الكتاب : هِدَاْيَة الرَّاْغِبِيْنَ إِلى مَذْهَبِ الْعِتْرَةِ الطَّاْهِرِيْنَ المؤلف : |
كلمة المركز
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً - وبعد:
يسرّ مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية أن يقدم لك أخي المؤمن الكريم كتاب ( هداية الراغبين إلى مذهب العترة الطاهرين ) تأليف السيد الإمام الهادي بن إبراهيم الوزير (ع)، وذلك ضمن الدفعة الثالثة الصادرة عن المركز عام 1423هـ، 2002م.
وخلال ذلك نجدد العهد لله تعالى ولرسوله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- ولأئمة أهل البيت -صلوات الله عليهم - بمواصلة ما بدأناه، والسير قدماً في نشر عقائد أهل البيت(ع) ومذهبهم من خلال نشر تراثهم الفكري، وما خلّفوه من علوم جليلة أسهمت وتُسْهم في صلاح المجتمعات ، والوصول بها إلى السعادة الأبديّة ، دون أن نحاول صياغة عقائدهم حسب ما يروق لنا، ونجعلها سَلِسَة بِسَلاسَةِ عَصْرنا، بل نقدّمها كما قدّمها أئمة الآل، قفد كفوْنا المؤونة في ذلك، وما بقي إلا أن نغترف من مائهم الزلال، واهتمامنا بذلك لما سبق وذكرناه من أمثال قوله تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب:33] وقوله تعالى: {إنما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55]، وقوله تعالى: { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23].
وأمثال قول رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- :((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض))، وقوله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم-:((أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى))، وقوله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- :((أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء)) ، وقوله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- : (( من سرّه أن يحيا حياتي؛ ويموت مماتي؛ ويسكن جنة عدن التي وعدني ربي؛ فليتولّ علياً وذريته من بعدي؛ وليتولّ وليّه؛ وليقتدِ بأهل بيتي؛ فإنهم عترتي ؛ خُلقوا من طينتي ؛ ورُزقوا فهمي وعلمي.....)) الخبر- وقد بيّن -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم -أنهم علي؛ وفاطمة؛ والحسن والحسين وذريّتهما - عَلَيْهم السَّلام - عندما جلَّلهم -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- بكساءٍ وقال: ((اللّهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً)).
وغيرها من النصوص الواضحة الجليّة الدالة على أنهم عروة الله الوثقى، وحبله المتين الأقوى.
* * * * * * * * * * * *
وقد صدر عن مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية - بصعدة-:
1- لوامع الأنوار في جوامع العلوم والآثار وتراجم أولي العلم والأنظار، تأليف/ الإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي - أيده الله تعالى-.
2- مجموع كتب ورسائل الإمام الأعظم أمير المؤمنين زيد بن علي(ع)، تأليف/ الإمام الأعظم زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(ع).
3- شرح الرسالة الناصحة بالأدلة الواضحة، تأليف/ الإمام الحجة عبدالله بن حمزة(ع).
4- صفوة الإختيار في أصول الفقه، تأليف/ الإمام الحجة عبدالله بن حمزة (ع).
5- المختار من الأحاديث والآثار من كتب الأئمة الأطهار وشيعتهم الأخيار، تأليف/ السيد العلامة محمد بن يحيى الحوثي حفظه الله.
6- هداية الراغبين إلى مذهب العترة الطيبين، تأليف/ السيد الإمام الهادي بن إبراهيم الوزير(ع).
7- الإفادة في تاريخ الأئمة السادة، تأليف/ الإمام أبي طالب يحيى بن الحسين الهاروني(ع).
8- المنير - على مذهب الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم -عَلَيْهمالسَّلام- ، تأليف/ أحمد بن موسى الطبري رضي الله عنه.
9- نهاية التنويه في إزهاق التمويه، تأليف السيد الإمام / الهادي بن إبراهيم الوزير(ع).
10- تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين، تأليف/ الحاكم الجشمي المحسن بن محمد بن كرامة رحمه الله تعالى.
11- عيون المختار من فنون الأشعار والآثار، تأليف الإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي - أيده الله تعالى-.
12- أخبار فخ وخبر يحيى بن عبدالله (ع) وأخيه إدريس بن عبدالله(ع)، تأليف/ أحمد بن سهل الرازي رحمه الله تعالى.
13- الوافد على العالم، تأليف/ الإمام نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم الرسي(ع).
14- الهجرة والوصية، تأليف/ الإمام محمد بن القاسم بن إبراهيم الرسي(ع).
15-الجامعة المهمة في أسانيد كتب الأئمة، تأليف/الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي - أيده الله تعالى-.
16- المختصر المفيد فيما لا يجوز الإخلال به لكلّ مكلف من العبيد، تأليف/ القاضي العلامة أحمد بن إسماعيل العلفي رضي الله عنه.
17- خمسون خطبة للجمع والأعياد.
18- رسالة الثبات فيما على البنين والبنات، تأليف/ الإمام الحجة عبدالله بن حمزة(ع).
19-الرسالة الصادعة بالدليل في الرد على صاحب التبديع والتضليل، تأليف/ الإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي - أيده الله تعالى-.
20- إيضاح الدلالة في تحقيق أحكام العدالة، تأليف/ الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي - أيده الله تعالى-.
21- الحجج المنيرة على الأصول الخطيرة، تأليف/الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي - أيده الله تعالى-.
22- النور الساطع، تأليف/ الإمام الهادي الحسن بن يحيى القاسمي رحمه الله تعالى.
23- سبيل الرشاد إلى معرفة ربّ العباد، تأليف/ السيد العلامة محمد بن الحسن بن الإمام القاسم بن محمد(ع).
24- الجواب الكاشف للإلتباس عن مسائل الإفريقي إلياس - ويليه/ الجواب الراقي على مسائل العراقي، تأليف/ السيد العلامة الحسين بن يحيى الحوثي حفظه الله تعالى.
25- أصول الدين ، تأليف/ الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين(ع).
26- الرسالة البديعة المعلنة بفضائل الشيعة، تأليف/ القاضي العلامة عبدالله بن زيد العنسي رحمه الله تعالى.
كما شارك مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية -بصعدة- بالتعاون مع مؤسسة الإمام زيد بن علي(ع) الثقافية في إخراج:
27- مجموع رسائل الإمام الهادي(ع)، تأليف/ الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم(ع).
28- العقد الثمين في تبيين أحكام الأئمة الهادين، تأليف/ الإمام الحجة عبدالله بن حمز(ع).
29- المصابيح وتتمته، تأليف/ السيد الإمام أبي العباس الحسني(ع)، والتتمة لعلي بن بلال رضي الله عنه.
30- الموعظة الحسنة، تأليف/ الإمام المهدي محمد بن القاسم الحوثي(ع).
ومع مكتبة التراث الإسلامي:
31- البدور المضيئة جوابات الأسئلة الضحيانية، تأليف/ الإمام المهدي محمد بن القاسم الحوثي(ع).
وهناك الكثير الطيّب في طريقه للخروج إلى النور إنشاء الله تعالى، نسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق.
* * * * * * * * * * * *
ونتقدّم في هذه العجالة بالشكر الجزيل لكلّ من ساهم في إخراج هذا العمل الجليل إلى النور، ونسأل الله أن يكتب ذلك للجميع في ميزان الحسنات، وأن يجزل لهم الأجر والمثوبة.
وختاماً نتشرّف بإهداء هذا العمل إلى مولانا الإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي -أيده الله تعالى وأدام في الداريْن علاه- باعث كنوز أهل البيت(ع) ومفاخرهم، وصاحب الفضل في نشر تراث أهل البيت(ع) وشيعتهم الأبرار رضي الله عنهم.
وصلى الله على سيّدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
مدير المركز/
إبراهيم بن مجدالدين بن محمد المؤيدي
27 ربيع الأول/ 1423هـ، 6/6/2002م
قال والدنا ومولانا الإمام الحجة/
مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى وأطال بقاه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وبعد:
فهذا كتاب هداية الراغبين إلى مذهب العترة الطاهرين للسيد الإمام، بحر العلوم الزاخرة، وبدر الهداية الزاهرة، ونجم العترة الطاهرة، العلم المنير، والعالم الكبير، الهادي بن إبراهيم بن علي بن المرتضى بن المفضل الوزير رحمه اله تعالى رحمة الأبرار، وأسكنه جنّات تجري من تحتها الأنهار.
اعلم - أيدنا الله وإيّاك بتأييده، وأمدّنا بموادّ لطفه وتسديده - أن من أقدم ما يتحتّم، وأهم ما يتعين، على الناظر في كتاب ربّه وسنّة نبيه - صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم - من ذوي الألباب، عرفانُ الحقّ والمحقّين، المشار إليهما بقوله عز وجل: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة]، لما يتوقف عليه من رواية السنة الشريفة وتفسير الكتاب؛ ولتولّيهم واتباع سبيلهم، المأخوذَيْن على كافّة المكلفين، بقواطع الأدلة وإجماع جميع المختلفين.
ومن المعلوم أن الله تعالى أمر عباده بسلوك دين قويم، وصراط مستقيم، ونهاهم عن اِلافتراق في الدين، واتّباع أهواء المضلين؛ قال جلّ جلاله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [الشورى:13]، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام]، في آيات بينات، وأخبار نيرات.
وما كان العليم الحكيم سبحانه، ليأمرهم وينهاهم إلا بما يستطيعون، وله يطيقون، بعد إبانة الدليل، وإيضاح السبيل {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } [البقرة:286].
وقد قص الله على هذه الأمة أنباء الأمم السابقة، والقرون السالفة، وما كان سبب هلاكهم، من الإختلاف في الدين، وعدم الائتلاف على ما جاءتهم به أنبياؤهم من الحق المبين؛ قال عز وجل: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)} [آل عمران]، {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } [الأنعام:159]، في آي منيرة، ودلائل كثيرة.
هذا، وإن اللَّه -وله الحمد- حرس معالم دينه بصفوة اختارهم، من حملة العلم، وخزنة الحكم، كما قال رسول اللَّه - صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم -: فيما رواه الإمام الأعظم الزكي، أبو الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي ، عن آبائه صلوات الله عليهم : ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ))، وهو مروي عند المحدّثين.
ورواه الإمام الحجة، المنصور بالله عبد اللَّه بن حمزة (ع) في الشافي ، بلفظ: ((إن كل خلف من أهل بيتي عدول موكّلون، ينفون عن هذا الدين انتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين )).
واختص -سبحانه وتعالى- أهل بيت النبوة بالحظّ الأوفر، والنصيب الأجزل الأكبر، لما أهلّهم له من حماية سوح الدين، ورعاية سرح اليقين، فحباهم من أنوار الهداية بأوضحها وأبهجها، واجتباهم لدلالة العباد إلى سوِيِّ منهجها، فلا طريق إلى الدين الصحيح تخالف عن طريقهم، ولا سبيل إلى النجاة إلا ركوب سفينتهم والتمسك بفريقهم، وكفاهم شرفاً، ما نالهم من دعوات جدّهم المصطفى، نحو قوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم - فيما رواه الإمام المرشد بالله أبو الحسين يحيى ابن الإمام الموفق بالله الحسين بن إسماعيل (ع): ((اللهم اجعل العلم والفقه في عقبي، وعقب عقبي، وزرعي وزرع زرعي )).
وغير ذلك في هذا المعنى وغيره جمّ غفير، وجمع كثير، والوامض اليسير، يدل على النوِّ المطير فلم يزالوا يتلقّونه خلفاً عن سلف، متصلاً ذلك المدد، إلى آخر الأمد، كما في أخبار الثقلين، وإن عند كل بدعة، والنجوم، وسواها مما هو معلوم.
قال الوصي صلوا ت الله عليه في وصفهم: (بهم يدفع اللَّه عن حججه، حتى يؤدوها إلى نظرائهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم)، إلى آخر كلامه، عليه أزكى صلوات اللَّه وسلامه.
ورَفْعُ الجناح للمتأول بالخطأ، مَحَلُّه فيما شأنه أن يخفى، مما لم يقم عليه بيان قاطع، ولابرهان ساطع، وإلا امتنع الحكم بالضلال؛ للاحتمال لكل مدّع لشبهة، من أهل الكتابين وسائر الملل الكفرية، وارتفع القطع بالهلاك لأيّ مخالف يجوَّز ذلك في حقه من البرية، مالم يقرّوا بالعناد، وذلك أقلّ قليل من العباد؛ وهذا عدوّ الله إبليس تشبث بالشبهة وهو رأس الإلحاد، ولم يعذر الله تعالى من حكى عنهم ظنّ الإصابة واِلاعتقاد، نحو قوله عز وجل: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18)} [المجادلة]، {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا(103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} [الكهف]، وما ورد من أوصاف المارقين من الدين.
ولانسدت الطريق، إلى معاملة كل فريق، ولبطلت الأحكام ، من الجهاد والمعاداة وغيرها؛ وهذا خلاف المعلوم الضروري من دين الإسلام، وقد أمر الله بالمقاتلة والمباينة لغير المعاهدين، من الكافرين والباغين، ولم يستثن ذا شبهة وتأويل، بل جعل المناط مخالفة الدليل.
هذا، وقد عُلِم ماعمّت به البلوى من الافتراق، وقامت به سوق الفتنة في هذه الأمة على ساق، وصار كل فريق يدّعي النجاة لفريقه، والهلكة على من عدل عن منهاجه وطريقه، وأن حزبه أولوا الطاعة، وأولى الناس بالسنة والجماعة؛ كما قال ذو الجلال: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)} [المؤمنون].
وسبيل طالب النجاة، المتحرّي لتقديم مراد الله، وإيثار رضاه، الاعتماد على حجج الله، وتحكيم كتاب ربه تعالى، وسنة نبيه - صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم -، واطّراح الهوى والتقليد، اللذَيْن ذمّهما الله في الكتاب المجيد، وتوخي محجة الإنصاف، وتجنّب سبل الغي والإعتساف، غير مكترث في جانب الباطل لكثرة، ولا مستوحش عن طريق الحقّ لقلّة؛ { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ(116)}[الأنعام].
وقد أقام الله -جلّ جلاله- حججه على هذه الأمة، كما أقامها على الأمم؛ فكان مما أوجب عليهم وحتم، وأمرهم به وألزم، وافترضه عليهم وحكم، في محكم كتابه الأكبر، وعلى لسان رسوله سيّد البشر -صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم- المأخوذ ميثاقه في منزلات السور، الاعتصام ُ بحبله، والاستمساك بعترة نبيه وآل رسوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم- الهادين إلى سبيله، الحاملين لتنزيله، الحافظين لقيله، العاملين بمحكمه وتأويله، ومجمله وتفصيله، الذين سيّدهم ومقدّمهم وإمامهم، وليّ المؤمنين، ومولى المسلمين، سيّد الأوصياء، وإمام الأولياء، وأخو خاتم الأنبياء، - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين -.
وقد أعلا الله شأنهم، وأعلن برهانهم، بما شهد به كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم مما أجمعت عليه الأمة على اختلاف أهوائها، وافتراق آرائها، فخُرِّجَ في جميع دواوين الإسلام، وعلم به الخاص والعام، ولزمت به الحجة جميع الأنام؛ امتلأت به الأسفار، واشتهر اشتهار الشمس رابعة النهار، فلا يستطاع دفعه بردّ ولاإنكار.
جعلنا اللَّه ممن استمسك بالعروة الوثقى، واعتصم بالحبل المتين الأقوى، واقتفى سوِيَّ مناهجهم، ومشى على سنن أدراجهم، إنه هو السميع العليم؛ وصلى الله على محمد وآله الأطهار، ورضوان اللَّه على الصحابة الأبرار، من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، على مرّ الأزمان.
مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي ، غفر الله لهم وللمؤمنين
كتب بأمره ولده/ إبراهيم بن مجدالدين بن محمد المؤيدي، وفقه الله
مقدمة التحقيق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وبعد:
فهذا كتاب (هِدَاْيَة الرَّاْغِبِيْنَ إِلى مَذْهَبِ الْعِتْرَةِ الطَّاْهِرِيْنَ) أحد مؤلّفات السيد الإمام حافظ علوم العترة؛ جمال الدين: الهادي بن إبراهيم بن علي بن المرتضى بن المفضل المعروف والمشهور بابن الوزير، يُنشر للمرة الأولى بعد تحقيقه، وضبط نصه، والتعليق عليه، مساهمة منّي لإخراج تراث هذا العالم الرباني الغيور، الذي ما جفّ قلمه طيلة حياته في الدفاع عن مذهب العترة وأئمتها في مصنفات عديدة، إضافة إلى أن المؤلف يعتبر إحدى الشخصيات الفعّالة في أحداث القرن الثامن الهجري، وملتقى حلقات الوصل لدارسي تاريخيّة هذا القرن فكرياً وأدبياً وإخبارياً.
وكنتُ قد وصلتني مخطوطة مؤلّفه هذا أو التقيت بها حال القيام بفهرسة مكتبة السيد محمد بن عبدالعظيم الهادي بمدينة ضحيان فأوقفتني ساعة من الوقت متصفحاً ، وجدت من خلالها موضوع ما تناولت المخطوطة مناسباً كل المناسبة لعصرنا الحالي، الذي استنّت فيه الفصال حتى القرعا، في مهاجمة مذهب أهل البيت، واطّراحه بأوهى الشبه الزائفة، حيث وهو السبب الداعي لمؤلفنا في تأليف هذا الكتاب حيث يقول: فلما رأيتُ مذهب العترة النبوية قد قلّ ناصره، وونت في هذا الزمان عناصره، ورغب عنه من كان فيه راغباً، وشغب فيه من كان لأضداده مشاغباً، رأيتُ أن أذكر ما إذا نظر الناظر من المتمسكين به ازداد رغبة في التزامه، وإذا وقف عليه الواقف من المائلين عنه رجع إلى التنسك باعتقاده، والانخراط في سلكه ونظامه.
ولكي يتّضح ما عملته في المخطوطة وضعتُ للكتاب مقدّمة أوضح ما يلي:
منهج تحقيق المخطوطة
لا أغفل بداية عن التنويه بفرص الوقت المتاحة لي والظروف المهيئة من قِبَل الوالد الغالي -أبقاه الله- أولاً وأخيراً في إنجاز مثل هذا المجهود، الذي عكفتُ عليه مدة ثلاثة أشهر متواصلة، متّبعاً في تحقيق المخطوطة منهجاً يتمثّل في النقاط التالية:
1-مقابلة المصفوف على النسخة الأصل، والتأكد من سلامة النص، وتقطيعه، ووضع علامة الترقيم المعروفة.
2-تخريج الآيات القرآنية وذلك بذكر السور ورقم الآية، وهو عمل قام به العاملون في مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية.
3-تخريج الأحاديث والآثار النبوية الشريفة بقدر الإمكان، وبحسب المراجع المتوفرة، وبخصوص الأحاديث التي أوردها المؤلف رواية عن كتب الحديث مع التعيين، حاولتُ الرجوع إليها وتصديرها برقم الصفحة ورقم الحديث، إلا ما لم يتسنى لي الرجوع إليه.
4-وضع عناوين للموضوعات التي تَنَقّل خلالها المؤلف.
5-تعريف لبحور الأبيات الشعرية في الكتاب عند بداية كل بيت.
6-ترجمة الأعلام الذين ورد ذكرهم في المخطوطة بحسب الدواعي لذلك.
7-وضع عناوين جانبية لتراجم الأئمة، مع ذكر المولد والوفاة بالتاريخ الميلادي والهجري، وقد رجعتُ في إثبات التاريخ الميلادي إلى (جدول الأعوام الهجرية وما يقابلها من الأعوام الميلادية) المثبت في الجزء الرابع من تاريخ اليمن الفكري في العصر العباسي، لمؤلّفه السيد أحمد محمد الشامي.
8-توثيق مادة الفصل الرابع من الكتاب، وذلك بالرجوع إلى المصدر الذي استقى المؤلف منه.
9-وضع فهارس عامة للكتاب: آيات، أحاديث، مواضيع، الأعلام المترجم لهم.
ترجمة المؤلف
نسبه
هو السيد الإمام الهادي بن إبراهيم بن علي بن المرتضى بن المفضل بن منصور بن محمد العفيف بن المفضل الكبير بن عبدالله بن علي بن يحيى بن القاسم بن الإمام الداعي يوسف بن الإمام المنصور بالله يحيى بن الإمام الناصر أحمد بن الإمام الهادي يحيى بن الحسين -عَلَيْه السَّلام-.
مولده ونشأته
ولد -رضوان الله عليه- في هجرة الظهراوين بشظب يوم الجمعة السابع والعشرون من شهر محرم الحرام سنة (758هـ).
نشأ نشأة أهل بيته، وفي حجر والده الفاضل، مترعرعاً في أحضان تلك الأسرة المعروفة بالعفّة والفضل والتقوى، وفي بيئة علمية همّها مدارسة العلوم، وعبادة الحي القيّوم.
ولما فرغ من قراءة القرآن سار والده إبراهيم بن علي بن المرتضى به وبابن عمه محمد بن أحمد بن محمد بن المرتضى إلى صعدة، وكان متى تعب ولده الهادي وولد عمه من السير في طريقهما وهما صبيان صغيران يحمل كل واحد منهما قليلاً حتى وصلوا صعدة، فقرأ المؤلف مدة طويلة، وكان ذا فطنة ساعدته على تناول المفهوم والمنطوق من العلوم، وهضم علوم العربية من نحو وتصريف ومعان وبيان ولغة وغيره، وأديباً قال الشعر على تداني سنّه، وقد كتب خلال قراءته بصعدة إلى أبيه بأبيات شعرية، وطالبه بجوابها، فأجابه والده بقوله:
هَزَزْتَ حُسَاماً مشرفياً من الفَم .... صليلُ غراريه فصيح التكلّمِ
وأبرزتَ للأبصار إبريزَ مَنْطق .... فكان سلاف السامع المتفهّم
وجئتَ بألفاظ رقاقٍ تضمّنت .... بديع معان كالرحيق المختّم
وكنتَ إذا المعنى تمنّع صَيْده .... أصبتَ بسهم اللفظ شاكلة الرمي
ومنها:
ألا إنّ لي سبطاً تسمّى تيمُّناً .... بكنية يحيى بن الحسين المعظّم
ففاض عليه النور من اسم جده .... فجاء جواداً مصعقاً علماً كَمي
قرأ (استبقوا الخيرات) قبل احتلامه .... فعضَّ على الماضي بَنَان التندّم
مشائخه
1-الإمام الواثق بالله المطهر بن محمد بن المطهر المتوفى سنة (909هـ) عن تسعة وتسعين سنة.
2-السيد صلاح الدين المهدي بن أحمد بن صلاح بن الهادي بن الإمام إبراهيم تاج الدين. وهو خاله، وكان ممن يشار إليه بالإمامة، وهو من معاصري الإمام الناصر صلاح الدين محمد بن علي.
3-القاضي عبدالله بن الحسن الدواري، المتوفى سنة (800هـ). وهو عمه، تزوج المؤلف بابنته مهدية بنت القاضي عبدالله. وهي من الفاضلات قال بعض العلماء: حكمها في الفضل على النساء كحكم أبيها وفضله على الرجال.
4-القاضي إسماعيل بن إبراهيم بن عطية النجراني المتوفى (794هـ).
5-العلامة أحمد بن سليمان الأوزري المتوفى (810هـ).
6-الفقيه محمد بن علي بن ناجي الحملاني.
7-السيد المرتضى بن علي بن المرتضى المتوفى بصعدة ليلة الاثنين سنة (785هـ) عن ثلاثين سنة، وهو عمّ المؤلف.
8-السيد أحمد بن علي بن المرتضى بن مفضل، عم المؤلف.
9-الشيخ محمد بن عبدالله بن ظهيرة [751- 817هـ] أخذ عليه بمكة المشرفة.
10-العلوي عمر بن إبراهيم (تقي الدين) إجازة. (طبقات الزيدية).
وهؤلاء الذين ذكرهم صاحب (المستطاب)، وصاحب (طبقات الزيدية الكبرى)، وصاحب (مطلع البدور) في ترجمته نقلاً عن كتاب تاريخ بني الوزير (الفضائل).
11-وفي (مطلع البدور): أنه قرأ على السيد الحافظ محمد بن الحسن بن باقي. وقال: إنه كان يرجع إليه في حل عقدها (أي شرح نهج البلاغة) وتبيين مقاصدها.
12-وفي ملحق (البدر الطالع): أنه قرأ أيضاً على السيد داود بن يحيى بن الحسين الهدوي المتوفى (796هـ)، وهذا ابن صاحب (الياقوتة والجوهرة).
من أخذ عنه من العلماء
أخذ عليه عدّة وافرة من العلماء، منهم: صنوه محمد بن إبراهيم الوزير، والسيد أبوالعطايا عبدالله بن يحيى المتوفى (873هـ)، والسيد عز الدين محمد بن الناصر، والسيد عبدالله بن الهادي بن الإمام يحيى بن حمزة صاحب (العقد النضيد في مختصر شرح ابن أبي الحديد) المتوفى نحو (793هـ).
نعته ومكانته العلمية
نعته كل من ترجم له، أو تعرض لذكره، بأنه كان إماماً في العلوم، وربانياً في عبادة الحي القيوم، وممن نعته:
1-صاحب كتاب الفضائل بقوله: السيد السند، الإمام المعتمد، ذو الفضائل والآثار، والذي لم تسمح بوجود مثله الأعصار، الركن الأشم في أولاد الهادي، والمربي على أقرانه من أهل الحواضر والبوادي، جامع أشتات العلوم، وشاطرها في المنثور والمنظوم.
2-صاحب حلية الإخوان بقوله: أما الهادي فكتابه الذي مرّ من عنوان فضله وعلمه وورعه وزهده. أما علمه فهو رجل جامع للعلوم، له موضوعات في كل فن، أكمل أهل زمانه، يؤهل للإمامة، ويتوخى لتحمل أمر الخاصة والعامة، مع الخوف العظيم للعدل الحكيم، والورع الشافي، ومكارم الأخلاق التي شرف بها وفاق، يضرب بلطف شمائله المثل، ويقتدى به في كل قول صالح وعمل، إمام لأهل العبادة، قد زينه الله بالتقوى والزهادة ، وكمله بفصاحة اللسان التي لا توجد الآن في إنسان، من النظم والنثر، والتصانيف الرائقة، والحكم الفائقة.
3-ووصفه العالم الرباني إبراهيم الكينعي بقوله: هذا الهادي بن إبراهيم إمام من أئمة أهل البيت، لأنه -يا فلان- أعرف الناس في علوم الشريعة، وأكملهم في علوم الطريقة.
4-صاحب الطبقات بقوله: كان السيد الهادي إماماً، علم الأعلام، وعلامة الآل الكرام، ثم سرد ما قاله صاحب الفضائل.
5-الإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي -أيده الله تعالى- في لوامع الأنوار ط2/ج2/158: وصفه بالسيد الإمام، بحر العلوم الزاخرة، وبدر الهداية الزاهرة، ونجم العترة الطاهرة، العلم المنير، والعالم الكبير.
صيته وعلو شأنه وأدبه
وبما سردناه آنفاً من الأقوال التي نُعت بها المؤلف نلحظ مكانته العلمية في عصره، وشخصيته الفذة ذات الفضائل العالية، والمساعي الخيرية، التي كان لها التأثير الواضح على معظم أحداث القرن الثامن الهجري ومنتصف القرن التاسع. ومع نشر مؤلفاته محققة منقحة، ومرسلاته، ومكاتباته، وجميع ما خلفه من التراث الأدبي (ديوانه) ستظهر معالم هذا القول وغيره، من مثل بعد صيته، وانتشر ذكره، فقد كان بالغ الذكر والصيت كما يصفه مترجموه، يقول السيد أحمد بن عبدالله الوزير في كتاب الفضائل ما لفظه:
(وكان سيدي الهادي كبير الكلمة، منتشر الذكر عند جميع أكابر العلماء، في جميع البلاد القريبة والبعيدة، حتى في ديار مصر مع غلظ طباع أهلها وشدة كراهتهم، وقد ذكره علامة المتأخرين وخاتمة الحفاظ ابن حجر العسقلاني المصري في تاريخه وأثنى عليه) [نقلاً عن المستطاب].
قلت: وما ترجمة ابن حجر للمؤلّف إلا لأثير صيته الذي بلغ مداه مسامع الحافظ ابن حجر وهو يؤلف كتابه (أنباء الغمر بأبناء العمر) فنجده لم يطل في ألفاظه؛ لقصور الخبرية عن المعاينة، ولو عاين المؤلف لسوّد الكاغد وأملأ الأوراق، بل اكتفى بقوله:
(الهادي بن إبراهيم بن علي المرتضى الحسني الصنعاني الزيدي، عبر بالأدب ففاق فيه، ومدح المنصور صاحب صنعاء، مات يوم عرفة. وله أخ يقال له محمد بن إبراهيم مقبل على الاشتغال بالحديث، شديد الميل إلى التنبيه بخلاف أهل بيته) [نقلاً عن المستطاب/خ/ لوحة (44)] وقال: انتهى بحروفه.
ومن نواشر صيته ما كان من ذهاب أدبه وشعره على الألسن، ومن ذلك ما يُحْكى أن بعض أهل المعرفة سمع بجبل عرفة مَنْ لا يعرفه ولا يعرف جهته ينشد قصيدة المؤلف (المنسك) التي أولها:
بعث الهوى شوقي إلى أم القرى
ومرسلاته ومكاتباته واسعة النطاق لم تدرس لتحدد، ولكن نكتفي بما أوجزه القاضي أبو الرجال عن ذلك بقوله:
(وكان بينه وبين علماء اليمن الأسفل مراجعات، ومراسلات، ومشاعرات، كابن الخياط، وإسماعيل المقري، والنظاري وهو أقدمهم سناً، ومن شعره إلى سيدي الهادي:
والمرتضى بن المرتضى بن مفضل .... والرأس في المجد الصميم الراسي
واستجاز منه ابن الخياط وغيره، وكذا بينه وبين أهل تهامة مثل الناشري والنفيس العلوي، وله منهم الإجازة الحسنة في علوم الآثار، والنفيس العلوي حنفي المذهب عكي النسب، ينسب إلى رجل يقال له علي هو غيره، وكذا بينه وبين علماء المخاليف والجوار مثل الفقيه حسن بن سود العالم المشهور المكاشف، أحد الواصلين في علم الطريقة، ومثل الأمراء الأشراف وجميع السادة والقضاة في المخلاف السليماني، وأهل مكة، والحجاز، وينبع كمثل القضاة بني ظهير قضاة الحرم الشريف، حكي أنه -رحمه الله- قال للقاضي المذكور (محمد بن عبدالله بن ظهيرة) وهو يسمع عليه الحديث بمكة، وقد قال له: يستقبل القبلة ولا يستقبله كما هو عادة المشائخ في استقبال الشيخ القبلة، فقال الشيخ: النظر إلى أبناء الخليل أفضل من النظر إلى بناء الخليل) [مطلع البدور –مخطوط].
وفي هذه القطعة التي أوردها صاحب مطلع البدور أشبه باستقصاء كامل لمجمل مراسلاته ومكاتباته مع علماء المذاهب الأخرى، التي يبدو الفقيه المقري في طروس تلك المراسلات أضلع شأواً وأنصع بياناً عن كل من كاتبه وراسله المؤلف؛ ومن المشاعرات التي جرت بينهما هذه الأبيات التي أرسلها إلى المؤلف، والتي اشتمل كل بيت منها –كما يقول القاضي أبو الرجال- على التورية، ومستهلها:
أيملك طَرْفي دمع عينيه قانيا .... وقد حلّت الأشواق منه العواليا
فهلا كففتم عن رحا كفّ أدمعي .... أما قد علمتم أن فيها الدواليا!
كأني وقد أهدت لي الريح أدمعي .... أنادم من تلك الجواري سواقيا
رضيتُ ببذل المال والروح والهوى .... فما لكم والروح روحي وماليا
فيا منزلاً أقواه من أهله النوى .... إلى أن غدى من صبغ خدّيَ حاليا
أبى الله لي السلوان عنه وعنهم .... أمثلي يسلوكم إذاً لا أباليا
وعندي لكم ما تعلمون من الوفا .... ووجدي جديد لا يفارق باليا
يشاهدكم طرفي كأني حاضر .... وإن كنت معكم في المودة باديا
أبيع رخيصاً إن شرى البرق مدمعي .... ليسكن جأشي بعدما كان غاليا
لئن كان إسماعيل بالشوق قد رضي .... فإن ابن إبراهيم قد كان راضيا
إمام هدى تروى أسانيد فضله .... ينسقها نسق الكعوب عواليا
مجالسه تشفي الصدور فمن يزغ .... يرى الداء في هجرانها والدواهيا
هو الرأس والهادي لآل محمد .... فلا زال للسرب الرسولي هاديا
له فطن تُعْدي الجليس فكم جَلَت .... لذي حيرة ذهناً وروّته صاديا
وكم من سقيم فهمه قد شحذته .... فأصبح ماض في الضريبة باريا
لقد زارني مشياً على بعد داره .... فكيف تراني ! ليت لو كان جاريا
ولما أتى بالكتب منه رسوله .... تناولت منها باليمين كتابيا
وضيعت رشدي إذ تضوّع ريحه .... وما خلت أن المسك يهدي الغواليا
كتاب كريم منه أصبحتُ سامعاً .... مقالاً به يكبو الحسود ورابيا
أبا المرتضى خُذْها قوافٍ جَلَوْتُها .... لكم بل على الأعداء حتفاً قواضيا
ويبدو لي أنهما التقيا كما تلوح أبيات القصيدة، ومن مراسلات المؤلف إليه تلك القصيدة البائية التي أجاب بها على قصيدة المقري المسماة (الذريعة إلى نصر الشريعة) والتي هاجم فيها الصوفية أصحاب ابن العربي وأشياعه المنتشرين آنذاك في سهول تهامة وفي زبيد، والتي مطلعها:
برغم سنة خير العُجْمِ والعرب .... أضحت مساجدنا للهو والطرب
..القصيدة.
فلاقت تجاوباً أدبياً من السيد الهادي بن إبراهيم، الذي هو بدوره قد أفرغ مصنفاً كاملاً للرد على ابن العربي وهو كتابه: التفصيل في التفضيل؛ فقال ناظماً:
وافى إلينا نظام غير مؤتشب .... أغنى وأقنى لذي التقوى من النشب
قد أوضح السنة الغراء صاحبه .... وقام بالقسط لم يعجز ولم يهب
وأظهر الدين حتى لا خفاء به .... ديناً وميّز بين الصدق والكذب
ومنها:
ما أحسن الحجة البيضاء تَبَخْتَرُ في .... أرض القراطيس في أثوابها القشب
قد صيرت بدعة في الدين ظاهرة .... مقصومة الظهر بالهندية القضب
ومنها: قوله مظهراً سبب الجواب على القصيدة، ومبيناً لما له في بعض أبياتها من الاعتراض، والتنبيه على مخالفة صواب المقالة:
هذا ولما أتتنا منك معجمة .... بالفضل معجمة للتائه الذرب
قمنا بها ورأيناها محبرة .... أبهى وأحسن من عقد من الذهب
أَبَنْتَ فيها الهدى لكن حكيتَ لنا .... مقالة كاد منها الغيظ يذهب بي
ومما ذكره مترجموه عنه في هذا الموضوع، ما كان من احتفاء الشريف حسن بن عجلان أمير مكة به وإكرامه له، سنة حجه هو وصهره أحمد بن عبدالله الدواري عام (807هـ).
قال في الأنوار البالغة شرح الدامغة: (ولما حجّ أكرمه أمير مكة، وهو الأمير حسن بن عجلان، وكل من بمكة من الأشراف والقضاة والفقهاء، وبالغوا في إكرامه، وأراد أن يدخل الكعبة، فكلم الشريف حسن بن عجلان، فبلغ ذلك ابن أبي شيبة أحد سدنة البيت، فتمثل بقوله:
ونُبّئْتُ ليلى أرسلت بشفاعة .... إليّ فهلاّ نفس ليلى شفيعها
أأكرم من ليلى عليّ فتبتغي .... به الجاه أم كنت امرءاً لا أطيعها
ولما سمع الهادي بن إبراهيم خطيب مكة يوم الجمعة يثني على سلطان مصر فرج بن برقوق الشركسي، توجّع من ذلك، وضاقت نفسه، وقال في ذلك أبياتاً أولها:
لو كنتُ لاقيتُ من ضيق العمى فرجا .... ما قمتَ تذكر برقوقاً ولا فرجا
ولما رأى بدعة المقامات أنشأ قصيدة رائعة منها:
أخبرونا عن شأن هذه المقاما .... ت وما جاءكم بها من شريعهْ
ما دليل الكتاب فيها وما جاء .... ت به سنة النبي الرفيعهْ
أم أقام الإجماع فيها دليلاً .... فأرونا هذا وهذا جميعهْ
وبهذه النبذ المقتضبة يظهر ما عنيناه من عَنْوَنة هذا الموضوع، وما كان عليه المؤلف من بالغ الصيت وعلوّ المنزلة، وانتشار الذكر، والسجية المجبولة على الصراحة، والإستنكار لما يشاهده من الخروقات والتجوزات المذهبية الخاضعة في مجملها لسياسة الدول.
مؤلَّفاته
للمؤلف -رحمه الله- العديد من المؤلفات لم تستكمل الإحاطة بأسمائها، يمكن أن نذكر موجز ما وقفنا عليه:
1-الأجوبة المذهبة عن المسائل المهذبة. أوردها على القاضي عبدالله بن الحسن الدواري الفقيه محمد بن الحسن السودي؛ فتولى المؤلف جوابها (خ). منه نسخة ضمن مجاميع (237) بمكتبة الجامع الكبير الغربية، وبحوزتي نسخة مصورة عن المكتبة المتوكلية.
2-التحفة الصفية في شرح الأبيات الصوفية. ذكره الوجيه في أعلام المؤلفين الزيدية وفيه (في ترجمة أخيه محمد): قال الحبشي وينسب إلى أخيه الهادي وهو شرح أبيات لأخيه الهادي.
قلت: والغالب أنه لأخيه، وأن المؤلف راجعه في شرحه لأبياته بـ(شريعة الفرات في شرح ما التبس من الأبيات) كما سيأتي.
3-التفصيل في التفضيل. ردّ به على أبي بكر بن العربي صاحب كتاب العواصم والقواصم (خ). منه نسخة مصورة بمكتبة السيد محمد بن عبدالعظيم الهادي. بخط القاضي المؤرخ أحمد بن صالح أبو الرجال صاحب (مطلع البدور)، وبحوزتي نسخة مصوّرة منها.
4-تلقيح الألباب في شرح أبيات اللباب (خ). ذكره في كتابه (التفصيل في التفضيل). منه نسخة بمكتبة السيد محمد بن عبدالعظيم الهادي. قال في المستطاب: وله مصنّفات عديدة منها نظم الخلاصة وشرحها شرح سماه (التلقيح) وهذا النظم بقافية الراء.
قلت: والمقصود بأبيات اللباب: لباب المصاصة في نظم مسائل الخلاصة، ومطلعها:
أبا حسن يا بن الجحاجحة الغرّ .... من القمر النوار والكوكب الدرّي
5-الجواب الناطق بالحق المبين. قال في المستطاب: في الجواب على ما اعترضه السيد علي بن أبي القاسم على صنوه محمد بن إبراهيم (خ). منه نسخة برقم (40) المكتبة الغربية.
6-دامغة الدوامغ. قصيدة نونية رد بها على الشاعر الأسلمي صاحب الرد على مسلم بن العليف. قال في أعلام المؤلفين: وهو باسم (القصيدة البديعة). قلت: وقد أورد صاحب المستطاب معظم أبيات القصائد الثلاث، وبحوزتي كامل تلك القصائد، وعدد أبيات قصيدة المؤلف (168) بيت.
7-درذة الغواص في نظم خلاصة الرصاص (خ). منها نسخ كثيرة في المكتبات الخاصة والعامة. انظر كتاب الوجيه. وهي في البعض باسم (كتاب المصاصة في نظم مسائل الخلاصة).
8-نهاية التنويه (نظم ذيل خلاصة الرصاص) في ثمان صفحات (خ). منه نسخة ضمن مجموع بمكتبة السيد محمد بن يحيى المطهر بتعز. أخرى (مجاميع (49، 78، 137) غربية.
9-الدرّة الصمصامة جوهرة السادة الأعلام (خ). ذكره الوجيه في أعلام المؤلفين الزيدية وقال: منه نسخة ضمن (78 مجاميع) غربية (ق29- 131).
10-نهاية التنويه في إزهاق التمويه، منظومة وشرحها. طبع ضمن منشورات مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية (الطبعة الأولى 1421هـ/ 2000م) صعدة، تحقيق السيدان: أحمد بن درهم المؤيد وإبراهيم بن مجدالدين المؤيدي.
11-تراجم آل الوزير. ذكره الوجيه في أعلام المؤلفين وقال: بقلم المؤلف في (107) ورقات رقم (2217) مكتبة الأوقاف، ثانية برقم (41) (تأريخ) المكتبة الغربية.
قلت: والغالب أن يكون الكتاب للسيد الهادي بن إبراهيم الوزير المميز عن المؤلف بالهادي الصغير، ولا يخلو أن يكون للمؤلف مشاركة في ترجمة بعض آل الوزير.
12-رياض الأبصار في ذكر الأئمة الأقمار والعلماء الأبرار وشيعتهم الأخيار (منظومة) (خ). منه نسخة ضمن مجموع بمكتبة السيد عبدالرحمن شايم خطّ سنة (1173هـ)، أخرى مصورة بمكتبة جامع الإمام الهادي، وبحوزتي نسخة رديئة الخط عليها شرح مختصر، وهي تحت يدي للتحقيق.
13-السلاسل الذهبية في جواب المسائل الهبية. أوردها على مقام الإمام صلاح الدين الفقيه الحسن بن علي الهبي، فتولى المؤلف جوابها (خ)، بحوزتي نسخة منه مصورة عن المكتبة المتوكلية.
14-السيوف المرهفات على مَنْ ألحد في الصفات. ذكره كل من ترجم له (لم أقف على مكان وجوده).
15-شريعة الفرات في شرح ما التبس من الأبيات (خ). منه نسخة بخط المؤلف خطت سنة (809هـ) برقم (40) علم الكلام، غربية (ق137، 246) أخرى بمكتبة السيد المرتضى الوزير ضمن سفينة أدبية.
16-هداية الراغبين إلى مذهب العترة الطاهرين. وهو هذا الذي بين يديك، وقد ورد في النسخة المحقق عليها باسم: هداية الراغبين إلى مذهب العترة الطيبين، ورجوعاً إلى نسخة المؤلف التي وقف عليها صاحب أعلام المؤلفين الزيدية رأينا إثبات الطاهرين بدلاً عن الطيبين ، وهذا الأنسب رواية ودراية كما في لوامع الأنوار للإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى (ط2/ ج2/ ص159).
17-كريمة العناصر في الذبّ عن سيرة الإمام الناصر (خ). قال الوجيه: منه نسخة بقلم المؤلف في (185) ورقة نزعت منه أوراق عن آخره، فأتمها (نساختها) محمد بن عثمان الوزير سنة (1030هـ).
18-البروج وأسماء أمير المؤمنين. مرتّب على الحروف الهجائية (خ)، منه نسخة بقلم المؤلف في (168) صفحة خطت سنة (809هـ) (أعلام المؤلفين الزيدية).
19-النفحات المسكية في الأحوال المكّية والأعمال المنسكية (خ). قال الوجيه: فرغ منه سنة (809هـ) وهو بقلم المؤلف في (110) صفحات، ضمن مجموع مع كريمة العناصر بمكتبة السيد المرتضى الوزير هجرة بيت السيد (وادي السر).
20-نظم خلاصة الفوائد في أصول الدين للقاضي جعفر بن عبدالسلام (خ). منه نسخة ضمن مجموع بمكتبة السيد محمد بن حسن الجلال، وأخرى بمكتبة السيد محمد بن عبدالعظيم الهادي.
21-نظام جواهر الحكمة المختار من كلام إمام الأئمة (مجلد مخطوط) في آخره: نقول وقصائد متفرقة للمؤلفات، وللإمام الناصر (خ) بمكتبة السيد المرتضى الوزير (أعلام المؤلفين الزيدية).
22-ديوان شعر (خ). ضمن مجموع بمكتبة السيد المرتضى الوزير، ومحقق هذا الكتاب قائم على جمع أشعاره كاملة المبعثرة والمفرقة في حوامي الكتب والمجاميع والسفن الأدبية. وأناشد كل من بحوزته من أدب هذا السيد الأديب العالم أن لا يبخل بإرساله إلى مركزأهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية – صعدة.
23-قصيدة رائية في مناسك الحج (خ). في (7) صفحات ضمن مجموع خط سنة (1064هـ) بمكتبة السيد علي بن إبراهيم، مصور بمكتبة نديم عبادي.
24-جوهرة العقد الفريد في التوسل بأئمة العدل والتوحيد (خ) ضمن مجموع بمكتبة السيد عبدالله محمد غمضان.
25-كاشفة الغمة عن حسن سيرة إمام الأمة. منه نسخة بمكتبة السيد عبدالرحمن شايم خط سنة (1061هـ)، ونسخة بخط المؤلف مصورة بمكتبة معهد القضاء العالي.
26-كتاب الرد على الفقيه علي بن سليمان في المعارضة والمناقضة. ذكره في (مطلع البدور – المستطاب).
27-الرسالة الوازعة لذي العقول عن الإفتراق عن دين الرسول. ذكره في (كاشفة الغمة) وشرحها أحمد بن عبدالله الدواري (المستطاب).
28-إجازاته وأسانيده (خطيه) ضمن مجموع بمكتبة السيد المرتضى هجرة السر.
29-منهاج الخيرات إلى اقتطاف نفائس الثمرات (منظومة في فصول) (المستطاب (خ)، ضمن مجموع بمكتبة السيد المرتضى هجرة السر.
30-الطرازين المعلمين في شرح المفاخرة بين الحرمين المحرمين (خ). ذكره في كتابه (التفصيل في التفضيل) منه نسخة ضمن مجاميع مكتبة الأوقاف.
31-الفواتح المسكية والعوارف النسكية في علم البديع. قال الحبشي (خ). جامع (61 مجاميع).
32-كفاية القانع في معرفة الصانع. ذكره في (المستطاب – مطلع البدور).
33-منظومة في التصوف شرحها أخوه محمد بن إبراهيم (المستطاب – أعلام المؤلفين).
34-رسالة في مدائح القرآن. قال في المستطاب: أودعها محاسن من علوم المعاني والبيان، ونبه فيها على ما تضمنه من المعجزة القرآنية والآية السماوية.
وهذه تعداد مؤلفاته التي ذكرها السيد عبدالسلام الوجيه في أعلام المؤلفين الزيدية نقلاً عن المستطاب ومطلع البدور، الناقلين بدورهما عن ما جاء في كتاب (الفضائل) للسيد أحمد بن عبدالله الوزير المتوفى (985هـ). ويلاحظ اختلاف النقلين عن هذا الكتاب، مما يدلنا على أنهما تصرفا في نقل ترجمة المؤلف وأسماء مؤلفاته، ولو أنّا وقفنا على كتاب (الفضائل) لما أعوزنا إلى هذا الكلام.
ومن الكتب التي جاءت في المستطاب ولم ترد في مطلع البدور ما يلي:
-منظومة للخلاصة ميمية غير ما سبق (أي الرائية) ومنها قوله:
وإن يقولوا بلا كيف فقد رجعوا .... إلى مقالتنا يا مرحباً بكم
-وله سيرة في الأئمة مختصرة وختمها بسيرة الإمام الناصر. قلت: والغالب أنه كتاب (المخبرة في أخبار العترة المطهرة) الآتي لاحقاً.
-ومنها شفاء القلوب المحزنة.
-وله أبيات وشرح معارض الأبيات التي لأخيه محمد بن إبراهيم على صفة الجواب على أبيات السيد محمد بن إبراهيم -التحريض على العلم الجملي. وأبيات السيد الهادي في تقرير ذلك. وبعض جواب ما تكلم فيه في شأن المعتزلة وشرح الأبيات التي لصنوه والتي له [انتهى من المستطاب بلفظه].
قلت: وله أيضاً من المؤلفات والتي وقفتُ على أسمائها من خلال كتبه:
-الجواب الفاصل على الفقيه الفاضل. ذكره في (هداية الراغبين).
-المخبرة في أخبار العترة المطهرة. ذكره في (هداية الراغبين).
-حواشي على نهج شرح ابن أبي الحديد. ذكره في (كاشفة الغمة).
-نظم يواقيت من المناقب الإمامية. ذكره في (الأجوبة المذهبة).
-النكتة اليسيرة الكافلة بإظهار محاسن السيرة . ذكره في (كاشفة الغمة) وقال: إنه أنشأها قبل إنشاء : كريمة العناصر في الذب عن سيرة الإمام الناصر.
-دعوة الإمام علي بن صلاح. بحوزتي نسخة منها مع توقيعات لبعض من بايع من العلماء على تلك الدعوة. خطت سنة (892هـ).
تأريخ وفاته
توفي المؤلف -رحمه الله تعالى- آخر نهار تاسع عشر ذي الحجة الحرام صائماً سنة (822هـ) بحمام السعيدي بذمار.
قال البريهي في طبقات صلحاء اليمن: وكان ذلك بفعل دخان الحمام.
قال في مطلع البدور: وكان موته رائعاً للمسلمين، وفلاًّ عظيماً في عضد أهل الدين، ونقصاً في أهل البيت الطاهرين ، ومنع بسبب بلوغ خبر موته ما يعتاد فعله من الأعياد مع الأئمة، وأهل الأموال في المدائن والأمصار، وكانت روعة عظيمة، وعزي في أمصار الزيدية في ذمار وصنعاء وصعدة، وفي جميع المدارس والبوادي، وعمره ثلاث وستون سنة.
وقبره بذمار بموضع يقال له جربة صنبر، غربي قصر ذمار مشهور مزور، وإلى هذا الموضع أشار من قال شعراً:
إن الفصاحة والرجّاحة والعلا .... في تربة الهادي بجرْبة صنبرِ
شَرُفَتْ بأعظُمِه فطاب صعيدها .... فترابها كالمسك أو كالعنبرِ
مفضّل من صيد آل مفضّل .... سادات أبناء النبي وحيدرِ
أَكْرِم بها من تربة يمنيّة .... نُسِبَتْ إلى ترب بطيبة والغري
وقد رثاه كثير من الناس من أهله وغيرهم، ومن أحسن ما رُثي به مرثية الفقيه الأديب عبدالله بن عتيق المزاح الموزعي، وقد أغفلت شهرة هذه المرثية بقية المراثي الذي لا شك أن شعراء عصره فاضت قرائحهم بأجود المراثي والتأبينات، ومستهل القصيدة:
مات الندى وثوى لسان النادي .... ونُعي إلينا ديمة الروّادِ
فَطَفِقْتُ أمطر ذكره من مُقْلَةٍ .... لم تكتحل من بعده برقادِ
وأَعَرْتُ ماء الورد لون مدامعي .... ومنحتها لوناً من الفرصادِ
ساعد أخاك على البكاء ولا تكن .... من باخل بالدمع غير جوادِ
إن الحَمَاَم على الغصون نوائح .... تبكي لمبكانا وليس بشادِ
خَلّى لبانته وساعد غيره .... لله درّك يا حمام الوادي
للوجد ماء في الخدود وللأسى .... نار تضرّمها على الأكبادِ
والنوم لا يلقى الجفون لأنه .... قد ضلّ عنها منذ مات الهادي
من لم يفجعه الزمان بمثله .... لم يدرِ كيف شماتة الأعادي
أَنْسَت أعاديه المنون كأنها .... وجدت به ريّ الغليل الصادي
يا عاذليَّ وقد وكلت بعهده .... عيناً كأن لها شئون عهاد
لا تلحيا إلا امرءاً لم يبكه .... مثلي بعيني خلّة وودادِ
فوحقّه لو كان يُفْدى هالكٌ .... من هلْكه لفديته بفؤادي
أو بالطريف وبالتليد وإنما .... رهن المنية ماله من فادي
ومن الذي أُعْطي الأمان من الردى .... كلٌ يصير إلى فنا ونفادي
والناس مرتحلون هذا رائح .... ليقيم في الموتى وهذا غادي
والخلق زرع الموت يرقب منتهى .... آجالهم فيعمّهم بحصاد
لو يعقل الإنسان ما اتّبع الهوى .... ونسى المنيّة وهو بالمرصاد
بأبي شهيداً لم يُعَلّل بالمنى .... يوماً ولم يفحش على العوّادِ
لا ريب وهو من النبي وسبطه .... لا من يزيد المعتدي وزيادِ
فاشهد له بالصالحات ولا تَقَلْ .... بمقال أهل الكفر والإلحادِ
أيقال إن حِمامَه حَمّامه .... كلا لقد كانا على ميعادِ
لما استتمّ طهارةً ونظافةً .... وافاه بين الماء والإيقادِ
ولعل ذلك حظّه من حرّها .... وسواه واردها مع الورّاد
أما الدليل على عظيم ثوابه .... فوفاته في أشرف الأعيادِ
لو أنصفوا قالوا معاً في خاتم الأ .... يام هذا خاتم الأفراد
إن العلا من بعده لسليبة .... والمكرمات عواطل الأجياد
علم يوارى في الحفيرة فاعجبوا .... من غيبة الأعلام في الألحادِ
سقياً له ماذا تضمّن قبره .... بين المقابر من هدىً ورشادِ
ونباهة ونزاهة ووجاهة .... ونجابة وإصابة وسدادِ
يا قبر كيف طَوَيْتَ بحراً زاخراً .... متدافع الأمواج والإمدادِ
يا قبر كيف سترتَ طوداً شامخاً .... عهدي به يعلو على الأطوادِ
أوفى على العلماء في طبقاتهم .... وزرى على البلغاء والأجوادِ
ورقى مع الأبدال في درجاتهم .... بل عُدّ في الأقطاب والأوتادِ
لا يبعدنّ الله نجم هداية .... وغياث ملهوف وسيف جهادِ
لم يبد للأيام بعدك رونق .... لم يبق للدنيا جمالٌ بادي
مُذْ غاب وجهك ما ملكت مدامعي .... حزناً ولا ملك السلوّ قيادي
صَلّتْ عليك بنو البتول بطيبة .... ونعيت بين سويقة وجيادِ
وبكى لنقلتك الحطيم وزمزم .... والبيت ذو الزوار والوفّادِ
لقّاك ربك عفوه وثوابه .... وجزاك أجر الطائع المنقادِ
وعليك صلى الله ما لعب الصبا .... بقوام خوط البانة الميّادِ
مصادر ترجمته
لترجمة المؤلِّف -رحمه الله تعالى- العديد من المصادر، سوف أسردها بغض النظر عن من أنصف المؤلف أو من نسب إليه ما لا يقوله ولا يعتقده حرصاً على تقريب المظانّ للمتطلع؛ فمن ذلك:
الفضائل (تاريخ بني الوزير) -خ-، المستطاب في رجال الزيدية الأطياب ليحيى بن الحسين (خ)، مطلع البدور لابن أبي الرجال (خ)، طبقات الزيدية الكبرى لإبراهيم بن القاسم الشهاري (3/3/ط)، لوامع الأنوار للإمام الحجة مجدالدين بن محمد المؤيدي (ط1/2/136، 216)، التحف شرح الزلف (ط3/ 286)، الجواهر المضيئة (خ) ترجمة (102)، أئمة اليمن (1/299)، مصادر التراث اليمني في المتحف البريطاني للدكتور العمري (61- 63)، الجامع الوجيز للجنداري، البدر الطالع للشوكاني (2/316- 318)، ومنه: إنباء الغمر بأبناء العمر لابن حجر العسقلاني (ط)، الضوء اللامع للسخاوي (10/206)، أبن فهد في معجمه (ط)، مصادر الحبشي (117، 195، 325، 378، 420) ومنه: سمط اللآل في شعراء الآل لإسماعيل بن محمد بن الحسن بن الإمام القاسم المتوفى (1080هـ) (خ)، صلة الإخوان (سيرة الكينعي) -تحت الطبع-، جناية الأكوع على ذخائر الهمداني (113)، رياض الرياحين (166)، أعلام المؤلفين الزيدية وفهرست مؤلفاتهم للوجيه ص(1069- 1073)، مقدمة شرح منظومة درة الغواص للسيد عبدالكريم أبو طالب (خ)، طبقات صلحاء اليمن للمؤرخ عبدالوهاب البريهي ص(7) وفيه: أنه يسمى: ذو الوزارتين لمكانه من الإمام الناصر صلاح الدين، وولده الإمام علي بن صلاح. وأورد البريهي ما يستدل به على أن المؤلف مال إلى مذهب السنة، ودون إثبات مثل هذا بيض الأنوق، والأبلق العقوق، ومنه: تاريخ البريهي الكبير، مجمع الفوائد للإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي -أيده الله تعالى- ص(136)، الأنوار البالغة شرح أبيات الدامغة للحسن بن صلاح الداعي، مآثر الأبرار للزحيف (خ).
وصف النسخة المعتمدة في التحقيق
حاولتُ جاهداً في الحصول على نسخة أخرى عند التحقيق، لكن بدون جدوى، وقد نبّه السيد عبدالسلام الوجيه على وجود نسخة بخط المؤلف عليها حواشي بخط السيد صارم الدين إبراهيم بن محمد الوزير صاحب (الفلك الدوار) بمكتبة السيد المرتضى الوزير بهجرة السرّ، ومع ترادف الأشغال، وتوان الهمة، وقلّة ذات اليد في الوصول إلى رفوف تلك المكتبة، فقد كان الإتصال مع السيد عبدالسلام هاتفياً لتصوير تلك النسخة وإرسالها، ولكن يبدو أن الأمر ليس بالسهل، مما جعلني أستعجل التحقيق على هذه النسخة الوحيدة، ويمكن وصفها على النحو التالي:
-هذه النسخة مصوّرة عن أصل مخطوط في مكتبة السيد يحيى الذاري، وقد صورت عليها نسخ عدة فتُدُوِلت هذه النسخة في المكتبات الخاصة وهي ضمن مجموع يشمل الكتب التالية:
-الإفادة تاريخ الأئمة السادة.
-الدعامة للإمام أبو طالب.
-هداية الراغبين إلى مذهب العترة الطاهرين.
أول المخطوطة: في غلاف صفحة المخطوط ما نصه: كتاب هداية الراغبين إلى مذهب العترة الطيبين، تأليف السيد المقام الصدر الأوحد الصمصام، عين عيون السادة القادة الكرام، جمال الدين وكعبة المسترشدين، الهادي بن إبراهيم بن علي أعاد الله من بركاته. والحمد لله على كل حال، والصلاة والسلام على محمد وآله خير آل..إلخ.
آخر المخطوطة: قد أُثبتَ في هامش آخر ورقة للكتاب المطبوع، ومما لم يثبت هناك ما لفظه: مما نُسِخ برسم السيد المقام البرّ البحر، العلامة القمقام، وحيد عصره، وفريد أبناء دهره، من كرمت أعراقه، وطابت أخلاقه، الراقي ذروة السنام، والفائق على الأنام، سليل بيت النبوة الأكرمين ، والعين الناظرة في أهل البيت الطيبين الطاهرين، محمد بن أمير المؤمنين المنصور بالله القاسم بن محمد بن علي اليوسفي الهادوي حفظه الله وجعله من بركات آبائه الطاهرين وسلفه الصالحين، وصلى على سيدنا محمد الأمين وآله الميامين. والحمد لله على كل حال، وصلى الله على سيدنا محمد وآله خير آل.
-وفي يمين الصفحة آخر المخطوطة ما نصه: بلغ قصاصة وتصحيحاً في مجالس آخرها وقت اختيار الظهر من يوم الأربعاء ثالث عشر من شهر ربيع الأول سنة خمس عشر وألف سنة (1هـ).
-وأثبت الناسخ في آخر المخطوطة أيضاً تقريض للكتاب لأخي المؤلف السيد محمد بن إبراهيم الوزير، من كلامه فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم ، وقفتُ على هذا الكتاب فوجدتُه مشتملاً من فضل العترة النبوية على حديقة زهر، وشريعة نهر، وحريّ بمن وقف عليه أن يهتدي بمنصوب أعلامه ، ويقتدي بعجيب كلامه ، وأنا -ولله المنة بذلك- أدينُ الله تعالى باعتقاد فضل أهل البيت عليهم السلام، وأنهم في جميع علوم الإسلام أهل الحلّ والإبرام ، وقد شُغِلوا بالتشريد في البلاد والجهاد لأرباب الفساد، عن كثرة التصانيف في العلوم، وإن كانوا أهل التبريز في المسموع منها والمفهوم، والمروي عن الهادي -عَلَيْه السَّلام- أنه قال : خرجتُ إلى اليمن ومعي من العلم كالجمل فما أنفقتُ منه إلا كأذنه ، وكان -عَلَيْه السَّلام- كما قيل في صفته المشبّه بالليث في خلقه وشجاعته، المشاكل لعلي في علمه وبراعته.
وأقول: إنهم هم العروة الوثقى، وكسفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى .
وأقول: إن غيرهم من أهل المذاهب وإن كانوا أكثر أتباعاً وأبسط في التصانيف اتساعاً فالعترة النبوية قد أبدت من العلم ما فيه كفاية لمن اكتفى، وشفاء لمن اشتفى، وكيف وهم تراجمة الكتاب، والهداة إلى مناهج الصواب ، وهم الأئمة القادة والذادة السادة ، جمعوا بين العلم والعمل، وبلغوا من طاعة الله منتهى السؤل والأمل ، فتصانيفهم رياض الأبصار، وبها الانتصار على أئمة الأمصار ، فقدّس الله تلك الأرواح الشريفة ، وجمع بيننا وبينهم في المنازل الزليفة، وعصمنا عن الزلل في القول والعمل بمحمد وآله، آمين.
- كما أثبت الناسخ في آخر المخطوطة تكملة لرسالة الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني الموجودة في الأصل، وقد نوّهت عليها في مكانها.
-الناسخ: السيد المهدي بن إبراهيم الجحّافي.
-تاريخ النسخ: سنة (1015هـ) عن أصل نسخة المؤلف التي انتهى من نساختها سنة (808هـ).
-عدد الصفحات: بلغ صفحات مجموع الكتب التي تضمنه هذا المجموع (551) صفحة – الكتاب هذا ما بين الصفحات (253- 515).
-عدد السطور: (18) سطراً في الصفحة الواحدة بمتوسط (12) كلمة في السطر.
-الخط: نسخي جيد.
وأخيراً: لا يسعني إلا أن أتقدّم بخالص الشكر والعرفان إلى كلّ من ساعد في إخراج هذا العمل إلى النور، منهم الأخ الفاضل السيد/ إبراهيم بن مجدالدين المؤيدي الذي ما توانى لحظةً في تقريب كلّ مطلوب.
وأخصّ بالشكر الأخ النبيل/ أحمد بن محمد الحجازي لما بذله من جهود في المقابلة والتصحيح للإخراج الأول من صفّ هذا الكتاب. والسيد/ أحمد بن محمد حجر الذي راجع الكتاب قبل الطبع، ونبّه على بعض الأخطاء.
جعل الله الأعمال خالصة لوجهه الكريم.....إنه على ما يشاء قدير.
عبدالرقيب بن مطهر محمد المطهر، الملقب حجر
صعدة: 12/ ربيع الأول/ سنة 1423هـ
الموافق: 22/ مايو/ 2002م
بسم الله الرحمن الرحيم
[مقدمة المؤلف]
اللهم وفق وسدد وأرشد يا كريم وصلى الله على محمد وآله:
الحمد لله الذي أيّد علوم العترة النبوية بأئمتها، واقتاد الأفهام إلى رياضها العلوية بأزمّتها، وهدى ذوي المعارف لاستخراج فرائد أكنّتها، وراض بأفكارهم جوامح فوائدها في أعنّتها، نحمده أن جعل أئمة العترة أطواد الإيمان، وأسباب الأمان، قرن بهم القرآن، فهم والكتاب الثقلان، ونظمهم في سلك الفرقان، فظهر فضلهم على الناس وبان، أنوار أقمار علومهم أقمار سماء العرفان، وأطواد حلومهم أوتاد الأرض من المَيَدان، هم عرى الحق المشبّهون يوم الطوفان بالسفينة، أبناء باب المدينة، وأسباط فاطمة الأمينة، هم أساس الدين وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة.
أخذوا الكلمة عن آبائهم، وتوارثوا الرواية بأبنائهم، فإسنادهم سلاسل الذهب، وكلامهم قواعد المذهب، متصل علم أوّلهم بآخرهم، ذلك أدنى فضائلهم ومفاخرهم. [الطويل]
ولا عيبَ فيهم غير أن سُيوفهم .... بهنّ فُلول من قراع الكتائبِ
جمعوا بين فضيلتي العلم والجهاد، وألفوا في المحاسن بين الأشتات والأضداد، إذا تأمّل علومهم المتأمّل وفكّر في فنونهم المفكّر، لم يعترضه الشك في أنها علوم من قَصَر نفسه على التصنيف دهره، وأنه كلام من لا حظ له في غير التأليف عمره، ولا يكاد يوقن بأنها علوم من ينغمس في الحرب إذا حمي الوطيس، وكلام من شخصه للرماح يوم الكفاح مغناطيس، يلبس أحدهم لامة حربه وهو يلقي مسائل التدريس، ويركب جواده لقتال أعدائه وهو يفتي أعجب من فتاوي محمد بن إدريس. [المنسرح]
قوم بلوغُ الغلامِ عندهمُ .... طعنُ نحور الكماة لا الحلمُ
إن ركبوا الخيل غير مسرّجة .... فإن أفخاذهم لها حُزُمُ
فإن هدأوا وأمدّ الليل رواقه، ولبس جيده أطواقه؛ رتّلوا القرآن في الصلوات، وأسبلوا على الخدود واكف العبرات، وواصلوا بين الركوع والسجود، ووصلوا صلاة الصبح بالعِشاء والناس هجود ، شنشنة توارثوها كابراً عن كابر ، وحلية أورثوها عن أَسرّة في الفضل ومنابر.
وتراهم إذا رقّصت المعضلات أرباب الدراية، ورنّحت المشكلات أطواد الهداية، يصدرون أجوبتها غضّة طرية، تارة مما نقّحته الفكرة النبوية، ومرة مما خزنته الحافظة النبوية؛ فجواباتهم في النظريات مطبقة لمفاصل الصواب، وفي النقليات مؤيدة بالسنة والكتاب.
وموضع التعجب من سعة علومهم مع سعة أعاديهم، وبقاء مذهبهم على كثرة معاديهم، وما زالت الأموية والعباسية والنواصب من الحشوية والنوابت من البكرية جادين في محو منارهم، ومجتهدين في طمس آثارهم.
ثم إن من عُرْف محنتهم ومجهول منّتهم، أن يقوم الداعي منهم إلى كتاب الله تعالى كالهادي والمنصور، وأمثالهما من أئمة تلك العصور، قد جمع شرائط الإمامة المعتبرة شرعاً، وكملت فيه أوصافها أصلاً وفرعاً، فَتَصُمُّ الأمة عن استماع دعوته، فيكون السبب لأكثرهم في عداوته، ما دعا قائمهم أهل زمانهم إلا حدجوه بأعيانهم، ورفضوه بإمكانهم، وجعلوا أصابعهم في آذانهم، وليتهم إذ لم يجيبوا دعوته لم يمزقوا فروته، وإذ لم يقبلوا حجته لم يُعْمِلوا بمكائدهم مهجته، وقد أحسن قائلهم حين أحزنته مقالتهم: [الخفيف]
جعلونا أدنى عدوٍ إليهم .... فهم في أعراضنا آكلونا
أنكروا حقنا وجاروا علينا .... وعلى غير إِحْنَةٍ أبغضونا
وجزونا بالأسر والحبس والقتـ .... ـل خلافاً لما يقول أبونا
وأضاعوا الحقوق فينا ولم نعـ .... ـلم بأنا إليهم مذنبونا
غير أن النبي منّا وأنّا .... لم نزل في صلاحهم راغبينا
إن دعونا إلى الهدى لم يجيبو .... نا وكانوا عن الهدى ناكبينا
أو أمرنا بالعرف لم يسمعوا منا .... وردوا نصيحة الناصحينا
فعسى الله أن يديل أناساً .... من أناس فيصبحوا ظاهرينا
وإذ قد تمّ حمد الله على أياديه العظمى، فإنا نعود إلى وصل جناحه بالشهادة حذراً من اليد الجذمى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، أوجب فضله حمده، فله الحمد بالغدوّ والآصال بالقلم واللسان والأوصال، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم الإرسال، صلى الله عليه وآله خير آل، ما ملع رال ولمع آل. وبعد:
فلما رأيتُ مذهب العترة النبوية قد قَلّ ناصره، وونت في هذا الزمان عناصره، ورغب عنه من كان فيه راغباً، وشَغِب فيه من كان لأضداده مشاغباً، رأيتُ أن أذكر ما إذا نظر فيه الناظر من المتمسكين به ازداد رغبة في التزامه، وإذا وقف عليه الواقف من المائلين عنه رجع إلى التنسك باعتقاده، والانخراط في سلكه ونظامه، هذا مع التأييد بالتوفيق، والرجوع إلى الإنصاف والتحقيق ، واطّراح المكابرة، وترك ما نُهى عنه من المراء في المناظرة؛ فأما من غَلَّبَ حب المراء وغَلَبَ على قلبه، فقد ملّك الشيطان قياده، وخرج عن طاعة ربه ، فنعوذ بالله من حبّ المراء والامتراء بارتضاع أخلافه ، ومناصبة الحق والاعتداء لمحبة خلافه.
وسميتُ هذا التأليف المبارك (هداية الراغبين إلى مذهب العترة الطاهرين) والله أسأله الإعانة والتأييد، والعصمة والتسديد؛ فما التوفيق إلا منه، ولا الاستعانة إلا به، ولا التوكل إلا عليه.
اعلم أنه قد صحّ عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- حديث افتراق هذه الأمة إلى نيف وسبعين فرقة كلها هالكة إلا فرقة واحدة ، روى هذا الحديث أئمة أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- ، ورواه علماء الحديث وفرق الإسلام، وادّعَت كل فرقة أنها هي الفرقة الناجية.
وروى حديث الافتراق الرازي في أول (مفاتيح الغيب) وقال ما لفظه: لقد جاء في الحديث المشهور قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة كلهم في النار إلا ملّة واحدة)) قال: وهذا يدل على أن الاثنين وسبعين موصوفون بالعقائد الفاسدة.
وإذا أردنا أن نتكلم في أن أهل البيت عليهم السلام هم الفرقة الناجية ومن اتبعهم؛ تكلمنا في أربعة فصول:
الفصل الأول: فيما ورد فيهم من القرآن وآياته.
الفصل الثاني: فيما جاء فيهم من حديث رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وبيناته.
الفصل الثالث: في أن تقليدهم في الفروع واتباعهم أولى من غيرهم، لما خصهم الله به من هذه الفضائل الشريفة، والخصائص الزليفة، والمناقب المنيفة، وكلّها دالّة على فضلهم وشرفهم، وارتفاع درجاتهم وزلفهم.
الفصل الرابع: في ذكر أعيان أئمة الزيدية، وبيان أوصافهم الحميدة وأفعالهم السديدة.
[من هم أهل البيت(ع)]
وقبل [أن] نذكر هذه الفصول نقدم الكلام في أهل البيت مَنْ هم؛ حتى يصح لنا إيراد ما نورده من فضائلهم ومناقبهم، ونذكره من سمو درجاتهم ومراتبهم.
فمن ذلك: ما رويناه عن الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة -عَلَيْه السَّلام- قال من (صحيح مسلم) في الجزء الرابع منه من أجزاء ستة في آخر الكراسة الثانية من أوله، بإسناده إلى يزيد بن حيان قال: انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر [و]بن مسلم إلى زيد بن أرقم، فلما جلسنا إليه قال [له] حصين: لقد رأيت يا زيد خيراً كثيراً ، رأيت رسول الله، وسمعت حديثه، وغزوت معه وصليت، لقد أوتيت يا زيد خيراً؛ حدثنا ما سمعت عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-.
قال: يا ابن أخي والله لقد كَبُرت سني وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- فما حدثتكم فاقبلوه، وما لا فلا تكلفونيه.
ثم قال: قام رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- فينا خطيباً بماء يدعى (خماً) بين مكة والمدينة؛ فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكّر ثم قال: ((أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه النور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به -فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال:- وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي)) .
فقال الحصين: ومن أهل بيته يا زيد، أليس نساؤه من أهل بيته؟
فقال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حُرم الصدقة بعده.
هذه رواية الإمام المنصور بالله -عليهم السلام-.
ومن (كتاب المستوفى) لأبي الخطاب ذي النسبين في تفسير آل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- قال: والذي علّمنا رسول الله فيما صح باتفاق: ((اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد)) أي ذريته، وليس له ذرية إلا من سيدة نساء أهل الجنة، أم أبيها فاطمة الزهراء البتول، وهم الذين حرموا الصدقة.
أخرج مسلم في صحيحه من طريقين بأسانيد ثم قال: حدثنا محمد بن بكار بن الريان، قال: حدثنا حسان بن إبراهيم، عن سعيد –وهو ابن مسروق- عن يزيد بن حيان، عن زيد بن أرقم، قال: دخلنا عليه فقلنا: لقد رأيت خيراً، لقد صاحبت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، وصليت خلفه.
وساق الحديث بنحو حديث ابن حيان غير أنه قال: ((ألا وإني تارك فيكم ثقلين أحدهما كتاب الله عز وجل وهو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلاله)) ثم قال في حديث أبي حيان: وزاد مسلم فيه: ((فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به –فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه- ثم قال: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، وأذكركم الله في أهل بيتي –ثلاثاً-)) الحديث، وفيه: فقلنا: مِنْ أهل بيته نساؤه؟ قال: لا، وأيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته أصله، وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده، وهم: آل علي وآل جعفر وآل عقيل وآل العباس، قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم.
فثبت بهذا النص الصحيح ما فسّره الصاحب الذي شهد نزول الوحي بتفسيره الصريح، هذا كلام أبي الخطاب.
وقوله: وشهد نزول الوحي بتفسيره الصريح، إشارة منه فيما أحسب إلى تصديق زيد بن أرقم في حديثه لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- بما سمعه من عبدالله بن أُبيّ في غزوة (بني المصطلق) حين قال: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون:8] ، عَنَى بالأعزّ نفسه، وبالثاني رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، فسمعه زيد بن أرقم وهو حَدِث فقال: أنت والله القليل الذليل، ومحمد في عز من الرحمن وقوة من المسلمين؛ فقال عبدالله: اسكت فإنما كنت ألغب؛ فأخبر زيد رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- لعبدالله: ((أنت صاحب الكلام الذي بلغني؟)) قال: والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئاً من ذلك وإن زيداً لكاذب، وهو قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون:2] ، فقال الحاضرون: يا رسول الله شيخنا وكبيرنا لا نصدق عليه كلام غلام عسى أن يكون قد وهم.
فروي أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- قال له: ((لعلك غضبت عليه؟)) قال: لا، قال: ((فلعله أخطأ سمعك؟)) قال: لا، قال: ((فلعله شُبّه عليك؟)) قال: لا.
فلما نزلت لحق رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- زيداً من خلفه فَعَرك أذنه وقال: ((وفت أذنك يا غلام إن الله قد صدّقك وكذب المنافقين)) .
وهذا الكلام خارج عما نحن فيه، وإنما فسرنا به قول أبي الخطاب: (وشهد نزول الوحي بتفسيره الصريح) ويحتمل أنه أراد بنزول الوحي وهو الأقرب قول الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)} [الأحزاب] على ما سنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى، ونعود إلى تمام كلام أبي الخطاب في تحريم الصدقة على آل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-.
قال: وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال: أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((كخ كخ –ليطرحها- ثم قال: أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة)) . هذا نص (صحيح البخاري) في كتاب الصدقة.
ونص (صحيح مسلم): أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فحطها في فيه، فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((كخ كخ ارم بها أما علمت أنا لا نأكل الصدقة)) .
وثبت في (صحيح مسلم) حديث عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وما قالَ لهُ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وللفضل بن العباس بن عبد المطلب، حين أراد والداهما أن يؤمرهما رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- على الصدقات فلم يفعل، وقال لهما: ((إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس)) الحديث بطوله أخرجه مسلم في صحيحه.
قال أبو الحسن علي بن خلف بن بطال في (شرح الجامع الصحيح) للبخاري: اتفق كافة العلماء على أن أزواج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- لا يدخلن في آله الذين تحرم عليهم الصدقة، انتهى كلام أبي الخطاب.
والقصد بهذا تفسير أهل البيت؛ لأن آل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- هم أهل بيته، وأهل بيته هم آله، وقد تقدم تفسير زيد بن أرقم لأهل البيت، وأن أزواجه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- لا يدخلن في أهل بيته، وإنما أهل بيته مَنْ تَحرمُ عليهم الصدقة.
[بحث حول آية التطهير]
إن قيل: إن هذه الآية وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)} [الأحزاب] ، وردت في زوجات النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، لأن أول الآية وما بعدها يشهد بذلك، قال الله في أولها: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ} [الأحزاب:32] ، إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ} [الأحزاب:33] ، وقال تعالى في آخرها: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:34] ، وهذا يقضي بأنها واردة فيهنّ دون غيرهن، وقد قال الزمخشري في كشافه : وفي هذا دليل بَيّن على أن نساء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- من أهل بيته، هذا لفظه.
الجواب: أن لفظة أهل البيت إذا أُطلِقت لم يسبق إلى فهم سامعها أن المقصود بها إلا ذرية النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- دون غيرهم، ولهذا لو قال قائل مذهب أهل البيت، أو ذكر فضل أهل البيت، أو علم أهل البيت، أو أئمة أهل البيت، لم يسبق إلى الأفهام من إطلاق هذا اللفظ إلا من ذكرناه، فيحمل عليه خطاب الله تعالى لأن الواجب حمله على ما هو السابق إلى الأفهام.
وأما ما كان من توسط ذكر أهل البيت بين نساء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، فذلك لا مانع منه، لأن آيات القرآن قد يتخلل بعضها بعضاً، ويتوسط بعضها بعضاً إذا كانت الجملة مستقلة بنفسها غير مرتبطة بما قبلها وما بعدها، كما ورد في سورة الصافات في قوله تعالى : {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ(161)مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ(162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ(163) } [الصافات] ، وهذا خطاب موجه إلى بني آدم، ثم قال تعالى حكاية عن الملائكة -عليهم السلام -: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ(164)وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ(165)وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ(166) } [الصافات] ، ثم رجع الخطاب إلى بني آدم، قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ(167)لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنْ الْأَوَّلِينَ(168)} [الصافات] ، وهذا يشاكل ما ورد في سورة الأحزاب من توسط ذكر أهل البيت بين أوصاف نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ومثل هذا ما ورد في سورة العاديات قال الله تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ(6)وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ(7)وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)} [العاديات] ، فالخير في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ(7)} ، راجع إلى الله تعالى في أحد التفسيرين؛ فلم يمنع صحة ذلك توسطه بين وصفي ابن آدم.
وقد ذكر بعض المتأخرين من علماء الزيدية أن من الجائز أن يكون توسط ذكر أهل البيت بين أوصاف الزوجات ترتيباً صحابياً؛ لأن الصحابة بعد قبض رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- رتبوا القرآن وقدموا فيه وأخروا، أشار إلى ذلك في (كتاب الجوهرة) ونبه عليه في التعليق.
وهذا وإن كان يمشى فالظاهر أن سورة الأحزاب نزلت جملة واحدة، ولأن الصحابة إنما رتبوا السور لا الآيات، فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- كان إذا نزلت آية قال: ((اجعلوها في مكان كذا)) .
لنا أيضاً: أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- قد بيّن أهل البيت من هم، وذلك ثابت فيما رويناه سماعاً بالسند الصحيح من (صحيح الترمذي) فأول ما فيه أن ترجم مناقب أهل بيت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- يرفعه إلى جابر بن عبدالله، قال: رأيت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصوى يخطب فسمعته يقول: ((يا أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي)) وفي الباب عن أبي ذر وأبي سعيد وزيد بن أرقم وحذيفة بن أسيد.
وروى بإسناده عن عمر بن أبي سلمة ربيب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- قال: نزلت هذه الآية على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)} [الأحزاب] ، في بيت أم سلمة فدعى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- فاطمة وحسناً وحسيناً فجللهم بكساء وعلي خلف ظهره ثم قال: ((اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً))، قالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبي الله؛ قال: ((أنت على مكانك وأنت إلى خير)) ، وفي الباب عن أم سلمة، ومعقل بن يسار، وأبي الحمراء، وأنس بن مالك.
فصحّ بما قلناه أن لفظ أهل البيت مقصور على من ذكرناه دون الزوجات.
ونعود إلى ما رتبنا عليه الكلام في هذا التأليف المذكور، إذ قد يجر كلامنا في معرفة أهل البيت من هم فنقول:
الفصل الأول:[بيان بعض ما ورد في أهل البيت(ع) من آيات القرآن]
أما الفصل الأول: وهو في بيان ما ورد في أهل البيت -عليهم السلام- من آيات القرآن؛ فنحن نذكر ذلك ونعين مواضعه لنخرج عن العهدة، ويكون على صاحب الرواية العمدة.
[آية التطهير]
قال الإمام المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام-: ومن (مسند ابن حنبل) في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)} [الأحزاب] ، رفعه بإسناده إلى واثلة بن الأسقع قال: كان عنده قوم فذكروا علياً عليه السلام فشتموه فشتمه معهم، فلما قاموا قال: لم شتمت الرجل؟
قال: رأيت القوم يشتمونه فشتمته معهم؛ فقال: ألا أخبرك بما رأيت من رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-؟
قال: بلى؛ قال: أتيت فاطمة أسألها عن علي -عَلَيْه السَّلام- فقالت: توجه إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- فجلست أنتظر حتى جاء رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- فجلس ومعه علي وحسن وحسين -عَلَيْهم السَّلام- آخذاً كل واحد منهما بيده حتى دخل، فأدنى علياً وفاطمة وأجلسهما بين يديه وأجلس حسناً وحسيناً كل واحدٍ منهما على فخذه ثم لفّ عليهم ثوبه ، أو قال كساء، ثم تلا هذه الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) } [الأحزاب] ، ثم قال: ((اللهم هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي أحق)) .
وروى بإسناده ورفعه إلى أم سلمة قالت: بينما رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- في بيتي يوماً إذ قال الخادم: إن علياً وفاطمة عليهما السلام بالسدة، قالت: فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((قومي فتنحي لي عن أهل بيتي)) قالت: فقمت فتنحيت في البيت قريباً.
فدخل علي وفاطمة و[معهما] الحسن والحسين عليهم السلام وهما صبيان صغيران، قالت: فأخذ الصبيين فوضعهما في حجره فقبَّلهما واعتنق علياً بإحدى يديه وفاطمة باليد الأخرى وقَبَّلَ فاطمة وأغدف عليهم خميصة سوداء، وقال: ((اللهم إليك لا إلى النار أنا وأهل بيتي)) ، قالت: قلت: وأنا يا رسول الله، قال: ((وأنت)).
ومن (مسند ابن حنبل) مثله إلا أنها قالت: وأنا في الحجرة أصلي، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)} [الأحزاب] ، قالت: فأخذ فضل الكساء فغشّاهم به، ثم أخرج يده فألوى بها إلى السماء وقال : ((اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، اللهم فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً)) قالت: فأدخلت رأسي البيت، وقلت: وأنا معكم يا رسول الله، قال: ((إنك إلى خير إنك إلى خير)) .
و[بإسناده] روى مثله إلا أنه زاد في آخره قالت أم سلمة: فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه من يدي وقال: ((إنك على خير)).
ومن (صحيح البخاري) في الجزء الرابع منه، ومن (صحيح مسلم) في الجزء الرابع منه أيضاً، وفي آخر البخاري من ثمانية في جمع التصنيف، وأجزاء مسلم من ستة وهذا من المتفق عليه منهما، رفعه البخاري بإسناده إلى عائشة، ومسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري المصنف رفعه بإسناده إلى عائشة -رضي الله عنها- قالت عائشة : خرج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود؛ فجاء الحسن بن علي -عَلَيْهم السَّلام- فأدخله فيهم ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها ، ثم جاء علي فأدخله ، ثم قال: (({إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)} [الأحزاب] )).
ومن (تفسير الثعلبي) رويناه ورفعه بالإسناد إلى سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة عن علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام- [عن النبي] قال: ((في الجنة لؤلؤتان إلى بُطْنان العرش إحداهما بيضاء والأخرى صفراء في كل واحدة منهما سبعون ألف غرفة أبوابها وأكوابها من عِرق واحد ، فالبيضاء لمحمد [صلى الله عليه وآله وسلم] وأهل بيته، والصفراء لإبراهيم وأهل بيته)) .
ومن تفسيره بإسناده رفعه إلى أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((نزلت هذه الآية في خمسة: فيَّ، وفي علي، وفي حسن، وفي حسين، وفاطمة {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)} [الأحزاب] )) فهل بعد هذا من تصريح أو إشكال؟
وبإسناده رفعه إلى إسماعيل بن عبدالله بن جعفر، قال: لما نظر رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- إلى الرحمة هاطلة من السماء قال: ((من يدعو لي –مرتين-)) قالت زينب: أنا يا رسول الله، قال: ((ادعي لي علياً وفاطمة والحسن والحسين)) قال: فجعل حسناً عن يمينه، وحسيناً عن شماله، وعلياً وفاطمة تجاهه، ثم غشّاهم كساء خيبرياً، ثم قال: ((اللهم إن لكل نبي أهلاً وهؤلاء أهل بيتي)) فأنزل الله عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)} [الأحزاب] ، فقالت زينب: يا رسول الله ألا أدخل معكم ؟ فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- : ((مكانك فأنت إلى خير)).
وقد روي هذا الحديث بأسانيد كثيرة وألفاظ متقاربة، كلها تُمَتّ إلى معنى واحد، وقد رفعه بإسناده على وجه عن أبي داود وعن أبي الحمراء قال: أقمت بالمدينة تسعة أشهر كيوم واحد، وكان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- يجيء حتى يقوم على باب علي وفاطمة -عليهما السلام- فيقول : ((الصلاة، {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) } )) فهذه نهاية التأكيد لمن كانت له بصيرة.
ومن (الجمع بين الصحيحين) للحميدي بإسناده [رفعه إلى القاضي الأجل العالم أبي بكر عبدالله بن منصور بن عمران العسقلاني الباقلاني، رفعه إلى أبي الفضل السلامي البغدادي، عن أبي عبدالله محمد بن أبي نصر الحميدي المصنف و]روى ما رويناه عن عائشة، سواء سواء ليس فيه زيادة، [وليس لمصعب بن شيبة عن صفية عن مسند عائشة من الصحيح غير هذا.]
[ومن الجمع بين الصحاح الستة: موطأ مالك بن أنس الأصبحي، وصحيح مسلم، والبخاري، وسنن أبي داود السجستاني، وصحيح الترمذي، والفسحة الكبرى من صحيح النسائي من جمع الشيخ أبي الحسن رزين بن معاوية العبدري السرقسطي الأندلسي.
ومن طريق أبي جعفر المبارك بن المبارك بن أحمد بن رزيق الحداد إليه أيضاً،] وبإسناده أيضاً في الجزء الثاني من أجزاء ثلاثة في تفسير سورة الأحزاب من صحيح أبي داود السجستاني وهو كتاب السنن في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)} [الأحزاب]، قالت عائشة: خرج رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- في مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن فأدخله، وجاء الحسين فأدخله؛ ثم جاءت فاطمة فأدخلها ، ثم جاء علي فأدخله ثم قال: (({إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)})).
وعن أم سلمة: أن هذه الآية نزلت في بيتها: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)} [الأحزاب]، قالت : وأنا جالسة عند الباب فقلت: يا رسول الله ألست من أهل البيت؟ قال: ((إنكِ إلى خير إنك من أزواج رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-)) .
وقد ذُكر هذا الحديث من جهات شتى وألفاظ متقاربة ومساعدة تَمُتّ إلى معنى واحد في تفسير هذه الآية ، ويدل على أنه وقع مرات متقاربة تأكيداً لأن في بعضها ثوبه، وفي بعضها كساء فدكياً، وفي بعضها برداً، وبعضها عن عائشة، وبعضها عن أم سلمة، وبعضها عن زينب رحمة الله عليهن، وبعضها عن واثلة، وبعضها عن مروره -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- على منزلهم؛ كل ذلك يفيد تأكيد الأمر في ثبوت عصمتهم.
[آية المباهلة]
ومن (صحيح مسلم) في الجزء الثالث منه من تجزئة ثلاثة، لما نزلت هذه الآية: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} [آل عمران:61] ، دعا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً وقال: ((اللهم هؤلاء أهلي)) .
وقد ذكر الثعلبي حديث وفد نجران في قصة المباهلة، وذكر الحديث بطوله وأن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- خرج محتضناً للحسن، وآخذاً بيد الحسين، وفاطمة تمشي خلفه، وعلي خلفهما وهو يقول لهم : ((إذا دعوتُ فَأمِّنوا)) فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله ، فلا تبتهلوا فلا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة.
فقالوا: يا أبا القسم قد رأينا ألاَّ نلاعنك ونثبت على ديننا وأنت على دينك، وأعطوه الصلح في كل عام..إلى آخر القصة؛ وقد رواها ابن المغازلي الفقيه الشافعي الواسطي.
[آية القربى]
ومن (مسند ابن حنبل) رفعه بإسناده عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: لما أنزلت: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } [الشورى:23] ، قالوا: يا رسول الله من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: ((علي وفاطمة وأبناؤهما)) .
ومن (صحيح البخاري) من الجزء الثالث على حد كراستين ونصف من أوله في تفسير قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، بإسناده إلى ابن عباس –رضي الله عنه- أنه سئل عن قوله تعالى: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}، قال سعيد بن جبير: قربى آل محمد صلوات الله عليهم.
ومن (صحيح مسلم) بإسناده ورفعه إلى ابن عباس في تفسير الآية قال: هي قربى آل محمد عليهم السلام.
ومن (تفسير الثعلبي) في قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، بإسناده، قال: اختلفوا في قرابة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- الذين أمر الله بمودتهم؛ فأخبرني الحسين بن محمد الثقفي العدل، رفعه إلى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه لما نزلت: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم قال: ((علي وفاطمة وأبناؤهما)) –صلوات الله عليهم أجمعين وسلامه-.
إلى آخر ما ذكره الإمام المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام- في رسالته المسماة (بالنافعة بالأدلة القاطعة)، فإنه استلزم فيها إيراد ما ورد في كتب الفقهاء حتى قال: أعدل الشهادات شهادة الخصم لخصمه، إذ هي لاحقة بالإقرار الذي لا يفسخه تعقب الإنكار.
قال عليه السلام: وقد أكثرت الشيعة في رواياتها بالأسانيد الصحيحة إلى حد لم يدخل تحت إمكاننا حصره؛ لأنه الجم الغفير في فضائل علي عليه السلام والحسن والحسين عليهما السلام وذريتهما الطيبة، وما يوجب لهم الإمامة، ويخصهم بالزعامة إلى يوم القيامة؛ فهو على ذلك كُتُبٌ وألوف أحاديث كثيرة.
قال عليه السلام: فرأينا ألا نعتمد شيئاً من روايتها في هذا الباب حتى قال: وإنما أردنا أن نقطع شغب العامة، ونورد ما لا يخالف فيه الكافة، ولو استقصينا ذلك لطال شرحه، وإنما نذكر من ذلك جملة ليطلبه الراغب فيه، ونذكر من الجملة زبدة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
[فصول ما تناولته كتب العامة في فضل العترة]
قال عليه السلام: وفصول ما تناولته كتب الفقهاء إنما يخص بالعترة الطاهرة خمسة وأربعون فصلاً تشتمل على تسعمائة وعشرين حديثاً، من (صحيح البخاري) تسعة وسبعون حديثاً، ومن (صحيح مسلم) خمسة وتسعون حديثاً، ومن (تفسير الثعلبي) مائة وثمانية وعشرون حديثاً ، ومن (الجمع بين الصحاح الستة) لرزين بن معاوية العبدري تسعة وسبعون حديثاً، ومن (الجزء الأول من غريب الحديث) لابن قتيبة الدينوري على انحرافه من العترة الطاهرة ستة أحاديث، ومن (كتاب المغازي) لمحمد بن إسحاق حديثان ، ومن رواية أبي نعيم المحدث مما خرجه من كتاب ( الاستيعاب) حديث واحد، ومن (كتاب الشريعة) للآجري حديث واحد، ومن كتاب الحافظ أبي زكريا [ابن منده] حديث واحد، ومن (كتاب الملاحم) لأبي الحسين أحمد بن جعفر المنادي حديث واحد، ومن كتاب الطبري حديثان، وفيما يختص بعلي عليه السلام ستمائة وخمسة وثمانون حديثاً.
ثم بيّن -عَلَيْه السَّلام- مواضعها وعين أماكنها، والقصد الإشارة إلى كثرة ما ورد في أهل البيت -عليهم السلام- في كتب الفقهاء، قال عليه السلام: وهذه الكتب هي التي توجد في أيدي الأمة سبباً إلى ربها.
قال عليه السلام: ولسنا نأتي بجميع الأحاديث لأن ذلك لا يدخل تحت الإمكان في هذا المكان، وإنما نذكر دليلاً واحداً محققاً على وجه الإختصار، ونشفعه بما يؤيده من الآثار، فإذا أنصف العاقل نفسه لم يعدل عن سبيل نجاته، وطلب الرشد من مظانه، وورد الهدى من شرائعه، وتنور الحق من مشكاته، ورجع إلى هداته، وانساق لدعاته ورعاته، حماة سرح الإسلام، وصفوة الصفوة من الخاص والعام.
قال عليه السلام: فأما روايات الشيعة على صحة نقلها وقوة أصلها فقد أضربنا عنها في رسالتنا هذه ليعمل العاقل بمقتضى عقله، ويسلم الأمر لأهله، ويرد الفرع إلى أصله، لأن الأمة إذا كانت سنة وشيعة، واتفق النقلان على تقديم النصاب المخصوص فما العذر عند الله سبحانه في الاطراح له ورفضه، والعدول عنه إلى غيره؟ في الابتداء بعد وفاة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وإلى انقطاع التكليف؟ إذ التعبد لا بد له من ساق يقوم عليه، وفئة يرجع إليها.
ثم أخذ عليه السلام في إيراد الأدلة على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام وقد ذكرنا طرفاً منها في (كتاب التفصيل في التفضيل)، والقصد هاهنا إيراد ما ورد في فضل أهل البيت عليهم السلام من كتاب الله وسنة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، لتكون حجة لنا على المخالفين في التزام مذهب أهل البيت الطاهرين.
وهذا الفصل الذي نحن فيه لما ورد فيهم من الآيات القرآنية، وما ذكرناه من الأحاديث كان على جهة التفسير، وسنورد منها جملة شافية وزبدة كافية في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى.
[نقولات من كتاب بيان الأوامر المجملة]
قال السيد الإمام مجد الإسلام المرتضى بن المفضل بن الهادي إلى الحق عليه السلام في كتابه (بيان الأوامر المجملة)، وسنورد منه في كتابنا هذا ما يُفوّق بروده ويشنف عقوده، لأنه رحمة الله عليه قد جمع في كتابه هذا ما لم يجمعه كتاب من تصانيف أهل عصره ، في فضائل العترة الطاهرة ، وإيراد النصوص الظاهرة من الآيات الباهرة والأحاديث المتظاهرة.
قال رضي الله عنه: اعلم أن العترة عليهم السلام يدينون ويعتقدون أنهم أهل الكتاب الذين اصطفاهم الله لإرثه، وأهل الذكر الذين أمر بسؤالهم، وأولوا الأمر الذين أوجب الله على جميع المكلفين طاعتهم والرد إليهم، حيث يقول سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)} [النحل] .
وقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] .
وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(119)} [التوبة] .
وقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا(83)} [النساء] .
وأنهم عترة النبي الذين افترض الله على الأمة مودتهم، وذلك قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(104)} [آل عمران] .
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] .
قال رضي الله عنه: وهذه أوامر مجملة تحتاج إلى بيان، والعدل والحكمة يقتضيان ذلك وإلاَّ كان تبارك وتعالى مخاطباً للمكلفين بما لا يُفْهَم، ومكلفاً لهم طاعة من لا يعرفونه، وذلك قبيح والله تعالى لا يفعله، وقد بَيّن تعالى ذلك في كتابه وعلى لسان نبيه.
ثم أخذ رضي الله عنه في تبيين ذلك بما ورد في أمير المؤمنين عليه السلام خاصة، من النصوص الدالة على إمامته من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم ما ورد من فضل الحسن والحسين عليهما السلام خاصة، ثم ما ورد في أهل البيت عليهم السلام عامة، ونحن نذكر من هذا القبيل ما يكون شفاء للعليل، ورياً للغليل من دون بسط، فإنه رحمه الله قد بسط في شرحه لهذا الكتاب بسطاً كثيراً، فمن أراده فليأخذه من مظانه.
قال رضي الله عنه: ومن ذلك ما ورد على سبيل العموم لآل محمد من الآي الشريفة والآثار النبوية كآية التطهير وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)} [الأحزاب] .
روينا عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت في النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وفي علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.
وروينا عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أنه كان يأتي إلى باب علي وفاطمة سبعة أشهر فيقول في كل وقت صلاة: ((الصلاة رحمكم الله {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)})).
وروينا عن أبي سعيد أنها لما نزلت هذه الآية جللهم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- بكساء وقال: ((اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً)) قال: وأم سلمة على باب البيت، قالت: يا رسول الله وأنا، قال: ((وأنت إلى خير)).
وروي عن عائشة وأم سلمة أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- اشتمل بالعباءة قد ألصق صدر علي إلى صدره، وصدر فاطمة إلى ظهره، والحسن عن يمينه، والحسين عن شماله؛ ثم ضمهم ونفسه بالعباء قالت عائشة: ولقد لفهم فيه حتى أنه جعل أطرافه تحت رجليه ورفع طرفه إلى السماء وأشار بسبابته وقال: ((اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي أنا سلم لمن سالمهم وحرب لمن حاربهم، اللهم وال من والاهم وعاد من عاداهم، وانصر من نصرهم واخذل من خذلهم)) .
قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((وجبريل حاضر يؤمّن على الدعاء)) قال: (وأنا معكم) قلت: ((نعم)).
وروينا عن أم سلمة أنها نزلت في النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وعلي وفاطمة والحسن والحسين -عليهم السلام-.
وروينا عن عائشة قالت: خرج رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- من عندي، وعليه مرط مرحل من شعر أسود قالت: فجاء الحسن فأدخله معه ثم جاء الحسين فأدخله معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها معه ثم جاء علي فأدخله معه ثم ضم المرط عليهم ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)})).
وروينا عن أم سلمة قالت: في بيتي نزل: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)} [الأحزاب]، وفي البيت سبعة: جبريل وميكائيل والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وعلي وفاطمة والحسن والحسين وأنا على باب البيت جالسة فقلت: يا رسول الله ألستُ من أهل البيت؟
فقال: ((إنك على خير، إنك من أزواج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-)) وما قال إني من أهل البيت.
وروينا عن أم سلمة أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- قال لعلي وفاطمة والحسن والحسين: ((اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً)) فنزلت هذه الآية في بيتي، فقلت: يا رسول الله وأنا منهم؟ قال: ((وأنت إلى خير)) .
قال رضي الله عنه: فثبت أنهم مرادون بهذه الآية، ولأنه لا يسبق إلى الأفهام عند إطلاق لفظ أهل البيت غيرهم، ولا يشاركهم في هذا الإطلاق أحد من أقارب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- إلا بقرينة ، فثبت بذلك أن هذا الإطلاق حقيقة فيهم مجازٌ في غيرهم، ولأنه صلى الله عليه وآله وسلم جمعهم تحت الكساء ثم قال: ((اللهم هؤلاء عترتي أهل بيتي...الخبر)) قالت أم سلمة رحمها الله: فرفعت الكساء لأدخل معهم فدفعني، ثم قال: ((مكانك وإنك على خير)).
قال رضي الله عنه: وهذا الخبر مما ظهر بين الأمة واشتهر حتى قيلت فيه الأشعار، وتواترت فيه الأخبار، فكان ذلك مخصصاً لأهل بيته من دون سائر أقاربه، ومن دون زوجاته بإقرارهن على أنفسهن، وإقرارهن على أنفسهن أقوى حجة، فلو أمكن دعوى كون الآية عموماً في جميع أقاربه لخرجت بهذا الخاص من العموم وبنيت عليه، ومن مذهبنا بناء العام على الخاص.
قال [رحمه الله]: قال الإمام المنصور بالله عليه السلام في هذا بعينه، وقد قدمنا الكلام في أن العام يبنى على الخاص، وأن عموم الكتاب والسنة يُخَصّ بخبر الواحد، فكيف بما هو معلوم من طريق النقل المتواتر، فثبت أنهم مرادون بها، فوجب أن يكون ما ادعوه حقاً لا شبهة فيه.
وأقول: قد تقدم ما يشبه هذه الرواية في رواية المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام- وإنما أردنا التأكيد بما رويناه من كتاب جدي المرتضى رضي الله عنه؛ لأن الروايات إذا تظاهرت وتكاثرت أفادت شهادة في قوة العلم بها، ولأن في كل رواية فيها مزيد فائدة لمن تأملها وتدبرها، زادنا الله علماً وفهماً.
قال رضي الله عنه: ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] ، روينا عن ابن عباس أنها لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: ((علي وفاطمة وأبناؤهما)).
ومن شرط المحبة الاتباع، قال الله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} [آل عمران:31] ، ومن لم يتبعهم فلم يودهم فكأنه تعالى أمر باتباعهم.
قال رضي الله عنه: والمروي عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أنه قال: ((إن الله تعالى جعل أجري عليكم المودة في أهل بيتي وإني سائلكم فمحفكم المسألة)) .
وقوله -عَلَيْه السَّلام-: ((إن الله فرض فرائض ففرضها في حال وحقنها في حال، وفرض ولايتنا أهل البيت فلا يضعها في حال من الأحوال)) .
قال رضي الله عنه: ومن ذلك قوله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ(61)} [آل عمران] .
قال [-رضي الله عنه-]: لا اختلاف بين الأمة أنها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم لا يقدر أحد من الخلق يدعيها لنفسه ولا لغيره، فأنفسنا علي عليه السلام، ونساءنا فاطمة صلوات الله عليها، وأبناءنا الحسن والحسين عليهما السلام.
قال رضي الله عنه: فكيف يسوغ التقدم على نفس رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، حاشا وكلا، وقال رضي الله عنه: في هذه الأخبار كلها سماع.
قال رضي الله عنه: ومن ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا..الآية} [فاطر:32] ، وأهل البيت عليهم السلام مجمعون بأنهم المرادون بهذه الآية، فأخبر تعالى أنهم صفوته من خلقه، وصفوة كل شيء أفضله، ولذلك كانوا أفضل الخلق، والأفضل أولى بالرجوع إليه.
قال رضي الله عنه: ومن ذلك قوله تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) } [الأحزاب] ، فمنهم من قضى نحبه حمزة -رضي الله عنه وأرضاه- وجعفر بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث ومن معه، جاهدوا حتى قتلوا، وكانوا عاهدوا الله لا يولون الأدبار؛ ومنهم من ينتظر علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام- مضى على الجهاد ومات على ما عاهد لم يغير ولم يبدل، وقوله: ينتظر إلى ما صار إليه إخوانه من درجة الشهادة.
قال رضي الله عنه: ولما روينا أنه حين قتل زيد بن علي وبلغ نعيه إلى جعفر بن محمد -عليهم السلام-، استعبر باكياً ثم تلا: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23] ، ثم قال : (ذهب والله عمي زيد وأصحابُه على ما ذهب عليه جدُّه عليٌّ والحسن والحسين، شهداء من أهل الجنة، التابع لهم مؤمن والشاك فيهم ضال، والراد عليهم كافر، وأنهم ليحشرون يوم القيامة أحسن الناس زينة وهيئة ولباساً، وفي أيديهم كتب كأمثال الطوامير فيقول الملائكة: هؤلاء خلف الخلف ودعاة الحق، ولا يزالون كذلك حتى ينتهى بهم إلى الفراديس العلا، فويل لقاتلهم من جبار الأرض والسماء).
قال [رضي الله عنه وأرضاه] وقوله تعالى: {وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب:6] ، ابتدأ الله بذكر الولاية فقال: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] ، ثم عقب ذلك بقوله: {وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} ، دلّ على أن أولاده أولى بمقامه في الوَلاَيات من غيرهم، يوضح ذلك ما تقدم في (خبر الغدير) إلى غير ذلك من الآيات المنبهة على ما قصدناه.
قال [رضي الله عنه وأرضاه]: ومن (تفسير الثعلبي) في قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} [الشورى:23] ، قال: المودة لآل محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-.
قلت: هذه الآيات التي ذكرها -رحمه الله- مما يختص أهل البيت عليهم السلام قد روى غيره في أهل البيت أكثر منها، والقصد منها ما يكون دليلاً على فضل العترة النبوية، وذلك حاصل (بآية التطهير) و(آية ذوي القربى) وما عداهما زيادة في فضلهم.
ونعود إلى تمام الكلام في ذكر الفصل الثاني المختص بالأخبار النبوية؛ فنقول:
الفصل الثاني: [بيان ما ورد في أهل البيت(ع) من الأخبار النبوية]
وأما الفصل الثاني: وهو في إيراد ما ورد في أهل البيت -عليهم السلام- من الأخبار النبوية فإيرادها في هذا المختصر غير ممكن لأنها تفوت العد، وتجاوز الحد، وحسبك منها ما ذكره الإمام المنصور بالله عليه السلام من كتب الفقهاء دون كتب أهل البيت وشيعتهم الأولياء؛ فإنه ذكر أنها تختص بفصول في فضل العترة الطاهرة يشمل على تسعمائة وعشرين حديثاً، قد ذكرنا فيما مضى مواضعها، وبَيّنا كما بَيّنَ أماكنها.
وأما كتب الأئمة الأطهار وعلماء أتباعهم الأبرار فإنها كما ذكر الإمام المنصور عليه السلام ألوفُ أحاديث، وهي بحمد الله قوية المباني، صحيحة المعاني؛ والقصد في كتابنا هذا الإشارة لا البسط في العبارة؛ فنقول:
قد ذكرنا في تفسير آية التطهير وما ورد من حديث الكساء وهذا الفصل موضعه؛ لأنه دليل مستقل برأسه، وهو مشهور في كتب الصحاح لرسوخ أساسه.
قال الإمام المنصور بالله عليه السلام: من صحيح أبي داود ومسلم ومن الجمع بين الصحيحين للحميدي وهو ما رواه عن زيد بن أرقم قال : قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- خطيباً بماء يدعى (خماً) بين مكة والمدينة؛ فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر.
ثم قال: ((أما بعد أيها الناس فإنما أنا بشر مثلكم يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به)) فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: ((وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي)) فأوصى بكتاب الله دفعة وبأهل بيته ثلاثاً، تأكيداً للحق، وإيجاباً لامتثال الأمر.
ومن (صحيح مسلم) في الجزء الرابع منه من أجزاء ستة في آخر الكراسة الثانية من أوله، بإسناده يرفعه إلى زيد بن أرقم مثله، إلا أنه قال: ((وإني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه النور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به)) فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: ((وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، اذكركم الله في أهل بيتي)) .
قال الإمام المنصور بالله عليه السلام: ومن (تفسير الثعلبي) بإسناده عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد -عليهما السلام- قال: نحن حبل الله الذي قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] ، وروايته مقبولة.
ومن (مناقب الفقيه ابن المغازلي) رفعه إلى أبي ذر الغفاري، قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((إنما مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق)) .
قال عليه السلام: وهذا الخبر مما تلقته الأمة بالقبول فصح أن يحتج به، وإذا قد علمنا أن أمة نوح كلها هلكت إلا من ركب السفينة، فكذلك هذه الأمة تهلك إلا من تمسك بالعترة الطاهرة الأمينة.
قال عليه السلام: فوجب على الأمة الرجوع إليهم، فإذا لم يمكن الرجوع إليهم عموماً فليقع الرجوع إلى الصالح، ولا بد للصالحين من إمام يكون هو المفزع وإليه المرجع، والكل كالمضاف إليه.
قال عليه السلام: ومما يزيد ذلك وضوحاً ما رويناه من حديث الثقلين، وقد رويناه من طرق شتى وصح تواتره، فقد روي في الصحاح وغيرها من الكتب المأثورة.
قال عليه السلام: وقد رويناه بالإسناد الموثوق به إلى أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: أيها الناس اعلموا أن العلم الذي أنزله الله على الأنبياء من قبلكم في عترة نبيكم، فأين يتاه بكم عن أمر تنوسخ من أصلاب أصحاب السفينة هؤلاء مثلها فيكم، وهم كالكهف لأصحاب الكهف، وهم باب السلم فادخلوا في السلم كافة، وهم باب حطة من دخله غفر له، خذوا عني عن خاتم النبيين حجة من ذي حجة قالها في حجة الوداع: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) ).
قال عليه السلام: فقد رأيتَ أيدك الله ما تضمنه هذا الخبر من وجوب المتابعة لهم، والانقياد لأمرهم والتمسك بهم ، فإذا كان هذا في عمومهم فهو في خصوصهم وأعيانهم وأئمتهم أولى بطريقة الأولى، وهي أقوى معتمد في الشرعيات.
[نقولات من كتاب بيان الأوامر المجملة]
وقال السيد الإمام مجد الإسلام المرتضى بن المفضل قدس الله روحه ونور ضريحه (في كتاب البيان): ومن ذلك ما رويناه من السنة الشريفة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما كان في مرض موته حين تيقن انتقاله، خرج يتهادى بين اثنين وأوصاهم بالتمسك بالثقلين، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) .
فصرح صلى الله عليه وآله وسلم بأن التمسك بهم بمنزلة التمسك بالكتاب، ولا شك في وجوب التمسك بالكتاب والاتباع له، فكذلك يجب التمسك بهم والاتباع لهم.
وصرّح صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم لا يفارقون الكتاب إلى منقطع التكليف، ولا يعقل معنى التمسك إلا بالمتابعة والمشايعة وقلة المخالفة، وكذلك الأمان من الضلال لا يكون إلا بملازمتهم، والسلوك في مناهجهم.
قال رضي الله عنه: ومن ذلك قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى)) .
قال [رحمه الله]: وفي هذا الخبر غاية البيان لمن أنصف خصمه بقبول البرهان.
قال رضي الله عنه: ومن ذلك ما رواه الفقيه العلامة عبدالله بن زيد في كتاب (التمييز): أن الراسخين في العلم هم أولي الأمر على الناس منكم، وهم آل محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-.
وهم أئمة الهدى الذين قال الله فيهم: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] .
وهم الذين روى الهادي -عَلَيْه السَّلام- عن جده رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أنه قال: ((أهل بيتي أئمة الهدى قدموهم ولا تقدموهم، وأَمّروهم ولا تَأَمَّرُوا عليهم، وتَعَلَّمُوا منهم ولا تُعَلِّمُوهُم فإنهم أعلم منكم)) فهؤلاء هم الراسخون في العلم.
قال [-رضي الله عنه وأرضاه-]: ومن ذلك ما رويناه من قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((أيها الناس أوصيكم بعترتي أهل بيتي خيراً فإنهم لحمتي وفصيلتي)) .
وروينا أنه قال: ((أيها الناس إني خلفت فيكم كتاب الله وسنتي، وعترتي أهل بيتي فالمضيّع لكتاب الله كالمضيّع لسنتي، والمضيع لسنتي كالمضيع لعترتي ، أما إن ذلك لن يفترقا حتى اللقاء على الحوض)) .
وروينا أنه قال: ((ليس أحد يفضل أهل بيتي غيري)).
قال [-رضي الله عنه وأرضاه-]: وروينا أنه قال: ((أهل بيتي كالنجوم كلما أفل نجم طلع نجم)) .
وأنه قال [صلى الله عليه وآله وسلم]: ((أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء..الخبر)) .
وأنه قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبه الله على منخريه في نار جهنم)) .
وأنه قال: ((قدِّموهم ولا تَقَدَّموهم، وتَعَلَّمُوا منهم ولا تُعَلِّمُوهم، ولا تُخَالفوهم فتَضِلِّوا ولا تَشْتموهم فتكفروا)) ، قال الإمام المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام-: وهذا نص في موضع الخلاف.
قال [رضي الله عنه وأرضاه]: ومن ذلك ما رواه الأمير الناصر للحق شرف الدين الحسين بن محمد في (شفاء الأوام) رواه أبو ليلى عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أنه قال: ((تمسكوا بطاعة أئمتكم لا تخالفوهم فإن طاعتَهم طاعةُ الله ومعصيتَهم معصيةُ الله، فإن الله إنما بعثني أدعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة فمن خالفني في ذلك فأنا بريء منه، وهو بريء مني)) .
قال [رضي الله عنه وأرضاه]: وعنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أنه قال: ((من أحبّ أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ويدخل الجنة التي وعدني ربي فليتول علي بن أبي طالب، وورثته الطاهرين أئمة الهدى ومصابيح الدجى من بعده؛ فإنهم لم يخرجوكم من باب الهدى إلى باب الضلالة)) .
وقوله: ((من سرّه أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ويدخل جنة الخلد التي غرسها ربي فليتولّ علي بن أبي طالب وأوصياءه فهم الأولياء والأئمة من بعدي أعطاهم الله علمي وفهمي، وهم عترتي من لحمي ودمي، إلى الله عز وجل أشكوا من ظلمهم من أمتي لا أنالهم الله شفاعتي)) .
قال [-رضي الله عنه وأرضاه-]: فإن قيل: المراد بأولي الأمر إنما هم أمراء السرايا أو العلماء أو الخلفاء الأربعة أو المهاجرون والأنصار أو الصحابة أو الأئمة على حسب الخلاف.
قلنا: قد ثبت أن الأوامر التي تقدم ذكرها تقتضي بظاهرها وجوب طاعة قوم من الأمة غير معينين، ولا بد من تعيينهم وتبيينهم حتى يتمكن مَنْ وجب عليه ذلك من أداء ما كلفه، وإلا كان تكليفاً لما لا يمكن، وذلك قبيح والله تعالى لا يفعله كما ذكرناه أولاً.
وقد تقدم فيما ذكرناه البيان من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، إذ هو منوط بالله وبرسوله، وبالأدلة المعلومة التي أصلها من الله تعالى أو من رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، ولا يصح ما ذكروه لأن الجهالة باقية.
ولأن هذه التأويلات المُتَمحلة لا يصح أن تكون بياناً للمجمل لكونها أحوج إلى البيان، وذلك يؤدي أن يحتاج كل بيان إلى بيان، أو الاقتصار على بيان عالم ممن يدعي ذلك دون غيره بغير دليل، وذلك لا يصح.
قال رضي الله عنه: وكذلك الكلام في اختلافهم في أهل الذكر يجري هذا المجرى من أن البيان فيه إلى الله وإلى رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وقد تقدم.
ولأن الذكر في قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل:43] ، إن كان المراد به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وكما قال تعالى: {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا(10) رَسُولًا} [الطلاق] ، فهم -صلوات الله عليهم- أهله، وإن كان المراد به القرآن الكريم فهم أيضاً أهله وتراجمته بما تقدم ذكره؛ فكان الرجوع أولى إليهم، ولأنهم عليهم السلام مجمع عليهم ومن عداهم مختلف فيه كما تقدم.
[تخصيص مفهوم العترة بالدليل]
قال [رضي الله عنه وأرضاه]: فإن قيل: فإن عترة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- تعم الذرية وغيرهم؛ أجاب عن ذلك الإمام أبو محمد المنصور بالله عبدالله بن حمزة بن سليمان -عَلَيْه السَّلام- بأن قال: كون عترة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- خاصاً لذريته مُجْمَعٌ عليه، وضم غيرهم إليهم مختلف فيه؛ فالمجمع عليه يجب اتباعه، والمختلف فيه يَنْتَظِرُ الدليل.
قال [رضي الله عنه وأرضاه]: وذكر في (كتاب العين) حكاية عن العرب فقال عنهم: عترة الرجل : هم ولده وولد ولده، وهذا يوضح أنه إنما يستعمل اسم العترة حقيقة فيمن ذكرنا وإن جاز أن يستعمل مجازاً في غيرهم؛ إلا أنه يجب الحمل لكلامه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- على الحقيقة ما أمكن.
ولأن العترة مأخوذة أيضاً من العتر وهو ضرب من النبات، فلما كان ولد الرجل وولد ولده في حكم ما نبت منه أجري عليه هذا الاسم، ولأنه لا خلاف أن ولد الرجل وولد ولده عترة له، ومن عداهم فيهم الخلاف، ولا دليل يدل على من عداهم، فبقي على الأصل وهو أن ذلك لا يستعمل فيمن عداهم حقيقة.
وقد بين ذلك رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- فيما رواه أبو سعيد الخدري لما سأله الضحاك عما اختلف فيه الناس عن أمر أبي بكر..إلى قوله: ((والثقل الأصغر عترتي أهل بيتي عليّ وذريته)) .
قال [رضي الله عنه وأرضاه]: ولأن أهل الكتب الكبار قد ذكروا أن العترة مأخوذة من العتيرة، وهي نبت متشعب على أصل واحد شبه أولاد الرجل وأولاد أولاده لتشعبهم عنه، ولأن اللفظ إذا أُطْلِق سبق إليهم دون غيرهم، وذلك دليل على أنهم عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة دون من عداهم، فإن عنى بذلك غيرهم كان مجازاً.
ولأن إجماعهم منعقد على أنهم عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون غيرهم، فهم عترته بهذه الوجوه جميعاً، التي يوصل النظر في بعضها إلى العلم اليقين فكيف بمجموعها.
قال [رضي الله عنه وأرضاه]: والأصل في تشعب هذه المقالات إهمال العقول، واطراح الدليل ، ومخالفة آل الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- في أمر هذه الأمة بالرجوع إلى أهل بيت نبيها، الذين شهد لهم بملازمة الكتاب إلى يوم الحساب، وأخبر أن فيهم العلم والصواب.
وقال الإمام أبو محمد المنصور بالله عليه السلام: من كان يدعي الإيمان وينكر فضلهم لم يكن بد من أحد أمرين، إمَّا أن يرجع إلى الحق في تفضيل الله لهم ووجوب طاعتهم والانقياد لأمرهم؛ ولا شك أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، وإمَّا الخروج عن هذه الدعوى الشريفة التي هي الإيمان، لأن من خالفهم خرج من زمرة المؤمنين، وألحق بأعداء الله الفاسقين.
[معنى الإذهاب المراد به في آية التطهير]
قال السيد الإمام مجد الإسلام المرتضى بن المفضل –قدس الله روحه ونور ضريحه- فإن قيل: قد بيّنتم بعض ما ذكرتموه على إجماع أهل البيت عليهم السلام؛ فدلوا على أن إجماعهم حجة يجب اتباعها، ويحرم خلافها حتى يتم لكم ما ذكرتموه.
قلنا: قد تقدم ما يدل عليه إلا أنّا لا بد من أن نحقق له برهاناً، ونوضح فيه بياناً.
قال [-رحمه الله تعالى-]: اعلم أن الله تعالى قد أخبرنا بإرادته -إذهاب الرجس عنهم- في آية التطهير التي تقدم ذكرها، والرجس إنما هو رجس الذنوب المحبطة للأعمال لا رجس الأدران؛ لأن ما ينجس من غيرهم ينجس منهم، فثبت أن المراد إنما هو تطهيرهم من دنس الأوزار، وذلك هو معنى العصمة بشهادة الله لهم، وشهادة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، فلا بد أن يعلم من حالهم أن في اللطف ما يزغهم عن الذنوب، ويعصمهم إذا اجتمعوا عن مقارفة الحوب؛ ليكون الله سبحانه مُذْهِباً للرجس عنهم بما يفعله من اللطف.
وما أراده الله سبحانه من فعل نفسه فلا بد من وقوعه لا محالة؛ لأن إرادة العزم عليه تعالى محال، فمن قال بأن إرادته تعالى فعله فلا شك أنه تعالى ما أراد إلاَّ ما فعل، ومن قال إن إرادته إرادة قصد فلا بد أن يفعل، وإلا كانت إرادته عزماً لا قصداً وذلك لا يجوز عليه تعالى، وفي ذلك كون إجماعهم حجة.
[دلالة حجيَّة إجماع أهل البيت(ع) من السنة الشريفة]
قال [رضي الله عنه وأرضاه]: وأما دلالة السنة الشريفة فنحو قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) وفي وجه دلالة هذا الخبر لما قصدناه مسالك منها:
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- مخاطباً لأمته: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا...الخبر)) فأبان بذلك موضع الاستخلاف حتى لا يُفقد منه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- إلا وجهه، فيتفرع من ذلك وجوب الطاعة وذلك عام.
ومنها: أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- سوى بين العترة والكتاب، والكتاب حجة، فلا بد أن يكون ما أجمعوا عليه حجة ليطابق المثال الممثول.
ومنها: إخباره -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أن عترته لا تفارق الكتاب حتى اللقاء على الحوض، والمراد بذلك حكم الكتاب، فمعناه أن الكتاب والعترة يمتان متّاً واحداً لأنهم تراجمته وحفظة وحيه عن تمويه المموهين، وتأويل الجاهلين كما قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((في كل خلف من أهل بيتي عدول...الخبر)) .
وهل في البيان لنجاة متبع العترة والحكم بإصابتهم ما هو أظهر من هذا، لكن طاشت الحلوم، وضاعت العلوم، واختار الناس غير ما اختاره الحي القيوم.
قال [رضي الله عنه وأرضاه]: ومن ذلك قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى)) وفي بعضها: ((هلك)) ووجه دلالته على أن إجماعهم حجة ظاهر من حيث حَكم صلى الله عليه وآله وسلم -وهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى- بنجاة من تمسك بآل محمد عليهم السلام، والنجاة شائعة فيما يَقْفُوهم فيه مشايِعُهُم ومتابِعُهُم في قول وعمل واعتقاد.
ولما حكم صلى الله عليه وآله وسلم بغرق المتخلف عنهم أو بهلاكه على حسب الرواية ثبت كونه عاصياً لربه ضالاً عن منهاج دينه، وقد بالغ صلى الله عليه وآله وسلم في بيان ذلك بتمثيل عترته بسفينة نوح.
وقد علمنا أنه لم ينج من أمة نوح صلى الله عليه إلا من ركب السفينة، كذلك يهلك من أمة محمد نبينا صلى الله عليه وآله وسلم من لم يتمسك بعترته الطاهرة الأمينة، وإلا كان تمثيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا معنى له؛ فصح أن إجماعهم حجة يجب اتباعها ويحرم خلافها.
قال [رضي الله عنه وأرضاه]: ومن معاني أدلة السيد أبي طالب نفي الله سبحانه الرجس عن العترة في آية التطهير وهو رجس المعاصي، فدل بذلك على أنهم لا يجمعون إلا على حق يجب قبوله.
ومن معاني أدلة السيد أبي عبدالله عليه السلام: مقارنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- للعترة بالكتاب ونفيه لافتراقهما، وتسميته لهما باسم واحد وهو الثقل؛ فدل بذلك على كون إجماعهم حجة كالكتاب.
واستدل أيضاً الإمام المنصور بالله على ذلك بما معناه أنه قد ثبت بالدليل أنهم خيرة الله سبحانه، وأنه اصطفاهم لإرث كتابه وللشهادة على الناس وهو سبحانه لا يختار إلا العدول، والعدول لا يقولون إلا الحق ، والحق لا يجوز خلافه، وكلما لا يجوز خلافه فهو حجة.
وقال أيضاً: إن العترة إذا أجمعت على حكم من الأحكام وخالفهم فيه جميع الخلق لم يسع لهم خلافهم عند أهل البصائر، وردتهم الأدلة إليهم صاغرين، ومتى أجمعت الأمة أَسْوَدُهَا وأَحْمرها وخالفهم واحد من أهل البيت عليهم السلام على قول ساغ له خلافهم، ولم يصح ادعاء الإجماع في تلك المسألة على قول الكافة، وهذا غاية الاختصاص بالشرف الكبير ، والتميز بالحال الخطير.
[التمييز بين الرجوع المأمور به والتقليد المنهي عنه]
قال -رضي الله عنه وأرضاه-: فصل:
فإذا تقررت هذه القاعدة فاعلم أن الرجوع المأمور به إليهم ليس على وجه التقليد المنهي عنه وهو اعتقاد قبول قول الغير من غير حجة، والحجة على إيجاب الرجوع إليهم واضحة، والأعلام لمتبعهم لائحة.
قال [رضي الله عنه وأرضاه]: ثم اعلم أيضاً أن ذلك على سبيل العموم كما تقدم في القول والعمل والاعتقاد إلا أنه يمكن أن يقال: أما العلوم النظرية أو ما كان أصله مقطوعاً عليه من العلوم الشريفة فإنما يرجع إليهم على سبيل التنبيه والنظر والاستقراء والبحث فيما وضعوه وأصلوه من العلم ، لأنهم لا يخالفون الكتاب ولا يختلفون فيه، وكذلك السنة المقطوع عليها والإجماع لما تقدم بيانه من الأدلة الدالة على تنزييهم -سلام الله عليهم- من ذلك.
ولأنه صلى الله عليه وآله وسلم جعل التمسك بهم كالتمسك بالكتاب، فكما أنه يجب التنبيه والنظر والاستقراء والبحث فيما يجب من ذلك كذلك يجب مثله فيما وضعوه، لأنهم تراجمته وحفظته وأهله.
ولأنهم عليهم السلام وقفوا في أنظارهم على الجملة التي استقر عليها دين الإسلام، ودان بها الرسول سيد الأنام، والأنبياء قبله عليهم السلام، ودعا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- المكلفين كافة إليها ، وأجاب من سأله عنها، ونهى عن الزيادة عليها، وحكم بهلاك من خالفها، وهي الاعتقادات التي لا تتم العبادة السمعية إلا باعتقادها دون ما عداها مما حدث من الخلاف بعده صلى الله عليه وآله وسلم.
ولذلك أمر باتباعهم، ونهى عن مخالفتهم لما علم من حدوث الخلاف بعده صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد نهى الله ورسوله عن الاختلاف ، وأمر جميع الخلق بالائتلاف، قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] .
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159] .
وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(105)} [آل عمران] .
وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((من خالف الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)) .
وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فليس منا وهو رد عليه)) .
وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((من انتهر صاحب بدعة ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً)) .
وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((كل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)) ..إلى غير ذلك من الأخبار.
قال [رضي الله عنه وأرضاه]: وأما ما لم يكن له أصل مقطوع عليه من الأدلة بل يسوغ فيه الاجتهاد فإنه يجب الرجوع إليهم، لأن الله تعالى أمر الجاهل بذلك حيث قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)} [النحل] ، وقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ..الآية} [النساء:83] .
وقد صح أنهم المخصوصون بذلك بما تقدم ذكره والأمر يقتضي الوجوب؛ فإذا ثبت ذلك فاعلم أنهم -عَلَيْهم السَّلام- وإن اختلفوا فيما هذا حاله فليس باختلاف على الحقيقة، لأنهم يستنبطونه ويستخرجونه من أصول الأدلة المتفق عليها؛ لأن الله قد جعل لهم من الألطاف ما يوفقهم للآراء الصائبة، والأنظار الثاقبة.
فإن وافق اجتهادُ غيرهم في مسألة اجتهاد المجتهد منهم لم يمتنع جواز الرجوع إليه؛ لأنه في الحكم كالراجع إليهم راكباً في السفينة وغير خارج عنها.
وإن لم يوافق أحداً منهم؛ فهو مخالف مأمور بالرجوع إلى موافقتهم والسلوك في مذاهبهم، لما تقدم من الأدلة الدالة على أن إجماعهم حجة يجب اتباعها ويحرم خلافها.
قلت: هذا الكلام في حكم الرجوع إلى العترة النبوية فإن موضعه الفصل الثالث؛ لأنه كلام في أن تقليدهم والتزام مذهبهم أولى إن لم يكن واجباً على ما سنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.
[الرد على اعتراضات المخالف في حجية إجماع العترة(ع)]
فصل: نذكر فيه ما يعترض به المخالف في كون إجماع العترة حجة.
قالوا: إن المراد بآية التطهير ، وحديث: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به..الحديث)) أمير المؤمنين علي -عَلَيْه السَّلام- والحسنان وفاطمة دون من ذكرتم من أولادهما.
قلنا: أما الآية فإنها إذا أفادت كون إجماعهم حجة كان قول أولاد الحسن والحسين حجة، لأنه لا أحدٌ قال بأن إجماع أولئك حجة إلا قال أيضاً بأن إجماع أولاد الحسن والحسين حجة في كل عصر.
قالوا: ليس في الآية إلا أن الذي يجمعون إليه صواب، وليس فيه أنه حجة يجب اتباعها.
قلنا: قد أجمعت العترة النبوية على أن قولهم حجة وأنه يجب اتباعها، فإذا كان صواباً لزم ما ذكرناه ، ذكر هذا الكلام حي سيدنا العلامة فخر الدين عبدالله بن حسن الدواري -رحمة الله عليه- في (تعليق الخلاصة) ، وهي دلالة كنت ذكرتها في كتاب (التنويه في إبطال التمويه) [طُبع عن مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية]، وكتبَ بعضُ الأصحاب حاشية عليها: إن هذا الكلام يؤدي إلى الدور؛ لأنه لا يُعرف أن قولهم حجة إلا بإجماعهم على أن قولهم حجة، ولا يعرف أن إجماعهم حجة إلا بقولهم أن إجماعهم حجة.
قال: والأولى في الدليل على أن إجماع أهل البيت حجة ما ورد من حديث مقارنتهم بالكتاب العزيز، وحديث تشبيههم بسفينة نوح لأن المتمسك بالكتاب ناج من الهلاك، ويجب مثله في المتمسك بأهل البيت، وهذه هي الفائدة في أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- قرن بين العترة والكتاب، وجعل التمسك بهما مُنْجِياً لمن تمسك بهما من ذوي الألباب، ومثله حديث السفينة كما قررناه.
وأما قول المعترضين بأن حديث التمسك مقصور على أمير المؤمنين والحسنين وفاطمة -عليهم السلام- فغير صحيح، لأن عترة الرجل ولده وولد ولده.
فإن قيل: فيلزم خروج أمير المؤمنين من اسم العترة؛ لأنه ليس من أولاد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-.
قلنا: إنه من أهل البيت لحديث الكساء فهو -عَلَيْه السَّلام- رأسهم وأساسهم، وشمسهم ونبراسهم.
قالوا: التمسك لفظ مجمل لا ظاهر له.
قلنا: السابق إلى الأفهام الاقتداء بهم، كما إذا قال أحدنا لغيره تمسك بفلان فإنما يريد اقتد به في أفعاله وأقواله وأحواله؛ سيما إذا كان المأمور بالتمسك جاهلاً والمتمسك به عالماً.
قالوا: إنما أمن الضلال من تمسك بالكتاب والعترة لأجل الكتاب لا لأجل العترة.
قلنا: لا يحسن الجمع من الحكيم بين شيئين ويردف عليهما حكم إلا وهما سيّان في تعليق الحكم بكل واحد منهما، وإلا كان ذلك تلبيساً لا يليق بالحكيم.
قالوا: أراد بالتمسك مودتهم لا غير.
قلنا: لا تنافي بين المودة والاقتداء؛ بل السابق إلى الأفهام هو الاقتداء بهم؛ فإن قدرت أن لفظ التمسك مشترك بينهما حملناه عليهما إذ لا تنافي بينهما.
[فائدة]
فائدة في حكم إجماع العترة والفرق بينه وبين إجماع الأمة:
أما حكم إجماع العترة فالذي ذكره جدي المرتضى -رحمه الله- أنه يجب اتباعه وتحرم مخالفته، واحتج لذلك وأطال، وكان من جملة ما أورده من الحجة: أن الله تعالى أمر بالسؤال لهم والرد إليهم ، فقال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)} [النحل] .
وقال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ..الآية} [النساء:83] .
وقد صح أنهم المخصوصون بذلك، والأمر يقتضي الوجوب لغة وشرعاً؛ أما اللغة: فإن السيد إذا قال لعبده أسرج الفرس، أو اشتر اللحم علم العقلاء من أهل اللغة أنه يجب عليه امتثال ما أمره به بمجرد ظاهر الأمر ، ولذلك يذمونه إذا لم يفعل، قال شاعرهم: [الطويل]
أمرتك أمراً جازماً فعصيتني .... فأصبحت مسلوب الأمارة نادما
فسماه عاصياً لمخالفته ما أمره به.
وأما الشرع: فإن الله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(63)} [النور] ، فلولا أن ظاهر الأمر يقتضي الوجوب لما توعّد الله تعالى على مخالفيه بالعذاب الأليم، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((أُمِرْتُ أن أضحّي ولم تُؤْمروا)) أي أوجبت عليّ الأضحية ولم توجب عليكم، فصحّ أن ظاهر الأمر يقتضي الوجوب.
حتى قال في مسائل الاجتهادات: إذا وافق اجتهاد مجتهد غيرهم في مسألة اجتهاد المجتهد منهم لم يمتنع جواز الرجوع إليه لأنه في الحكم كالراجع إليهم، راكباً في السفينة وغير خارج منها، وإن لم يوافق واحداً منهم في الاجتهاد فهو مخالف مأمور بالرجوع إلى مذاهبهم والسلوك في مناهجهم.
قال [رحمه الله]: لما تقدم من الأدلة الدالة على أن إجماعهم حجة يجب اتباعها ويحرم خلافها ، وإلا كان لا معنى لهذا الواجب ولا لهذا التحريم، فثبت ما رمناه. هذا كلامه -رحمه الله- بلفظه وقد تقدم شيء منه.
وأما كلام الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة -عَلَيْه السَّلام- فإنه فرق بين الإجماعين؛ فقال: إجماع الأمة متى حصل على حكم من الأحكام فإنها تحرم مخالفته لكونه قاطعاً، ويفسق المخالف له لما في ظاهر الآية من الوعيد على من خالفه، وأدنى درجات الوعيد الفسق، ويحرم وقوع الاجتهاد على مخالفة حكمه من جهة أن الإجتهاد على مخالفة المقطوع ممنوع، كما لو اجتهد على مخالفة النص كان فاسداً فهكذا هاهنا.
وأما إجماع العترة فهو حقّ وصواب لظاهر الآية والخبر، ولا يفسق من خالفه لعدم الدلالة على فسقه، والفسق إنما يكون بدلالة قاطعة شرعية، وليس في ظاهر الآية والخبر ما يدل على فسق من خالفه، وهل يكون قاطعاً فيما يتناوله أم لا؟ فيه تردد ونظر.
قال عليه السلام: والأقرب أن دلالته ظنيّة كالظواهر القرآنية ونصوص السنة المنقولة بالآحاد ، وكالإجماعات من جهة الأمة التي نقلت على طريق الآحاد، لما في ظاهر الآية والخبر الدالين على كونه حجة من الاحتمال.
قال الإمام عليه السلام: وإذا كان مظنوناً جاز مخالفته بالاجتهاد، ولهذا فإنك ترى كثيراً من المسائل التي وقع فيها إجماع العترة الخلاف من جهة الفقهاء فيها ظاهر، والاجتهاد فيها مضطرب من غير نكير هناك في المخالفة ولا تأثيم للمخالف ولا تجريح عليه، ولو كان إجماعهم قاطعاً لحرم الاجتهاد ولكان الخطأ مقطوعاً به، وفي هذا دلالة على كونه ظنياً، وأنه لا يحرم الاجتهاد.
[ما رواه أئمة العترة وعيون الزيدية من أحاديث فضل أهل البيت (ع)]
فصل:
نؤيد ما ذكرناه من فضل أهل البيت عليهم السلام بذكر أحاديث مما رواه أئمة العترة النبوية وعيون علماء الزيدية.
فمن ذلك: ما رواه سيدي وجدي المرتضى بن المفضل قدس الله روحه قال في (كتاب البيان): وروينا عن ابن مسعود: (أن لأمة محمد فرقة وجماعة، فجامعوها إذا اجتمعت فإن افترقت فكونوا في النمط الأوسط ثم ارقبوا أهل بيت نبيكم ، فإن حاربوا فحاربوا ، وإن سالموا فسالموا ، وإن زالوا فزولوا معهم حيث زالوا ، فإنهم مع الحق لن يفارقهم ولن يفارقوه).
وقال [رحمه الله ورضي عنه]: وذكر الحاكم في التنبيه في قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ(130)} [الصافات] ، قيل: آل محمد -عليهم السلام- وياسين من أسمائه فكأنه قال: سلام على آل محمد –صلى الله عليه وعليهم أجمعين-.
قال رضي الله عنه: وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ما بال أقوام إذا ذكر عندهم آل إبراهيم استبشرت قلوبهم وتهللت وجوههم، وإذا ذكر أهل بيتي اشمأزت قلوبهم وكلحت وجوههم، والذي بعثني بالحق نبياً لو أن رجلاً لقي الله عز وجل بعمل سبعين نبياً؛ ثم لم يلقه بولاية أولي الأمر من أهل بيتي ما قَبِلَ الله منه صرفاً ولا عَدْلاً)) .
قال -رحمه الله-: وهو لنا سماع.
وفي الحديث المشهور عن علي -عَلَيْه السَّلام-: (كنت آخذ البيعة لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- على السمع والطاعة في العسر واليسر، وأن نقيم ألسنتنا بالعدل ولا تأخذنا في الله لومة لائم، فلما ظهر الإسلام وكثر أهله، قال: ((يا علي أَلْحِقْ فيها على أن تمنعوا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وعترته مما منعتم به أنفسكم وذراريكم)) قال -عَلَيْه السَّلام-: فوضعتها والله على رقاب القوم، وفى بها من وفى وهلك بها من هلك).
قال -رحمه الله-: وهو سماع لنا.
قال -رحمه الله-: وعنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أنه قال: ((أحبّوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي)) .
وقوله حين وصف آخر الزمان فقيل له: أي الأعمال أفضل؟ فقال: ((وتميل مع أهل بيتي حيث مالوا)) .
قال -رحمه الله-: وهو سماع.
هذه الأخبار استدركها رحمه الله في حواشي كتابه فقيدها بالسماع، حراسة لها عن الإهمال والضياع ، إلى أخبار كثيرة ذكرها في متن الكتاب ، وأظهر فيها من فضل العترة العجب العجاب.
وروى الفقيه العلامة الشهيد حسام الدين حميد بن أحمد المحلي –رحمة الله عليه ورضوانه- في (كتاب الحدائق الوردية) جملة من الأخبار النبوية في فضل العترة الرضية الطاهرة المرضية، فذكر منها عيونها.
فمن ذلك: ما رواه من أمالي السيد أبو طالب بإسناده يرفعه عن أبي ذر قال وهو آخذ بباب الكعبة: أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر، سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- يقول: ((مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك)) .
قال: وبالإسناد إلى السيد أبو طالب يرفعه إلى ابن عباس قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((أيها الناس أوصيكم بعترتي أهل بيتي خيراً فإنهم لحمتي وفصيلتي فاحفظوا منهم ما تحفظون مني)) وذكر حديث الكساء وآية التطهير فاختصرناه اكتفاء بما تقدم.
وروى -رحمه الله- بالإسناد يرفعه إلى جعفر بن محمد عن آبائه -عليهم السلام- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((الإسلام لباسه الحياء، وزينته الوفاء، ومروءته العمل الصالح، وعماده الورع، ولكل شيء أساس وأساس الإسلام حبنا أهل البيت)) .
[خبرخطبة الغدير]
وذكر حديث: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا)) الحديث المشهور برواية غير هذه من (كتاب المناقب) للفقيه المعروف بابن المغازلي الشافعي في حديث طويل حتى قال في آخره: ((ألا وإني فرطكم وإنكم تبعي توشكون أن تردوا علي الحوض فأسألكم حين تلقونني عن ثقليّ كيف خلفتموني فيهما)) .
قال: فاعتل علينا ما ندري ما الثقلان؛ حتى قام رجل من المهاجرين فقال: بأبي وأمي يا رسول الله ما الثقلان؟
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((الأكبر منهما كتاب الله سبب طرف بيد الله وطرف بأيديكم، فتمسكوا ولا تولوا ولا تضلوا، والأصغر منهما عترتي من استقبل قبلتي وأجاب دعوتي، فلا تقهروهم ولا تقتلوهم ولا تقصروا عنهم فإني قد سألت لهم اللطيف الخبير فأعطاني : ناصرهما لي ناصر، وخاذلهما لي خاذل، ووليهما لي ولي، وعدوهما لي عدوّ؛ ألا فإنها لم تهلك أمة قبلكم حتى تتدين بأهوائها ، وتظاهر على نبوتها ، وتقتل مَنْ قام بالقسط)).
ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فرفعها وقال: ((من كنت مولاه فهذا مولاه، من كنت وليه فهذا وليه؛ اللهم وال من والاه وعاد من عاداه)) قالها ثلاثاً.
وروى ابن المغازلي بإسناده عن أبي ذر: ((مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى، ومَنْ قاتلنا في آخر الزمان فكأنما قاتل مع الدجال)) .
وروى بإسناده عن السدي في قوله عز وجل: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} [الشورى:23] ، قال: المودة لآل محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-.
وفي قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى(5)} [الضحى] ، قال: رضى محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أن يدخل أهل بيته الجنة.
وعن أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- في قول الله تعالى: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] ، قال: ولايتنا أهل البيت.
وعن ثابت البناني في قول الله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى(82)} [طه] ، قال: إلى ولاية أهل بيته.
قال الفقيه العلامة حميد بن أحمد رضي الله عنه: وقد ذكرنا جملة من الأخبار النبوية في فضائل العترة المصطفوية اختصرناها ولم نذكر منها إلا اليسير، معتذراً عن استيفاء ما ورد فيهم عن سيد المرسلين -صلى الله عليه وعليهم أجمعين-، ولنقتصر على هذا القدر من رواية الآثار في مناقب العترة الأطهار عليهم السلام.
قال: فإن الكثير منها ينطوي على مجلدات عدة، وإنما ذكرنا قطرة من مطرة، ومجة من لجة، وقد أفرد الأئمة والعلماء لهذا المعنى كتباً وتصانيف.
[ما رواه الحافظ الكنجي من الأحاديث في فضل أهل البيت(ع)]
وذكر الفقيه الحافظ محدث الشام صدر الحفاظ ركن الشريعة محمد بن يوسف الكنجي -رحمه الله تعالى- في كتابه (كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب) فضل أهل البيت، وأفرد له باباً مستقلاً بنفسه ؛ فقال في ترجمة الباب المائة في تطهيرهم من الأنجاس لقول الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33) } [الأحزاب] ، روى بإسناده يرفعه إلى عمر بن أبي سلمة ربيب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- قال: نزلت هذه الآية في بيت أم سلمة؛ فدعا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- فاطمة وحسناً وحسيناً فجللهم بكساء وعلي خلف ظهره ثم قال: ((اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً)) قالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله، قال: ((أنت على مكانك وأنت إلى خير)) .
قال: هكذا أخرجه الترمذي في جامعه، والطبراني في معجمه الأكبر، وأخرجه الإمام أحمد في مناقب علي.
ورواه بإسناد آخر أوصله إلى عائشة بمثل الرواية عنها التي أسلفناها سواء سواء اللفظ اللفظ، ثم أعاد الإسناد بطريق أخرى يرفعه إلى عائشة ثم ساق الحديث بلفظه، وإنما أعاده تأكيداً، ثم أعاد الإسناد بطريق أخرى يرفعه أيضاً إلى عائشة وساق الحديث بلفظ واحد وهو: خرج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله معهم، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)} [الأحزاب].
قال الفقيه الحافظ محمد الكنجي -رحمه الله-: هذا حديث متفق على صحته، وهذا سياق مسلم في صحيحه ، ثم رواه من طريق أخرى بإسناده يرفعه إلى أبي سعيد الخدري في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)} [الأحزاب].
قال: نزلت في خمسة: في رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وعلي وفاطمة والحسن والحسين -عليهم السلام-.
قال [رحمه الله]: أخرجه الطبراني في المعجم الصغير في هذه الترجمة.
وروى بإسناده يرفعه إلى أبي الحمراء قال: صحبتُ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- تسعة أشهر فكان إذا أصبح أتى باب علي وفاطمة وهو يقول: ((يرحمكما الله {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)})) .
وروى بإسناده يرفعه إلى أبي سعيد الخدري عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- قال: حين نزلت: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] ، كان يجيء نبي الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- إلى باب علي وفاطمة صلاة الغداة ثمانية أشهر ويقول: ((الصلاة يرحمكما الله {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)})).
وروى بإسناده يرفعه إلى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله قسم الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسماً، فذلك قوله تعالى: أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، وأنا من أصحاب اليمين وأنا من خير أصحاب اليمين.
ثم جعل القسمين بيوتاً فجعلني في خيرهما بيتاً، فذلك قوله: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ(8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ(9)وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ(10)} [الواقعة] ، فأنا من خير السابقين.
ثم جعل البيوت قبائل فجعلني من خيرها قبيلة، فذلك قوله تعالى: {شُعُوبًا وَقَبَائِلَ} [الحجرات:13] ، فأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله عز وجل ولا فخر.
ثم جعل القبائل بيوتاً فجعلني في خيرها بيتاً، فذلك قول الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)} [الأحزاب])). رواه الطبراني في ترجمة الحسن.
وروى الفقيه الحافظ بإسناده يرفعه إلى أبي ذر الغفاري، قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- يقول: ((أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها هلك، ومثل حطة في بني إسرائيل)) .
قال: أخرجه إمام الحديث في معجم شيوخه كما أخرجناه سواء.
وروى بإسناده يرفعه إلى أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله يقول: ((إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق، وإنما مثل أهل بيتي مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غُفر له)) .
قلت: وهذه الأحاديث قد ذكرناها فيما تقدم، وإنما أعدناها استظهاراً وتقويةً لتطابق الروايات من كتب أصحابنا وعلمائنا وكتب الفقهاء المرجوع إلى صحة نقلهم وتثبتهم في رواياتهم وأسانيدهم، وقد رأيت تطابق الأخبار وتوافق الآثار وذلك دليل الصحة والظهور والحمد لله.
وإذ قد نجز غرضنا من هذا الفصل فإنا نعود إلى الفصل الثالث؛ فنقول:
الفصل الثالث [في بيان ترجيح التقليد لأهل البيت(ع) فيما يسوغ فيه التقليد]
وأما الفصل الثالث: وهو في تقليد أهل البيت فيما يسوغ فيه التقليد من مسائل الفروع الأولى، فقد أسلفنا من الأحاديث النبوية ما واحداً منها يكون موجباً للترجيح، وباعثاً على التزامهم مذهبهم الصحيح، كيف جملة من الأحاديث، وتركنا ما هو أكثر وأوفر لأن القليل مع الإنصاف كاف، والكثير مع عدم الإنصاف غير صاف.
[سبب عدم انتشار علوم العترة(ع) وقلَّة أشياعهم]
ونقول: اعلم أيها المسترشد المقلد في الفروع غير المجتهد أن علماء الإسلام وإن كثرت تصانيفهم ورواة علومهم، وسارت سفراء أسفارهم في الآفاق، وركبت أمواج البحر وحُدِّثَ بها في البر زُمَرُ الرفاق ، لا تجد في طائفة من الطوائف، وإمام من الأئمة حديثاً واحداً من نص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد في فضل أهل البيت وأتباعهم، وكما جاء من نجاة شيعتهم وأتباعهم، وإنما أُتي الناس في عدم اتباع العترة النبوية من ولاة السوء، وسلاطين الجور وأئمة الضلال.
فإن العترة النبوية لم تزل مظلومة مدحورة، وخائفة مترقبة بين قتيل وطريد، وأسير وفقيد، وكان الواحد من علماء العترة النبوية إذا اشتهر بعلم وفضل يُصاح بالبراءة منه وممن آواه، كما فُعِلَ بالقاسم بن إبراهيم -عليهما السلام- وأشباهه من الأئمة الأعلام.
ولم تزل الأرض رطبة بدمائهم منذ قتل أمير المؤمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، بُدي به، وثني بالحسن عليه السلام لأنه في حكم المقتول وإن مات مسموماً، وثُلِّثَ بالحسين وقطع رأسه، وعري عن جسده لباسه، ونكثت ثناياه بالقضيب، وخصب سيف الظلم من دمه فهو خضيب.
وصلب زيد بن علي كما يصلب الملحد، وسميت خلافته وقيامه لله تعالى فساداً في الأرض، فعومل كما يعامل الذين قال الله فيهم : {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الْأَرْضِ } [المائدة:33] .
عُومِلت العترة الطاهرة بهذه الآية الباهرة في مرتكب الجرائم والآثام، والمتعدي للحدود في الإسلام {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(8)} [البروج] ، ما كانت جريرة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى سلاطين الجور وأئمة الضلال إلا أن قاموا دعاة للحق وهداة للخلق حين ظهر الفساد في الأرض، وجهلت أحكام السنة والفرض، واتُخِذَ مال الله دولاً، وعباد الله خولاً، فكيف يُرى عِلْمُ المسجونين في الحبوس، والمُفَرّقُ بين أجسادهم والرؤوس.
قال الإمام المنصور بالله عليه السلام: هذا الحسين بن علي وأهل بيته، وزيد بن علي وولده يحيى بن زيد فرائس بني أمية، وهذا محمد بن عبدالله النفس الزكية، وأخوه إبراهيم ويحيى والحسين بن علي الفخي، ومحمد بن إبراهيم في طوائف من أهل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم حصائد سيوف بني العباس.
قال عليه السلام: ولم نذكر إلا الأئمة السابقين، والعيون المنتجبين، الذين يشهد لهم بالفضل من قتلهم؛ فأما أرباب السجون والسموم والغيلة فكثير جداً؛ هذا أولاد الحسن بن الحسن على اشتهار فضلهم، وقرب عهدهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهم: عبدالله، والحسن، وإبراهيم، وداود؛ أبناء الحسن بن الحسن بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام ماتوا جميعاً في سجن أبي جعفر الدوانيقي، إلا الديباج محمد بن إبراهيم فإنه دفن حياً، وما يعلم تحت أديم السماء أفضل منهم ولا أكمل.
ولقد كان يقال: من أكرم الناس؟ قيل: عبدالله بن الحسن؛ فإذا قيل: من أعلم الناس؟ قيل: عبدالله بن الحسن؛ فإذا قيل: من أصبح الناس؟ قيل: عبدالله بن الحسن؛ فإذا قيل: من أفضل الناس؟ قيل: عبدالله بن الحسن؛ جمع خصال الكمال، وكان يصلي الفجر بوضوء العشاء الآخرة ستين سنة؛ ثم يسجد ويقول: اللهم إني لم أعبدك حق عبادتك غير أني لم أشرك بك شيئاً، ولم أتخذ من دونك ولياً؛ فحبسهم أبو جعفر حتى هلكوا، ولم يعلم كيف كان موتهم.
[شذرات من دعوة الإمام الناصر الديلمي العامة]
ومن كلام الإمام الناصر أبي الفتح بن الحسين المعروف بالديلمي عليه السلام في دعوته العامة التي ذكر فيها ما جرى على العترة الطاهرة من الحوادث.
قال -بعد حذفنا لأول كلامه-: المشتكى إلى الله من أمة ظلّت سواء السبيل، ودخلت في شريعة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- بالتغيير والتبديل، وجازَتْ بَنِيْه بالبغي والتقتيل، وفرقت ما جمعه، وابتذلت ما حماه ومنعه، ووالت أعداءه، وعادت أولياءه، وتبعت من قهره، وخذلت من نصره، ورفعت من وضعه، ووضعت من رفعه، وآوت من ناواه، وناوت من آواه، ونبذت كتاب الله تعالى الجامع للأمر والزجر كأنهم عنه عَمِهُون، وعن جوار بنائه تائهون، وعن واضح آياته حائرون، وإلى العمى والتيه صائرون، قد ألفت طريقة الزيغ والعناد، واستوطنت مراكب الجور والفساد، قرناً فقرنا، وزمناً فزمنا، وخلفاً وسلفا، من لدن الأيام الأموية والعباسية إلى هذه الغاية في أهل هذا البيت الشريف، والمحل المنيف، الذين رفع الله ذكرهم وأجَلَّ قدرهم، وجعلهم مفازاً للمتمسكين، وملجأ للمعتصمين في يوم لا ينفع فيه الندامة، وتقوم فيه القيامة، وتطم الأهوال، وتعظم الأوجال، {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ(90)وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ(91)} [الشعراء] .
وكانوا -عليهم السلام- في تلك الأعصار المظلمة والمدة المدلهمة بين مقتول ومطرود، ومخذول وشريد، ونفي وقصي، ومستور ومنكور، ومسلوب ومحروب، مقرهم قنن الجبال، ومأواهم معادن الأوعال، خائفون هائبون سائحون على الأرض شاردون، فكم من أَخْمُص مطهرة، وقدم منزهة قد شِيْكَت في الهرب، ودَمِيَتْ خوفاً من درك الطلب، وعَيْنٍ قد قرحت بالسهاد، وناظر حَرُمَ طعم الرقاد، وحُرّ وجهٍ لوحته الهجائر والسمائم، ومُصُوْنُ بدنٍ أنصبته الموامي والديامم، يظلون بأكباد حَرَّى طاوية، ويبيتون بأبدان سَلْبَى عارية، قد برتها الأسفار، وعَرّقَتْها البراري والقفار.
إلى أن قال: وكل من قام من هذه العترة الطاهرة للانتقام والانتصار، والاقتصاص والإيثار، رموه بالدواهي، وأخذوا عليه الموامي، وسددوا إلى مَقَاتِلِه المرامي.
فانظروا رحمكم الله كيف فُعِل بزيد بن علي صُلب (بالكناسة)، وقطع رأس ابنه يحيى بن زيد في المعركة، وخنق عبدالله بن الحسن في حبس الدوانيقي، وقتل ابناه محمد وإبراهيم على يدي عيسى بن موسى العباسي، وهزم إدريس (بفخ) حتى وقع إلى (الأندلس) فريداً، ومات عيسى بن زيد ببلاد (الهند) طريداً شريداً، وقتل يحيى بن عبدالله بعد الأمان والأَيْمَان، وبعد ما كُتِبَ له العهد والضمان.
هذا غير ما فُعِلَ (بسادة طبرستان) وقَتْل محمد بن زيد، والحسن بن القاسم الداعي على يد (آل سامان)، وغير ما فعل أبو الساج (بسادة المدينة) حملهم بلا غطاء ولا وطاء من الحجاز إلى (سِرْ مَنْ رَأى)، وحَسْبُكم أنه ليس في بيضة الإسلام بلدة إلا وفيها لقتيلٍ طالبيٍ تربة، تَشَارَكَ في قتله الأموي والعباسي، شعر لدعبل: [الطويل]
فليس حي من الأحياء نعرفه .... من ذي يمانٍ ولا بَكر ولا مُضَرِ
إلا وهم شُرَكَاءُ في دمائهم .... كما تَشَارَك أيسار على جزر
قادتهم الحمية إلى المنية، وكرهوا عيش الدنية، فماتوا موت العزة، ووثقوا بما لهم عند الله تعالى في الدار الباقية، فسخت نفوسهم عن هذه الدار الفانية.
حتى قال وقد ذكر بني أمية: سلطوا الحَجَّاجَ على الحِجَازَيْن ثم العِرَاقَيْن، فتلعب بالهاشميين، وأخاف الطالبيين، وأذل الفاطميين؛ فقتل شيعة علي عليه السلام، ومحا آثار أهل بيت النبي، وجرى منه ما جرى، واتصل البلاء مدة المروانية إلى أيام العباسية.
وكان في آخر أيامهم ارتكبوا عظيم آثامهم قام في بقية الحق المهمل والدين المعطل زيد بن علي -عَلَيْه السَّلام- فخذله منافقوا أهل العراق، وقتله أحزاب أهل الشام، وقُتِلَ معه من شايعه وتابعه، حتى من زوّجَه وآواه، حتى مَنْ كَالَمَهُ وَمَاشَاه؛ فلما انتهكوا ذلك الحريم، واقترفوا ذلك الذنب العظيم، غضب الله عليهم فانتزع الملك منهم، وسلط عليهم أبا مُجْرِم لا أبا مُسْلِمٍ، فنظر لا نظر الله إليه إلى صلابة الطالبية في الدين، ولين العباسية، فترك هداه واتبع هواه، وباع آخرته بدنياه، وتابع الظلمة بني العباس وسلطهم على الناس، وسلط طواغيت خراسان، وخوارجي سجستان، وأكراد أصبهان على آل أبي طالب، يقتلونهم تحت كل حجر ومدر، ويطلبونهم في كل سهل ووعر، وحَلب الدنيا للدوانيقي يخبط فيها عسفاً، ويقضي فيها جوراً وحيفاً، إلى أن مات، وقد امتلأت سُجُوْنُه من أهلِ بيت الرسالة، ومعدن الطيب والطهارة، يتتبع غائبهم، ويلفظ حاضرهم.
قتل عبدالله بن محمد بن عبدالله بن الحسن (بالسِّنْد) فما ظنك بمن قرب منه، وهذا قليل في جنب ما فعله هارون بهم، وركبه موسى قبله منهم، وما جرى على الحسين بن علي، وعلى أحمد بن عيسى، وعلى القاسم بن إبراهيم، اهتموا بحصد شجرة النبؤة، وقلع غرس الإمامة ولكن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً، {الم(1)أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2)} [العنكبوت] ، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا(37) } [الأحزاب] ، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا(38)} [الأحزاب] ، {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(3)ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(4)} [التكاثر] ، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ(227)} [الشعراء] .
حتى قال: واعلموا رحمكم الله أن بني أمية الشجرة الملعونة في القرآن، وأتباع الشيطان، جهدوا في دفن مآثر الوصي ، وطمس مفاخر المرتضى الرضي، واستأجروا من كذب الأحاديث على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، وبذلوا في إغفال هذا الأمر الأموال، وقَلَّدُوا عليه الأعمال، واصطنعوا فيه الرجال، فما قدروا على دفن حديث من أحاديث رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، ولا تحريف آية من كتاب الله تعالى..إلى آخر كلامه في هذه الدعوة.
وقد أودعها -عَلَيْه السَّلام- محاسن كثيرة، وعلوماً غزيرة، وإنما أردنا الإشارة إلى ما مُنيَ به أهل هذا البيت النبوي والمنصب المصطفوي، ولولا إرادة الله تعالى لبقائهم تصديقاً لما ورد عن الصادق المصدوق -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((كل سبب ونسب ينقطع إلا نسبي وسببي)) .
وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- في حديث مقارنتهم للقرآن: ((فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) ؛ لكان في بعض ما وقع عليهم من أرباب الدولتين ما يبيد خضراءهم، ويستأصل شأفتهم.
[رسالة الخوارزمي إلى شيعة أهل البيت(ع)]
ونذكر نبذاً من كلام محمد بن موسى الخوارزمي في رسالته التي كتبها إلى (شيعة نيسابور) يذكر فيها أنواع المحن الحادثة على أبناء الحسين والحسن، لما قصدهم واليها:
سمعت أرشد الله سعيكم، وجمع على التقوى أمركم، بما نكبكم به السلطان الذي لا يتحامل إلا على أهل العدل، ولا يميل إلا على جانب الفضل، ولا يبالي إن يمزق دينه إذا أوفى بدنياه، ولا يفكر إن تعَدَّم رضاء الله إذا وجد رضاه، وأنتم ونحن أصلحنا الله وإياكم عصابة لم يرض لنا الله الدنيا، فادخر لنا الدار الأخرى، ورغب بنا عن ثواب العاجل، فأعد لنا ثواب الآجل، وقسمنا قسمين: قسماً مات شهيداً، وقِسْماً عاش حميداً؛ فالحي يحسد الميت على ما صار إليه، ولا يرغب بنفسه عما جرى عليه.
قال أمير المؤمنين ويعسوب المسلمين علي بن أبي طالب عليه السلام: (المحن إلى شيعتنا أسرع من الماء إلى الجدول) وهذه مقالة قد أسست على المحن، وولد أهلها في طالع الهزاهز والفتن، حياة أهلها نغص، وقلوبهم كلها غصص، والأيام عليهم متحاملة، والدنيا عنهم مائلة.
فإذا كنا شيعة أئمتنا عليهم السلام في الفرائض والسنن فينبغي أن نتبع لواءهم في بلوى وحزن؛ غُصِبَت فاطمة الزهراء ميراثها من أبيها يوم السقيفة، وأُخِّر أمير المؤمنين عن الخلافة وهو الخليفة، وسم الحسن سراً، وقتل الحسين جهراً، وصلب زيد بن علي بالكناسة، وقطع رأس يحيى بن زيد في المعركة، وخنق عبدالله بن الحسن في حبس الدوانيقي.
الكلام الذي ذكره أبو الفتح الديلمي، ولا أدري أيهما أقدم فيكون الثاني الآخذ من كلام الأول؛ لأنهما تطابقا فيه تطابقاً يبعد أن تتفق فيه الخواطر، إلا أنه زاد على كلام الديلمي، وذكر من الأحداث ما لم يَذْكُر على أهل هذا البيت الفاطمي.
قال: هذا بعد قتل قتيبة بن مسلم الباهلي لابن عمر بن علي حين أخذه، وقد ستر نفسه ووارى شخصه يصانع حياته، ويدافع وفاته ولا كما فعله الحسين بن إسماعيل [المصعبي] بيحيى بن عمر الزيدي خاصة، وما فعله مزاحم بن خاقان بعلوية الكوفة كافة.
حتى قال: تساوى في قتلهم الأموي والعباسي، وأطبق عليهم العدناني والقحطاني، وذكر جملة من الأحداث من قتل الطالبيين، وأعيان شيعتهم الأكرمين.
والقصد بهذا كله الإشارة إلى مخالفة الأمة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- فيما أمر به من محبة عترته الطاهرة، والتمسك بموالاتهم باطنة وظاهره.
وخلاصة الأمر أن فقهاء الأمة المنتسبة إليهم المذاهب الأربعة كانوا خالصين من هذه المحن العظيمة، وسالمين من هذه النوائب الجسيمة، فتوفرت علومهم وكثرت أتباعهم، وتفرغ كُلُّ إمام من هؤلاء الأئمة الأربعة لنشر العلم والتصنيف، وإفادة أهل هذا الدين الحنيف.
وأئمة العترة على ما نزل بهم من الامتحان مشغولون بجهاد أعداء الرحمن، وباذلون لأنفسهم الكريمة في حماية حوزة الإيمان، ولهم مع هذه المرتبة الشريفة، والخصائص اللطيفة، من التفنن في العلوم والتبقر في المسموع منها والمفهوم، ما برزوا فيه إلى غاية الاجتهاد، وجمعوا في الفصل بين العلوم والجهاد، وصنفوا وحققوا، وأوغلوا ودققوا، فعلومهم بحمد الله صافية المشارب، مشهورة إلى المشارق والمغارب، ولولا ما خصهم الله به من هذه الفضيلة، تصديقاً لما ورد عن صاحب الحوض والوسيلة؛ لكانت علومهم لما جرى عليهم من المحن مطموسة، وتصانيفهم لما خُصوا به من البلاء مرموسة، فكان بقاءهم وبقاء علومهم من أعلام المعجزات النبوية؛ لأنها تواردت الروايات بأنهم لا يفارقون القرآن حتى يردوا عليه الدار الأخروية.
فإذا أنصف الناظر، وأعمل الفكر والخاطر، فأيما أولى بالتقليد في الفروع الفائزون بهذه الصفات المحمودة، والمواطن المشهودة، والأخبار السابقة، والآثار الفائقة؟ أم غيرهم؟
[رجوع إلى بيان ترجيح التقليد لأهل البيت(ع) فيما يسوغ فيه التقليد]
ونحن نورد هاهنا ما رواه الفقيه الحافظ محمد بن يوسف الكنجي في (كتاب الكفاية) يرفعه بإسناده إلى ابن عباس، قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((من سرّه أن يحيا حياتي، ويموت مماتي، ويسكن جنة عدن التي غرسها ربي عز وجل فليوال علياً من بعدي، وليوال وليه، وليقتد بالأئمة من بعدي؛ فإنهم عترتي خلقوا من طينتي ورزقوا فهماً وعلماً، ويل للمكذبين بفضلهم من أمتي، القاطعين فيهم صلتي، لا أنالهم الله شفاعتي)).
وهذا الحديث نص في موضع الخلاف، وأمر ظاهر باتباعهم والرجوع إليهم، والتعويل في أمر الدين عليهم.
[كلام عالم الزيدية: القاضي جعفر رضي الله عنه]
ونذكر هاهنا كلام القاضي الإمام شمس الدين جعفر بن أحمد بن عبد السلام -رضي الله عنه- قال: اعلم أن الناس مع اختلاف مذاهبهم وتباين طرقهم، وأعني بهذا أمة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- المصدقين له، والمنتحلين لملته؛ فإن كل فرقة منهم تدعي أن الحق معها وأن الباطل مع مخالفها، وتروي عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أنه قال: ((ستفترق أمتي نيفاً وسبعين فرقة كلها هالكة إلا فرقة واحدة)) ، فادعت كل فرقة من الأمة أنها هي الفرقة الناجية، وهذا شيء قد قَرَّ عندهم.
واعلم أن أحوالهم إذا طُولِبت بإقامة برهان على صحة دعواها ضاقت عليهم المذاهب، واسْتَدَّت المسالك والمطالب، ونحن نعلم أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- لم يكن ليترك الناس في جهالة من أمرهم، وحيرة من سُبُلِهم، مع أنه بُعثَ مُبيّناً لسبل النجاة، فاصلاً بين الحق والباطل، مميزاً بين الصحيح والسقيم؛ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ(42)} [الأنفال] .
فقضينا لذلك أنه عليه السلام لا بد أن يكون قد أقام على سبيل النجاة برهاناً صحيحاً، وعَلَماً بَيّناً، ليتمكن من الوصول إلى النجاة من أرادها، ويجد السبيل إلى السلامة مَنْ قصدها، ووجدنا أهل المذاهب المختلفة من أمته، والمقالات المتباينة من أهل ملته يروون عنه -عَلَيْه السَّلام- أنه قال: ((مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق)) .
فعلمنا أنه عليه السلام قد بيّن لأمته بذلك أن اتباع أهل بيته هو طريقة النجاة، وأن مخالفتهم هي سبب الهلاك، لأنه لما مثلهم بسفينة نوح وقد علمنا أن أمة نوح هلكت كلها إلا من ركب السفينة؛ عَلِمْنَا أن كل أمته يهلكون إلا من اتبع أهلَ بيته عليهم السلام، وأن الملتزم بطريقة غيرهم من الفقهاء الذين خالفوا طرائقهم لا ينجو مع الناجين؛ كما أن أمة نوح -عَلَيْه السَّلام- لم ينج منهم من إلتجى إلى غير السفينة.
وفي هذا دلالة مقنعة على أن إتباع أهل البيت -عليهم السلام- هو الواجب الذي لا رخصة فيه، واللازم الذي لا محيص عنه، والسبب الذي لا نجاة إلا به، وأنهم والمتبعون لهم هم الفرقة الناجية دون من سواهم، ولا شكّ أن الذين اتبعوا أهل البيت -عليهم السلام، وضبطوا مذاهبهم ولزموا طرائقهم هم طائفة الزيدية دون من عداهم ممن ينتسب إلى أهل البيت وهم عنه براء، أو يدعي التعلق بحبلهم وهو عنه بعيد، وظهور بطلان دعاوي من ينتسب إلى أهل البيت سوى الزيدية يغني عن تكلف الكشف والبيان عنه: [الوافر]
وليس يَصحُّ في الأفهام شيءٌ .... إذا احتاج النهار إلى دليلِ
هذا كلامه رضي الله عنه، وهو كما ترى مصرح بوجوب متابعة العترة، وأورد على ذلك ما ترى من الحجة.
ومن أنصف الحق من نفسه، وعمل لحلول رمسه، كفاه هذا الدليل، وقد أحسن من قال: [الطويل]
إذا كان في الإسلام سبعون فرقةً .... ونَيٍفٌ على ما جاء في مسند النقلِ
ولم يكُ ناجٍ منهم غير فِرْقَةٍ .... فماذا ترى يا ذا التبصر والعقلِ
أفي الفرقة الهُلاَّكِ آلُ محمدٍ .... أم الفرقةُ اللاَّتِي نَجَتْ مِنْهم قُل لِّي
فإن قلت: في الناجين فالقول واحد .... وإن قلت في الهُلاَّكِ حِفْتَ عن العدلِ
فدع لي علياً والأئمة بعده .... وأنت من الباقين في أوسع الحلِّ
[نقولات من كتاب بيان الأوامر المجملة]
وقال السيد الإمام مجد الإسلام المرتضى بن المفضل -قدس الله روحه- في كتابه (البيان)، وقد ذكر نكتاً من كلام أئمة العترة في الرجوع إليهم، وأنهم بذلك أولى؛ حتى قال:
فإن قيل: فقد قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((العلماء ورثة الأنبياء)) وما روي عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- من قوله: ((كل مجتهد مصيب)) وهذا عام للعلماء منهم -رضوان الله عليهم- ومن غيرهم فهل جاز الرجوع إليهم على العموم؟
قال: قلنا: إن صح ذلك فهو مخصوص بما تقدم، ولأنه لا يخلو إما أن يراد به علماء كل فرقة على العموم، أو يراد به علماء الفرقة الناجية.
لا يجوز أن يراد به علماء كل فرقة؛ لوجهين:
أحدهما: أن في تجويز نجاة علماء كل فرقة رَدٌّ لما أخبر الله تعالى من ضلال كثير من الأحبار والرهبان.
والثاني: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- قال فيما روينا عنه: ((ستفترق أمتي من بعدي على ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة إلا فرقة)) فَحَكَم -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- بهلاك جميع الفرق إلا من استثناه، فلا يصح الرجوع إلى من حكم بهلاكه، فلم يبقَ إلا من استثناه من الهلاك، وهي الفرقة الناجية وهم آل محمد ومن تبعهم ولم يخالفهم.
وقد نبهنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- بقوله: ((أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى)) .
وبقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي..الخبر)) .
قال [رحمه الله]: والأصل فيه ما روي عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أنه قال في خطبة الوداع: ((أيها الناس إني امرء مقبوض وقد نعيت إلي نفسي، ألا وإنه سيُكذب عليّ كما كُذب على الأنبياء من قبلي فما أتاكم عني فأعرضوه على كتاب الله فما وافق كتاب الله فهو مني وأنا قلته، وما خالفه فليس مني ولم أقله)) .
وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((أمة أخي موسى افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت أمة أخي عيسى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي من بعدي على ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة إلا فرقة واحدة)) فلما سمع ذلك منه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- ضاق به المسلمون ذرعاً، وضجوا بالبكاء وأقبلوا عليه وقالوا: يا رسول الله كيف لنا بعدك بطريق النجاة، وكيف لنا بمعرفة الفرقة الناجية حتى نعتمد عليها؟
فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) .
قال [رحمه الله]: والأمة مجمعة على صحة هذا، وكل فرقة من فرق الإسلام تتلقاه بالقبول وتزعم أنها هي الفرقة الناجية فثبت ما ذكرناه من بيانها، وصح بما تقدم ذكره أيضاً من الآي الشريفة والآثار النبوية أنهم -سلام الله عليهم- هم وشيعتهم الفرقة الناجية.
قال [رحمه الله]: وفيهم وفي شيعتهم ما ذكره الفقيه العلامة عبدالله بن زيد: أن الله تعالى ناجى نبيه محمداً -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- فقال: ((أنت شجرة، وعلي أغصانها، وفاطمة ورقها، والحسن والحسين ثمارها؛ خلقتها من طينة عليين وخلقت شيعتكم منكم إنهم لو ضربوا على أعناقهم بالسيوف لم يزدادوا لكم إلا حباً)) .
قال [رحمه الله]: ومثل ذلك قد تقدم من طريق زيد بن علي -عَلَيْه السَّلام- ذكره في مجموع الفقه، وهو لنا إجازة، ومثله ذكره المنصور بالله عليه السلام في الشافي.
قال [رحمه الله]: وقد روينا عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أنه قال: ((شيعتنا منا)) يريد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- من شايع وتابع ولم يخالف.
ولا بد أن يكون اجتهاده موافقاً لاجتهاد أحدهم كما تقدم، لأن لهم سلام الله عليهم خصائص وألطاف في إصابة الحق من الله تعالى كما جعل لآبائهم من الأنبياء صلوات الله عليهم جميعاً لمكان الهداية والتبليغ، وهم يقومون مقامهم.
قال [رحمه الله]: فإذا ثبت أنهم سفن النجاة كان الراجع مخيّراً في الاقتداء بأيهم أحب، متى كان على الصفة المعتبرة من العلم والدين والورع وسائر الأوصاف بحيث يرجع إليه في المسائل الاجتهادية، لأنهم كالنجوم، إلا أنه قد ورد في جماعة منهم تخصيصٌ من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- ، مما يدل على زيادة الفضل العظيم، والشرف الجسيم، فلا يمتنع أن يكون الرجوع إليهم أولى، والله أعلم.
قال [رحمه الله]: فإن قيل: بما تحصل هذه الصفة المعتبرة لمن يطلبها؟
قلنا: ذلك على وجهين: أما العالم فبالبحث والنظر، وأما الجاهل فمنها ما يمكنه تحصيله، ومنها ما يرجع فيه إلى خبر العلماء المشهور علمهم فيما هذا حاله، ودينهم وعفتهم فإن العلم إنما يُعْرفُ من العالم بما يظهر منه في الأوقات المختلفة، وعند الفتاوى المضطربة ، وعند التعليم على وجه الابتداء بحيث يحصل له العلم فإذا حصل له العلم ثبت الرجوع، ووجبت الطاعة بعد انعقاد الولاية.
قال [رحمه الله]: فإن أراد التقليد الذي هو الرجوع إلى أقوالهم في المجتهدات هل يفتقر إلى ترجيح كما قد قيل أم لا؟
قال [رحمه الله]: لا يمتنع والله أعلم أن لا يفتقر إلى ذلك لما تقدم من ترجيح أبيهم صلى الله عليه وآله وسلم وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أهل بيتي كالنجوم)) .
قال [رحمه الله]: والأخبار في ذلك كثيرة متى حصل ما تقدم من ثبوت الصفة المعتبرة.
قال [رحمه الله]: فإذا التزم الملتزم بأحدهم هل يجوز له الرجوع إلى غيره منهم أم لا؟
قال [رحمه الله]: ذكر بعض العلماء أنه لا يجوز، ولعلهم جعلوا ذلك كالحكم، وفيه نظر لأنه التزام من غير مُلزِم فلا يلزم، بل يكون حاله حال المستفتي فيخالف الحكم، والله أعلم.
هذا كلامه بلفظه منقول من خطه.
[نقولات من ديباجة كتاب الإنتصار]
وقال الإمام المؤيد بالله أمير المؤمنين يحيى بن حمزة عليه السلام في كتابه (الانتصار)، وقد ذكر في ديباجة الكتاب من هو أحق بالتقليد، فقال: المطلب الثاني: من هو أحق بالتقليد، ومن يكون أولى بالمتابعة ممن حاز منصب الاجتهاد من العلماء.
قال عليه السلام: اعلم أن العوام لما كانوا لا هداية لهم إلى القيام بهذه التكاليف الشرعية، وتأدية هذه العبادات العملية بأنفسهم فلا بد لهم من قدوة يعتمدونها وإمام يهتدون بهديه، ثم هل يكون العامي مخيراً في تقليد من شاء من أهل الاجتهاد، أو لا بد له من مزيد نظر في طلب الأفضل؟ فيه تردد ونظر.
والمختار عندنا أن عليه تكليفاً في طلب الأفضل، لأن الذي دل على أنه واجب عليه التقليد فهو بعينه دال على أن عليه مزيد تكليف في تعرّف مَنْ يكون أحق بالتقليد في الفضل، وهذا ظاهر.
فإذا تمهدت هذه القاعدة فلنذكر ما يكون معتمد التقليد من المذاهب؛ فنقول: أجمع العلماء واتفق رأي الفضلاء من أئمة الزيدية، والجماهير من المعتزلة والأشعرية، وغيرهم من سائر فرق الأمة على أن الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم- وإن كان فضلهم لا ينكر، ومزيد علمهم لا يجحد، لعلو منصبهم في الدين، وإحراز المناقب، واختصاصهم بالصحبة، فإنه ليس للعوام ولا من كان فرضه التقليد من أنواع الخلق تقليدهم؛ لوجهين:
أما أولاً: فلأنهم لم يكن من جهتهم اعتناء بتذليل مسالك الاجتهاد وترتيب أبوابه وإيضاح طرقه، وتأسيس أصول النظر فيه، وإنما كان همهم إحياء معالم الدين، وتقرير قواعد الإسلام بالذب عنه بالسيف.
وأما ثانياً: فلم يُدوّنوا أبواب الفقه، ولا كان من جهتهم اهتمام بتقرير مسائله بل كان همهم من ذلك إرسال الاجتهاد وإيضاح الفتاوى في الأقضية والأحكام على جهة الإجمال من غير نظر في التفاصيل.
قال عليه السلام: نعم إنما الذين خاضوا غمرات الاجتهاد، وسبروا مسالك الأدلة بالتفصيل والتهذيب، وترتيب المسائل وتبويب الأبواب وسطرها في الكتب وإثباتها في الصكوك، هم العلماء مِنْ بعدهم من زمن التابعين وتابعيهم إلى يومنا هذا من أئمة العترة وفقهاء الأمة، فإن عنايتهم في ذلك غير خافية على من له أدنى مسكة من الفضل، وكَفَوْا مَن بعدهم النظر في مذاهب الصحابة -رضي الله عنهم-، لأن السابق وإن كان له حق الوضع والتأصيل فللمتأخر الناقد حق التكملة والتنخيل والتفصيل، ولأجل ذلك كان مَنْ بعدهم أحق بالاتباع، فإذا وضحت هذه الجملة فنحن الآن نعلو ذروة لا يُنَال حضيضها في ترجيح مذاهب العترة على غيرهم من فقهاء الأمة وعلماء العامة، ونوضح بالبراهين الباهرة والأدلة القاهرة، أنهم أحق بالتقليد وأولى بالمتابعة، وجملة ما نشير إليه من ذلك طرق أربع نذكر ما يتوجّه في كل واحدة منها:
الطريقة الأولى: ورود الثناء عليهم من جهة الله تعالى، ومن جهة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أما من جهة الله تعالى؛ فقوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] .
ووجه الاستدلال بهذه الآية على فضلهم: هو أن الله سبحانه لما كان من أعظم نعمه على الخلق وأجلها وأعلاها وأكملها هو بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهداية الخلق وإرشادهم إلى السعادة الأخروية وإزاحتهم عن العمى، وهدايتهم إلى طريق الهدى به صلى الله عليه وآله وسلم، فما يكون في مقابلة هذه النعمة يكون لا محالة جليل القدر عظيم المنزلة؛ لكونه جعل في مقابلته هذه النعمة، والله عز وجل قد جعل في مقابلة النعمة بالرسول والجزاء على عنايته في الخلق، هو المودة والمحبة لمن كان قريباً إليه.
وما هذا حاله فليس يخفى مزيد فضله، وعلوّ حاله وأمره من جهة كونها واردة في معرض المدح، والتنبيه على مزيد فضلهم وعلوّ قدرهم واهتمام أمر الله بهم حتى قال فيهم ما قاله.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33) } [الأحزاب] ، فظاهر هذه الآية دالٌّ على إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم عن سائر الأدناس على جهة المبالغة ، حيث صَدَّر الآية بـ(إنَّما) وهي موضوعة للتحقيق في الجملة؛ لأنها في معنى النفي والإثبات كأنه قال: ما يريد الله إلا إذهاب الرجس عنكم ، ولأنه أكد الفعل بالمصدر حيث قال: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} كأنه قال: تطهيراً لا زيادة عليه، ولا شك أن كل من أخبر الله عنه بإذهاب الرجس وتطهيره عن كل مكروه، فلا مرية في اختصاصه بالفضل على غيره.
وأهل البيت هم: أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وأولادهما في كل عصر بدليل خبر الكساء حيث خصهم به وقال : ((اللهم إن هؤلاء أهل بيتي)) . فدل ذلك على صحة ما قلناه ، فهاتان الآيتان قد دلتا على فضلهم وعلو مرتبتهم من الوجه الذي لخصناه وأشرنا إليه.
قال عليه السلام: وأما من جهة السنة فقد ورد في ذلك أحاديث نذكرها أولها:
قوله عليه السلام: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)) .
وثانيها: قوله عليه السلام: ((أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء فإذا ذهبت نجوم السماء أتى أهل السماء ما يوعدون، وإذا ذهب أهل بيتي من الأرض أتى أهل الأرض ما يوعدون)) .
وثالثها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى)) .
ورابعها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أهل بيتي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)) .
وخامسها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أحبّوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله وأحبوا أهل بيتي لحبي)) .
وسادسها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما أحبّنا أهل البيت أحد فزلت به قدم إلا ثبتته أخرى حتى تنجيه)) .
وسابعها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أهل بيتي حطة فادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة يغفر لكم خطاياكم وهم كالكهف لأصحاب الكهف، وهم باب السلم فادخلوا في السلم كافة)) .
وثامنها: قوله عليه السلام: ((اللهم اجعل شرائف صلواتك على محمد وعلى آل محمد كما جعلتها على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)) .
وتاسعها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أسبغ وضوءه وأحسن صلاته، وأدى زكاة ماله، وكف غضبه، وسجن لسانه، وبذل معروفه، واستغفر لذنبه، وأدى النصيحة لأهل بيتي فقد استكمل حقائق الإيمان)) .
وعاشرها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((نحن أهل بيت شجرة النبوة، ومعدن الرسالة، ليس أحد من الخلائق يفضل أهل بيتي غيري)) .
وحادي عشرها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يبغض أحدٌ أهلَ بيتي إلا كبه الله على وجهه في النار)) .
وثاني عشرها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((احفظوني في عترتي)) .
وثالث عشرها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أعطيت الكوثر)) قيل: يا رسول الله وما الكوثر؟ قال: ((نهر في الجنة عرضه وطوله ما بين المشرق إلى المغرب لا يشرب أحد منه فيظمأ، ولا يتوضأ أحد منه فيشعث لا يشرب منه إنسان خَفَرَ ذمتي ولا قَتَلَ أهل بيتي)) .
ورابع عشرها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ثلاثة أن شفيع لهم يوم القيامة: الضارب بسيفه أمام ذريتي، والقاضي لهم حوائجهم حين اضطروا إليه، والمحبُّ لهم بقلبه ولسانه)) .
وخامس عشرها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((حرمات من حفظهن حفظ الله له أمر دينه، ومن ضيعهن لم يحفظ الله له شيئاً)) قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: ((حرمة الإسلام، وحرمتي، وحرمةَ رَحِمِي)) .
وسادس عشرها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((حُرِّمَتْ الجنة على من ظلم أهل بيتي وقَاتَلهم، وعلى المعين عليهم، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) .
وسابع عشرها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تزول قدم العبد حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه؟ وعن جسده فيما أبلاه؟ وعن ماله ممَّ اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن حبنا أهل البيت)) .
وثامن عشرها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أحبّ أن يحيا حياتي ويموت ميتتي فليتولَّ علي بن أبي طالب وذريته الطاهرين أئمة الهدى، فإنهم لن يخرجوكم من باب الهدى إلى باب الضلالة)) .
وتاسع عشرها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لما أسري بي رأيت على باب الجنة مكتوب بماء الذهب: لا إله إلا الله، محمد حبيب الله، علي ولي الله، فاطمة أمة الله، الحسن والحسين صفوة الله، على باغضهم لعنة الله)) .
العشرون: عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني أوشك أن أدعى فأجيب وإني قد تركت فيكم الثقلين، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي فإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفونني فيهما)) .
قال عليه السلام: فهاتان الآيتان اللتان تلوناهما، وهذه الأخبار التي أوردناها كلها دالة على فضلهم وعلو درجتهم عند الله تعالى، وعلى كونهم أحق بالمتابعة لما ورد من الثناء من الله تعالى، ومن جهة رسوله عليه السلام عليهم، وعلى التحذير عن مخالفتهم، وكما هي دالة على ما ذكرناه فهي دالة على كون إجماعهم حجة في الأحكام الشرعية، وقد قررناه في الكتب الأصولية.
فإذا تقرر هذا فوجه الاستدلال بما ذكرناه من الآيات والأخبار هو ورود الثناء من جهة الله تعالى ومن جهة رسوله عليه السلام وإبانة فضلهم، وفي هذا دلالة على تزكيتهم وإظهار عدالتهم ، ولا تزكية أعظم من تزكية الله، وتزكية رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأدنى الدرجات مما ذكرناه، كونهم أحق بالمتابعة وأولى بالتقليد في أمور الدين من غيرهم من سائر الفرق بما ذكرناه من هذه الشواهد الشرعية والأمور النقلية.
الطريقة الثانية: النظر في الخصال الغالبة والسير المحمودة وإحراز الشيم الفاضلة في العلم والورع، ولا شك أن ما هذا حاله من الخصال الدينية يدور عليها معظم الترجيح لمن ينبغي تقليده من العلماء ، ونحن نبين أنها في حقهم حاصلة على الكمال والتمام أكمل منها في حق غيرهم من علماء الأمة؛ وجملة ما نشير إليه من ذلك ضروب ثلاثة:
الضرب الأول منها: الفضل بإحراز العلم، وليس يخفى على منصف غوصهم في علوم الشريعة وتبحرهم في أسرارها ، واطلاعهم على حقائقها وإحاطتهم بأسرارها ودقائقها ، وينكشف غرضنا في هذه القاعدة بإيضاح مسلكين:
المسلك الأول منهما على جهة الإجمال، وذلك من أوجه خمسة:
أما أولاً: فلأن الآية واردة بالثناء عليهم في التطهير، وهي عامة في النزاهة لهم من كل ما يسوء، ولا مساءة أعظم من الجهل وعدم البصيرة في الدين، فيجب تنزيههم عن ذلك، وهذا هو الغاية إلى إحراز العلم النافع في الآخرة والسعادة الأبدية.
وأما ثانياً: فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قرنهم بالكتاب حيث قال: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي)) وأعظم الهداية في الدين، والنفع مأخوذ من كتاب الله تعالى فهكذا يكون حال العترة، وما كان حاله على حد حال كتاب الله في النور والشفاء من العمى والبيان وإيضاح كل ملتبس، ولا علم أنفع منه ولا شرف فوقه ولا مرتبة أعلى منه.
وأما ثالثاً: فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى)) . فاستعار لهم أسم السفينة وشبههم بها فصاروا بذلك أماناً من الغرق في بحر الجهالات، كما أن سفينة نوح أمان من الغرق في بحر الماء، ولن يكونوا كذلك إلا بإحراز العلم الشافي من الجهل وهذا هو المراد.
وأما رابعاً: فقوله عليه السلام: ((إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي، إنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) . فظاهر الخبر دال على أنهما مقترنان غير مفترقين فيما يدلان عليه، فإذا كان القرآن صحيحاً دالاً على كل العلوم الدينية والدنيوية فيجب ذلك في حق العترة.
وأما خامساً: فقوله عليه السلام: ((هم كالكهف، وهم باب حطة)) . وغير ذلك من الأحاديث التي تدل من جهة ظاهرها على كونهم أئمة الخلق دعاة إلى الله، هداة لخلقه، فهي بعينها دالة على علو درجاتهم في العلم وإحرازه، وأقوى دلالة على جهة الإجمال، على علمهم، قوله عليه السلام: ((الأئمة من قريش)) فما هذا حاله يكفي في الدلالة على إحرازهم للعلم من طريق الإجمال.
المسلك الثاني: من طريق التفصيل، وهذا إنما يكون بالوقوف على موضوعاتهم والاطلاع على مصنفاتهم في علوم الشريعة والفتاوى النقلية والمضطربات الاجتهادية، فالناظر متى وقف على ما ذكرناه لاح له على قُرب أنهم قد أحاطوا بعلوم الشريعة وقادوها بأزمتها، ودعوا أهلها وأصحابها وكانوا سادة لأئمتها.
ويشهد لذلك تصرفهم في المسائل الاجتهادية ومكالمة الخصوم في المضطربات الفقهية مع ما شغلوا به من عداوة أهل البغي في أزمانهم، وإقصاء أخدان الظلم في أوانهم، وإظهار حجة الله وإعلاء كلمته بالسيف لأجل تقلدهم للإمامة، ونهوضهم بأحكام الزعامة، فكانوا لهم في غاية الطرد والإبعاد عن الشغل بالتدريس وإظهار العلم خوفاً على دنياهم، ومحاذرة على انثلام ظلمهم الخلق، وإكبابهم على البغي وأنواع الفسوق، فهذا ما يتعلق بجانب العلم.
الضرب الثاني: ما يتعلّق بجانب الدين، وذلك أن كل من اطلع على أحوالهم وعرف طرفاً من سيرهم، عرف قطعاً ويقيناً مراقبتهم لله تعالى في الإقدام والإحجام، وشدة تحرزهم في الأخذ والإعطاء، ووقوفهم على حدود الشريعة في التحليل والتحريم، والجري على مراسمها والمحاذرة عن مخالفة شيء من أدلتها القاطعة، وحصروا نفوسهم على التدوار في مواردها ومصادرها، ولم يطمح لأحد منهم نظراً إلى مخالفتها، ولا تشوقت قلوبهم إلى غيرها، شددوا على أنفسهم بأخذ العزائم، وأخذوا للخلق بما فهموا من الله رخصه فيه لخلقه ، واقتحموا موارد الموت في نصرة دين الله وإعلاء كلمة الحق بين مقتول ومصلوب ومأسور ومطرود، لا يزيدهم ما يرون في أنفسهم وأهليهم من القتل والطرد إلا صبراً لله تعالى، واحتساباً في إعزاز دينه وعلو كلمته، وتصلباً على من خالف أمر الله وحكمه، ومن كانت هذه حالته فقد تمسك بالدين بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، ولا يخاف عليها نقض ولا يخشى لجانبها اهتضام.
الضرب الثالث: الورع، ومن أراد الاطلاع على رفضهم للدنيا وإعراضهم عنها، وحرصهم على إيثار الآخرة، وسلوكهم لجانب الحيطة في الأخذ والترك، وبعدهم عن المآثم، وازورارهم عن الوقوع في المحرمات والمكروهات، فليطالع سيرهم وأخبارهم، فإنه يتحقق لا محالة أن تعويلهم ما كان إلا على رفض الدنيا وإيثار رضوان الله تعالى، وإحراز طاعته، والعمل لوجهه وتحصيل مرضاته؛ فإن حصلت الدنيا آثروا بها، وإن زُوِيَت عنهم صبروا على ما أصابهم من مشقة لأْوَائها، علماً لما لهم عند الله من عظيم الزلفة، ورفيع المنزلة، فيزيدهم رغبة فيما عند الله وشوقاً إلى لقائه، وهذه هي حقيقة الورع وغاية أمره، وقصارى حاله وسره.
الطريقة الثالثة: تشتمل على نظر كلي بالإضافة إلى صحة العقائد في أمور الديانة، والسلامة عن الزلل، والعصمة عن الخطأ في مجاري الأنظار الاجتهادية في أحكام الشريعة.
واعلم أن الذين نصبوا أنفسهم للفتوى، واقتعدوا دست العلماء واشتهروا بالاجتهاد، وطبقت مذاهبهم طبق الأرض ذات الطول والعرض، هم هؤلاء العلماء الثلاثة مالك والشافعي وأبو حنيفة؛ فأما أحمد بن حنبل وسفيان الثوري فهما وإن بلغا مرتبة الاجتهاد، لكنهما لم يشتهرا كشهرة هؤلاء ولم يختصا بكثرة الأتباع مثلهم، وكل واحد من هؤلاء الثلاثة قد نأى عن الصواب نظره ، وأنمحى عن رسم الحق أثره، إما في عقيدته، وإما في أثناء تصرفه في المسائل الاجتهادية.
فنقول: أما مالك بن أنس؛ فإنه لا يُشَقُّ غباره في ضبط الأخبار وتمييز صحيحها، ومعرفة قويها من ضعيفها، وكان شديد الاحتراز في الرواية والتصون في النقل وحصر وقائع الصحابة رضي الله عنهم، ولا يدرك آثاره في انتقاد الرواة ومعرفة أحوالهم، وهو أول من عُنيَ في جمع الأحاديث وضبطها في كتابه (الموطأ).
وكان كثير التعظيم للعلم، شديد الورع، خلا أنه استرسل في القول بالاستصلاح حتى أدى ذلك إلى إهدار الدماء، وإتلاف الأموال لمصالح إياليه، وانتهى حاله إلى تقرير أمور منوطة بالسياسة، حتى آل نظره في ذلك إلى أن قال: (أقتل ثلث الأمة في استصلاح ثلثيها).
وهذا بُعْدٌ في الخطأ؛ فإنا نعلم بالضرورة من حال الصدر الأول انكفافهم عن مثل هذا وتصونهم عن الفتوى بمثل هذا، ويعلم من حالهم أنهم لا يتجاسرون على إراقة كفٍّ من دم إلاّ بحقها.
وأما الشافعي محمد بن إدريس، فنظره لا يجارى، وفضله لا يبارى في تقرير أصول الأدلة وتنزيلها منازلها وترتيبها على أحسن هيئة ، وفي ذلك دلالة على سعة علمه وتبحره في علوم الشريعة مع حدة نظره وجودة ذكائه، ويشهد بفضله مسائله التي أنشأها، وعِلَله التي قررها واستنبطها، ولقد كان عمره يقصر عن إحراز مثل فضله، فاختُرم وقد نَيّف على الخمسين.
لكنه قال بالرؤية ونقلها عنه البويطي من أصحابه، وهذا خطأ في الاعتقاد؛ فإن كانت الرؤية مكيفة أدى ذلك إلى التشبيه لأن المرئي لا يُعْقَل إلا متحيزاً أو حاصلاً في المتحيز، وكله محال على الله تعالى، وإن كانت الرؤية غير مكيفة فهو لا يعقل وعلى كلا الوجهين فلا يخلو عن خطأ.
[وذكر الحاكم [الجشمي] رحمه الله في (عيون المسائل) أن إبراهيم بن أبي يحيى المدني -وكان شيخ الشافعي- نقم على الشافعي لما تولى ما تولى].
وأما النعمان بن ثابت، فلا ينكر فضله في اتقاد القريحة وجودة الفطنة، وإدراك الأسرار الشرعية واستنباط المسائل الدقيقة، واستيلائه على الإحاطة بأسرار الحكومات والأقضية، والتمكن من وضع المسائل والتصدي للأسئلة والجوابات في المضطربات الاجتهادية.
لكنه قد حُكِيَ عنه القول بإيجاب القدرة، وهذا خطأ، فإن مثل هذا يجر إلى الجبر وبطلان الاختيار للعبد، ويؤدي إلى تكليف ما لا يطاق، وهذا يطرق خللاً في قاعدة الحكمة، وحكي عنه بطلان القصاص بالمُثَقّل، وهذا يهدم عصمة الدماء، وحكي عنه حل المُثَلَّثِ والمُنَصَّفِ، وقد عُلم من جهة الشرع والعقل قطعاً صيانة العقول عن الإهدار والإفساد.
وإذا تأمّلتَ علوم العترة وجدتَها مصونة عن مثل هذه الأشياء التي حكيناها عن غيرهم، وفي هذا دلالة على عصمة الله لهم عن الوقوع في مثل هذه المواقع التي يعلم خطؤها، وأنهم باقون على رسوم الشريعة غير خارجين عن حدودها في اعتقاد ديني، ولا خطأ في مضطرب اجتهادي، وما ذاك إلا من لطف الله تعالى لهم، وتأييده لهم في كل إقدام وإحجام وقول وفعل، فحصل من مجموع ما ذكرناه صحة تقديمهم في هذه الخصال العالية في الدين والورع والتقوى.
قال عليه السلام: ومناقب العترة أكثر من أن تحصى وقد أفرد فيها العلماء كتباً على حيالها، ولكنا سمحنا من ذلك بمقدار ما يليق بترجيح تقليدهم على تقليد غيرهم من علماء الأمة في الأمور العملية، وكيف لا يكون تقليدهم راجحاً على تقليد غيرهم من علماء الأمة؟ وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((تعلّموا من قريش ولا تعلموها)) وفي حديث آخر: ((ولا تعالموها)) وأراد: ولا تغالبوهم في علومهم، وقال عليه السلام: ((عالم قريش يملأ الأرض علماً)) .
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((الناس في هذا الشأن تبع لقريش، فمسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم)) .
فلا جرم كان اتباعهم أحق من اتباع غيرهم لما قررناه من الأدلة على فضلهم، وهم السر والخلاصة واللباب من قريش، ولم نرد بما ذكرناه من حال فقهاء الأمة وعلمائها في الاعتقادات الدينية وانحراف أنظارهم في المسائل المجتهدة حطّاً لما رفع الله من منارهم، ولا وضعاً لما أشاد الله من رفع أقدامهم، ولكن غرضنا الكشف عما اختص به علماء العترة من إصابة الحق، والهداية لوجه الإصابة في معتقداتهم ومجاري أنظارهم..إلى آخر ما ذكره عليه السلام في هذا الباب.
[وجوه أولوية تقليد أهل البيت(ع) على غيرهم]
وذكر سيدنا العلامة فخر الدين [عبدالله بن زيد العنسي] -قدس الله روحه-: أن تقليد أهل البيت أولى من تقليد غيرهم لوجوه:
أحدها: أن الله تعالى أثنى عليهم في محكم كتابه بآية التطهير وآية القربى.
وثانيها: ما اختصوا به من العصمة عند إجماعهم وأنه حجة.
وثالثها: أن الترجيح بين العلماء يكون من جهة العلم والدين والورع وهم في هذه الحال لا يلحق بهم لاحق، ولا يسبقهم سابق، وذلك معلوم عند بحث أحوالهم وأقوالهم.
[أحوال أئمة العترة وتنزهم عن مساكنة سلاطين الجور]
وأقول: معلوم من دين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن مساكنة أهل المعاصي ومرتكبي الكبائر من هذه الأمة، ومواصلتهم ومداناتهم ومعاشرتهم وموانستهم ومخالطتهم ومكاثرتهم، وقد نهى الله جل وعز عن هذا كله بقوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ} [هود:113] ، وقال جل من قائل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1] ، وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(22)} [المجادلة].
ومن تصفح أحوال أئمة العترة النبوية من أمير المؤمنين علي عليه السلام إلى زماننا هذا وجدهم على صفة واحدة في مناواة الفسقة، ومعاداة الظلمة، والتنزه عن مساكنة سلاطين الجور ومسالمة أئمة الضلال، لا يرضون لأنفسهم بمواصلتهم، ولا قبض صِلاَتهم، ولا يؤنسون وحشتهم، ولا يغشون مجالسهم، ولا يحضرون محاضرهم، ويترفعون عن مراشاتهم ومكاتبتهم.
كما روي ذلك عن الإمام الطاهر القاسم بن إبراهيم عليه السلام، فإن المأمون عرض عليه من المال وقر سبعة أبغل على أن يبتدئه بكتاب أو يجيب له كتاباً، فشمر عن ذلك جناحاً، ورأى قبول ذلك في الدين جُناحاً.
وأمثاله من سادة الرسوس، والعارفين لمواقيت الصلوات في ظلمات الحبوس، بما يعتادونه من تلاوة القرآن الكريم والذكر الحكيم.
وكانوا في الزهد عن الدنيا على مثل صفة الأنبياء، يفترشون المدر ويتوسدون الحجر، ويأكلون في بعض الحالات الشجر، وسرجهم في أكثر الليالي ضوء القمر، وهم يرون علماء زمانهم من فقهاء الأمة يقعون على ما في أيدي الظلمة من خلفاء بني أمية وبني العباس وقوع الذباب على العذرة.
وقال الزمخشري رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ} [هود:113] ، قال رحمه الله: والنهي متناول للانحطاط في أهوائهم، والانقطاع إليهم، ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم، والرضى بأعمالهم، والتشبه بهم، والتزيي بزيهم، ومدّ العين إلى زهرتهم، وذكرهم بما فيه تعظيمهم.
قال [رحمه الله تعالى]: وتأمل قوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا} فإن الركون هو الميل اليسير إلى الذين ظلموا أي إلى الذين وجد منهم الظلم، وذكر الكتاب الذي كتبه إلى الزهري بعض إخوانه حين خالط الظلمة وهو كتاب عظيم، وفي الحقيقة كان أكثر علماء ذلك الزمان إلاّ من عصمه الله على رأي الزهري.
ومحمد بن شهاب الزهري من كبار علماء الحديث، وكان ملازماً لهشام بن عبدالملك.
قال: صاحب النبلاء فيه، راوياً عنه ما هذا لفظه: وفدت على عبد الملك بن مروان وقد نشأت وأنا غلام، ووصف ابتداء أمره واتصاله بعبد الملك ثم قال: وتوفي عبد الملك فلزمت ابنه الوليد ثم سليمان ثم عمر بن عبد العزيز ثم يزيد فاستقضاه على قضائه.
قال: ثم لزمت هشام بن عبد الملك وصير هشام الزهري مع أولاده يعلمهم ويحج معهم، وذكر له اختصاصاً بهم كلياً حتى كان لهم كالجندي بهذا اللفظ؛ فإذا كان هذا الزهري على جلالة قدره وسعة علمه فكيف غيره؟!
وعن الأوزاعي: (ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملاً).
وعن محمد بن مسلمة: (الذباب على العذرة أحسن من قارئ على باب هؤلاء).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه)) .
ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في بَريّة هل يُسقى شربة ماء؟ قال: لا، فقيل له: يموت، قال: دعه يموت.
فهذا نهاية الاحتراز في أمر الدين، ومن لنا بمثل هذا في أكثر العلماء المتقدمين، ومن طالع السير والأخبار، وعرف التواريخ والآثار، ولم يُعْم التعصب عين بصيرته عرف صحة ما ذكرناه، وعلم فضل العترة النبوية على علماء الأمة الأحمدية، ولولا ملاحظة الاختصار لذكرنا من ذلك ما يعرف به صحة ما قلناه، ويميز به بين أئمة العترة وغيرهم ممن ذكرناه، وهو بحمد الله موجود لمن أراده.
وانظر إلى صلابة أهل البيت عليهم السلام في عقائد دينهم وعزائم يقينهم. من كلام القاسم عليه السلام: (من شاقّ الله بكبيرة فواجب ألا يتخذ ستره) قيل: إنه أراد به سد الجناح في الصلاة. وزهدهم وتقشفهم وبعدهم عن موالاة الظلمة معروف في كتبهم المجردة لأخبارهم، ولم يكن لأحد من علماء الأمة ما لهم في ذلك.
وزيادة في فضلهم وصحة أديانهم، وهو أن المعلوم من شريعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بإجماع من الصحابة رضي الله عنهم اشتراط الأوصاف المعروفة في الإمام من: العلم، والفضل، والورع، والشجاعة، والقوة على تدبير الأمر، واعتبار المنصب على حسب الخلاف في أهله، وهذه قاعدة من قواعد الدين المعتبرة شرعاً.
وفقهاء الأمة برمتهم إلا من تمسك بأئمة العترة منهم رافضون للإمامة الصحيحة، ومطبقون على القول بالإمامة الفاسدة، ومتقلدون للقضاء وولاية الأحكام من سلاطين الجور وأئمة الضلال، هذا مع وجود الإمام الفاضل الجامع لشرائط الإمامة من العترة النبوية في الأزمنة المتقدمة، فلا يعولون عليه، ولا يصلون إليه، ولا يجيبون دعوته، ولا يلتزمون إمامته، ويذكرون في تصانيفهم شرائط الإمام ويدرسونها، ويهملونها بَعدُ ويضعونها.
فأما الجهاد مع إمام الحق من العترة النبوية فهذا من أبعد الأشياء منهم، ولهذا قال هارون المكنى (بالرشيد) فيما يروى عنه: (إني والله لا أخاف الإمامية ولا أخاف أحداً من أهل الملة الإسلامية إنما أخاف هؤلاء الزيدية كلما قام من آل علي بن أبي طالب قائم سلوا سيوفهم دونه، وحملوا أكفانهم معه).
وهذا صحيح فإنه لم ينصر الأئمة من العترة الطاهرة إلا هذه الفرقة الناجية، وكل فرقة لها خاذلة أو مقاتلة فأي خير يلتمس فيمن هذا حاله، وانظر إلى صلابة مذهب العترة لا يُصَلّون على صاحب كبيرة ولا تارك فريضة كما يفعله غيرهم من المتمسكين بالدين والمنتسبين إلى العلم، ولا يصلون خلف من هذه حاله، ولا يعتقدون إمامة من لم تكمل فيه خصال الإمامة لو ملك الأرض بحذافيرها، وانقادت له الدنيا بأزمتها ما اعتقدوا صحة إمامته، ولو أنه أعطاهم ملكه كله، ولو ملأ لهم طبق الأرض ذهباً.
وأكثر من تراه من علماء الطوائف يدينون بولاية أئمة الضلال ويناضلون عنهم، كما فعل (صاحب الخارقة) في زمان الإمام المنصور بالله عليه السلام.
ومن أحب أن يكون زيدياً مخلصاً وعن شبه الأقاويل متخلصاً فليطالع (كتاب الشافي) للمنصور بالله عليه السلام في جواب صاحب الخارقة، فإنه –أعني صاحب الخارقة- من علماء أهل مذهبه المبرزين وعيونهم المعتبرين، وقد أودع رسالته جميع ما يتمسك به مخالفونا في مسائل الاعتقاد وغيرها من تأويل الأحاديث.
فقيض الله لمذهب (الزيدية) ورعاية حمايته الإمام المنصور، والعلم المشهور؛ فأزال ما تمسك به الجبري من الشبه، وميز له في العلم بين الذهب الخالص والشبه، واحتج لمذهب العترة بما يدهش العقول، ويصحح المنقول والمعقول، فصار (كتاب الشافي) كاسمه شفاء لما في الصدور، ودواء لكل قلب مصدور ، فإذا تأمله المنصف عرف أن العترة وأئمتها هم سفن النجاة وماء الحياة، وأن من خالفهم من الخطر في مهواه، وأنه في الحقيقة تابع لهواه.
قال عليه السلام في شيء من كلامه وقد أشار إلى فضل الزيدية: لا يعتقدون إمامة من لم تكمل فيه خصال الإمامة بخلاف سواهم ممن يشهد لإمامه بالزور. وهو معتكف على الفجور، بالصوّام والقوّام ولعله في تلك الحال لا يفرّق بين القيام والقعود من السُكر، ولا يعتقدون إمامة من يدعي الإمامة حتى يختبروه في كل خصلة من خصال الإمامة، فمتى صحّت لهم تابعوه وبايعوه، وقاموا دونه وشايعوه، على ذلك مضى أولهم وتبع آخرهم، فهم سيوف الحق وأنصار أئمة الهدى، لا يقبلون في دين الله الرُّشا، ولا يبتغون الدين بالدنيا، ورعهم ظاهر، وعلمهم باهر..إلى آخر كلامه عليه السلام في هذا المعنى.
فبهذه الصفات الصالحة والمزايا الراجحة يظهر لك أيها المقلد الطريق الواضحة، وتعرف فضل العترة على غيرهم بالأدلة اللائحة ، فلا ينبغي لعاقل أن يهمل النظر في هذه الأوصاف الحميدة والطرائق السديدة، فإن دينه لا عوض به، ونفسه لا ثمن لها إلا الجنة، والجنة لا يدخلها إلا المتقون، والمتقون لا يكمل لهم التقوى إلا بالتمسك بالعروة الوثقى من عترة محمد المصطفى وعلي المرتضى.
فلينتبه النائم عن نومته، وليستيقظ الوسنان من رقدته، فإن الأمر ليس بالهوينا، ومن وثق بالرائد لم يظما، ومن كذّبَه لم يجد الماء، وأئمة العترة عليهم السلام رواد الشريعة، وهم إلى الله تعالى أوثق وصلة وذريعة.
[دلائل وجوب بقاء طائفة من الأمة على الحق]
لنا أن الأمة إذا افترقت على أقوال وبطلت إلا أحدها، فلا بد من بقاء طائفة منها على الحق وإلا خرج الحق عن أيدي الأمة، وخروج الحق عن أيدي الأمة لا يجوز، وهذه الطائفة هي طائفة العترة النبوية ومن اتبعها، وهذه الدلالة مبنية على أصول:
أولها: أن الأمة إذا افترقت على أقوال وبطلت إلا أحدها، تعين الحق في قول طائفة منها.
والثاني: أنه لو لم يكن ذلك كذلك لخرج الحق عن أيدي الأمة.
والثالث: أن خروج الحق عن أيدي الأمة لا يجوز.
والرابع: أن هذه الطائفة المشار إليها ببقاء الحق في أيديها هي العترة الطاهرة دون من عداها.
أما الأصل الأول: فالذي يدل عليه ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)) .
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة إلا فرقة واحدة)) . فاقتضى الحديث أن بقاء طائفة على الحق ونجاة أمة واحد.
وأما الأصل الثاني: وهو أنه لو لم يكن ذلك كذلك لخرج الحق عن أيدي الأمة؛ فالذي يدل على ذلك أنه لولا هذا التخصيص لهذه الطائفة والاستثناء لهذه الأمة لخرج الحق عن أيدي الأمة، ولصارت كل طائفة وكل أمة تقول في دينها ومعتقدها بالباطل، ولسنا نعني بخروج الحق عن أيدي الأمة أكثر من هذا.
وأما الأصل الثالث: وهو أن خروج الحق عن أيدي الأمة لا يجوز؛ فالذي يدل على ذلك أن شريعة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم باقية إلى انقطاع التكليف، فلو حكمنا بخروج الحق عن أيدي أمته صلى الله عليه وآله وسلم كنا قد حكمنا ببطلان شرعيته.
وأما الأصل الرابع: وهو أن هذه الطائفة المشار إليها ببقاء الحق في أيديها وأنها هي الأمة الناجية، فالذي يدل على ذلك أمران: جملي، وتفصيلي.
فالجملي: ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأخبار المقتضية لذلك، نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى)) .
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء فإذا ذهب أهل بيتي من الأرض أتى أهل الأرض ما يوعدون)) .
وقد علمنا أن أمة نوح عليه السلام هلكت إلا من ركب معه في السفينة؛ فكذلك أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم هالكة إلا من تمسك بكتاب الله وعترة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
يزيده بياناً: حديث التمسك وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) وهذا الحديث كاف في الدليل على بقاء العترة النبوية على الحق، واتباعها معها لما قدمناه في ذلك.
فإن قيل: فإن هذه الدلالة إنما تستقيم فيما كان الحق فيه واحداً، فأما مسائل الاجتهاد فكل مجتهد فيها مصيب فلا يتميز في هذا الباب أهل البيت من غيرهم؟
فالجواب: أن حديث السفينة أوجب الرجوع إليها والكون معها في اعتقادها ودينها، فما كان الحق فيه واحداً كمسائل الاعتقاد فبضرورته، وما كان من مسائل الاجتهاد فبأولويته؛ فإذاً الرجوع إليهم واجب فيما الحق فيه واحد، وأولى فيما يجوز فيه الاجتهاد، ولا يجهل هذا إلا معاند.
* * * * * * * * * * * * * *
[أقاويل أهل البيت في وجوب الرجوع إليهم وأولوية التقليد لهم]
فصل:
نذكر فيه جملاً من أكاليم عيون أهل البيت [عليهم السلام] فيما ذكرناه من وجوب الرجوع إليهم وأولوية التقليد لهم.
فمن ذلك: كلام أمير المؤمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب عليه السلام قال كرم الله وجهه : (فأين يتاه بكم بل كيف تعمهون، وبينكم عترة نبيكم، وهم أَزِمَّةُ الحق، وألسنة الصدق، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن، وَرِدُوهُم ورود الهيم العطاش).
وقال عليه السلام: (لا يعادل بآل محمد من هذه الأمة أحد، ولا يساوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة).
وقال عليه السلام: (أيها الناس، اعلموا أن العلم الذي أنزله الله على الأنبياء من قبلكم في عترة نبيكم، فأين يتاه بكم عن أمر تنوسخ من أصلاب أصحاب السفينة [هؤلاء مثلها فيكم، وهم كالكهف لأصحاب الكهف،] وهم باب السلم فادخلوا في السلم كافة، وهم باب حطة من دخله غفر له، خذوها عني عن خاتم المرسلين حُجة من ذي حُجَة ، قالها في حجة الوداع: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) .
وقال زيد بن علي [عليهما السلام]: الرد إلينا نحن والكتاب الثقلان.
[كلام الإمام القاسم بن إبراهيم (ع)]
وقال القاسم بن إبراهيم عليهما السلام: وكلما ذكر الله في السور فله وجوه متصرفة يعرفها من عرّفه الله إياها.
إلى قوله: فليسأل عنها وليطلب ما خفي عليه منها عند ورثة الكتاب الذين جعلهم الله معدن ما خفي فيه من الأسباب، فإنه يقول سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32] .
إلى قوله: وليكن مساءلته منهم للسابقين بالخيرات، فإن أولئك أمناء الله على سائر الخفيات من منزل وحي كتابه، وما فيه من خفي عجائبه، فقد سمعت قول الله سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)} [النحل] .
وقال عليه السلام: وأبين دليل وأنور تنزيل في وجوب الإمامة وما يجب فيها على الأمة قول الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا(59)} [النساء] ، فأمر الله تعالى بطاعة أولي الأمر مع ما أمر به من طاعته وطاعة رسوله.
[كلام الإمام الناصر الأطروش (ع)]
وقال الناصر للحق الحسن بن علي عليه السلام: ولله أدلة على الحوادث على المكلف إصابتها، التي الأمة فيها سواء.
فأما ما سوى هذه الأصول من الأحكام في الحوادث النازلة التي يصوغ فيها الاجتهاد، إذ لا نص عليها من كتاب ولا سنة ولا إجماع من الأمة والأئمة، فالاجتهاد فيها إلى علماء آل الرسول عليهم السلام دون غيرهم، لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } [النساء :59] ، وقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ..الآية} [النساء:83] .
[كلام الإمام محمد بن القاسم الرسي (ع)]
وقال محمد بن القاسم في (شرح دعائم الإيمان): فأولئك هم الذين أمر الله تعالى بطاعتهم، وهم العترة الطاهرون من آل نبيه عليه السلام، وأقامهم أئمة يهدون بأمره، وأمر الخلق كلهم أن يسألوهم إذا جهلوا، وأن يَرُدُّوا إليهم علم ما اختلفوا فيه، لأنهم أهل الاستنباط والبحث والنظر الذين أمر الله بالرد إليهم.
[كلام الإمام الهادي (ع)]
وقال الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام: اعلم أيها السائل علماً يقيناً، وافهم فهماً ثابتاً مبيناً، أن العلماء تتفاضل في علمها، ويتفاوت قياسها وفهمها، وفيما قلنا به من ذلك ما يقول الله سبحانه: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ(76)} [يوسف] .
وأنه ليس أحدٌ من المخلوقين أولى بفهم أحكام رب العالمين؛ ممن اختاره الله واصطفاه، وانتجبه وارتضاه، فجعله مؤدياً لدينه، قائماً بحكمه، راعياً لبريته، حائطاً لخليقته، منفذاً لإرادته، راغباً إلى حجته، مبيناً لشريعته، آمراً بأمره، ناهياً عن نهيه، مقدماً لطاعته، راضياً لرضاه، ساخطاً لسخطه ، إماماً لخليقته، هادياً لها إلى سبله، داعياً لها إلى نجاتها، مخرجاً لها من عمايتها، مثبتاً لها على رشدها ، مقيماً لها على جوآدِّ سبله، ناصحاً لله فيها، قائماً بحقه سبحانه عليها.
وذلك وأولئك فهم صفوت الله من خلقه، وخيرته من بريته، وخلفاؤه في ارضه، الأئمة الهادون والقادة المرشدون من أهل بيت محمد المصطفى وعترة المرتضى، ونخبة العلي الأعلى المجاهدون للظالمين والمنابذون للفاسقين، والمقربون للمؤمنين والمباعدون للعاصين.
ثِمَاُل كل ثِمَال، وتمام كل حال، والوسيلة إلى الجنان، والسبب إلى الرضى من الله والرضوان، بذلوا أنفسهم للرحمن، وأحيوا شرائع الدين والإيمان، لم يهِنُوا ولم يَفْتُروا ولم يقصروا في طلب ثأر الإسلام ولم يغفلوا، نصحوا المسلمين وأحبوا المؤمنين، وقتلوا الفاسقين، ونابذوا العاصين ، وبَيَّنوا حجج رب العالمين على جميع المربوبين، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)} [الأنفال] ، عملوا فَجُوْزُوا، ونصحوا فقبلوا، وتقربوا من الله فَقُرِّبُوا، وأخلصوا لله سبحانه الديانة فأخلص لهم المحبة، طلبوا منه التوفيق فوفقهم، وسألوه التسديد فسددهم، وقاموا له بأمر فأرشدهم، واهتدوا إلى قبول أمره فزادهم، وهداهم وضاعف لهم كل خير وتقوى، كما قال جل جلاله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد:17] .
قصدوا الحق فأرشدوا له، وأتَمُّو بالصدق فعملوا به، فوجبت لهم حقائق التوفيق، ونالتهم بحمد الله موقضات التحقيق، وقصدتهم منه سبحانه قواصد النعمة، وشملتهم منه شوامل الحكمة، فنطقوا بالبيان في قولهم ، وحكموا بالحق في حكمهم، واهتدوا بالله سبحانه، وثبتوا بزيادة [هدى] الله على الحق الفاصل ، وتناولوا شكايم العلم الفاضل، فنالوا بعطاء الله الأكبر ما لم ينل غيرهم ، وقدروا على ما عجز عنهم سواهم، فحكموا باختيار الله لهم بتوفيقه، وإرشاده لهم وتسديده في كل نازلة بالصواب، وبعد عنهم فيها كل شك وارتياب، فكان علمهم لما ذكرنا من اختيار الله لهم، واصطفائه إياهم، ورضاه باستخلافهم في أرضه، واسترعائه لما استرعاهم من بريته -علماً جليلاً، وكان قياسهم قياساً ثابتاً أصيلاً، إذ هم وأبوهم –صلى الله عليه- أصل كل دين، وعماد كل يقين، ومنه صلوات الله عليه تفرعت العلوم المعلومة، ونيلت أصول الأحكام المفهومة، ومنه ومن ذريته نيلت العلوم الفاضلة، وبلغت الأصول الفاصلة، فمن علمهم صلوات الله عليهم تفرعت الأحكام، ومن بحر فهمهم استقى جميع الأنام، فهم أصل الدين، وشرائع الحق المبين، فكل علم نِيْلَ أو كُسِب فمن فضل علمهم اكتسب، وكُلّ حق به حُكِم فمن حكم حقهم علم، فهم أمناء الله على حقه، والوسيلة بينه وبين خلقه.
المبلغون للرسالات، الآتون من الله سبحانه بالدلالات، المثبتون على الأمة حجته البالغة، المسبغون بذلك على الأمة النعم السابغة، لا يجهل فضلهم إلا جهول معاند، ولا ينكر حقهم إلاَّ معطل جاحد، ولا ينازعهم معرفة ما أَتَوا به عن الله إلاَّ ظلوم، ولا يكابرهم فيما ادعوه من الله إلا غشوم، لأنهم أهل الرسالة المبلَّغة، والآتون من الله سبحانه بالحجة البالغة، الذين افترض الله على الأمة تصديقهم، وأمروا باتباعهم ونهوا عن مخالفتهم، وحُضُّوا على الاقتباس من علمهم ، ألا تسمع كيف يقول الرحمن فيما أنزل من النور والبرهان ، حيث يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)} [النحل] ، فأمرت الأمة بسؤالهم عند جهلها، والاقتباس منهم لفروض علمها، ثم قال سبحانه : {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا(83)} [النساء] .
فأخبر سبحانه أنهم لو ردوا ما يجهلون علمه ولا ينالون فهمه إلى الله بالتسليم له في حكمه، وإلى الرسول من معلوم علمه، وإلى الأئمة من عترته فيما التبس من ملتبسه، واشتبه على الأمة من متشابهه، لوجدوه عند الله في كتابه مُبَيّناً، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم التي جاء بها من الله مثبتاً، وعند الأئمة من عترته صلى الله عليه وآله وسلم نيراً بيناً.
ثم أخبر سبحانه أنه لولا فضل الله على الخلق بإظهار من أظهرهم من خيرته، وتولية من ولّي عليهم من صفوته، إذن لاتبعوا الشيطان في إغوائه، ولشاركوه في غيه وضلاله، فامتن عليهم سبحانه بأئمة هادين، غير ضالين ولا مضلين، صفوة الله من العالمين، وخيرته من المخلوقين، نور الأمة وسراج الظلمة المدلهمة، ورعاة البرية، وضياء الحكمة، ومعدن العصمة، وثبات الحجة، ومختلف الملائكة، اختارهم الله على علمه، وقدمهم على جميع خلقه، علماً منه تعالى بفضلهم، وتقديساً لهم على غيرهم، وفي ذلك ما يقول سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32)} [فاطر] .
فأخبر بما ذكرنا من اصطفائهم على الخلق، ثم ميزهم فذكر الظالم لنفسه باتباعه هوى قلبه وميله إلى لذته، وذكر المقتصد منهم في علمه المؤدي إلى الله لفرضه، المقيم لشرائع دينه، المتبع لرضى ربه المؤثر لطاعته، ثم ذكر السابق منهم بالخيرات، المقيمين لدعائم البركات، هم الأئمة الطاهرون والمجاهدون السابقون القائمون بحق الله، المنابذون لأعداء الله، المنفذون لأحكام الله، الراضون لرضاه، الساخطون لسخطه، والحجة بينه وبين خلقه، المستأهلون لتأييده، المستوجبون لتوفيقه ، المخْصُوصُون بتسديده في كل حكم به حكموا، أو قياس في شيء من الأحكام به قاسوا، حجة الله الكبرى، ونعمته العظمى، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وفي ذلك ما يقول الله سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)} [الأحزاب] ، وفي طاعتهم، وفيما أمر الله به من رد الفتيا بين المفتين وما فيه يتنازع المتنازعون إليهم؛ ما يقول سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ..إلى آخر الآية} [النساء:59] ، وما جاء من الله تبارك وتعالى لآل رسوله من الذكر الجميل والحض للعباد على طاعتهم، واقتباس من علمهم ، فكثير غير قليل، يجزي قليله عن كثيره، ويسيره عن جليله، مَنْ كان منهم
ذا علمٍ واهتداء ، ومعرفة بحكم العلي الأعلى، وكل ذلك أمر من الله سبحانه للأمة برشدها، ودلالة منه على أفضل أبواب نجاتها.
فإن اتبعت أمره رَشُدَت، وإن قبلت دلالته اهتدت، وإن خالفت ذلك غوت، ثُمّ ضلت وأضلّت، وهلكت وأهلكت، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ(42)} [الأنفال] ، وفي أمر الأمة باتباع ذرية المصطفى ما يقول النبي المرتضى: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) .
ويقول صلى الله عليه وآله وسلم في تفضيلهم، والدلالة على اتباعهم، وما فضلهم الله به على غيرهم: ((النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأهل الأرض فإذا ذهب النجوم من السماء أتى أهل السماء ما يوعدون، وإذا ذهب أهل بيتي من الأرض أتى أهل الأرض ما يوعدون)).
وفيما ذكرنا من أمرهم ما يقول صلى الله عليه وآله وسلم: ((مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى)) ، وهذا ومثله فكثيرٌ عنه صلى الله عليه وآله وسلم، يفهمه من يروي عنه عليه السلام، ونحن نستغني بقليله عن كثيره.
إلى قوله: ثم اعلم من بعد كل علم ومن قبله، وعند استعمالك لعقلك في فهمه، أن الذين أمرنا باتباعهم من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحضضنا على التعلم منهم، وذكرنا ما ذكرنا من أمر الله برد الأمور إليهم؛ هم الذين أخذوا بكتاب الله من آل رسول الله، واقتدوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذين اقتبسوا علمهم من علم آبائهم وأجدادهم جداً عن جد وأباً عن أب، حتى انتهوا إلى مدينة العلم، وحصن الحلم ، الصادق المصدق، الأمين الموفق، الطاهر المطهر، المطاع عند الله المُقّدّر، محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فمن كان علمه من آل رسول الله على ما ذكرناه، منقولاً إلى آبائه، مقتبساً من أجداده، لم يزغ عنهم، ولم يقصد إلى غيرهم، ولم يتعلم من سواهم، فَعِلْمُهُ ثابت صحيح لا يدخله فساد ولا زيغ، ولا يحول أبداً عن الهدى والرشاد، ولا يدخله اختلاف، ولا تفارقه الصحة والائتلاف.
[كلام الإمام الهادي(ع) في الاختلاف وأسبابه]
قال عليه السلام: فإن قلت أيها السائل: قد تجد علماء كثيراً منهم [ممن] ينتسب إليه علمهم؛ مختلفين في بعض أقاويلهم، متفرقين في بعض مذاهبهم، فكيف العمل في افتراقهم، وإلى من يرجع إليه منهم، وكيف نعمل باختلافهم وقد حضضتنا عليهم، وأعلمتنا أن كل خير لديهم، فإن الفرقة التي وقعت بين الأمة هي من أجل مفارقة الأئمة من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قلنا: قد تقدم بعض ما ذكرنا لك في أول هذا الكلام، ونحن نشرح ذلك بأتم التمام: إن اختلاف آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم -أيها السائل عن أخبارهم- لم يقع، ولن يقع أبداً إلاّ من وجهين:
فأما أحدهما: فمن طريق النسيان للشيء بعد الشيء، والغلط في الرواية والنقل، وهذا أمر يسير حقير، يُرْجِع الناسي منهم عن نسيانه إلى القول الثابت المذكِّرُ له عند الملاقاة والمناظرة.
والأمر الثاني: فهو أعظم الأمرين وأكبرهما، وأجلهما خطراً وأصعبهما، وهو أن يكون بعض من يؤثر عنه العلم تعلم من غير علم آبائه، واقتبس علمه من غير أجداده، فلم يستنر بنور الحكمة من علمهم، ولم يستض عند إظلام الأقاويل بنورهم، ولم يعتمد عند تشابه الأمور على فقههم، بل جَنَب منهم إلى غيرهم، واقتبس ما هو في يده من أضدادهم، فصار علمه لعلم غيرهم مشابهاً، وصار قوله لقولهم مجانباً، إذ عِلْمُه من غيرهم اقتبسه، وفهمه من غير زنادهم ازدنده، فاشتبه أمره وأمر غيرهم، وكان علمه كعلم الذين تعلم من علمهم ، وقوله كقول من نظر في قوله ، وضوء نوره كضوء العلم الذي في يده، فكان هو ومن اقتبس منه سواء في المخالفة لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والاقتداء، وإن كان منهم في نسبه، فليس علمهم كعلمه، ولا رأيهم فيما اختلف فيه الحكم كرأيه.
والحجة على من خالف الأصل من آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كالحجة على غيرهم من سائر عباد الله ممن خالف الأصول المؤصلة وجَنَب عنها، والأصل الذي يَثْبُت علم من اتبعه، ويبين من قال به، ويصح قياس من قاس عليه، ويجوز الاقتداء بمن اقتدى به؛ فهو كتاب الله تبارك وتعالى المحكم، وسنة رسول الله اللذان جُعِلا لكل قول ميزاناً، ولكل نور وحَقّ برهاناً، لا يضل من اتبعهما ولا يغوى من قصدهما، حجة الله القائمة ونعمته الدائمة، فمن اتبعهما في حكمهما واقتدى في كل أمر بَقدْوهما، وكان قوله بقولهما ، وحكمه في كل نازلة بهما دون غيرهما، فهو المُصِيْبُ في قوله، المعتمد عليه في علمه، القاهر لغيره في قوله، الواجب على جميع المسلمين من آل رسول الله وغيرهم أن يرجعوا إلى قوله، ويتبعوا من كان كذلك في علمه؛ لأنه على الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا دَخَل، والحمد لله عليه.
فمن كان على ما ذكرنا، وكان فيه ما شرحنا من الاعتماد على الكتاب والسنة والاقتباس منهما والاحتجاج بهما، وكانا شاهدين له على قوله، ناطقين له بصوابه، حجةً له في مذهبه، فواجب على كل أحد أن يقتدي به، ويرجع إلى حكمه.
فإذا جاء شيء مما يختلف فيه آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مَيّزَ الناظر المميِّز السامعُ لذلك بين أقوالهم، فمن وجد قوله متبعاً للكتاب والسنة، وكان الكتاب والسنة شاهدين له بالتصديق، فهو على الحق دون غيره، وهو المتَّبعُ لا سواه، الناطق بالصواب، المتبع لعلم آبائه في كل الأسباب.
وإن ادعى أحدٌ من آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه على علم رسول الله، وأنه مقتد بأمير المؤمنين والحسن والحسين صلوات الله عليهم، فاعلم هُدِيتَ أن علم آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يخالف أمر [الله و]وحيه ، فأعرض قول من ادعى ذلك على الكتاب والسنة، فإن وافقهما ووافقاه فهو من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن خالفهما وخالفاه فليس منه صلى الله عليه وآله وسلم ، كما قال فيما رويناه عنه حين يقول صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((سيكذب علي كما كذب على الأنبياء من قبلي، فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فهو مني وأنا قلته، وما خالف كتاب الله فليس مني ولم أقله)) .
وهذا أصل في اختلاف آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثابت، ودليل على الحق واضح، فاعتمد فيما اختلفوا فيه عليه، واستعمله في ذلك يتبين لك الحق حيث هو، ويصح لك المقتبس من علم آبائه صلوات الله عليهم، والمقتبس من غيرهم.
ويصح لك الحجة في جميع أقوالهم، وتهتد به إلى موضع نجاتك، وتستدل به إلى مكان حياتك، وتقف به على الذين أمرناك باتباعهم، فقد شرحناهم لك شرحاً واضحاً، وبيناهم لك تبييناً صحيحاً، حتى عرفتهم إن استعملت لُبَّك فيما بينا لك من صفاتهم، كما تعرفهم بالرؤية بأعيانهم، وتقف عليهم بأسمائهم وأنسابهم، والحمد لله على توفيقه وإرشاده حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
تم كلامه عليه السلام وهو في نهاية الإفادة والبيان لمن أراد اتباع أبنا المؤيد بالهدى ودين الإيمان.
[كلام الإمام المرتضى (ع)]
وقال ولده الإمام العالم محمد بن يحيى عليه السلام: ودل على أولي الأمر من حيث يقول عز ذكره: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ثم قال تعالى: {وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ، فدل على طاعة ثالثة.
إلى قوله: فالواجب على الرعية إذا وثقت بعدالة إمامها وصحت عندهم إمامته، أن يعلموا أن علمهم يقصر عن علمه، ولا يقعون من الغامض على ما يقع عليه؛ فإذا علموا ذلك وجب عليهم التسليم.
وقال عليه السلام في مسائله: إن إجماع العترة منعقد على أنهم أفضل الخلق، وأن الواجب على جميع أهل الملل الرجوع إليهم، والانقياد لأمرهم.
[كلام الإمام المؤيد بالله (ع)]
وقال الإمام المؤيد أحمد بن الحسين الهاروني عليه السلام: والخلاف شائع بين آل الرسول -عليه وعليهم السلام- ولذلك قال الناصر عليه السلام في (الألفاظ): سألت محمد بن منصور أن يجمع اختلافات أهل البيت عليهم السلام، وثبوت الخلاف لا يمنع من الموالاة واتباع بعضهم لبعض كما ظهر عن السلف الأمر في ذلك.
وحكى محمد بن منصور، أن القاسم وأحمد بن عيسى وعبدالله بن موسى والحسن بن يحيى اجتمعوا في بيته (بالكوفة) وبايعوا للقاسم عليه السلام مع ظهور الخلاف بينهم، ومع رواياته عنهم الاختلافات الكثيرة، ولم يمنعهم ذلك من متابعة القاسم عليه السلام ومبايعتهم له.
وما يُحكى عن بعضهم من التشدد في القول الذي اختاره فإنه يتأول ولا يسوغ إلا ذلك؛ لأن بإزائه من هو مثله في فضله وبراعته يختار خلاف قوله ويقول هو حق، ولا معتبر بما يُؤخذ عن البعض من القول الشديد في ذلك.
وقال: فإن قيل إن محمد بن علي وزيد بن علي عليهم السلام أخذا العلم عن أبيهما، فكيف وقع الخلاف بينهما؟
قال عليه السلام: قلنا: الاختلاف الذي ترويه الإمامية عن محمد فإن روايتهم عندنا ضعيفة، وما ترويه الزيدية عن زيد وغيره هو الصحيح.
حتى قال: والرواة الذين يروون عن الناصر للحق والقاسم عليهما السلام فإنهم بحكم الشهود، فكما أن للقاضي ألاَّ يقبل ولا يحكم بشهادة من لا تثبت عدالته عنده، وإن كان قاضي آخر له أن يحكم بشهادته إذا علم عدالته، فكذلك الرواة.
قال عليه السلام: ووجه وقوع الخلاف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم روي عنه الناسخ والمنسوخ، ولم يعلم أيهما المتقدم على الآخر، واختلف الرواة في نسخه وتاريخه إن لم تكن المسألة واقعة في أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم كمسألة العول ونحوها، أو وقع لواحد فلم ينتشر الأمر فيه، فروي على وجه الآحاد، فعلم أن المصلحة في مثل هذه المسائل أن تجعل إلى اجتهاد المجتهدين، فهذا كلامه عليه السلام يشير إلى تصويب آراء المجتهدين من العترة المطهرين وأهل البيت الأئمة الهادين.
وقوله: وما يحكى عن بعضهم من التشدد في القول الذي اختاره إلى آخره؛ فأحسب أنه أراد الناصر للحق عليه السلام.
دليله: قوله، لأن بإزائه من هو مثله في فضله وبراعته يختار خلاف قوله، وهو يريد بهذا نفسه عليه السلام، وهو بإزاء الناصر أي بالقرب منه بلداً وأصحاباً، والزيدية في بلاد الجيل في سهلها وجبالها أربعة مذاهب: (قاسمية) (ويحيوية) (وناصرية) (ومؤيدية)، والناصرية معهم أكثر.
ورأيت في ترجمة ذكرها بعض علماء الزيدية أن المؤيد صنف كتاباً على مذهب الناصر في الفقه سماه (الحاصر في فقه الناصر) وصنف عليه السلام في مذهب الهادي كتابه المشهور (بالتجريد) وشرحه بستة مجلدة، واختار بعد هذا مذهباً لنفسه، وكلامه يشير بأن الكل صواب، وأن من أخذ بقول من كلام أئمة العترة فهو مصيب.
وقد أشار في (كتاب البلغة) إلى أن الرجوع إلى أهل البيت أولى بقوله في أول الكتاب: وصلى الله على النبي المجتبى محمد المصطفى، وآله الطاهرين الذين جعلهم الله معادن وحيه، وحفظة علمه، ورعاة دينه.
فنبّه بكلامه هذا على أن معادن الوحي وحفظة العلم ورعاة الدين أولى بالرجوع إليهم دون غيرهم، يعرف هذا من تدبر الكلام وعلم مفهوم الخطاب، والله الهادي إلى الصواب.
[كلام الإمام المنصور بالله(ع)]
وقال الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة بن سليمان عليه السلام في (الرسالة الناصحة) وقد ذكر حديث السفينة فقال: ومن (مناقب الفقيه ابن المغازلي) رفعه إلى أبي ذر الغفاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنما مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق)) .
قال عليه السلام: (وهذا الخبر مما تلقته الأمة بالقبول فصح أن يحتج به، وإذ قد علمنا أن أمة نوح كلها هلكت إلا من ركب السفينة فكذلك هذه الأمة تهلك إلا [من] تمسك بالعترة، وجب على الأمة الرجوع إليهم، فإذا لم يمكن الرجوع إليهم عموماً وقع الرجوع إلى الصالح، ولا بد للصالحين من إمام يكون هو المفزع وإليه المرجع، والكل كالمضاف إليهم) فهذا كلامه عليه السلام مصرح بوجوب الرجوع إلى العترة.
وقال عليه السلام وقد أورد جملة من الأخبار النبوية الواردة في فضل العترة الطاهرة، حتى قال في آخر ما أورده من الأخبار: ومن (كتاب ابن المغازلي) رويناه عنه ورفعه بإسناده إلى علي بن أبي طالب عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يا علي إن شيعتنا يخرجون [من قبورهم] يوم القيامة على ما بهم من العيوب والذنوب ووجوههم كالقمر ليلة البدر، وقد فُرّجت عنهم الشدائد، وسُهّلت لهم الموارد، وأعطوا الأمن والإيمان، وارتفعت عنهم الأحزان، يخاف الناس ولا يخافون ، ويحزن الناس ولا يحزنون، شرك نعالهم يلألئ نوراً، على نوقٍ بيض لها أجنحة، قد ذللت من غير مهانة، ونَجُبت من غير رياضة، أعناقها من ذهب أحمر، ألين من الحرير؛ لكرامتهم على الله عز وجل)).
قال عليه السلام: هذا في فضل أهل البيت عليهم السلام وفضل شيعتهم، ووجوب اتباعهم، وفوز تابعهم بما لا يختص به غيره.
قال عليه السلام: ولو روينا ما روته الشيعة في ذلك بأسانيدها لطال الشرح، ولكنا نريد الوفاق بما شرطناه في أول الكتاب.
أراد عليه السلام أنه التزم في هذه الرسالة ألا يذكر من الأخبار النبوية الواردة في فضل العترة المرضية إلا ما رواه أهل العلم من رواة كتب الصحاح وفقهاء الأمة، كما ذكرناه فيما تقدم.
قال عليه السلام: وهل بعد هذا رحمكم الله من مطلب، وهل بعد وضوح المنهاج من مذهب، وإذا تقررت المحبة وظهرت، واستقرت الأدلة واشتهرت، فكيف المذهب وإلى أين المهرب، وهل تصح طاعة بغير ائتمار؟ وهل تثبت مودة مع معصية؟ قال الشاعر: [الكامل]
تعصي الإله وأنت تأمل حبه .... هذا محال في المقال بديعُ
هيهات لو أحببته لأطعته .... إن المحب لمن يحب مطيعُ
كيف يصح دعوى ولاية آل محمد ومودتهم مع بغضهم، والنفير عنهم وعن طاعتهم، وترك الاعتماد على قولهم ، وما قولكم فيمن استخان دليله ، وشتم هاديه، ونابذ مرشده، ونازع نصيْحَه؛ فنعوذ بالله من ضرر الفتنة، وفضوح المحنة، ومكابرة الدليل، ومعاصاة النصيح، ومخالفة الحبيب، وموالاة المضل.
قال عليه السلام: إذا تقرر وجوب التمسك بهم تصريحاً وتمثيلاً لقرنه لهم بالكتاب الكريم، كما أن الكتاب واجب الاتباع فكذلك هم، وأمّننا الصادق مع ذلك من الضلال بشرط التمسك بهم، وذكرهم بلفظ (لن) وهي لنفي الأبد فلا خوف مع ذلك، وجعلهم بمنزلة سفينة نوح، ومعلوم أنها العاصمة من القاصمة ، وأخبرنا بتطهيرهم وهو لا يخبر إلا بالحق، وأيد لنا ذلك رسوله بأنهم المرادون، وأُوجبت عليهم محبتهم في كتابه الكريم في آل حم، وفسره لنا وبينه برفع الالتباس لأن لا يقع عندنا أن المراد غيرهم، وبين لنا أنهم عترته وأهل بيته، ومنع من شاركهم في الإيمان أن يدخل معهم وبشره بالخير الصادق لسابق فضله.
فإن كان التقليد مخلصاً فَلِمَ لا نقلدهم أمرنا؟ وإن كان الدليل متبعاً فَلِمَ لا يقبل الدليل فيهم؟ وإذا كان ذلك كذلك فكيف نحسن الظن في معاديهم؟ وقد ثبت بما قدمنا عداوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاديهم، وولايته لمواليهم، وحربه لمن حاربهم، وسلمه لمن سالمهم.
إلى كلام طويل حذفناه، والقصد الإشارة من كلامه عليه السلام إلى ما ذكرناه من وجوب متابعة أهل البيت عليهم السلام، وتقليدهم فيما يسوغ فيه التقليد، وعدم الميل عنهم إما لأنه محظور لأنه خروج عن السفينة، أو مكروه لأنهم بالمتابعة أولى وبالرجوع إليهم أحق وأحرى.
وإذ قد نجز كلام هؤلاء الأئمة الطاهرين، وقد تركنا ما عداه من كلامات باقي الأئمة المعتبرين ملاحظة للاختصار، ولأن هؤلاء الأئمة الذين عليهم في التقليد المدار في سائر الأعصار.
ونعود إلى تمام الكلام في الفصل الرابع كما وعدنا به من قبل؛ فنقول:
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الرابع: [تاريخ أئمة العترة النبوية (ع) وأخبارهم]
وأما الفصل الرابع:
وهو في ذكر طرف من أخبار أئمة العترة النبوية، والتنبيه على علمهم وزهدهم وورعهم وجهادهم ، وما خصهم الله من فضيلة الجهاد ، ومباينة الظالمين، ومعاداة الفسقة العمين، وما إذا وقف عليه المنصف من نفسه بترك المكابرة؛ عرف أنهم سادة هذه الأمة وقادتها وأئمتها وأزمتها، وقد أحسن من قال: [الطويل]
سيُدْعى الورى يومَ اللقا بالأَئِمة .... ويَقْتَادُهم مُقْتَادُهم بالأَزِمَّةِ
ولسنا نبسط القول في هذا الفصل بسطاً، وإنما نختار من ذلك وسطاً، ونبدأ بالإمام الولي زيد بن علي بن الحسين بن علي سلام الله عليهم ما اعتقب الوسمي والولي:
اعلم أن الزيدية تميّز على سائر الفرق الإسلامية بانتسابها إلى أئمة الهدى ومصابيح الدجا، وليس لأحدٍ من فرق الإسلام مثل أئمة الزيدية، وهم يدينون ويعتقدون أن الإمامة بعد أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام ثابتة فيمن قام ودعا من ولد فاطمة عليها السلام، وهو جامع لخصال الإمامة من العلم والورع والفضل والسخاء والشجاعة والقوة على تدبير الأمر، فمن اجتمعت فيه هذه الخصال بكمالها ثم دعا، ولم يكن في زمانه إمام قد تقدمت دعوته على دعوته فإنه حينئذ يكون إماماً تجب طاعته فيما يلزم المأمومين إتباع الأئمة فيه.
وقد اجتمعت هذه الخصال بعد الحسين بن علي عليهما السلام في سبطه زيد بن علي، ثم في ابنه يحيى بن زيد، ثم في النفس الزكية محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، ثم في أخيه الإمام الرضي أبو الحسن إبراهيم بن عبدالله، ثم في الإمام السخي الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن المعروف بـ(الفخي)، قتل بشعب قريب من (مكة) يسمى الفخ.
ثم في الإمام الزكي يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن أخو محمد بن عبدالله النفس الزكية، ثم في الإمام الفاضل محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن، ثم في أخيه الإمام التقي القاسم بن إبراهيم.
ثم في سبطه الإمام الكامل الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم، ثم في إبنه الإمام العالم المرتضى محمد بن يحيى، ثم في أخيه الإمام الطاهر الناصر أحمد بن يحيى، ثم في الإمام الجامع لخصال الفضل الناصر للحق الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (صاحب الديلم) وهو المعروف بالأطروش لثقل كان في سمعه.
ثم في الإمام المهدي لدين الله أبي عبدالله محمد بن الحسن المعروف بالداعي، ثم في الإمام السيد أبي الحسين المؤيد بالله أحمد بن الحسين بن هارون بن الحسين بن محمد بن هارون بن محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ثم في أخيه الإمام السيد الناطق بالحق أبي طالب يحيى بن الحسين.
ثم في الإمام المتوكل أحمد بن سليمان بن الهادي عليهم السلام، ثم في الإمام أبي محمد المنصور بالله عبدالله بن حمزة بن سليمان.
هؤلاء عيون أئمة الزيدية الذين ذكرهم الإمام المنصور بالله عليه السلام في (كتاب الشافي) ووصفهم بالأوصاف العظيمة من العلم والفضل والورع والسخاء والشجاعة والقوة على تدبير الأمر، وذكر بإزائهم من عارضهم من الأموية والعباسية، وذكر عليه السلام جملاً من أوصاف علومهم، وطرائف أخبارهم، ومحاسن آثارهم لا يتسع لها هذا المختصر؛ ونذكر هنا لمعةً من ضوء ذلك السراج الوهاج، وغرفة من خليج ذلك البحر العجّاج.
[وجوه اختصاص الزيدية بالانتساب إلى أمير المؤمنين(ع)]
فأما أمير المؤمنين عليه السلام ففضله وقيامه ووجوب إمامته وتمييزه على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أشهر من أن يذكر، وأعظم من أن ينظم، وقد أحسن المتنبي حيث قال فيه عليه السلام: [الكامل]
وتركتُ مدحي للوصي تعمداً .... إذ كان نُوراً مُسْتَطِيلاً شاملا
وإذا استطال الشيء قام بذاته .... وكذا صفات الشمس تَذْهَبُ باطلا
وعلي عليه السلام وإن كان لجميع المسلمين سيداً، ولأهل ملة الإسلام ركناً وسنداً؛ فالزيدية تختص بالانتساب إليه عليه السلام لوجوه:
أما أولها: فلأنها تعتقد أنه الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من دون فصل، وسائر الفرق ما خلا الإمامية لا يقولون بهذه المقالة.
وثانيها: أنهم معروفون بمحبته، وموصوفون بالتدين بمودته، ولهم من الغرام به والتمسك بسببه ما ليس لغيرهم من سائر الفرق؛ ولهذا تجد اسم (علي) في الزيدية كثيراً وقليلاً في غيرهم، ليس ذلك إلاّ لولوعهم بمحبة أمير المؤمنين عليه السلام.
وثالثها: أنهم ينسبون في أصول الدين إلى أمير المؤمنين عليه السلام، ولا يشاركهم في هذه الفضيلة إلا المعتزلة فإنهم يعزون في أصول دينهم وأساس قواعد عقائدهم إلى أمير المؤمنين كرم الله وجهه.
ورابعها: أنهم ينتسبون أيضاً إلى أمير المؤمنين عليه السلام في فروع الدين وأبواب الفقه وأمور الشريعة؛ لأنهم يروون الحديث المشهور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأت الباب)) فَأَتَوا المدينة من بابها، وتمسكوا من سفينة النجاة بأسبابها.
وخامسها: أن أئمتهم وهداتهم وقادتهم وسادتهم أبناؤه السابقون، وأولاده الطاهرون؛ فهم بينه وبينهم وسائط في عقائدهم الدينية ومذاهبهم الشرعية، فهم كالأدلة لشيعتهم إلى طريق نجاتهم، وباب حطتهم ومدينتهم.
فمن هاهنا كان أمير المؤمنين عليه السلام إماماً للزيدية خاصة، وهم شيعته وأتباعه والمرادون بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((يدخل الجنة سبعون ألفاً بغير حساب)) ثم التفت إلى علي عليه السلام وقال: ((هم شيعتك وأنت إمامهم)) .
وقال صلى الله عليه وآله وسلم وقد أخذ بيد الحسن والحسين: ((من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة)) ، قال الحافظ محمد بن يوسف الكنجي، قال: أُخبرت عن الشافعي رضي الله عنه بسند يطول ذكره قال: هذا سند لو قرئ على مصروع لأفاق.
وروى [رحمه الله] عن أبي ذر الغفاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ترد علي الحوض راية علي بن أبي طالب أمير المؤمنين وإمام الغر المحجلين فأقوم فآخذ بيده فيبيض وجهه ووجوه أصحابه وأقول: ما خلفتموني في الثقلين بعدي فيقولون: تبعنا الأكبر وصدقناه، ووازرنا الأصغر ونصرناه وقاتلنا معه؛ فأقول: رِدُوا رواء مرويين، فيشربون شربة لا يظمأون بعدها، وجه إمامهم كالشمس الطالعة، ووجوههم كالقمر ليلة البدر أو كأضوأ نجم في السماء)).
قلت: هذا الحديث شاهد للزيدية بأنهم هم المرادون به دون من عداهم من الأمة لأنهم الذين جمعوا هذه الصفات؛ تبعوا القرآن وصدقوه وهو الأكبر من الثقلين، ووازروا الأصغر منهما وهم العترة النبوية ونصروهم وقاتلوا معهم؛ ولم يجمع هذه الصفات أحد إلا الزيدية لأنهم شيعة العترة الهادية المهدية، والمعروفون بنصرتهم والمقاتلون معهم، والمقتولون بين أيديهم؛ فهذا الخبر بشارة لهم ونذارة لمن أبغض أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فانظر يا طالب النجاة لنفسك، ومهد لها قبل نزول رمسك؛ مَنْ المتبع لأهل البيت عليهم السلام من فرق الإسلام، الزيدية أو غيرهم؟ فإن كان المتبع لهم هم الزيدية فاحكم لهم بأنهم المخصوصون بهذه البشارة ، وإن كان المتبع لأهل البيت غيرهم فاحكم على من شئت بهذه النذارة.
وكل متبع للحق سالك منهج الإنصاف يعرف أن الزيدية هم شيعة أمير المؤمنين كرم الله وجهه، وقد قدمنا الوجوه الخمسة التي بها يعتزون إليه -سلام الله عليه-.
[الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (أبو محمد)]
(3- 50هـ/ 624-670م)
وأما ابناه الحسن والحسين عليهما السلام فإمامتهما بالحق مشهورة، ودعوتهما للخلق مأثورة؛ أما الحسن عليه السلام فإنه دعا بعد أبيه كرم الله وجهه، وتجهز لحرب معاوية وشهر سيف الجهاد، وأبرز نفسه لقتال أهل البغي والفساد، وقام في وجهه معاوية ابن آكلة الأكباد، وألَّبَ لحرب ابن رسول الله الحاضر والباد.
واتبع الناس الدنيا ورفضوا الآخرة، وباعوا هذه بهذه، فزايل الأكثر مراكز الهدى والإيمان، ومالوا إلى جانب الضلالة والطغيان، وراقتهم العاجلة فآثروها على الآجلة، وكانت الدنيا قد استتبت لمعاوية وانتظمت بعد وفاة أمير المؤمنين كرم الله وجهه، فلما رأى الحسن عليه السلام تخاذل أصحابه ، وتقاعد الناس عن نصرته، ورأى عليه السلام أنه إن استمر على القيام والجهاد ومنابذة العدو بالجد والاجتهاد وليس له ناصر بعد الله إلا نفر من أهل بيته وجماعة قليلة من شيعته؛ أدى ذلك إلى إلقائه بنفسه وأصحابه إلى التهلكة، ورميه بنفسه ومن معه في الهلكة، فرأى المصالحة أجدر، والمسالمة أسلم، ولزوم بيته ألزم من تعرضه لما لا يطيقه، وإهداره لدمه يريقه، فصالح وفي العين قذى وفي الحلق شجى، يرى تراثه كما قال أبوه عليه السلام نهباً؛ فعاش مغصوصاً مهموماً، ومات منقوصاً مسموماً.
وأما ما تهذي به الحشوية من أنه عليه السلام خلع نفسه من الإمامة وسلمها لمعاوية، فهذا لجهلهم بالآثار، وتعطلهم عن مودة آل النبي المختار؛ كيف يختلع عن إمامته مع قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا وأبوهما خير منهما)) ، وهذا يقتضي أنهما لا يخرجان عن الإمامة بحال من الأحوال.
فالحسن عليه السلام لم يزل إماماً، وشيعته وأهل مذهبه يعتقدون ذلك فيه في حياته وبعد وفاته، وأصل افتراق الأمة من ذلك الزمن حين اضطر إلى صلح معاوية الحسن؛ فالحشوية ومن يقول بمقالتها من الجبرية سموا ذلك العام عام الجماعة، وسموا سب أمير المؤمنين عليه السلام السنة، فإن سبه عليه السلام استمر على فروع المنابر من زمن معاوية –لعنه الله- إلى زمن عمر بن عبد العزيز وأمر بقطعه؛ فلما قطعه ووصل الخطيب إلى موضع سبه فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(90)} [النحل] ، قالوا: السنة السنة؛ فقال عمر: بل البدعة البدعة، واستمرت هذه التسمية إلى يومنا هذا.
قال الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة عليه السلام: هذه التسمية التي يتسمى بها أهل الحشو والجبر إنما هي جماعة معاوية –لعنه الله- وسنته؛ فأما جماعة الرحمة وسنة المؤيد بالعصمة فهم براء منها، والزيدية أهلها وفيهم أصلها لأنهم شيعة العترة الرضية، والمقتفون لآثارهم الصالحة المرضية.
فإذا أردت تعرف صحة هذا الكلام؛ فاعرض هذه المقالة على أهل المذاهب الخارجة عن مذهب الزيدية تجدهم يقولون بصحة إمامة معاوية، ويتولونه ويترضون عنه ويحبونه، ويجللونه ويعظمونه ، ويطلقون على أمير المؤمنين الحسن بن علي عليهما السلام أنه صالح معاوية، وسلم له الإمامة وخرج عنها وأبطل حقه منها؛ هذا مذهبهم إلا القليل النادر والشاذ الشارد.
فمن كان يقول هذه المقالة هل يُعد من شيعة الحسن عليه السلام، حاشا وكلا، والموفون بعهد الله فيه، الحافظون لما ورد عن رسول الله فيه وفي أخيه وأبيه ينكرون هذه المقالة أشد الإنكار، ويتألمون لهم مما نالهم بالعشي والابكار، وهؤلاء هم شيعتهم المخلصون وأصحابهم الخالصون، وهذه هي صفة الزيدية وحليتهم وطريقتهم وخليقتهم.
ومن أحب الحسن أحب علياً، ومن أحب علياً أحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما ورد في ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أبي برزة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله عهد إليّ عهداً في علي فقلت: يا رب بينه فقال: اسمع؛ فقلت: سمعت فقال: إن علياً راية الهدى وإمام الأولياء ونور من أطاعني، وهو الكلمة التي ألزمتها المتقين من أحبه أحبني ومن أبغضه أبغضني فبشره بذلك؛ فجاء علي فبشرته)).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم في أمير المؤمنين: ((لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق)) ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((أوصي من آمن بي وصدق بي بولاية علي بن أبي طالب عليه السلام من تولاه فقد تولاني ومن تولاني فقد تولى الله عز وجل)) ، ذكر هذه الأحاديث الحافظ الكنجي رحمه الله في كتاب الكفاية، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد رأى صلى الله عليه وآله وسلم الحسن: ((اللهم إني أحبّه وأحبّ أخاه، فأحبّهما وأحبّ من يحبّهما)) .
فالمنصف يعرف من نفسه محبّة الحسن؛ فإن كان يحبه فقد دخل في دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ذكرنا آنفاً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيد الحسن والحسين فقال: ((من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة)) ، فمن أحبّ الحسن والحسين وعلياً وفاطمة عليهم السلام فقد فاز، وكان حرياً من أمير المؤمنين بالجواز، وقد أحسن من قال: [السريع]
بالخمسة الغرّ من قريش .... وسادس القوم جبرئيلُ
بحبهم ربّ فاعف عني .... فحسن ظني بك الجميلُ
والمعلوم أن هذه السمة سمة الزيدية دون غيرهم من أهل الملة الأحمدية، والنحلة المحمديّة.
[الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، (أبو عبدالله)]
(4-61هـ/ 625-680م)
وأما الحسين عليه السلام فإنه دعا بعد موت معاوية واستيلاء يزيد على الأمر، وبَعْثِه إلى المدينة من يأخذ له البيعة من الحسين بن علي عليهما السلام، فخرج إلى الكوفة في جماعة من أهل بيته بعد أن بلغت إليه كتب (أهل الكوفة) وكانوا شيعة أبيه وخلصانه.
فخرج إليهم الحسين وقام مجداً في حرب عدو الله ابن عدوه يزيد بن معاوية -لعنهم الله- حين تظهر بارتكاب الفجور وشرب الخمور.
فلما صار بكربلاء جهز إليه يزيد عبيدالله بن زياد -لعنه الله-، وأمر عبيدالله عمرو بن سعد بن أبي وقاص في جحفل جرار فأحاطوا بالحسين ومن معه، فقاتلهم بمن معه حتى قتلوه في أهل بيته، ولم يبق من أهل بيته إلا الأقل وقصتهم معروفة، وأخبارهم في غير هذا المكان مكشوفة، وإنما نذكر فضل الزيدية بانتسابهم إلى أئمة العترة الطاهرة المرضية.
وإذا أردت تعرف صحة ما ذكرنا فطالع كتب تواريخ الزيدية وأخبارهم تجدهم قاطبة يعظمون الحسين عليه السلام وينسبون إليه، ويذكرون مقتله ويبكون عليه، وغيرهم من سائر الفرق لا يذكرونه كذكرهم، ولا يجدون لمصرعه كوجدهم، والعاقل يعرف هذا من نفسه فلا يحوجنا إلى بسط كلام.
فمن الأحق بالانتساب إلى الحسين عليه السلام، مَنْ يعده له إماماً أم من لا يعده له إماماً ؟ طالع كتب الشافعية والمالكية والحنفية والحنبلية لا يعدون أحداً من أئمة العترة لهم إماماً لا من تقدم منهم ولا من تأخر، وإن ذكروا فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- ذكروه مجرداً عن اعتقاد إمامة أحد منهم من الأوائل والأواخر.
فصح بما قلناه أن الزيدية هم أتباع العترة دون مَنْ سواهم مِنْ هذه الأمة، وإنما لم نذكر علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام لأنه لم يدع إلى نفسه ويتجرد لمنابذة الظالمين، وحرب الفسقة المجرمين؛ والزيدية إنما تعد الإمام من أهل البيت عليهم السلام من جمع شروط الإمامة ، وخرج داعياً إلى الله مقاتلاً لأعداء الله، ومن أغلق عليه منهم بابه وأرخى حجابه لم يسموه إماماً، وإن كان في الفضل والعلم والزهد إماماً يقتدى به في الصلاح فإنه عندهم ليس بمفترض الطاعة.
ومن هذا القبيل كثير من أهل البيت وعلمائهم وفضلائهم؛ ومن لو ذكرناه لطال مساق الحديث في القديم من الزمان والحديث.
[الإمام الشهيد زيد بن علي بن الحسين (ع)]
(75- 122هـ / 694- 740م)
وأما زيد بن علي عليه السلام:
ففضله في العلم والدين، وكمال الخصال المحمودة والصفات الممدوحة مشهور بين العلماء، وفيه أحاديث ترويها الزيدية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد صنف علماؤنا -رضي الله عنهم- كتباً لأخباره، ومحاسن آثاره، وتبريزه في العلم على أهل زمانه، كان يشبه بأمير المؤمنين عليه السلام في الفصاحة والبلاغة والبراعة، ويعرف في المدينة (بحليف القرآن).
قال خالد بن صفوان: (انتهت الفصاحة والخطابة والزهادة والعبادة من بني هاشم إلى زيد بن علي).
[الآثار الواردة في الإمام زيد عَلَيْه السَّلام]
وقد وردت فيه آثار كثيرة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالإسناد الموثوق به إلى أمير المؤمنين قال: لما أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتل الحسين بن علي وصلب [ابنه] زيد بن علي [عليهم السلام] قلت: يا رسول الله أترضى أن يقتل ولدك؟ قال: ((يا علي ارضى بحكم الله فيّ وفي ولدي، ولي دعوتان أما أحدهما فاليوم، وأما الثانية فإذا عرضوا على الله عز وجل وعرضت عليّ أعمالهم، ثم رفع يديه إلى السماء وقال: يا علي أمِّن على دعائي؛ اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، وسلط بعضهم على بعض، وامنعهم الشرب من حوضي ومرافقتي قال: فأتى جبريل وأنا أدعو عليهم وأنت تؤمِّن [على دعائي]؛ فقال: قد أجيبت دعوتكما)).
وبالإسناد إلى يحيى بن ميمون يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يصلب رجل من أهل بيتي بالكوفة عريان لا ينظر الله إلى أحد نظر إلى عورته متعمداً إلا أعماه الله عز وجل يوم القيامة)) .
وبالإسناد إلى أبي ذر الغفاري، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يبكي فبكيت لبكائه فقلت: فداك أبي وأمي قد قطعت أنياط قلبي ببكائك؛ قال: ((لا قطع الله أنياط قلبك يا أبا ذر، إن ابني الحسين يولد له ابن يسمى علياً أخبرني حبيبي جبريل أنه يعرف في السماء بأنه سيد العابدين، وأنه يولد له ابن يقال له زيد، وأن شيعة زيد هم فرسان الله في الأرض وأن فرسان الله في السماء الملائكة، وأن الخلق يوم القيامة يحاسبون، وأن شيعة زيد في أرض بيضاء كالفضة –أو كلون الفضة- يأكلون ويشربون ويتمتعون ويقول بعضهم لبعض: امضوا إلى مولاكم أمير المؤمنين حتى ننظر إليه كيف يسقي شيعته، فيركبون على نجائب من الياقوت والزبرجد مكللة بالجوهر أزمتها اللؤلؤ الرطب، رحالها من السندس والاستبرق؛ قال: فبينا هم يركبون إذ يقول بعضهم لبعض: والله إنا لنرى أقواماً ما كانوا معنا في المعركة؛ قال: فيسمع زيد عليه السلام فيقول: والله لقد شاركوكم هؤلاء فيما كنتم من الدنيا كما شارك أقوام أتوا من بعد وقعة صفين، وإنهم لإخوانكم اليوم وشركاؤكم)).
وروينا بالإسناد الموثوق به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((خير الأولين والآخرين المقتول في الله المصلوب من أمتي المظلوم من أهل بيتي سَمِيُّ هذا؛ ثم ضم زيد بن حارثة إليه ثم قال: يا زيد لقد زادك اسمك عندي حباً سَمِيُّ الحبيب من أهل بيتي)).
وروينا عن أنس عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يقتل رجل من ولدي يدعى زيد بموضع يعرف بالكناسة يدعو إلى الحق يتبعه عليه كل مؤمن)) .
وروينا عن حبة العرني قال: كنت مع أمير المؤمنين عليه السلام أنا والأصبغ بن نباتة في الكناسة في موضع الجزارين والمسجد والخياطين وهي يومئذ صحراء، فما زال يلتفت إلى ذلك الموضع ويبكي بكاء شديداً ويقول: (بأبي وأمي) فقال له الأصبغ بن نباتة: يا أمير المؤمنين، لقد بكيت والتفت حتى بكت قلوبنا وأعيننا، والتفتُّ فلم أر أحداً.
قال عليه السلام: حدثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إنه يولد لي مولود ما وُلِدَ أبوه بعد يلقى الله غضباناً وراضياً له على الحق، حقاً على دين جبريل وميكائيل ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإنه يُمَثّلُ به في هذا الموضع مثالاً ما مُثِلَ به أحد قبله، ولا يمثل بأحد بعده صلوات الله على روحه وعلى الأرواح التي تتوفى معه)) .
وروينا عن ابن عباس قال: بينما علي عليه السلام بين أصحابه إذ بكى بكاء شديداً حتى لثقت لحيته فقال له الحسين: يا أبه مالك تبكي؟ فقال: يا بني لأمور خفيت عليك أنبأني بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: وما أنبأك به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: يا بني لولا أنك سألتني ما أخبرتك لئلا تحزن ويطول همك، أنبأني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فذكر حديثاً طويلاً.
ثم قال لي: ((يا علي كيف أنت إذا وليها الأحول الذميم الكافر اللئيم، فيخرج عليه خير أهل الأرض من طولها والعرض؟)) قلت: يا رسول الله من هو؟ قال: ((يا علي رجل أيده الله بالإيمان، وألبسه قميص البر والإحسان، فيخرج في عصابة يدعون إلى الرحمن، ثم يصلبه على جذع رمان، ثم يحرقه بالنيران، ثم يضربه بالعسبان، حتى يكون رماداً كرماد النيران، ثم يصير إلى الله عز وجل روحه وأرواح شيعته إلى الجنان)).
وروينا بالإسناد إلى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن الحسين بن علي عليهم السلام: أن علياً عليه السلام خطب خطبة على منبر الكوفة فذكر أشياء وفتناً، حتى ذكر أنه يملك هشام حتى قال: (مالي ولهشام جبار عنيد قاتل ولدي الطيب المطيب، لا تأخذه رأفة ولا رحمة، يصلب ولدي بالكناسة بالكوفة، زيد في الذروة الكبرى من الدرجات العلى؛ فإن يقتل زيد فعلى سنة أبيه، ثم الوليد فرعون خبيث شقي غير سعيد، يا له من مخلوع قتيل ، فاسقها وليد، وكافرها يزيد، وطاغوتها أزيرق، متقدمها ابن آكلة الأكباد، ذره يأكل ويتمتع ويلهه الأمل، فسوف يعلم غداً من الكذاب الأشر).
وروينا عن أمير المؤمنين أنه قال: (يخرج مني بظهر الكوفة رجل يقال له زيد في أبهة سلطان –والأبهة الملك- لم يسبقه الأولون ولا يدركه الآخرون إلا من عمل بمثل عمله، يخرج يوم القيامة هو وأصحابه معهم الطوامير [أو شبه الطوامير] ثم يتخطوا أعناق الخلائق؛ قال: فتلقاهم الملائكة فيقولون: هؤلاء خلف الخلف ودعاة الحق، ويستقبلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: قد عملتم بما أمرتم ادخلوا الجنة بغير حساب).
وروينا عن أمير المؤمنين أنه قال: (الشهيد من ذريتي والقائم بالحق من ولدي المصلوب بكناسة كوفان إمام المجاهدين، وقائد الغر المحجلين، يأتي يوم القيامة هو وأصحابه تتلقاهم الملائكة المقربون ينادونهم ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون).
وروينا بالإسناد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أريت في منامي رجلاً من أهل بيتي دعا إلى الله وعمل صالحاً، غيَّر المنكر وأنكر الجور فقُتِل فعلى قاتله لعنة الله)) وفي الخبر الآخر: ((فعلى صالبه لعنة الله)) .
[طرف من أخباره عَلَيْه السَّلام]
[خبر أبي غسان الأزدي]
وروينا عن أبي غسان الأزدي قال: قدم علينا زيد بن علي إلى الشام أيام هشام بن عبد الملك فما رأيت رجلاً كان أعلم بكتاب الله منه، ولقد حبسه هشام خمسة أشهر يقص علينا ونحن معه في الحبس بتفسير الحمد وسورة البقرة يهذّ ذلك هذّاً.
وذكر الكتاب قال فيه: (واعلموا رحمكم الله أن القرآن والعمل به يهدي للتي هي أقوم، لأن الله شرفه وكرمه، ورفعه وعظمه، وسماه روحاً ورحمة وشفاء وهدىً ونوراً، وقطع منه بمعجز التأليف أطماع الكائدين، وإبانة تعجيب النظم عن حيل المكلفين، وجعله متلواً لا يُمَل ، ومسموعاً لا تمجه الآذان، وغضاً لا يخلق عن كثرة الرد، وعجيباً لا تنقضي عجائبه، ومفيداً لا تنفد فوائده، والقرآن على أربعة أوجه: حلال وحرام لا يسع الناس جهله ، وتفسير يعلمه العلماء ، وعربية يعرفها العرب، وتأويل لا يعلمه إلا الله وهو ما يكون مما لم يكن، واعلموا رحمكم الله أن للقرآن ظهراً وبطناً وحداً ومطلعاً، فظهره تنزيله، وبطنه تأويله، وحده فرائضه وأحكامه، ومطلعه ثوابه وعقابه).
[سؤال الإمام عن كتاب أبيه]
وروينا بالإسناد الموثوق به: أن زيد بن علي سأل أخاه محمد بن علي الباقر عليهم السلام كتاباً كان لأبيه قال: فقال له محمد بن علي: نعم؛ ثم نسي فلم يبعث به إليه فمكث سنة، ثم ذكر فلقي زيداً فقال: إي أخي ألم تسأل كتاب أبيك؟ قال: بلى، قال: فوالله ما منعني أن أبعث به إلا النسيان.
قال: فقال له زيد: قد استغنيت عنه، قال: تستغني عن كتاب أبيك؟ قال: نعم استغنيت عنه بكتاب الله؛ قال: فأسألك عما فيه؟ قال: نعم.
قال: فبعث محمد إلى الكتاب، ثم أقبل يسأله عن حرف حرف، وأقبل زيد يجيبه حتى فرغ من آخر الكتاب؛ فقال له محمد: والله ما خرمت منه حرفاً واحداً.
وروينا بالإسناد إلى بشر بن عبدالله قال: صحبت علي بن الحسين، وأبا جعفر، وزيد بن علي، وعبدالله بن الحسن، وجعفر بن محمد فما رأيت أحداً كان أحضر جواباً من زيد بن علي عليهم السلام.
وروينا عن سعيد بن خيثم قال: كان زيد بن علي إذا كلمه الرجل أو ناظره لم يعجله عن كلامه حتى يأتي على آخره، ثم يرجع إليه فيجيبه عن كلمة كلمة حتى يستوفي عليه الحجة.
[خبر أبي السدير]
وروينا عن أبي السدير، قال: دخلنا على أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام فأصبنا منه خلوة، فقلنا : اليوم نسأله عن حوائجنا ما نريد ، فبينا نحن كذلك إذ دخل زيد بن علي، وقد لَثِقَت عليه ثيابه، فقال له أبو جعفر: بنفسي أنت ادخل فأفض عليك من الماء ثم أخرج إلينا قال: فخرج إلينا متفضلاً، [قال الشريف] أي متبدّلاً، فأقبل أبو جعفر يسأله وأقبل زيد يخبره بما يُحتجُّ عليه، والذي يحتج به، قال: فنظروا إلى وجه أبي جعفر يتهلل.
ثم قال: التفت إلينا أبو جعفر فقال: (يا أبا السدير هذا والله سيد بني هاشم إن دعاكم فأجيبوه وإن استنصركم فانصروه).
[خبر أبي حمزة الثمالي]
وروى أبو حمزة الثمالي قال: جمعت للباقر أحاديث كثيرة ثم خرجت إلى مكة فأتيته بمنى، وقلت له: جمعت لك أحاديث كثيرة أحببت أن أعرضها عليك، فقال أخرجها فأخرجتها فنظر فيها ثم قال: أرى معك أحاديث كثيرة لا يقوم بها إلا (صاحب الفسطاط) فأشار بيده فقلت: ومن هو؟ قال: زيد بن علي، فقمت إليه وسلمت عليه ثم قلت معي أحاديث أحب أن أعرضها عليك ، قال : فجعل يجيبني حتى أتيت على آخرها، ثم جعل يحدثني من قبله.
ثم دعاني محمد بن علي فقال: ما رأيت زيد بن علي؟ فقال: ما رأيت في فتيان العرب مثله؛ فقال: يا أبا حمزة ليس فينا من يشبه هذا الذي ترى.
[خطبته(ع) عند ظهوره]
وبالإسناد الموثوق به إلى أبي الجارود أن زيد بن علي عليهما السلام خطب أصحابه حين ظهر فقال: الحمد لله الذي منّ علينا بالبصيرة، وجعل لنا قلوباً عاقلة، وأسماعاً واعية، وقد أفلح من جعل الخير شعاره، والحق دثاره، وصلى على خير خلقه الذي جاء بالصدق من عند ربه وصدق به، الصادق محمد صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين من عترته وأسرته، والمنتجبين من أهل بيته، وأهل ولايته.
حتى قال في خطبته: أنا اليوم أتكلم وتسمعون ولا تبصرون، وغداً بين أظهركم هامة فتندمون، ولكن الله ينصرني إذا ردني إليه، وهو الحاكم بيننا وبين قومنا بالحق، فمن سمع دعوتنا هذه الجامعة غير المفرقة، العادلة غير الجائرة، فأجاب دعوتنا وأناب إلى سبيلنا، وجاهد بنفسه نفسه ومن يليه من أهل الباطل ودعائم النفاق فله ما لنا وعليه ما علينا، ومن ردّ علينا دعوتنا وأبى أحاديثنا وأختار الدنيا الزائلة الآفلة على الآخرة الباقية فالله من أولئك براء وهو يحكم بيننا وبينهم..إلى آخر خطبته المشاكلة لخطب جده أمير المؤمنين عليه السلام.
وروى محمد بن سالم، قال: قال جعفر بن محمد: يا محمد هل شهدت عمي زيداً؟ قلت: نعم، قال: فهل رأيت مثله؟ قلت: لا، قال: والله ما أظنك ترى مثله حتى تقوم الساعة، كان والله [أقرأنا لكتاب الله ، وأفقهنا في دين الله، كان والله] سيدنا ما ترك فينا للدين والدنيا مثله.
قال الحاكم: لم يكن محمد بن علي وجعفر بن محمد مُقِرَّين بفضله خاصة بل كان جميع العترة يقدمونه على أنفسهم ويقولون بفضله، وكذلك أفاضل عصره.
قال الحاكم: كان أعلم أهل زمانه بالأصول والفروع، وعلم القرآن.
وقال عاصم بن عبيدالله: لقد أصيب عندكم رجل ما كان في زمانه مثله، وما أرى أن يكون بعده مثله.
[خبر أبي خالد الواسطي وأبي حمزة الثمالي]
وبالإسناد إلى أبي خالد الواسطي وأبي حمزة الثمالي قالا: حَبَّرنا رسالة رداً على الناس فدخلنا على محمد بن علي فقلنا له: جعلنا لك الفداء إنا حبرنا رسالة رداً على الناس فانظر إليها، قال : فاقرأوها فقرأناها فقال : لقد أجدتم واجتهدتم فهل أقرأتموها زيداً؟ قلنا: لا، قال فأقروها زيداً وانظروا ما يرد عليكم.
قال: فدخلنا على زيد فقلنا: جعلنا لك الفداء رسالة حبرناها رداً على الناس جئناك بها؛ قال: اقرأوها فقرأناها عليه حتى إذا فرغنا، قال: يا أبا حمزة وأنت يا أبا خالد لقد اجتهدتم لكن تكسر عليكم ؛ أما الحرف الأول فالرد فيه كذا ، فما زال يرددها حتى فرغ من آخرها حرفاً حرفاً؛ فوالله ما ندري من أي شيء نتعجب من حفظه لها أو من كسرها؛ ثم أعطانا جملة من الكلام نعرف به الرد على الناس.
قال: فرجعنا إلى محمد بن علي فأخبرناه ما كان من زيد، قال: يا أبا خالد وأنت يا أبا حمزة إن أبي دعا زيداً فاستقراه القرآن وسأله عن المعضلات ، فأجاب ثم دعا له وقبل بين عينيه. ثم قال: يا أبا خالد وأنت يا أبا حمزة، إن زيداً أعطي من العلم علينا بسطة.
[خبر خالد بن صفوان]
وعن خالد بن صفوان: أتينا زيد بن علي وهو يومئذ بالرصافة رصافة هشام بن عبد الملك، فدخلنا عليه في نفر من أهل الشام وعلمائهم، وجاءوا معهم برجل قد انقاد له أهل الشام في البلاغة والبُصر بالحجج، وكلمنا زيد بن علي في الجماعة، وقلنا: إن الله مع الجماعة وإن أهل الجماعة حجة الله على خلقه، وإن أهل القلة هم أهل البدعة والضلالة.
قال: فحمد اللهَ زيدُ بن علي وأثنى عليه وصلى على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ثم تكلّم بكلامٍ ما سمعتُ قرشيّاً ولا عربياً أبلغ في موعظة ولا أظهر حجة ولا أفصح لهجة منه.
قال: ثم أخرج إلينا كتاباً قاله في الجماعة والقلة، ذكره من كتاب الله فلم يذكر كثيراً إلا ذمّه ولم يذكر قليلاً إلا مدحه، والقليل في الطاعة هم أهل الجماعة، والكثير في المعصية هم أهل البدع.
قال خالد بن صفوان: فَبُلِسَ الشامي فما أحلى ولا أَمَرّ، وسكت الشاميون فما يجيبون؛ ثم قاموا من عنده فخرجوا فقالوا لصاحبهم: فعل الله بك وفعل، غررتنا وزعمت أنك لا تدع له حجة إلا كسرتها فخرست فلم تنطق؛ فقال لهم: ويلكم كيف أكلم رجلاً إنما أتى بكتاب الله، أفأستطيع أن أرد كلام الله.
فكان خالد بن صفوان يقول بعد ذلك: (ما رأيت في الدنيا رجلاً قرشياً ولا عربياً يزيد في العقل والحجج على زيد بن علي عليهما السلام).
[خبر أبي هاشم]
وروينا عن عبدالله بن محمد بن الحنفية قال: لو نزل عيسى بن مريم لأخبركم أن زيد بن علي خير من وطئ على عفر التراب، ولقد علم زيد بن علي القرآن من حيث لم يعلمه أبو جعفر.
قال: قلت: وكيف ذاك؟ قال: لأن أبا جعفر أخذه من أفواه الرجال، وإن زيد بن علي أُعْطي فهمه.
ومناقبه عليه السلام أكثر من أن نأتي عليها في هذا الكتاب، وقد ذكر الإمام المنصور بالله عليه السلام طرفاً من أخباره في (كتاب الشافي)، وذكر منها جملة الفقيه العلامة الشهيد حسام الدين حميد بن أحمد المحلي رحمه الله تعالى في (كتاب الحدائق الوردية)، وإنما أردنا أن نبين فضله في العلم، وتبريزه فيه على أهل البيت في وقته عليه وعليهم السلام، وأنه كان الحجة والقدوة والغرة الشادخة فضلاً وعلماً وزهداً.
ووجه انتساب الزيدية إليه، قولهم بإمامته، واعتقادهم فضله وزعامته، وفرقاً بينهم وبين الإمامية فإن الإمامية لا تقول بإمامة زيد بن علي عليهما السلام، وتقول بإمامة أخيه محمد بن علي عليهما السلام في جماعة من آبائه وأبنائه على ما هو معروف من مذهبهم في النص والحصر، ومذهب الزيدية خلافه.
ويقولون بالإمامة فيمن قام ودعا من أولاد الحسنين عليهم السلام وهو جامع لشرائطها التي قدمنا ذكرها، فمن قال بإمامة زيد بن علي واعتقد فضله فهو زيدي وإن لم يلتزم مذهبه في الفروع ؛ فإن أكثر الزيدية على رأي غيره في المسائل الاجتهادية والمسالك النظرية ، وكان من تقدم من أئمة العترة ينسبون إلى زيد بن علي عليهما السلام على أنهم في العلم كانوا مثله في الاجتهاد، ويخالفونه في كثير من المسائل كالقاسم والهادي والناصر وأمثالهم من الأئمة الكبار السابقين الأطهار، وإنما انتسبوا إليه لأنهم قالوا بصحة إمامته.
وعن الإمام المهدي محمد بن عبدالله (النفس الزكية) عليه السلام أنه قال: (فتح والله لنا زيد بن علي باب الجنة، وقال ادخلوها بسلام) فهو أول السابقين من أئمة العترة بعد أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام.
والإمام من أهل البيت من جمع من شروط الإمامة ما جمعه زيد عليه السلام، لأن إمامة من تقدمه من الثلاثة المذكورين كانت بالنص النبوي على ما ذلك مقرر في مواضعه من كتب الكلام، فإذن زيد بن علي أول الأئمة المعتبرة فيهم شرائط الإمامة.
ولمَّا ظهر عليه السلام ودعا إلى نفسه أجابه أهل العلم والفضل ولم يتأخر عنه أحد منهم، وأرسل الفضل بن الزبير إلى أبي حنيفة فأمده بثلاثين ألف درهم، وقيل دينار، واعتذر عن الخروج لمرض كان معه، وبايعه من كبار الفقهاء ابن شبرمة والأعمش.
[رواية الزمخشري لخبر أبي حنيفة]
قال الزمخشري: كان أبو حنيفة رحمه الله يفتي سراً بوجوب نصرة زيد بن علي رضوان الله عليه وحمل المال إليه، وقالت له امرأة: أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد بن عبدالله بن الحسن حتى قتل، قال: ليتني مكان ابنك. هذه رواية الزمخشري رحمه الله في كشافه عن إمامه أبي حنيفة رضي الله عنه.
وحضر مع زيد بن علي عليه السلام الوقعة من أهل بيته: محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن (النفس الزكية)، وعبدالله بن علي بن الحسين عليهم السلام، وابنه يحيى بن زيد إلى طائفة وافرة من العلماء والزهاد والفضلاء والعبَّاد ؛ ذكرهم بأعيانهم يطول، وإنما أردنا الإشارة إلى إجابة أهل العلم لدعوته، واعتقاد إمامته والاجتهاد في نصرته، ولسنا نتعرّض هاهنا لأخباره في حربه وما كان في تقاعد أكثر الناس عنه، وموضع ذلك كتب السير والأخبار.
وجملة الأمر أنه خرج على هشام بن عبد الملك لجهاده فقتل وصلب، وحُرّق بالنار وذُري في الفرات، ولم يعلم في الإسلام من عمل ما عُمِلَ بزيد بن علي عليه السلام.
فالزيدية يفتخرون بما صُنع بزيد بن علي ويذكرونه في خطبهم، والأصل في ذلك ما يرويه أئمتنا وعلماؤنا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال في وصفه: ((رجل أيده الله بالإيمان وألبسه قميص البر والإحسان، يخرج في عصابة يدعو إلى الرحمن، أعوانه من خير أعوان، فيقتله الأحول ذو الشنآن، ثم يصلبه على جذع رمان، ثم يحرقه بالنيران، ثم يضربه بالعسبان ، حتى يكون رماداً كرماد النيران، ثم يُصَيّر إلى الله عز وجل روحه وأرواح شيعته إلى الجنان)).
فهذا كما ترى وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فالزيدية يصفونه في خطبهم بهذه الصفات، ويسمونه بهذه السمات، ولقد أراد عدوه أن يطفي نور فضله، ويطمس بما فَعَل به شمس ذكره، فزاده ذلك تنويهاً وظهوراً، ومجداً وشرفاً كثيراً.
ومن أعجب ما ترى من أهل المذاهب الأربعة إنكارهم لفضل زيد عليه السلام، فلا يعدونه في الأئمة ولا في العلماء ولا في الفضلاء، وربما وجدت فيهم من يعتقد هشام بن عبد الملك المترف المسرف الضال المضل إماماً، وينسب زيد عليه السلام إلى الإساءة بخروجه إليه ، وإلى هذا يشير كلام ابن الذهبي في (كتاب النبلاء) فإنه لم يذكره بأنه الإمام الفاضل الشهيد كما يجب له هذا الوصف؛ بل قال: خرج على هشام فليته لم يخرج.
وابحث كتبهم وتواريخهم تجدهم مطبقين على عدم القول بإمامته، وليت أنهم نزّلوه منزلة عمر بن عبد العزيز فهو أقرب إلى رسول الله منه، وأفضل سعياً وجهاداً وعلماً واجتهاداً؛ وهم عنه مائلون وبعمر بن عبد العزيز قائلون.
ولقد ناظرت رجلاً أهل بصيرة من الجبرية فذكرت له فضل زيد بن علي عليه السلام، فقال: ومن هذا زيد؟ هل هو زيد بن ثابت أو زيد بن حارثة؟
قلت: أفضل منهما زيد بن علي بن الحسين بن علي؛ فأنكر أن يكون عارفاً له نسباً فضلاً أن يعرف له فضلاً ومذهباً، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولقد أذكرني قول المتنبي: [المنسرح]
ويُظهرُ الجهلَ بي وأَعرِفُهُ .... والدرُّ در بِرَغْمِ مَنْ جَهِلَهْ
وصنف زيد بن علي (مجموع الفقه) وهو أول من صنف من العترة النبوية، وبوّب في الفقه أبواباً وتكلّم عليها، وليس بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا ثلاثة: أبوه وجده الحسين بن علي وأمير المؤمنين عليه السلام.
فهو يروي عن أبيه زين العابدين، وأبوه عن أبيه سبط سيد المرسلين، وهو عن أبيه خاتم الوصيين الأنزع البطين.
فمن أولى بالتقليد والاتباع في الدين؟ من لم يكن بينه وبين صاحب الشريعة إلا أبوه وجده وجد أبيه ثلاثة، اثنان معصومان والثالث قريب من العصمة؟ أم غيره من علماء الأمة؟ لولا قلة الإنصاف واستمراء أخلاف الخلاف، فلينظر الناظر لنفسه.
وقد ذكرنا من حديث أبي جعفر الباقر محمد بن علي عليهما السلام تعظيمه لزيد، وأنه كان يقول فيه: (هذا والله سيد بني هاشم)، وقصته معه في كتاب أبيه الذي كان طلبه منه وأنه استغنى عنه بكتاب الله، وفي بعض كلام الباقر دليل عظيم على علم زيد عليهما السلام؛ فإن (الباقر) إنما سمي بهذا الاسم لتبقره في العلم، والتبقر: التوسع.
فإذا اعترف الباقر لزيد بالسيادة فقد اعترف له بالزيادة عليه في العلم بقوله لأبي خالد وأبي حمزة وقد تقدم ذكرهما: يا أبا خالد ويا أبا حمزة (إن زيداً أعطي من العلم علينا بسطة) فصح بإقراره عليه السلام واعترف أن زيداً كان أعلم منه وأفضل؛ فما ظنك برجل فاق الباقر فضلاً وعلماً، واعترف بفضله وصحة إمامته أبو حنيفة أكثر الأمة فقهاً.
نعم قد ذكرنا أن زيداً عليه السلام أول من صنف من أهل البيت عليهم السلام، وأنه كان يَهُذّ تفسير الفاتحة والبقرة على لسانه من ظاهر قلبه.
هذا، فإنه عليه السلام لو عاش وأمهلته الأيام لكان علمه أكثر وتصنيفه أوفر، وهكذا غيره من أهل البيت عليهم السلام ، وقد صنّف بعده سبطه أحمد بن عيسى بن زيد عليهم السلام، وهو يعرف بفقه آل محمد كتابه المعروف (بالعلوم) وفيه دليل على علمه، وصنف بعده الإمام المهدي لدين الله محمد بن عبدالله على ما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى.
فانظر إلى انحراف هذه الأمة عن أهل بيت نبيها وسبب نجاتها، وماء حياتها، هذا زيد بن علي سيد أئمتهم، والفاتح بجهاده واستشهاده باب الجنة لهم، لا يذكره أحد من أهل المذاهب غالباً بخير.
قال القاضي الإمام شمس الدين جعفر بن أحمد رضي الله عنه: إنه عليه السلام حين سمع اليهودي يسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مجلس هشام، نهر اليهودي ورد عليه مقالته وزجره، فقال له هشام لعنه الله: مهلاً يا زيد لا تؤذي جليسنا؛ فخرج زيد مغضباً لله وهو يقول: (من أحب البقاء استشعر الذل إلى الفناء).
ثم بثّ الدعاة في الآفاق، فأجابته العلماء من كل طائفة، ولم يتأخر عن إجابة دعوته أحد من فرق الإسلام إلا الإمامية فإنهم رفضوا إمامته وبهذا سموا (الرافضة).
[إعراض المؤرخين عن ذكر أئمة أهل البيت(ع) وفضلائهم]
فلو أنصف أهل الملة المحمدية زيداً عليه السلام لعظموه لمجرد هذه المنقبة الزهراء، والفضيلة الشادخة الغراء، وهي غضبه لله لسب نبيهم الزكي الأطهر بين يدي جبار عنيد، فكان بسبب ذلك إراقة دمه في سبيل الله، وصَلّب جسمه وقطع رأسه، وتحريقه بَعْدُ بالنار وذري جسده دقيقاً في الفرات، لو فعل هذا بعبد حبشي رأسه كالزبيبة غَضِبَ لله بسب رسول الله ثم صُنع به ما صنع بزيد بن علي لكانت محبته واجبة على الأمة، ولكان تعظيمه يجب على كل نفس مسلمة؛ كيف به وهو من أوسط دوحة النبوة وغصن من أغصانها، وثمر من أفنانها.
عن بعض أصحابه عليه السلام: كنت إذا رأيت زيد بن علي رأيت أسارير النور في وجهه.
ووصفه بعضهم فقال: كان وسيماً جميلاً أديباً قد أثر السجود في جبهته.
قال السيد أبو طالب في وصفه عليه السلام: كان أبيض اللون، أَعْين، أقرن الحاجبين، تام الخلق، طويل القامة، كث اللحية، عريض الصدر، أقنى الأنف، أسود الرأس واللحية إلا أن الشيب خالطه في عارضيه.
وفي صلبه عليه السلام: له فضائل أعرضنا عن ذكرها لأن مرادنا [أن] نذكر فضله في علمه وجهاده، وأن الأمة انحرفت عنه لا لسبب إلا العلم والفضل والجهاد، ومصداق ذلك ما نزله من إسقاط أكثر علماء التاريخ لذكره، وإهمالهم لما ظهر من فضله واشتهر من أمره.
هذا ابن الذهبي وهو سلطان المؤرخين وأستاذ المسيرين قال فيه ما حكيناه من مقالته، واختصر عن كتابة تاريخ شرفه ونبالته، كأنه لم يكن من النبلاء، ولم يعد من العلماء الفضلاء، ولله القائل: [الطويل]
وفي تعبٍ من يَحسُدُ الشمسَ نورهَا .... ويَجهدُ أن يأتي لها بضريبِ
وهذا ابن خلكان أعرض عنه صفحاً، وطوى عن ذكره كشحاً، مع ذكره لطماطمة الأكراد، الذين يشين ذكرهم الكاغد والمداد.
ذكر في (حرف الزاي) أبا دلامة الحبشي، فأورد جميع مضحكاته وخرافاته، وأهمل ذكر زيد بن علي نافلة النبي والوصي، وأخلى كتابة محاسن آياته، وبواهر كراماته، ولم يتفطن لما شاع له من الذكر الجميل في بلاد الإسلام، وانتشر من الثناء الحسن في فرد ثلاثة أيام.
وصدر أول حرف الجيم (جرير بن عطية) الشاعر، وأخر بعده جعفر الصادق بن محمد الباقر، وجعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه، هكذا وصفه ابن أبي الحديد، وروي أن أبا حنيفة من تلامذته وسفيان الثوري من تلامذته وحسبك بهما في هذا الباب.
قال: ونسب سفيان الثوري إلى أنه زيدي المذهب، وكذلك أبو حنيفة، ومحمد بن علي الباقر بشر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لم يخلق بعد)) وسماه الباقر، ووعد جابر بن عبدالله الأنصاري برؤيته وقال: ((ستراه طفلاً فإذا رأيته فأبلغه عني السلام)) فعاش جابر حتى رآه وقال له ما وصي به. ذكر ذلك كله العلامة ابن أبي الحديد وغيره.
ومن كان موالياً للعترة وجد لذكرهم مجالاً، ومن كان معادياً لهم لم يرض في وصفهم مقالاً، وليتهم إذ جحدوا فضلهم الظاهر وعلمهم الباهر، نزهوهم عن الذكر مع تلك الأشباه والنظائر، وعرفوا أن الأحجار لا تنتظم مع الجواهر.
ولم يقنع ابن خلكان حتى جعل ذكر زيد عليه السلام وألحقه كالتتمة لذكر الوزير الظالم ابن بقية، الحقه في آخر ترجمته، ولزه في نمط مرثيته، وذلك أن ابن بقية لما قبض عليه عضد الدولة وقتله وصلبه، رثاه محمد بن عمر الأنباري بأبيات فائقة، وبذلك المعنى لائقة ، فَذَكّرته واقعة بن بقية واقعة زيد عليه السلام وكان ناسياً، ونبهته على ذكر صلته وكان ساهياً.
[مرثية الوزير ابن بقية]
ومن أحسن ما يوصف به زيد بن علي عليه السلام في صلبه هذه الأبيات، فإنها به أليق وهو بها أحق، وهي: [الوافر]
علو في الحياة وفي الممات .... لحقٌ أنت إحدى المعجزاتِ
كأن الناس حولك حين قاموا .... وفودُ نداك أيام الصلاتِ
كأنك قائم فيهم خطيباً .... وكلهم قيام للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفاء .... كمدهما إليهم بالهبات
أصاروا الجو قبرك واستنابوا .... عن الأكفان ثوب السافيات
وتشعل عندك النيران ليلاً .... كذلك كنت أيام الحياة
ركبت مطية من قبل زيد .... علاها في السنين الماضيات
وتلك فضيلة فيها تأسٍ .... تباعد عنك تعيير العداتِ
أسأت إلى النوائب فاستثارت .... فأنت قتيل ثأر النائباتِ
وكنت تجير من جور الليالي .... فعاد مطالباً لك بالترات
وصير دهرك الإحسان فيه .... إلينا من عظيم السيئات
وكنت لمعشر سعداً فلما .... مضيت تفرقوا بالمنحسات
غليل باطن لك في فؤادي .... يخفف بالدموع الجاريات
ولو أني قدرت على قيام .... لفرضك والحقوق الواجبات
ملأت الأرض من نظم القوافي .... ونُحْتُ بها خلاف النائحات
ولكني أُصَبّر عنك نفسي .... مخافة أن أعد من الجناة
وما لك تربة فأقول تسقى .... لأنك نصب هطل الهاطلات
عليك تحية الرحمن تترى .... برحمات غوادٍ رائحاتِ
ولقد عبرت قريحة هذا الشاعر عن صلب الإمام الولي بأحسن عبارة، وأشارت إلى صفته ألطف إشارة، وما أحسن قوله: أصاروا الجو قبرك..إلى آخره.
[مماثلة شعرية للمؤلف]
ولكنا نقول في زيد عليه السلام:
أصاروا البحر قبرك واستنابوا .... عن الأكفان ثوب الذاريات
ونزيد عليها فنقول هذه الأبيات:
وأنت عظمت عن قبر عظاماً
وكنت الطود لم تدرج بكفن
ولم أرى قبل جذعك قط جذعاً
ولا متعرياً نسجت عليه الـ
يدافع عنه أنصار الأعادي
عليك صلاة ربك مستكناً
كأنك كنت لؤلؤة فرُدّت
وضاق البر عنك فكان أولى
وناسبت البحار فكنت فيها
وما لك تربة فأقول تسقى
لعاً لأبي الحسين البر زيد
وكان الدفن ذرواً في الفرات
فأدرج في نسيج الجاريات
تمكن من عناق المكرمات
ـعناكب محكمات الساترات
مدافعة الدروع السابغات
بأصداف البحار الزاخرات
إلى صدف البحار الطاميات
بك البحر المحيط إلى الجهات
لتجتمع الصفات إلى الصفات
لأنك بين أمواج الفرات
وما لاقاه من فعل الطغاة
نعم قال ابن خلكان بعد ذكر الأبيات المتقدمة: وزيد المذكور هو أبو الحسين زيد بن علي بن الحسين رضي الله عنه، وكان قد ظهر في أيام هشام بن عبد الملك، ولم يذكر سوى قتلته وصلبه وصفة دخولهم برأسه إلى مصر لا غير.
فانظر إلى ابن خلكان كيف أهمله وتناسى مع معرفة مكانه وفضله؛ لو أراد له ذكراً لذكره، وكيف وقد طبقت الأقاليم أوصافه السنية، وأنسى مصابه مصاب ابن بقية؛ فما ذكر صاحب التاريخ غيره ، فأثار ذلك من قلوبنا غيرة ، ولو أردنا ذكر ما رثي به زيد بن علي -عَلَيْهما السَّلام- لملأنا به الأوراق، وذكرنا فيها ما فاق وراق.
فقد رثته عيون السادة والشيعة، وبكته عيون النبوة والشريعة، وقال بعض شيعة زيد عليه السلام وقد أدخل رأسه إلى هشام، فألقي في عرصة الدار تطأه الأقدام، وتنقر دماغه الدجاج: [الخفيف]
أطرد الديك عن ذؤابة زيدٍ .... فلقد كان لا تطأه الدجاجُ
وقال شاعر بني أمية يذكر زيداً عليه السلام وصلبه: [الطويل]
صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة .... ولم أر مهدياً على الجذع يصلبُ
وقستم بعثمان علياً سفاهة .... وعثمان خير من علي وأطيبُ
فيروى أن بعض الصالحين من أهل البيت عليهم السلام قال: اللهم إن كان كاذباً فسلّط عليه كلبك، فخرج يوماً لسفر له فعرض له الأسد فافترسه، هكذا رواه ابن أبي الحديد في شرحه.
[طرف من مفاخرة الهاشمية والأموية]
وروى مفاخرة الهاشمية والأموية بما لكل فريق من المفاخر والمناقب حتى ذكروا الخطاب والبيان والفصاحة، فقال بنو هاشم: لنا من الخطباء زيد بن علي، وجعفر بن الحسن بن الحسن، وعبدالله بن الحسن بن الحسن.
قالوا: وكان جعفر بن الحسن بن الحسن ينازع زيد بن علي بن الحسين في الوصية فكان الناس يجتمعون ليسمعوا محاورتهما.
وتفاخروا بالفقه والعلم والتفسير والتأويل؛ فقال بنو هاشم: لم يكن لبني أمية في هذا شيء، ولنا فيه علي بن أبي طالب، وعبدالله بن العباس، وزيد بن علي وأخوه محمد بن علي أبناء علي بن الحسين، فانتقل بنو هاشم من عبدالله بن عباس إلى زيد بن علي وقدموه على أخيه الباقر، وفي هذا دليل عظيم على فقهه وعلمه وقدموه على أبيه زين العابدين.
ومن مثل علي بن الحسين وقد قال الشافعي في (الرسالة) في إثبات خبر الواحد: وحدث علي بن الحسين وهو أفقه أهل المدينة يعول على أخبار الآحاد.
فانظر إلى كلام الشافعي أنه وجد علي بن الحسين أفقه أهل المدينة، وفي المدينة مالك بن أنس الأصبحي يفضله عليه، وفضل بنو هاشم زيداً على أبيه؛ وذكروه في الفقه للافتخار به ولم يذكروا معه في الفقه أباه وأخروا عنه أخاه.
وروى الحاكم رحمه الله عن جابر، قال: سألت [محمد] عن زيد بن علي فقال: (سألتني عن رجل ملئ إيماناً وعلماً من أطراف شعره إلى قدمه وهو سيد أهل بيته)، ولزيد عليه السلام كتاب في القرآن وله كتاب في الأحكام.
قال الحاكم [-رضي الله عنه وأرضاه-]: وشهرة أمره في علمه تغني عن تطويل القول فيه، ولا نعرف أحداً يشك أنه كان عليه السلام من الفضل والعلم والدين والسخاء والورع والشجاعة والسياسة بالمحل العظيم ؛ ثم جرد سيفه في أيام بني أمية مجاهداً ولم يخطر ببال أحد من أهل زمانه ذلك، وجاهد حتى مضى شهيداً ففاق زيد في العلم والفضل والجهاد.
* * * * * * * * * *
[الإمام يحيى بن زيد بن علي (أبو عبدالله) (ع)]
(97- 125هـ / 716- 743م)
وأما ابنه الإمام الطاهر يحيى بن زيد بن علي عليه السلام:
فإنه قام لجهاد الظلمة على منهاج أبيه، وكان من وصيته له: (يا بني جاهدهم فوالله إنك لعلى الحق وإنهم لعلى الباطل، وإن قتلاك لفي الجنة وإن قتلاهم لفي النار).
ففعل بما أوصى به أبوه، حتى مُثِّل به كما مُثِّل بأبيه قبل، وصلب على باب مدينة الجوزجان، ولم يزل مصلوباً إلى أن ظهر أبو مسلم الخراساني فأنزله وغسله وكفنه ودفنه، وقبره بالجوزجان مشهور مزور.
قال الحاكم رحمه الله في يحيى بن زيد: فأما إثبات إمامته فجميع الخصال فيه ظاهرة على ما بيّنا في إمامة زيد، قال: والكلام فيه كالكلام في إمامة أبيه.
[الإمام محمد بن عبدالله بن الحسن (النفس الزكية (ع)]
(93- 145هـ / 712- 763م)
وأما الإمام النفس الزكية محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن عليه السلام:
فإنه كان من العلم والفضل والورع والزهد والانطواء على محاسن الخصال الشريفة، والأوصاف الكاملة بحيث فاق أبناء عصره، وبرز فيها على أهل دهره، كان عليه السلام يسمى (المهدي) وهو أول من تكنى بهذه الكنية في أهل البيت عليهم السلام، وسُمّي (صريح قريش) لأنه لم يكن في آبائه من أَمَةٍ (أم ولد) إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وكذلك جداته من قبل أمه.
وكان يسمى النفس الزكية لورود الأثر فيه: ((يقتل فيسيل دمه إلى أحجار الزيت)) وقد كان كذلك، وكانت له شامة في كتفيه تشبه شامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكره السيد أبو طالب، وفي ذلك يقول بعض شيعته: [الطويل]
إن الذي تروي الرواة لبيّنٌ .... إذا ما ابن عبدالله فيهم تجرّدا
له خاتمٌ لم يعطه الله غيره .... وفيه علامات من البر والهدى
وهو أول من خوطب بأمير المؤمنين من أهل البيت المطهرين، وبعده محمد بن جعفر بن محمد، وفاق محمد بن عبدالله سادات العترة في زمانه، كان غزير العلم وافر الفهم قد سمع من آبائه الحديث، وسمع من نافع وابن طاووس، وله (كتاب السير) المشهور.
قال السيد أبو طالب: سمعت جماعة من فقهاء أبي حنيفة وغيرهم يقولون: إن محمد بن الحسن نقل أكثر مسائل السير من هذا الكتاب، وفيه من غريب الفقه ما يدل على عظيم منزلته، وعلو مرتبته.
[مما قيل فيه عَلَيْه السَّلام]
وروى أبو الفرج بإسناده عن عيسى بن زيد عليهما السلام قال: (لو أنزل الله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه باعث بعده نبياً لكان ذلك محمد بن عبدالله بن الحسن).
فهذا كلام عيسى بن زيد وهو من أقمار الهدى، وممن لا يتمارى في فضله، ولا يشك في ورعه ونبله.
وروى أبو الفرج بإسناده، قال: سمعت عبدالله بن حفص العامري يقول في حديث حدّث به عن محمد بن عبدالله: حدثني من لم تر عيني والله ممن خلق الله خيراً منه، ولا أراه أبداً محمد بن عبدالله عليهما السلام.
وكان أبو جعفر المنصور العباسي يقول قبل خلافته في محمد عليه السلام: (هذا مهدينا أهل البيت) وكان يعظمه ويخدمه بنفسه ويقر بفضله، ثم انتهى حاله بعد ذلك إلى سفك دمه في حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني حرمت المدينة من عير إلى ثور لا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها)) ؛ فكيف ترى من سفك في حرمها بضعة من لحمه، وأهلك فيها نفساً من نفسه.
وعن أخيه إبراهيم بن عبدالله بن الحسن بن الحسن وقد سئل عن محمد أخيه أهو (المهدي المنتظر) فقال: المهدي عِدَةٌ من الله لنبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وعده أن يجعل من أهله مهدياً لم يسمه بعينه، ولم يوقت زمانه، وقد قام أخي بفريضته عليه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن أراد الله أن يجعله المهدي الذي ذكر فهو فضل الله يمنّ به على من يشاء من عباده، وإلا فلم يترك أخي فريضة الله عليه لانتظار ميعاد لم يؤمر بانتظاره.
[من كلامه عَلَيْه السَّلام]
ومن كلامه عليه السلام: (والله ما يسرني أن الدنيا بأسرها عوضاً عن جهادهم، إن امرءاً لا يصبح حزيناً ويمسي حزيناً مما يعاين من أعمالهم، إنه لمغبون مفتون).
وخطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (والله لقد أحيا زيد بن علي ما دثر من سنن المرسلين، وأقام عمود الدين إذ اعوج، ولن ننحو إلا أثره، ولن نقتبس إلا من نوره ، وزيد إمام الأئمة ، وأول من دعا إلى الله بعد الحسين بن علي عليهم السلام).
ومن كلامه عليه السلام: (فلا تراثنا أُوْفِيْنَاهُ ولا سهمنا أُعْطِينَاه، وما زال يولد مولودنا في الخوف، وينشو ناشئنا في القهر والغلبة، ويموت ميتنا بالذل والقتل بمنزلة بني إسرائيل تذبح أبناؤهم وتستحيى نساؤهم، وإنما فخرت قريش على سائر الأحياء بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ودانت العجم للعرب بادعائها لحقنا، والفخر بأبينا صلى الله عليه وآله وسلم، ثم مُنعنا حقه، ودفعنا عن مقامه، أما والله لو رجوا التمكين في البلاد، والظهور على الأديان، وتناول الملك بخلاف إظهار التوحيد، وبخلاف الدعوة إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والإذعان منهم بالقرآن، لاتخذوه أساطير مختلقة بأهوائهم، وعبدوا الأوثان بآرائهم، ولاتخذوا من أنفسهم زعيماً).
[كتابه إلى خواص أصحابه]
ومن كتاب له عليه السلام كتبه إلى خواص أصحابه، يذكر فيه منة الله على خلقه برسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويذكر فضل أمير المؤمنين عليه السلام، وما لاقى أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعده، فقال فيه بعد ذكر الله تعالى: أما بعد،
فإن الله جل ثناؤه بعظمته ألزم نفسه علم الغيوب عن خلقه، لعلمه أنها لا تصلح إلا له، ثم أنشأ خلقه بلا عون، ودبر أمره بلا ظهير، ابتدأ ما أنشأ على غير مثال من معبود كان قبله ، ثم اختار لتفضيله بعلمه من ملائكته ورسله من ائتمنه على أسرار غيوبه، لم تلاحظه في الملكوت عين ناظرة ، ولا يد لامسة ، متفرد بما دبر، ذلكم الله رب العالمين.
إلى أن أخرج محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من خير نسل ذوي العزم من الرسل، تناسخته دوارج الأصلاب إلى مطهرات الأرحام ، حتى استخرجه خير جنين، وأصحبه خير قرين، أرسله بنور الضياء إلى أهل الظلم والكفر.
وقد نسكوا وذبحوا للأصنام، واستقسموا بالأزلام، مترددين في حيرة الضلالة، كلما ازدادوا في عبادتهم جهلاً ازدادوا من الله بها بعداً، حتى تصرمت عنهم مدة البلاء بقيام محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيهم يدعوهم إلى النجاة، ويضمن لهم الظفر في الدنيا، وحسن المثوبة في الآخرة ، ويخبرهم عن القرون الماضية كيف نجا من نجا منهم بالاستجابة لرسلهم، وكيف بعث العذاب على من تولى منهم، وصارت آثارهم وديارهم خاوية على عروشها، كيف تركوها وما فيها؟ فقال: يا قوم احذروا مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود، فأبوا إلا التكذيب بالتوحيد، واستعظموا أن يجعلوا الآلهة إلهاً واحداً.
فلما أمر أن يُجَاهِد بمن أطاعه من عصاه كبر عليه مجاهدة الكثير من المشركين بالقليل من المسلمين ، ضمن الله له عاقبة الأمر والظفر ، وشد له أزره وأعانه بابن عمه وابن صنو أبيه، وشريكه في نسبه، ومؤنسه في وحدته، من الشجرة المباركة [فرعاهما، دعا] فاستجاب له على ضراعه من سنه، حتى سيط الإسلام بلحمه ودمه، لم يخشع بين يدي آلهتهم وعُزَّاهُم ، وغيره خاشع لها عاكف عليها هي له منسك ؛ إلى أن اشتد على التوحيد عظمه، وعظمت في اتخاذ الخير هممه.
إليه يستريح رسول الله بأسراره، فكان هو عليه السلام الصديق الأكبر، والفارس المشتهر، سابق العرب إلى الغاية، ليس أمامه فيها إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المرسل بالكتاب المنزل، يصلي بصلاته، ويتلو معه آياته، تفتح لعملهما أبواب السماوات السبع، تهوي جبهته مع نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلى القبلة المجهولة عند قومه، ليست إصبع يمدها متوسلاً إلى الله جل ثناؤه غير اصبعه ، ولا ظهرٌ يحنو لله في طاعته غير ظهره، إن ساماهم بشرفه في أولويته سبق عليهم بفارع غصون مجده، وعواطف شرف من قام عنه من أمهاته، ثم نشأ في حجر من نشأ، يؤدبه بالكتاب إذ غيره يباكر عبادة الأصنام، شهد له القلم الجاري بعلمه في حال الفردانية، إذ هو يسارق الصلوات أهله إذ لا قلم جار ولا شهيد على مطيع ولا عاص غيره، يكانف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مواطنه، ويستريح إليه بأسراره، ويستعد به لهممه، إذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو المستوحش من جماعتهم، والخائف على دمه منهم، إن زال النبي صلى الله عليه وآله وسلم زال معه، وإن غال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر وقاه بنفسه؛ فمن يساويه وهذه حاله -صلوات الله عليه-.
والحال هذه حال القوم في كفرهم بربهم وإنكارهم رسوله، واختيارهم عبادة أوثانهم، وعلي بن أبي طالب يعظم ما صغروا ، ويكرم ما أهانوا، حتى دخل من دخل في دين الله رغبة أو رهبة ، فلما طال على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تكذيب قومه إياه، استشار علياً عليه السلام فقال: ((ما ترى؟)) قال: يا رسول الله ها سيفي، وكان بالضرب به دونه جواداً، قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((إني لم أؤمر بالسيف، فنم على فراشي وق بنفسك نفسي حتى أخرج فإني قد أمرت بذلك)) ، فنام على فراشه ووقاه بنفسه، باذلاً لمهجته، واثقاً بأن الله غير خاذله، ومن يدعي له الفضل عليه إما راصداً لرسول الله، أو معين عليه، أو جالس عنه، همهم في ذبائح الغنم على الأصنام، والاستقسام بالأزلام، وأقلام الملائكة تصعد بعمل رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما استقرت به الدار، وحلَّ في الأنصار؛ أمر الله جل ثناؤه أن يشهر سيف التوحيد، وضمن له التأييد، فجاءت حال المنابذة، وتدانت الزحوف أيده الله جل ثناؤه بعلي بن أبي طالب، فقام إليهم وله خطران بسيفه ذي الفقار، فسألوه عن النسبة، فانتهى إلى محل اليفاع الذي ليس لأحد عنهم مرغب، وأوجل الله قلوبهم من مخافته حتى اجتنبوا ناحيته، فما زالت تلك المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى سئمه رجال من قريش ، وحتى تشاغلت نساؤهم بالمآتم، فكم من باكية داعية أو موتور قد احتسى غلته بفُقْدَانِه أباه أو أخاه أو عمه أو
خاله أو حميمه، يخوض مهاوي الغمرات بين أسنّة الرماح ، لا يثنيه عن نصرة رسول الله نبوة حداثة ، ولا ضن بمهجته، حتى استولى على الفضل والجهاد في سبيل الله، وكان أحب الأعمال إلى الله، وزرع إبليس عدوّه بغضه في قلوبهم، فلاحظوه بالنظر الشزر، وكَسّروا دونه حواجبهم، ورشوا بالقول فيه والطعن عليه، فلم يزده الله بقولهم فيه إلا ارتفاعاً، كلما نالوا منه نزل القرآن بجميل الثناء عليه في آي كثير من كتاب الله، قد غمهم مكانه في المصاحف، ومن قبل ما أثبته جل ثناؤه في وحي الزبور أنه وصي الأوصياء، وأول من فتح بعلمه أبواب السماء.
فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أولاهم بمقامه، ليس لأحدٍ مثله في نصرته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأخ ليس لهم مثله له جناحان يطير بهما في الجنة، وعم له سيد الشهداء في جميع الأمم، وابنان هما سيدا شباب أهل الجنة، وله سيدة نساء العالمين.
ولما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أخذ أهله في جهازه إلى ربه، واختلفوا فيمن يلي الأمر من بعده، فقالت الأنصار: نحن الذين آوينا ونصرنا.
فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فأتى أبا بكر وهو بباب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينتظر جهازه والصلاة عليه، فقال له: إنك لغافل عما أسست الأنصار وأجمعوا عليه من الصفقة على يد سعد بن عبادة.
ثم تناول عمر يده فجذبه فأقامه، حتى انتهى إلى سعد وقد عكفوا عليه وازدحموا حوله، وتكلم أبو بكر وقال: يا معشر الأنصار أنتم الجيران والإخوان، وقد سمعتم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن هذا الأمر لا يصلح إلا في قريش)) وقد علمت العرب أني أوسطها داراً، وأصبحها وجهاً، وأبسطها لساناً، وأن العرب لا تستقيم إلا علينا.
فقال عمر: هات يدك يا أبا بكر أبايعك، فمد يده أبو بكر فضرب عليها بشير بن سعد، ثم ثلث أبو عبيدة بن الجراح، ثم تتابعت الأنصار.
فبلغ ذلك علياً فشغله المصاب برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن القول لهم في ذلك، واغتنموا تشاغله برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنظر علي عليه السلام لدين الله قبل نظره لنفسه ، فوجد حقه لا ينال إلا بالسيف المشهور ، وتذكر ما هم به من حديث عهد بجاهلية، وكره أن يضرب بعضهم ببعض فيكون في ذلك ترك الإلفة.
فأوصى بها أبو بكر إلى عمر من غير شورى، فقام بها عمر وعمل على الولاية بغير عمل صاحبه، ليس بها عهد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا تأول كتاب، إلا رأي توخاه هو فيه مفارق لرأي صاحبه، جعلها بين ستة نفر، وضع عليهم أمناء أمرهم إن اختلفوا أن يقتلوا الأقل من الفئتين، وصغروا ما عظم الله، وصاروا سبباً لولاة السوء، سدت عليهم أبواب التوبة، واشتملت عليهم النار بما فيها، والله جل ثناؤه بالمرصاد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
هذا كلام الإمام محمد بن عبدالله النفس الزكية، وإنما نقلناه بكماله لأنه جمع قواعد في مذهب الزيدية متفرقة، وأصولاً مشتتة، وكان عليه السلام القدوة في كلامه ومذهبه، وليس بينه وبين أمير المؤمنين إلا ثلاثة أبوه عبدالله الكامل، وجده الحسن المثنى الفاضل، وجده الحسن بن علي سبط النبوة، وسيد شباب أهل الجنة ، ورضيع أخلاف الكتاب والسنة؛ فمن يكون أصح مذهباً وأقوى إسناداً من هذا؟ وأما قوله في آخره: (وصاروا ولاة السوء) إلى آخر ما ذكره ؛ فالمراد به فيما أحسبه خلفاء بني أمية وبني العباس، لأن الأصل في تمكنهم البلاد والعباد؛ صرف الأمر عن أمير المؤمنين وذريته الطاهرين.
[قيامه ودعوته (ع)]
ولما قام محمد بن عبدالله عليه السلام بالأمر، وظهرت دعوته في الشرق والمغرب، بايعه العلماء والفضلاء والزهاد من المعتزلة والزيدية وعيون العترة النبوية، وكان قيامه من مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعقدت له البيعة في أعناق أهل الفضل والعلم، وخطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليه قلنسوة صفراء وعمامة فوقها، متوشحاً سيفاً؛ فقال في خطبته بعد حمد الله والثناء عليه: (أما بعد، يا أهل المدينة فإني والله ما خرجت فيكم وبين أظهرك لأَتَعزَّز بكم، ولَغَيركم كان أعز لي، ولكن حبوتكم بنفسي، مع أنه لم يبق مصر من الأمصار يُعْبد الله فيه إلا وقد أُخِذَتْ لي فيه البيعة، وما بقي أحد من شرق ولا غرب إلا وقد أتتني بيعته بالقيام بهذا الأمر، وإن أحق الناس بهذا الأمر لأبناء المهاجرين والأنصار، مع ما قد علمتم من سوء مذهب هذا الطاغية، الذي قد بلغ في عتوه وطغيانه أن اتخذ لنفسه بيتاً، وبوبه بالذهب يعني أبا الدوانيق).
فلينظر الناظر إلى تسدد هذا الإمام الصالح الفاضل في طاعة الله متجرداً لله؛ ثم ما كان من عاقبة أمره ونهاية حاله أن استشهد في سبيل الله، وسال دمه إلى (أحجار الزيت) كما روي في الحديث عن رسول الله.
وما قام بفريضة الجهاد حتى تعينت عليه الفريضة، وهتكت حرمة آل رسول الله الطويلة العريضة، وغَيّر أبو الدوانيق في دين الله الأحكام، وهدم قواعد الإسلام، وتجرأ على أولاد فاطمة –عليها وعليهم أفضل السلام-، حتى بلغ من أمره أنه أخذ عبدالله بن الحسن بن الحسن في جماعة من أهل بيته، وأزعجهم من المدينة وحملهم على الأقتاب حتى وصلوا إلى الكوفة، فأمر بتخليدهم في السجن وأطبقه عليهم حتى كانوا لا يفصلون بين الليل والنهار، وما زالوا فيه مسجونين حتى ماتوا، وصار ذلك السجن مشهداً لهم يعرف بمشهد عبدالله بن الحسن إلى يوم الناس هذا، فانظر إلى فضل أئمة العترة، وماذا لاقت في ذات الله، وإنما كانوا بين قتيل وطريد وأسير شريد، وخائف مترقب، وخاف متنقب.
وعن بعضهم: وكان في بعض الجبال قد اشتد به الطلب ومعه ولد صغير فسقط الولد فمات؛ فأنشأ يقول: [السريع]
منخرق الخفّين يشكو الوجا
شرده الخوف وأزرى به
قد كان في الموت له راحة
تنكيه أطراف مروٍ حداد
كذاك من يكره حرَّ الجلاد
والموت حتم في رقاب العباد
ولو أن أهل هذا البيت خرجوا من أرض السودان ليس لهم برسول الله قرابة، فتعلموا القرآن، ودانوا بشريعة الرحمن، ثم جاهدوا في الله تعالى هذا الجهاد، وبذلوا أنفسهم وأرواحهم في طاعة رب العباد، وباينوا بأقوالهم وأحوالهم أرباب الغي والفساد، ودانوا لله بالتوحيد ، ودعوا إلى طاعة الله العزيز الحميد ؛ لكان اتباعهم واجب، وودهم لازماً لازباً، ونصرتهم من فرائض الدين، وموازرتهم من شرائع سيد المرسلين، كيف وقد جمعوا بين الأفعال المرضية، والأنساب الزكية، والأحوال الرضية، والطرائق الهادية المهدية، فوا عجباً!! لنفوس عنهم مائلة ، وفي التهمام في أمرهم جائلة ، إن ذكر العلم فلهم من سلساله صفوته ، ومن إسناد رجاله ذروته ، يروي عن أبيه عن جده، فكل واحد منهم في العلم نسيجٌ وحده.
وإن ذكر الزهد في الدنيا فهم أهله وأربابه، وفيهم مركزه ونصابه، لم يفتحوا منها باباً، ولم يمسكوا لها أسباباً، أماتوا فيها الشهوات، وأحيوا بها الباقيات الصالحات، يموت أحدهم وحاجته تلجلج في صدره، ويقبر ميتهم وتدخل معه أمنيته في قبره، وتعرض الدنيا على أحدهم فيعرض عنها بوجهه، ويميت ذكرها من قلبه.
هذا، وإن ذكر الجهاد فهم فرسان جولته، وأسود صولته، ونجوم سمائه، وأقطاب هيجائه، ليوث العزمات، وعيون الأزمات، وأقمار الدجيات، والراغبون في بيع أنفسهم من الله بفراديس الجنات، وما هذه إلا صفات الأنبياء، وسمات الأبرار الأصفياء.
* * * * * * * * * * * *
[الإمام إبراهيم بن عبدالله بن الحسن (النفس الرضية) (ع)]
(97- 145هـ / 716- 763م)
وأما الإمام إبراهيم بن عبدالله بن الحسن بن الحسن عليهم السلام:
فإنه كان عالماً، فاضلاً، تقياً، زكياً، ورعاً، زاهداً، شجاعاً، باسلاً، سخياً، كاملاً، ناشئاً على العلم والعفاف والصلاح والتقوى والطهارة، جامعاً بين العلم والعمل حتى بلغ أرفع رتبة، وأسنى درجة.
وسئل إبراهيم بن أبي يحيى المدني وكان من أصحابه فقيل له: قد رأيت محمداً وإبراهيم ابني عبدالله بن الحسن بن الحسن فأيهما كان أفضل؟
فقال: (والله لقد كانا فاضلين شريفين كريمين عابدين عالمين زاهدين، وكان إبراهيم يقدم أخاه محمداً ويفضله، وكان محمد يعرف لإبراهيم فضله، وقد مضيا حميدين شهيدين صلوات الله عليهما).
وكان قد خرج إلى (البصرة) داعياً لأخيه محمد بن عبدالله عليهما السلام، فأظهر الدعاء لأخيه بها وأخذ له البيعة، واستولى على البصرة وقام بالأمر هناك، حتى ورد عليه نعي أخيه أول يوم من شوال سنة خمس وأربعين ومائة وهو يريد أن يصلي بالناس صلاة العيد، فصلى بهم ثم رقا المنبر وخطب ونعى إلى الناس أخاه محمداً عليه السلام ثم تمثل: [البسيط]
أبا المنازل يا خير الفوارس من .... يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا
الله يعلم أني لو خشيتهم .... وأوحش القلب من خوف لهم فزعا
لم يقتلوه ولم أُسلِّم أخي لهم .... حتى نموت جميعاً أو نعيش معا
وكان من كلامه على المنبر: (اللهم إن كنت تعلم أن محمداً إنما خرج غضباً لدينك، ونفياً لهذه النكتة السوداء وإيثاراً لحقك؛ فارحمه واغفر له واجعل الآخرة خيراً له مرداً ومنقلباً من الدنيا) ، ثم جرض بريقه وتردد الكلام في فيه ، فانتحب باكياً وبكى الناس، ولما نزل بايعه علماء البصرة وعبادها وزهادها، واختصت (المعتزلة) به مع (الزيدية) ولازموا مجلسه وتولوا أعماله.
[مكاتبة أبي حنيفة]
وكان أبو حنيفة يدعو إليه سراً مخافة السلطان الجائر ويكاتبه.
وكتب إليه: إذا أظفرك الله بآل عيسى بن موسى وأصحابه فلا تسر فيهم سيرة أبيك يوم الجمل، فإنه لم يقتل المدبر، ولم يجهز على الجريح، ولم يغنم الأموال؛ إن القوم لم يكن لهم فئة ولكن سر فيهم سيرته يوم صفين فإنه وقف على الجريح وقسم الغنيمة لأن أهل الشام كان لهم فئة.
فظفر أبو جعفر بكتابه فسقاه شربة مات منها؛ فأبو حنيفة مات شهيداً في حب أهل البيت عليهم السلام.
وسئل شعبة الفقيه عن إبراهيم بن عبدالله، فقال شعبة: تسألونني عن إبراهيم وعن القيام معه؟ تسألونني عن إبراهيم بن رسول الله؟ (والله لهو عندي بدر الصغرى).
وروي عنه أنه قال وقد أتاه قتل إبراهيم بن عبدالله: (لقد بكى أهل السماء على إبراهيم بن عبدالله).
وعن إبراهيم بن سويد الحنفي، قال: سألت أبا حنيفة وكان لي مكرماً أيام إبراهيم بن عبدالله فقلت: أيهما أحب إليك بعد حجة الإسلام الخروج إلى هذا الرجل أو الحج؟ فقال: (غزوة بعد حجة الإسلام أفضل من خمسين حجة).
وكان إبراهيم عليه السلام يقول: (هل هي إلا سيرة علي عليه السلام أو النار).
وكان من كلامه: (إني وجدت جميع ما يطلبه العباد من جسيم الخير عند الله في ثلاث في المنطق والنظر والسكوت، وكل منطق ليس فيه ذكر فهو لغو، وكل سكوت ليس فيه ذكر فهو سهو، وكل نظر ليس فيه اعتبار فهو غفلة؛ فطوبى لمن كان منطقه ذكراً، ونظره اعتباراً، وسكوته تفكراً، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته، وسلم المسلمون منه) وهذه الكلمات على قلتها جامعة للخير كله.
[ومن القائلين بإمامته من جمهور العلماء]
وقال بإمامته جمهور العلماء من (المعتزلة) و(الزيدية)، وكان أبو حنيفة يعظمه ويكرمه ويفتي الناس بالخروج معه.
قال إسحاق الفزاري: جئت إلى أبي حنيفة فقلت له: ما اتقيت الله في أخي حيث أفتيته بالخروج مع إبراهيم بن عبدالله حتى قتل؟ فقال لي: قتل أخيك مع إبراهيم بن عبدالله يعادل قتله لو قتل يوم بدر، وشهادته مع إبراهيم خير له من الحياة، قلت: فما منعك أنت من ذلك؟ قال: ودائع كانت للناس عندي، وقد تقدم ما رويناه عن الزمخشري حيث روى أنها جاءت إلى أبي حنيفة المرأة التي أمر ولدها بالخروج مع إبراهيم بن عبدالله فقتل، وكلامه لها.
وقد ذكر الشيخ أبو الفرج في (مقاتل الطالبيين) العلماء الذين خرجوا مع إبراهيم عليه السلام، وفيهم الزهاد والعباد كبشير الرحال ومطر الوراق.
قال: وبعث أبو جعفر رجلاً يتجسس له أخبار إبراهيم وأحواله فلما رجع إليه، قال له: كيف رأيت بشير الرحال ومطر الوراق؟ قال: رأيتهما يدخلان إلى إبراهيم عليهما السلاح، فقال: ما كنت أرى أن الصوم أبقى منهما ما يحملان به السلاح.
وأخباره عليه السلام كثيرة ولم نتعرض لها وإنما ذكرنا هذا الكلام إشارة إلى فضله، وأن انقياد العلماء له وإجابتهم لدعوته ما كان ذلك إلا لعلمه، ولو لم يكن في أهل البيت إلا هذان الأخوان وقيامهما لله وجهاداً في سبيل الله حتى قتلا شهيدين، وقَدِمَا على رسول الله حميدين لكان لهم بهما مزية، وفي الفضل بمكانهما رتبة سنية، كيف وأئمتهم كلهم على هذا المنوال في كمال الصفات والأحوال.
وقد ذكر الحاكم رحمه الله محمد وإبراهيم ويحيى أبناء عبدالله بن الحسن، قال: وقد بينا إمامتهم وثبوتها في (كتاب الإمامة) فلا شبهة في اجتماع الخصال فيهم، وأنه تابعهم الخلق.
وعن الحسين بن زيد قال: (شهد مع النفس الزكية من ولد الحسين أربعة أنا وأخي عيسى بن زيد، وعبدالله وموسى ابنا جعفر بن محمد).
[الإمام الحسين بن علي (صاحب فخ) (ع)]
(128- 169هـ / 746- 786م)
وأما الإمام الطاهر الفاضل الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن الفخي عليه السلام:
فإنه كان من العلم والفضل والزهد والكرم والصلاح والعفاف وأوصاف الكمال كلها بمكان لا زيادة عليه ولا ينتهى إليه ، وكان الغالب على أخلاقه السخاء ، فإنه يروى أنه كان يعطي كلما يجد ويتَديَّن إذا لم يجد ويقول: (ما أظن الله يثيبني على هذا العطاء لما أجد في نفسي من الشهوة له، وإنما الثواب على قدر الكلفة والمشقة).
نشأ على منهاج السداد وطريق الرشاد جامعاً بين العلم والعمل حتى انتهى إلى ذروة الشرف والكمال، وحاز محاسن الخلال، ومحامد الخصال، وجمع شرائط الإمامة على الوفاء، واستولى على قصبات السبق غاية الاستيلاء، وروى فيه العلماء ما يقضي بفضله من الآثار.
[الآثار الواردة فيه عَلَيْه السَّلام]
فمن ذلك: ما رواه أبو الفرج في (مقاتل الطالبية) بإسناده عن زيد بن علي، قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى (موضع فخ) فصلى بأصحابه صلاة الجنائز ثم قال: ((يقتل هاهنا رجل من أهل بيتي في عصابة من المؤمنين ينزل لهم بأكفان وحنوط من الجنة تسبق أرواحهم إلى الجنة قبل أجسادهم)) .
وروى بإسناده عن محمد بن علي الباقر قال: مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفخ فنزل فصلى ركعة فلما صلى الثانية بكى وهو في الصلاة ، فلما رأى الناس النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبكي بكوا؛ فلما انصرف قال عليه السلام: ما يبكيكم؟ قالوا: رأيناك تبكي فبكينا يا رسول الله ، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((نزل جبريل عليه السلام لما صليت الركعة الأولى فقال يا محمد إن رجلاً من ولدك يقتل في هذا المكان وأجر الشهيد معه أجر شهيدين)) .
وكان أبوه علي بن الحسن من العبادة على صفة خارجة عن العادة، وكان أهله في حبس أبي الدوانيق لا يعرفون أوقات الصلاة إلا بتلاوته للقرآن في وظائف عبادته التي قد كان وظفها، لأن أبا الدوانيق حبسهم في موضع لا يميزون فيه بين الليل والنهار فكانوا لا يهتدون لمعرفة الأوقات إلا بتلاوته عليه السلام.
[قيامه عَلَيْه السَّلام]
وما قام الحسين ودعا إلى نفسه حتى ظهرت المنكرات، وفشأت المقبحات، وبايعه العلماء والسادة من أهل بيته، وكان ممن بايعه إبراهيم بن إسماعيل أبو القاسم بن إبراهيم.
قال عليه السلام: حدثني أبي قال: بايعنا الحسين بن علي الفخي على أنه هو الإمام، وخطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال بعد حمد الله والثناء عليه: (أنا ابن رسول الله على منبر رسول الله في حرم رسول الله أدعوكم إلى سنة رسول الله).
وقال: (أيها الناس أتطلبون آثار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحجر والعود وتمسحون بذلك وتضيعون بضعة منه).
وخرج من المدينة عازماً على الحج بعد أن أظهر الدعوة (بالمدينة) وتوجه في جماعة من أهل بيته وقوم من شيعته إلى (مكة) حرسها الله، فلما صاروا بواد يقال له (فخ) أقبلت (المسودة) من عساكر بني العباس.
[خبر أبي العرجاء الجمّال]
وعن أبي العرجاء جمّال عيسى بن موسى وهو أمير الجيش، قال: لما وصلنا بستان بني عامر نزل فقال: اذهب إلى عسكر الحسين حتى تراه وتخبرني بكلما رأيت قال: فمضيت فما رأيت خللاً ولا فللاً ولا رأيت إلا مصلياً أو مبتهلاً أو ناظراً في مصحف أو مُعدّاً لسلاح.
قال: فجئته فأخبرته فضرب يداً على يد وبكى حتى ظننت أنه سينصرف ثم قال: (هم والله أكرم عند الله وأحق بما في أيدينا منا، ولكن الملك عقيم، والله لو أن صاحب القبر نازعنا الملك ضربنا خيشومه بالسيف).
ولما كانت الوقعة أصابت الحسين بن علي جراحة والدم لا يرقى فقال له من قال: أنت في هذه الحال لو تنحيت فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن الله ليبغض العبد يستأسر إلا من جراحة مثخنة)) .
ودفن في المعركة قطعة من جلدة وجهه في حال الحرب، ولما قتل عليه السلام قطع رأسه وحمل إلى موسى الملقب بالهادي، ودفن بدنه (بفخ) ومشهده مشهور مزور، وأمر الإمام المنصور بالله عليه السلام بعمارة قبة عليه وعلى الحسن بن محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن سنة إحدى وستمائة.
فلينظر الناظر في هؤلاء الأئمة وما لاقوا من أمر هذه الأمة وسلاطين الظلم والظلمة، وما يوصف به الإمام من العترة الطاهرة من الفضل والعمل والصلاح ، وما يوصف به من يعاصره من خلفاء بني العباس من الجور والجهل والفساد، وما مُنِيَ به أهل البيت عليهم السلام من تحامل الناس عليهم وهم العلماء القادة الفضلاء السادة.
وليتفكر المتفكر في علم العترة الطاهرة كيف بقي على هذه الأحوال العظيمة، والمصائب الجسيمة، وإراقة دمائهم في كل معركة، وتورطهم في كل مهلكة، وهل بقاء علمهم على هذا البلاء العظيم إلا من فضلهم ، ومن أدل دليل على شرفهم عند الله وسمو محلهم.
لأن أهل الزمان أتباع السلطان إلا القليل النادر، وكان مذهب سلاطين تلك الأزمنة الاجتهاد في حصد ثمرات النبوة، وإهلاك أغصان دوحة الرسالة، فلم يبق منهم إلا من أسارته السيوف، ولفظته الحبوس، وقذفته أفواه المهالك.
وكان علماء الأمة من فقهاء الأمصار وعيون تلك الأعصار يُحْبَونَ بالأموال والتحف والهدايا والطرف، ويصانعهم السلطان وينحلهم سيما مع رفضهم لأمر أئمة العترة؛ إما لشر يتقونه أو لاستخفاف بهم يتوقونه.
ولو شئت لذكرت من ذلك ما يعرف به المنصف أن أهل البيت عليهم السلام إنما رفضهم الناس خوفاً من السلطان، أما العالم فلخوفه على نفسه وجاهه وانقطاع مواده، وأما الجاهل فلخوفه على ماله وأهله ونفسه وولده وما يختص به.
فتساوى الناس في رفضهم والأخذ عنهم والتعلم منهم، ومن يتعلم من عالم والسيف مسلول على رأسه لضربه به! والحبس مهيأ لإدخاله إياه، والقيد مُثْقَلٌ لصكه فيه؛ هذا ما لا يفعله عاقل لأن الخوف بدون هذا.
* * * * * * * * * * *
[استطراد: عيسى بن زيد (ع)]
(109- 166هـ / 727- 783م)
وهذه صفة عالم أهل البيت عليهم السلام وفي حكايات أحوالهم في هذا الشأن طول، فإن الفاضل عيسى بن زيد فقيه العترة وعالمها كان يسقي على جمل على صورة البدوي.
وروى أبو الفرج عن محمد بن منصور المرادي، قال: قال يحيى بن الحسين بن زيد بن علي : قلت لأبي : يا أبه إني أشتهي أن أرى عمي عيسى بن زيد فإنه يقبح بمثلي ألا يلقى مثله من أشياخه، فيدافعني عن ذلك مدة وقال : إن هذا أمر يثقل عليه، وأخشى أن ينتقل من منزله كراهة للقائك إياه فتزعجه.
فلم أزل به أداريه وألطف به حتى طابت نفسه لي بذلك، فجهزني إلى (الكوفة) ثم قال لي: إذا صرت إليها فاسأل عن دور بني حي، فإذا دُللت عليها فاقصدها في السكة الفلانية، وسترى في وسط السكة داراً لها باب صفته كذا وكذا فاعرفه واجلس بعيداً منه في أول السكة، فإنه سيقبل عليك عند المغرب كهل طوال مصفر مستور الوجه، قد أثر السجود في جبهته ، عليه جبة صوف ، يستقي الماء على جمل ، وقد انصرف يسوق الجمل لا يرفع القدم ولا يضعها إلا ذاكراً لله عز وجل ودموعه تنحدر.
فقم فسلم عليه وعانقه فإنه سيذعر منك، فَعرّفُه بنفسك وانتسب له، فإنه يسكن إليك ويحدثك طويلاً، ويسألك عنا جميعاً، ويخبرك بشأنه ولا يضجر من جلوسك معه، فلا تطل فإنه سوف يستعفيك من العودة إليه، فافعل ما يأمرك به من ذلك، فإنك إن عدت إليه توارى منك واستوحش منك، وانتقل من موضعه وعليه في ذلك مشقة.
فقلت له: أفعل كلما أمرتني به؛ ثم جهزني إلى الكوفة وودعته وخرجت، ولما وردت الكوفة فعلت ما أمرني به فلما غربت الشمس إذ أنا به يسوق الجمل، وهو كما وصف لي أبي، فقمت إليه فعانقته فذعر مني كما يذعر الوحش من الأنس فقلت: يا عم أنا يحيى بن الحسين بن أخيك فضمني وبكى حتى قلت: قد جاءت نفسه؛ فأناخ جمله، وجلس معي، وجعل يسائلني عن أهله، وأنا أشرح له أخبارهم وهو يبكي.
ثم قال: يا بني أنا أستقي على هذا الجمل فأصرف ما أكتسبه أجرة الحمل إلى صاحبه، وأتقوت بباقيه، وربما عاقني عائق عن استقاء الماء فأخرج إلى البرية، فألقط ما يرمي به الناس من البقول وأتقوّته ، وقد تزوجت إلى هذا الرجل ابنته فهي لا تعلم من أنا إلى وقتي هذا، فولدت مني بنتاً فنشأت وبلغت، وهي أيضاً لا تعرفني، ولا تدري من أنا، فقالت لي أمها: زوج ابنتك بابن فلان السقاء -لرجل من جيراننا- فإنه أيسر منها، وقد خطبها وألحت علي.
فلم أقدر على إخبارها لأن ذلك غير جائز ولا هو كفؤ لها فيشيع خبري، فجعلت تلح عليّ فلم أزل استكفي الله أمرها حتى ماتت بعد أيام؛ فما أجدني آسى على شيء من الدنيا أساي على أنها ماتت ولم تعلم بموضعها من رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-. قال: ثم أقسم عليَّ أن أنصرف.
فأنظر إلى هذه البلوى التي ابتلى بها أهل هذا البيت الشريف، والأصل الباسق المنيف، هذا فقيه آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا خبره وهذا شأنه، فأين موضع التدريس منه وأخذ العلم عنه، وهو لا يتمكن من تعريف زوجته وابنته بنسبه ونفسه، وابن أخيه يتجهز لزيارته من أرض إلى أرض فلا يتركه يقيم عنده، لما يخاف من ظهور أمره وانتشار خبره.
[الإمام يحيى بن عبدالله بن الحسن (ع)]
(.... - نحو 180هـ /.... - نحو 797م)
وأما الإمام يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن عليهم السلام:
فكان من أفاضل أئمة أهل البيت عليهم السلام وساداتهم وعيونهم وقاداتهم، فاق أبناء عصره علماً وعملاً وفضلاً وكرماً وشجاعةً وسماحةً وزهادةً وعبادةً، وكان من جملة أصحاب الحسين بن علي الفخي عليه السلام وحضر الوقعة معه، وله أخبار في سيرة الإمام الفخي الحسين بن علي عليهما السلام أعرضنا عن ذكرها.
وهو خال الحسين الفخي لأن أمه زينب بنت عبدالله بن الحسن، ولم يكن في عصره من أهل بيته بعد الحسين الفخي أفضل منه، ولهذا قام بالأمر بعده، واختفى زماناً طويلاً ثم خرج إلى (العراق) ودعا هنالك، وكان من الفرسان الأبطال ذوي الشجاعة والبسالة.
وكانت له مع الحسين بن علي (صاحب فخ) مقامات محمودة، ومواطن مشهودة، وكان آدم حسن الوجه والجسم، تعرف سلالة الأنبياء في وجهه، إلى القصر ما هو.
[تعداد من روى عنهم عَلَيْه السَّلام]
قال الفقيه حميد [رحمه الله]: كان يحيى بن عبدالله من عيون العترة وفضلائها، قد نشأ على طريقة آبائه الأطهار السادة الأبرار، جامعاً بين العلم والعمل يروي الحديث عن أهله وغيرهم من الرواة ، وأكثر روايته عن جعفر بن محمد ، وروى عن أبيه، وأخيه محمد، وعن أبان بن تغلب، وعمر[و] بن حماد.
[قيامه عَلَيْه السَّلام]
وكان بعد (وقعة فخ) أظهر نفسه بعد أن استتر مدة وأخذ يطوف في الآفاق حتى وصل (صنعاء) وأقام بها شهوراً، وأخذ عنه علماء صنعاء علماً كثيراً؛ ثم دخل (بلاد الحبشة) ثم (بلاد الترك) فتلقاه ملكها بالإكرام وقدم له التحف العظيمة، ودعاه يحيى عليه السلام إلى الإسلام فأسلم على يده سراً، وبث يحيى دعاته في الآفاق فجاءته كتبهم ببيعة مائة ألف فيهم الفقهاء والعلماء، وخرج إلى بلاد الديلم وقال: (إن للديلم معنا خرجة وأرجو أن تكون معي) فلم تكن معه عليه السلام وكانت مع الناصر إلى الحق عليه السلام.
ولما بلغ خبره إلى هارون المسمى بالرشيد تبلبل باله، وتغيرت أحواله، وقطع شرب الخمر، ولبس الصوف، وافترش اللبود، وتحلّى بغير ما يعتاده لما علا صيت يحيى بن عبدالله في الآفاق، وانتشر ذكره في الدنيا بالعلم والصلاح والفضل والطهارة.
[من أجابه من العلماء]
وكان من جملة من تابعه من العلماء: محمد بن إدريس الشافعي فأعظم بإمام يبايعه الشافعي، ومن جملة من بايعه من العلماء المشهورين: عبد ربه بن علقمة، ومحمد بن عامر، ومخول بن إبراهيم، والحسن بن الحسن العرني، وإبراهيم بن إسحاق، وسليمان بن جرير، وعبد العزيز بن يحيى الكناني، وبشر بن المعتمر المعتزلي، وفليت بن إسماعيل، ومحمد بن أبي نعيم، ويونس بن إبراهيم، ويونس البلخي، وسعيد بن خثيم.
وجرت على الشافعي رحمه الله نكبة بسبب دعائه إلى يحيى بن عبدالله، وذلك أن الرشيد لما بلغه أن الشافعي يدعو إلى يحيى عليه السلام أنفذ إليه من أتى به من اليمن على حمار مقيداً مكشوف الرأس، فأدخل بغداد على تلك الهيئة.
[كتاب ابن أبي يحيى المدني، شيخ الشافعي]
ومن أفاضل أصحاب يحيى بن عبدالله عليه السلام إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الذي يقال له أستاذ محمد بن إدريس، كان من دعاة يحيى عليه السلام ومن أجلة أصحابه؛ فكتب إلى أبي محمد الحضرمي كتاباً قال فيه بعد ذكر الله والبسملة: سلام عليك فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو وأسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وعلى المستوجبين الصلاة من أهله.
أما بعد؛ فقد بلغني حبك أهل البيت عامة، ويحيى بن عبدالله خاصة؛ لمكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- منهم، ولموضعهم الذي فضلهم الله به من بيننا، فلقد وُفِّقْتَ لرشدك بمودتك لهم ؛ لأنهم أحقّ الناس بذلك منك ومن الأمة ، وأقمنهم أن يقربك حبهم إلى ربك لأنهم أهل بيت الرحمة، وموضع العصمة، وقرار الرسالة، وإليهم كان مختلف الملائكة، وأهل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وعترته.
فهم معدن العلم وغاية الحلم؛ فتمسك بصاحبك واستظل بظله، وأعنه على أمره، وارض به محلاً، ولا ترض به بدلاً؛ فإنه من شجرة باسقة الفرع، طيبة النبع، نابتة الأصل، دائمة الأكل، قد ساخت عروقها فهي طيبة الثرى، واهتزت غصونها فهي تنطف الندى، وأورقت نضرة، ونوّرت مزهرة، وأثمرت مورقة، لا ينقص ثمارها الجناة، ولا يترعها السقاة، فمن نزل بها وآوى إليها ورد حياضاً تفيض، ورعى رياضاً لا تغيض، وشرب شرباً هنيئاً مرياً [متلألئاً عريضاً فضيضاً]، فرَويَ وأروى من [قرار] رواء بدلاء ملآء، مبذولة غير ممنوعة ، معروضة غير مقطوعة ، فاستمسك بالعروة الوثقى من معرفة حق الله عليك في نصرة يحيى وتحريم حرمته، واستعظم الظفر بما يلزمك من حفظه، لمكان النبي ومكان الوصي، ومكان أهله منه، وحفظ دين الله خاصة وفي أهل البيت عامة.
واحببهم جميعاً حباً نافعاً، واجعل حبك إياهم حباً دائماً بغير تقصير ولا إفراط ولا احتراق ولا اختلاق، تجمعهم إذا افترقوا، ولا تفرقهم إذا اجتمعوا، ولا تصدق عليهم أهل الفرية من (الرافضة) الغلاة؛ فإنهم العداة للقائمين بالحق من العترة، وسوء النية فيهم، والجرأة على الله بالإفك والشنآن، وهم أهل الخلابة وقلة المهابة للعواقب.
واعلم أن من اعتقد ترك ما نُهى عنه في السر الباطن، وأظهر الحق في المواطن، ولزم التقوى، وحفظ حق ذوي القربى، وتجنب في حقهم الجور والحزونة، وسلك الطريقة الوسطى، وسار فيهم بالقسط والسهولة، وأقر بالفضل لأهله، وفضل ذوي تفضيله، ودعا إلى الله تعالى وإلى كتابه وسنة نبيه، ولم ير الإغماض في دينه، ولم ينقض مبرماً، ولم يستحلّ محرماً ؛ فمن كانت هذه حاله لحق بالصالحين من سلفه ومن خير آبائه الطاهرين؛ فتدبر ما وصفت لك.
حتى قال في وصف أهل البيت: فهم كمثل من خلا من قبلهم مستهم البأساء والضراء، ونالهم المكروه واللأواء، والشدة والأذى، امتحنوا بعظيم المحن والبلوى فصبروا لله على ما امتحنهم به، وأخلصوا لله ما أرادوا منه، فحباهم على ما أسلفوا، وكافاهم بجميل ما اكتسبوا، وأحبهم لعظيم ما صبروا، والله يحب الصابرين. رزقنا الله تراحم الأبرار، وتواصل الأخيار الذين لهم عقبى الدار، وفتح لنا ولك أبواب الحكمة، وعصمنا وإياك بحبل العصمة، وشملنا بجميل النعمة، والسلام عليك ورحمة الله.
هذا كتاب حسن أردنا به الإشارة إلى اعتراف صاحبه بفضل العترة.
[ظهور الإمام يحيى بن عبدالله(ع) في الديلم]
ولما ظهر فضل يحيى بن عبدالله أصاب هارون لظهوره ما أقامه وأقعده، وخاف منه على ملكه ودنياه؛ جهز الفضل بن يحيى بالجنود، والأموال الجليلة، وأمره أن يبذل لجستان ما يحبه من الأموال ، وأوصاه أن يعرض على يحيى عليه السلام كل أمر يوافق خاطره، وأن يعظم له القطائع الجليلة على احترامه واحترام شيعته، وأن يسكن حيث أحب من البلاد.
وبذل لملك (الديلم) ألف ألف درهم على خروج يحيى من بلاده فامتنع، وأرسل الفضل بن يحيى بالأموال وأنواع التحف والهدايا فلم يؤثر ذلك فيه، واستمر على امتناعه على يحيى عليه السلام.
وكان هارون قد كتب كتاباً إلى يحيى عليه السلام وأودعه الفضل، فيه الأمان والوثاق، وبذل له من المال ألف ألف في ألف ألف في ألف ألف ، وما أحبّ من القطائع، وينزله من البلاد حيث شاء.
[كتاب الإمام يحيى(ع) إلى هارون]
وكتب يحيى عليه السلام إلى هارون جواب كتابه ونحن نذكره بكماله، ليعرف الناظر فيه فضل أئمة العترة، وأنهم لم يكونوا يبتغون الدين بالدنيا، والآجلة بالعاجلة، وأن مقاصدهم لله خالصة فيزداد معرفة بفضلهم، وعلماً بورعهم وزهدهم.
قال يحيى عليه السلام في جوابه:
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد؛ فقد فهمت كتابك، وما عرضت علي فيه من الأمان على أن تبذل لي أموال المسلمين، وتقطعني ضياعهم التي جعل الله لهم دوني ودونك، ولم يجعل لنا فيها نقيراً ولا فتيلاً، فاستعظمتُ الإستماع له فضلاً عن الركون إليه، واستوحشت منه تنزهاً عن قبوله، فاحبس عني أيها الإنسان مالك وإقطاعك وقضاءك حوائجي ، فوالله لو أن من قتلته من أهلي تركٌ وديالم على بُعد أنسابهم مني، وانقطاع رحمهم عني ؛ لوجب عليّ نصرتهم والطلب بدمائهم، إذ كان منكم قتلهم ظلماً وعدواناً، والله لكم بالمرصاد لما ارتكبتم من ذلك، وعلى الميعاد لما سبق فيه من قوله ووعيده، وكفى بالله جازياً ومعاقباً وناصراً لأوليائه، ومنتقماً من أعدائه.
وكيف لا أطلب بدمائهم وأنام عن ثأرهم؟ والمقتول بالجوع والعطش والنكال، وضيق المحابس وثقل الأغلال، وغدو العذاب وترادف الأثقال، أبي عبدالله بن الحسن الشيبة الزكية ذو الهمة السنية والديانة المرضية، والخشية والبقية، شيخ الفواطم وسيد أبناء هاشم، أرفع أهل عصره قدراً، وأكرم أهل بلاد الله فعلاً، ثم يتلوه إخوته وبنو أبيه؛ ثم إخوتي وبنو عمومتي نجوم السماء، وأوتاد الدنيا، ونزهة الأرض، وأمان الخلق، ومعدن الحكمة، وينبوع العلم ، وكهف المظلوم، ومأوى الملهوف، ما منهم أحد إلاّ لو أقسم على الله لأبر قسمه.
فما أنسى من الأشياء فلا أنسى مصارعهم، وما حلّ بهم من سوء مقدرتكم، ولؤم ظفركم، وعظيم إقدامكم، وقسوة قلوبكم؛ إذ جاوزتم قتلة من كفر بالله إفراطاً، وعذاب من عاند الله إسرافاً، ومُثْلة من جحد الله عتواً، وكيف أنساه؟ وما أذكره ليلاً إلا أقض عليّ مضجعي، وأقلقني عن موضعي، ولا نهاراً إلا أَمرّ عليّ عيشي، وقَصّر إليَّ نفسي، حتى لوددت أني أجد السبيل إلى الاستعانة عليكم بالسباع فضلاً عن الناس، وأجد منكم حق الله الذي أوجب عليكم ، وأنتصف من ظالمكم، وأشفي غليل صدر قد كثرت بلابله، وأسكن قلباً جماً وساوسه من المؤمنين، وأذهب غيظ قلوبهم ولو يوماً واحداً ثم يقضي الله فيّ ما أحب.
وإن أعش: فمدرك ثأري داعياً إلى الله تعالى على سبيل الرشاد أنا ومن اتبعني، نسلك قصد من سلف من آبائي وإخواني وإخوتي القائمين بالقسط الدعاة إلى الحق، وإن أمت فعلى سَنَن ما ماتوا؛ غير راهب لمصرعهم ولا راغب عن مذهبهم، فلي بهم أسوة حسنة، وقدوة هادية ، فأول قدوتي منهم أمير المؤمنين –رضوان الله عليه- [إذ ما زال قائماً حين القيام على المؤمن مع الإمكان حتماً والنهوض لمجاهدة الجائرين فرضاً فـ] اعترضه من كان كالظلف مع السنام، ونازعه من كان كالظلمة مع الشمس، فوجدوا لعمر الله من حزب الشيطان مثل من وجدت ، وظاهرهم من أعداء الله مثل من ظاهرك ، وهم بمكان الحق عارفون ، وبمواضع الرشد عالمون، فباعوا عظيم أجر الآخرة بحقير عاجل الدنيا، ولذيذ الصدق بغليظ مرارة الإفك.
إلى أن قال عليه السلام: ثم تلاه الحسن سليل رسول الله وشبيهه سيد شباب أهل الجنة، فجاهد من كان أمير المؤمنين جاهده، وسكن إليه من المسلمين من شايعه، من ذوي السابقة وأهل المآثر.
وحتى قال فيه: فلما قصرت طاقته، وعجزت قوته، وخذله أعوانه، سالم هو وأخوه مظلومين معذورين موتورين، فاستثقل اللعين بن اللعين حياتهما واستطال مدتهما، فاحتال بالاغتيال لابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى نال مراده وظفر بقتله، فمضى مسموماً مغموماً شهيداً فقيداً وغبر شقيقه وأخوه وابن أمه وأبيه وشريكه في فضله، ونضيره في سؤدده على مثل ما انقرض عليه أبوه.
حتى قال وقد ذكر حال الحسين عليه السلام: فقتلوه ومنعوه ماء الفرات وهو مبذول لسائر السباع، وأعطشوه وأعطشوا أهله، وقتلوهم ظمأى يناشدونهم فلا يجابون ويستعطفونهم فلا يرحمون، ثم تهادوا رأسه إلى يزيد الخمور والفجور تقرباً إليه، فبعداً للقوم الظالمين.
حتى ذكر الحسن بن الحسن، وأنه مات مسموماً يتحسى الحسرة ويتجرع الغيظ؛ حتى إذا ظهر الفساد في البر والبحر شرى زيد بن علي عليه السلام نفسه، فما لبث أن قتل ثم صلب ثم أحرق، فأكرم بمصرعه مصرعاً.
ثم ما كان إلا طلوع ابنه يحيى عليه السلام ثائراً بخراسان فقضى نحبه وقد أعذر، وقد كان أخي محمد بن عبدالله دعا بعد زيد وابنه عليهما السلام، فكان أول من أجابه وسارع إليه جدك محمد بن علي بن عبدالله بن العباس وإخوته وأولاده، فخرج ابن عمه يقوم بزعمه حتى خدع بالدعاء إليه طوائف.
ومعلوم عند الأمة أنكم كنتم لنا تدعون وإلينا ترجعون، وقد أخذ الله عليكم منكم ميثاقاً غليظاً لنا، وأخذنا عليكم ميثاقاً لمهدينا محمد بن عبدالله النفس الزكية الخائفة التقية المرضية، فنكثتم عند ذلك، وادعيتم من إرث الخلافة ما لم تكن تدعونه.
حتى قال: أو لم يكن لكم خاصة وللأمة عامة في محمد بن عبدالله فضلاً؟ إذ لا فضل يعدل في الناس فضله، ولا زهد يشبه زهده، حتى ما يتراجع فيه اثنان ولا يتراد فيه مؤمنان، ولقد أجمع أهل الأمصار من أهل الفقه والعلم في كل البلاد على فضله، لا يتخالجهم فيه الشك، ولا تَقِفْهُم عنه الظنون؛ فما ذكر عند خاصة ولا عامة إلا اعتقدوا محبته، وأوجبوا طاعته، وأقروا بفضله، وسارعوا إلى دعوته.
حتى قال: حتى إذا حصلت لكم بدعوتنا، وهدأت عليكم بخطبتنا، وقرّت لكم بنسبتنا قالت لكم أجرامكم إلينا، وجنايتكم علينا أنها لا توطأ لكم إلا بإبادة خضرائنا، ولا تطمئن لكم دون استئصالنا، فأغرى بنا جدك المتفرعن فقتلنا ولا يخفى أثره فينا عند المسلمين حتى أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، قبل بلوغ شفاء قلبه من فنائنا، وهيهات أن يدرك الناس ذلك، ولله فينا خبيئة لا بد من إظهارها، وإرادة لا بد من بلوغها.
فالويل له، فكم من عين طالما غمضت عن محارم الله، وسهرت متهجدة لله، وبكت في ظلم الليل خوفاً من الله، قد أسحّها بالعبرات باكية، وسمّرها بالمسامير المحماة، وألصقها بالجدران المرصوفة قائمة، وكم من وجه طالما ناجى الله مجتهداً، وعنى لله متخشعاً بالعمد مغلولاً مقتولاً ممثولاً به.
وتالله أن لو لم يلق الله إلا بقتل النفس الزكية أخي محمد بن عبدالله رحمة الله عليه للقيه بإثم عظيم وخطب كبير؛ فكيف وقد قتل أبا النفس الزكية وأخوته وبني أخيه، ومنعهم روح الحياة في مطابقه، وحال بينهم وبين خروج النفس في مطاميره، لا يعرفون الليل من النهار ولا مواقيت الصلاة إلا بإجزاء تجزئةٍ قد عرفوها حال أوقات الصلوات، قرماً منه إلى قتلهم، وقطعاً منه لأرحامهم، وترة لرسول الله فيهم.
فولغ فيهم ولغان الكلاب، وضريَ بقتلهم ضراوة الذئاب، ونهم بهم نهم الخنزير والله له ولمن عمل عمله بالمرصاد.
فلما أهلكه الله قابلتنا أنت وأخوك الجبار الفظ الغليظ العنيد بأضعاف فتنته، واحتذاء سيرته، قتلاً وعذاباً وتشريداً وتطريداً، فأكلتمانا أكل الرُّبا حتى إذا لفظتنا الأرض خوفاً منكما، وتأبّدنا في الفلوات هرباً عنكما، فأَنِستْ بنا الوحوش وأنسنا بها، وألفتنا البهائم وألفناها.
ولو لم يجترم أخوك إلا قتل الحسين بن علي وأسرته بفخ لكفى بذلك عند الله وزراً عظيماً، وسيعلم وقد علم ما اقترف والله مجازيه وهو المنتقم لأوليائه من أعدائه.
ثم امتحننا الله بك من بعده فحرصت على قتلنا، وظلمت الأول والآخر منا، لا يمنعك منهم بعد دار ولا نأي جار، تتبعهم حيلك ومكائدك حيث سُيّروا من بلاد الترك والديلم ، لا تسكن نفسك ولا يطمئنّ قلبك دون أن تأتي على آخرنا ، ولا تدع صغيرنا ولا ترثى لكبيرنا، لئلا يبقى داع إلى حق ولا قائل بصدق، ولا أحد من أهله.
حتى أخرجك الطغيان وحزّبك الشنآن أن أظهرت بغضة أمير المؤمنين، وأعلنت بنقصه، وقربت مبغضيه، وآويت شانئيه، حتى أربيت على بني أمية في عداوته، وأشفيت غلتهم في تناوله، وأمرت بكرب قبر الحسين بن علي -صلوات الله عليه- وتعمية موضعه، وقتل زوّاره، واستئصال محبيه، وأوعدت فيه وأبرقت على ذكره.
فوالله لقد كانت بنو أمية الذين وصفنا آثارهم مثلاً لكم، وعددنا مساوئهم احتجاجاً عليكم، على بعد أرحامهم أرأف بنا، وأعطف علينا قلوباً منكم، وأحسن استبقاء لنا ورعاية من قرابتكم، فوالله ما بأمركم خفاء، ولا بشأنكم امتراء، ولِمَ لا نجاهد وأنت معتكف على معاصي الله صباحاً ومساء، مغتراً بالمهلة، آمناً من النقمة، واثقاً بالسلامة.
حتى قال: ثم لم يشغلك ذلك عن قتل أولياء الله وانتهاك محارم الله؛ فسبحان الله ما أعظم حلمه، وأكثر أناته عنك وعن أمثالك، ولكنه تبارك وتعالى لا يعجل بالعقوبة، وكيف يعجل وهو لا يخاف الفوت؟ وهو شديد العقاب.
فأما ما دعوتني إليه من الأمان، وبذلت لي من الأموال، فمثلي لا تثني الرغائب عزمته، ولا تنحل بخطير همته، ولا يبطل سعياً باقياً على الأنام أثره، ولا يترك عملاً جزيلاً عند الله أجره بمال فانٍ وعارٍ باق، هذه صفقة خاسرة وتجارة بائرة، وأستعصم الله منها وأسأله أن يجيرني من مثلها بمنه وطوله..إلى آخر ما ذكره عليه السلام في كتابه.
وإنما أردنا الكشف عن أمرين: أحدهما: ما لقي أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ولاة السوء وأئمة الضلال وسلاطين الجور.
والأمر الثاني: بيان فضل أئمة العترة النبوية في حسن مقاصدهم الدينية، وانصرافهم بوجوههم عن زخارف الدنيا الدنية، وتورع أحدهم عن مسالمة الظلمة وهو يرجو على جهادهم أعواناً، ويدعو إلى قتالهم إخواناً.
قال يحيى بن عبدالله عليه السلام في آخر كتابه إلى هارون: أفأبيع خطيري بمالكم، وشرف موقفي بدراهمكم، وألبس العار والشنار بمقامكم، لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، والله ما أكلي إلا الجشب، ولا لباسي إلا الخشن، ولا شعاري إلا الدرع، ولا صاحبي إلا السيف ، ولا فراشي إلا الأرض ، ولا شهوتي من الدنيا إلا لقاؤكم والرغبة في مجاهدتكم، ولو موقفاً واحداً لانتظار إحدى الحسنين في ذلك كله في ظفر أو شهادة.
انظر إلى هذا الكلام الفاضل الصادر عن هذا الإمام الفاضل هل يعلم بمثل هذا التصلب في دين الله لأحد من أئمة فرق الإسلام؟ أو يسمع بمثل هذا التشدد في أمر الله لغير أئمتنا السادة الأعلام، وبهذا كانوا هم الفرقة الناجية والعصابة الهادية، ولم نستوعب كلام يحيى بن عبدالله إلى آخر ما جرى له مع هارون، فإن نهاية ذلك أن قتله بعد الأمان.
قال السيد أبو طالب: كان يحيى عليه السلام إذا فرغ من صلاة العشاء الآخر يسجد سجدة طويلة إلى قرب السحر ثم يقوم فيصلي، وكان هارون يطلع عليه من قصره فقال ليلة ليحيى بن خالد وهو عنده: انظر إلى ذلك الصحن هل ترى فيه شيئاً، وأشار إلى الموضع الذي يسجد فيه يحيى عليه السلام فقام ونظر فقال: أرى بياضاً ثم قال قرب طلوع الفجر هل ترى ذلك البياض؟ قال: لست أراه؛ فقال: ذلك يحيى بن عبدالله إذا فرغ من صلاة العتمة يسجد سجدة فيبقى فيها إلى آخر الليل.
[نقض الأمان]
وجمع الرشيد الفقهاء وفيهم محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وأبو البختري وهب بن وهب -أخزاه الله-، فخرج إليهم مسرور بالأمان، فبدأ بمحمد بن الحسن فنظر فيه فقال: هذا أمان مؤكد لا حيلة في نقضه، وكان يحيى عليه السلام قد عرضه بالمدينة على مالك وابن الدراوردي وغيرهم فعرفوه أنه مؤكد.
ثم دفعه إلى الحسن بن زياد، فقال بصوت ضعيف: هو أمان، وروي أن محمد بن الحسن قال: من نقضه فعليه لعنة الله، فسمعه الرشيد فأخذ الدواة فرماه بها فشجه، فانصرف إلى منزله وهو يبكي فقال له صاحبه: أتبكي من شجة في سبيل الله؟ قال: لا والله، ولكني أخاف أن أكون قصرت في أمر يحيى فأكون قد شرّكت في دمه.
وقال وهب أبو البختري: هذا باطل منتقض قد شق العصا وسفك الدم فاقتله، ودمه في عنقي فاجترى -لعنه الله- على الله رغبة في الدنيا، ورفضاً للآخرة، وحباً للعاجلة، وزهداً في الآجلة، وشق كتاب الأمان بيده وهي ترتعد تقرباً إلى الرشيد، وتحبباً إليه ليصيد منه ما يصيد، ويأخذ من حطام الدنيا ما يريد، وقد أعطاه خمسمائة ألف درهم، وولاه قضاء القضاة، ومنع محمد بن الحسن من الفُتْيَا مدة طويلة.
ولئن تقرب أبو البختري الشقي إلى هارون لقد تباعد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهارون، ولئن تحبب إلى المسمى بالرشيد لقد تبغض إلى رسول الله يوم الوعيد، يوم تأتي كل نفس معها سائق وشهيد.
فلينظر المنصف فضل العترة المطهرة، وماذا لاقته من علماء الدنيا عبيد الدنيا ورفضة الآخرة، فليأخذ المنصف لنفسه بالوثيقة، وليعرف في الدين أهل الحقيقة، ولم نذكر وفاة يحيى عليه السلام وما اختلف فيه من أسبابها، والجملة أنه مات شهيداً، وذهب هارون المكنى بالرشيد خاسراً، ومضى يحيى بن عبدالله رشيداً.
* * * * * * * * * * * *
[الإمام إدريس بن عبدالله بن الحسن (ع)]
(...- 177هـ /...- 794م)
وأما الإمام الزاهد التقي إدريس بن عبدالله بن الحسن بن الحسن عليهم السلام:
فإنه كان فاضلاً زاهداً تقياً عالماً صالحاً زكياً، نشأ على طريق أهله الأطهار، وسلفه الأبرار، مرتضعاً أخلاف العلم ، مرتدياً أثواب الحلم، جمع خصال الإمامة، وأحرز قصبات السبق في الزعامة، وكان من أصحاب الحسين الفخي وحضر الوقعة وقاتل وأصابته جراحة صبغت قميصه دماً.
قام عليه السلام بديار الغرب، ودعا هنالك وأجابه خلق كثير، وله دعوة عجيبة تدل على فضله وبراعته، وعلمه وبلاغته، وهو شبيه بكلام أخيه يحيى بن عبدالله عليهما السلام قال في آخرها: (وأنا المظلوم الملهوف الطريد الشريد، الخائف الموتور، الذي كثر واتره، وقل ناصره، وقُتل إخوته وأبوه، وجده وأهله؛ فأجيبوا داعي الله فقد دعاكم إلى الله).
ولما ظهر إدريس عليه السلام ضاقت بهارون مذاهبه، وانكدرت عليه مشاربه؛ فلم يزل يعمل المكائد في هلكه خوفاً منه على ملكه فقتله بالسم ، ومات إدريس عليه السلام مسموماً.
فانظر إلى هؤلاء الأخوة الأربعة محمد وإبراهيم ويحيى وإدريس عليهم السلام هلكوا كلّهم شهداء ، وهم أفضل من تحت أديم السماء، ومن عاصرهم من العلماء لم يشاركوهم في شيء من مصائب الدنيا، ويريد من لا حظ له في محبة أهل البيت أن يساوي بينهم وبين أهل السلامة من هذه البلوى ، فيقول بجهله: أين علومهم ومصنفاتهم ورواياتهم ومؤلفاتهم؟ ولو أنصف ونظر بعين التأمل والإنصاف لعلم أن بقاء علم أهل البيت من العترة النبوية بعد هذه الحوادث العظيمة، والنوائب الجليلة الجسيمة، من الآيات الباهرة، والفضائل الظاهرة.
وكيف وكتب الزيدية بالروايات عنهم مشحونة، وعلومهم باقية وإن كانت أشخاصهم مدفونة، فقدس الله أرواحهم وشرّف أشباحهم، وجعل في جنة الفردوس روحهم ومراحهم، بحق محمد وآله آمين آمين.
* * * * * * * * * * *
[الإمام محمد بن إبراهيم بن إسماعيل (ع)]
(173- 199هـ / 790- 815م)
وأما الإمام العالم الفاضل الزاهد محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن عليهم السلام:
فكان فاضلاً عالماً زاهداً كريماً أريحياً جواداً تقياً زكياً مشهوراً بالفضل الظاهر، والعلم الزاخر، والمجد الزاهر، والكرم الباهر.
روي عن زيد بن علي عليهما السلام قال: يُبايع لرجل منّا عند قصر الضرتين سنة تسع وتسعين ومائة في عشر من جمادى الأولى يباهي الله به الملائكة؛ فكان محمد بن إبراهيم، وحُدِّثَ بهذا الحديث فبكى.
وروي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام قال: (يخطب على أعوادكم يا أهل الكوفة سنة تسع وتسعين ومائة في جمادى الأولى لرجل منا أهل البيت يباهي الله به الملائكة) فكان عليه السلام هو المختص بهذه المنقبة الشريفة، والفائز بهذه الرتبة الزليفة.
وما ظنك بإمامٍ القاسم بن إبراهيم أحد دعاته وأعوانه وأتباعه، وكان في زمنه سيد أبناء دهره، وأشجع أهل عصره.
[قيامه عَلَيْه السَّلام]
ومن غريب ما اتفق له في أسباب دعوته أنه رأى بظاهر الكوفة عجوزاً تتبع أحمال الرطب فتلقط ما سقط منها، فتجمعه في كساء عليها رث، فسألها عن ذلك فقالت: إني امرأة لا رجل لي يقوم بمؤنتي ولي بنتان لا يَعُدْن على أنفسهن بشيء، فأنا أتبع مثل هذا من الطريق فأتقوته أنا وولدي، فبكى بكاء شديداً فقال: أنت والله وأشباهك تخرجوني غداً حتى يسفك دمي، ونفذت بصيرته في الخروج.
وعاصره من سادات أهل البيت علي بن عبيدالله بن الحسين بن علي بن الحسين، وعبدالله بن موسى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن؛ فأما علي بن عبيدالله فكان مشغولاً بالعبادة لا يصل إليه أحد ولا يأذن له، وأما عبدالله بن موسى فكان خائفاً مظلوماً لا يلقاه أحد، وأما محمد بن إبراهيم فكان يفارق الناس.
وكان أبوه من جملة من حبسه المهدي حتى توفي، ثم حبسه ابناه موسى وهارون، وقيل إنه عليه السلام مات في حبسهما.
وأما جده إسماعيل وهو الملقب بالديباج وكان من جملة المسجونين في حبس أبي جعفر، قال من صنف أخبارهم: (كان فينا غلام مثل سبيكة الذهب كلما اشتد الوقيد عليها ازدادت حسناً).
وذكر عالم الشيعة محمد بن منصور رحمه الله أنه أتى للديباج من مصر بألفي دينار ورزمتي ثياب مصرية فسايره رجل من المسجد إلى البيت فقال له : ألك حاجة؛ فقال: إنما أحببت أن أصل جناحك، فأمر له بإحدى الرزمتين وبعض المال.
فانظر إلى صفة هذه العترة المظلومة، وما لاقته من أرباب الدول الظالمة من القتل والأسر والحبس والسم، مَنْ تلقه من أفاضلهم تجده مقتولاً، أو محبوساً، أو مسموماً، أو خائفاً مظلوماً، أو مطروداً مهضوماً، أو مستوراً مكظوماً.
نعم، ولما بايع محمد بن إبراهيم عيونُ أهل البيت منهم القاسم بن إبراهيم، وعلي بن عبيدالله، ومحمد بن محمد بن زيد، ومحمد بن جعفر بن محمد وغيرهم ممن يطول ذكرهم، ومن الفقهاء جم غفير.
وقد ذكره الحاكم في كتاب (تنزيه الأنبياء والأئمة) فقال: أما الكلام في إمامة محمد بن إبراهيم فظاهر لأنه جامعٌ للخصال، وتابعه الأفاضل، وخرج وناصب الحروب.
أشار الحاكم رحمه الله إلى كمال إمامته بالبيعة والخروج، وهما طريقا صحة الإمامة عند المعتزلة والزيدية.
وكان قيامه عليه السلام في زمن المأمون ونصره أبو السرايا، ومات –قدس الله روحه- بالكوفة، وقبره بالغري، وأوصى إلى السيد علي بن عبيدالله فاختار علي بن عبيدالله للناس محمد بن محمد بن زيد، وكان من أفاضل العترة وفتيانها وأهل البأس والنجدة والفضل والعفة، ونال من المسودة ما لم ينله غيره، وكان من الدعاة المقتصدين، بايعه علي بن عبيدالله وكان يصلح للإمامة أعني علياً، وهو أوّل الدعاة من ذوي الاقتصاد من العترة النبوية ، وبعده عشرة من المقتصدين، وبعدهم الحسن بن زيد قد ذكره الحاكم أبو سعد رحمه الله في كتبه الثلاثة: (شرح العيون)، و(جلاء الأبصار)، و(سفينة العلوم).
وقد ذكرته في (الجواب الفاصل على القاضي الفاضل)، وذكرت غيره ممن قام بالجهاد على جهة الاحتساب من العترة الطاهرة، والكلام ذو شجون.
[الإمام القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل (الرسي) (ع)]
(169- 246هـ / 786- 861م)
وأما الإمام الطاهر الأورع العالم الزاهد القاسم بن إبراهيم عليه السلام:
فإنه جامع الفضائل، وصاحب الدلائل، والإمام الكامل إن قيل من الإمام الكامل، فاق علماً وزهداً وفضلاً ومجداً وشرفاً وجوداً، وبرز في العلم على علماء الطوائف، واعترف بفضله وعلمه الموالف منهم والمخالف، ورسخت في العلوم أطنابه، وأشرقت في ذروة الحلوم قبابه، وظهرت على ما كان عليه من الخوف والتستر مصنفاته، وبهرت على ما كان عليه من التزهد والتقشف صفاته.
وشخصت أبصار العلماء في زمانه إلى لقاء غُرّته، وامتدت أعناق الفضلاء في أوانه إلى ورود حضرته، واشتاقت نفوس الأولياء والزهاد إلى مراجعته، وتطلعت قلوب الأصفياء والعباد إلى أنوار طلعته، وكان عيانه أبلغ من سماعه، واختباره أفضل من أخباره، وما يشاهد فيه من الفضل أعظم مما يحكى عنه، وما يعاين فيه من الزهد أجل مما نخبر به منه، وما يعلم من العلم أوسع مما يوصف فيه، وما يتحقق منه من الورع أكمل مما يضاف إليه.
ولو ادعيت العصمة لأحدٍ بعد الأنبياء عليهم السلام لادعيت للقاسم بن إبراهيم، ولو جازت النبوة في أحد بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم لجازت في القاسم بن إبراهيم، وقد ورد هذا في الحديث فيما رواه أئمتنا وأهلنا وعلماؤنا: ((مسلوب الرباعيتين من أهل بيتي لو كان بعدي نبي لكان هو)) ولو كان الأتباع في الدنيا على قدر العلم والفضل والزهد لكان من في الدنيا كلها من فرق الإسلام على مذهب القاسم بن إبراهيم.
بل لو وقف التقليد في الفروع على الإتقان في الرواية، ومجرد الصدق والعادلة، وصحة التقى والطهارة؛ لكان القاسم عليه السلام أحق الأئمة كافة بتقليده، وأولاهم بالرجوع إلى قوله واجتهاده.
ومن أنصف وبحث وطالع السير والأخبار، ونقب عن الأحوال والآثار؛ يعرف صحة ما قلناه، وتحقق صدق ما ذكرناه، ومن جعل القاسم بن إبراهيم بينه وبين الله تعالى فقد نجا.
وهذا المختصر لا يتسع لأخباره وأحواله، وإنما نذكر منها أنموذجات تدل على ما وراءها، ويستدل بها طالب النجاة لنفسه على ما غاب عليه منها؛ فنقول:
روى الفقيه العلامة حميد بن أحمد المحلي [-رحمه الله-] في حدائقه أن فتيان آل الحسن كانوا يدرسون على شيخ من شيوخ آل الحسن، وكان القاسم عليه السلام من شباب ذلك العصر ، فكان إذا أتى قام ذلك الشيخ في وجهه وعظّمه؛ فقالوا: أيها السيد إنّا قد عذرناك وهذا الفتى لك أعذر، فقال: لو تعلمون مِنْ هذا ما أعلمه لاستصغرتم ما أصنع في حقه.
قالوا: وما تعلم؟ قال: هذا الفتى قال فيه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((يخرج من ذريتي رجل مسروق الرباعيتين لو كان بعدي نبي لكان هو)) وفيه يقول الشاعر: [الطويل]
ولو أنه نادى المنادي بمكة .... ببطن منى فيمن تضم المواسمُ
من السيد السباق في كل غاية .... لقال جميع الناس ذلك قاسمُ
إمام لأبناء الأئمة قد نمت .... له الشرف المعروف والمجد هاشمُ
أبوه علي ذو الفضائل والنهى .... وآباؤه والأمهات الفواطمُ
بنات رسول الله أكرم نسوة .... على الأرض والآباء شم خضارمُ
[مصنفاته عليه السلام]
وله عليه السلام العلم الزاخر، والتصانيف الفائقة في علم الكلام وغيره من الفنون؛ فمنها: كتاب ( الدليل الكبير ) فإنه بالغ في الكلام على الفلاسفة مبالغة حسنة، وأشار فيه من لطيف الكلام إلى ما لا ينتهى إليه إلا المبرزون، ولا يبلغه إلا المحصلون.
ومنها: كتاب (الدليل الصغير) وفيه من أصول العدل والتوحيد وتصديق الوعد والوعيد، والمبالغة في الكلام على الجبرية على لطافة حجمه ما يشهد بغزارة علمه ، ووفور فهمه.
ومنها: كتاب (الرد على ابن المقفع) الذي نصر فيه القول بالتثنية فرد عليه القاسم مقالته، وزيف بعلمه جهالته.
ومنها: كتاب (الرد على النصارى) وهو من نفائس الكتب.
ومنها: كتاب (المسترشد)، وكتاب (الرد على المجبرة)، وكتاب (تأويل العرش والكرسي) على المشبهة.
ومنها: المسألة المنقولة عنه في مناظرة الملحد، وهو رجل من أرباب النظر من الملحدة كان يغشى مجالس المسلمين، ويورد عليهم الأسئلة الصعبة في قدم العالم وغير ذلك، حتى وافاه عليه السلام وأورد ما عنده من المشكلات فوضح له الحق فتاب إلى الله تعالى؛ ثم قال: (تعست أمة ضلت عن مثلك)، وفيها من غريب العلم وعجائبه ما يشهد بعلو منزلته وارتفاع درجته.
وروى السيد أبو طالب عليه السلام بإسناده إلى أبي القاسم البلخي عن مشائخه أن جعفر بن حرب الهمداني دخل على القاسم بن إبراهيم فجاراه في دقائق علم الكلام، فلما خرج من عنده قال لأصحابه: أين كنا من هذا الرجل فوالله ما رأيت مثله.
هذا وجعفر بن حرب من عيون المتكلمين والمتبحرين في الكلام.
ومن تصانيفه عليه السلام: كتاب (تثبيت الإمامة) فإنه أحسن فيه كل الإحسان في نصرة مذهب الزيدية في تقديم أمير المؤمنين على المشائخ، وأورد من الأسئلة العجيبة في هذا المعنى على المقدمين عليه ما يشهد بأنه البحر الزخار، والقمر النوار، والغمام المدرار.
وله عليه السلام كتاب (مديح القرآن الكبير)، وكتاب (الناسخ والمنسوخ)، و(مسألة الطبريين)، وله عليه السلام كتاب (سياسة النفس) وهو من أنفس الكتب وأعزها وأبلغها وأعجبها.
وله في الفقه التصانيف العجيبة الشاهدة بتدقيقه وتحقيقه، ومعرفته بالاختلاف بين الفقهاء، وجودة غوصه على استنباط الغرائب؛ نحو (كتاب الفرائض والسنن) و(كتاب الطهارة) و(كتاب صلاة اليوم والليلة) و(مسائل علي بن جهشيار)، وغير ذلك من تصانيفه في الفقه.
فإنه كما وصفه ابن أبي الحديد في مفاخرة الهاشمية والأموية؛ قال الهاشميون: (ومنا القاسم بن إبراهيم صاحب المصنفات والورع والدعاء إلى الله تعالى وإلى التوحيد والعدل ومنابذة الظالمين) فحصر بهذه الأوصاف جميع المحامد الرائقة، والمحاسن الفائقة، ووصفه بالمصنفات فلا يوصف بها إلا المتبحر في العلوم، والمتبقر في الفنون وهي صفته.
وكان إذا تكلم في علوم القرآن فكأنها فنه الذي عليه نشأ، وكذلك غيرها من العلوم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.
قال الحاكم رضي الله عنه في كتابه (تنزيه الأنبياء والأئمة) وقد ذكر الإمامين محمد بن إبراهيم والقاسم بن إبراهيم؛ حتى قال: (فأما القاسم عليه السلام فلا شبهة في فضله وعلمه، وله الكتب المعروفة والأصحاب، فأما الزهد فأشهر من الشمس) نجز كلامه.
وله عليه السلام في المواعظ والآداب والرسائل والحكم والنوادر والوصايا الجامعة للدين والدنيا ما ليس يوجد مثله لغيره، وله كتاب (المكنون).
وأما ورعه وزهده فلا يقدر على وصفه الواصفون، قال الفقيه حميد رضي الله عنه: وأما زهده فلا يتمارى فيه اثنان، ولا يترادّ فيه رجلان، ولله القائل: [الكامل]
شهد العدا كالأولياء بفضله .... والفضل ما شهدت به الأعداءُ
وروى الهادي عليه السلام عن أبيه أن المأمون كلف بعض العلوية أن يتوسط بينه وبين القاسم عليه السلام ويصل ما بينهما على أنه يبذل له مالاً عظيماً، فخاطبه في أن يبدأه بكتاب أو يجيبه عن كتاب، فقال عليه السلام: لا يراني الله أفعل ذلك أبداً.
وروى الإمام المنصور بالله عليه السلام: أن المأمون توصل بمن قدر عليه في أن يصافيه القاسم عليه السلام ويأمن جانبه، فأبى ذلك أشد الإباء ، وبعث الحروي بوقر سبعة أبغل دنانير على أن يأخذها ويجيب عن كتابه أو يبتديه بكتاب، فكره ذلك ورد المال، وكان قد مال إلى حي من البادية يقال لهم حرب فحاربوا دونه، ولما رد المال لامهُ أهله فقال: [المتقارب]
تقول التي أنا ردءٌ لها .... وقاء الحوادث دون الردى
ألست ترى المال مُنْهلّة .... مخارم أفواهها باللهى
فقلت لها وهي لوّامةٌ .... وفي عيشها لو صحت ما كفى
كفاف امرء قانع قوته .... ومن يرض بالقوت نال الغنى
فإني وما رمت في نيله .... وقلبك حب الغنى ما أزدهى
كذا الداء هاجت له شهوة .... فخاف عواقبها فاحتمى
[زهده وورعه (ع)]
وكان له عليه السلام من مخافة الله وخشيته ما يشبه به أمير المؤمنين عليه السلام.
روى السيد أبو طالب بإسناده عن أبي عبدالله الفارسي قال : حججنا مع القاسم عليه السلام فاستيقظت في بعض الليل فافتقدته، فخرجت وأتيت المسجد الحرام فإذا به وراء المقام لاطئاً بالأرض ساجدا، وقد بلّ الثرى بدموعه، وهو يقول: (إلهي من أنا فتعذبني؟! فوالله ما يشين ملكك معصيتي، ولا يزين ملكك طاعتي).
وله عليه السلام من الكرامات ما لا يصلح أن يكون إلا للأنبياء -صلوات الله عليهم، كان مستجاب الدعوة.
روى الشيخ أبو الفرج في كتابه الصغير أخبار الطالبيين أن القاسم عليه السلام دعا إلى الله تعالى في مَخْمصة فقال: (اللهم إني أسألك بالاسم الذي دعاك به سليمان بن داود فجاءه العرش قبل ارتداد الطرف، فتهدّل البيت عليه رطباً).
وروى بإسناده أنه دعا مرة في ليلة مظلمة فقال: (اللهم إني أسألك بالاسم الذي إذا دعيت به أجبت فامتلأ البيت عليه نوراً).
وكان له عليه السلام أصحاب أخذوا عنه العلم، وأولاده النجباء كان له عليه السلام إحدى عشر ولداً كل واحد منهم يصلح للإمامة اشتغل عليه السلام بتهذيبهم وتعليمهم وتفقيههم.
ومن الفقهاء: محمد بن منصور المرادي، ومنهم محمد بن موسى الخوارزمي، وعلي بن جهشيار، وأبو عبدالله أحمد بن محمد بن سلام الكوفي، وجعفر بن محمد النيروسي، وهو من المكثرين في الرواية عنه.
ومن أهل البيت عليهم السلام: الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي عليهم السلام، ويحيى بن الحسن بن جعفر بن عبدالله صاحب كتاب الأنساب وله إليه مسائل، ومنهم عبدالله بن يحيى القومسي العلوي الذي أكثر الناصر للحق عليه السلام الرواية عنه.
[دعوته وقيامه (ع)]
دعا إلى الله تعالى لما استشهد أخوه الإمام محمد بن إبراهيم عليهما السلام، وكان القاسم عليه السلام بمصر داعياً له فحين جاء نعي أخيه دعا إلى نفسه، وبث الدعاة وهو في حال الاستتار فأجابه عَالَم من الناس من بلدان مختلفة، وجاءته بيعة أهل (مكة) و(المدينة)، و(أهل الكوفة)، و(الري)، و(قزوين)، و(طبرستان)، و(تخوم الديلم).
وكاتبه أهل العدل من البصرة والأهواز وحثوه على الظهور وإظهار الدعوة، وأقام بمصر نحو عشر سنين واشتد له الطلب من أرباب الدولة العباسية، ولم يزل مثابراً على الدعوة، وصابراً على التغرب والتردد في النواحي والبلدان، متحملاً للشدة مجتهداً في إظهار دين الله.
ولما اجتمع أمره وقت خروجه بعد وفاة المأمون وولاية أخيه محمد بن هارون الملقب بالمعتصم؛ طلب القاسم عليه السلام وتشدد في ذلك، وأنفذ العساكر الكثيفة في تتبع أثره فأحوج إلى الانفراد عن أصحابه، وانتقض أمر خروجه.
وله بيعات كثيرة في أوقات مختلفة، وكانت بيعته الجامعة لفضلاء أهل البيت عليهم السلام سنة عشرين ومائتين في منزل محمد بن منصور المرادي بالكوفة، وبايعه هناك أحمد بن عيسى بن زيد فقيه آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعابدهم، وعبدالله بن موسى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن الفاضل الزاهد، والحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد.
وكانت فضيلة السبق انتهت إلى هؤلاء فاتفقوا على بيعة القاسم -عليه وعليهم السلام-، وكانوا قد امتحنوا على فضلهم المشهور بالاستتار الشديد.
[اجتماعه (ع) بأحمد بن عيسى وعبدالله بن موسى(ع)]
وروى السيد أبو طالب رضي الله عنه قال: روى أبو عبدالله محمد بن يزيد المهلبي قال: حدثنا محمد بن زكريا قال: صرت إلى أحمد بن عيسى وهو متوار بالبصرة فقال لي: لما طلبنا هارون الملقب بالرشيد خرجت أنا والقاسم بن إبراهيم وعبدالله بن موسى بن عبدالله فتفرقنا في البلاد، فوقعت إلى ناحية الري، ووقع عبدالله بن موسى إلى الشام، وخرج القاسم عليه السلام إلى اليمن، فما توفي هارون اجتمعنا في الموسم فتشاكينا ما مر علينا فقال القاسم: أشد ما مرَّ بي أني لما خرجت من مكة أريد اليمن في مفازة لا ماء فيها، ومعي بنت عمي وهي زوجتي، وبها حِبَلٌ فجاءها المخاض في ذلك الوقت، فحفرت لها حفرة لتتولى أمر نفسها ، وضربت في الأرض أطلب لها ماء ، فرجعت وقد ولدت غلاماً وأجهدها العطش ، فرجعت إليها وقد ماتت والصبي حي ؛ فكان بقاء الغلام أشد علي من وفاة أمه، فصليت ركعتين ودعوت الله أن يقبضه، فما فرغت من دعائي حتى مات.
وشكى عبدالله بن موسى أنه خرج من بعض قرى الشام وقد حث عليه الطلب، وأنه صار إلى بعض المسالح وقد تزيا بزي الفلاحين، فسخره بعض الجند وحمله على ظهره شيئاً، وكان إذا أعيى وضع ما على ظهره للاستراحة ضربه ضرباً شديداً، وقال: لعنك الله ولعن من أنت منه.
وقال أحمد بن عيسى: كان من غليظ ما نالني أني صرت إلى ورزنين ومعي ابني محمد، وتزوجت إلى بعض الحاكة هناك، وتكنيت بأبي حفص الجصاص، فكنت أغدو أو أقعد مع بعض من آنس به من الشيعة ثم أروح إلى منزلي، وولدت المرأة بنتاً، وتزوج ابني محمد إلى بعض موالي عبد القيس هناك، فأظهر مثلما أظهرته، فلما صار لابنتي نحو عشر سنين طالبني أخوالها بتزويجها من رجل من الحاكة له فيهم قدر ، فضقت ذرعاً بما دفعت إليه، وخفت من إظهار نسبي وألح القوم عليّ في تزويجها ، ففزعت إلى الله وتضرعت إليه في أن يقبضها ويحسن علي الخلف، فأصبحت الصبية عليلة، ثم ماتت من يومها، فخرجت مبادراً إلى ابني محمد أبشره فلقيني في الطريق وأعلمني أنه ولد له ابن فسميته علياً، وهو بناحية ورزنين لا أعرف له خبراً للاستتار الذي أنا فيه.
[قصته (ع) في مصر]
وروى السيد أبو طالب عن أبي عبدالله الفارسي، قال: اشتد بالإمام القاسم بن إبراهيم عليه السلام الطلب، فضاقت به المسالك ونحن مختفون معه خلف حانوت إسكافي من خُلّص الزيدية، فنودي نداء يبلغنا صوته: (برئت الذمة ممن آوى القاسم بن إبراهيم وممن لا يدل عليه، ومن دل عليه فله ألف دينار وكذا وكذا من البز) والإسكافي مطرق يسمع النداء ولا يرفع رأسه، فلما جاءنا قلنا له: ما ارْتَعْت؟ قال: ومن لي بارتياعي لو قرضت بالمقاريض بعد رضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عني في وقاية ولده بنفسي.
فأقام القاسم عليه السلام طول مدته مخيفاً للظالمين، وشجا في حلوق الفاسقين، غير أن المقادير لم تساعده إلى كل ما أراد من تطهير ما ظهر في الأرض من الفساد.
وقد امتد النَفَس في أحوال القاسم عليه السلام وطرف من أخباره بخلاف من تقدمه من الأئمة، والوجه لذلك أن القاسم أحد الأئمة المرجوع إليهم في التقليد والمذاهب، فأردنا الإشارة إلى فضله وزهده وعلمه، وأنه مع ما ظهر له من ا لعلم والأصحاب والتصانيف كان على الصفة المذكورة في الخوف الشديد والتستر البليغ.
فلو كان عليه السلام آمناً، وعن خشية السلطان ساكناً؛ لكان علمه أوسع رباعاً، وكان فضله أكثر أتباعاً، وكيف يجهل قدر مثل هذا الإمام أن يعدل عنه إلى تقليد غيره من فقهاء الأنام وعلماء الإسلام، وبعض ما رويناه من زهده وحكيناه من ورعه وفضله أعظم مرجح لتقليده، وأبلغ داع إلى التمسك بمذهبه واجتهاده، مع العلم الظاهر والفضل الباهر.
فانظر إلى هذه الأمة العادلة عن أهل بيت نبيها وعترة هاديها ومهديها، وسبب ذلك تقليد الأسلاف والعادة ، وأصل ذلك كلّه إخافة الدولة الظالمة لأهل البيت السادة القادة؛ فإن الناس أشبه منهم بسلطانهم بزمانهم، وقد قيل: السلطان هو الزمان، ومعنى هذا الكلام أن للسلطان أثراً عظيماً في إصلاح الناس وإفسادهم، فإن كان صالحاً أصلحهم وإن كان فاسداً أفسدهم ، والناس أتباع الملوك وطوع إراداتهم إلا النادر، وقليل ما هم.
ولما كان مذهب أرباب الدولتين الأموية والعباسية عداوة العترة الطاهرة النبوية، كان ذلك مذهب الجمهور من أهل زمانهم إلا من أنقذهم الله من ضلالتهم، وعصمهم عن جهالتهم من الزيدية الفرقة الهادية المهدية، والعلماء من غيرهم عليهم مدار الرعاع وهم الطبق الأدهم كانوا في أهل البيت عليهم السلام على ثلاث طبقات:
الطبقة الأولى: باعوا من الملوك دينهم بدنياهم، كالذين شهدوا لهارون على يحيى بن عبدالله بالعبودية، وأمثالهم ممن خدم العباسية والأموية وتقرب إليهم ببغض العترة الطاهرة النبوية.
الطبقة الثانية: الذين آثروا رضى ربهم بسخط ملوكهم، وحفظوا عترة نبيهم بخروجهم مما يجب لله عليهم؛ كأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل ومحمد بن الحسن وسفيان الثوري وأشباههم من علماء المعتزلة ، فإنهم أطاعوا الله في محبتهم لأهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، وعصوا الملوك في عدم كراهتهم لهم وعداوتهم إياهم.
الطبقة الثالثة: الذين أمسكوا عن التظهر بموالاة أهل البيت وعداوتهم، وهؤلاء في العلماء قليل بل هم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، ويقرب أن يكون مالك بن أنس منهم لأنه كان في وقت هارون، ومثله أبو يوسف صاحب أبي حنيفة فإنه كان قاضياً لهارون، ولم يظهر عنهما أحد الأمرين وهما إلى السلامة أقرب، ومن الطبقة الأولى أمثل ، ونشأ الرعاع والهمج من العامة على رأي الطبقة الأولى، إذا عرفت هذا فلا تستنكر عداوة الأكثر لأهل هذا البيت المطهر والله المستعان.
[الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم (ع)]
(245- 298هـ / 860- 911م)
وأما الإمام الجامع لأوصاف الإمامة وعلوم الشرائع أبو الحسين الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين: فإنه قمر العترة الساطع، وسيف الملة القاطع، وإليه انتهت محامد الخصال، وجوامع الفضل والكمال.
[مولده عليه السلام]
ولد عليه السلام بالمدينة، وحُمِلَ إلى جده القاسم عليه السلام فوضعه في حجره الطاهر، وعوّذَه ودعا له، وقال لابنه الحسين: بم سميته؟ قال يحيى، فقال القاسم عليه السلام: (هو والله صاحب اليمن)، وإنما قال ذلك لأخبار وردت بذكره، وظهوره باليمن، وكان بين ولادة الهادي عليه السلام وبين موت جده القاسم عليه السلام سنة واحدة.
[صفته عليه السلام]
صفته عليه السلام: كان خلقه أسدياً، أنجل العينين، واسع الساعدين غليظهما، بعيد ما بين المنكبين والصدر، خفيف الساقين والعجز كالأسد، وكان يأخذ الحنطة في يده فيدقها بأصبعيه فيصيرها طحيناً، وكان في صباه يدخل السوق فيقول لأهل الحنطة: ما طعامكم؟ فيقولون: الحنطة فيدخل يده في الوعاء، ويأخذ منها في كفه فيصيره دقيقاً، فيقول: هذا دقيق.
وكان يأخذ الدينار فيمحو سكته بإصبعيه، وكان يلوي عمود الحديد في عنق الرجل ويفكه عنه، وكان يأخذ على قوائم البعير المسن القوي فلا يقدر البعير وإن جهد على النهوض، وكان يضرب عنق البعير البازل الغليظ فيبينه عن جسده.
[فضائله ومناقبه]
وفضائله ومناقبه لا يوصل منها في كتابنا هذا إلى غاية، ولا يوقف لها فيه على نهاية، وقد أحسن الفقيه حيد رحمه الله في وصفه فقال: فضله عليه السلام لا يخفى، ونور مجده لا يطفى، وظهور حاله يغني عن ذكر محاسن خلاله.
قال: وهو الذي فقأ عين الضلال، وأجرى معين العلم السلسال، ونحن لا نذكر في هذا الكتاب أخباره المتعلقة بحروبه لجنود الكفرة العمين، وقتاله لأحزاب المجرمين وجيوش الظالمين، فإنه عليه السلام الذي رحض اليمن عن درن الإلحاد، وذاق بنفسه مر الجلاد، وعَلَّ من نحورهم بعد النهل أطراف الصعاد، وهو الذي قال في سيف الفقار لأنه كان سيفه في وقعاته كلها:
حتى تذكر ذو الفقار وقائعاً .... من ذي الفخار السيد القمقامِ
وهذا البيت من جملة أبيات نذكرها بكمالها. قال عليه السلام في بعض حروبه: [الكامل]
الخيل تشهد لي وكل مثقف .... بالصبر والإبلاء والإقدامِ
حقاً ويشهد ذو الفقار بأنني .... أَرْويتُ حديهِ نجيعُ طغامِ
نهلاً وعلاًّ في المواقف كلها .... طلباً بثأر الدين والإسلام
حتى تذكرَ ذو الفقار مواقفاً .... من ذي الإباء السيد القمقام
جدي علي ذو الفضائل والنّهى .... سيف الإله وكاسر الأصنام
صنو النبي وخير من وارى الثرى .... بعد النبي إمام كل إمام
وله عليه السلام أشعار كثيرة يذكر فيها مواقفه عند الحقائق، وتفريجه للمضائق، وإيقاعه بالأشرار، وانتصاره لدين جده النبي المختار، ولو نذكر اليسير منها لطالت أفانين الكلام، وكَلّت رواسم الأقلام.
وهو الذي قيل في وصفه ونعته: (المشبه بالليث في خلقه وشجاعته، المشاكل لعلي في علمه وبراعته) حفظناه عن شيوخنا وأهلنا وسادتنا وأكابرنا، ومن جملته: (المبيد لعفاريت الملحدين، والحاصد لجيوش القرامطة المتمردين)، وإنما نذكر إشارة إلى علمه وزهده وورعه، وما نشر الله على يده في اليمن من الفرائض والسنن، وما جاء فيه من الآثار.
[الآثار الواردة فيه عليه السلام]
قال الفقيه العلامة حميد [ رضي الله عنه]: روينا عن بعض علمائنا –رحمهم الله- رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يخرج في هذا النهج وأشار بيده إلى اليمن رجل من ولدي اسمه الهادي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يحيي الله به الحق ويميت به الباطل)) فكان عليه السلام هو الذي نشر الإسلام في أرض اليمن بعد أن كانت ظلمات الكفر متراكمة، وموجات الإلحاد به متلاطمة، حتى أنهل من نحورهم الأسل الناهلة ، وأنقع من هامهم السيوف الظامية، فانتعش الحق بعد عثاره، وعلا بحميد سعيه ما انخفض من مناره، فسلام الله على وجهه الكريم، وشخصه العظيم.
وروي فيه عن أمير المؤمنين أنه قال: (أيها الناس إن الله بنا فتح وبنا ختم، ثم ذكر فتنة بين الثمانين ومائتين، فيخرج رجل من عترتي اسمه اسم نبي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، يميز بين الحق والباطل يؤلف الله قلوب المؤمنين على يديه كما تتآلف قزع الخريف، انتظروه في الأربع والثمانين ومائتين في أول سنة واردة وأخرى صادرة).
فكانت هذه صفة الهادي عليه السلام، والمراد بالأرض هاهنا أرض اليمن، وقد يطلق لفظ الأرض ويراد به أرض مخصوصة، كما قال الله تعالى: {ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} [المائدة:21] ، وأراد به أرض بيت المقدس.
ومثل هذه الآثار الواردة، وإن كانت منقولة بطرق الآحاد فإنها تفيد قوة الظن في العمل بقوله عليه السلام والرجوع إليه والتزام مذهبه، وتقليده في مسائل الفروع، كل ذلك من طريق الترجيح، وللترجيح طرق كثيرة ربما ختمنا بها كلامنا في هذا الكتاب حسبما يعنّ منها إن شاء الله تعالى.
[انتشار علمه ومصنفاته]
إشارة إلى علم الهادي عليه السلام وانتشاره في الآفاق.
قال الفقيه العلامة حميد [رحمه الله]: انتشر فقهه عليه السلام في الآفاق حتى صارت أقواله في أقصى بلاد العجم يأنسون بها أكثر من أنس أهل اليمن بها، وعليها يعتمدون وبها يفتون ويقضون، وكان قد نشأ على العلم والعبادة حتى صارا بمنزلة الطبع فيه.
قال الفقيه حسام الدين: ونال في العلم منالاً لم يعلم أن أحداً من المشهورين أدركه في وقت إدراكه، روى السيد [أبو طالب] بإسناده عن المرتضى محمد بن الهادي عليهما السلام ، قال : (إن يحيى بن الحسين بلغ من العلم مبلغاً يحتار عنده ويضيق وله سبع عشرة سنة) وهذا من عجائب الروايات التي تضمنت خرق العادات، ولا عجب فيمن كانت أعراقه تنتمي إلى الذروة العالية النبوية أن يبلغ هذا الكمال، ويفوز بمحاسن الخلال، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((اللهم اجعل الفقه والعلم في عقبي وعقب عقبي، وفي زرعي وزرع زرعي)) .
فتناوله هذا الدعاء الشريف الموثوق بإجابته، فارتوى من سلسال العلم المعين، وتفيأ في ظلال اليقين، حتى تفجر العلم من جوانبه، ونطق من الحكم بغرائبه، وصنف التصانيف الفائقة، والكتب البديعة الرائقة ، نحو (كتاب الأحكام) وهو مجلدان في الفقه ، مضمناً من تفصيل الأدلة من الآثار والسنن النبوية والأقيسة القوية؛ ما يشهد له بالنظر الصائب والفكر الثاقب، وحسن المعرفة. انتهى كلام الفقيه حميد رحمه الله.
وسمعت من شيخنا وسيدنا العلامة فخر الدين عبدالله بن حسن الدواري قدس الله روحه أن الأحكام والمنتخب يسميان (الجامعين) وإنما سميا بهذا الاسم لأن الهادي جمع فيهما أبواب الفقه، ورتبها وبوبها.
وهما أول ما صنف في علم أهل البيت عليهم السلام على هذه الصفة في الترتيب والتبويب، وجمع المسائل بالتقريب والتهذيب؛ فجمعا من فقه العترة ما لم يجمعه قبلهما تصنيف، وتضمنا من علومهم ما لم يتضمنه قبل تأليفهما تأليف؛ فلهذا سميا الجامعين.
قال الفقيه حسام الدين حميد [ رضي الله عنه]: ومنها (كتاب المنتخب) في الفقه أيضاً وهو من جلائل الكتب، وفيه فقه واسع وعلم رائق.
قلت: وسمعت عن شيخنا وسيدنا العلامة فخر الدين قدس الله روحه أن المنتخب أول ما صنف الهادي عليه السلام، وهو حدث السنين دون العشرين.
قال الفقيه حسام الدين [رحمه الله]: ومنها (كتاب الفنون) في الفقه مهذب ملخص، و(كتاب المسائل)، و(كتاب مسائل محمد بن سعيد)، و(كتاب الرضاع)، و(كتاب المزارعة)، و(كتاب أمهات الأولاد)، و(كتاب الولاء)، و(كتاب القياس).
ومنها في التوحيد كتب جليلة القدر نحو (كتاب التوحيد)، و(كتاب المسترشد)، و(كتاب الرد على أهل الزيغ)، و(كتاب الإرادة والمشيئة)، و(كتاب الرد على ابن الحنفية في الكلام على الجبرية) وفيه من الأدلة القاطعة، والإلزامات النافعة، ما يقضي بأنه السابق في الميدان، المبرز على الأقران، وكتاب (بوار القرامطة)، و(كتاب أصول الدين) و(كتاب الإمامة وإثبات النبوة والوصية)، و(كتاب الرد على الإمامية)، و(كتاب البالغ المدرك) وهو قطعة لطيفة فيها كلام كأنه الروض ملاحة ونظارة، والسحر دقة ولطافة، وقد شرحه السيد أبو طالب عليه السلام .
ومنها: كتاب (المنزلة بين المنزلتين)، ومنها (كتاب الجملة)، و(كتاب الديانة)، و(كتاب الخشية)، و(كتاب تفسير خطايا الأنبياء)، و(كتاب الرد على ابن جرير)، وكتاب تفسير ستة أجزاء، و(معاني القرآن) تسعة أجزاء ، و(كتاب الفوائد) جزءان، وكتب سوى ذلك كثيرة نحو عشرين كتاباً تركناها وهي ظاهرة مشهورة، قد شُحنت من محاسن العلم ودرر الفهم ما يشهد بأنه عليه السلام القمر الباهر، والبحر الزاخر.
وله الحكايات العجيبة في هذا المعنى الذي يتجلى فيها، ويظهر خضوع المخالف وتسليمه، وهي كثيرة ظاهرة، وإنما نذكر منها اليسير، فإن القليل يدل على الكثير، وضوء البارق يشير بالنوء المطير، وهل تفتقر الشمس إلى برهان، وإنما التفصيل يثمر الجلالة والعرفان.
روى السيد أبو طالب، عن علي بن العباس الحسني أنه سمع أبا بكر بن أيوب عالم الري يقول حين ورد عليه باليمن: قد ظل فكري في هذا الرجل يحيى بن الحسين، فإني كنت لا أعترف لأحد بمثل حفظي لأصول أصحابنا وأنا الآن إلى جنبه جذع؛ بينا أنا أجاريه في الفقه فأحكي عن أصحابنا قولاً؛ إذ يقول ليس هذا يا أبا بكر قولكم، فأرادُّه فيخرج إلى المسألة من كتبنا على ما حكى وادعى، فقد صرت إذا إدعى شيئاً عنا أو عن غيرنا لا أطلب معه أثراً.
قال أبو طالب رضي الله عنه: وحدثني رحمه الله بحكاية قال في آخرها: كنا عند علي بن موسى القمي، فذكر له خروج علوي باليمن يدعي الإمامة فقال: أحسني أم حسيني؟ فقيل: بل حسني، ويقال أن له دون أربعين سنة.
فقال: هو ذاك الفتى مرتين.
فقلنا: من هو؟
فقال: كنا في مجلس أبي خازم القاضي يوم جمعة، فدخل شاب له رواء ومنظر، فأخذته العيون فمكنوه، فجلس في غمار الناس، فما جرت مسألة إلا خاض فيها، وذكر ما يختار منها، ويحتج ويناظر، فجعلوا يعتذرون إليه من التقصير؛ ثم أسرع النهوض فقيل لأبي خازم: هذا رجل من أهل الشرف من ولد الحسن بن علي.
فقال الناس: قد علمنا إنما خالط قلوبنا من هيبته لمنزلته، فاجتهدنا أن نعرف مكانه، وسألنا عنه فلم نقدر عليه.
فلما كانت الجمعة الثانية اجتمع الناس وكثروا شوقاً إلى كلامه، ورجاء أن يعاودهم فلم يحضر، فعرفنا حاله، فإذا ذلك لخوف داخله من السلطان، فكان أبو خازم يقول: إن يكن في هؤلاء أحد يكون منه أمر فهذا؛ ثم عاودنا علي بن موسى فقال: ألم أقل إن العلوي هو ذاك الفتى، قد استعلمتُ فإذا هو ذاك بعينه.
وروى السيد أبو طالب عليه السلام عن بعضهم أنهم كانوا مع الناصر رضي الله عنه بالجيل قبل خروجه، فنُعِيَ إليه يحيى بن الحسين فبكى بنحيب ونشيج، وقال: (اليوم انهد ركن الإسلام).
فقلت: ترى أنهما تلاقيا لما قدم يحيى بن الحسين عليه السلام طبرستان، قال: لا.
وروى عليه السلام أيضاً بإسناده عن بعضهم قال: حضرنا إملاء الناصر للحق عليه السلام الحسن بن علي في مصلى آمل، فجرى ذكر يحيى بن الحسين عليه السلام فقال بعض أهل الري وأكثر ظني أنه أبو عبدالله محمد بن عمرو الفقيه: كان والله فقيهاً؛ قال: فضحك الناصر، وقال: (ذاك والله من أئمة الهدى).
وذكر الإمام المنصور بالله عليه السلام تصانيف الهادي إلى الحق عليه السلام في (كتاب الشافي) فزاد على ما ذكره الفقيه حسام الدين رضي الله عنه، ونحن نوردها من حكاية الإمام المنصور بالله عليه السلام، وإن كان في ذلك شيء من التكرار ففيه مزيد فائدة، وبيان ما لم يذكره حميد رضي الله عنه.
قال الإمام المنصور بالله عليه السلام: تصانيف الهادي عليه السلام: كتاب (الأحكام)، وكتاب (المنتخب)، وكتاب (الفنون)، وكتاب (المسائل)، و(مسائل محمد بن سعيد)، وكتاب (التوحيد)، و(كتاب القياس)، و(كتاب المسترشد)، و(كتاب الرد على أهل الزيغ)، وكتاب (الإرادة والمشيئة)، و(كتاب الرضاع)، و(كتاب المزارعة)، وكتاب (أمهات الأولاد)، و(كتاب العمدة)، وكتاب (تفسير القرآن) ستة أجزاء، و(كتاب الفوائد) جزاءن، و(كتاب مسائل الرازي) جزءان ، و(كتاب السنة)، و(كتاب الرد على ابن الحنفية)، وكتاب (تفسير خطايا الأنبياء)، و(كتاب أبناء الدنيا)، و(كتاب الولاء)، و(كتاب الحسين بن عبدالله)، و(كتاب جواب القمي)، و(كتاب مسائل ابن سعد)، و(كتاب جواب مسائل نصارى نجران)، هذه ستة كتب لم يذكرها الفقيه حميد رحمه الله.
وكتاب (بوار القرامطة)، و(كتاب أصول الدين)، وكتاب (الإمامة وإثبات النبوة والوصية)، وكتاب (الرد على أهل صنعاء) ، و(كتاب مسائل أبي الحسين)، وكتاب (الرد على الإمامية)، و(كتاب الرد على سليمان بن جرير)، وكتاب (البالغ المدرك)، وكتاب (المنزلة بين المنزلتين).
قال الإمام المنصور بالله عليه السلام: وتركنا قدر ثلاثة عشر كتاباً لم نذكرها كراهة التطويل، وهي عندنا معروفة موجودة، وأول تصانيفه صنفها وله سبع عشرة سنة، هذا كلام المنصور بالله عليه السلام.
[وجوه فضله وعلمه (ع)]
اعلم أن لباب هذا الكتاب ومقصودنا منه الإشارة إلى فضل أئمة العترة النبوية، وكثرة علومها على كثرة أعدائها، وإخافة الدولة الظالمة لها، والعلم محله القلب وهو ثمرة الفكر الخالص من الشوائب، فأما من مُنِيَ من أهل عصره بأنواع المصائب وفنون النوائب، وكان في غالب أحواله متوقعاً للموت الأحمر، ومستوراً في أكثر أوقاته لا يظهر؛ فكثير منه قليل العلم.
ومن تفكر في أهل البيت عليهم السلام وجدهم قد جمعوا بين العلم والعمل على أبلغ ما يكون من خوف سلاطين الدول ، وهذا يشبه أن يكون تصديقاً لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((اللهم اجعل العلم والفقه في عقبي وعقب عقبي، وفي زرعي وزرع زرعي)) وما شابه هذا من الأخبار النبوية والآثار المصطفوية.
نعم، ولما كان الهادي إمام أئمة الزيدية، والشمس المنيرة في سماء الملة المحمدية؛ أردنا أن نبين فضله وعلمه، ويدل على ذلك وجوه نذكرها ونشير إليها.
أولها: ما قدمناه من الأحاديث المروية عن النبي والوصي صلى الله على رسوله وعلى وصيّه وآلهما فإنها بصريحها دالة على فضله وعلمه، وهي وإن لم تكن متواترة فإنها مفيدة لقوة الظن وغلبته، لأن من رُوي فيه حديث نبوي أفضل ممن لم يرو فيه شيء أصلاً.
وثانيها: ما ذكرناه من كثرة تصانيفه وعلو منزلته في العلم وتفننه في علوم تأليفه؛ فإنها كما عرفت متنوّعة في علوم شتى من الفقه والحديث والتفسير والتأويل وأصول الدين، والردود المختلفة الوجوه على جميع المخالفين، وأهل الزيغ من الملحدين؛ وهذه صفة العالم المتمكن من العلم..
وثالثها: ظهور هذه التصانيف مع عوارض أدناها شغل القلب عن تحرير مسألة، وبيان مشكلة، وتلك العوارض على ضربين:
منها: ما كان من خوف السلطان فإن الدولة العباسية كانت قد طبقت الآفاق، وملأت الأرض من الشام وتخومه إلى أرياف العراق، وكان منشأ الهادي عليه السلام بالحجاز ، وقراءته وعلمه على أهله ، وأكابر شيوخ آبائه، وأكثر روايته عن أبيه عن جده، وكان لقب أبيه (الحافظ).
وقد ذكرنا أن القاسم عليه السلام هذب أولاده وعلمهم الفقه؛ وأنهم كانوا أحد عشر رجلاً كل واحد منهم يصلح للإمامة، ذكر ذلك القاضي الإمام شمس الدين جعفر بن أحمد بن يحيى عالم الشيعة ومحيي قطر اليمن بعلم العترة.
واختص الحسين بن القاسم من بين أخوته بهذا اللقب الشريف؛ فدل على أنه حافظ العلم عن أبيه القاسم عليهم السلام.
رجع الحديث إلى بيان العوارض العارضة للهادي عليه السلام، قد ذكرنا ما سنَّه العباسيون من إخافة الطالبيين، وأنَّ كل من فاق منهم النُظرا، وسمعوا له في الفضل خبراً، وكان بالعلم والصلاح مشتهراً، قصدوه بالمكايد، وبثوا لطلبه العيون، وسددوا لمقاتله سهام المنون، هذه سجيتهم.
فلما نشأ الهادي عليه السلام كان يكتم نفسه، ويطوف في الحجاز وهو يطامن شخصه، وقد ذكرنا أنه حين دخل (الري)، وحضر مجلس النظر في مقام أبي خازم القاضي، وأنه جلس في غمار الناس فما جرت مسألة إلا خاض فيها، وذكر ما يختاره منها، ويحتج ويناظر ؛ فلما كان الجمعة الثانية انتظره الناس فلم يحضر ، فبحثوا عنه فإذا به خاف من السلطان فلم يستطع الظهور، وكان في زمن (الملقب بالموفق) من خلفاء بني العباس، فكان خوفه منه شديداً، وحذره منه عتيداً، ومن بلي بمثل هذا وكان أعلم العلماء لم يظهر من علم مخزونه، ولم يبرز منه مكنونه؛ يعرف هذا المنصفون وينكره المتعسفون.
الضرب الثاني من العوارض: اشتغال الهادي عليه السلام بالجهاد فإنه بعد انتصابه للإمامة وقيامه بأعباء الزعامة اشتغل بقتال الفرق الكفرية، وجهاد الطوائف الغوية، ولا يعرف ذلك إلا من طالع سيرته المرضية وعلم أحواله الزكية.
فإنه أقام في اليمن لجهاد أعداء الله تعالى قدر عشرين سنة ينقص قليلاً؛ قرر فيها قواعد الدين، ونشر العدل في المسلمين، ومد جناح الرأفة على العالمين، وسار السيرة العادلة المرضية على موافقة السنة النبوية، والشريعة الحنيفية، واستولى على اليمن وبعث عماله إلى عدن، ودوخ الملوك الجبابرة، وطرد جند بني العباس من اليمن ومخاليفه وصنعاء وتهامة، ودانت له البلاد، وخضعت من سطوته أوتاد أهل الغي والعناد، وطهر اليمن بحذافيره من درن الكفر والإلحاد، وغسله من أدران الزيغ والفساد؛ ودون هذا يشغل الفكرة السوية، ويكدر الصافي من الروية.
وروى مرتب (كتاب الأحكام) عن الهادي عليه السلام: (ولقد سألني غير واحد ما باله لم ينظمه نسقاً واحداً، ويتبع كل فن منه فناً؟ فأجبته بأن أمره رضي الله عنه كان أشهر وأدل أن يغبى عذره في ذلك، إذ كان حلس فرسه، وضجيع سيفه ليلاً ونهاراً في إحياء دين الله، وإنفاذ أمر الله جاهداً مجتهداً، لا يكاد يؤويه دار ولا يلزمه قرار، وكلما وجد فيقه أو اغتنم في أيامه فرصة، أثبت الفصل من كتابه، ورسم الباب من أبوابه، إذ كان إنما ألفه خشية كالذي ذكر في الفصل الذي يقول فيه: (فنظرنا في أمورنا وأمور من نخلفه من بعدنا).
فإنه رضي الله عنه إنما جعله جزءاً من دينه وبعض مفترضاته، ليهدي به حائراً، أو يرد به عن البينات جائراً؛ سالكاً سبيل من أخذ الله ميثاقه، [لتبيينه للناس ولا تكتمونه]؛ فكان لا يكاد يتم ذلك الفصل حتى ينجم منتهكٌ لحرمات الله، أو جاحد لكتابه، يروم إطفاء نوره ودرس آياته، فيخلي ما هو فيه من ذلك صارفاً وجهه بل باذلاً مهجته دون دين الله أن يُبْتك، وعن حرماته أن تنتهك، ومع ذلك لا ينفك من سائل متفهم، أو باحث مسترشد، أو سائل متعنت.
ولقد حدثني من رحمه الله أنه شاهده في يوم من أيام حروبه بنجران وأن سائلاً يسأله من لدن أَمَرنا بإسراج فرسه، إلى أن استوى في متنه، إلى أن زحف إلى عدوه، وهو يجيبه، فلما ترآى الجمعان، وألح عليه ذلك الإنسان، أنشد هذه الأبيات من شعر الغروي: [الكامل]
ويل الشجي من الخلي فإنه
وترى الخلي قرير عين لاهياً
ويقول مالك لا تقول مقالتي
نَصِبُ الفؤاد بشجوه مغمومُ
وعلى الشجي كآبة وغمومُ
ولسان ذا طلق وذا مكظومُ
فيجيبه على المسألة بباب، ويفهمه ذلك بأوسع جواب، ليبالغ في هدايته، ويوسع في تعريفه، ثم يرسم ذلك الجواب في غير موضعه، ويقرن بغير فنه، ناسقاً ذلك على ما معه من الأصول المتقدمة في أول كتابه)، هذا كلام مرتب (الأحكام) وهو أبو الحسن علي بن الحسن بن أبي حريصة.
ومن تأمل كتاب الأحكام وما أودع فيه الهادي عليه السلام من الحجج البليغة، والدلائل النيرة، والروايات الوسيعة؛ وعلم أن تصنيفه له كما ذكر صاحب الترتيب أبو الحسن بن أبي حريصة كان في أوقات وهو في أكثرها حلس فرسه وضجيع سيفه؛ علم أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، إذ كان مثل هذا التصنيف الواسع والتأليف البديع لا يتأتى إلا مع خلو البال، والاشتغال به دون غيره من الأشغال.
وقد عرفت أنك إذا أردت تحرير دليل، أو إنشاء كلام إلى فاضل جليل، أو تحقيق كتابة مسألة بتبيين وتعليل؛ كيف تفتقر إلى أن يكون قلبك خالياً، وخاطرك سالياً، ورويتك مجتمعة، وفكرتك ملتمعة؛ فإن كدر عليك طروق حادث يسير بَلْبَلَ بالك، وأحال حالك، وشتت فكرك، وأدهش ذهنك، ولم تستطع أن تقيم في الأشياء كلمك، أو ترسل بالصواب قلمك، كيف بجامع كبير، وتصنيف كثير جمع مسائل الحلال والحرام وقرر فيه قواعد الأحكام ، وهو مع ذلك في أوقات الصدام، ومقارعة آساد الطغام، فبهذا يعرف فضله عليه السلام.
ومن كلامه عليه السلام: (لست بزنديق ولا دهري، ولا ممن يقول بالطبع ولا ثنوي ولا قدري ، ولا مجبر ، ولا حشوي ولا خارجي؛ وإلى الله أبرأ من كل رافض غوي، ومن كل حروري ناصبي، ومن كل معتزلي غال وجميع الفرق الشاذة، ونعوذ بالله من كل مقالة غالية، ولا بد من فرقة ناجية غالبة، وهذه الفرق كلها عندي حجتهم داحضة والحمد لله، وأنا متمسك بأهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومهبط الوحي ومعدن العلم، وأهل الذكر الذين بهم وُحِّد الرحمن ، وفي بيتهم نزل القرآن ، وبهديهم التأويل والبيان..) إلى كلام بسيط حذفناه، ثم نعود إلى ما كنا بصدده من تعداد الوجوه الدالة على علم الهادي عليه السلام.
ورابعها: أن الهادي ظهر بعد استقرار المذاهب وانتساب أهلها إلى أئمتها، وفي وقته عليه السلام زيدية وحنفية ، وشافعية ومالكية وغيرهم من الفرق الإسلامية؛ فانتشر مذهبه في آفاق الزيدية، وضرب بجرانه في بلاد أتباع العترة النبوية بالجيل والديلم ونواحيهما، واليمن والحجاز وما بينهما، وأُظهرت أقواله عليه السلام في هذه البلاد، وقيّض الله لمذهبه أنصاراً من أهل البيت وعلمائهم شيدوا أركانه، ورصوا بنيانه، ورجحوا برهانه، وأظهروا تبيانه، ومال إليه خلق كثير لا يتعارفون، وبشر جم لا يحصى عددهم الواصفون.
هذا، ومذهب زيد عليه السلام متقدم عليه، والأكثر من الزيدية مائل إليه، فالتزم أكثر الزيدية مذهب الهادي عليه السلام، واعتقدوا صحته من العلماء المجتهدين والأئمة الهادين، فرَّعُوا على نصوصه وشرحوها، وخرجوا أصوله وصححوها، وضبطوها وأتقنوها، وبينوها وبرهنوها، وصنفوا فيها التصانيف العجيبة الوسيعة، وجمعوا فيها الكتب الغريبة البديعة؛ من متقدم أحرز قصبات السبق وتولاها، ومتأخر كان ابن جلاها وطلاّع ثناياها.
فانتصر بهم مذهبه ، وطالت بعنايتهم عذبه ؛ وأهملوا مذهب الشافعي رحمه الله وهم أقبل لعلومه من أصحابه ، وتركوا مذهب أبي حنيفة وهم أعرف به من أربابه، ومالوا عن مذهب زيد بن علي وهو معهم مكشوف لا يتوارى ضياؤه، وبينهم معلوم لا ينستر بهاؤه، وعرجوا عن مذهب القاسم عليه السلام وهو في الحقيقة شيخ الهادي وأستاذه، وإليه يسند وهو في المهمات ملاذه.
فصار كلام الهادي عندهم أصلاً متبعاً، ومنهجاً مهيعاً، وطريقاً بادياً، وعلماً هادياً، ونوراً مضيئاً، وديناً مرضياً، وما ذاك إلا لخصيصي خصه الله بها وزاده عليهم بسطة فيها، ومن أنكر هذا فهو جاهل، لأن المنتصرين لمذهب الهادي عليه السلام خلق كثير لا يمكنهم التواطؤ على نصرته من باب الحمية، ولم يجمعهم مكان ولا زمان واحد فينظمهم التعاقد على التزامه خوفاً من أحد أو تقية، بل عرفوا من فضله ما جهله الجاهلون، وعلموا من قدره ما هُمْ به العلماء العاملون؛ فرضي الله عنهم وأرضاهم.
[نكتة لطيفة]
فائدة: إن قيل كل أهل مذهب يمكنهم مثل هذا؛ فيقول أصحاب الشافعي وجدنا فقهه أكثر وعلمه أغزر، وهكذا أصحاب أبي حنيفة.
فالجواب: أنا لا ننكر علم الفقهاء وأن كل مجتهد مصيب، وسنذكر إن شاء الله في هذا فصلاً في آخر الكتاب وإنما أردنا الإشارة إلى أن مذهب الهادي تأخر عن مذهب المتقدمين من أئمة العترة وفقهاء الأمة وقال به خلق عظيم وبشر كثير لا يمكن أن يقال فيهم أن ذلك من باب التواطي والحمية أو الخوف أو التقية بل ذلك لما عرفوا من الحق ورجحوا من العلم.
ويصير ذلك بمنزلة صاغة مهرة في صنعة الحلية تقدم منهم جماعة وتأخر واحد فعرضت صنعتهم على صاغة تأخروا عن الجميع ففضلوا صنعة المتأخر عن جملة الصاغة المتقدمين، وأخذوا يتعلمون من صنعته ، ويقتدون في علمهم ببراعة صياغته.
فإنك تعرف يا هذا إن كنت ممن يعرف أن ذلك منهم إنما كان لمعرفتهم بجودة صنعة هذا الصانع الماهر ، وصيغة هذا الصايغ الظاهر ؛ لولا ذلك لما عكفوا على صنعته، وبالغوا في التعلم من حكمته؛ هذا تقريب في ضرب المثل وإلا فالرجوع إلى مذهب الهادي أعلى وأجل.
[ورعه وزهده وعبادته]
ونذكر جملة من ورعه عليه السلام وإشارة إلى فضله وعبادته وزهده وتواضعه؛ فكلها دلائل على كماله وشرف خصاله.
أما ورعه عليه السلام: فقال الفقيه الإمام حميد رحمه الله تعالى: كان عليه السلام في الورع والزهد والعبادة إلى حد تقصر العبارة عنه، والفهم عن الإحاطة به، وظهور ذلك يغني عن تكلف شأنه، إلا أنا نحكي قليلاً من كثير مما يثلج قلوب ذوي الإيمان العارفين بحق العترة عليهم السلام.
روى مصنف سيرته عمن سمعه يقول: (والله الذي لا إله إلا هو ما أكلت مما جبيت من اليمن شيئاً ولا شربت منه الماء) وروي عمن سمعه عليه السلام يقول : (ما أنفق إلا من شيء جئت به معي من الحجاز)، وهذا ورع شحيح، لأنه عليه السلام عف عن الحلال، إذ كان يجوز له أن يتناول من الجزية وأخماس المغانم وسوى ذلك من كثير من الأمور المباحة لمثله في الشرع النبوي عظمه الله. هذا كلام حميد رضي الله عنه.
وأقول: لو قال قائل بأن الهادي عليه السلام في هذا لم يسبقه إليه أحد من الأئمة والخلفاء لكان صادقاً ؛ هؤلاء الخلفاء من الصحابة هم قدوة المسلمين وعظماء أهل الدين، كانت لهم أرزاق فرضوها لأنفسهم في مال الله مما يسوغه الشرع النبوي زادهم الله شرفاً، وأعظمهم مرتبة في ورعه ، وأشرفهم عند الله مزية في فضله؛ كان يأخذ من مال الله على زهده ما تمس إليه الحاجة، وينسد به فاقته، وعمر رضي الله عنه على تقشفه، وأبو بكر رضي الله عنه على زهده كانا يأخذان من مال الله ما يبيحه الشرع الشريف من دون إفراط ولا إسراف.
ومن كلام عمر رضي الله عنه: أنزلت نفسي في مال الله بمنزلة ولي اليتيم إن استغنى تركه، وإن افتقر أكل بالمعروف.
والهادي عليه السلام أنزل نفسه في مال الله بمنزلة الأمين على الوديعة يحفظها حتى يسلمها إلى أهلها بأمانتها غير مقترض منها ، ولا آخذ لها؛ فهذا ورع لم يبلغ أحد من الخلفاء إلى غايته، ولم يصل أحد من الأئمة إلى نهايته.
وقد ذكر الفقيه حميد رحمه الله في ورع الهادي عليه السلام أشياء كثيرة، من جملتها أن بعض العلويين طلب منه قرطاساً يكتب فيه، فقال للرسول: القرطاس لا يحل له، فدفع إلى الغلام ورقة قطن.
وروي أن الهادي عليه السلام قال لغلامه عبيدالله بن حذيف: اشتر لي تبناً أعلفه دوابي، فقال له: ليس نجد إلا تبن الأعشار، فقال عليه السلام: لا تشتر لنا منه شيئاً وأنت تقدر على غيره ، قال عبيدالله بن حذيف : فلم أجد غيره فأمرت بعض الغلمان الذي يقوم على الخيل فأخذ منه كيلاً معروفاً حتى نشتري ونرد مثل ما أخذنا، فعلم الهادي عليه السلام فوجه إلى عبيدالله فكلمه بكلام غليظ، وقال له عبيدالله: إنا أخذنا كيلاً منه معروفاً حتى نرد مكانه.
فقال عليه السلام: لست أريد منه شيئاً، ما لنا وللعُشر خذوا هذا التبن فاعزلوه حتى يعلفه من يحل له، ولم يعلف منه خيله تلك الليلة شيئاً، وأمر أن يطرح للخيل قَضْب؛ ثم قال: اللهم إني أشهدك أني قد أخرجت هذا من عنقي وجعلته في أعناقهم.
وروى مصنّف سيرته أنه عليه السلام صاح بغلام له، فسأله عن خرقه فقال له الغلام: قد رفعتها، فقال: أخرجها إليَّ فأخرجها من بين ثيابه عليه السلام، فلما أخرجها قال للغلام: ويلك أنت قليل دين، ليس لك دين تضع خرقة من الأعشار بين ثيابي!.
ودخل يوماً وقد تطهر للصلاة فأخذ خرقة فمسح بها وجهه ثم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون هذه الخرقة من العشر، فذكرت له ذلك فقال: ما يحل لنا أن نمسح به وجوهنا ولا نستظل به من الشمس.
وذكر الفقيه العلامة حميد رحمه الله أشياء من ورعه تركناها اختصاراً، وكان عليه السلام صواماً قواماً يصوم أكثر أيامه، ويحيي أكثر لياليه تهجداً وصلاة.
روينا عن السيد أبي طالب عليه السلام عن سليم؛ وكان يلي خدمة الهادي عليه السلام في داره فقال: كنت أتبعه حتى يأخذ الناس فرشهم في أكثر لياليه بالمصابيح إلى بيت صغير في الدار كان يأوي إليه، فإذا دخله صرفني فأنصرف؛ فهجس ليلة بقلبي أن أحتبس وأبيت على باب البيت أنظر ما يصنع.
قال: فسهر عليه السلام الليل أجمع ركوعاً وسجوداً، وكنت أسمع وقع دمعه عليه السلام ونشيجه في حلقه، فلما كان الصبح قمت فسمع حسي فقال: من هذا، فقلت: أنا سليم، فقال: ما عجل بك [في] غير حينك، فقلت: ما برحت البارحة جعلت فداك؛ قال: فرأيته اشتدّ عليه ذلك وحرج علي ألا أحدث به في حياته أحداً؛ قال: فما حدثنا به سليم إلا بعد وفاة الهادي عليه السلام أيام المرتضى.
وكان عليه السلام إذا التقت الأبطال، وتداعت نزال؛ ألفيته القطب الذي يدور عليه رحى القتال، يحطم الوشيج في النحور، ويثلم الهندي به المشهور، وكم له عليه السلام من يوم أغرّ، عاود فيه الكرّ واستحيا من الفرّ، إذا حمي الوطيس كان أمام جنوده، يقعص كبش الكتيبة، ويشاهد له كل حملة في الأعداء عجيبة، ولقد صدق عليه السلام حيث قال: [الطويل]
أنا ابن رسول الله وابن وصيه
وقدماً ليوث الحرب فاقدت بينها
ومن ليس يحصى فضله ووقائعهْ
بطعنٍ وضرب ما تغب وعاوعهْ
وكان عليه السلام يضرب ضربات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
وفي الرواية أنه ضرب رجلاً على باب ميناس فحذف السيف من بين رجليه، فلما نظر إليه ابن حُمَيّد قال: استروا ضربة هذا العلوي فوالله لئن رأها الناس لا تناصروا.
وفيه يقول الشاعر ابن أبي البلس الخيواني: [الكامل]
لو كان سيفك قبل سجدة آدم .... قد كان جرد ما عصى إبليسُ
وله في هذا الباب ما لا يسعه هذا الكتاب.
[كراماته عليه السلام]
وكانت له عليه السلام آيات وكرامات تكشف عن علو منزلته عند الله تعالى فمن ذلك:
ما رواه مصنف سيرته عن بعضهم قال: كان لي ابن صغير لم يتكلم فطلبت الدواء له بكل حيلة فأعياني، فعزمت على حمله معي إلى مكة، وكنت على ذلك حتى أتاني كتاب الهادي عليه السلام فأخذنا خاتمه فوضعناه في ماء وسقيناه الصبي فأفصح بالكلام؛ فحدث بذلك الناس وشاهدوا الغلام وهو يتكلم، وشاهده بعضهم وهو لا يتكلم.
وروى بعضهم، قال: سمعت رجلاً يقع في الهادي عليه السلام وينتقصه فما مكث إلا أياماً حتى أخذه بلاء فانقطعت رجله قبل أن يموت ثم مات بعد ذلك.
وتكلّمت امرأة في الهادي بكلام سوء فقامت سحراً فأخذتها النار فاحترقت.
وأتي بصبي في نجران قد ذهب بصره من الجدري فَأَمرَّ يده المباركة على بصره ودعا له فأبصر.
وروي أنه كان في يوم شديد الحر يسير في أرض لا ظلال فيها كثيرة السموم؛ فأنشأ الله سبحانه سحابة حتى ركدت فوق رأس الهادي عليه السلام وجميع أصحابه، وأظلهم الله بها في ذلك اليوم، قال الراوي: فوالله ما زالت تلك السحابة مظلة له حتى راح، وكانت السماء مصحية ما فيها سحابة غيرها، وإن الناس ليتعجبون مما رأوا.
وروي أن رجلاً كان يرمي أصحاب الهادي عليه السلام في يوم ميناس فدعا عليه الهادي أن يقطع الله أصابعه، فتناصلت أصابعه إلى الرسغين ومات مما نزل به.
هذه روايات الفقيه حسام الدين -رحمة الله عليه-.
وروى لي الفقيه العلامة عماد الدين يحيى بن محمد العمراني رحمه الله أن عامر الزواحي كان من الباطنية وترأس في قومه، واشتدت وطأته في اليمن فملك صعدة وكان منه في بعض الأيام أنه قعد على قبر الهادي عليه السلام، فكان سبب وفاته أنها أصابته علة أذابت لها مجالسه فأكلتها الدود حتى هلك، وكان بعض الفضلاء بمكة فسأل عن سبب وفاته فأخبر بهذا؛ فشكر الله تعالى وخر له ساجداً.
[تواضعه وحسن سيرته]
وأما تواضعه وحسن سيرته فما لا يأتي عليه العد في كتابنا هذا.
روى السيد [أبو طالب] بإسناده عن أبي الحسين الهمذاني، وكان رجلاً فقيهاً على مذهب الشافعي يجمع بين العلم والتجارة، قال: قصدت اليمن في بعض الأوقات وحملت ما أتجر فيه إلى هناك ابتغاء لرؤية يحيى بن الحسين عليه السلام لما كان يتصل بي من آثاره وأخباره، فلما حصلت بصعدة قلت لمن لقيته من أهلها كيف أصل إليه ومتى أصل إليه وبمن أتوصل إليه؟
فقيل لي: الأمر أهون مما تقدره، تراه الساعة إذا دخلت الجامع بالناس فإنه يصلي بالناس الصلوات كلها، فانتظرته حتى خرج للصلاة فصلى بالناس وصليّت خلفه، فلما فرغ من صلاته تأملته فإذا قد مشى في المسجد إلى قوم مرضى في ناحية منه فعادهم وتفقد أحوالهم بنفسه، ثم مشى في السوق وأنا أتبعه فغيّر شيئاً أنكره، ووعظ قوماً وزجرهم عن بعض المناكير، ثم عاد إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه من داره للناس.
فتقدمت إليه وسلمت عليه فرحب وأجلسني؛ وسألني عن حالي ومقدمي فعرفته أني تاجر وأني وردت ذلك المكان تبركاً بالنظر إليه، وعرف أني من أهل العلم فأنس بي، وكان يكرمني إذا دخلت إليه إلى أن قيل لي في يوم من الأيام: إن غداً يوم المظالم وأنه يقعد فيه للنظر بين الناس.
فحظرت غداة هذا اليوم فشاهدت هيبة عظيمة ورأيت الأمراء والقواد والرجالة وقوفاً بين يديه على مراتبهم وهو ينظر في القصص ويسمع الظلامات، ويفصل الأمور، فكأني شاهدت رجلاً غير من كنت شاهدته، وبهرتني هيبته.
وادعى رجل على رجل حقاً وأنكره المدعى عليه وسأله البينة فأتى بها، وحلّف الشهود احتياطاً فعجبت من ذلك، فلما تفرق الناس دنوت منه فقلت: أيها الإمام رأيتك حلّفت الشهود فقال: هذا رأيي أنا أرى تحليف الشهود احتياطاً عند بعض التهمة وما تنكر من هذا، هذا قول طاووس من التابعين، وقد قال الله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} [المائدة:107] ، قال: فاستفدت في تلك الحال منه مذهبه، وقول من قال به من التابعين والدلالة عليه، ولم أكن عرفت شيئاً منه قبل ذلك.
وأنفذ إلي يوماً من الأيام يقول: إن كان في مالك لله حق زكاة فأخرجه إلينا؛ فقلت: سمعاً وطاعة من لي بأن أخرج زكاتي إليه، وحسبتُ حسابي فإذا علي من الزكاة عشرة دنانير فأنفذتها إليه؛ فلما كان بعد يومين بعث إلي فاستدعي بي فإذا هو يوم العطاء قد جلس لذلك والمال يوزن ويخرج إلى الناس فقال: أحضرتك لتشهد إخراج زكاتك إلى المستحقين فقلت: الله الله أيها الإمام كأني ارتاب بشيء من فعلك؛ فتبسم وقال: ما ذهبت إلى ما ظننت، ولكني أردت أن تشهد إخراج زكاتك.
وقلت له يوماً من الأيام: رأيتك أيها الإمام أول ما رأيتك وأنت تطوف على المرضى في المسجد تعودهم وتمشي في السوق، فقال: هكذا كان آبائي يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، وأنت إنما عهدت الجبابرة والظلمة.
وكانت له عليه السلام مواقف مشهورة في الجهاد وقد أعرضنا عن ذكرها؛ وإنما نذكر تواضعه ولطفه بالضعفاء والفقراء، ووضع أموال الله مواضعها ليزداد أهل اليقين بصيرة وطمأنينة في معرفة فضله.
وقال صاحب سيرته: كان شديد التفقد لأحوال المسلمين، حسن الإنصاف للمظلومين من الظالمين، قال: رأيته ليلة وقد جاء رجل ضعيف في السحر يستعدي على قوم فدق الباب، فقال: من هذا يدق الباب في هذا الوقت؟ فقال له رجل كان على الباب: هذا رجل يستعدي، فقال: أدخله فاستعدى، فوجه معه في ذلك الوقت ثلاثة رجال يحضرون معه خصماءه.
وقال لي: يا أبا جعفر الحمد لله الذي خصنا من نعمه، وجعلنا رحمة على خلقه، هذا رجل يستعدي في هذا الوقت، لو كان واحداً من هؤلاء الظلمة ما دنا إلى بابه في هذا الوقت مستعدي، ثم قال: ليس الإمام منا من احتجب عن الضعيف في وقت حاجة مُلِظّته.
وروى السيد [أبو طالب] عن بعضهم قال: سمعت علي بن العباس يقول: كنا عنده يوماً وقد حمي النهار وتعالى وهو يخفق رأسه، فقمنا، فقال: أدخل وأغفو غفوة، وخرجت لحاجتي وانصرفت سريعاً، وكان اجتيازي على الموضع الذي يجلس فيه للناس فإذا أنا به في ذلك الموضع، فقلت له في ذلك.
فقال: لم أجسر على أن أنام وقلت: عسى أن ينتاب الباب مظلوم فيؤاخذني الله بحقه، ووليت راجعاً كما دخلت.
وروى السيد [أبو طالب] –رحمة الله عليه- بإسناده عن علي بن العباس رحمه الله قال: دخلت على يحيى بن الحسين بُعَيْدَ سحر والشموع بين يديه، وقد تسلح لقتال القرامطة، وقد هجموا بجموعهم قضّهُم بقضيضهم فوجدته مفكراً مطرقاً.
فقلت: يظفرك الله بهم أيها الإمام ويكفيكهم فطال ما كفى.
فقال: لست أفكر فيهم، فإني أود أن لي يوماً كيوم زيد بن علي، ولكن بلغني عن فلان -وذكر بعض الطالبية- كذا وكذا من المنكر فغمني ذلك.
وكانت فضائله لا تحصى، ومحاسنه في هذا وغيره لا تستقصى.
فأما وقعاته في الباطنية فكان له معهم نيف وسبعون وقعة التي حضرها بنفسه، وكانت له ليلة تشبه (ليلة الهرير) لجده أمير المؤمنين في وادي المغمة قتل فيها بيده مائة قتيل، وقتل ولده المرتضى ما يدنو من ذلك.
وتوفي عليه السلام بصعدة لعشر باقية من شهر ذي الحجة آخر سنة ثمان وتسعين ومائتين، ومضى عن ثلاث وخمسين سنة، وكانت ولادته بالمدينة النبوية سنة خمس وأربعين، وكانت بيعته ودعوته سنة ثمانين ومائتين؛ وقبره عليه السلام بمسجده المشهور بصعدة حماها الله بخلال المشاهد المقدسة، وفيه يقول بعض الشعراء:
عرّج على قبر بصعدة .... وابك مرموساً بآمل
واعلم بأن المقتدي بهما .... سيبلغ حيث يأمل
[الإمام الحسن بن علي بن الحسن (الناصر الأطروش)]
(230- 304هـ / 845- 917م)
وأما الإمام الناصر للحق أبو محمد الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر الأشرف بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام: فهو الإمام العالم.
قال بعض الزيدية وقد سأله سائل وحرج عليه إلا ما أخبره عن العالم ومن يستحق هذا الاسم، فأطرق مفكراً ثم قال: العالم الناصر الكبير الحسن بن علي؛ لأنه أحاط بالعلوم كلها وقرأ من كتب الله عز وجل ستة عشر كتاباً منها التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وباقيها من الصحف، وكان يقول: (حفظت من كتب الله تعالى ثلاثة عشر كتاباً فما انتفعت منها كانتفاعي بكتابين: أحدهما: الفرقان لما فيه من التسلية لأبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- بما كابده السلف الصالحون من الأنبياء المتقدمين والرسل الطاهرين –صلوا ت الله عليهم أجمعين-، والثاني: كتاب دانيال لما فيه: أن الشيخ الأصم يخرج ببلد يقال لها ديلمان ويكابد من أصحابه وأعدائه جميعاً ما لا يقادر قدره، ولكن عاقبته محمودة).
وهذا يشهد بشرفه العظيم وفضله الجسيم حيث ذكره الله تعالى في كتاب دانيال صلى الله عليه وسلم وعلى سائر أنبيائه، ويحق له عليه السلام ذلك فإنه انتشر على يديه من الإسلام في تلك الجهات ما شهرته تغني عن ذكره، وقد قيل إن الذي أسلم على يديه مائتا ألف ألف، وقيل ألف ألف نسمة.
وروى أبو القاسم البستي أنه أسلم على يده في يوم واحد أربعة عشر ألف نسمة، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أسلم على يده رجل وجبت له الجنة)) .
فانظر إلى هذا الخير الكثير، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين –كرم الله وجهه-: ((يا علي لأن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس)) كيف تراه إذا هدى الله على يديه ألف ألف نسمة، هذا ما لا يمكن وصفه من الفضل العظيم والثواب الجسيم.
[الإمامان الهادي والناصر فرسا رهان]
نعم، نذكر جملاً من علم الناصر عليه السلام وفضله فإنه كان نظير الهادي عليه السلام، وهما في الفضل والعلم فرسا رهان، هذا عالم وهذا عالم، وهذا زاهد في الدنيا وهذا زاهد ، وهذا فاضل وهذا فاضل، وهذا فصيح شاعر بليغ وهذا مثله، وهذا فقيه بارع مصنف وهذا مثله، وهذا أحيا الله به أرض اليمن وطهرها عن الإلحاد وهذا أحيا الله به أرض الديلم والجيل وطهرها عن الإلحاد، وهذا جاء وصفه عن النبي الذي لا ينطق عن الهوى، وهذا جاء وصفه في كتاب دانيال النازل من السماء.
وهذا ورد فيه عن سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم حديث وهذا مثله، وهذا جاءت به عن جده أمير المؤمنين بشارة وهذا مثله، وهذا له أتباع وفقهاء وأصحاب علماء وهذا مثله، وهذا شجاع فارس لا تهوله الجنود وهذا مثله، وهذا كان يخوض الغمرات ويُجَدّل الكماة وهذا مثله ، وهذا في نهاية التواضع والرفق وسجاحة الأخلاق وهذا مثله، وهذا ولد بالمدينة النبوية وهذا مثله.
وعلى الجملة فإني تتبعت سيرة الهادي والناصر عليهما السلام وفضلهما، وما ذكره العلماء من علمهما وبراعتهما وزهدهما وعبادتهما وجهادهما وشجاعتهما وورعهما وديانتهما إلى غير ذلك من صفات الكمال ومحامد الخصال؛ فوجدتهما في ذلك كله على سواء ، وكالفرقدين في السماء، فلا أُفَضّلُ أحدهما على الآخر، ولا أجد بينهما فرقاً إلا أن هذا حسني وهذا حسيني فسلام الله عليهما.
[و]قد ذكرنا من علم الهادي وفضله ونبذ من أحواله طرفاً؛ فنذكر مثله من علم الناصر وفضله وأحواله.
[علمه وتصانيفه (ع)]
أما علمه عليه السلام فكان جامعاً للعلوم الدينية، وله فيها التصانيف الفائقة المرضية، منها (كتاب البساط) ومنها (كتاب في التفسير) احتج فيه بألف بيت من الشعر، ومنها (كتاب الحجج الواضحة بالدلائل الراجحة) في الإمامة على طريقة الزيدية؛ وفيه دلالة حسنة على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام.
ومنها: (كتاب الأمالي) في الأخبار ضمنه من فضائل العترة عليهم السلام كثيراً، ومنها (كتاب الإبانة) في فقه الناصر، ومنها (كتاب الألفاظ) للناصر عُلّقَ عنه، وعدة كتبه أربعة عشر كتاباً وكل ذلك معروف مشهور.
[الكتب المصنفة على مذهب الناصر]
وله عليه السلام فقه واسع، وقد صنف الإمام المؤيد بالله عليه السلام في فقه الناصر (كتاب الحاصر)، وصنف في فقه الهادي (التجريد) وشرحه، وصنف الإمام أبو طالب عليه السلام (كتاب الناظر) في فقه الناصر، وصنف في فقه الهادي (التحرير) وشرحه.
فاعجب إلى السيدين الأخوين عليهما السلام كيف نشرا فقه هذين الإمامين، وصنفا كلاهما في فقههما هذا نهاية الإنصاف، ودليل على اعترافهما بفضل الإمامين أي اعتراف.
فأما أبو طالب رحمه الله فكان من أتباع الهادي وأنصار مذهبه وإن صنف في فقه الناصر، فهو هدوي المذهب، وأما المؤيد بالله عليه السلام فسنذكره إن شاء الله تعالى، وما كان يذهب إليه في موضع ذكره من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.
ونرجع إلى وصف علم الناصر وكتبه المصنفة على مذهبه، من أنفسها وأحسنها الكتابان المشهوران للناصرية ؛ أحدهما (كتاب الإبانة ) مشروح بأربعة مجلدة كبار للشيخ العالم أبي جعفر محمد بن يعقوب الهوسمي رضي الله عنه، والكتاب الثاني (الموجز) لأبي القاسم البستي رحمه الله.
وجميع أهل الجيل من الزيدية على مذهب الناصر عليه السلام في الفروع، وكان جامعاً لفنون العلم من أصول الدين وفروعه ومعقوله ومسموعه، راوية للآثار، عارفاً للأخبار، ضارباً في علم الأدب بأقوى سبب.
ومن كتب فقهه الهادي الكتابان المشهوران (المسفر) و(المرشد) وغيرهما من كتب الناصرية مما لا يأتي عليه العد والحصر؛ فإن أهل الجيل والديلم أكثرهم ناصرية، وفيهم قاسمية ويحيوية ومؤيدية، وقد أخذوا بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أهل بيتي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)) .
[فضله والآثار الواردة فيه (ع)]
وأما فضله: فكان عليه السلام كما قال فيه حي الفقيه حميد رحمه الله: كان جامعاً لخصال الكمال، فائزاً بمحاسن الخلال، قد تسنم ذروة الشرف العلية، وخيّم في عوالي رتب المجد السنيّة، وفيه ورد الأثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم برواية بعض علمائنا رحمهم الله ، لما سأله أنس عن علامات الساعة قال: ((من علاماتها خروج الشيخ الأصم من ولد أخي مع قوم شعورهم كشعور النساء بأيديهم المزاريق)) وهذه كانت صفته عليه السلام وصفة أصحابه.
وفيه ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: (يخرج من نحو الديلم من جبال طبرستان فتى صبيح الوجه يسمى باسم فرخ النبي الأكبر الحسن بن علي).
وفي الخبر: (لما أغرق الله تعالى الأرض لم يصب جبال الديلم الغرق فسألت الملائكة عليهم السلام ربهم عن ذلك فقال تعالى: إنه يخرج فيها رجل من ولد النبي الأمي).
[من كلامه عليه السلام]
وكان عليه السلام قد نشأ على طريقة سلفه الأكرمين وآبائه الطاهين جامعاً بين العلم والعمل، وبرز في فنون العلم حتى كان في كل واحد منها سابقاً لا يجارى، وفاضلاً لا يبارى.
وكان له مجلس للنظر، ومجلس لإملاء الحديث، وكان في نهاية الرفق واللين حتى عظم تأثيره في الدعاء إلى الله تعالى، وقد شهد بذلك ما روي أنه قال في بعض مقاماته وقد دخل آمل وازدحم عليه طبقات الرعيّة في مجلسه فقال : أيها الناس إني دخلت بلاد الديلم وهم مشركون يعبدون الحجر والشجر، ولا يعرفون خالقاً ولا يدينون ديناً؛ فلم أزل أدعوهم إلى الإسلام وأتلطف في العطف بهم حتى دخلوا فيه أرسالاً، وأقبلوا إلي إقبالاً ؛ فظهر لهم الحق وعرفوا التوحيد والعدل، فهدى الله لي منهم زهاء مائتي ألف رجل وامرأة ، فهم الآن يتكلّمون في التوحيد والعدل مستبصرين ، ويناظرون عليهما مجتهدين، ويدعون إليهما محتسبين، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويقيمون حدود الصلوات المكتوبات، والفرائض المفروضات.
حتى قال: وأنتم معاشر الرعية فليس عليكم دوني حجاب، ولا على بابي بوّاب، ولا على رأسي خلق من الزبانية ولا أجد من أعوان الظلمة؛ كبيركم أخي وشابكم ولدي، لا آنس إلا بأهل العلم منكم، ولا أستريح إلا إلى مفاوضتكم، فسلوني عن أمر دينكم وما يعنيكم من العلم وتفسير القرآن، فإنّا نحن تراجمته وأولى الخلق به، وهو الذي قرن بنا وقُرنا به، فقال أبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني مخلّف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً، كتاب الله وعترتي أهل بيتي)) .
وكتب إلى بعضهم فقال: (ولقد بلغك أعزك الله ما أدعو وأهدي إليه من الأمر بالمعروف الأكبر والنهي عن المنكر، إحياء لما أُمِيْتَ من كتاب الله، ودُفن من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن محضت آي التنزيل، عارفاً بها منها تفصيل وتوصيل، ومحكم ومتشابه، ووعد ووعيد، وقصص وأمثال، آخذاً باللغة العربية التي بمعرفتها يكون الكمال ، مستنبطاً للسنة من معادنها ، مستخرجاً للمتكمنات من مكامنها، منيراً لما أدلهم من ظلمها، معلناً لما كتم من مستورها).
وكان حسناً زاهداً، ورعاً عابداً، مقبلاً بالليل والنهار على طاعة الله وعبادته، وكان ذلك دأبه حتى توفاه الله إلى رضوانه وشريف جناته.
وروي أنه قال عليه السلام: (ليس لي شبر أرض ولا يكون لي إن شاء الله، ومهما رأيتموني أقتني ذلك فاعلموا أني قد خنتكم فيما دعوتكم إليه ) ، وله عليه السلام من هذا الباب شيء كثير أعرضنا عن ذكره، ومن شعره في ذلك: [الطويل]
أراني أهوال المعاد بصيرتي
وأيقنت أني بالذي قد كسبته
وأن وعيد الله حق ووعده
فأعلنت بالتوحيد والعدل قائلاً
وتصديق وعد الغيب رأي عيانِ
مدين فقلبي دائم الخفقانِ
فمن مُوْثَقٍ أو فائز بجنانِ
وأظهرت أحكام الهدى ببيانِ
وكان في شجاعته وبسالته وشدة بأسه ورباطة جأشه بمكان مكين، وكم له من مقام هائل فاز فيه بالشرف الطائل، وكان يرد بين الصفين متقلداً مصحفه وسيفه ويقول: قال أبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي )) ، ثم يقول: هذا كتاب الله، وأنا عترة رسول الله؛ فمن أجاب إلى هذا وإلا فهذا.
ومن شعره في هذا المعنى وقد أحسن غاية الإحسان: [الرجز]
شيخ شرى مهجته بالجنة .... واستن ما كان أبوه سنَّهْ
ولم يزل علم الكتاب فَنَّهْ .... يجاهد الكفار والأظنَّهْ
بالمشرفيات وبالأسنَّة
وله عليه السلام أشعار كثيرة حسنة في الجهاد والحث عليه، وشعره وشعر الهادي عليه السلام أخوان وجنسان متقاربان، وكأنهما من عين واحدة يخرجان، وبماء واحد يمزجان.
[بحث في قيام إمامين]
وكان ظهور الناصر سنة سبع وثمانين ومائتي سنة بعد ظهور الهادي بسبع سنين، ولم يتعرض في الحدائق الوردية لذكر قيامهما عليهما السلام في وقت واحد، وأن ذلك كان من مذهبهما أو مذهب أحدهما، وقد قيل أن الناصر عليه السلام كان يذهب إلى جواز ذلك ، ولعله مذكور في كتبه ، والقصد هاهنا الإشارة إلى فضلهما وعلمهما، والناظر في سيرهما وأخبارهما يعرف حسن أحوالهما وآثارهما ، ولولا ملاحظة الاختصار لذكرنا من ذلك ما يكون روضة للأبصار، والاقتداء بهديهما وعلمهما حَسّنَ هذا في آل الحسين وهذا في بني الحسن، وقد أحسن من قال فيهما: [مجزوء الكامل]
عرّج على قبر بصعدة .... وابك مرموساً بآمل
واعلم بأن المقتدي بهما .... سيبلغ حيث يأمل
قال الحاكم رحمه الله في (كتاب تنزيه الأنبياء والأئمة) عليهم السلام وقد ذكر اعتراض من اعترض بقيامهما عليهما السلام في وقت واحد، فقال: كيف تقولون بإمامتهما ولا بد لكم من القول ببطلان إمامة أحدهما لأن عندكم لا يجوز إلا أن يكون إماماً واحداً.
والجواب: أن من الزيدية من يقول بإمامة اثنين إذا تباعدت ديارهم، وعند المحققين منهم لا يجوز، ويقولون أن الإمام كان الهادي إلى أن توفي، ثم صار الإمام الناصر، وكان الناصر يقر بإمامة الهادي.
* * * * * * * * * * * *
[الإمام محمد بن الهادي إلى الحق (المرتضى)]
(278- 310هـ / 892- 923م)
وأما الإمام المرتضى لدين الله محمد بن يحيى بن الحسين بن القاسم عليهم السلام: فإنه من عيون أئمة الهدى ومصابيح الدجى.
كما وصفه الفقيه العلامة حميد بن أحمد رضي الله عنه: (غصن من أغصان الخلافة الناضرة، وبذر من بذور العترة الطاهرة، ورضيع ثدي الإيمان، وزهر الفضل الذي ضحكت عنه الأفنان ، كريم الطرفين ، منتجب الأبوين، وَلِدَه القاسم عليه السلام مرتين؛ نشأ على طريقة التقوى واليقين، متحلياً بآداب الأئمة الهادين، سلام الله عليهم أجمعين، قد أدرك قصبات السبق في ميدان الفضل، وحلّق في جو الشرف والنبل، واعتلى قمم المجد العالية، ورتب الفخار السامية.
[تصانيفه عليه السلام]
وله العلوم الحسنة والتصانيف المستحسنة، وهي ظاهرة مشهورة في أصول الدين وفروع الفقه وعلوم القرآن فمنها: (كتاب الأصول) في التوحيد والعدل، و(كتاب النبوة)، و(كتاب الإرادة والمشيئة)، و(كتاب الإيضاح) في الفقه، و(كتاب النوازل)، وجواب (مسائل المعقلي)، وكتاب (مسائل مهدي) أربعة أجزاء، و(كتاب التوبة)، و(كتاب الرد على الروافض)، و(كتاب فضائل أمير المؤمنين عليه السلام)، و(كتاب الرد على القرامطة)، و(كتاب الشرح والبيان)، و(كتاب الرضاع)، و(كتاب مسائل القدميين)، و(كتاب مسائل الحائريين)، و(تفسير القرآن) تسعة أجزاء، و(كتاب الطبريين) خمسة أجزاء، و(كتاب مسائل الناصر)، و(كتاب مسائل البيوع) ثلاثة أجزاء، و(كتاب مسائل عبدالله بن سليمان)، و(كتاب مسائل المعقلي)، و(كتاب جواب ابن فضل القرمطي).
قال الإمام المنصور بالله: إلى غير ذلك من أجوبته وتصانيفه عليه السلام تركنا ذكرها خوف الإطالة وهي بحمد الله موجودة مشهورة؛ هذا كلام المنصور بالله في الشافي.
[زهده وأحواله عليه السلام]
فأما الزهد والورع فما لا يفتقر إلى برهان، وكيف لا يكون منه في أعلى طبقة وهو فرع خلافة قد بَسُقَ فخارها، وعلا منارها، وكانت له عليه السلام المقامات المحمودة والمواقف المشهودة بين يدي أبيه الهادي إلى الحق عليه السلام، وكان قطب رحى الحرب إذا دارت، ولله القائل: [السريع]
وكم مقام هائل قد قامه .... لو قامه الفيل لسار القهقرى
وله أشعار كثيرة يذكر فيها حاله وقتاله؛ وهي موجودة في كتاب سيرة أبيه الهادي عليه السلام، وكان أخذ أسيراً في بعض الحروب فأقام مدة في الاعتقال، وكتب إلى أبيه عليهما السلام هذه الأبيات يصبره عن فقده: [الوافر]
أمير المؤمنين تعزّ عني .... ولا تحفل ببعدي واغترابي
وهبني كنت في القتلى صريعاً .... بأطراف الأسنة والضرابِ
وقم لله مجتهداً مُجدّاً .... فمثلك لا يُعَلَّمُ بالصوابِ
وكيف وأنت أفضل من عليها .... وأبصر بالعلوم وبالكتابِ
ومن نظر في أحوال المرتضى عليه السلام وسعة علمه مع قصر عمره، فإنه بلغ في العمر اثنتين وثلاثين سنة، وتوفي أبوه عليه السلام وتقلد الأمر بعده مديدة يسيرة، واعتزل وتخلى للعبادة والعلم، وألقى الأمر إلى أخيه الناصر لدين الله أحمد بن يحيى عليهما السلام؛ فإذا نظرت في مدة عمر المرتضى، وما نشر فيها من العلوم الكثيرة والتصانيف الوسيعة والردود البديعة؛ لكانت حرية بأن يكون صاحبها عاش عمراً طويلاً ودهراً كثيراً.
هذا مع اشتغاله بالجهاد، ومباشرته في زمان والده عليه السلام للحروب، وحبسه مدة من الزمان، ومقاساته لأصناف نوائب الحدثان، واشتغاله أيام انتصابه للأمر بأحكام الإمامة وأحوال الرعية، وهذا من فضل الله الذي يخص به من يشاء؛ أن يبلغ في العلم ذلك المبلغ من مني بهذه الأشغال، وكان أجله من أقصر الآجال.
فإن ابن الثلاثين معدود من الشباب في أوانه، ومن اقتبال العمر في عنفوانه، وما بلغ هذا المبلغ إلا وقد أحرز العلوم، وحاز رتبة الاجتهاد، ومن نظر في هذا قضى عجبا، ولم يزل من ذلك متعجبا.
قال القاضي الإمام جعفر بن أحمد بن أبي يحيى [رضوان الله عليه] وقد ذكر المرتضى حتى قال: كان من الأوصاف الحميدة والطرائق الحسنة بحيث لا يخفى حاله، دعا بعد أبيه عليهما السلام ، وبويع له وصحت إمامته، ثم رأى قلة الأنصار وتخاذل الأعوان فلزم بيته واشتغل بنفسه، وتجلبب جلباب الزهد والعبادة، حتى مات بصعدة.
[خطبته عند اعتزاله (ع)]
وله عليه السلام خطبة حسنة عند قيامه بالأمر وبيعة الناس له، تشهد له بالإجادة في الخطابة، وله خطبة أخرى عند خروجه من الأمر تقضي له بالإصابة في الزهادة، قال في أثنائها: (ثم إنكم معاشر المسلمين أقبلتم إلي عند وفاة الهادي عليه السلام، وأردتموني على قبول بيعتكم؛ فامتنعت مما سألتموني ودافعت بالأمر، ولم أؤْيسكم من إجابتكم إلى ما طلبتم مني خوفاً من استيلاء القرمطي لعنه الله على بلادكم، وتعرضه للضعفاء والأيتام والأرامل منكم، فأجريت أموركم على ما كان الهادي عليه السلام يجريها، ولم أتلبس بشيء من دنياكم، ولم أتناول قليلاً ولا كثيراً من أموالكم؛ فلما أخزى الله القرمطي {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا(25)} [الأحزاب] .
تدبّرت أمري وأمركم، ونظرت فيما أتعرضه من أخلاقكم؛ فوجدت أموركم تجري على غير سننها، وألفيتكم تميلون إلى الباطل وتنفرون عن الحق، وتستخفون بأهل الصلاح والخير والدين والورع منكم ؛ لا تتناهون عن منكر تفعلونه، ولا تستحيون من قبيح تأتونه وذنب عظيم تركبونه، لا تتعظون بوعظ الواعظين، ولا تقبلون نصح الناصحين؛ بل تجرون في غيكم مسرعين، وعن أمر الله إلى نهيه عادلين، وعن من يأمركم بطاعة الله مزورين وعنه نافرين، وإلى أعداء الله وأعداء رسوله الجهال الفساق راكنين، وقد قال الحكيم العليم في محكم كتابه التنزيل : {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ(113)} [هود] .
فلما لم أجد فيكم من يعين الصادق المحق، ويأمر بالمعروف ويرغب في الجهاد، ويختار رضى الله عز وجل على رضى المخلوقين إلا القليل من القبيلة، واليسير من الجماعة، أنزلت هذه الدنيا من نفسي أخس المنازل ، وآثرت الآخرة الكريمة محالها ، الشريفة منازلها، العلية مراتبها؛ فأخترت الباقي الدائم على الفاني الزائل، وتمسكت بطاعة رب العالمين، وذلك من غير زهد مني في جهاد الظالمين، ومنابذة الفاسقين، ومباينة الجبارين مع علمي بما فرض الله جل وعز على عباده في وقته وأوانه.
وأيقنت مع الأحوال التي وصفتها، والموانع التي ذكرتها أن السلامة عند الله في الزهد في الدنيا، والاشتغال بعبادة رب العالمين، والاعتزال عن جميع المخلوقين؛ وذلك بعد رجوعي إلى كتاب الله عز وجل ، واشتغال خاطري بتدبر آياته ، وإعمال نظري وفكري في أوامره وزواجره، ومحكمه ومتشابهه، وخاصه وعامه، وأمره ونهيه، وناسخه ومنسوخه.
فوجدته يوجب التبري عليَّ من هذا الأمر إيجاباً محكماً، ويلزمني تركه إلزاماً قاطعاً، فاتبعت عند ذلك أمر الله تعالى ونزلت عند حكمه، ونظرت بقضائه؛ فإن يقم عليَّ الله بعد ذلك حجة، ووجدت على الحق أعواناً ، وفي الدين إخواناً، قمت بأمر الله طالباً لثوابه، حاكماً بكتابه، متقلداً لأمره، متبعاً سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، لا أفارقه ولا أعدل عنه حتى يعز الله الحق، ويبطل الباطل، أو ألحق بصالح سلفي الذين مضوا لله مطيعين، وبأمره قائمين.
وإن لم أجد على ذلك أعواناً صادقين، وإخواناً لأمر الله متبعين؛ لم أدخل بعد اليقين في الشبهة، ولم أتلبس بما ليس لي عند الله حجة، وكنت في ذلك كما قال الله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ(54)} [الذاريات] .
أمثلي يدخل في الأمور الملتبسة؟ هيهات منع ذلك خوف الرحمن، وتلاوة القرآن، والمعرفة بما أنزل الله في محكم الفرقان ؛ فإني لست ممن تغره الدنيا بحسنها، وتخدعه بزينتها، فاتقوا الله عباد الله حق تقاته وعاونوا الحق والمحقين، وجانبوا الباطل والمبطلين وكونوا مع الصابرين).
ومن تدبر هذا الكلام عرف أنه خرج من قلب خاشع، وعبد خاضع، لم تغره الدنيا ببهجتها ، ولم تستهوه الخلافة بزينتها ؛ بل تركها وعرف ما أوجب عليه، تركها واعتزل الناس جانباً، وعبدالله حتى أتاه اليقين؛ فسلام الله عليه وعلى آبائه الأئمة الطاهرين.
* * * * * * * * * * *
[الإمام أحمد بن الهادي إلى الحق (الناصر)]
(...- 325هـ /...- 937م)
وأما الإمام الناصر لدين الله أحمد بن يحيى بن الحسين بن القاسم عليه السلام:
فإنه كان من الأئمة السابقين ، وعيونهم المعتبرين، وسادتهم المطهرين، كان عالماً، فاضلاً، ورعاً، زاهداً، جامعاً لشرائط الإمامة، كاملاً في صفات الزعامة، سالكاً منهاج آبائه الأئمة الأطهار في أحواله الخاصة والعامة.
كما قال الفقيه حميد رضي الله عنه في وصفه: (نشأ على الزهادة والعبادة، واقتبس من نور والده الوقاد، وارتوى من علم الآباء والأجداد؛ فأحرز من علمهم الصافي الكثير، وانتقع من ودق سحابهم الجون الغزير.
[تصانيفه عليه السلام]
وله عليه السلام التصانيف الرائقة الشافية، والكتب النافعة الوافية، في الأصول والفروع والمعقول والمسموع؛ منها: (كتاب النجاة) في الرد على الجبرية القدرية الفرية، وفيه علم عجيب وكلام حسن غريب وهو مجلد كبير.
وله (كتاب الدامغ)، و(كتاب التوحيد)، و(كتاب في الفقه)، و(كتاب التنبيه)، و(كتاب مسائل الطبريين)، و(كتاب الرد على الإباضية) فرقة من الخوارج، [وإنما خص الإباضية بالرد عليهم لأنهم كانوا باليمن ببلاد قدم وشظب والشرفين في عصره عليه لاسلام وبعده بمدة طويلة].
وله في علوم القرآن ما يشهد له بالإصابة والتبريز، إلى غير ذلك من مصنفاته المشهورة وكتبه المذكورة المعروفة، منها (كتاب المفرد) في الفقه. هذا [ما] ذكره الفقيه حميد رحمه الله.
وقال الإمام المنصور بالله عليه السلام وقد ذكره في (كتاب الشافي): للناصر تصانيف جمة في العلوم على أنواعها، أولها كتاب في (التوحيد) في نهاية البيان والتهذيب، و(كتاب النجاة) ثلاثة عشر جزءاً، و(كتاب مسائل الطبريين) جزءان في الفقه، و(كتاب في علوم القرآن)، وكتاب أربعة أجزاء في الفقه، و(كتاب التنبيه)، وكتاب أجاب به الخوارج الإباضية، و(كتاب الدامغ) أربعة أجزاء، وغير ذلك من تصانيفه عليه السلام وقد تركنا ذكر بعضها. هذا كلام الإمام المنصور بالله عليه السلام.
وقد اتفقت الروايتان روايته عليه السلام ورواية الفقيه الشهيد رضي الله عنه، وإنما أعدنا كلام المنصور عليه السلام لما فيه من البيان في تصانيف الناصر عليه السلام، وليعرف الناظر فيه أن الأمر ظاهر في شهرتها ومعرفتها.
[من رسائله (ع)]
ومن رسائله فيما يتضمن الدعاء إلى الله والحث على الجهاد في سبيل الله؛ نذكره ليعرف الواقف على فضل أئمة العترة لجمعهم بين العلم والجهاد.
قال عليه السلام: (ألا وإني رغبت فيما رَغّبَ الله فيه فنهضت له، وقمت فيما ندب إليه فسموت له، وعرفت ما أمر الله فأعلنت به، ولم أسع لطلب دنيا ولا توفير مال، ولا ازدياد حال، ولا طلب فساد في الأرض، ولا إضاعة لحق، ولا انتهاك لمسلم، ولا هتك لمحرم، ولا إراقة دم حرام، ولا إظهار بدعة، ولا فعل شنعة، ولا محبة رفعة، ولا إرادة رفاهية، ولا مفاخرة بجمع.
وإنما قمت للازم الحجة لي ووجوبها علي، وتوثق رباقها بي، على حين جفا من الإخوان، وتراكم من الأحزان، وإفراد من الأعوان، وليس مكاني يخفى، ولا مقامي يغبى، ولا اسمي مجهول فيعذر الغافل والمتثاقل، ويجد حجة الخاذل، ويمكن المتخلف التأول، مع المحن التي أنا فيها، والأمور التي أقاسيها؛ من كثرة لائم لا يرضى، وعابد للدنيا، ومطلب للسعة والغنى، ومتربص لا يُتقى، ومفرد عند الشدائد لا يرعوى، ومتسخط وَقْتَ لا يُعطي، وما دعوت إلى الدنيا فإذا عدمها أهلها معي ذهبوا، فإذا فارقوها انقلبوا.
ألا وإني إنما دعوت إلى ما دعا إليه من كان قبلي من الأئمة الطاهرين والعباد الصالحين؛ أنا عبدالله وابن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم الشاري نفسه لله سبحانه، الغضبان لله جل ثناؤه إذ عصي في أرضه، واستخف بفرضه، وقتلت الدعاة إلى دينه، فلو اسعفتني الأعوان، وعاضدتني الأنصار، وصبر على دعوتي أهل الأديان؛ لعلوت فرسي، واعتصيت برمحي، وتقلدت نجاد سيفي ، وأجبت درعي وقصدت أعداء الله جل ذكره، وكافحت الأقران في يوم الطعان؛ صابراً محتسباً مسروراً جذلاً إذا شرعت الأسنة، واختلفت الأعنة، ودعيت نزال لمعانقة الأبطال، وتكافحت الرجال، وسالت الدماء، وكثرت الصرعى، ورضي الرب الأعلى.
فيا لها خطة مرضية لله جل ثناؤه ما أشرفها؛ فأنا أشهد الله لوددت أني أجد إلى حيلة سبيلاً، يعز فيها الدين ويصلح على يدي أمر هذه الأمة، وإني أجوع يوماً وأطعم يوماً حتى تنقضي أيامي، وألاقي حمامي فذلك أعظم السرور وأجل الحبور، وأشرف الأمور، ولو كان ذلك وأمكن ما نزلت عن فرسي ، إلا لوقت صلاة، والصفان قائمان، والجمعان يقتتلان، والخيلان يتجاولان؛ فنكون في ذلك كما قال شاعر أمير المؤمنين عليه السلام بصفين: [المتقارب]
أيمنعنا القوم ماء الفرات .... وفينا السيوف وفينا الجحفْ
وفينا الشوازب مثل الوشيج .... وفينا الرماح وفينا الزعفْ
وفينا علي له سورة .... إذا خَوَّفوهُ الردى لم يخفْ
وكما قال جدي القاسم بن إبراهيم عليه السلام: [البسيط]
دنيايَ ما زال همي فيك متصلاً .... وإن جنابك كان المزهر الخضرا
إذا انقضت حاجة لي مِنْكِ أعقبها .... هَمٌّ بأخرى فما ينفك مُفْتقرا
متى أراني إلى الرحمن مبتكراً .... في ظل رمحي ورزقي قل أم كثرا
قال عليه السلام: ولكن قل المعين على الدين؛ فأنا وحيد دهري، وغريب في أمة جدي، وقد شَغُل بذلك قلبي وضعف عزمي).
فانظر إلى هذا الكلام ما أدله على رغبته في أمر الله والجهاد لأعدائه، والصبر على بلائه، وهي شيمته عليه السلام وشيمة من سبق من آبائه؛ شنشنة أعرفها من أخزم.
وله عليه السلام الأيام الغر المحجلة، والوقعات الزهر المبجلة، ولم يتفق لأحد ممن تقدم من أهله وسلفه ما اتفق له من نكاية الباطنية، وتدميره لجموعها، وقتله لجنودها، وبذبحه لملوكها، ولو لم يكن إلا وقعة نغاش لكفى برغائها منادياً؛ كانت عدد القتلى فيها تزيد على خمسة آلاف قتيل، وهذا لم يتفق مثله لأحد من أئمة الزيدية.
[الإمام محمد بن الحسن بن القاسم (ابن الداعي)]
(304- 360هـ / 917- 971م)
وأما الإمام المهدي لدين الله أبو عبدالله محمد بن الداعي إلى الله الحسن بن القاسم بن الحسن عليه السلام: فهو الإمام العالم المتفق على علمه وفضله.
وذكر من صنف في أخباره أنه يقال: (لو مادت الدنيا لشيء لمادت لعلم أبي عبدالله ابن الداعي).
[طلبه للعلوم (ع)]
وكان في علم الكلام بحراً لا تقطعه الألواح، وخضماً لا يخوضه الملاّح، وكان شيخه الإمام الشيخ العالم بحر الكلام أبو عبدالله البصري تخرّج معه حتى بلغ في هذا الفن الغاية القصوى، وأدرك نهاية المنى، وله قطع فيه تدل على تبحره وتوسعه.
وعن الشيخ أبي عبدالله: كنت أملي بعض (الموجز) لابن أبي بشر الأشعري فكان عليه السلام يستملي ذلك بنفسه، ويكتبه مع سائر أصحابه، وكان يحتاج إلى أن يكتب في كل يوم نحو ثلاثين ورقة وأقل وأكثر ، فكنت أتأمله وهو يكتب ذلك وقد عرق من شدة الحر، وتعب تعباً شديداً، وهو شيخ إلى السمن ما هو.
فقلت: أيها السيد هذا يتعب نفسك فيما تكتبه أنت، ولا فضل فيه بين أن تكتبه أنت وبين أن يكتبه غيرك، فقال: أحب ألا أتأخر عن أصحابنا في الاستملاء كما لا أتأخر عنهم في الدرس.
[نكتة لطيفة]
قال السيد أبو طالب: كان يجري كلام في الإمامة والنص على أمير المؤمنين عليه السلام، فقال أبو عبدالله البصري: قول العباس له: امدد يدك أبايعك يدل على أنه لم يكن منصوصاً عليه؛ ألا ترى أنه ذكر في سبب إمامته البيعة دون النص.
فقال أبو عبدالله الداعي عليه السلام: قوله: امدد يدك أبايعك يدل على أنه كان منصوصاً عليه؛ ألا ترى أنه لم يستشر، ولم يقل يختارك جماعة منا ونتفق عليك ثم أبايعك.
وكان أبو عبدالله البصري يقول لأصحابه لا تتكلموا في مجلس الشريف أبي عبدالله في مسألة الإمامة، وفي مسألة سهم ذوي القربى، فإنه لا يحتمل ما يسمعه منكم في هاتين المسألتين، ويوحشه ذلك.
وقرأ فقه الحنفية على أبي الحسن الكرخي حتى بلغ فيه المبلغ الذي يضرب به المثل، وكان يجرب حفظه لفقه أبي حنيفة بأن يكتب له مسائل غامضة تنتخب له من الكتب؛ وكان يقترح على أصحابه ذلك فكان ينظر فيها ويكتب أجوبتها تحتها فلا يغلط في شيء من مذهب أبي حنيفة.
[من تأثيره (ع)]
قال السيد أبو طالب: ومن تأثيره العظيم في باب الدين أن الديلم كانوا يعتقدون أن من خالف القاسم عليه السلام في فتاويه فهو ضال، وكل قول يخالف قوله فهو ضلالة؛ والجيل يعتقدون مثل هذا في قول الناصر ، ولم يسمع هناك قبل دخوله إلى تلك الناحية أن كل واحد من القولين حق وصواب، وتكلم فيه وبيّنه وأظهره لهم.
وناظر قوماً منهم كانوا يعتقدون ذلك وكانوا معدودين من جملة الفقهاء، وهم بالديلم القاسمية، وقد كان منهم نفر يحفظون كثيراً من مسائل القاسم ويحيى عليهما السلام وإن لم يكونوا يتحققون بالنظر، ولا يعرفون طريقة، ولا يفهمون أكثر ما يورد عليهم فيما يتعلق بهذا الجنس.
فأما الجيل فما كان فيهم من ينتهي إلى هذا الحد أيضاً وإنما كانوا عوام مقلدة؛ إلا أنه كان فيهم تعصب شديد في هذا الباب، وكان بعضهم يفسق بعضاً في هذه المسألة وربما كفروا ، وكان يجري بين الطائفتين من النزاع والتضليل ما هو معروف؛ إِلاّ أن آخر الأمر اعتقد هذا القول من يرجع إلى ضرب من الدين من الطائفتين، وشاع ذلك واستمر.
واعتقاد الجماعة فيه عليه السلام أنه عالم متفق على علمه مع قدح كثير منهم أنه معتزلي مرة، وأنه حنفي أخرى، وظهر هذا الصلاح ببركته وبقي إلى يومنا هذا، وكان من أئمة الهدى، وقد تركنا الخوض في شيء من أخباره المتعلقة بالجهاد، وإنما أردنا الإشارة إلى علمه.
* * * * * * * * * *
[الإمام القاسم بن علي العياني (المنصور بالله)]
(310- 393هـ / 923- 1003م)
وقام بعده الإمام المنصور بالله القاسم بن علي العياني عليه السلام:
وكان إماماً فاضلاً عالماً عاملاً ورعاً زاهداً مجاهداً، وله سيرة كاملة فيها أخباره وآثاره، ومواقفه في الجهاد ومشاهده، وعلمه مشهور وفقهه مأثور، وله دعوة إلى أهل طبرستان فيها من الحكم والمواعظ ما يدل على علمه وفضله وبراعته وفصاحة منطقه وبلاغته.
[الإمام الحسين بن القاسم العياني (ع)]
(356- 404هـ / 967- 1014م)
ثم قام بعده ولده الإمام المهدي لدين الله الحسين بن القاسم بن علي بن عبدالله بن محمد بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام:
كان من عيون العترة في زمانه، وتيجانهم المكللة في أوانه؛ مشهور بالعلم والعبادة، معروف بالفضل والزهادة، وله عليه السلام التصانيف الرائقة في علم الكلام، والكتب الفائقة على مخالفي العترة عليهم السلام؛ وهي كثيرة قيل إنها إلى ثلاث وسبعين تصنيفاً.
منها: (المعجز) في علم الكلام، والرد على القضائية وغيره من كتبه في العلوم الكلامية، ومنها: تفسير كامل سلك فيه الطريقة الوسطى، وأضحى قدحه فيه المعلى؛ وهو من أوضح دليل على علمه وتوسعه في الفنون كلها.
وله في اللغة والعربية اليد البيضاء؛ وكتاب تفسيره يشهد له بما قلناه، ولم نذكره ولا أباه عليهما السلام في ترجمة الأئمة الذين عيّنا ذكرهم وقدمنا سطرهم وعبرنا عنهم بعد بقولنا، وأما الإمام فلان، وأما الإمام فلان؛ وذلك لأن (أمّا) موضوعة للتفصيل ما أجمله المتكلم.
فلما ذكرناهم في الترجمة المتقدمة على جهة الإجمال حسن منا أن نذكرهم بعد بقولنا: (أما فلان، وأما فلان)؛ ولم نذكر هذه العبارة في الإمام القاسم بن علي، وابنه الحسين بن القاسم بن علي عليهما السلام لعدم تقدم ذكرهما في الترجمة.
والوجه لعدم ذكرهما أنّا إنما ذكرنا من ذكره القاضي الإمام شمس الدين جعفر بن أحمد بن أبي يحيى –رضوان الله عليه-، ولم يذكر في السابقين من الأئمة إلا من ذكرناه، وأردت أن أذكر الأئمة إلى المنصور بالله تبركاً بذكرهم، وإشارة إلى فضلهم وعلمهم.
وبعد فإن معظم قصدي في هذا التأليف ذكر ما خُص به أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فضل الجهاد ومباينة الظالمين بالإشارة لا بالتفصيل، واختصاصهم بعد ذلك بالعلم الذي ورثوه عن أب فأب، واختصاصهم ثالثة بعداوة ملوك الدولتين الأموية والعباسية حين تنزهوا عما في أيديهم من حطام هذه الدنيا الدنية.
ونذكر تمام فضل الحسين بن القاسم: ذكر مصنف سيرته أنه توفي وله في العمر نيف وعشرون سنة؛ فانظر إلى هذا الفضل الباهر والعلم الزاخر مع العمر المتقاصر.
وكانت شجاعته معروفة، ومواقفه في الجهاد موصوفة؛ قام بالأمر بعد أبيه قياماً حسناً مرضياً، وملك من الهان إلى صعدة وصنعاء، ولم يزل باعثاً للحق وداعياً إلى الصدق.
وقد ضلّت فيه فرقة من الزيدية يسمون (بالحسينية) اعتقدوا فيه أنه حي لم يمت وأنه الإمام المهدي المنتظر، وكان على هذا الاعتقاد منهم خلق كثير فيهم فضلاء وأمراء، وطالت مدتهم من زمان الحسين بن القاسم إلى هذا الزمن الأخير.
وحكى لي حي الفقيه العلامة يحيى بن محمد العمراني رحمه الله أنه أدرك من يعتقد هذا الاعتقاد في جهات الحيمة أو أدرك من أدرك ذلك.
قال الفقيه حميد رحمه الله: وقد كتبنا رسالة في هذا وسميناها (بالرسالة الزاجرة لذوي النهى عن الغلو في أئمة الهدى) وطالعت سيرة الأميرين الشريفين صحابي شهارة [وهما السيد الملقب بالفاضل القاسم بن جعفر بن القاسم المقتول بالجوف المقبور بالحصن بالظاهر، وصنوه ذو الشرفين محمد بن جعفر قبره بشهارة] فوجدت كلامهما فيها مصرحاً بهذا الاعتقاد، وبقيا عليه إلى يوم المعاد.
ونعود إلى بيان من أجملناه في الترجمة المذكورة؛ فنقول:
[الإمام أحمد بن الحسين (المؤيد بالله)]
(333- 411هـ / 945- 1021م)
وأما الإمام المؤيد بالله أبو الحسين أحمد بن الحسين بن هارون عليه السلام:
فإنه من وجوه أئمة العترة الطاهرة، وأرباب علومها الزاخرة؛ بل هو شمسها الزاهرة، وعين أعيانها الناظرة، وعلم من أعلامها الباهرة، برع في العلوم كلها مسموعها ومعقولها، وفروعها وأصولها.
قال الفقيه الشهيد رضي الله عنه في وصف المؤيد بالله عليه السلام: كان في العلم بحراً يقذف بالدرر، وجوناً يهطل بالدرر، ولم يبق فن إلا وقد بلغ فيه الغاية، وأدرك النهاية، كان قدس الله روحه عارفاً باللغة والنحو، متمكناً من التصرف في منثورها ومنظومها، وكان يعرف العروض والقوافي ونقد الشعر، وكان فقيهاً، بارعاً، متقدماً فيه مناظراً، وكان متقدماً في علم الكلام وأصول الفقه، حتى لا يعلم أنه في أي العلوم الثلاثة كان أقدم وأرجح ، ولم يبلغ النهاية في العلوم الثلاثة غيره، وإنما يتقدم العالم في علم أو علمين ؛ فأما المؤيد عليه السلام فإنه فاق في هذه العلوم كلها، وقرأ على شيوخ العلماء من الزيدية والمعتزلة.
فمن شيوخه: الشيخ المرشد أبي عبدالله البصري، ولقي علماء جميع عصره واقتبس منهم، وعلق (زيادات شرح الأصول) على قاضي القضاة بأصفهان.
وحكي عن الشيخ أبي رشيد من كبار المعتزلة أنه قال: لم أر السيد أبا الحسين منقطعاً قط مع طول مشاهدتي له في مجلس الصاحب، وكان لا يُغْلب إن لم يَغْلب.
وذكر بعض من صنف في أخباره أن الصاحب الكافي قال ذات ليلة للحاضرين: ليذكر كل واحد منكم أمنيته فذكروا ، فقال أمّا أنا : فأتمنى أن يكون السيد أبو الحسين حاضراً؛ وأنا أسأله عن المشكلات وهو يبينها لي بألفاظه الفصيحة، وعباراته المليحة.
وناظر يهودياً كان متقدماً في المناظرة والمجادلة في مجلس الصاحب، وكلّمه في النبوات حتى أعجزه وأفحمه، فلما قام من المجلس ليخرج، قال له الصاحب: أيها السيد أشهد أنك أوتيت الحكمة وفصل الخطاب.
وقصته مع القاضي أحمد بن أبي علان مشهورة في المسائل التي برز فيها المؤيد بالله وأجاب عنها.
وله عليه السلام التصانيف المفيدة، والكتب الفريدة؛ منها في الأصول: (كتاب النبوات) وهو يدل على غزارة علمه في الأصول، ثم في الأدب فإنه بيّن المعارضات التي عورض بها القرآن الكريم وكشف عن دياجيرها، وأبان عن عوارها بكل وجه، وسلك في ذلك من طريقة علم الأدب ما يدل على علو منزلته، وارتفاع درجته.
وله في علم الأصول (التبصرة) كتاب لطيف، وله كتاب في فقه الهادي عليه السلام (التجريد وشرحه) أربعة مجلدة استوفى فيها الأدلة من الأثر والنظر، وأحسن فيها كل الإحسان، وله (البلغة) أيضاً في فقه الهادي عليه السلام.
وله في فقه نفسه: (الإفادة) مجلد، و(الزيادات) مجلد علق ذلك أصحابه عنه وفيها كل مسألة عجيبة، وفتوى غريبة، ولهذين الكتابين شروح وتعاليق عدة للمتقدمين من أصحابنا والمتأخرين، ومن الشارحين لهما والمعلقين عليهما في زماننا حي سيدنا العلامة فخر الدين ملك العلماء الراشدين عبدالله بن حسن الدواري رحمه الله؛ فإنه شرح الزيادات بأربعة كبار مجلدة سمى شرحه هذا: (شكف المرادات في شرح الزيادات) وهو من أنفس ما شرح به هذا الكتاب.
ثم علق بعد ذلك عليه تعليقاً حسناً مفيداً متقناً وهو في مجلدين تقرر فيه على ألفاظ الزيادات ومعانيها، واستخلص من درر أصدافها ولأليها، وشرح رحمه الله تعالى كتاب الإفادة بثلاثة مجلدة ، هذا مع تعاليق أُخَر لأهل الزمان أعرضنا عن ذكرها، وللمتقدمين ما هو معروف من الشروح والتعاليق على هذين الكتابين.
[طرف من أخباره(ع)]
قال الفقيه حميد رضي الله عنه: ومهما طلبت هذه الغرائب فإنها توجد في فقهه عليه السلام منصوصة، ولقد حكى لي بعض أصحابنا الواصلين من العراق وهو الفقيه الفاضل الحسن بن علي بن الحسن أنه عليه السلام بات ليلة ومعه رجل من الصالحين، فبات ذلك الرجل يعبد الله تعالى والسيد المؤيد بالله بالقرب منه؛ فلما طلع الفجر قام المؤيد بالله للصلاة فقال له ذلك الرجل: أيها السيد أتصلي بغير وضوء فقال له: لم أنم في هذه الليلة شيئاً، وقد استنبطت سبعين مسألة.
ولقد كان علماء عصره يعجبون من تحقيقيه، وشدة تدقيقه، ولا عجب من أمر الله يؤتي فضله من يشاء، ولذرية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المزية على من عداهم، والفضل على من سواهم.
قال حميد [رحمه الله]: ولقد سمعت شيخنا العالم محيي الدين محمد بن أحمد بن الوليد القرشي الصنعاني رضي الله عنه يحكي أن السيد المؤيد بالله عليه السلام لما توفي أقبل الناس إلى أخيه السيد [أبو طالب] عليه السلام يسألونه فقال له قائل: أين كنّا عن هذا العلم في حياة السيد أبي الحسين؟
فقال: أو كان يحسن بي أن أتكلّم والسيد أبو الحسين في الحياة؛ مع أن علم السيد أبي طالب غزير، وفقهه جم غفير، وسنذكره في مكانه إن شاء الله تعالى.
وسئل أبو طالب: أتقول بإمامة أخيك؟ فقال: إن قلنا بإمامة زيد بن علي فما المانع من القول بإمامة أخي، فانظر كيف شبهه بأعلى الأئمة قدراً وأغزرهم علماً، لأنا قد بيّنا أنه أقام خمسة أشهر يفسر سورة الحمد والبقرة، وذكرنا غير ذلك مما يكثر من علمه وتبريزه.
قال مصنف سيرته: وسمعت الشيخ أبا الفضل شروين رحمه الله تعالى يقول: دع أئمة زماننا إنما الشك في الأئمة المتقدمين من أهل البيت وغيرهم هل كانوا مثل هذا السيد في التحقيق في العلوم كلها أم لا.
قال: وسمعت القاضي أبا الحسين الرّفَا يقول: ليس اليوم في الدنيا أشد تحقيقاً في الفقه من السيد أبي الحسين الهاروني، وقد تركنا من هذه الروايات بعضها.
[أصحابه عليه السلام]
وكان للمؤيد عليه السلام أصحاب فضلاء علماء من أهل البيت وغيرهم؛ فيهم السيد العالم الفاضل الموفق بالله أبو عبدالله الحسين بن إسماعيل الحسني الجرجاني عليه السلام، وهو ممن له التصانيف الرائقة الفائقة في علم الكلام وغيره.
والسيد الإمام مانكديم أبو الحسين بن أحمد بن أبي هاشم الخارج بعده بلنجا، كان إماماً عالماً فاضلاً مبرزاً ، وهو صاحب (شرح الأصول) المتداول في أيدي الناس في زماننا هذا، وكانا معاً من تلامذة قاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد رحمه الله.
ومن أصحاب المؤيد بالله عليه السلام الشريف أبو القاسم بن زيد بن صالح الزيدي، والشريف محمد بن زيد الجعفري.
ومن أصحابه في الزهد والعبادة الشريف أبو جعفر الزيدي، وقد كان استدعاه غير مرة ليستخلفه فأبى، ولم يجبه لاشتغاله بنفسه وإقباله على زهده.
ومن أصحابه القاضي أبو الفضل زيد بن علي الزيدي، وكان من بيت العلم والرئاسة. ومنهم أبو منصور بن شيبة الفرزاذي، ومنهم الفقيه العالم أبو القاسم بن ثال وهو الذي هذب مذهبه، وجمع الإفادة والزيادات.
ومنهم أبو بكر الموحدي القاضي قرأ عليه فقه الزيدية، ومنهم القاضي يوسف الخطيب، وأبو الحسن الأسكوني، ومنهم أبو علي بن الناصر خلفه بجيلان، وعاد إلى آمل بالأجرة ، وقال : لا تحسبوا أني فارقت المؤيد بالله بغير إذنه لا والله لم أخرج من عنده إلا بإذنه، وأنا أقول بإمامته، ولا أعرف في هذا الزمان رجلاً أفضل منه.
وعلى الجملة إنما ذكرنا من ذكرنا من عيون أصحابه والآخذين عنه تبصرة لمن طلب الهداية والنجاة، وتقليد أئمة الزيدية السادة الهداة، ليعلم أنهم جمعوا بين العلوم الراجحة، والأعمال الصالحة.
وقال الإمام المنصور بالله في (كتاب الشافي) وقد ذكر المؤيد بالله عليهما السلام فقال: للمؤيد بالله التصانيف الجمة في الأصول والفروع، أولها (كتاب التجريد وشرحه) على مذهب الهادي عليه السلام قيل إنه ستة مجلدة ، و(كتاب الإفادة) ، و(كتاب الزيادات) في فقهه قدس الله روحه، وكتاب (البلغة)، و(كتاب النقض على ابن قبة).
وله (التفريعات) التي تولى جمعها الأستاذ أبو القاسم بن ثال إلى غير ذلك مما يطول شرحه، وله (كتاب التبصرة) في الأصول، وله تصانيف في أصول الدين وأصول الفقه جمة.
قال [المنصور] بالله: وكأنه لم يشتغل بغير النحو واللغة لما برز فيهما، وأحاط بعلوم القرآن والشعر وأنواع الفصاحة، وله فيها كتاب بين فيه إعجاز القرآن من وقف عليه علم اختصاصه بصفات الكمال في علوم القرآن؛ وهو واسطة عقد زمانه، ودرة تاجه، وله كتاب (سياسة المريدين) وكانت له كرامات تشهد له بالفضل تركنا ذكرها اختصاراً.
وكان عليه السلام من الشجاعة وثبات القلب بالمحل العالي، ومن شعره عليه السلام يذكر الإشارة إلى حاله: [الطويل]
تُهذّب أخلاق الرجال حوادث .... كما أنّ عين التبر يُخْلِصُه السبكُ
وما أنا بالواني إذا الدهر أَمّني .... ومن ذا من الأيام ويحك يَنْفَكُ
بلانيّ حيناً بعد حينٍ بَلَوتُه .... فلم أُلْفَ رعديداً يُنَهْنهُهُ السَّهكُ
وحنَّكني كيما يقود أزمتي .... فطحطحته حنكاً وما عقني الحنكُ
ليعلم هذا الدهر في كل حالة .... بأني فتى المضمار أصبح يحتكُ
نماني آباءٌ كرام أعزة .... مراتبها أنَّى يحيط بها الدَّركُ
فما مدرك بالله يبلغ شأوهم .... وإن يك سباقاً فغايته التركُ
فلا برقهم يا صاح إن شِيّم خُلّبٌ .... ولا رفدهم وكس ولا وعدهم إفكُ
بهم زهت الأعراب في كل بلدة .... سكون ولخم ثم كندة أو عكُ
وقصيدته المشهورة في الصاحب الكافي من فحول القصائد وغرائبها، وما أحسن فيها قوله: [الطويل]
ألا أيهاذا الصاحب الماجد الذي .... أنامله العليا غيوثٌ هواطلُ
أنامل لو كانت تشير إلى الصفا .... تفجر للعافين منها جداول
لأغنيت حتى ليس في الأرض معدمٌ .... وأعطيت حتى ليس في الناس آمل
وكم لك في أبناء أحمد من يدٍ .... لها مَعْلم يوم القيامة ماثل
إليك عقيد المجد سارت ركابهم .... وليس لها إلا علاك وسائل
فأعطيتهم حتى لقد سئموا اللُّهى .... وعاد من العذّال من هو سائل
وأسعدتهم والنحس لولاك ناجم .... وأعززتهم والذل لولاك شامل
فكل زمان لم تُزَيّنه عاطل .... وكل مديح غير مدحك باطل
وهذه الأبيات في نهاية الحسن والفصاحة والإجادة وهي تصلح أن تكون حجة في مدح الأكابر من ذوي الفضل والعلم.
[كتاب دعوته (ع)]
قال مصنف سيرته: وله عليه السلام دعوة جمع فيها من فرائد العلم الثمينة، ويواقيته الشريفة؛ ما يقضي له بالعلم والبراعة والتقدم في هذه الصناعة.
قال عليه السلام: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلواته على عباده المصطفين، هذا كتاب من الإمام المؤيد بالله أبي الحسين أحمد بن الحسين بن هارون الحسني بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى من بلغه من المسلمين في أقاصي الأرض وأدانيها سلام عليكم أما بعد:
فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ذو القوة والحول، والإفضال والطول، الذي جعل السماء بناء، والأرض قراراً، وجعل خلالها أنهاراً، وخلقكم أطواراً، وأنشأ لكم أسماعاً وأبصاراً، أحمده رغباً ورهباً على تظاهر نعمه، وتضاعف قسمه، وترادف منحه، وتتابع كرمه، وأومن به خاضعاً خاشعاً أنه الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، المتعالي عن الأشباه والأنداد، والشركاء والأضداد، وأتوكل عليه موقناً أنه قاهر لا يضام، وقادر لا يرام، وقيوم لا ينام، توحد بالعلا وتفرد بالكبرياء، وحُمِد على النعماء، وعُبِد في الأرض والسماء، ذلكم الله ربكم {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ(52)وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ(53)} [النحل] ، خلق عباده نعمة عليهم، ورحمة لهم وإحساناً إليهم، لم يتكثر بهم عن قلة، ولم يتعزز بهم عن ذلة، ولم يستأنس بهم عن وحشة، فطر الأرض والسماوات، وجعل النور والظلمات، وأجرى الأفلاك الدائرات، والنجوم المسخرات.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له قولاً صدقاً أقولها تعبداً ورقاً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فصلوات الله عليه يوم ولد ويوم قبض ويوم يبعث حياً، وعلى آله الطيبين الأخيار المنتجبين الأبرار.
أن بعثه على حين شمخ الكفر بأنفه، ونأى بجانبه، وأمتد على الحق رواقه، وأحاط بهم نطاقه، وملأ البسيطة ظلامه ، وظهر فيهم عتوه وعزامه، والخلق حيارى لا يبصرون وضُلاّل لا يهتدون ، قد ملكتهم الجاهلية الجهلاء ، وعمتهم الفتنة الصماء، ونور الحق قد أذن بالطموس، ومال بوجهه إلى العبوس.
فأدى الرسالة، وأظهر الدعوة، ومحض النصيحة، وأقام الحجة، وأوضح المحجة، ونهض بأمر الله ساطعاً، ولشتات الدين جامعاً، ولشيطان الكفر قامعاً، وللأصنام والأوثان خالعاً، وجاهد في الله حق جهاده، وهدى ضُلاّل عباده إلى صراط مستقيم، ولدين الله القويم؛ بأنور منار، وأبهر سلطان، وأوضح سبيل، وأبين دليل، قد شد عضده من المعجزات بأعظمها قدراً، وأفحمها أمراً، وأبقاها أثراً، وأعلاها خبراً ذلك كتاب الله {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ..الآية} [الزمر:23] ، {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192)نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ(193)عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ(194)بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ(195)} [الشعراء] .
قد جعله الله منارة للخلق، ووصلةً إلى الحق، وطريقاً إلى النجاة واضحاً، وسبيلاً إلى الجنة لائحاً، من اعتصم به اهتدى، ومن أعرض عنه ضل وغوى، فيه بيان لكل شيء وهدى وبشرى للمحسنين ؛ فلم يزل صلى الله عليه وآله وسلم يعلمكم تنزيله ، ويفهمكم تأويله، ويشرح حلاله وحرامه، ويشرح قصصه وأمثاله، حتى اهتديتم به من حيرة العمى، واستوضحتم منهاج الهدى، {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(103)} [آل عمران] .
حتى أدى حق الرسالة، وقام بشرط الأمانة، ووعظ ونصح، وبلغ وأسمع، ثم نقله الله إلى ما أعدّ له من الكرامة، وأنزله منازل رحمته، واستأثر له ما لديه، وقبضه إليه راضياً عمله قابلاً سعيه، فابتدأ كثير من الأمة في تبديل سنته، والإلتواء على عترته، كأن لم يسمعوا قول الله حيث يقول: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] ، وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)} [الأحزاب] ، وحيث يقول: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)} [آل عمران] .
فجعل الأبناء الحسن والحسين، والنساء فاطمة، والأنفس نفسه ونفس علي صلوات الله عليهم، فانظر كيف نزههم الله تعالى محققاً أنهم أولو الصدق.
ثم ألزم المؤمنين متابعتهم، والكون معهم بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة] ، ولم يسمعوا ما أنزل الله في أمير المؤمنين حيث تصدق بخاتمه راكعاً إذ يقول عز قائلاً: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(55)} [المائدة] .
وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مخاطباً كافة أمته: ((من أولى بكم من أنفسكم؟)) فقالوا: الله ورسوله أولى، فقال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)) .
وقوله: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به.. الحديث)).
وقوله عليه السلام: ((أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى)) .
فتأملوا رحمكم الله كيف أوضح الحق وكيف قطع المعاذير، وانظروا إلى كثير من الأمة كيف غيروا وبدلوا حتى زاغوا وضلوا.
فأما أمير المؤمنين فنكثت بيعته جهراً، وحمل على كثير مما كره قهراً، فمن غادر به وقد خذله، وقاعد قعد عن نصرته، وناكث نكث على نفسه عقد بيعته، ومارق مرق عن طاعته، وقاسط قسط في إهمال ما أوجب الله تعالى من ولايته، وما ثبت معه على أمره إلا فريق من المهاجرين والأنصار الذين محضوا الإيمان محضاً، ورأوا طاعة الله فرضاً، وقديماً عهد إليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فقال: ((يا علي إنك ستقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين )) فلم يزل ذلك دأبه ودأبهم حتى قتله الأشقى ، ومضى عليه السلام شهيداً فلاقى ربه حميداً.
فانتصب للأمر بعده الإمام الطاهر، والقمر الزاهر، سبط النبي، وسلالة الوصي الحسن بن علي صلوات الله على روحه في الأرواح وعلى جسده في الأجساد، فرأب الصدع في الدين، ودعا إلى الحق المبين ، ولم تأخذه في الله لومة لائم ، إلى أن خذله أجناده، وقعد عنه أعضاده، وبسطت إليه الأيدي بالسوء فجرح، ودفع عما انتصب له ودعي إلى سلم من كان له حرباً، وغصب على الأمر غصباً، ثم لم يرض بذلك حتى قتل مسموماً، ودفن مظلوماً.
فقام بالأمر بعده من ترك الدنيا وزينتها، وأراد الآخرة وسعى لها سعيها؛ الحسين بن علي عليه السلام فشهر سيفه وبذل نفسه، ونهض إلى العراق لمنابذة الفساق بعدما دعي إليها، ووعد النصرة بها، فتعاوره من حزب الشيطان من لم يزل مبطناً للنفاق، ومصراً على الشقاق، فقتلوه أقبح قتلة ، ومثلوا به أشنع مُثله، وغودر صريعاً، ونبذ بالعراء طريحاً، وحزّ رأسه وحمل إلى من بان كفره وظهر، ولاح عناده وانتشر.
وسبيت بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما سبيت ذراري المشركين فلم يكن من المسلمين من يغضب لله، ويذب عن حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل كان الجميع بين راض شامت، ومنكر ساكت.
فعند ذلك شربوا الخمور، وأعلنوا بالفجور، ورفعوا حشمة الإسلام، ولعبوا بالأحكام، واتسعت المظالم، وظهرت المآثم حتى لم يبق من الدين إلا اسمه، ومن الإسلام إلا رسمه.
ثم قام بعده الإمام الزكي الحبر الرضي زيد بن علي –صلى الله عليه- في عصبة قليلة شروا أنفسهم في سبيل الله، وسارعوا إلى الغفران، وتبادروا إلى الجنان، فعطفت عليهم الأشقياء من بني أمية سالكين بهم سبيلهم في جده، فقتلوه وصلبوه وأحرقوه، ثم ألحقوا به الطاهر المطهر ابنه يحيى.
فيا لبني أمية الويل والثبور، ويا لهم السعير المسجور، غرتهم زهرة الدنيا فمالوا إليها، ورغبوا عن الآخرة فأعرضوا عنها ، { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(16)} [هود] ، {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ(44)فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(45)} [الأنعام] .
ثم جاء بنو العباس معلنين شعارنا، طالبين بزعمهم ثأرنا؛ بادعائهم جدهم العباس وابنه عبدالله في متابعة أمير المؤمنين، وإظهار طاعته وإيثار ولايته؛ إذ لم يزل العباس يخطب بمبايعته السعادة، وعبدالله يطلب بالجهاد بين يديه الشهادة.
فلما اتسقت أحوالهم بنا، واستوسقت أسبابهم باسمنا، بغوا وطغوا ورفلوا في أثواب المروق، وجردوا علينا أسياف العقوق، وسن مخذولهم الملقب بالمنصور في أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم القتل الذريع، والحبس الفظيع، والأمر الشنيع.
وأراق يوم الثنية دم محمد بن عبدالله النفس الزكية، ثم قتل أخاه إبراهيم بن عبدالله، وحمل أباهما وعمومتهما وبني عمومتهما البررة الأتقياء، السادة الأزكياء على الأقتاب فعل أشباهه من بني أمية.
ثم اقتدى به بنوه، وسلكوا سبيله واتبعوه، وأظهروا المناكير فالمناكير، وأضلوا الجماهير بالجماهير، فيا عجباً لمن ينتصب على الأعواد في الجمعات والأعياد يشهد لهم على الله بالزور وهم منهمكون في الفجور؛ أما يتقي الله، أما يخاف يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار.
عباد الله إني رأيت أسباب الحق قد مَرُجَتْ، وقلوب الأولياء به قد حرجت، وأهل الدين مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس، ورأيت الأموال تؤخذ من غير حلها، وتوضع في غير أهلها، ووجدت الحدود قد عطلت، والحقوق قد أبطلت، وسنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بدلت وغيرت، ورسوم الفراعنة قد جددت واستعملت، والآمرين بالمعروف قد قلوا، والناهين عن المنكر وهنوا فذلوا.
ووجدت أهل بيت النبي عليهم السلام مقموعين مقهورين مظلومين لا يؤهلون لولاية ولا شورى، ولا يُتركون ليكونوا مع الناس فوضى؛ بل منعوهم حقهم، وصرفوا عنهم فَيّهُم، يحسبون الكف عن دمائهم إحساناً إليهم، والانقباض عن حبسهم وأسرهم إنعاماً عليهم، يطلبون عليهم العثرات، ويرقبون فيهم الزلات، ووجدتهم في كل واد من الظلم يهيمون، وفي كل مرعى من الظلال يسيمون، ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا(10)} [النساء] .
ووجدت الفواحش قد أقيمت أسواقها، وأديم نَفَاقها، لا خوف الله يرع، ولا حياء الناس يمنع، بل يتفاخرون بالمعاصي، ويتنابزون ويتناهون بالإثم، قد نسوا الحساب، وأعرض عن ذكر المآب والعقاب، فلم أجد لنفسي عذراً إن قعدت ملتزماً أحكامهم، متوسطاً آثامهم، أونسهم ويؤنسونني، وأسالمهم ويسالمونني؛ فخرجت أدعو الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين.
أيها الناس أدعوكم إلى كتاب الله، وسنة نبيه، والرضى من آل محمد، ومجاهدة الظالمين ومنابذة الفاسقين، وأني كأحدكم لي ما لكم وعلي ما عليكم إلا ما خصني الله من ولاية الأمر إن الله بصير بالعباد.
وأقول: هذه الدعوة الشريفة كافية في الدلالة على علمه عليه السلام، ورغبته في جهاد الخونة الطغام، ولو لم يكن لنا في فضل المؤيد وعلمه إلا هذه الدعوة وما أودعها من فقر الكلام وفرائده ، ونخب البيان وفوائده ، وحسن إصداره وإيراده، وتنبيهه على غزارة علمه وجهاده، بما ذكره من مجادلته الخصوم نصحاً عن الدين، ونضالاً عن الحق المبين، حتى عرفت في ذلك مواقفه ، وثبتت فيما هنالك طرائقه، وفي هذا إشارة إلى علمه الغزير وفضله الكثير.
وكذلك فيما ذكر من قبل من قوله: كاثرت العلماء، وحاضرت الفقهاء؛ فإنه أشار بهذا إلى حسن مناظرته، ولطيف محاضرته، وما له في مجالس العلماء من طول المكاثرة؛ إمّا أنهم كثروا به وإمّا أنه كثر بهم، وكلا المعنيين لا غبار عليه، ولا يكثر العلماء به إلا وهو معدود من أفاضلهم ، ولا يكثر هو بهم إلا وهم أمثاله وأشكاله ؛ فالعبارة بنفسها في لفظها ومعناها دالة على توغله في بحر العلم، وتوقله إلى ذورة الفهم، وأنه قد رجع ويرجع إليه، ورد ورد إليه.
وقوله: وحاضرت الفقهاء كلمة في معنى التواضع، دالة على غاية الارتفاع في جو الفقه، لأنه لم يرد محاضرة الفقهاء فقد يحاضرهم من ليس معدوداً منهم، وإنما أراد أني حاضرتهم في مجالس النظر، واستخراج نتائج الفكر، فبرزت في الحقيقة عليهم في هذا المضمار، وكنت في مناظرتي لهم ممن لا يشق له غبار، فعبر عن هذا المعنى بمجرد لفظ المحاضرة، وهي مفاعلة مأخوذة من الحضور بعد الحضور فهي موضوعة للتكرار الدال على معنى الاستكثار، وهذا لا يكون إلا من العالم المحقق، والناظر المدقق؛ لا جرم هذه صفة الإمام أبي الحسين المؤيد بالله فإنه كان زينة مجالس العلماء، وشمس محاضر الفقهاء.
وانظر إلى قوله: صحبت النساك حتى نسبت إليهم، وخالطت الزهاد حتى عرفت فيهم؛ فإن في هذا دلالة ظاهرة على فضله في العبادة والزهادة؛ لأنه أشار إلى أنه معدود من جملة العباد والزهاد.
ومن نظر في كتابه (سياسة المريدين) عرف صحة قوله في هذا المعنى، فلقد أورد من علم الحقيقة والطريقة ما ينظمه في مسلك الجنيد والشبلي وإبراهيم بن أدهم – رضي الله عنهم-، وهذه صفات الكمال، وبمثل هذا الإمام الفاضل يعرف فضل العترة النبوية لأنه واسطة قلادتهم، ودرة التقصار في أئمتهم وسادتهم.
ومع هذا الفضل العظيم والعلم الباهر اختصاصه بالجهاد، وسلوكه منهج الآباء والأجداد، وما كان من المواقف المحمودة، والمواطن المشهودة، وقد أعرضنا عن ذكرها لأن القصد هاهنا الإشارة إلى قوة علمه وجودة فهمه، وأن أحداً من أبناء الزمان لا يشاكله ولا يماثله، ولا يناظره في العلم ولا يناضله، فيكون هذا من أقوى الأسباب المرجحة لعلم العترة النبوية، والتزام مذهبهم في المسائل الشرعية، والمضطربات الاجتهادية، وقد طال الكلام في المؤيد بالله بعض الطول لأنه عليه السلام من وجوه أئمة العترة المطهرين، وعلى علمه مدار خلق كثير من العلماء الراشدين؛ فأردنا الإشارة إلى ذلك.
ونعود إلى تمام الأئمة المذكورين في الترجمة السابقة؛ فنقول:
[الإمام يحيى بن الحسين (أبو طالب)]
(340- 424هـ / 952- 1033م)
وأما الإمام الناطق بالحق الظافر بتأييد الله عز وجل، أبو طالب يحيى بن الحسين بن هارون عليه السلام:
فهو تلو أخيه في فضله وعلمه وذكائه وفهمه، وكان يقال: (ليس تحت الفرقدين مثل السيدين).
قال الفقيه حميد [رحمه الله] في وصفه: قرأ على السيد أبي العباس الحسني رحمه الله فقه العترة عليهم السلام حتى لجج في غماره، ووصل قعر بحاره، وقرأ في علم الكلام على الشيخ أبي عبدالله البصري فاحتوى على فرائده ، وأحاط بمكنونه وفوائده، وكذلك قرأ عليه في أصول الفقه، ولقي غيره من شيوخ الاعتزال فأخذ عنهم، حتى أضحى في فنون العلم بحراً يتغطمط تياره، ويتلاطم زخاره.
[تصانيفه عليه السلام]
وله في العلوم التصانيف المرموقة، والكتب الموموقة في الأصول والفروع، وله في أصول الدين (المبادئ) و(زيادات شرح الأصول) علقه عنه بعضهم، وفيه علم حسن يشهد له بالبلوغ إلى أعلى منزلة، وأنه بلغ فيه ما بلغه أكابر علماء المعتزلة.
وله كتاب (الدعامة) في الإمامة، وهو من عجيب الكتب، وأودعه من الغرائب المستنبطات، والأدلة القاطعات، والأجوبة عن شبه المخالفين النافعات؛ ما يقضي بأنه السابق في هذا الميدان ، والمجلّي في حلبة البرهان ، وهو مجلد فيه من أنواع علوم الإمامة ما يكفي ويشفي.
وله عليه السلام في أصول الفقه (جوامع الأدلة) من الكتب المتوسطة، وله (المجزي) في أصول الفقه مجلدان، وفيه من التفصيل البليغ والعلم الواسع ما لا يكاد يوجد مثله في كتاب من كتب هذا الفن، وله في فقه الهادي عليه السلام (التحرير) وشرحه مجلدات عدة تبلغ ستة عشر مجلداً، وفيها من حسن الإيراد والإصدار ما يشهد له بالتبريز على النظار؛ فإنه بالغ في نصرة مذهب الهادي بكل وجه ، وأودعه من أنواع الأدلة والتعليلات ما لا يوجد في كتاب، وفيه فقه جم وعلم غزير.
وكذلك فإنه أودع فيه من مذاهب الفقهاء ما يكثر، وذكر المهم مما يتعلقون به، ورجح مذهب الهادي فيه حتى ظهر ترجيحه، وتوهجت مصابيحه، وزكى لكل مشتاق ريحه.
قال الحاكم أبو سعد رضي الله عنه: فكلامه عليه السلام عليه مُسحة من العلم الإلهي، وجذوة من الكلام النبوي.
وله في الأخبار الأمالي المعروفة (بأمالي السيد أبو طالب) جمع فيها من غرائب الأحاديث ونفائسها، ومحاسن الحاكايات، وملح الروايات ما يفوق ويروق.
وقال الإمام المنصور بالله في أبي طالب: لم يبق فن من فنون العلم إلا طار في أردائه، وسبح في أثنائه، وله تصانيف جمة في الأصول والفروع، وذكر جملة من هذه المصنفات المذكورة؛ حتى قال في كتاب المجزي: وهو الذي من شاهده من أهل العلم عجب من أسبابه، ولا عجب من علم أهل العلم من ذرية الرسول وورثة الكتاب –سلام الله عليهم أجمعين-.
وزاد مما لم تذكره (كتاب التذكرة) في الفقه، وكذا كتاب البالغ المدرك من تصانيف الهادي عليه السلام شرحه أبو طالب شرحاً فائقاً رائقاً، وهو في أصول الدين، وخرج في أثنائه إلى شيء من أصول الفقه وعلوم الحديث.
ومن تصانيفه كتابه المعروف (بالمصعبي) نسب إلى طالبه في الرد على المخالفين للزيدية، ومن تصانيفه (كتاب الناظر) وهو في فقه الناصر عليه السلام.
وعلى الجملة فكان في العلم بحراً لا يقطعه المائحون، ولا يبلغ قعره المانحون، ومن جملة تصانيفه كتاب (الإفادة في تاريخ الأئمة السادة) وهو الذي استند إليه الفقيه العلامة حميد بن أحمد رضي الله عنه في كتاب الحدائق وعلى أصله بنى، ومن بحره اغترف واستقى.
وهو يشهد له عليه السلام بالعلم في هذا الباب لأنه لم ينفصل عن بلاد الديلم، واستوفى أخبار أئمة الزيدية باليمن وغيره، وكأنه شاهدهم وحاضرهم وسايرهم وعاصرهم؛ وهذا دليل على فضله وعلو محله.
[دور السادة الهارونيين في تقرير مذهب الإمام الهادي (ع)]
ومن الدليل على رجاحته ووفور درايته أنه بلغ في العلم إلى هذا المبلغ الذي قصر عنه أبناء زمانه، وفرسان أوانه، وهو يعد نفسه مخرجاً لمذهب الهادي عليه السلام، وناصراً له، ومؤيداً لأصوله، وشارحاً لفصوله، ومرجحاً لأدلته، ومستضيئاً في جميع أحواله بنور أَهلّته.
وترى بعض أهل زماننا هذا؛ إذا شم رائحة من العلم، أو ذاق مجة من الفهم؛ يرمي بنفسه في الاستقلال بالنظر أبعد المرامي، ويُنَزّل نفسه بأنه أعطي في العلم البحر الطامي؛ فلا يرتضي لنفسه ما ارتضاه أبو طالب عليه السلام من التمسك بمذهب الهادي عليه السلام، ولو رام أن يفتح من مقفلات مسائله في الأصول والفروع بعضها لأقعده عن ذلك عجزه، وظهر عنه وبان جهله، وقصرت به فكرته عن الغوص في ضحضاح بحره فضلاً عن البلوغ إلى ثبج تياره، ومتغطمط زخاره، وهكذا من سلف من أئمة الزيدية كلهم بفضل الهادي عليه السلام عارفون، ومن خضم علمه غارفون، ولأدلته متبعون، وبهديه متشفعون.
وعن الإمام المنصور بالله عليه السلام أنه قال في مسألة الوقف على أولاد الصلب دون أولاد البنات: نحن نهاب نقض كلام الهادي عليه السلام كما نهاب نقض أدلة القرآن لكنا نقول: قد قلت وأنت الحكم أن من شرط الوقف القربة، فمن وقف على أولاده لصلبه وأخرج عن وقفه أولاد بناته لم يصب القربة أو كما قال.
فهذا كلام المنصور بالله فانظر إلى هذا التجليل والتعظيم لهذا الإمام العظيم من هذا الإمام العظيم، وقد قيل في إعجاز القرآن أن بعض العلماء سُئل عن إعجاز القرآن بم عرفته؟
فقال: بإذعان الجاحظ له؛ فيصح أن يقال في مذهب الهادي عليه السلام إن قال قائل أو سأل سائل بم عرفتم صحته؟ قلنا: بإذعان السادة الهارونيين، والمنصور بالله له، فإنهم ناضلوا دونه، واستنبطوا من مكنونه، -أعني أبا العباس والسيد أبا الحسين وأبا طالب- وما كثر فقه الشافعي رحمه الله إلا بأصحابه، وعنايتهم في التصنيف عليه، والشروح لمجملاته، والفتوح لمقفلاته.
وهكذا الكلام في مذهب الهادي عليه السلام قيض الله له هؤلاء السادة الثلاثة، تبحروا في علمه ، وتوسعوا في فقهه ، وصنفوا عليه الكتب العجيبة، والشروع الغريبة، وتأولوا ما احتاج إلى التأويل، وعللوا ما افتقر إلى التعليل؛ حتى صار مذهبه بعنايتهم مهذباً محرراً، وفقهه بدرايتهم ملخصاً مقرراً؛ فجزاهم الله عن الإسلام وأهله خيراً كثيراً، ولقاهم بما فعلوه نضرة وسرورواً.
[صفاته عليه السلام]
نعم، ونرجع إلى طرف من ذكر ورع السيد أبي طالب عليه السلام؛ فإن الكلام جر بعضه بعضاً حتى خرجنا عن سَمْت ما كنا فيه.
قال الفقيه حميد [رحمه الله تعالى] في وصف أبي طالب رضي الله عنه: كان عليه السلام في الورع والزهادة والفضل والعبادة على أبلغ الوجوه وأحسنها.
قال الحاكم [رحمه الله]: كان شيخنا أبو الحسن علي بن عبدالله، والسيد أبو القاسم يحكيان عن علمه وورعه واجتهاده وعبادته، وخصاله الحميدة، وسيرته المرضية شيئاً عجيباً كثيراً يليق بمثل هذا الصدر.
[بيعته عليه السلام]
بويع له عليه السلام بعد وفاة أخيه المؤيد بالله عليه السلام، ولم يتخلف عنه أحد ممن يرجع إلى دين وفضل لعلمهم بظهور علمه، وغزارة فهمه، واجتماع خصال الإمامة فيه، وزاد أيضاً على ما يجب اعتباره من الشرائط زيادة ظاهرة.
وفي بيعته عليه السلام يقول أبو الفرج بن هندو، وكان أبو الفرج هذا قد بلغ الغاية القصوى، والمرتبة العليا في مذهب الفلاسفة، ثم تاب وصار من عيون الزيدية، وشيعة السيد أبي طالب، قال: [مجزوء الكامل]
سرّ النبوة والنبيا .... وزها الوصية والوصيا
أن الديالم بايعت .... يحيى بن هارون الرضيا
وأقام عليه السلام آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر حتى توفاه الله حميداً، وقبضه رشيداً فقيداً فرحمة الله عليه ورضوانه.
[الإمام الحسن بن عبدالرحمن (أبو هاشم)]
(...- 433هـ /...- 1042م)
وقام بعد أبي طالب من أئمة العترة الإمام أبو هاشم الحسن بن عبدالرحمن بن يحيى بن عبدالله بن الحسين بن القاسم، وهو من أجداد الإمام المنصور بالله -عليهم السلام- ولم نذكره في الترجمة السابقة.
وكان فاضلاً، عالماً، زاهداً، ورعاً، عابداً، على سيرة آبائه الأئمة الطاهرين، وطريقة سلفه المرضيين، وله دعوة عظيمة طويلة فيها حكم درية، وفرائد علمية، ويواقيت حكمية تدل على فضله وعلمه وبراعته، وإنما لم نذكره كما ذكرنا من تقدم لأنّا لم نذكره في الترجمة المتقدمة، وتبعنا فيها رسم القاضي جعفر بن أحمد -رحمه الله-، وإنما ذكر من عيون الأئمة الطاهرين أهل التصانيف ممن ذكرنا، وختمنا كلام القاضي شمس الدين -رحمه الله- بذكر الإمامين المتوكل على الله والمنصور بالله وذكرناهما في الترجمة، ونذكر من توسط بين أبي طالب والمتوكل على الله -عليهم السلام-.
فأولهم أبو هاشم المذكور، وكان من أئمة العترة وفضلائها، ونجبائها، وكرمائها، ودعوته قاضية بفضله، وشاهدة بغزارة علمه.
[الإمام الناصر أبو الفتح الديلمي]
(...- 444هـ /...- 1053م)
وقام بعده الإمام الناصر أبو الفتح بن ناصر بن الحسين بن محمد بن عيسى بن محمد بن عبدالله بن أحمد بن عبدالله بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب -عليهم السلام-.
كان إماماً فاضلاً عالماً عاملاً، له تصانيف تكشف عن علو منزلته، وارتفاع درجته منها: (تفسير القرآن الكريم) وهو كتاب جليل القدر، عظيم النفع يسمى (البرهان) ومنها: كتاب (الرسالة المبهجة في الرد على الفرقة المتلجلجة) –أراد بهم المطرفية-.
استشهد في أيام الصليحي على يده وبسببه، وله عليه السلام دعوة قد ذكرنا منها طرفاً في أول الكتاب.
[الإمام الناصر الهوسمي (أبو عبدالله)]
(...- 472هـ /...- 1080م)
ثم قام بعده الإمام الناصر الحسين بن أبي أحمد بن الحسين بن علي، الأديب الشاعر وهو ولد الناصر الكبير، قد تقدم نسبه.
نصبه العلماء نصباً بهوسم، ولم يبايعوه لقصور رأوه في علمه، واشتغلوا بالتدريس له بالليل وإشادة ذكره بالنهار.
[الإمام علي بن جعفر الحسيني (الحقيني)]
(...- 490هـ /...- 1097م)
ثم قام بعده الإمام الهادي الحقيني علي بن جعفر الحسيني:
كان جامعاً للعلوم، أجمع العلماء في زمانه أن سبع علمه آلة للإمامة، ترشح للإمامة وجمع شرائط الزعامة.
[الإمام أبو الرضا الكيسمي]
(...- نحو 500هـ /...- 1107م)
ثم قام بعده الإمام أبو الرضى الكيسمي الحسيني:
كان جامعاً لشرائط الإمامة مؤهل للزعامة.
[الإمام يحيى بن أحمد (أبو طالب الأخير)]
(...- 520هـ /...- 1127م)
ثم قام بعده السيد أبو طالب الأخير، يحيى بن أبي الحسين أحمد بن أبي القاسم الحسين بن المؤيد بالله عليه السلام:
كان حافظاً لمذاهب أهل البيت -عليهم السلام- بمتونها وتعاليقها، غزير العلم، وافر الفهم، وله رسالة حسنة فيها من الكلام ما يدل على علمه وبراعته، وحسن بلاغته وصياغته.
وكان متشدداً على مذهب الهادي عليه السلام، وكانت حاشيته وغلمانه، ومن أجابه اثنى عشر ألفاً على مذهب الهادي عليه السلام، وخدامه كلهم كانوا يصلون، ولم يستعن إلا بمن يصلي.
فهؤلاء أئمة هدى أشرنا إلى أعيانهم تبركاً بذكرهم؛ ولكيلا يخلو كتابنا هذا عن رسمهم وفضلهم، ثم نعود إلى تمام المقصود؛ فنقول:
[الإمام أحمد بن سليمان (المتوكل على الله)]
(500- 566هـ / 1107- 1171م)
وأما الإمام المتوكل على الله أحمد بن سلميان بن محمد بن المطهر بن علي بن الناصر بن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم -عَلَيْهم السَّلام-:
فإنه كان من الأئمة السابقين، وعيون العلماء المحققين، جمع شرائط الإمامة، ونظم أوصاف الزعامة.
قال الفقيه حميد [رحمه الله] في وصفه: نشأ على طريقة آبائه الأطهار، وسلفه الأخيار، جامعاً بين العلم والعمل، ولم يزل عليه السلام مقتبساً من أنواع العلم حتى برّز في ميدانها، ووقف على غامض بيانها، وكان في كل فن بالغاً مداه، لا يَفلّ الخصم شباه، ولا يلحق منتهاه.
درس في الأصولين على الفقيه العالم زيد بن الحسن البيهقي الخراساني، ودرس على السيد الفقيه الحسن بن محمد من ولد المرتضى عليه السلام.
وروى المنصور بالله عليه السلام أنه كان يستملي ستة أسطر وهو ينسخ، ودرس على الفقيه العالم عبدالله العنسي اليماني الواصل من جهات (الجيل) و(الديلم) بعلوم أهل البيت -عليهم السلام-، ودرس على الشيخ العالم إسحاق بن أحمد بن عبدالباعث صاحب (تعليق الإفادة) هؤلاء مشائخ الزيدية.
[تصانيفه عليه السلام]
وله عليه السلام تصانيف جمة في الأصول والفروع؛ فمن ذلك كتاب (الهاشمة لأنف الضلال من مذاهب المطرفية الجهال)، ومن ذلك (الرسالة الصادقة في تبيين ارتداد الفرقة المارقة المطرفية الطبعية الزنادقة) جمع فيه بين المطرفية وبين كل فرقة من فرق الضلال من أهل القبلة، وغيرهم من الخارجين عن الملة، وذكر أقوالاً تفردوا بها.
وكانت له دراية واسعة، ومعرفة بالمقالات، ومن نظر في مصنفاته على المطرفية علم صحة ما قلناه.
ومن تصانيفه: (كتاب الحقائق) في أصول الدين، ومنها (كتاب المدخل) في أصول الفقه، ومنها كتاب (الحكمة الدرية والدلالة النورية)، ومنها كتاب (العمدة في الرد على المطرفية المرتدة) ذكره الإمام المنصور بالله في الدرة اليتيمة، وقال: إنه نسخٌ كثيرة بعضها بخطه عليه السلام.
قال: وأصل كتاب العمدة رسالة الإمام، وشرح الرسالة القاضي شمس الدين جعفر بن أحمد -رحمه الله-.
وله كتاب (أصول الأحكام في الحلال والحرام) وهو متضمن لثلاثة آلاف حديث، ويزيد على ذلك قدر ثلاثمائة ونيف، وفيه علم حسن يدل على تبحره في علم الشريعة، وذكر فيه فوائد الأخبار، وسلك فيه طريقة الترجيح لمذهب الهادي عليه السلام على مذاهب فقهاء العامة.
[شيء من شعره]
وكان عليه السلام حلو المراجعة، حسن المخاطبة والمكاتبة، وكان كثير العبادة والزهادة، وله في هذا المعنى قصيدته المشهورة في الزهد التي أولها: [الطويل]
دعيني أطفي عبرتي ما بدا ليا .... وأبكي ذنوبي اليوم إن كنت باكيا
وكان شاعراً مفلقاً بارعاً متفنناً متصرفاً. قال عليه السلام في وقت صغره: روي أنه قال هذه الأبيات وهو متعلم في نصف القرآن وهي: [الطويل]
إذا أُعطيت نفس الفتى قوتها الذي .... حباها به رب العباد اطمأنّتِ
وطابت ولم تغلبه إن كان عاقلاً .... وعادت إلى التقوى وصامت وصلّت
وإن هي لم تعط الذي حُبْيّت به .... من الرزق أمست في الهموم وضلّتِ
وكان قصارى أمرها أن يرده .... إلى حلمها قسراً وخابت وضلت
فأما أخو التقوى الصحيحُ ومن له .... يقين فلا يخشى اللتيا ولا الَّتى
إذا ما تمنت نفسه الشيء ردها .... ولم يعطها عند المنى ما تمنّتِ
يكلفها ما لا تريد وتشتهي .... وإن سئمت صرف الزمان وملّت
ويمنعها من كل ما هويت ولا .... يُمَلكها أمراً وإن هي زلّت
وما تعبت نفس وهانت وأُنْصِبَتْ .... وذلت لرب الناس إلا وعزّت
فيا رب فارزقني اليقين فإنه .... وتقواك رأس الدين فاجعله عُدّتي
وزدني علماً نافعاً وتوفني .... شهيداً ولا تدحض بذلك حجتي
وكفر ذنوبي رب واغفر خطيئتي .... وإن عظمت يوماً لديك وجلّت
وأخر حِمامي رب حتى تميّتني .... وقد كَمُلَتْ مني الفروض وتمّتِ
قوله: وأخر حمامي..إلى آخره؛ يدل على صحة الرواية في أنه عليه السلام قال هذه الأبيات وهو في حال صغره لأنه قال: وقد كملت مني الفروض وتمت؛ فدل على أنها حال إنشائه لهذا الشعر غير كاملة ولا تامة، وهذا لا يكون إلا وقت الصغر وقبل التكليف.
وله عليه السلام أشعار كثيرة أعرضنا عن ذكرها، وفي سيرته منها طرف، وكانت له فضائل وكرامات، ومحاسن في أخباره ظاهرات، وقد تركنا التعريض لما هذا حاله في كتابنا هذا، وإنما نذكر الإشارة إلى علم الإمام القائم من العترة -عليهم السلام-.
وبالجملة فلم نذكر بحمد الله إلا من يعترف بفضله عدوه قبل وليّه، ويستوي في الإقرار به أوداؤه وأعداؤه وخصماؤه وأولياؤه، وظهر علمه واشتهر، وناظر الخصوم وقهر، مع الجهاد العظيم، والأخذ منه بالحظ الجسيم.
[قيامه عليه السلام]
أقام داعياً إلى الله تعالى، ونظم أمور المسلمين، وشيد أركان الدين، ودمر الظلمة والمعتدين، وأهلك الجبابرة والملحدين، وكانت مدته في حروبه وجهاده وانتصابه للأمر على منهاج آبائه وأجداده قدر أربع وثلاثين سنة، لم يزل فيها مجاهداً مرابطاً، وبين التصنيف والاشتغال بأمر الأمة جامعاً رابطاً، وهذه الفضيلة التي اختص بها أئمة العترة النبوية وهي الجمع بين الأضداد؛ لأن التصنيف يفتقر إلى خلو البال، والاشتغال به دون غيره من الأشغال، وتجد الإمام من أئمة العترة جامعاً بين فضيلة العلم وفضيلة الجهاد، وموفياً في هاتين الفضيلتين نهاية الحد وغاية الاجتهاد، وهي مزايا امتاز بها أئمة العترة على علماء الأمة، منها ما ذكرناه من العلم والجهاد، ومنها ما لم نذكره، وسنفرد في آخر الكتاب لها باباً ونفصل فيه أوراقاً إن شاء الله تعالى يكون به تمام الكتاب، ويعرف به الفضل لهم من كان من ذوي الألباب.
ونختم شرح الترجمة بالإمام المنصور بالله، والعلم المشهور؛ فنقول في ذكره خاتمين به فضل أهله:
[الإمام عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (ع)]
(561- 614هـ / 1166- 1218م)
وأما الإمام المنصور بالله أبو محمد عبدالله بن حمزة بن سليمان عليه السلام فهو:
الإمام الفائقة أوصافه، المشتملة على الفضل والعلم والكمال جوانحه وأعطافه، إمام الأبرار، وشمس الأئمة الأطهار، البالغ ذكره حيث بلغ النهار، والمشتهر بالعلم والفضل غاية الاشتهار.
قال الفقيه حسام الدين -رحمه الله- في وصفه، وذَكَر طرف من مناقبه وأحواله عليه السلام ثم قال: هذا باب لا سبيل إلى استقصائه، وإنما نذكر اليسير ففيه كفاية، ومقنع لمن قلت خبرته به، وإلاَّ فأحواله ظاهرة، وبدور شرفه باهرة.
ولما فرغ من تعلم القرآن الكريم أخذ يتأسف على ما مضى من ضياع العمر، وفوات العلم، فقال له والده: يا بني إنه لم يمض من المدة إلا القدر الذي لا يمكنك أن تصل فيه إلى أكثر مما قد وصلت إليه، وأنت مستقبل، فشمّر في ذلك.
فانتقل عليه السلام إلى الدراسة في أنواع العلم، وأخذ في علم الأدب حتى لجج فيه أغواره، والتقط درره من قراره، وبرز في ذلك تبريزاً بليغاً، ولقد كان يحفظ من شواهد اللغة ما لا يحفظ أحد من أهل عصره.
[وصف حفظه لآداب العرب وأشعارهم]
وروى صنوه الأمير عماد الدين يحيى بن حمزة أنه رأى مع الإمام عليه السلام مجلداً فيه أشعار ثم قال له: قد قرأته أشرافاً ثم حفظته، فخذه واسألني عن أي قصيدة منه شئت؛ فأخذه ثم سأله عن أوله ووسطه وآخره، فيأتي بما يسأله عنه.
وروى عمران بن الحسن بن ناصر عن بعض من له حظ وافر من حفظ أشعار القدماء والمحدثين ؛ أنه قال: أنا أحفظ قدر مائة ألف بيت، وفلان يحفظ مثلها، ونحن لا نعدُّ حفظنا إلى جنب حفظ الإمام المنصور بالله شيئاً.
وكان إذا عرض البيت من القصيدة يحتج به على لفظة غريبة من الكتاب والسنة أو غيرهما من كلام العرب روى القصيدة أو أكثرها، وربما روى سبب إنشائها، ونسب قائلها، ويحكي كثيراً من أشعاره إلى غير ذلك من الأحوال الشاهدة له بالسبق في هذا الشأن، وكان عليه السلام عارفاً بأيام العرب على ضرب من التفصيل. انتهى كلام الفقيه الشهيد -رحمه الله- في وصف الإمام المنصور بالله في علم الأدب إلى هاهنا.
وأقول: لو قال قائل: إنه لم يكن مثل المنصور بالله عليه السلام أحد من أئمة العترة وغيرهم في حفظه لأشعار العرب، وأيامها، وأنسابها، وقبائلها، وبيوتها، وعمائرها، وما كان من أخبار الجاهلية وأهلها، وحروبها، وسلمها، وأحوالها، ومن هلك منهم قتلاً، ومن أسلم منهم طوعاً، ومن أسلم منهم كرهاً لكان صادقاً؛ فإن المنصور بالله بلغ من هذه المعارف مبلغاً لم يبلغه أحداً، ومن أغرب أموره وكلها غريب، أنه يعرف أماكن العرب وبلادها ومنازلها وجبالها وطرقها ومناهلها، حتى كأنه عاصرهم من أولهم إلى آخرهم.
ورأيت له قصيدة يذكر فيها (الحجاز) ويذكر فيه مواضع على عادة الشعراء في التشبيب في النسبة بذكر المعاهد والديار؛ يقول من يراها ويقرأها أنه مولود في الحجاز، وناشئ بين أهله؛ وظهر لي أنه عليه السلام لم يَحُجّ رأساً، وأوصى بحجة إلى بيت الله الحرام، وكان من أعرف الناس بالحجاز، وأماكنه ودياره ومساكنه وطرقه ومناهله، ومثل هذا غريب لا يتفق لغيره، ولا يوجد مع أحد سواه.
وأما اطلاعه على السير والتواريخ، وأخبار الصحابة وآثارهم، وسيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- فهو المتقدم في هذا العلم إلى غاية لم يسبقه إليها الأولون، وقصر عنها الآخرون، ومن طالع كتبه ورسائله ومصنفاته عرف ما قلناه، وتحقق صدق ما ذكرناه.
[طلبه للعلوم]
ثم نعود إلى تمام ما ذكره الفقيه حميد [رحمه الله] قال -رحمه الله-: ثم ارتحل المنصور عليه السلام للقراءة إلى الشيخ العالم شيخ الزيدية حسام الدين أبي محمد الحسن بن محمد الرصاص -رضوان الله عليه- وكان عالم الزيدية في عصره، والمبرز على أبناء دهره، وإليه انتهت رئاسة أصحاب القاضي شمس الدين -قدس الله روحه-.
فوقف عليه السلام عنده للقراءة فقرأ عليه الأصولين حتى فاق الأقران، وتقدم الكهول والشبان، وحكي أنه كان يكتب في لوح عشراً في أصول الدين في جانب، ويكتب في الجانب الآخر عشراً في أصول الفقه.
قال: وقرأت هذه ثلاثة أشراف وحفظتها، وهذه ثلاثة أشراف وحفظتها؛ فجمع بين القراءة في الفنين، وأدرك الغرض في العلمين، وصنف في أصول الدين قبل بلوغه في العمر إلى العشرين.
[تصانيفه عليه السلام]
وكان من محاسن تصانيفه في حال صباه ودراسته على شيخه حسام الدين -رحمه الله- كتاب (الجوهرة الشفافة) وهو جواب رسالة أنشأها رجل من أهل (مصر) وسماها (بالرسالة الطوافة إلى العلماء كافة) تشتمل على مسائل في الأصول بألفاظ يغلب على كثير منها التعقيد والتقعير، وهي نيف وأربعون مسألة، ومُوردُها أشعري متفلسف، فطافت إلى كثير من البلدان فما تصدى عالم لجوابها حتى انتهت إلى الشيخ الحسن -رحمه الله-، لأنه كان في علم الكلام شمساً مشرقة على الأنام، وحبراً من أحبار الإسلام.
فأمر رضي الله عنه الإمام بجوابها، فأجابها بأحسن جواب، وأوضح خطاب، مع الإيجاز في الألفاظ، والاستيعاب للمعاني، فجاءت حالية الجيد، محاكية للعقد الفريد، ووسم الجواب (بالجوهرة الشفافة رادعة الرسالة الطوافة) وأصحبها هذه الأبيات.
قال حميد -رحمه الله-: أنشدنيها في داره بحصن ظفار -حرسه الله-: [السريع]
هذي أمانة من تلم به .... حتى يؤديها إلى مصر
غراء واضحة تضيء ظلا .... م الليل مثل جمانة البحر
عدلية تمضى لحاجتها .... فتنح عنها أيُّها الجبري
إن كان فيها ما يسؤك من .... ديني فليس عليك من وزري
دعني وما ضمنتها فيه .... أرجو النجاة صبيحة الحشر
ومن تصانيفه عليه السلام: شرح (الرسالة الناصحة بالأدلة الواضحة) وهي جزاءن الأول في أصول الدين، والثاني في فضائل العترة -عليهم السلام-.
ومن تصانيفه عليه السلام: (صفوة الاختيار) في أصول الفقه.
ومنها: كتاب (حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية) وهو من محاسن الكتب التي فاقت، والتصانيف التي راقت، مضمناً إيضاح الألفاظ اللغوية بشواهدها العربية.
قال حميد -رحمه الله-: ولقد سمعته يقول إنه فرغ من تأليف الجزء الثاني منها في سبعة أيام؛ أو ثمانية أيام وهو في خلال ذلك مشغول بتجهيز العسكر إلى بعض الجهات، ورأيت ذلك الجزء بخطه وهو جزء المسودة، ومن شاهده عجب من ذلك حتى أنه لا يكاد يوجد فيه سطر مطموس، ولا مزيد إلا النادر الذي لا يؤبه له.
[الشافي وسبب تصنيفه]
ومن تصانيفه عليه السلام: (كتاب الشافي) وهو النبأ العظيم والصراط المستقيم، كما قال الصاحب في (كتاب المغني) لأنه عليه السلام ضمنه علوماً كثيرة، وسيراً وأخباراً وتواريخ ونوادر وفرائد، ونخباً في الأدب وفوائد، وجعله أربعة مجلدة كباراً في جواب الخارقة.
وهي رسالة جاءت إليه من الفقيه المسمى بأبي القبائل الأشعري الجبري يطعن فيها على الإمام عليه السلام، وقد وقف له على رسالة إلى (الحجاز) ذكر فيها الإمام المنصور أحاديث نبوية، وضمنها ما يضمنه الأئمة دعواتهم من الدعاء إلى الجهاد، ومنابذة أرباب الفساد، ويذكر فيها الإمام طرفاً من فضل العترة النبوية، واعتقاداتهم في المسائل الخلافية الكلامية، وما يَدِيْنُون به في الأصول الدينية، فاعترضها فقيه الخارقة وطعن في شيء من النحو والتصريف، وما يكتب بالياء وما يكتب بالألف، ثم أخذ يتكلم في الأحاديث، ويعترض الإمام عليه السلام بعدم الأسانيد، وذكر فيما يزعم أن الإمامة في ولد العباس إلى غير ذلك من مذاهب الجبرية.
فلما وصلت هذه الرسالة المسماة بالخارقة أجابها الإمام المنصور بالله عليه السلام بهذا الكتاب الجليل وهو الشافي كاسمه، وجعله أربعة مجلدة كباراً ذكر في الجزء الأول جواب ما اعترضه من الأمور المتعلقة بالعربية، وأورد عليه من هذا القبيل جملة من المسائل الدقيقة التي لا يهتدي أحد إلى معرفتها.
ولقد قال الشيخ العلامة إمام الأدب إسماعيل بن إبراهيم بن عطية: أن المسائل التي أوردها المنصور على صاحب الخارقة مما يتعلق بعلم العربية لا هداية لأحد إلى معرفتها وجواب مشكلاتها إلا بوحي من السماء؛ هذا وهو علامة فنون الأدب، والآية المشار إليها في معرفة كلام العرب، وهذا فن شريف.
وضمن عليه السلام باقي المجلد الأول الكلام في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، ومن بعده من أولاده الأئمة الطاهرين، ومن عارضهم من الأمويين والعباسيين إلى عصره عليه السلام، ولم يذكر نفسه، وختم الأئمة بالإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليه السلام، فذيل ذلك الكلام الفقيه العلامة محمد بن أحمد بن الوليد القرشي.
وكان من جملة كلامه أن قال: لما أنفذ الفقيه أبو القبائل المجبري القدري رسالته إلى الإمام عليه السلام، وهي الموسمومة (بالخارقة) وذكر فيها أئمته من بني العباس ومن قبلهم من أئمته، وأطنب في مدحهم؛ رأى مولانا –سلام الله عليه- أن يتكلم عليه في الجواب الكبير المعروف بالشافي عن جميع ما ذكره مما يجب الكلام عليه فيه.
حتى قال: إلى أن اتصل بآخر إمام من أئمة الحق -عليهم السلام- قبل قيام مولانا عليه السلام؛ وهو الإمام الأجل المتوكل على الله عز وجل أحمد بن سليمان بن الهادي عليه السلام، ولم يذكر مولانا نفسه، ولا تعرض للتعريف بشيء من أخباره وأحواله في هذا الجواب المذكور؛ أحب بعض أشياعه وأتباعه، والمتمسكين بحبل ولايته، المعتقدين لصحة إمامته أن يذكر من أخباره عليه السلام وأحواله طرفاً، ويكون من جنس ما ذكره من أخبار آبائه الطاهرين، وأحوالهم –سلام الله عليه وعليهم أجمعين-؛ من ذكر ولادته ونسبه وتربيته ومنشئه وعلمه، وجملة من تصانيفه وورعه وزهده، وبركته وسماحته وقوته على تدبير الأمر.
رجع الكلام منا إلى تمام وصف الشافي وما يتعلق به كل مجلد منه، هذا المجلد الأول، والمجلد الثاني والثالث والرابع في علوم شتى من مذهب العدلية من العترة النبوية، وأتباعهم من المعتزلة والزيدية، وبيّن الأسانيد في الأحاديث التي يختص بروايتها أهل البيت -عليهم السلام-، وأوضح طرقها، وحقق صحتها، وأتقن روايتها، وضمن ذلك كله فضل العترة النبوية، وأنها ومن تابعها الفرقة الناجية المرضية، وأزال تمويهات الجبرية، وكشف عن بوار هذه الفرقة الفرية، وذكر جميع ما يتمسكون به من الشبه في المسائل الكلامية، وأظهر بالأدلة الصحيحة الواضحة أنهم هم القدرية.
فكان هذا الكتاب من أقوى ما يعتمده الزيدية، وتعول عليه هذه الفرقة الهادية المهدية، فهو حصنها العزيز، ومعقلها الحريز، فقدس الله روح منشيه، وأعظم ثواب مصنفه وموشيه؛ فلقد كفانا مؤنة الطلب، وملأ لنا دلو المناظرة إلى عقد الكرب، وأتانا من علمه الباهر بأنواع العجب، ولله القائل: [البسيط]
لولا بدائِعُ صُنْعِ الله ما نبيّتَت .... تلكَ الفضائِلُ في لَحْم ولا عَصَبِ
[بقية تصانيفه]
وذكر الفقيه العلامة محمد بن أحمد بن الوليد في تذييله على (كتاب الشافي) بتأليفه الذي سماه (الدر المنثور في معرفة أحوال الإمام المنصور) جملة في الإشارة إلى علمه عليه السلام. فقال: وأما علمه عليه السلام فإنه بلغ الرتبة العالية، والمنزلة السنية السامية، وانتشر ذكره عند الخاص والعام، واشتهر بالعلم وعرف مكانه فيه، وكاتبه العلماء والفقهاء، وشَاعَره الفصحاء والبلغاء؛ فأجاب كل سائل، وصنف التصانيف العجيبة في كل فن؛ في علم الكلام وأصول الفقه وفروعه.
منها ما صنفه أيام دراسته قبل بلوغ عشرين سنة من مولده، ومنها ما صنفه بعد ذلك؛ فمنها: (الجوهرة الشفافة)، و(الرسالة الناصحة وشرحها)، وكتاب (صفوة الإختيار)، وكتاب (تحفة الأخوان)، وكتاب (حديقة الحكمة النبوية)، و(مصباح المشكاة)، و(الأجوبة الكافية والرافعة للإشكال)، و(الناصحة المشيرة)، و(الرسالة الكافية)، و(جواب مسائل من مكة)، و(مسائل من حجة)، و(مطاعن الروافض)، والدعوة العامة، ودعوة السلطان إسماعيل بن سيف الإسلام، و(دعوة سيف الدين حكو بن محمد الكردي)، ورسائل كثيرة، وعهود إلى الولاة والقضاة، وكتب إلى أهل البلدان، وأشعار كثيرة، هذا كلام محمد بن أحمد بن الوليد القرشي في وصف علم المنصور بالله عليه السلام.
وكنت قد جمعت تصانيفه عليه السلام وذكرتها جملة من كلام الفقيه حميد -رحمه الله- وغيره، وهي هذه مسرودة: (الجوهرة)، و(الناصحة وشرحها)، و(صفوة الاختيار)، و(كتاب الشافي)، و(حديقة الحكمة)، و(الرسالة الهادية بالأدلة البادية)، و(الدرة اليتيمة في أحكام الغنيمة)، و(الأجوبة الكافية بالأدلة الوافية)، و(الأجوبة الرافعة للإشكال الفاتحة للأقفال)، و(الناصحة المشيرة بترك الاعتراض على السيرة)، وكتاب (الإيضاح لعجمة الإفصاح)، و(الرسالة الكافية إلى أهل العقول الوافية)، و(الرسالة النافعة بالأدلة القاطعة)، و(الكاشف للإشكال في الفرق بين التشيع والإعتزال).
وشرع في تفسير القرآن العظيم، ورتب في أوله مقدمات حسنة لا يعلم مثلها في تفسير قط، ففرغ من سورة البقرة في مجلد واحد لم يكمل بعد، وأودعه من الشواهد العجيبة، ومن الكلام في المعاني الغريبة، ومن الكلام في دلالة الآي على بطلان مذهب المطرفية والجبرية؛ ما يتحير فيه الألباب، ويدل على أنه السابق في هذا الباب، ورأيت أنا جزئين من تفسيره (بخزانة ظفار) حماه الله تعالى سماه (بالنهج القويم في تفسير القرآن الكريم).
ومن تصانيفه عليه السلام: (كتاب اللمع) بالكلام على آيات، ومن تصانيفه (العقد الثمين في تبيين أحكام الأئمة الهادين) في الكلام على الإمامية مجلد واحد، ومن تصانيفه (الرسالة الفارقة بين الزيدية والمارقة) في الكلام على المطرفية، ومن تصانيفه (الرسالة الحاكمة بالأدلة العالمة) في الدور والتكفير والغنائم، ومن تصانيفه (تحفة الإخوان) في الرد على المطرفية، والنصيحة لهم وتعليمهم معالم الدين، وأحكام الشريعة المطهرة.
ومن تصانيفه (العقيدة النبوية في الأصول الدينية)، ومن تصانيفه (القاطعة للأوراد من لجاج المتعنت في الإيراد) في الجهاد وما يتعلق به، ومن تصانيفه (الرسالة القاهرة بالأدلة الباهرة) في الفقه، وفيها علم عظيم، ومن تصانيفه (الرسالة التهامية).
قال الفقيه حسام الدين [-رحمه الله-]: إلى غير ذلك من تصانيف الإمام المنصور بالله عليه السلام، وأجوبة المسائل التي طارت بها الركبان، إلى القاصي والدان من البلدان، ولا سبيل إلى ذكرها في هذا الموضع لكثرتها.
ومن تصانيفه عليه السلام دعوات جمة كتبها عليه السلام إلى الأمصار، وإلى العلماء الأخيار، منها: (دعوته العامة) وفيها علم واسع من شاهدها بهره ما فيها من الكتاب والسنة وعلوم العترة؛ وهي دعوة كبيرة، واسعة الأطراف، تحتوي على علم غزير، وفضل شهير.
ومنها: (دعوته إلى إسماعيل)، و(دعوة إلى حكو)، و(دعوته إلى خوارزم شاه)، و(دعوته الأخيرة إلى أهل اليمن) جمع فيها علماً جماً، وفيها من الوعظ والتذكير ما يأخذ بمجامع القلوب، ويصد عن ارتكاب الحوب، وفيها كثير من فضل العترة، وفيها كلام في حكاية أحوال كثير من خلفاء بني العباس، وما فعلوه بعضهم ببعض من أنواع النكال، وفيها طرف من السير، وفيها الحث العظيم على الجهاد.
قال الفقيه حميد [رحمه الله]: ولم ير دعوة مثلها لأحدٍ قط، ومن وقف على جواهر كلامها؛ علم أن الله خص عبده المنصور بما لم يخص به أحداً من الخلق بعد النبي والوصي -عَلَيْهما السَّلام-، ومن طالع سيرته الشريفة وما فيها من غرائب الكتب العجيبة إلى ملوك العجم والعرب، وما له من الكتب المستطيلة إلى المخالفين جملة من مطرفي وجبري وغيرهما، وما له من الدعوات إلى (الجيل) و(الديلم) وغير ذلك من كتبه التي نشرها في البلاد، وبثها إلى الحاضر والباد، شاهد ما يبهر عقله، ويحيّر لبه، وما هو إلا فضل الله يؤتيه من يشاء.
[ومن المصنفين على مذهبه]
ومن تصانيفه: (فتح الألباب في السبق والاحتساب)، ولما اشتهر علمه وظهر فضله صنف العلماء في ذلك كتباً منهم الشيخ محيي الدين محمد بن أحمد بن الوليد القرشي صنف كتاباً سماه (هداية المسترشدين في فتاوي أمير المؤمنين) عبدالله بن حمزة، ورتبه على أبواب الفقه، وألحقه رسائل جمة منها رسالة في أحكام المخالفين، ورسالة على من طعن في خراب المساجد الضرارية، ورسالة تحذيراً لأهل صنعاء من مساكنة الكفرة، وفيه (كتاب اللمع)، و(الإشارات إلى فوائد الإختيارات) من كلامه عليه السلام.
ومن المصنفين على مذهب المنصور بالله عليه السلام صاحب (كتاب المهذب)، جمع فيه أقوالاً غريبة، وتفصيلاً من السير شافياً، ورتبه على ترتيب أبواب الفقه.
ومن ذلك (المجموع المنصوري) في أربعة مجلدة كبار محتوية على رسائله ومسائله.
ومن تصانيفه: كتاب (الثبات في وصية البنات)، ومن تصانيفه (الحكم المنصورية)، ومن تصانيفه كتاب (الزيادات الفاضلة)، ومن تصانيفه (أدعية الأيام السبعة).
ومن طالع المجموع المنصوري وفَاتَحَه، واستوفى خواتمه وفواتحه، علم صحة ما قاله الفقيه حميد -رحمه الله- إن الله خص عبده المنصور بما لم يخص به أحداً من الخلق بعد النبي والوصي -عليهما السلام-.
فإن قيل: فظاهر هذا تفضيل المنصور على أئمة العترة كافة.
قلنا: هكذا أطلقه الفقيه حميد -رحمه الله-، ولكن المنصور بالله معترف بفضل من تقدمه من الأئمة السابقين والهداة الطاهرين.
وله عليه السلام في النظم اليد الطولى والقدح المعلى، وديوانه مشهور شاهدٌ له بالتقدم في هذه الصناعة، والتبريز في هذه البراعة، وله في جملة أشعاره من الوصايا والحكم والحث على الجهاد ما لم يسمع مثله لغيره.
وسمعت عن بعض العلماء وقد وقف على شعر المنصور [بالله] عليه السلام فقال: من وقف على هذا الديوان اعتقد أن المنصور بالله لم يكن إلا شاعراً فقط لما جوّد فيه، وطوّل في قوافيه؛ فإن فيه من الغزل وذكر الديار والمعاهد على عادة العرب شيء كثير، وفيه من أشعار الحماسة والحروب والافتخار بنفسه وأفعاله، ومواقفه في الجهاد ومواطنه في الجلاد ما زاد في ذلك على أشعار العرب في هذا المعنى.
وله عليه السلام في أمير المؤمنين علي عليه السلام القصيدة المشهورة التي شرحها الفقيه حميد (بمحاسن الأزهار في مناقب العترة الأطهار)، وله (أرجوزة الخيل) في أوصافها وألوانها وأصولها وأعراقها وما يحمد منها وما يذم، ما إذا وقف عليه الواقف لم يهتد إلى معرفة ذلك، وتحير لبه في تلك المسالك.
[أقوال العلماء فيه وفي مبلغ علمه (ع)]
وعلى الجملة فإن المنصور فاق علماً وبراعة، ومن علمه يتعلم أرباب هذه الصناعة، وله عليه السلام في علوم السير والتواريخ ما ليس لأحد قطعاً، وقد ذكر ذلك الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام في شرحه (الأربعين السيلقية) وقصر براعة المنصور عليه السلام على علم التاريخ، وهو أوسع من أن يُقصر على فن بعينه.
قال الفقيه حسام الدين [رحمه الله]: ومن تصانيفه (الإختيارات المنصورية في المسائل الفقهية) علقه عنه بعض أصحابه وفيه فقه غريب، وله (كتاب الفتاوى) وهو مجلد عُلّق من أجوبة السائلين، ورتب على المعتاد من ترتيب الكتب.
قال حميد رضي الله عنه: وكان عليه السلام المبرز في ميدانه، الناظم لدرره وجمانه، المستنبط لغرائبه، المستخرج لعجائبه، وكم من غريبة جاء بها من غير تكلف ومشقة، ولقد أخبرني الفقيه الفاضل جمال الدين عمران بن الحسن بن ناصر أسعده الله عن والده العالم الفاضل الحسن بن ناصر -رحمه الله- أنه كان يقول: إن فقهه عليه السلام فقه طري يشبه فقه الصحابة -رضي الله عنهم-.
وقال الفقيه بهاء الدين علي بن أحمد الأكوع -رحمه الله-: كانت المسألة إذا أشكلت عليَّ للإمام عليه السلام طلبتها فوجدتها لأمير المؤمنين أو لزيد بن علي -عليهما السلام-.
وسمعت شيخنا بهاء الدين أحمد بن الحسن الرصاص -رحمه الله- يقول: أخشى أن تكون إمامة الإمام عليه السلام يعني المنصور بالله عليه السلام صارفة للناس عن إمامة غيره بعده. فقلت: وكيف ذاك؟ فقال: لأن الناس يطلبون منه من العلم ما يُعْهَدُ من الإمام، وربما لا يتفق ذلك.
ولما صدرت تصانيفه إلى (الجيل) و(الديلم) وأطل عليها السادة من أهل البيت وفقهاء الزيدية، تداكوا على بيعته تداك الإبل الهيم عند الحياض، وقالوا هو أعلم من الناصر للحق.
قال الفقيه حميد رضي الله عنه: وأخبرني من أثق به وهو الفقيه الصالح صالح بن محمد من جهات تهامة وكان من عباد الله الصالحين، أنه سمع السيد نظام الدين يحيى بن علي السليماني –قدس الله روحه-يقول: إمامنا هذا أعلم من الهادي عليه السلام، وأخبرني من أثق به عن بعض عيون علمائنا -رضي الله عنهم- أنه كان يقول مثل ذلك.
قال الفقيه حسام الدين: ومن شاهد في تصانيفه علم أن له المزية العظمى، وذلك أنه كان لا يصده كثرة الناس حوله عن التصنيف، ولقد شهدته في مجلس الصباح وهو غاص بمن فيه يكتب في تفسير القرآن الكريم كتابة مستمرة، وهو يُسْأل في أثناء ذلك في أمور الدين والدنيا فيجيب عنها، وإن قلمه ليتحدر تحدراً سريعاً؛ وهذه درجة عالية، ومرتبة سامية.
ورأيت بخط موثوق به أنه أجاب في بعض تصانيفه من أول النهار إلى عند العصر إلى موضع سماه من التصنيف؛ فعددت ذلك فوجدته بخط متوسط خمس قوائم، فليعجب المتعجبون ولا عجب؛ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وكانت أجوبته على البديهة، فإذا سئل عن التعليل شفى العليل، ونقع الغليل، وأوضح السبيل، وحكى الدليل.
وكان عليه السلام في الورع والاحتياط على ما يليق بسعة علمه وغزارة فهمه، وعرف بذلك في جميع أحواله، والحكايات في هذا المعنى كثيرة جداً، وقد ذكر الفقيه حميد -رحمه الله- في حدائقه من ذلك شيئاً كثيراً اختصرناه.
ونذكر كلاماً رواه الفقيه محيي الدين محمد بن أحمد بن الوليد القرشي في (كتاب الدر المنثور) وقد أخذ يروي أولاً عن علمه، وثانياً عن فضله وزهده وورعه، وكان من جملة ما ختم به الكلام في الاستدلال على علمه أنه قال:
ومن ذلك ما وقع من الامتحان له قبل قيامه عليه السلام من جماعة العلماء من الأمراء وغيرهم في كل فن وتعدادهم يطول، وهو مذكور في (السيرة المنصورية) حتى أن الشيخ محيي الدين محمد بن أحمد النجراني -رحمه الله تعالى- سأله وحده عن خمسة آلاف مسألة في الأصول والفروع، وعلوم القرآن والأخبار دع من سواه، وأجابه عليه السلام عن كل ما سأله عنه بأحسن جواب.
وكان يحفظ من الأحاديث المسندة سبعة آلاف حديث، وحُسِبَت مسموعاته في وقت قيامه أحد عشر ألف خبر، وأما إلى وقت وفاته فلعلها تبلغ خمسين ألفاً؛ وأما ما يرويه من طريق الإجازة فلعلها تكون خمسين ألفاً أخرى.
قال في السيرة المنصورية: وله من حفظ القصص المتقدمة والسير ومغازي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وحروبه وفتوحه وسيرته، ومعرفة أصحابه وأنسابهم وقصصهم وأخبارهم، وسيرة الخلفاء بعده وأخبارهم، والتابعين وروايتهم عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- ما يجل ويعظم.
حتى ذكر فضله وورعه وزهده، وقال: أما زهده فمعروف في سيرته، مشهور من شيمته، يعرفه من خالطه، واتصل به من حال الصغر إلى الكبر؛ وأنه كان كثير الصبر على مضض العيش، مدمن على الصوم والقيام، وما لمس حراماً متعمداً، ولا أكله ولا رضي أكله.
وكان اشتغاله بالدرس في العلم، وكان يغشى مجالس العلم كما قدمنا، ويقتات بالشيء اليسير الزهيد، ويؤثر على نفسه الوافدين إليه والضعفاء والمساكين والغرباء، كتب كتاباً قال فيه: (والله ما رأيت بعيني خمراً في يقظة ولا منام، ولا الملاهي من الطنابير وما شاكلها، حتى ظهرت على الجبارين من الغز، وأمرت بكسرها وإراقة خمورها، ولا فعلت قبيحاً أعلمه قبيحاً متعمداً من الصغر إلى الكبر، ولا أكلت حبة حراماً أعلمها، ولا قبضت درهماً حراماً أعلمه، ولا تركت واجباً متعمداً، وإني لمعروف النشأة بالطهارة، ما كان لي شغل إلا التعليم والدراسة والعبادة؛ ثم انتقلت بعد ذلك إلى الجهاد في سبيل الله فحاربت الظالمين قبل أن أقص شاربي بعلم الخاص والعام).
[كتَّاب سيرته وأخباره]
وأقول: استيفاء مثل هذا من أخباره عليه السلام في زهده وفضله وورعه وجوده يخرجنا عن المقصود، ومن أراد ذلك فعليه بمطالعة سيرة بسيطة ومتوسطة ومختصرة.
فالبسيطة سيرة القاضي العالم علي بن نشوان –رحمه الله- فإنه الذي ابتدى تأليف (السيرة المنصورية) وأبسط فيها القول بسطاً شافياً، ورأيت منها المجلد الأول، وفيه ما يدل على تبحره في العلم، وحسن السياق، ورشاقة العبارة، وجودة اللفظ، وإضائة المعاني؛ فإن صاحب السيرة ما لم يكن على هذه الصفة لم تحسن السيرة، وربما كان كلامه إذا كان بخلاف هذه الأوصاف مغيراً لحسن سيرة الإمام، ومفسداً لها بكلامه الركيك، وعبارته القاصرة، وألفاظه المتقاصرة، وقد رأينا هذا عياناً، وشاهدناه بياناً، في سيرة المتقدمين، ورأيت في سيرة علي بن نشوان خط الإمام المنصور بالله عليه السلام في أماكن كثيرة تصليحاً وزيادة، وقيل: أنّهَا إلى عشرة مجلدة.
وأما السيرة المتوسطة فهي سيرته المشهورة التي جمعها الشيخ الفاضل أبو فراس بن دعثم -رحمه الله-، وهي ستة مجلدة، أخبرني بعض العلماء أنه اختصرها من سيرة ابن نشوان.
وأما السيرة المختصرة فهي ما ختم به الفقيه حميد -رحمه الله- (كتاب الحدائق الوردية) فإنه ذكر الإمام المنصور بالله عليه السلام، وكان كلامه في سيره وأخباره أوسع من السابقين عليه من الأئمة -عليهم السلام-، وما ذلك إلا لأنه -رحمه الله- شاهد المنصور عليه السلام، وعاصره وأخذ عنه، ولم يكن بينه وبينه واسطة، فجادَت في سيرته عبارته، وحَسُنَت في ذلك إشارته، وترسلت فيه قريحته، وتفننت في أخباره طريقته.
ولم نذكر (الدر المنثور في أخبار المنصور) لأنه تذييل لكتاب الشافي؛ وقد اختصر محيي الدين بن الوليد فيه سيرة المنصور عليه السلام اختصاراً وافياً بمقاصدها، ومبيناً بطيب مصادرها ومواردها، فجزى الله العلماء عنا خيراً، فلقد حسبت في حفظ سيرة الأئمة الأطهار آثارهم، وطابت لنا بأخبار الخلفاء الأقمار أخبارهم.
وهؤلاء تتميم الأئمة الذين قدمنا ذكرهم في الترجمة المتقدمة، ووعدنا بالكلام على أعيانهم، والإشارة إلى فضلهم وعلمهم دون التعريض لشيء من أخبارهم، وقد نجز غرضنا بحمد الله مما أردناه من ذكر الأئمة الهداة، وبقي من الأئمة الطاهرين من دعا إلى الله تعالى من بعد المنصور بالله عليه السلام من أهل البيت -عليهم السلام- في ديارنا هذه؛ وهم أئمة أطهار، وسادة أخيار، وإن مدَّ الله في المهلة، ونَفّس لي في تأخير الغائب المنتظر، جمعت من أخبارهم وسيرهم ما يكون تماماً للحدائق الوردية، فقد جمعت رسالة سميتها (المخبرة في أخبار العترة المطهرة)، وقصرت فيها الكلام على الأئمة الطاهرين من أمير المؤمنين، إلى أن ذكرت المتأخرين من بعد الإمام المنصور بالله عليه السلام، إلى الإمام الناصر عليه السلام.
وجعلتها مشتملة على طبقات عشر أشرت إليهم فيها إشارات من دون بسط في العبارات، والرجاء في فضل الله تعالى تمام الأمل في تجريد سيرة الأئمة المتأخرين على ما اختاره الفقيه العلامة حميد بن أحمد -رضي الله عنه- في حدائقه، فلقد أحسن فيها ووفى، وشهدت له بحبه أولاد المصطفى، وسيجزى الجزاء الأوفى بحبه لخير الناس أماً وأباً، وعمله بقول الله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] .
* * * * * * * * * * * *
[خصائص تفضيل العترة؛ وترجيح مذهبهم]
نعم، ولكل كلام ثمرة، وثمرة ما ذكرته من الإشارة إلى فضل أئمة العترة المطهرة هو بيان فضلهم ليقتدي بهم المقتدي، ويهتدي بهديهم المهتدي، وهو على بصيرة من معرفته تفضيلهم، وعلى حقيقة من علمه بعلمهم؛ وليكون ما ذكرناه سبباً في ترجيح مذهب العترة النبوية على غيره من مذاهب فقهاء الأمة، وعلماء العامة.
فإن من عرف ما عرفناه من فضل أهل البيت، وكان على ذكر من باله ما ذكرناه من علمهم وزهدهم وورعهم، واختصاصهم بالمزايا الشريفة، والمراتب المنيفة؛ من سلامة العقائد في الأصول الدينية، وامتيازهم بالإصابة في المسالك النظرية؛ فهذه خصيصى شريفة لم تكن لأحد من فرق الإسلام، وقد أشار إليها الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام كما قدمنا في الرواية عنه، وجملتها عشر خصائص، نختم بها الكلام في فضلهم وترجيح مذهبهم:
الخصيصة الأولى:
ما أشرنا إليه من سلامة العقائد في أصول الدين، وتنزيههم لرب العالمين؛ فهم سادة أهل التوحيد والعدل، والقائلون فيها بالقول الفصل، فلا يعتقدون في ذات الله تشبيهاً بالمحدثات، ولا يصفونها بما لا يجوز من الصفات، ولا يثبتون مع الله المعاني القديمات، ولا يشبهونه بخلقه في حالة من الحالات، ولا يقولون إنه تعالى يرى في جهة ولا في جهات، وهذه الأمور لا تجوز على فاطر الأرضين والسماوات؛ هذا في التوحيد.
وفي العدل: لا يقولون بأن الله تعالى خالق المقبحات، ويدينون ويعتقدون بأن أفعاله سبحانه كلها حسنة محكمات، وأن أفعال العباد منهم لا من الله في النفي والإثبات، مثاله ترك المعاصي وفعل الطاعات، وعكسه فعل القبائح وترك الواجبات؛ كل هذه تضاف إلى العباد نفيا وإثباتا، ومن أضافها إلى الله تعالى فقد أخطأ، لأن الله تعالى قد تبرأ منها في كتابه، وعلى لسان نبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، وأدلة ذلك معروفة في مواضعها من كتب الكلام.
فمن اختص بهذه الخصيصة أولى في المتابعة والمشايعة ممن لم يختص بها مع الإنصاف، وعدم المكابرة، إلى غير ذلك من الكلام، ومسائل الوعد والوعيد، والإمامة على ما هو مقرر في مواضعه.
الخصيصة الثانية:
الجهاد:لأنه كما ورد في الحديث سنام الدين، ورهبانية المتقين، وشعار سيد المرسلين، وأصحابه من الخلفاء الراشدين، والفضلاء الصالحين، وقد قال الله تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا(95)دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(96)} [النساء] وغيرها من الآيات، والأخبار الواردة في فضل الجهاد لا تحصى كثرة.
ومعلوم باليقين أن هذه الفضيلة اختص بها أئمة أهل البيت المطهرين، فهي لهم بالأصالة توارثوها كابراً عن كابر، وورثوها عن أَسِرّةٍ في الفضل ومنابر؛ فليس لأحد من فقهاء الأمة وعلماء العامة مثل هذه الفضيلة، والحمد لله.
الخصيصة الثالثة:
الزهد في الدنيا: وهي فضيلة شريفة، ومنقبة منيفة، وبها تميز الأنبياء المرسلون عن الملوك المتجبرين، وتزين بها الأئمة الهادون في عيون السلاطين المتكبرين، وقد قال تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) } [طه] ، وهذه الآية الشريفة اختص بالعمل بها وبأمثالها أهل البيت الطاهرون، وأئمتهم المطهرون.
تنزهوا عن الدنيا ولم يخامروها بشيء من الأشياء، واتخذوها بلغة إلى الآخرة ووصلة إليها؛ يعرف صحة ما قلناه من طالع أخبارهم، وعرف آثارهم، وتلمح أحوالهم، وفهم أقوالهم، وقد قدمنا في هذا ما فيه كفاية وزيادة.
الخصيصة الرابعة:
الورع عن المحرمات والمشتبهات: وهذه هي صفة أئمة العترة النبوية في تورعهم عن ملابسة الأحوال الدنيوية، ومجانبتهم لمن في يديه شيء منها؛ عملاً بقوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ} [هود:113] ، وهذه الفضيلة أعلى فضائل المتقين، وأشرف غلائل الزاهدين، وفيها الحديث المشهور: ((لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا، وصمتم حتى تكونوا كالأوتار، وتوفيتم بين الركن والمقام ما نفعكم ذلك إلا بالورع)) .
ومن أنصف عرف أن أئمة العترة هم المختصون بهذه الصفة دون غيرهم من علماء العامة وفقهاء الأمة، وهل الورع إلا مثل ما فعله القاسم بن إبراهيم عليه السلام في رده وقر سبعة أبغل ذهباً، على أن يبتدي عبدالله بن هارون الملقب بالمأمون بن الرشيد بكتاب أو يجيب له كتاباً؟ هذا هو محض الورع والزهد في الدنيا.
وكل أفعال أئمة العترة النبوية متصفة بالورع، فإنهم لو قبلوا الدنيا ممن هي في يده من ملوك بني أمية وبني العباس ما فعلوا بهم الأفاعيل المنكرة، والأمر فيهم كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في أبي ذر الغفاري حين أخرج إلى الربذة: (إن القوم خافوك على دنياهم ، وخفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، واهرب منهم بما خفتهم عليه؛ فما أحوجهم إلى ما منعتهم، وأغناك عما منعوك، فلو قبلت دنياهم لأحبوك، ولو قرضت منها لأمِنُوك).
وهذه هي صفة أئمة العترة النبوية مع الأموية والعباسية لو قبلوا دنياهم لأحبوهم، ولو قرضوا منها لأمنوهم؛ يعرف هذا كل منصف، ولا ينكره إلا كل متعسف.
الخصيصة الخامسة:
العلم، وهذه الفضيلة وإن شوركت أئمة العترة الطاهرة فيها، وضربت فقهاء الأمة فيها بنصيب؛ فإن علم أئمة العترة الطاهرة مختص بما لم يختص به علم فقهاء الأمة، لأنه مسند عن أب فأب إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، فعدالة نقلته وحملته مستيقنة متحقّقة لا ريب فيها، ولا شكّ يعتريها.
ومزية أخرى: وهي أن علمهم -عليهم السلام- مشفع بالعمل الصالح، والعلم حجة على صاحبه ما لم يكن وصلةً إلى العمل، وقد ورد (العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل).
ومعلوم لكل منصف أن أئمة العترة هم العاملون بعلومهم في الجهاد، ومنابذة أرباب الفساد، والزاهدون في الدنيا والمتباعدون عن أهلها، والمتورعون في مكاسبها، والمتنزهون عن مذاهبها، والمباينون لملوكها وأربابها، والعافّون نفوسهم عن شهواتها ولذاتها؛ فهم متجلببون بجلابيب الزهادة، ومنتصبون في محاريب العبادة، لم يذلوا على أبواب الملوك ، ويصغروا ما عظم الله من حرمة العلم بالتواضع والذل لأهل الدنيا الحقيرة، ويجعلوا العلم سُلّماً إلى الدنيا، وذريعة إلى نيلها، والتسلق إلى حطامها، والتوصل إلى زبرجها، هذه صفة علماء زمانهم إلا من عصم الله ، وهم بحمد الله على العكس من هذه الصفات في جميع أحوالهم وأقوالهم.
وقد قدمنا الإشارة إلى هذا المعنى في أماكن كثيرة من هذا الكتاب، ومن أراد الاطلاع عليها فليطالع أخبار العترة الطاهرة، وأئمتها الشموس الباهرة.
الخصيصة السادسة:
الفضل، وهو عبارة عن التوفر على الطاعات، والتحرز عن مواقعة المقبحات، والاستكثار من أنواع القرب، والاشتهار بذكر الله ما طلع نجم وغرب، وهذه صفة أئمة العترة النبوية، وقد ذكرنا أن منهم من صلى الفجر بوضوء العشاء الآخرة ستين سنة، وذكرنا ما كان عليه سلفهم الأطهار من عبادة الله تعالى آناء الليل وأطراف النهار.
وهذه الفضيلة وإن شوركوا فيها فإن لهم فيها المزايا الصالحة، والصفات الراجحة، لأنها مبنية على قواعد في الدين رصينة، وعليها من آفات الأديان درع من التقوى حصينة؛ لأن العبادة إذا خَلُصَت من شوائب الإحباط كانت مقبولة، وإذا تلطخت بمعاصي الاعتقاد كانت مردودة.
الخصيصة السابعة:
مهاجرتهم بأديانهم عن دار الفسق، ومخالطة الظلمة، ومؤانسة سلاطين الجور في الأمصار الكبار، فاختاروا الأنس بالوحوش في الفلوات صيانة لأديانهم، وعملاً بقوله تعالى : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:97] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء:100] .
وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((لا يحل لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير أو تنتقل)) وفي موانسة العصاة من الوعيد ما يعظم إيراده، ويكثر تعداده، وكفى بقوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ} [هود:113] ، وماذا فسر به الركون، وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ..إلى آخرها} [المجادلة:22] ، ومن تدبر أحوال أئمتنا -عليهم السلام-؛ عرف صحة ما قلناه والحمد لله، وهذه كتب السير والتواريخ مبسوطة لا يمكن أحد من خصومنا كتم ما فيها، ومن استقرأها علم أن أئمة العترة النبوية كانوا قذائف الفلوات، وأن فقهاء الأمة كانوا في أمصار أعداء الله أهل طمأنينة ودعة، منهم من تولى القضاء عن الظلمة، ومنهم من كان وزيراً ومعيناً وظهيراً وعضداً ونصيراً، وأفضلهم حالاً من أخذ من دنياهم قسماً، ولم يعنهم عدواناً وظلماً.
والفضيلة بمباينتهم وعدم إيناسهم ومساكنتهم كانت لأهل بيت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-؛ ففازوا بهذه الفضيلة، وتميزوا بهذه المنقبة الجليلة.
الخصيصة الثامنة:
ما اختص به أئمة العترة النبوية من أنواع البلاء في ذات الله وطاعته، وهذه الفضيلة وإن كانت قد دخلت في فضيلة الجهاد؛ فإن المراد هاهنا ما اختصوا به من شدة المحنة مع دعائهم إلى الجهاد، وسكون من سكن منهم لعدم القدرة عن مباينة أهل الغي والفساد، فهم مخصوصون بالبلاء العظيم في الحالين وموتورن بكل خطب جسيم على الوصفين، وكما وصفهم من قال: [السريع]
أمن النصارى واليهود وهم .... من ملة الإسلام في أزل
وتراهم والناس في دعة .... يتطامنون مخافة القتلِ
فمنهم أهل السموم، ومنهم أهل الحبوس، ومنهم المصلوب، ومنهم المقتول، ومنهم الخائف المترقب، ومنهم المشرد المترهب؛ فهم بين هذه الأوصاف بين قتيل وشريد، ومسموم وطريد، وخائف مستور، وبارز مطلوب، وهذه فضيلة عظيمة لم يشاركهم فيها أحد من علماء الأمة وفقهائها إلا من تظهر بموالاتهم، أو شُهر بمودتهم، كما يحكى عن أبي حنيفة والشافعي.
فأما أبو حنيفة فقيل إنه مات مسموماً فذهب شهيداً في حب أهل البيت -عليهم السلام-، وأما الشافعي فنالته نكبة من هارون حين أنكر نقضه لأمان يحيى بن عبدالله كما قدمناه آنفاً.
الخصيصة التاسعة:
اختصاصهم بأنهم أئمة الحق، والدعاة إلى إحياء دين الله بالقول الصدق؛ فهم خلفاء الله في أرضه، والقائمون بسنته وفرضه، وكل إمام لم يكن منهم فليس من إمامة الحق في شيء.
قال الإمام المنصور بالله عليه السلام في كتابه الشافي: الإجماع منعقد أن الإمام لا يكون إلا عدلاً، جامعاً لشرائط الإمامة وهي الخصال المعتبرة، وقال أيضاً: والإجماع منعقد على أن من ركب هذه القاذورات فإنه فاسق، والفاسق لا يستحق إمرة المؤمنين، وإنما الخلاف وقع بين الصحابة -رضي الله عنهم- وبين التابعين إلى يومنا هذا في عين الإمام لا في شرائطه، ومع اختلاف الصحابة في عين الإمام لم يختلفوا في طلب الأفضل للإمامة مع اختلافهم فيه، من هو؟
قال الإمام المنصور بالله عليه السلام: فلا نعلم راية تحت أديم السماء نسبة من تحتها أصحاب محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- إلا رايتنا هذه، لا يظهر في أهلها المنكرات، ولا تشرب معهم المسكرات، يأمرون بالمعروف الأكبر، وينهون عن الفحشاء والمنكر؛ فهذه فضيلة شريفة، ومرتبة عالية منيفة.
الخصيصة العاشرة:
اختصاصهم بنسب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وأنهم ذريته وعترته، والمرادون بقول الله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] ، وبقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي)) الحديث إلى آخره، وهذه فضيلة لم يُشاركوا فيها.
وقد ذكر صاحب (البرهان) الجويني في ترجيح مذهب الشافعي على غيره أنه من قريش، وهو وإن كان كذلك فأهل البيت أحق بالأولوية منه لقربهم من رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، وكونهم لحمته وعصبته، وأهله وعترته، قال الله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال:75] .
وذكر الشيخ أحمد بن محمد الرصاص في كتابه (الوسيط) في الترجيح بين الرواة؛ أن كون راوي الحديث من أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- وجهاً في ترجيحه، وقبوله، والعمل به.
فثبت بهذه الخصائص ترجيح مذهبهم على غيره من المذاهب، والحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه؛ على أن هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
[بحث عن الخلاف في تصويب آراء المجتهدين]
ونختم كتابنا هذا بذكر الخلاف في تصويب آراء المجتهدين:
اعلم أنا لا ننكر فضل الفقهاء وعلمهم وصلاحهم على كل حال، وإن كان الخلاف بيننا وبينهم شائعاً في الأصول والفروع؛ فأما الاختلاف في أصول الدين فالحق فيه مع واحد، ولا يجوز تصويب آراء المجتهدين في المسائل الكلامية القطعية.
وأما الاختلاف في مسائل الفروع، فقد اختلف الناس في هذه المسألة، هل كل مجتهد فيها مصيب؟ أم المصيب واحد؟ والمخطي معفو عنه؟ والخلاف مبني على أن لكل واقعة حكماً معيناً في نفس الأمر، أو لا بل يتعين باجتهاد المكلف واختياره؛ فإن لم يكن المصيب إلا واحداً أيكون كلهم مصيباً؟
قال الشافعي: ليس كل مجتهد مصيباً، وهو قول أبي العباس الحسني، ورواية بعض المتأخرين عن الناصر، وهو قول المؤيد بالله أولاً.
وقال الهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله وأبو حنيفة وأصحابه: إن كل مجتهد مصيب، وهو الذي نصره الإمام يحيى بن حمزة وقوّاه في كتبه الأصوليّة ، ونصّ العلماء أن المصيب في اجتهاده له أجران أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، والمخطئ له أجر واحد وهو أجر الاجتهاد، ولا يكون إثماً لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((من أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد)) .
ولا نقول كل قول حجّة، والقصد الإشارة إلى تصويب الآراء في المسائل الاجتهادية والمضطربات الشرعية، وإنما كلامنا في ترجيح الأَوْلى منها، وقد ذكرنا من فضائل العترة النبوية ما إذا نظر فيه الناظر، وأزال عن نفسه محبّة المراء والجدل، وأبان عنها علاقة الهوى والتعصب؛ علم صحة ما قلناه، وتحقق صواب ما اخترناه.
* * * * * * * * * * * *
ذكر في الأصل المنسوخ منه: وهذا حين الفراغ من هذا الكتاب المبارك عليه إن شاء الله تعالى، وأنا أسأل الله الذي لا إله إلا هو بحق ذاته العظمى وبحق أسمائه الحسنى وبحق ما سأله به نبيه محمد المصطفى أن يصلي عليه وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين وآل كلٍّ وسائر الصالحين، وأن ينفع بهذا الكتاب مؤلفه، ومن قرأه ونظر فيه، ويجعله من أرجح ما يوزن يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً ، ونصلي ونسلم على محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً طيباً مباركاً فيه، تاريخه في الأم كان العاشر من شهر المحرم سنة ثمان وثمانمائة سنة.