طلب الدفء ،، عندما يصبح هوسا .. " عقدة البرد "

هذا المجلس للحوار حول القضايا العامة والتي لا تندرج تحت التقسيمات الأخرى.
أضف رد جديد
الهاشمي اليماني
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 668
اشترك في: السبت أغسطس 07, 2004 3:39 pm
اتصال:

طلب الدفء ،، عندما يصبح هوسا .. " عقدة البرد "

مشاركة بواسطة الهاشمي اليماني »

طلب الدفء عندما يصبح هوسا " عقدة البرد " .. هذا ما أعانيه ،، ودون خجل أسرد حكايته ومن البديهي أنني لا أطمع بجواب شاف فالقضية منتهية حيث طبعت بالمخيلة وأنتهي الوضع ولكنني أتندر على تصرفاتي التي لا أحسبها إلا خارجة عن السيطرة ، ومنها إقتناء الملابس الصوفية السميكة والأغطية المتنوعة بينما يقطن صاحبها ( أنا ) بساحل البحر الأحمر المشتهر عنه صيفه الدائم حتى وإن إعتدل المناخ فإنه من المضحك إقتناء ملابس وأغطية كتلك ... لكنها عقدة البرد .
وإبتداء برحلة قبل عقود كانت السبب سأسردها ، والرحلة تقودني من جيزان إلى أبها ثم الطائف ...
ولدت بمنطقة تعلو عن سطح البحر بحوالي الف وستمائة متر وتقع للشرق من جيزان ، وهي منطقة باردة معظم العام .. ومنها رحلت إلى جيزان وكان حينها فصل الخريف ومن الله على المنطقة بالأمطار حيث كانت تهامة عبارة عن سلسلة مستنقعات وبرك مياه .. إرتحلت ورافقني قريب لي لبعض الطريق .. ووصلنا لبداية سهل تهامة ..
وفي الطريق لبيت صديق إتفقنا على المبيت لديه .. وقبل أن ننزل للوادي المجاور للمنزل كان لقائنا بناقة شابة تقف بشموخ مع حوارها سادة علينا الطريق ... كنا نتوقع كلبا ينبحنا ولم نتوقع ناقة .. كانت تصدر مايشبه زيئر الأسد مزمجرة تحملق بنا .. وبدوري نحيت جانبا وإذا ماهاجمتنا الناقة كنت سأطلق ساقي للريح حيث لامجال ولا منافسة بين ساعدي الضعيفتين وساق الناقة التي يبدو أنها تأبطت بنا شرا ظنا منها أننا نريد إلحاق الأذى بحوارها .. قريبي كانت له نوعا من الشجاعة فتقدم نحو الناقة صارخا في وجهها ، وبدلا من أن تهرب بادرته بالزمجرة والهرولة نحوه ، حيث كادت أن تسحقة بأقدامها الأماميتان ،، وفي وقفة بطولية شمر قريبي عن ساعديه وأستل خنجره مشهرا إياه في حنجرة الناقة والتي بدورها تراجعت وتركتنا نعبر الطريق للوادي ..
وبعد حمد الله على السلامة أخذنا حماما بمياه الوادي المتدفقة وغسلنا ملابسنا لنصعد لبيت الصديق الموعود .
وصلنا وهلل الصديق بوصولنا وأكرم وفادتنا ،، ومع إستعدادتنا لصلاة المغرب سمعنا صوت وقع أقدام جمل فأنتبهنا فإذا بها الناقة وحوارها .. وإذا بصديقنا يستقبلهما ويربت عليهما ،، قريبي مباشرة شكى له أمر الناقة التي كادت أن تسحقه ،،، فقربها بجواره وجعلها تشتمه وقام بمسحها هي والبعير ... لكن قريبي كان يرسل نظرات الشك والريبة لتلك الناقة ..
مضيفنا لم يئل جهدا لراحتنا وإكرامنا ،، وبالطبع كنا نجلس على سرر خشبية أمام المنزل وهو عبارة عن عريش وعشة مكوناتها من القش والحطب .. والناقة باركة بجوارنا مباشرة .. وقريبي ينظر تارة للمضيف وتارة للناقة المريبة ... فلما جن الليل وعسعس وولجنا بكلكله البهيم الأملج .. ولماكان المناخ إستوائيا رطبا وأجسامنا شبه مكشوفة هاجمتنا أسراب البعوض النهم .. وشنت غارات وغارات حيث كانت البعوضة تغرس خرطومها بجسدي وكأنه آلة الدريل ... مضيفنا الرائع تيقض للأمر وصحى وأخذ يشعل النار ويرمي فبها ببراز البقر الجاف لعله يحدث دخان يطرد البعوض كما يعتادون .. وكان البعوض يختفي لكنه يعود بإختفاء الدخان .. وهكذا إستيقض مضيفنا أكثر من مرة مما جعلنا نخجل من تلك المهمة ... كان صديقا لي سابقا يحدثني أن النوم بجوار الإبل يطرد البعوض .. وبالفعل سحبت سريري لجوار مبرك الناقة .. أما قريبي فرفض رفضا قاطعا بقوله .. لسعات البعوض أهون من مجاورة هذه الناقة المشاغبة ..
ومع بواكير نسمات الصبح الأولى تم تجهيزي بوسيلة السفر عبر سهل تهامة وكان حمارا ممتازا ومجربا ويعرف الطريق سافرت لوحدي حيث عاد قريبي ... وبالسفر عبر سهل تهامة وصلت لمكان معلوم ومنه سأنتظر السيارة البدائية التي ستنقلني لجيزان ... ووصلت السيارة في اليوم التالي .. وركبت على الصندوق الخشبي ، ومن سيارة لأخرى وصل المطاف لمدينة صبياء حيث أحاول الوصول لأبهاء لزيارة قريبة لي ثم التوجه للطائف ..
كان الزمن قبل عقود ، وكانت الطرقات ترابية والسيارات العابرة ندرة ومهلهلة وكثيرة الأعطال وغير مريحة ولاتقارن بوسائل العصر الحالي على الإطلاق ،،
بعد الإنتظار يوم كامل جائت سيارة عبارة عن شاحنة لها صندوق خشبي وأتجهت بنا من صبيا وغابات أشجار السدر عبر وادي بيش ومزارعه المخضرة لنصل لدرب بني شعبة ليلا ،، الجو معتدل لاحر ولابرد .. وبعد الدرب نعبر وادي ضلاع حيث كانت السيارة تطيح وترقص وتتعطل بأكثر من مناسبة حتى كدنا نفضل حملها والمشي على الأقدام .. ولكنها قطعت بنا مرحلة حيث أوصلتنا لمنطقة مرتفعة قالوا لنا أننا أصبحنا قريبا من أبها وكنا حينها بعد منتصف الليل ..
سيارتنا العجوز وقفت وكأنها أصيبت بالزكام ... خرجنا من صندوقها الذي كنا نحشر به أجسادنا فشعرت وكأنه إكليلا من الأشواق ينقش كافة جسدي ... بحثت عن ثوبي الإضافي وكذا غترتي لألبسهما لكن زمهرير البرد يلسع ، تشققت شفتاي وتورمت خدودي .. لم أكن أعلم أن المناخ بأبها بهذه الصورة خاصة وأنا أت لها من جيزان ... لم يحالفنا الحظ بموطى دفى ولاحطب وكانت الأرض مبلولة عقب هطول مطر باليوم السابق ... الطريق ترابية موحلة و كانت خلال شقها الأولي وكان العمال متوارين عن المنطقة ويبدو أنهم يسكنون بمناطق أخرى ،، لم يكن بوسعنا سوى التجمع وإلصاق أجسادنا معا ... ولاح الفجر ونحن نمشي على الأقدام محاولين الوصول لأقرب نقطة بها دفئ ... وبزغ أول شعاع للشمس وتسلل إلينا من بين الصخور وكنا نتسابق للجلوس أمامه .. ووصلت لمنزل قريبتي مترجفا جفلا .. لازلت أتذكر طعم أقداح القهوة الساخنة وسحب البخور والموقد والفحم المشتعل .. كانت قريبتي بغاية الحزن لمنظري ودعتني لحمام ... فصرخت عليها ماذا تقولين وهل مثلي من يفعلها ... هات البطانيات والفرو والبسط ودثروني ..... دثروني .
تغلبت على الموقف بعد أيام ثلاثة ... ونهظت لأواصل رحلتي للطائف حيث كانت تقطن أسرتي .. وبالطريق الترابي كان لزاما علينا المبيت أكثر من ثلاث ليال ... إحداها كانت بمنطقة شديدة الرياح ليلا ، وهي الرياح الموسمية التي نسميها الصباء أو الشرقية .. لكن الوضع لم يكن محرجا كما حدث بعقبة أبها .. حيث إحتطت بما يمنع عني برودة تلك الرياح ..
وصلت الطائف المحروس المأنوس .. حصلت على وظيفة بشركة أجنبية ، وعندما سافر زميلي أصر على أن يقدم لي خدمات ، وحينها أشرت لكتاب ضخم كان كتالوج ملابس .. وقمت بإختيار معاطف سميكة وبذلة سميكة ... وأكياس للنوم سميكة وأقمشتها مقاومة للماء والثلج .. صديقي الأجنبي كاد أن يجن لفرط الضحك وكان يردد : هل تخطط لرحلة للقطب الشمالي ...؟ فأجبته أن هذا ما أفضله ... وبالفعل قام الصديق الأمريكي الرائع بإحضار ماطلبته منه ،،
وأتى موسم الحج وجاء الحجاج من أواسط آسيا ومن أفغانستان ومعهم اللحف الصوفية والجوارب والكنزات ومعاطف الفرو فقمت بشراء العديد منها ،، مما جعل أمي تصفني بمجنون البطانيات ..
وخلال مشوار الحياة قمت بجمع عدد لا أتذكره من الكنزات الصوفية والملابس والمعاطف وبشوت الوبر والبطانيات ............ عقدة البرد لم تلغها عقود الدفئ .
تغيرت الأحوال بأبها وجيزان وكامل المملكة العربية السعودية ... وسائل مواصلات فارهة سريعة مريحة ،، دافئة شتاء وباردة صيفا ،، طرقات لم يعد المرؤ يحلم مجرد الحلم أن يتشبث بشئ يثبته .. رفاهية شاملة لايستطيع فهمها إلا من جرب المراحل السابقة ... ومع ذلك لازالت أتسلل خلسة لأي سوق تقليدي يبيع الصوفيات سواء كان جوارب – مشالح – فراء ،، وأقوم بالشراء دون تردد " عقدة البرد " .


أضف رد جديد

العودة إلى ”المجلس العام“