله عنه والإمام علي عليه السلام ، وعندها تصدى السيد الصدر لهذه الموضة كأحسن ما يكون رحمه الله إلى أن أصبحت مجرد حكاية نحكيها لأبنائنا متعجبين من أثر البروباجاندا والمحاور الكونية.
والآن و في هذا الزمن الأمريكي تروج أفكار الليبرالية بين المثقفين والشباب المسلمين أيضا ويحاول البعض إسقاطها على الإسلام ، وكان الكثير ممن توسموا في الأخ عبدالله العبقرية يتوقعون أن يقوم بدور السيد الصدر ليكون باقر الزيدية وما زلنا ننتظر.
لا بد أن تسقط الليبرالية يوما لأنها قائمة على فلسفة نسبية هشة وعندئذ سيضحك الناس عندما يقرأون أن البعض كانوا يعتبرونها السقف الأعلى للقياس والتفكير وينسخون بها شريعة محمد بن عبدالله.
"لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذن لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات"
------------------

عبدالوكيل التهامي
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 105
اشترك في: الخميس مارس 30, 2006 2:21 pm

Re: نقد التجديد الديني (مقالات عبدالله حميد الدين)

مشاركة بواسطة عبدالوكيل التهامي »

ملحق "تحليل الدين كظاهرة اجتماعية"

بصدد إيضاح نظريته عن التجديد الديني وأنواعه حلل الأخ عبدالله الدين كظاهرة اجتماعية بما في ذلك الدين الإسلامي مقسما إياه إلى الأبعاد التالية :

1- القصة : تقسم العالم إلى عوالم ظاهرة وأخرى غائبة وتحكي العلاقة بين هذه العوالم.
2- التكليف : فكرة تستند على ضرورة التجانس بين نظام عالم الإنسان وبين نظام العالم الظاهري والغيبي.
3- الوحي : وهو اللغة الرمزية التي تتحدث عن القصة
4- الفقيه : هو المعبر عن رأي الدين
5- المؤسسة الدينية : ليس الجهاز الإداري فحسب بل مفاتيح العلاقة مع الغيب هي في يدها
6- الممارسات : واجبات ومحرمات وشعائر وأحكام وهي الوجه الآخر للوحي
7- الهوية : العلاقة مع الآخرين مع الظاهر مع الاصطفاء
8- الخطاب الديني : القضايا التي تتناولها المؤسسة الدينية
9- وعي الإنسان : البعد المغيب همومه آماله وعيه بنفسه وبالكون من حوله وتجربته.

ثم لخص الأخ عبدالله فكرته بشكل رياضي مبسط متوصلا إلى معادلتين هما :

المعادلة الأولى : الوعي × الوحي = الدين .... يشير بهذه المعادلة إلى أن الدين إنما هو حصيلة تفاعل الوعي مع الوحي
المعادلة الثانية : الدين × العوامل التاريخية = جميع الأبعاد من قصة وتكليف .. الخ .... يشير هنا إلى دور العوامل التاريخية في صياغة أبعاد الدين وتفاصيله.
-------------------

مناقشة ذلك التحليل :

تناول الدين الإسلامي كظاهرة اجتماعية يصح ولكن في حدود لا تتجاهل دور الله وقدسية الوحي وحاكميته لأن هذه حقائق قطعية بالنسبة لنا كمسلمين وإن لم يؤمن بها الماديون.
أما دور الله فهو مستمر في حفظ دينه لكي تتم حجته على الناس، وفي حديث الثقلين أيضا ضمانة من الضلال والزيغ، فإن سمحنا للشك بأن ينال من تلك الحقائق شككنا بكل الدين وسنصل إلى مرحلة نسمح فيها بالتشكيك بأن القرءان الكريم هو كلام الله المحفوظ بين الدفتين، فهل نعتبر كلاما كهذا اجتهادا إسلاميا؟
بالطبع لا.. فغاية ما يوصف به أنه دراسة تحليلية وصفية، يقوم بها شخص محايد لا يأخذ الغيبيات بعين الاعتبار ولا يؤمن بأن الإسلام هو دين الله أصلا.

أ- نسبية الشريعة :
يبدو أن ما قصده الأخ عبدالله بـ"الوعي المغيب للإنسان" هو الإشارة إلى نسبية ما وصل إلينا من شريعة إلى الآن أو بمعنى آخر أن الشريعة التي وصلت إلينا اليوم ليست نقية بنسبة مئة بالمئة لكي ننسبها إلى الله بل هي في كثير منها مجرد وجهة نظر وقراءة إنسانية للوحي تأثرت بهمومهم وآمالهم ونظرتهم لأنفسهم وللقوى المهيمنة على الكون زد على ذلك أنها تفاعلت مع الظروف التاريخية فأنتجت جميع الأبعاد الأخرى للظاهرة الدينية.
زد على ذلك أن نظرة الإنسان قبل هذا العصر للقوى المسيطرة على الكون والمحددة للموقع الاجتماعي كانت تفرض عليه إطارا معينا عند قراءة الوحي يؤثر في وجهة نظره ويضع اجتهاده في قالب يلائم ذلك الزمن، بينما التغير الطارئ في نظرة الإنسان لتلك القوى في هذا العصر لا بد أن تفرض إطارا مختلفا عند قراءة الوحي يؤثر في وجهة نظر المجتهد ويضعها في قالب يلائم هذا الزمن.
وبإيراد هذه الفكرة يهدف الأخ عبدالله للوصول إلى نقطتين: الأولى سلب الشريعة قدسيتها والفكرة الثانية التبرير لأي تغيير قادم في الشريعة باعتباره اجتهادا مكافئا في قيمته للشريعة الأصلية حتى وإن كان يعترف أنه لن يخلو من الشوائب والمؤثرات ولكن ذلك ليس بمشكلة لأن الشريعة الأصلية - في نظريته - لم تخلُ من الشوائب أيضا.

*نقاش هذا الطرح :
هذا الطرح يؤكد ما للنسبية من تأثير في تفكير الأخ عبدالله كما وسيؤدي منطقيا إلى وقوعه في نفس المشاكل الفلسفية للنسبية.
ويذكرني أسلوبه في تحليل وعي الإنسان هنا كمتغير بما فعله آينشتاين من ثورة نسبية قلب بها الطاولة على ثوابت نيوتن، وخرج بها من الإطار الضيق إلى الإطار الأعم والأشمل، فهل يمكن أن نقارن ما يحاوله الأخ عبدالله مع ديننا بما فعله آينشتاين مع قوانين الطبيعة؟
إذا اعتقد ذلك فهو مخطئ، لأن العناصر التي تناولها آينشتاين بالتحليل كانت عناصر مادية بحتة بينما في ديننا الإسلامي هناك عناصر غيبية تعتبر من صميم الدين لا سبيل للتشكيك فيها وتطبيق النسبية عليها إلا بمفارقة الملة عموما ومباينة منهج اهل البيت خصوصا، مثل دور الله في حفظ وحيه وإتمام حجته وتوضيح مراده وقصده بأسلم بيان وأعلى فصاحة وأدق بلاغة ودور النبي في ترجمة الوحي على أرض الواقع كما يريد الله تماما ودور أهل البيت بعد ذلك في حفظ تراث النبي وإيصاله لبقية الأجيال نقيا إلى أن تقوم الساعة.
وإذا كان متغير وعي الإنسان قادرا على إدراك الواقع الموضوعي واستنطاقه بالسنن والنواميس المطردة المتفق عليها على المستوى الفيزيائي الجامد الصامت، فكيف به يعجز عن إدراك الواقع الموضوعي لبيان الله وخطابه وهو متحدث بليغ؟
كما أنه وبالنسبة لمتغير وعي الإنسان والذي اعتبره الأخ عبدالله أساسا لنظرته النسبية لعلاقة الوعي بالوحي فهناك خطأ في البناء المنطقي.. لأن الشريعة لم تكن نتاج تفاعل وعي الإنسان- أي إنسان مع الوحي- بل كانت نتاج تفاعل وعي النبي مع الوحي وهو تفاعل مقصود لله وهو يعلم عزوجل بنتائجه بحيث نستطيع الجزم بأنه عزوجل قد اختار تلك النتائج وهي تعبر عن إرادته تماما.
كما أن الوحي إذا انطلقنا من أنه حقيقة موضوعية وخطاب من الله وحجة على الخلق فلا بد أن لا يكون معزولا في فقاعة النسبية عن إمكان الإدراك الموضوعي لمضمونه، لأن ذلك يعد لغوا عند العقلاء فكيف به وهو صادر عن الله عزوجل بمعنى أنه إذا صح ذلك الفرض النسبي فإن معناه أن الله إن كان يريد توضيح مراده للجميع فعليه أن يخاطب كل شخص على حدة كي يعالج مطب النسبية، وهذا لم يحدث واكتفى الله بخطاب واحد اعتبره حجة على الجميع، وحتى وإن تعددت وجهات النظر بخصوص دلالة الوحي فإن ذلك لا يعني أن مقصود الله متعدد أو غامض بقدر ما يعني أن هناك خطأ وصوابا عند النظر للوحي متعلق بمدى التماهي مع اللغة العربية التي اختارها الله لغة للتعبير عن مراده عندما قال: "إنا أنزلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون" وقال :"لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين"، ولكن هل يتعارض هذا الطرح مع فكرة "كل مجتهد مصيب"؟ بالطبع لا وقد حاولت توضيح ذلك بإيجاز في الرسالة الأصلية.
كما أن البيئة العربية التي اختارها الله كحاضنة للوحي كانت مقصودة أيضا لله وهو مدرك تماما لمتغير تأثيرها عند التفاعل مع الوحي بل يمكننا القول إن الله قد اصطفى تلك البيئة وتلك اللغة وذلك الوعي العام وتلك القيم على سواها، بدليل أنه جعل رسالة الإسلام رسالة خاتمة وعالمية بمعنى أنه اعتبرها حجة على جميع البشر اللاحقين حتى وإن اختلفت ألسنتهم وأزمانهم، ولم يقل النبي لسلمان الفارسي إقرأ القرءان بحسب وعيك الفارسي ولغتك الفارسية بل ألزمه كما ألزم سواه من أمثاله في عصره وبعده من العصور بالحاضنة التي اختارها الله لوحيه كسبيل لإدراك مراده.
وإذا فرضنا أن الإنسان قد أصبح بحاجة لشريعة جديدة بعد أن تغير وعيه بالثورة العلمية في أوروبا، ورغم أن تقرير ذلك هو من اختصاص الله وحده، فمن الممكن على الله أن يرسل نبيا آخر ينسخ ما سبق ليلائم التغيرات في الوعي، ولكنه لم يفعل ولن يفعل فهلا استحضرنا حكمة الله قليلا.
ولم يترك الله شيئا للتكهن وعبر نبيه أخبرنا على سبيل التحذير بأن أمتنا في آخر الزمان ستتأثر بثقافة الكافرين وستحذو حذوهم حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلناه نعوذ بالله أن نكون ممن يشرع هذا الباب أو يعتبره في آخر الزمان اجتهادا إسلاميا.

(فرع1) الوعي × الوحي = دين :
أورد الأخ عبدالله هذه المعادلة للتعبير عن نسبية الشريعة فتفاعل الوعي المتغاير من شخص إلى شخص مع الوحي يؤدي إلى صياغة الدين بشكل متغاير من شخص إلى شخص، وإذا أخذنا في الحسبان أن وعي الإنسان الواحد قد يتغير على مدار الساعة فمعنى ذلك أن الدين متعدد بشكل لا نهائي وهذا -كما هو واضح- باطل واستهزاء بدين الله.
ولكن هناك طريقة أخرى لكتابة المعادلة بصورة أدق لتكون كالتالي :

حد معتاد من الوعي × حد أدنى من العلم × حد أدنى من التقوى × الوحي = الدين الحق

بهذه الصيغة للمعادلة وفي عنصرها الأول (حد معتاد من الوعي) نستبعد متغيرات الوعي المتدني والتي لا تمتلك القدرة الطبيعية على الفهم، وفي عنصرها الثاني (حد أدنى من العلم ) نستبعد متغيرات الجهل في مجال اللغة والبيئة الحاضنة للرسالة وفي عنصرها الثالث (حد أدنى من التقوى) نستبعد متغيرات الشيطنة القلبية والإفتاء في فلك السلطة والقراءة المؤدلجة سلفا، أما عنصرها الرابع (الوحي) فهو ثابت، وتفاعل تلك العناصر الأربعة يؤدي حتما للوصول إلى الدين الحق.

ب- ما هو تأثير الظروف التاريخية على الدين:
تؤثر الظروف التاريخية في الدين، ويؤدي التفاعل بين الدين والظروف التاريخية لنشوء الكثير من الصيغ الفكرية والمدارس الدينية الملائمة لتلك الظروف قد يكون الكثير من تلك الصيغ مبتدعا على أساس المصلحة من أجل السلطة ولكن هل معنى هذا أن الدين الإسلامي قد اندثر وضاع بين تلك التفاعلات والمؤثرات والأحقاب بما في ذلك القرءان الكريم؟
إذن ما الذي يبقيني على دين الإسلام طالما قد اندثر برحى الأهواء والقرون الغابرة ولم يعد بالضرورة معبرا عن إرادة الله، أهي دعوة لكي نترك دين الإسلام وكل شخص يبحث عن مصلحته بالطريقة التي يراها مناسبة ثم يسمي تلك المصلحة اجتهادا أو دينا؟
أهذا ما تريده أخي عبدالله؟
الإنسان المسلم لا يلتزم بالإسلام وتكاليفه المتنوعة في العبادات والمعاملات في السلم والحرب إلا لأنه يجزم أنه أمر الله وتكليفه وأن لا نجاة إلا به وهذا ما ناضل من أجل ترسيخه وتثبيته وتأكيده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء من قبله وأئمة أهل البيت من بعده.
فإن قيل للمسلمين يا إخواني لا يمكن التأكد أن ما بين يديكم من دين هو دين الله حقا بل المسألة نسبية وتتداخل فيها الكثير من المعادلات والمؤثرات والاعتبارات، فإذا لم يكن هذا التشكيك هدما للدين فما هو هدم الدين إذن؟ وماذا سيبقى لإبليس من حيل بعد ذلك ليصد عن سبيل الله وقد تم إفراغ الدين من محتواه؟
والصواب أن دين الإسلام بقي محفوظا برعاية الله في خط أهل البيت عليهم السلام كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

(فرع2) الدين × الظروف التاريخية = أبعاد بها شوائب وانحرافات :
عبر الأخ عبدالله عن ما سبق من تأثير للظروف التاريخية بالمعادلة الثانية كالتالي:

الدين × الظروف التاريخية = الأبعاد الأخرى
ونظرا لأن هذه المعادلة تفترض انحراف الدين عن مساره الأصلي واندثاره في التاريخ وقد أسقطت من الحسبان عناصر في غاية الأهمية فإني أقترح طريقة أخرى لصياغتها كالتالي:

الدين الحق × الظروف التاريخية = أبعاد بها شوائب وانحرافات ÷ الرعاية الإلهية × دور أهل البيت = الدين الحق.

ج - بين المؤسسة الدينية ومرجعية العلماء :
بعد سقوط المسيحية في أوروبا وشيوع روح الإلحاد والاستهانة بالدين في بلاد الغرب لطالما عمم الغربيون الصراع الذي جربوه بين العلم والدين على جميع الأديان بما في ذلك الإسلام ولكن لم يكن لذلك التعميم معنى بسبب الفروق بين الإسلام والمسيحية في الثبوت والأصول والفروع والممارسة التاريخية التي لم تتعارض مع العلم ولم يكن فيها كهنوت ولا رجال دين بالمعنى المسيحي.
مصطلح المؤسسة الدينية يستخدم عادة لوصف الكنيسة الكهنوتية التي كانت ترى نفسها وسيطا بين الله والناس وتعطي نفسها الحق في منح صكوك الغفران وتكفير الذنوب، وحكمت بالحديد والنار ومحاكم التفتيش وسخرت الشريعة لتكريس سلطتها على حساب حرية الأفراد وحقوقهم.
أما في الإسلام ففي إسقاط مصطلح "المؤسسة الدينية" على مرجعية العلماء خلط وعدم دقة وإيحاء ظالم، فعندما يتحدث المسلمون عن مرجعية العلماء فإنهم لا يتحدثون عن وسيط بين الله والناس بل يتحدثون عن متخصصين كرسوا أعمارهم وعقولهم وأوقاتهم لدراسة الأدلة الشرعية بمناهج مضبوطة لاستكشاف الأحكام التي أنزلها الله، وهم تماما كالمتخصصين في مجال الفيزياء الذين يكرسون أعمارهم وعقولهم وأوقاتهم لدراسة الظواهر الفيزيائية بمناهج مضبوطة لاستكشاف القوانين التي سنها الله في كونه، فإذا كان الفيزيائيون وسطاء بين الناس وبين معرفة قوانين الفيزياء صح أن نقول إن العلماء وسطاء بين الناس وبين معرفة تشريعات الله والفرق في هذه الحالة أن الكهان كانوا يزعمون الإلهام الذي لا يمكن التحقق منه بينما العلماء لا يزعمون ذلك ويمكن التحقق من منهجهم في الاستدلال ومدى التزامهم به وبضوابطه.
والعلماء في الإسلام لا يدخلون أحدا الجنة ولا يخرجونه من النار كما أنهم لا يعفون عن المذنبين، وغاية ما للعلماء في الساحة السياسية هو القيمومة على المجتمع لا السلطة بالمعنى الكنسي وبالتالي لا يحل للعلماء إن حكموا ممارسة التعذيب والتمتع بخيرات البلاد دون العباد.
وفي مجال العلوم فإن العلماء لا يزعمون أن مفاتيح الغيب بأيديهم أو أنهم ملمون بالحقائق الكونية والنفسية البشرية ولا يضعون أنفسهم ولا الوحي بديلا عن البحث العلمي مع الأخذ في الاعتبار أن الكثير من العلوم الرياضية والطبيعية بدأت بين المسلمين دون أن يتعرض أصحابها لتهمة الهرطقة والكفر فضلا عن إحراقهم.

د- دور الفقيه :
دور الفقيه في استنباط الحكم الشرعي عبر الاجتهاد هو نفس دور الفيزيائي في استكشاف القانون الفيزيائي عبر التجربة، فإذا صح أن تؤثر ذات الفيزيائي على موضوعية استكشافه لقوانين الفيزياء صح أن يكون لذات الفقيه دور في استنباط الحكم الشرعي.
وإذا صح أن يستكشف أي شخص الفيزياء بغض النظر عن كفاءته العلمية وخبرته المتراكمة صح أن يستنبط الأحكام الشرعية عبر الاجتهاد أي شخص بغض النظر عن توفر شروط الاجتهاد لديه.

هـ - شروط الاجتهاد وموضوعه :
شروط الاجتهاد هي شروط موضوعية للتأكد من نزاهة الاجتهاد وعلميته وجديته وليست شروطا من أجل تكريس سلطة ونفوذ المؤسسة الدينية، ومن شروط الاجتهاد أن يكون المجتهد متحررا قدر الإمكان من مصلحته وأيديولوجيته وتأثيرات محيطه الاجتماعي وبالأولى تأثيرات محيط الكفار الاجتماعي.
بل إن من أهم شروط الاجتهاد شرط التقوى وعدم الخوف من الناس وتحري الحقيقة كيفما كانت.
كما أن من شروط الاجتهاد امتلاك الأدوات الضرورية للاجتهاد والإلمام بها سيما اللغة العربية والأدب الجاهلي والقرءان الكريم والسنة النبوية والمعلومات من الدين بالضرورة والفقه الإسلامي ثم البناء الاستدلالي المنطقي غير المتناقض المعبر عنه بعلم أصول الفقه.

و - الوحي :
الوحي ليس رموزا بل هو بين وواضح سيما وقد اعتبره الله حجة على خلقه وهداية لهم من الضلال إلى النور ولكنه يحتاج لسليقة عربية أصيلة غير متكلفة، وهو يحتوي على أوامر ونواهي واضحة الدلالة على المقصود وربما يكون بعضها محتملا لأكثر من وجه ولكن وجوه الاحتمال محدودة وتم استنفادها بالبحث والدراسة مطولا عبر التاريخ الإسلامي ولا مجال للاحتمال فيها اليوم إلا بسبب العجمة الطارئة على بعض الباحثين أو الأيديولوجية التي توجه بحثهم وتحيد بهم عن الموضوعية وإن قضوا الكثير من الوقت في نبش القواميس.

ز- وعي الإنسان أم هوى الإنسان :
قد يحتمل كلام الأخ عبدالله في اعتبار وعي الإنسان مغيبا أن المسلمين لا يرون لذلك الوعي حقا في التعبير عن همومه وآماله وطموحاته أثناء عملية الاجتهاد ويغيبونه عمدا.
من هذه الزاوية غني عن الذكر أن وعي الإنسان بُعد لا بد منه في ديننا وهو الجهة التي يخاطبها الوحي ولا بد لهذا الوعي أن يتأقلم مع الوحي وأن يصنع الواقع حسب توجيهات الوحي وعليه أيضا أن تكون آماله ووعيه بنفسه وبالكون من حوله وهمومه متوافقة مع توجيهات الوحي أو على الأقل غير متعارضة.
وهناك ما يجدر الإشارة إليه حين نذكر وعي الإنسان وهو أن الوحي يذكر أن تأقلمه مع التشريعات سيوفر له تحقيق طموحه وسيحل له مشكلة التناقض بين أنانيته وبين تضحياته حين يلتزم بالوحي بالفوز في اليوم الآخر الذي فيه دار البقاء والخلود والذي هو الغرض الأساسي من خلقه ولا ينال إلا بالصبر.
ورغم أن الحياة الدنيا هي دار الغرور وقد نهى الله عن الإخلاد إليها إلا أن الالتزام فيها بالوحي الصادر عن الله العلي القدير الذي هو أعلم بالإنسان وفطرته وخفاياه من جميع الحضارات البشرية والأبحاث العلمية سيوفر للإنسانية عند الالتزام بتوجيهاته أكبر قدر من الانسجام مع النظام العام الذي وجد به الكون.
بهذا المعنى لا يكون وعي الإنسان مُغيَّبا أبدا بل الذي سيكون مُغيَّبا هو هوى الإنسان وضنكه وتأثير شياطين الإنس والجن عليه وهي عناوين هامة تساهم في صناعة هموم الإنسان وآماله ومخاوفه ونظرته للكون ولنفسه.
هذا ما ينسجم مع عقيدة الإسلام وما خالفه فلا يوصف بالاجتهاد، بل هو مجرد نظرة مادية تستبعد الغيبيات.

ح- إلى أن تأتي الحرية :
في صدد التنظير للتجديد خلصت أخي عبدالله إلى أن الوعي الجمعي ملائم أكثر من الوعي الفردي لقرءاة جديدة للوحي بغرض التشريع بأقل قدر من الشوائب، ولكنك استدركت ذلك بأنه غير مناسب الآن لأن جو الحرية غير سائد في العالم الإسلامي اليوم وأنا أتفق معك في ذلك إلا أن الحرية التي ليست سائدة اليوم إنما هي الحرية بمعناها السلبي، حرية القاتل في استباحة الدماء وحرية الزاني في استباحة الأعراض وحرية المتنطع في تحريف الدين وأخذ ما يشاء منه وإسقاط ما يشاء، وأتمنى أن لا يأتي يوم أنعم فيه بهكذا حرية.

أضف رد جديد

العودة إلى ”المجلس العام“