الكتاب : مسائل الشاك

[مسائل الشاك، وأجوبة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام عليها]
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ
الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى أخيه عليٍّ أمير المؤمنين، وعلى آلهما الطيبين الطاهرين.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي انْحَسَرَتِ الأَوْصَافُ عَنْ كُنْهِ مَعْرِفَتِهِ، وَرَدَعَتْ عَظَمَتُهُ الْعُقُولَ فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغاً إِلَى بُلُوغِ غَايَةِ مَلَكُوتِهِ، هُوَ اللَّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ، أَحَقُّ وَأَبْيَنُ مِمَّا تَرَى الْعُيُونُ، لَمْ تَبْلُغْهُ الْعُقُولُ بِتَحْدِيدٍ فَيَكُونَ مُشَبَّهاً، وَلَمْ تَقَعْ عَلَيْهِ الأَوْهَامُ بِتَقْدِيرٍ فَيَكُونَ مُمَثَّلاً).
(وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ؛ الأَوَّلُ لا شَيْءَ قَبْلَهُ، وَالآخِرُ لا غَايَةَ لَهُ، لا تَقَعُ الأَوْهَامُ لَهُ عَلَى صِفَةٍ، وَلا تُعْقَدُ (1)[1]) الْقُلُوبُ مِنْهُ عَلَى كَيْفِيَّةٍ، وَلا تَنَالُهُ التَّجْزِئَةُ وَالتَّبْعِيضُ، وَلا تُحِيطُ بِهِ الأَبْصَارُ وَالْقُلُوبُ).
__________
(1) ـ وفي شرح الشيخ محمد عبده (ولا تَقْعدُ) قال الشيخ في شرح لنهج البلاغة [102]: تقعد: مجاز عن استقرار حكمها، أي ليست له كيفية فتحكم بها. انتهى.

(1/1)


وأشهد أنَّ مُحَمَّدَاً عبدُهُ ورسولُهُ، وصفيُّه وخليلُُهُ، البشير النذير، والداعي إليه بإذنه والسراج المنير، (أَمِينُ وَحْيِهِ، وَخَاتَمُ رُسُلِهِ، وَبَشِيرُ رَحْمَتِهِ، وَنَذِيرُ نِقْمَتِهِ)، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، بَلَّغَ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأُمة، وجاهد في سبيل الله عز وجل، وعبد ربَّه تعالى حتى أتاه اليقين، صلَّى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، الذين أذهب اللَّهُ تعالى عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وفرض مودتهم على كافة الناس، سفن النجاة، وأمان أهل الأرض، من طولها والعرض على رغم أُنوف أولي النصب والرفض.

(1/2)


أمَّا بعد، فقد روى السيد الإمام عبدالله بن أحمد بن إبراهيم الشرفي عليهم السلام في كتاب المصابيح الساطعة الأنوار تفسير أهل البيت عليهم السلام [ط1/ج1/ص95/تحقيق السيد محمد بن قاسم الهاشمي، والسيد عبدالسلام الوجيه/ طبعة مكتبة التراث الإسلامي] مسائل الرجل الذي شَكَّ في كتاب الله تعالى، واشتبهت عليه الأمور، وظنَّ ـ لعدم استعماله عقلاً ينتفع به ـ أنَّ كتابَ الله عَزَّ وَجَلَّ يُكَذِّبُ بعضُهُ بعضَاً، ويَنْقُضُ بعضه بعضاً، ولا يُصَدِّقُ بعضُهُ بعضاً، فسأل عنها أميرَ المؤمنين، وسيِّدَ الوصيين، عليَّ بنَ أبي طالب عليهم السلام، فأجابه عليه السلام بأروع جواب، وأعظم بيان، تلكم الأجوبة الفريدة، والحكم البديعة المفيدة، التي فرج الله تعالى بها غَمَّ هذا السائل الذي شَكَّ في الكتاب العزيز، وكَشَفَ عنه هَمَّهُ، وشَرَحَ الله سبحانه بها صدرَهُ، ولا غرو في ذلك فهي نابعة من عباب العلوم، وباب مدينةِ علم الرسولِ الأمين، صلَّى الله تعالى عليه وعلى آله الطاهرين، الذي كان يقول: (سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن كتاب الله، وما من آية إلاَّ وأنا أعلم حيث نزلت بحضيض جبلٍ، أو سهلِ أرضٍ، وسلوني عن الفتن، فما من فتنةٍ إلاَّ وقد علمتُ كَبْشَهَا، ومن يقتل فيها) (1)[2]).
__________
(1) ـ انظر تخريج هذا الكلام العظيم لأمير المؤمنين عليه السلام في لوامع الأنوار للإمام الحجة مجدالدين المؤيدي أيده الله تعالى بتأييده، وأمده بموادِّ لطفه وتسديده [ط1/ج2/ص 539/ط2/ج2/ص600 ]، ففيه بحث رائع لا يفوت أهل البحث والتحقيق.

(1/3)


ولأهمية هذا العلم، وكونه دفاعاً عن كتاب الله تعالى المعظم، وتنْزيهه عن التناقض والتعارض، سعينا بجهدنا إلى إخراجها للنور، ففيها ـ إن شاء الله تعالى ـ فوائد وفرائد، من أنواع الفنون، تقرّ بها العيون ، ويرتاح لها الراغبون، وتحقق لهم إن شاء الله تعالى ما يرجون؛ ولكنه لايجل نفعها، ويعظم وقعها، إلاَّ عند ذوي الاختبار، المليين بالإيراد والإصدار، والقصد بفضل الله تعالى التقرب إليه عز وجل بتقريب الفائدة للطالبين، وتحصيل الثمرة العائدة على الراغبين؛ سائلاً لمن وقف عليه من إخواني المؤمنين، والعلماء العاملين، صالح الدعوات المباركات، في المحيا والممات؛ لاسيما بالسداد والثبات، والعفو والمغفرة من رب البريات (1)[3]).
[نصُّ رواية السيد الإمام عبدالله بن أحمد بن إبراهيم الشرفي عليهم السلام في تفسير المصابيح لمسائل الشاك]
قال عليه السلام: ومن المتشابه مسائلُ الشاك(2)[4]) حين سألَ أميرَ المؤمنين عليَّ بنَ أبي طالبٍ كرم الله وجهَهُ في الجنة، التي رواها محمد بن إسحاق الكوفي الأنصاري من طريقين:
إحداهما: عن أبي معشر السعدي(3)[5])، وقد كان أدْرَكَ علياً عليه السلام.
__________
(1) ـ اقتطفنا هذا الكلام الرائع من كلام مولانا المجدد للدين الإمام الحجة مجدالدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى في مقدمة لوامع الأنوار.
(2) ـ مسائل الشاك متداولة معروفة، قد رواها غير واحد بسند متصل، منهم المؤلف رواها عن الإمام القاسم بن محمد، والعلامة الطبرسي في كتاب الإحتجاج. انتهى من حواشي تفسير المصابيح.
(3) ـ أبو معشر السندي وليس السعدي : هو نجيح بن عبد الرحمن السندي أبو معشر المدني مولى بني هاشم قيل توفي سنة 170هـ قال في تهذيب الكمال: رأى أبا أمامة بن سهل بن حنيف، وله رؤية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، انظر تهذيب الكمال 29/322. انتهى من حواشي تفسير المصابيح.

(1/4)


والأخرى: عن أبي إسحاق (1)[6])، عن الحارث (2)[7]) عن عليٍّ عليه السلام، قال:
أتى رجلٌ علياً عليه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين إني شككتُ في كتابِ الله الْمُنْزَلِ.
فقال له علي: (ثكلتك أُمُّكَ! وكيفَ شككتَ في كتاب الله الْمُنْزَلِ؟!).
__________
(1) ـ أبو إسحاق السبيعي: عمرو بن عبد الله بن علي، الحافظ الكبير من أكثر الناس ولاء لأهل البيت توفي رحمه الله سنة 127هـ وقيل: سنة 128هـ عده الحافظ ابو عبدالله العلوي فيمن روى عن الإمام زيد بن علي عليه السلام من التابعين، وقال المزي: كان رحمه الله من العلماء العاملين، ومن جلة التابعين ، انظر معجم رجال الإعتبار وسلوة العارفين. انتهى من حواشي تفسير المصابيح.
(2) ـ هو الحارث بن عبدالله الهمداني ، أبو زهير الكوفي، الأعور، المتوفى سنة خمس وستين. قال السيد صارم الدين: كان أفقه الناس، وأفرض الناس، وأحسب الناس، وقد نال منه طائفة، وقد بسط في الطبقات وعلوم الحديث مانالوه به.
قال في الطبقات : وذكره السيد صارم الدين، وابن حابس، وابن حميد في التوضيح، في ثقات محدثي الشيعة، إلى قوله: وقال السيد أحمد بن عبدالله الوزير : لايمتري أهل البيت (ع) في عدالة الحارث وجلالته وفضله.
وقال غيره: هو صاحب علي (ع)، وأحد شيعته.
وفيها: قال القاضي عياض : أُسيء الظن بالحارث، لما عرف من حاله التشيع. إلخ كلامه.
وقد جرحوا جماً غفيراً، وعدداً كثيراً، من التابعين، وتابعي التابعين، من عهد أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، فمن بعده من الأئمة السابقين - صلوات الله عليهم -؛ ولا ذنب لهم، إلاَّ متابعة أئمة الحق، وموالاة من افترض اللَّه تعالى ولايتهم على الخلق؛ انتهى من لوامع الأنوار للإمام الحجة مجدالدين المؤيدي أيده الله تعالى [ط1/ج1/ص187/ ط2/ج1/ص250].
قال الذهبي: حديث الحارث في السنن الأربع، والنسائي رغم تعنته في الرجال قد احتج به، وقوى أمره. انتهى من حواشي تفسير المصابيح.

(1/5)


فقال الرجل: إنِّي وجدتُ الكتابَ يُكَذِّبُ بعضه بعضاً، ويَنْقُضُ بعضه بعضاً، ولا يُصَدِّقُ بعضُهُ بعضاً، وكيف لا أشكُّ فيما تسمعُ يا أمير المؤمنين؟!.
فقال له علي عليه السلام:(إنَّ كتابَ الله يُصَدِّقُ بعضُهُ بعضاً، ولا يَنْقُضُ بعضُهُ بعضاً، ولا يُكَذِّبُ بعضُهُ بعضاً، ولكنَّكَ لَمْ تَسْتَعْمِلْ عَقْلاً تَنْتَفِعُ بِهِ، فهاتِ الذي شككتَ فيه).
فقال: إنِّي أَجِدُ الله يقولُ في كتابه ((فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا)) [الأعراف:51]، ويقول((نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ))[التوبة:67]، ويقول((وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا))[ سورة مريم:64]، فمرةً يَنْسَى، ومَرةً لا يَنْسَى، فأيُّ ذلك يا أميرَ المؤمنين؟، وكيف لا أشكُّ فيما تَسْمَعُ؟.
فقال له علي عليه السلام:(ويحكَ! هاتِ ما شككتَ فيه).
فقال: وأجد الله يقول: ((يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا))[النبأ:38]، ويقول عن مقالتهم: ((وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)) [الأنعام:23]، أفصواب ذلك؟ ويقول: ((يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا)) [العنكبوت:25]، ويقول: ((إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ)) [ص:64]، ويقول: ((لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ))، ويقول: ((الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )) [يس:65]، فمرة يتكلمون ومرة لا يتكلمون، ومرة تنطق الجلود والأيدي والأرجل، ومرة لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا؟ ومرة يقول عن مقالتهم: ((وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)) [الأنعام:23]، فمرة يختصمون، ومرة لا يختصمون، فأي ذلك يا أمير المؤمنين؟ وكيف لا أشك فيما تسمع؟!.

(1/6)


فقال له علي عليه السلام(هات ويحك ما شككت فيه).
قال: وأجد الله يقول: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) [القيامه:23]، ويقول: ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ)) [الأنعام:103]، ويقول: ((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى )) [النجم:23ـ25] ويقول: ((يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا))[طه:109ـ110]، ومن أدركته الأبصارُ أحاطتْ به عِلْمَاً، فأيّ ذلك يا أمير المؤمنين؟! وكيف لا أشكُّ فيما تسمع؟.
فقال له علي عليه السلام: (سبوحاً قدوساً ربنا تبارك وتعالى، هات ويحك ما شككت فيه).
قال: أجد الله يقول: ((وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)) [الشورى:51] وقال: ((وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَىتَكْلِيمًا)) [النساء:164] وقال: ((وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى)) [الشعراء:10]، وقال: ((وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا)) [الأعراف:22]، وقال: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ)) [الأنفال:64]، ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ)) [المائده:41]، ((وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ))[الأعراف:19] و((يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ)) [ص:75]، فأي ذلك يا أمير المؤمنين؟ وكيف لا أشك فيما تسمع؟.
فقال له علي رحمة الله عليه: (هات ويحك ما شككتَ فيه).

(1/7)


قال: وأجد الله يقول: ((هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)) [مريم:65]، وسمي الإنسان سميعا بصيرا، وملكا وربا، فمرة يقول: ليس له سمي، ومرة يقول: أسماء كثيرة غير واحدة، فأي ذلك يا أمير المؤمنين تقول؟! وكيف لا أشكُّ فيما تسمع؟.
فقال له علي عليه السلام:(هات ويحك ما شككتَ فيه).
قال: وأجد الله يقول: ((لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ)) [سبأ:30]، ويقول: ((وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ)) [آل عمران:77]، ومن لا ينظر إليهم عزب عنه، ومن حجب عنه عزب عنه، فأي ذلك يا أمير المؤمنين تقول؟ وكيف لا أشكُّ فيما تسمع؟.
فقال [له علي] رحمة الله عليه: (هات ويحك ما شككتَ فيه).
قال: وأجد الله يقول: ((أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ)) [الملك:16]، وقال: ((هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ)) [الحديد:3]، وقال: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ)) [الحديد:4]، وقال: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ)) [ق:16]، وقال: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ)) [الواقعة:85]، وقال: ((مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا)) [المجادله:7]، وقال: ((إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)) [الفجر:16]، وقال: ((إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) [هود:56]، فأي ذلك يا أمير المؤمنين؟ وكيف لا أشكُّ فيما تسمع؟
فقال له علي رحمة الله عليه: (سبوحا قدوسا تبارك الله تعالى هات ويحك ما شككتَ فيه).

(1/8)


قال: وأجد الله يقول: ((وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)) [الفجر:22]، وقال: ((وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)) [الأنعام:94]، وقال: ((هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ)) [الأنعم:103]، يقول مرة: ((جَاء رَبُّكَ)) ومرة يقول: ((جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)) ومرة ((يَأْتِيَ رَبُّكَ)) ومرة ((يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ)) فأيّ ذلك يا أمير المؤمنين؟! وكيف لا أشكُّ فيما تسمعُ؟.
فقال له علي عليه السلام: (سبوحاً قدوساً ربنا تبارك وتعالى وتقدس، هات ويحك ما شككتَ فيه).
قال: وأجد الله يقول: ((بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ)) [السجده:10]، وذكر أمر المؤمنين فقال: ((الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)) [البقره:46]، ويقول: ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ)) [الأنعام:103]، ويقول: ((وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)) [طه:110]، وقال في المنافقين: ((فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ)) [التوبه:77]، وقال: ((مَن كَانَ يَرْجُوِلقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ)) [العنكبوت:5]، فيقول مرة: ((يَلْقَوْنَه)) ومرة ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)) ومرة ((وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)) فأيّ ذلك يا أمير المؤمنين؟! وكيف لا أشكُّ فيما تسمع؟.
فقال له علي عليه السلام:(سبوحاً قدوساً ربنا تبارك وتعالى وتقدس، هات ويحك أيضاً ما شككتَ فيه).

(1/9)


قال: وأجد الله يقول: ((وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا)) [الكهف:53]، وقال: ((يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ)) وقال: ((وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)) [الأحزاب:10]، فمرة يظنون ومرة يعلمون، والظن الشك، فأي ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع؟.
فقال علي رحمة الله عليه(هات ويحك ما شككتَ فيه).
قال: وأجد الله يقول: ((وَنَضَعُ الْمَوَازِين الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)) [الأنبياء:47]، ويقول: ((فَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ)) [القارعة:8]، وقال: ((وأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ)) [القارعة:6]، وقال: ((فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا)) [الكهف:105]، وقال: ((فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ)) [غافر:40]، فمرة تقام الموازين، ومرة لا يقيم لهم يوم القيامة وزنا، ومرة يحاسبون، ومرة لا يحاسبون، فأي ذلك يا أمير المؤمنين؟ وكيف لا أشك فيما تسمع؟.
فقال له علي رحمة الله عليه:"هات ويحك أيضا ما شككت فيه".

(1/10)


قال: وأجد الله يقول: ((قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ)) [السجده:11]، وقال: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)) [الزمر:42]، وقال: ((الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ)) [النساء:97]، وقال: ((تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ)) [الأنعام:61]، وقال: ((الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ)) [النحل:32]، فمرة يقول: ((يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ)) ومرة يقول: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)) ومرة يقول: ((تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ)) وقال: ((الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ)) ومرة يقول: ((الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ)) فأي ذلك يا أمير المؤمنين؟ وكيف لا أشكُّ فيما تسمعُ؟ فقد هلكتُ إن لَم يرحمني ربي، ويشرحْ لي صدري بما عسى أن يُجْريَهُ على يديك، فإن لَم يكن ذلك وكان الربُّ حقاً والرسلُ حقاً، لقد خبتُ وخسرتُ، وإن يكنِ الكتابُ باطلاً، والرسلُ باطلاً، وما وعدوا وأوعدوا، فَمَا عَلَيَّ من بأسٍ، فقد نجوتُ.
فقال علي رحمة الله عليه:(هات ويحك ما شككتَ فيه).
قال: حسبي ما ذكرتُ لك، فإن يكن عندك علمٌ فهاته، لعل الله يرزقني على يديك خيراً، وإن يكن سوى ذلك فما من ربٍّ ولا رسولٍ ولا ثوابٍ ولا عقابٍ.
فقال له علي عليه السلام: (سبوحاً قدوساً ربنا تبارك وتقدس، ونشهد أنَّه الحقُّ الدائمُ الذي لا شريك له ولاشيء مثله، وأن الكتاب والرسل حق عليهم السلام والثواب والعقاب حق، ولكنا سنعلمك ما شككت فيه، ولا قوة إلا بالله وصلى الله على محمد وعلى النبيئين وعليهم السلام ورحمة الله.

(1/11)


أما قوله عز وجل: ((نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ)) فإنما يعني بالنسيان أنهم نسوا الله في دار الدنيا، فلم يعملوا له بالطاعة ولم يؤمنوا به وبرسوله فنسيهم في الآخرة فلم يجعل في ثوابه نصيبا فصاروا منسيين من الخير فذلك تفسير قوله: ((الْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا)) يعني لا يثيبهم كما يثيب أولياءه الذين كانوا في دار الدنيا ذاكرين حين آمنوا به وبرسوله وخافوه بالغيب وأبروه ورسوله.
وأما قوله تعالى: ((وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا)) ولا يغفل تبارك وتعالى وتقدس وهو الحفيظ العليم ((أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)) [الملك:14] وقد تقول العرب للملك والسيد: نسيتنا فلا تذكرنا، يعنون أنه لا يأتينا منك خير، أفهمت ما ذكرت لك؟ قال: نعم فرجتَ عني غماً، وكشفتَ عني بعضَ ما بي، وحللتَ عني عُقْدَةً، فكشفَ اللَّهُ هَمَّكَ، وأَعْظَمَ أَمْرَكَ يا أميرَ المؤمنين.

(1/12)


قال: وأما قوله تعالى: ((يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا)) وقوله حين استنطقوا: ((وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)) وقوله: ((ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا)) وقوله: ((إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ)) وقوله: ((لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ)) وقوله: ((الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ))، فإنَّ ذلك ليس في موطنٍ واحدٍ بل في مواطنَ في ذلك اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة مما يعدون، فيجمع الله الخلائقَ في ذلك اليومِ في موطنٍ فيتعارفون فيه، ويكلم بعضُهُم بعضاً، ويستغفرُ بعضُهُم لبعضٍ، أولئك الذين بدت منهم الطاعة من الرسل والأتباع، وتعانوا على البر والتقوى في دار الدنيا، ويلعن أهل المعاصي بعضهم بعضا الذين بدت منهم المعاصي وتعاونوا على الظلم والعدوان في دار الدنيا المستكبرين والمستضعفين يلعن بعضهم بعضا، ويكفر بعضهم ببعض، والكفر في هذه الآية براءة يقول تبرأ بعضهم من بعض، ونظيرها قول إبراهيم صلى الله عليه وعلى محمد وآله المرسلين حيث قال لأبيه وقومه: ((كَفَرْنَا بِكُمْ )) [الممتحنه:4] يقول: تبرأنا منكم، ونظيرها قول الشيطان حين قال: ((كَفَرْتُ بِمَاأَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ)) [إبراهيم:22] يقول: برئت مما أشركتموني من قبل، ثم يجمعون في موطن آخر يفر بعضهم من بعض، فذلك قوله عز وجل: ((يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ)) [عبس:25] أن تعاونوا على الظلم والعدوان في دار الدنيا ((لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)) ثم يجمعون في موطن يبكون فيه، فلو أن تلك الأصوات بدت لأهل الدنيا لأذهلت جميع الخلق عن معاشهم، ولتصدعت

(1/13)


الجبال إلا ما شاء الله، ولا يزالون كذلك حتى يبكون الدم ثم يجمعون في موطن يستنطقون فيه فيقولون: ((وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)) ولا يقرون بما عملوا فيختم الله على أفواههم وتستنطق الأيدي والأرجل والجلود فتشهد بكل معصية بدت منهم، ثم يرفع الخاتم عن ألسنتهم، فينطقون فيقولون لجلودهم وأيديهم وأرجلهم لم شهدتم علينا؟ فتنطق فتقول: ((أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ)) [فصلت:21] ثم يجمعون في موطن يستنطق فيه جميع الخلائق فلا يتكلم أحد ((إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا)) فيقام الرسل صلوات الله عليهم فتسأل، فذلك قوله لمحمد صلوات الله عليه وعلى آله وسلم ((فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا)) [النساء:41] والشهداء هم الرسل على محمد وآله وعلى الرسل السلام، ثم يجمعون في موطن يكون فيه محمد المحمود على محمد وآله السلام، فيقوم فيثني على ربه جل ثناؤه، وتباركت أسماؤه وحسن بلاؤه ما لم يثن أحد قبله لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا غير مرسل ولا يثني أحد مثله بعده بمثله، ثم يثني على ملائكة الله عليهم السلام، ولا يبقى ملك مقرب إلاَّ أثنى عليه محمد ما لم يثن عليه أحد قبله ولا يثني عليه أحد بعده بمثله، ثم يبدأ بالصديقين والشهداء ثم الصالحين، فيحمده أهل السماء والأرض فذلك قوله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم : ((عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا)) [الإسراء:79] فطوبى لمن كان له في ذلك اليوم حظ ونصيب، وويل لمن لم يكن له في ذلك اليوم حظ ولا نصيب.

(1/14)


ثم يجمعون في موطن يجتمعون فيه، ويدان لبعض الخلق من بعض وهو القصاص، وذلك قبل الحساب، فإذا أخذوا للحساب شغل كل بما لديه فنسأل الله بركة ذلك اليوم، أفهمت ما ذكرت لك؟ قال: نعم فرجت عني غما فرج الله عنك كل هم وغم، وحللت عني عقدة فعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين.
قال: وأما قوله: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) وقوله: ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)) وقوله: ((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً)) وقوله: ((يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا)) وقوله: ((يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)).

(1/15)


أما قوله: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) فإن ذلك في موطن ينتهي بأولياء الله إلى نهر يقال له الحيوان بعد ما يفرغ من الحساب فيغتسلون فيه ويشربون منه فتنضر وجوههم وهو الإشراق، ويذهب عنهم كل قذى فينظرون إلى ربهم متي يأذن لهم في دخول الجنة، ومنه يدخلون الجنة، وذلك قول الله حين أخبر عن تسليم الملائكة حيث يستقبلونهم في ذلك الموطن: ((سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)) حيث يذهب عنهم كل قذى، وأيقنوا بالجنة، ولا يعني بالنظر الرؤية لأن الأبصار لا تدركه وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير، وذلك مدحة امتدح بها ربنا تبارك وتعالى وتقدس فأحق من لا تنقطع مدحته في الدنيا ولا في الآخرة الله رب العالمين(1)[8]).
__________
(1) ـ وفي كتاب شرح الأحكام للشيخ علي بن بلال رحمه الله تعالى أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام قال في قوله تعالى ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)): ينتهي بأولياء الله إلى نهر يسمى الحيوان، فتنضر وجوههم وهو الإشراق، فينظرون إلى ربِّهم متى يأذن لهم في دخول الجنة، ولا يعني الرؤية؛ لأنَّ الأبصار لا تدركه كما قال ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ))، وذلك مدحة امتدح بها تبارك وتعالى، فأحقّ من لا تنقطع مدحته في الدنيا والآخرة: اللَّهُ رَبُّ العالمين) انتهى من كتاب إعلام الأعلام بأدلة الأحكام [ط1/ص27].

(1/16)


وقد قال موسى نبي الله على محمد وعلى موسى السلام: ((رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي)) [الأعراف:143] فأبدى ربنا تبارك وتقدس بعض آياته فتقطع الجبل وصار رميما، وخر موسى صعقا، يعني ميتا فتاب وأحياه الله ومنه: ((سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)) [الأعراف:146] بأنك لاتُرَى وإنما يعني أول المؤمنين من أمته، وقد سأل قوم موسى فقالوا: ((أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ)) [النساء:153] ومن سأله أو ظنه ظنا فخرج من الدنيا على ذلك فقد بريء من دين الله، إن الله تبارك وتعالى وتقدس لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، ولا ينبغي أن تنقطع مدحته، وكذلك لا تأخذه سنة ولا نوم، وكذلك قال: ((وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ)) [الأنعام:14]، وكذلك قال: ((مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا)) [الجن:3] وقال: ((وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ)) [الإسراء:111] مع ما ذكر من مدحته ولا يسع أحدا أن يشك في مدحته في الدنيا والآخرة.

(1/17)


وأما قوله: ((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى)) فإنما يعني محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أنه رأى جبريل عليه السلام عند سدرة المنتهى التي لا يجاوزها خلق من خلق الله، فرأى محمد صلى الله عليه وآله وسلم جبريل عليه السلام في صورته هذه المرة، وقبلها مرة أخرى فذلك قوله سبحانه: ((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى))(1)[9])، وقد أعلم في آخر الآية أنَّه رأى غير ربِّه، حيث يقول: ((مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى)) [النجم:17ـ18]، وذلك أن خلق جبريل عليه السلام آية عظيمة هو من الروحانيين الذين لا يعلم خلقهم وصورهم إلا الله رب العالمين.
وذكر عليٌّ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((رأيت جبريل في صورة له ستة أجنحة جناحان ارتداهما وجناحان تزين بهما وجناح خارج في المشرق في الهواء، وجناح في المغرب في الهواء، قد ملأ الآفاق كلها)) سبحان الله وتعالى وجل ثناؤه.
__________
(1) ـ النجم: 23 ـ 25 تخريج الحديث في تفسير {ولقد رآه نزلة أخرى} أخرجه ابن حبان في صحيحه، انظر الإحسان: 255: رقم 59 عن ابن مسعود في تفسير الآيات قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبريل في جلة من ياقوت قد ملأ بين السماء والأرض ) وأخرجه أحمد 1/394، 418، والترمذي 3283 في تفسير سورة الجن، وابن خزيمة في التوحيد ص 204 والبيهقي في الأسماء والصفات ص 434، والحاكم 4/468، 469، وصححه، وأقره الذهبي والطيالسي 323 والسيوطي في الدر المنثور 6/123، وأخرج مسلم عن ابن مسعود قال: رأى جبريل عليه السلام له ست ( ستة ) جناح وهكذا في البخاري في تفسير {فكان قاب قوسين أو أدنى} رقم 4856، والترمذي 3277، وغيرهم وله شواهد كثيرة، وفي مجمع البيان للطبرسي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى جبريل مرتين مرة في الأرض، ومرة في السماء، أما في الأرض ففي الأفق الأعلى.

(1/18)


وأما قوله: ((لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا)) وقوله: ((يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)) فأما ما بين أيديهم فأمر الآخرة، وأما ما خلفهم فأمر الدنيا ((وَلا يُحِيطُونَ بِهِ)) فلا تحيط الخلائق بالله علما هيهات هيهات، جعل على أبصار القلوب عن الغطاء فلا وهم يناله، ولاقلب ينعته ولا يخطر على بال، ولا يعرف إلا بالآيات والسلطان والقدرة و الجلال والعظمة كما وصف نفسه في القرآن ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى:11] و((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)) [الأنعام:103] ((الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ)) ((الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى)) خلق الأشياء كلها فليس شيء من ما يشاء الإله تبارك وتعالى وتقدس، أفهمت ما ذكرت لك؟ قال: نعم، فرجت عني فرج الله عنك كل غم وحللت عني عقدة فعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين.
قال: وأما قوله: ((وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء))[الشورى:105] وقوله: ((وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)) وقوله: ((وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا)) [الاعراف:22]، وقوله: ((وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى)) [الشعراء:10] وقوله: ((يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)) [البقره:35] وقوله: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ)) [المائده:41] و((يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ)) [ص:75].

(1/19)


أما قوله:((وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)) [الشورى:51]، فهو كما قال الله، وليس بكائن وراء حجاب، وقد يرسل الرسول بوحي منه إلى رسل السماء، فتبلغ رسل السماء رسل الأرض، فيتفهمه رسل الأرض من دون مشافهة رسل السماء، وقد يخلق الكلام بينه وبين رسل السماء من غير مشافهة رسل السماء لأحد من خلقه، وقد قال نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم لجبريل عليه السلام: (كيف تأخذ الوحي من رب العالمين؟ قال: آخذه من إسرافيل، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من أين يأخذ اسرافيل؟ قال: يأخذه من ملك فوقه من الروحانيين. فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من أين يأخذه ذلك الملك؟ فقال: يقذف في قلبه قذفا، فهو كلام الله) (1)[10]) فكيف ما وصفت لك من كلام الله، فإن كلام الله ليس بنحو واحد، ولا يجري على نحو واحد منه ما يجيء في المنام، وذلك قول إبراهيم عليه السلام حيث قال: ((يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى)) [الصافات:102]، ومنه ما قال
__________
(1) 10]) ـ الحديث أخرجه الإمام الهادي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كتاب مسائل الرازي مخطوط، وعنه الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام في كتاب حقائق المعرفة (خ) ونص الحديث وقد سأله الرازي: كيف يأخذ جبريل الوحي من الله؟ وكيف يعلمه؟ وكيف السبيل فيه حتى يفهمه؟ فقال عليه السلام: اعلم هداك الله أن القول فيه عندنا كما روي فيه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه سأل جبريل عليه السلام عن ذلك فقال: آخذه من ملك فوقي، ويأخذه الملك من ملك فوقه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : كيف يأخذه ذلك الملك ويعلمه؟ فقال جبريل عليه السلام: يلقى في قلبه إلقاء، ويلهمه إلهاما) انظر حقائق المعرفة خ.

(1/20)


الله تبارك وتعالى: ((لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَالْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ)) [الفتح:27]، ومنه ما قاله الله لمحمد أيضا: ((وَمَاجَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَة)) [الإسراء:60]، ومنه ما يبلغ رسل السماء رسل الأرض، ومنه ما يقذف في قلب الملك قذفا، وذلك ما قال جبريل عليه السلام لنبي الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما قذف الله في قلب الملك الذي فوق اسرافيل، أفهمت ما ذكرت لك، قال: نعم فرجت عني غما فرج الله عنك كل غم يا أمير المؤمنين.
وأمَّا قوله: ((هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)) [سورة مريم:65]، فلا سمي له يعني لا مثل له، فإياك أن تقيس شيئا من كتاب الله برأيك حتى.... من العلماء، فإنَّه رُبَّ تَنْزِيْلٍ يُشْبِهُ كلامَ البشر، وفعلَ البشر، وتأويلُهُ لا يشبه كلام البشر، ولا فعل البشر، كما أنَّه ليس كمثله شييء من خلق، كذلك لاشيئ يشبهه من فعله ولا كلامه أفاعيل البشر ولا كلامهم أفهمتَ ما ذكرتُ؟ قال: نعم.
وأما قوله: ((لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ)) [سبأ:34]، وقوله لأهل النار: ((وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ)) [آل عمران:77]، فكذلك، وكيف يعزب عن من خلق، ((وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)) [الانعام:103]، وهو الشاهد لكل شيء تبارك وتعالى وتقدس.
وأما قوله: ((لاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ)) فإنما يعني بذلك لا يرحمهم ولا ينظر إليهم بخير، تقول العرب للرجل البر أو الملك: والله ما ينظر إلينا، يعنون إنك لا تصيبنا بخير فكذلك النظر من الله إلى خلقه في هاتين الآيتين ثواب أو عقاب، أفهمت ما ذكرت لك؟ قال: نعم.

(1/21)


وأما قوله: ((إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ))[المطففين:15]، فإنما يعني أنهم عن ثواب ربهم وكرامته محرومون.
وأما قوله: ((أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ)) [الملك:16]، وقوله: ((هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ))[الحديد:3]، وقوله: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طه:5]، وقوله: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ)) وقوله: ((مَا يَكُون مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) [المجادلة:7]، وقوله: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) [ق:16]، وقوله: ((إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)) [الفجر:14]، وقوله: ((إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) [هود:56]، فكذلك الله تبارك وتعالى وتقدس من غير أن يكون ما سمى من كينونيته في خلقه ومع خلقه وعلى خلقه وفوق خلقه يجري ذلك منه على نحو ما يجري من المخلوقين وهو اللطيف وأعظم وأجل وأكبر من أن ينزل به شيء مما ينزل بخلقه هو الشاهد لكل شيء والوكيل على كل شيء، والمنشيء لكل شيء، والمدبر للأشياء كلها بلا علاج، ولا يفكر ولا حدث عليه ولامؤنة تعينه سبحانه وبحمده تبارك وتعالى وتقدس، فإذا جال شيء في صدرك من عظمة الله مما في القرآن من كينونته في الخلق ومع الخلق وفوق الخلق، وعلى الخلق، وتفكر في ديمومة الله وعظمته، ووسوست نفسك بشيء فقل: لا إله إلا الله فإن ذلك من وساوس الشيطان، وتفكر في ديمومة الله قبل أن يخلق خلقا سماء ولا أرضا، ولا عرشا ولا هواء، ولا شيئا من السماء والأرض فتنظر أنه الدائم الذي لا إحصاء لديمومته، وليس مع شيء، وذلك أنه الأول ابتدأ الأشياء لامن شيء فكذلك الله فعند ما خلق

(1/22)


من الخلق كذا كان قبل أن يخلق الخلق ولم يتحول، ولا يحول ولا يأفل مع الآفلين فلا تجري عليه زيادة ولا نقصان، ولا يدرك ولا يعرف إلا بالديمومة، والأنات والسلطان والقدرة دائما سرمدا أبدا لا إحصاء لديمومته تبارك وتعالى وتقدس، ولا زوال، ابتدأ خلقه على غير مثال، وذلك أنه الأول فلا شيء معه، وخلق الأشياء لامن شيء.
وأما قوله: ((إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)) [الفجر:14]، فإنما يعني أن ربك قادر أن يجزي أهل المعاصي جزاءهم، وهو فاعل ذلك، وقد تقول العرب للعبد أولمن يأمرونه فيستعصي: إنا لك بالمرصاد، يعنون إنا قادرون على جزائك، ونحن فاعلون ذلك.
وأمَّا قوله: ((إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) [هود:56]، فإنما يعني أنه حق يجزي بالإحسان إحسانا والسيء سيئا، ويغفر لمن يشاء سبحانه وتعالى وتقدس أفهمت ما ذكرت لك؟ قال: نعم.

(1/23)


وأما قوله: ((وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)) [الفجر:22]، وقوله: ((وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)) [الأنعام:94] وقوله: ((هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ)) [البقره:210]، وقوله: ((إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ)) [الأنعام:158]، فذلك حق كما قال الله سبحانه، وليس جيئته كجيئة الخلق، وقد أعلمتك أنه رُبَّ شيء من كتاب الله تأويله غير تنزيله، ولا يشبه تأويله كلام البشر، ولا فعل البشر، وسأنبئك بطرف منه تكتفي به إن شاء الله تعالى، من قول إبراهيم عليه السلام حين قال: ((إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ)) [الصافات:99]، فذهابه إلى ربه توجهه وعبادته واجتهاده وقراره إلى ربه، إلا أن تأويله غير تنزيله، وقال: ((أَنزَلَ لَكُم مِّنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ)) [الزمر:6]، وقال: ((وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ)) [الحديد:25]، فسماه إنزالا، وإنزاله الأنعام خلقه إياها، ألا ترى أن تأويله غير تنزيله.
وقال موسى ـ على محمد وموسى السلام ـ حين سقى لابنتي شعيب عليه السلام قال الله: ((فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)) [القصص:24]، لما رزقتني من خير فقير.

(1/24)


وأما قوله: ((هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ)) [الأنعام:158]، فإنما تخير محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عن المنافقين والمشركين الذين لم يستجيبوا لي ولرسولي ((أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ)) معنى إتيانه: العذاب في دار الدنيا كما عذب القرون الأولى فهذا خبر يخبر نبيه عليه السلام، ثم قال: ((أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ)) أن تجيء هذه الآيات، وذلك قبل طلوع الشمس من المغرب، وإنما يكتفي ذووا الألباب والحجج، أو أولوا النهي أن يعلموا من قول الله ((وَجَاء رَبُّكَ)) ((وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)) [الأنعام:94] أنه يكشف الغطاء، فترى ما وعدوا وأوعدوا وقال في آية أخرى: ((فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا)) [الحشر:2]، يعني بذلك أنه أرسل عليهم عذابا فذلك إياهم، وقال: ((فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ)) [النحل:26]، فإتيانه البنيان من القواعد إرساله العذاب عليهم، وقد قال فيما أنزل: ((أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا)) [الرعد:41]، يعني بذلك ما يهلك من القرون، وكذلك ما وصف من أمر الآخرة، تبارك وتعالى وتقدس، وتجري أموره في ذلك اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة، كما تجري أموره في الدنيا، لا يتعب ولا ينصب ولا يأفل مع الآفلين، فاكتف بما وصفت لك من ذلك مما تخيل في صدرك مما أنزل الله في كتابه وتسمى به من أفاعيله.
واعلم أن تأويل أفاعيله غير ما وجه لفعل البشر، لأنه لا ينزل به ما ينزل بالبشر أفهمت جميع ما ذكرت لك من جميع مافي كتاب الله مما تنزيله على نحو من كلام البشر هو أعظم وأجل، وأعز وأكبر جل ثناؤه من أن يكون كذلك وتعالى وتقدس.

(1/25)


وقال: ((قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)) [التوبه:130ـ المنافقون:14]، يقول: لعنهم الله فسمى اللعنة قتالا، وقال: ((قُتِلَ الإِنسَان ُمَا أَكْفَرَهُ)) [عبس:17]، يقول: لعن الإنسان ما أقل شكره، وقال لنبيئه صلى الله عليه وآله وسلم: ((فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى)) [الأنفال:17]، فسمى فعل النبي، وفعل المؤمنين فعلا منه ألا ترى أن تأويله غير تنزيله.
وقال: ((بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ)) [السجده:10]، وذكر المؤمنين فقال: ((الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)) [البقره:46]، وقال: ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)) وقال للمنافقين: ((فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ)) [التوبه:77]، وقال: ((فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)) [الكهف:110].

(1/26)


أما قوله: ((الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الآخِرَةِ)) [المؤمنون:33]، يقول: هم بالبعث هم كافرون، فسماه لقاء، وكذلك ذكر المؤمنين فقال: ((يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ)) [البقره:46]، يقول: يوقنون أنهم مبعوثون، والظن منهم يقين، وكذلك ((فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء)) يقول: من كان يوقن أنه مبعوث ومحاسب ومجزي فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا، وقال: ((مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) [العنكبوت:5]، يقول: من كان يوقن أنه مبعوث وإنما وعدوا وعد جاء عن الثواب والعقاب فسمى اللقاء أجلا، ولو كان إلى ما ذهب وهمك من لقاء ربه فكان يكون من كان يرجو لقاء ربه، والذين هم بلقاء ربهم كافرون بلفظ الرؤية، وليس كذلك، فاللقاء: الرؤية، واللقاء: البعث، ولا يعني به الرؤية لأن الأبصار لا تدركه، وكذلك ((إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ)) يعني المنافقين، يقول: لا يزال النفاق في قلوبهم إلى يوم يبعثون، أفهمت ما ذكرت لك؟ قال: نعم.
قال: وأما قوله: ((وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا)) [الكهف:53]، وقوله عمن أوتي كتابه بيمينه: ((إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيهْ)) [الحاقه:20]، وقوله: ((يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ)) [النور:25]، وقوله للمنافقين: ((وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)) [الأحزاب:10].
أما قوله: ((وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا)) [الكهف:53] فإنما يعني بالظن اليقين، يقول: إنهم أدخلوها.
وأما قوله: ((إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيهْ)) يقول: إني أيقنت.

(1/27)


وأما قوله: ((وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)) فليس ذلك الظن باليقين، ولكنه شك، والظن ظنان: ظن يقين، وظن شك، فما كان في كتاب الله من ذكر الظن في أمر المعاد فهو يقين، وما ذكر في أمر الدنيا فهو شك، وذلك لو كان إلى ما ذهب إليه وهمك لا يكون مؤمنا، وذلك لأن ما ذكر الله من الظن الذي سماه من المؤمنين في باب الآخرة لا يكون شكا، لأن من شك في شيء من الأشياء في كتاب الله المنزل كان مشركا أفهمت ما ذكرت لك من أمر الظن في الدنيا والآخرة؟ قال: نعم.
قال: وأما قوله: ((وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)) [الأنبياء:47]، فهو العدل تؤخذ به الخلائق، ويدين الله الخلق بعضهم من بعض، ويجزيهم بأعمالهم، والدين هاهنا قصاص.
وأما قوله لأهل الجنة ((فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ)) [غافر:40]، فإن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:(حقت مودتي لمن يزاور في الله، ويحاب في الله، ويباذل في الله، المتحابون في الله وجوههم من نور على منابر من نور عليهم ثياب من نور، قيل: من هؤلاء؟ قال: ليسوا بأنبياء ولا شهداء، ولكنهم قوم تحابوا بحلال الله في الله على طاعة الله في دار الدنيا إذا عصي الله في دار الدنيا لا يزالون جلوسا على تلك حتى يفرغ من الحساب، ويدخلون الجنة لا يحاسبون).
قال: وأما قوله: ((مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ)) و ((ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ)) فإنما يعني بذلك قلة الحساب في الموازين، وكثرتها أفهمت ما ذكرت لك؟ قال: نعم.

(1/28)


قال: وقوله: ((قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)) [السجده:11]، وقوله: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)) [الزمر:42]، وقوله: ((تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ)) [الأنعام:61]، وقوله: ((الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ)) [التوبه:32]، ((ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ)) [النساء:97]، فإن الله تبارك وتعالى وتقدس يدبر الأمور كيف يشاء، ويوكل من خلقه ما يشاء بمن يشاء.
وأما قوله: ((يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ)) فإن الله وكله بخاصة من خلقه وملائكة معه.
وأما قوله: ((ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)) فإنما يعني به أنهم ينشرون من بعد الموت فسمى النشور رجعة، وكذلك قال: ((إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)) [الأنعام:38] يقول: ينشرون من بعد الموت فسمى النشور رجعة.
وأما قوله: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)) [الزمر:42]، فكذلك يتوفى الأنفس كيف يشاء على يدي من يشاء من خلقه.

(1/29)


وأما قوله: ((تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ)) [الأنعام:61]، فإن الله وكلهم بخاصة من خلقه تبارك وتعالى وتقدس، وليس كل العلم يستطيع صاحب العلم أن يفشيه إلى كل الناس، منه ما يطاق حمله، ومنه مالا يطاق حمله إلا من رزقه الله تعالى إطاقته من خاصة أوليائه، وإنما يكفيك وجميع المؤمنين أن يعلموا أن الله تبارك وتعالى وتقدس المميت المحيي، فإنه يتوفى الأنفس على يدي من يشاء من خلقه وملائكته أو غيرهم، بغير علاج منه تبارك وتعالى وتقدس أفهمتَ ما ذكرتُ لك؟ قال: نعم فرجتَ عني كلَّ غمٍّ، فَرَّجَ اللَّهُ عنك كلَّ غَمٍّ، وَكَشَفَ عنكَ كلَّ هَمٍّ، كما كشفت عني ما كان بي من الغم، وذلك من الله وحده لا شريك له، له الحمد والمرد والكبرياء، والطول لا اله إلا هو، وأشهد أنه الحق الدائم الذي ليس كمثله شيء، ولا يَنْزِلُ به ما يَنْزِلُ بخلقه، وأنَّه خالق الأشياء كلِّها، والقادرُ على الأشياء لامقدور عليه ولا رب غيره، ولا راد لحكمه، وهو سريع الحساب، وأشهد أنَّ محمد(1)[11]) عبدُهُ ورسولُهُ، وأُقِرُّ بِمَا جاء به من عند الله، وأنَّ الكتابَ حَقٌّ، يُصَدِّقُ بعضُهُ بعضَاً، نسأل الله ألا يزيغ قلوبنا بعد أن هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة ورضوانا إنَّه الوهاب، عَظَّمَ اللَّهُ أجرك يا أمير المؤمنين، وأمتع بك عامةَ المسلمين. انتهى.
---
__________
(1) 11]) ـ كذا في تفسير المصابيح، بالوقف على محمد، ولعله على لغة من يقف على المنصوب.

(1/30)