الكتاب : مسائل الأباضية المؤلف : الإمام الناصر لدين الله أحمد بن يحيى الهادي . المحقق : عبدالكريم جدبان . www.al-majalis.com |
روائع تراث الزيدية
مسائل الأباضية
مما سأل عنها عبد الله بن أحمد التميمي
تأليف
الإمام الناصر لدين الله أحمد بن يحيى الهادي
تحقيق
عبد الكريم أحمد جدبان
أعده إلكترونياً / فريق العمل بـ مجالس آل محمد (ع)
www.al-majalis.com
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله وحده، وصلواته على محمد وآله.
قال الإمام الناصر لدين الله عليه السلام: فهمنا ما ذكرت يا أبا محمد أكرمك الله مما ذكر لك الأباضية في شأن مسائلهم التي سألوك وساءلتنا أنت أعانك الله أن تجيبهم عليها، وزدت أيضا فيها شرحا لم يدخل في سؤالهم، فقويت ذلك ليتسع لك الجواب، وتستفيد ما يصل بك من جوابنا في ذلك إن شاء الله، وذكرت أن الأباضية طلبوا أن يكون الاحتجاج والدليل في جواب مسائلهم من اللغة العربية، ومن أشعار العرب الأوائل الجياد المعروفة المستشهدة لا من غير ذلك، وزعمت أنهم أرادوا بذلك امتحان أهل الحق، ولأن يعرفوا ويخبروا ما عندنا من المعرفة بلغة العرب وأشعارهم وتعنتوك في ذلك على ما ذكرت ولم يحبوا، زعموا أن يكون جوابنا من استشهاد القرآن، بعضه على بعض، وأنهم مكتفون بما عندهم من أسلافهم ومشايخهم، وأنهم لو أرادوا ما أعجزهم، وإنما أرادوا مخارج الجوابات ودلائلها من اللغة العربية وأشعار العرب المتقدمة، ولأنه قد بلغهم في الروايات أن عبد الله بن العباس رحمة الله عليه قال: إذا أشكل عليكم شيء من القرآن فاطلبوه في أشعار العرب، واحتجوا في طلبهم التفسير باللغة بقول الله عز وجل: { بلسان عربي مبين } . وقوله: { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم. إبراهيم/ 4 } . وبقوله سبحانه: { وقالوا إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذه لسان عربي مبين } . ونحن نريد أن نستفيده من حيث ذكره الله سبحانه، ولا نريد الجواب فيه إلا من اللغة والشعر القديم العربي.
وأعلم يا أبا محمد حاطك الله إن هؤلاء القوم إنما أرادوا تعنيتنا، وأن يدروا ما عندنا من المعرفة باللغة، والذي نذهب إليه ونحبه في التفسير في أن تكون الحجة منا في التفسير بشواهد من كتاب الله عز وجل على كتاب الله، ولا بد مع بذلك من الاستشهاد للغة والشعر، ونحن بحول الله وقوته نجيبك في ذلك بجواب ما سألوا من اللغة والشعر، نتوخى فيه صوابا ونرجو من الله سدادا، ولا بد لنا أن ندخل في ذلك من شواهد الكتاب مالا بد منه، ولا يستغني عنه مما يبين الله سبحانه به لاحق
ويزهق به الباطل، وترغم به أنف المخالفين بحوله وقوته، وإن كنت في وقتي هذا من الغم والهم بفراق الإمام صلوات الله لعيه فيما اقل منه أذهل العقل وشغل القلب، غير أني أرجو من الله سبحاه العون والتسديد لما يحبه من الرشاد، وإرغام الظالمين من أهل العناد والتمادي في الباطل والفساد، وقد أجبناك أتم الله نعمك في كل ما سألوا عنه من اللغة والشعر، فافهمه وقف عليه ثم أنفذه إليهم بحل الله وقوته.
بسم الله الرحمن الرحيم
1- سألت أكرمك الله عن قول الله سبحانه: { وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا } . وقلت: فما عليهم والملك قد صار ورائهم ونجوا منه، وإنما
كان الخوف يقع عليهم لو كان الملك قدامهم؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: هذا من أضداد الكلام الجائز في لغة العرب، وذلك أن العرب تسمي القدام وراء، ومن ذلك قول الله عز وجل: { ومن ورائه عذاب غليظ } . يقول بين يديه ولو كان العذب وراءهم كما ظننت لكانوا قد سلموا منه، والعرب تكلم بهذا وتكثر، قال لبيد بن ربيعة الكلابي:
ليس ورائي أن تراخت منيتي ... لزوم العصا تحني عليها الأصابع
يريد أليس بين يدي الهرم والضعف والكبر، فصيره وراءه وهو بين يديه.
2- وسألت فقلت: وما يدخل على المساكين من عيب السفينة؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: إن الملك كان يأخذ كل سفينة جيدة لها قدر، فأراد العبد الصالح عليه السلام أن يعيبها حتى لا يرغب فيها الملك، فإذا جاوزه أصلحها.
3- وسألت عن معنى قوله: { فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا } ؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: فخشيناها هنا يخرج على فكرهنا، لأن الله عز وجل لا يخشى.
4- وسألت عن قوله عز وجل: { أنظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا } . فقلت: كيف جاز أن يسميه إلها وليس هو بإله؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: المعنى في ذلك على التوقيف والتقريع والتوبيخ، يقول أنه إلا حقك زعمت عند نفسك مثل قوله في موضع آخر ذتي: { إنك أنت العزيز الكريم } . يريد به التوقيف والتوبيخ، قال قيس بن زهير العبسي: قال البقيل: يا قيس، فقلت له: أصبر حذيف فأنت السيد الصمد. فقال له: هذا القول وهو يقتله ويسميه صمدا أي أنك السيد الصمد، بزعمك والصمد في اللغة فهو المقصود المتعمد.
5- وسألت عن قول الله عز وجل: { خلق الإنسان من عجل } . فقلت: كيف خلق من عجل والعجل هو منه؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: إن أهل اللغة يقولون أن ماز ذلك مثل قولهم عرض الدابة على الماء، يعني الماء على الدابة، ومثل قولهم عوض المعلم على الصبي أي استعرضه المعلم، وقولهم إذا لقيك الجبل فخذ يمينك يعني عن يمينك، وفي القرآن ما أن مفاتحه لينتو بالعصبة، والعصبة هي التي تنو بالمفاتيح.
6- وسألت عن قول الله سبحانه: { في عيشه راضية } . فقلت: كيف يكون العيشة راضية وينبغي أن تكون مرضية؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: هذا جائز في لغة العرب، مثل قولهم للناقة راحلة وهي مرحولة، ومثل قولهم رجال حالقة رؤوسها، قال الشاعر:
تفلق عند ذي الورد منهم ... رؤوسا بين حالقة ووفر
يريد محلوقة ووافرة.
وقالت أم ناشر تخطبي رأيه في قتل رجل قتله من العرب بعد إحسانه إليها:
قلت رئيس الناس بعد أخي الندى ... كليب ولم تشكر وإني لشاكره
لقد عيل الأيتام طعنة ناشر ... أناشر لا زالت يمينك آشره
يعني موشورة بالميشار، وهذا كثير موجود في كلام العرب، فالعم ذلك إن شاء الله.
7- وسألت عن قول الله عز وجل: { وعلى الله قصد السبيل ومها جائز } . فقلت: كيف يكون من سبل الله شيء جائز؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: قال في الأم أطعنة قد كنت سألتني وأنا حدث في حياة الهادي إلى الحق عليه السلام، فأجبتك بما أنا مجيبك به الآن إن كنت قد نسيت الجواب الأول فافهمه إن شاء الله.
قال عليه السلام: إن سبل الله جل ثناؤه ليس بجائزة ولا منها شيء جائز، وإنما عنى الله تبارك وتعالى أن من الخلق من يجوز عنها بظلمهم واختيارهم، فالجور منهم هم عن سبيلا لله عز وجل، ولم يجعل تبارك وتعالى شيئا من سبله جائزا ولا غامضا.
8- وسألت عن قوله عز وجل: { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق } . فقلت: إذا صرف الناس عن آياته فما حيلتهم في ذلك؟
قال أحمد بن يحيى صلوات الله عليه: إن الأمر ليس على ما ذهبت إليه، وإنما المعنى في ذلك أنه عز وجل أنهه يصرف عن آياته الأعداء والمعاندين والمفسدين حتى لا يكيدوها بكيد ولا يقدرون لها على فساد، فقوله عز وجل: { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد } .
9- وسألت عن قول الله سبحانه: { ولا طائر يطير بجناحيه } . وقلت: إن الطيران لا يكون إلا بجناحين وإن العرب تستغني بذكر الطائر وتكتفي باسمه عن ذكر جناحين فما معنى ذلك؟
قال في الأم: أظنه قال عليه السلام: هذا تأكيد للكلام وهذا موجود في لغة العرب، يقول الرجل لصاحبه قد جئتك بنفسي، ومشيت إليك برجلي، وكلمتك بلسان، ونظرت إليك بعيني، وسمعتك بأذني، وأعطيتك بيدي، وكل هذا كان سيجزي فيه كلمة واحدة لو قال: جئتك أجزاء عن قوله بنفسي، ولو قال: مشيت إليك أجزاءه عن قوله برجلي، ولو قال لمتك أجزاءه عن قوله بلسانه، وكذلك سائر الكلام على هذا المثل، فافهمه إن شاء الله تعالى.
وقال الله عز وجل: { فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة أيام إذا رجعتم تلك عشرة كاملة } . فقد علموا أن ثلاثة وسبعة عشرة.
10- وسألت عن قوله عز وجل: { آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه } . فقلت: ما معنى قوله: { ذلك الكتاب } . كأنه يشير إلى كتاب غائب لما قال ذلك الكتاب؟
قال أحمد بن يحيى صلوات الله عليه: إنما عنا تبارك وتعالى هذا الكتاب ولم يشر إلى كتاب غائب، وذلك ومثله موجود في لغة العرب، ألم تسمع إلى قول الشاعر:
أقول له والرمح يأطر متنه ... تأمل خفافا أنني أنا ذلك
فقال: إنني فأشار إلى نفسه، ثم قال: ذلك يعني نفسه أيضا، ف جاز ذلك غذ كان القول لا يعب فيه عند العرب المخاطبين.
11- وسألت عن قول الله سبحانه: { أخوهم نوح } . فقلت: كيف جاز أن يكون أخا لهم وهم كفار وقد قال الله عز وجل: { إنما المؤمنون أخوة } . وليس الكفار أخوة للمؤمنين؟
قال أحمد بن يحيى عليه السلام: إنما تلك تخرج على أنه أخوهم في النسب لا على أنه أخوهم في الديانة، فافهمه إن شاء الله.
12- وسألت عن قوله عز وجل: { وأصبح فؤاد أم موسى فارغا } . فقلت: ما معنى ذلك؟
قال أحمد بن يحيى صلوات الله عليه: في هذه المسألة قولان: أما أحدهما فإنه يقول فارغا من كل شيء إلا من ذكر موسى عليه السلام. والقول الآخر فإنه قال: فارغا من كل شيء إلا من العهد الذي عهد الله عز وجل إليها، والوعد الذي وعدها إياه من قوله: { أنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين } .
13- وسألت عن قول الله عز وجل: { فلا تعجب أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون } .
فقلت: فقد نراه يخرج من درا الدنيا وهو معاند لله عز وجل ولم تنكبه نكبة ولم يعذب بعذاب، وله المال الكثير والأولاد؟
قال أحمد بن يحيى عليه السلام: هذا كلام يخرج على التقديم والتأخير فافهمه، كأنه قال: ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة فقدم وآخر، والتقديم والتأخير موجود في لغة العرب، قال أوس بن حجر:
أما حصانا فلم يضرب بكليها ... قد طفت في كل هذا الناس أحوالي
على امرئ سوقه ولا ملك ... أبذى وأكمل منه أي إكمال
يريد فلم يضرب بكليها على امرئ سوقه، فقطع بين الكلام بنصف بيت للتقديم والتأخير، وقال الأخطل التغلبي:
إن الفرزدق صخرة عادية ... طالت فليس ينالها الأوعالا
يريد الصخرة طالت فليس الأوعالا تنالها. وقال ذو الرمة:
كان أصوات من أيغالهن بنا ... أوآخر الميس أنقاض الفراريج
وإنما أراد كأنما أصوات الميس فقدم وآخر، فافهم هذا الباب إن شاء الله.
14- وسألت عن قول الله عز وجل: { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة } . فقلت: كيف جاز أن يقول كنتم، ثم قال بعدها بهم؟
قال أحمد بن يحيى صلوات الله عليهما: ذلك جائز في لغة العرب معروف في خطابها وأشعارها، قال أبو طنير الهذلي يرثي رجلا:
يا ويح نفسي صار جده خالد ... وبياض وجهك للتراب الأعفر
ولم يقل وبياض وجه خالد في أول الكلام، كأنه يخاطب غيره وفي آخره كأنه يخاطبه هو دون غيره، فاعلم ذلك إن شاء الله.
15- وسألت عن قوله عز وجل: { قد أجيبت دعوتكما } . وقلت: إنما كان الداعي موسى عليه السلام وحده فصار الخطاب لاثنين؟
قال أحمد بن يحيى عليه السلام: قد بلغنا أن موسى صلى الله عليه كان يدعو وهارون عليه السلام كان يؤمن على دعا موسى، فلذلك صارت الدعوة لكليهما صلوات الله عليهما.
16- وسألت عن قوله عز وجل: { فما تزيدونني غير تخسير } . فكيف يجوز هذا القول أكانوا يزيدون النبي صلى الله عليه تخسيرا وهو غير خاسرا؟
قال أحمد بن يحيى عليه السلام: إنما المعنى في ذلك أنه يقول: فيما تزيدونني غير تخسير لكم وغير تضليل لكم، وسو قول فيكم.
17- وسألت عن قول الله عز وجل: { وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء } ؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام:(1) إنما يعني بقوله: { ولا في السماء } . أي: ولو كنتم في السماء ما أعجزتم.
18- وسألت عن قول الله عز وجل: { أفلم يئيس الذين آمنوا إن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا } . فقلت: ما معنا يائسوا هاهنا؟
__________
(1) ـ وبنو أدم لا يكون في السماء قال أحمد بن يحيى. نسخة.
قال أحمد بن يحيى عليه السلام: يقول ألم توقنوا، وذلك جائز في لغة العرب، لأنها نقلت أشياء في كلامها وتصرفها إلى ضدها من الكلام، قال الشاعر:
ألم يأيس إلا قوام أني أنا ابنه ... وإن كنت عن أرض العشيرة فائيا
وقال حريث بن جابر وكان من رجال أمير المؤمنين لوات الله عليه بصفين:
أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني ... ألم تأيسوا أني حريث بن جابر
يريد ألم توقنوا.
19- وسألت عن الحجة إن الاستطاعة قبل الفعل لا معه وطلبت فيه، زعمت حجة وأصحه تستغني بها وتقطع الخصوم إن شاء الله؟
قال أحمد بن يحيى صلوات الله عليهما: الدليل على إن الاستطاعة قبل الفعل قول الله تبارك وتعالى: { فإن كان الذي عليه الحق فيها أو ضعيفا أو لا يستطيع إن يمل هو فليملل وليه بالعدل } . فأخبرنا عز وجل أن وليه قد يستطيع الإملاء، والإملاء معدوم لم يوجد بعد، ولو كان الولي كما هذا الآخر لا يستطيع لم يكن للآية معنا، ولكان تأويله إن لم يستطع أن يمل هو فليملل وليه الذي لا يستطيع أيضا، والله عز وجل متعال متقدس عن قول هذا ومخرجه وسيبله، ومن الدليل على ذلك أيضا أنه لو كان الأمر على ما ذكره القوم المخالفون لنا أن الاستطاعة مع الفعل يحدث في حال الفعل، لكان الكافر لا يؤمن به أبدا حتى تأتيه استطاعة الإيمان، وكانت الاستطاعة لا تأتيه أبدا وهو كافر، ولو كان هكذا ما جاز أن يؤمن كافر بوجه من الوجوه. ألا ترى أن رجلا لو كان في جوف بئر فقيل له: إنك لا تخرج من هذه البئر أبدا حتى تؤتى بحبل، ولن تؤتى بحبل ما دمت في البئر، لما جاز أن يخرج هذا الرجل من تلك البئر أبدا على هذا الشرط بوجه من الوجوه، كذلك
فإذا الكافر لا يؤمن أبدا حتى يؤتى باستطاعة الإيمان وهو كافر، لأن الكافر لا يستوجب من الله عز وجل المادة ولا المعونة ولا لطائف الصنع، وإما على الرسل والأئمة عليهم السلام الدعاء إلى الله عز وجل وعلى الخلق أن يجيبوهم، لأن معهم الاستطاعة على ذلك، والكلام في هذا كثير وفيما ذكرت لك كفاية بحول الله ومعونته.
20- وسألت عن قول الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه: { وصلى عليهم } . فقلت: ما معنى قوله: { وصلى عليهم إن صلاتك سكن لهم } . فقلت: كيف يصلي النبي صلى الله عليه عليهم؟
قال أحمد بن يحيى صلوات الله عليهما: الصلاة في هذا الموضع دعاء لهم بالخير والرحمة وما أشبه ذلك، والصلاة في لغة العرب فهي الدعاء قال الأعشاء البكري:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا ... يا رب جنب أبي الأوصاب والوجفاء
عليك مثل الذي صليت فاعتصمي ... يوما فإن لجنب المرء مضطجعا
يقول: عليك مثل الذي دعوت لي به وهذا غير منكر في لغة العرب، فافهم ذلك إن شاء الله.
21- وسألت عن قوله عز وجل: { إذ تحسونهم بإذنه } . فقلت: ما الحسن هاهنا وما معناه؟
قال أحمد بن يحيى عليه السلام: إن الحسن هو الضرب والقتل، وهو الحَسن بفتحة الحاء، والحسن بخفظة الحاء، فذلك من طريق الحسن مخفوظ وهو الذي يحسن الإنسان من الشيء الذي يؤنسه، تقول العرب: أنست صوتا في مكان كذب وكذا، يعني أحسست، وتقول العرب: أوجست كذ وكذا، وكل ذلك شيء واحد، إلا الحسن الذي عنى الله عز وجل فإنه بفتح الحاء، وهو القتل والضرب الذي عنى الله عز وجل حين قال: { إذ تحسونهم بإذنه } . قال الشاعر:
نحسهم بالبيض حسنا كأنه ... حريق لظى في غابة تتضرم
والغابة أجمة القصب
22- وسألت عن قول الله عز وجل: { وأدخلوا الباب سجدا } . وقلت: كيف يجوز أن يكون الساجد داخلا، وكيف يدخل وهو ساجد؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: السجود هاهنا هو الطاعة والخضوع، وذلك معروف في لغة العرب يقول الرجل إذا رأى رجلا يطيع ملكا أو غيره: فلان اليوم يسجد لفلان، أي يطيعه وإن لم يسجد له بوجهه، قال الشاعر:
بجيش تظل البلق في حجراته ... ترى الأكم فيه سجدا للحوافر
يقول: إن أكام الأرض مطيعة لحوافر الخيل.
23- وسألت عن قول الله عز وجل: { فأثابكم غما بغم } . فقلت: ما معنى هذا وكيف يثيبهم غما بغم؟
قال أحمد بن يحيى عليه السلام: هذا القول يخرج على أن حروف الصفات بعقب بعضها بعضا، لأن الباء تقوم مقام على، يريد سبحانه: فأثابكم غما على غم، مثل قوله: { ولأصلبنكم في جذوع النخل } . فقامت في مقام على، وذلك جائز في لغة العرب، قال الشاعر:
هم صلبوا العبدي في جذع نخلة ... فلا عطست شيبان الأباء جدعا
ومثل ذلك قوله عز وجل: { ومن أهل الكتاب من أن تأمنه بدينار } . أي على دنيا، فقامت الباء مقام على، ومثل قوله عز وجل: { ونصرناه من القوم } . أي على القوم، فقامت من مقام على، وهذا يكثر عن أن يحيط به في كتابنا وفيما أجبناك به كفاية إن شاء الله.
24- وسألت عن قول الله عز وجل: { أستفزر من استطعت منهم بصوتك واجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد } . فقلت: كيف جاز أن يأمر الله عز جل بهذه الأشياء وكلها له معصية لا يجوز في العدل، وكيف يشارك الشيطان الناس في الأموال والأولاد؟
قال أحمد بن يحيى رضي الله عنه: إن ذلك جائز في اللغة العربية أن يخرج الكلام من المتكلم مخرج الأم، ومعناه على خلاف ذلك الذي خرج عليه، وإنما هذا عندنا على الوعد والتهدد، كنحو قول الرجل اجهد جهدك واحمد حمدك، كل ذلك على الوعيد، وقد تقول العرب للرجل أذهب، اقتل فلانا وأضربه بالسيف على جهد الوعيد، وهم لا يحبون قتله ولا ضربه ولا يريدون ذلك من الذي أمروه به، كقول أمير المؤمنين صلوات الله عليه لطلحة والزبير يوم عاتباه ثم أدبرا عنه أذهبا فآخرجاها يعني عائشة، وهو لا يريد أن يخرجاها من منزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا أن يخرجاها تحاربه، وهذا في اللغة كثير معروف.
وأما ما سألت عنه من مشاركته لهم في الأموال والأولاد فإن ذلك كثير كشركة الآدميين، إنما ذلك كنحو قول السحرة لفرعون، أقض ما أنت قاض أي أصنع ما أنت صانع، كل ذلك على الوعيد، وأما شركته في الأموال فهو أن تؤخذ بغير حقها، وإن يطاع الشيطان فيها، فإذا فعلوا ذلك فقد جعلوا شركاء في أموالهم.
وأما الأولاد فإذا نكحوا الحرام وولدهم من النكاح بمال الحرام، فقد أشركوا الشيطان في ذلك بطاعتهم، فصارت طاعته سببا للشركة في أولادهم.
25- وسألت عن قول الله عز وجل: { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } . وقلت: فإن قال لنا قائل: وهل يجوز أن يكون بعضه غير شفاء؟
قال أحمد بن يحيى صلوات الله: إن القرآن شفاء، ومن في هذا الموضع قد يجوز على البعض وعلى الجميع، وذلك موجود في لغة العرب، تقول العرب، هل يجيء لنا من هذا الثوب قميص أي من الثوب كله لا من بعضه، وكقول الله عز وجل: { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } . يريد مقام إبراهيم عليه السلام كله لا بعضه، وكقوله عز وجل(1): { يغفر بعض ويعذب على بعضها } . وكقوله عز وجل: { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } . يريد اجتنبوا كل الأوثان، وقوله عز وجل: { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير } . يريد كلهم. وقال:
تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو ترتبط بعض النفوس حمامها
فقال بعض النفوس، وإنما أراد النفوس كلها. وقال ذو الرمة:
تنسمن عن نور الأفاحي بالضحى ... وفترن عن أبصار مضروبة حجل
فقال: من أبصارهن، وإنما أراد كل أبصارهن، وقال الله عز وجل: { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم } . يريد يغضوا أبصارهم كلها عن محارم الله جل ثناؤه.
26- وسألت عن قول الله عز وجل: { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } . وهو شيء قد كان وفرغ منه؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: من ذلك أن العرب تجعل بدل يكون كان جائز ذلك في لغاتها، ألم تسمع زياد الأعجم حيث يقول:
__________
(1) ـ قال في الأم: الآية ساقطة. أصل النسخة.
فانضج جوانب قبره بدمائها ... فلقد يكون أخادم وذباح
يريد فلقد كان لأنه قد مات.
27- وسألت عن قول الله عز وجل: { أتريدون أن تجعلوا الله عليكم سلطانا مبينا } . فقلت: ما هذا السلطان؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: السلطان هاهنا هو الحجة، والدليل على لك قول سليمان للهدهد أولياسي بسلطان مبين.
28- وسألت عن قول الله عز وجل: { وإذ قال الله يا عيسى بن مريم } . فقلت: إذ تكون لأمر مستقبل، وإنما تكون لأمر قد مضى وفرغ منه؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: هذا جائز في لغة العرب أن يقول لمر مستقبل، إذ من ذلك قول أي النجم الشاعر:
فتى جزاه الله عنا إذ جزى ... جنات عدن في العلالي العلا
فقال: إذ جزى في الآخرى وهو لم يجز أحدا بعد، فجاز هذا في اللغة فافهم أعانك الله وأرشدك.
29- وسألت عن قول الله عز وجل في ابن آدم الذي قتل أخاه قال: { فأصبح من النادمين } . فقلت: الندم توبة فماله لم يتب عليه وقد ندم؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: إنه لم يندم على القتل، وإنما كان على ما بلغنا مكث يدود به مائة عام، يحمله لا يدري كيف يواريه، فبعث الله غرابا يبحث في الأرض فلما رأى الغرب كيف وأرى الغرب قال ويليتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغرب فأواري سرة أخي، فكان ندمه على ما حمله طول تلك المدة ولم يدفنه، وحمله مائة سنة.
30- وسألت عن قول الله عز وجل للنبي صلوات الله عليه: { فإنهم لا يكذبونك } . فقلت: وأي تكذيب أشد مما كذبوه صلوات الله عليه؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: إنما عنى تبارك وتعالى أنهم لا يقدرون على تكذيبه بحجة يقهرونه بها، فيلزمه التكذيب.
31- وسألت عن قول الله عز وجل: { وأنا أو إياكم لعلى هذا أو في ضلال مبين } . فقلت: إن قال لنا قائل: هذا القول يوجب فما الرد عليه؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: هذا على المداراة وحسن المعاملة، كما يقو الرجل لصاحبه والله أن أجدنا لكاذب، وهذا من أنصافي الكلام، لأن أقبح منه أنا لعلى الهدى وأنتم على الضلالة، لأنه قال عز وجل: { ودع أذاهم } . فكان هدى لحد الأنصاف وجميل القول.
32- وسألت عن قول الله عز وجل: { يا حسرة على العباد } . فقلت: هل تكون الحسرة إلا من المخلوقين المتحسرين؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: إنه عز وجل لم يقل يا حسرتا، وإنما قال يا حسرة بالتنوين، وإذا كانت بالتنوين فإنما تقع الحسرة على العباد في تقربطهم في أمره عز وجل، ومثل ذلك قول العرب للرجل يا تبا لك ويا ويلا لك ويا حسرة لك.
33- وسألت عن قوله عز وجل: { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى. الزمر } . فقلت: ما معنى هذا القول؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: هذا من الكلام الذي يتجوز فيه الإضمار، والمعنى فيه: والذين اتخذوا من دونه أولياء، يقول ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فأضمر قول الكافرين وقطعه من وسطه، ومثل هذا كثير في القرآن، مثل قوله: { ولو لا فضل الله عليكم ورحمته وإن الله تواب حكيم } . ومثله قوله عز وجل: { ولو أن قرآءنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى } . ثم قال: { بل لله الأمر جميعا } . ولم يذكر جواب، ولو أن قرآءنا، والمعنى فيه: لكان هذا القرآن وهذا كثير في القرآن، قال الشاعر فقال:
وأذما الظلال كن نعالا ... واجتلبن الحميم أي اجتلاب
فقال: وأذاما الظلال ولم يذكر بعده خبرا يدل على ما أراد بالظلال، فأضمره وقطعه، وإنما المعنى فيه أنه قال: وأذاما الظلال قلص ولصق كان للإبل في حرارة تلك الشمس بغالا لهم واستغنوا عن البغال، فافهم هذا الباب، ومن ذلك قول امرئ القيس بن حجر:
لعمرك لو شي أتانا رسوله ... سواك ولكن لم يجد لك مدفعا
وكان يجب أن يكون لو أتانا رسوله لكان منا كذا وكذا، فأضمره وأجزاه ذلك، وعرفت العرب ما أرد من الإضمار.
34- وسألت عن قول الله عز وجل: { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين } ؟
قال أحمد بن يحيى عليه السلام: قد قيل في هذه الآية بوجوه من الكلام منها: أنهم قالوا أنا أول العابدين لله على الإضمار وغير ذلك من القول.
وأما أنا فأقول: أن العرب تقول أن العابد هو المنكر الآنف.
قال الفرزدق يهجو جريرا:
أولئك أكفائي فجئني بمثلهم ... وابعد أن يهجا كليب بدارم
يريد أي: أنكر وآنف أن تهجى بنو كلب ببني دارم قومه.
35- وسألت عن قول الله عز وجل: { ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها } . فقلت: كيف ظنوا وقد صح لهم الأمر؟
قال أحمد بن يحيى عليه السلام: إن من الظن ما يكون في لغة العرب يخرج على اليقين.
قال بن الصمة:
فقلت لهم ظنوا بألفي مقاتل ... سرابيلهم بالفارسي المسرد
يقول: قلت لهم أيقنوا بألفي مقاتل، وهذا جائز في اللغة.
36- وسألت عن قول الله عز وجل: { إن الساعة آتية أكاد أخفيها } . فقلت: ما مخرج أكاد؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: أكاد تخرج على معنى أريد. قال الشاعر:
كادت وكدت وتلك خير إرادة ... لو لا الوشاة بأن يكون جميعا
37- وسألت عن قول الله سبحانه: { يخرجونهم من النور إلى الظلمات } . فقلت: يجوز أن يخرجوهم من النور وهم لم يكونوا فيه قط؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: هذا كثير في كلام العرب موجود في لغاتهم، يقول القائل منهم: آخرج فلان ابنه من ميراثه والرجل حي لم يمت ولم يورث بعد، ولم يكن قد دخل فيه كالدخول الذي يعرف، ونحو قول العرب: اللهم أدخلنا الجنة وآخرجنا من النار، وهم لم يدخلوها قط. وقوله: { ثم ردوا إلى الله
مولاهم الحق } . يعني: ثم صاروا إلى الله. وكقولهم: { ثم نرد إلى أرذل العمر } . وهو لم يكن فيه قط، حتى بلغ وقته من الكبر والمشيخ.
قال الشاعر:
حتى نعود بسواد القار كاللبن ... ولم يكن القار البيض قط
فقال: عاده لجوازه في اللغة.
38- وسألت عن قوله عز وجل: { فاليوم ننساهم } . فقلت: ما معنى ننساهم والله تبارك وتعالى لا يجوز عليه النسيان؟
قال أحمد بن يحيى صلوات الله عليهما: هذا يعني به الترك متعمدا، وذلك كقوله عز وجل: { نسوا الله فنسيهم } . إنما هو تركوا أمر الله فتركهم، فلو كان ذلك منهم نسيانا على الحقيقة ما أخذهم بالنسيان.
39- وسألت عن قوله تبارك وتعالى: { يبين الله لكم أن تضلوا } . فقلت: ما معنى هذا القول؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: معناه لا تضلوا وهذا كثي في كلام العرب.
قال عمر بن كلثوم:
فنزلتم منزل الأضياف منا ... فعجلنا القراء أن تشتمونا
يريد أن لا تشتمونا.
وقال راعي الإبل النميري:
أزمان قومي والجماعة كالذي ... لزم الرحالة أن تميل مميلا
يريد أن لا تميل.
وقال قيس بن زهير العبسي:
رأيتك أن لاقى بنوك معاشرا ... نزال يد في فضل تعب ومزوده
يريد أن لا يزال بدا، فافهم ذلك إن شاء الله.
40- وسألت عن قوله عز وجل: { له معقبان من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله } . وقلت: هل يكون من الله جل ثناؤه حافظ ودافع؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: المعنى في هذا أن يحفظونه بأمر الله، وهذا من حروف الصفات التي يعقب بعضها بعضا، قال الشاعر:
إذا رضيت على بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها
يريد رضيت عني.
وقال النابغة:
فلا تتركني بالوعيد كأنني ... إلى الناس مطلي به القار أجرب
يريد لا تتركني في الناس فقامت إلى مقام في مثل قوله { في جذوع النخل } ، فافهم ذلك إن شاء الله.
41- وسألت عن قول الله سبحانه: { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مير فيها ففسقوا فيها } ؟ فقلت: ما مخرج ذلك في العدل؟أ
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: هذا من الكلام الذي ذكرت لك أنه يضمر في لغة العرب، وإنما المعنى إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مير فيها بأمر فتركوه وفسقوا فيها، وهذا كثير من لغة العرب وفي كتاب الله عز وجل من هذا كثير أيضا.
ألا تسمع إلى قوله تعالى: { ولو أن قرءآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ـ ثم أضمر فقال ـ: بل لله الأمر جميعا } . والمعنى فيه لكان هذا القرآن، وإنما نزل عليهم بلسانهم الذي يعرفون ولا ينكرون.
ألا ترى إلى قول الشاعر:
وكيف تواصل من أصبحت ... أمانته كأني مرحب
يريد: كأمانة إني مرحب، فأضمر.
وقال آخر:
فإن المنية من يخشها ... فسوف يصادفها أينما
فأضمر، وإنما أراد أينما كان من الدنيا أدركته المنية فأضمر، وقد قال الله عز وجل: { والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض } . ثم أضمر، وفي الأرض اليهود والنصارى وعبدة الأوثان والدهرية وأصحاب النور والظلمة والزنادقة وعباد الله ده وغير ذلك، وإنما المعنى فيه ويستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين خاصة دون غيرهم، وتقول العرب أما والله يا فلان لو لا لعملت كيف يكون فيجزي ذلك، ويعلمون أنه من طريق الوعيد، فإنه لولا كذا لعلمت كيف يكون حالك، فافهم هذا الباب إن شاء الله.
42- وسألت عن قول الله تبارك وتعالى: { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } . فقلت: ما معنى هذا في العدل؟
قال أحمد بن يحيى صلوات الله عليهما: نبلوكم بالشر نهيا عنه، وبالخير أمرا به، والبلوى امتحان، والفتنة تخرج في كتاب الله جل ثناؤه على عشرة وجوه في القرآن:
الوجه الأول: من الفتنة يعني به الشرك، وذلك قوله: { قاتلوهم حتى لا تكون فتنة } . ويكون الدين لله نظيرها في الأنفال حيث يقول: { قاتلوهم حتى لا تكون فتنة } . يقول حتى لا يكون شرك ويكون الدين كله لله، وقال سبحانه في البقرة: { والفتنة أكبر من القتل } . يعني الشرك بالله أعظم جرما عند الله من القتل في الشهر الحرام، ونحوه كثير.
والوجه الثاني: فتنة يعني بها الكفر وذلك قوله عز وجل في آل عمران: { ابتغاء الفتنة } . يعني الكفر، وكقوله سبحانه: { إلا في الفتنة سقطوا } . يعني الكفر، وكقوله تبارك اسمه في سورة النور: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة } . يعني كفرا، وكقوله عز وجل في سورة الحديث: { ولكنكم فتنتم أنفسكم } . يقول كفرتم وشبهتم على أنفسكم، وكذلك كل فتنة في المنافقين واليهود.
الوجه الثالث: يعني به بلا، وهو المحنة فذلك قوله تبارك وتعالى في العنكبوت: { ألم أحسن الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم } . يعني ولقد ابتلينا الذين من قبلهم.
وقال لموسى صلى الله عليه: { وفتناك فتونا } . يعني ابتليناك، لأن الله عز وجل لا يفتن نبيه، وإنما يريد بالفتنة للنبي صلى الله عليه المحنة.
وفي حم الدخان { ولقد فتنا الذين من قبلهم } . يعني ولقد امتحنا الذين من قبلهم، يعني قوم فرعون.
والوجه الرابع: يعني به العذاب، وذلك قوله عز وجل: { فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله في الآخرة } . نزلت في عباس بن ربيعة أخي أبي جهل لعنه الله الآية، نظيرها في النحل حيث يقول: { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا } . يعني من بعد ما عذبوا في الدنيا.
والوجه الخامس: يعني به الإحراق بالنار في الدنيا، فذلك قوله في السماء ذات البروج: { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } . يعني الذين حرقوا المؤمنين والمؤمنات في الدنيا.
وقال في سورة الذاريات: { يوم هم على النار يفتنون } . يعني يعذبون ويحرقون بالنار في الآخرة { ذوقوا فتنكم } . يعني حريقكم بالنار والآخرة ليس فيها فتن مثل فتن الدنيا، وهذا دليل لمن عقل.
والوجه السادس من الفتنة: يعني به القتل، وذلك قوله سبحانه في سورة النساء: { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } . يقول إن خفتم أن يقتلكم الذين كفروا، وكقوله في سورة يونس صلى الله عليه: { على خوف من فرعون وملائه أن يفتنهم } . أي: يقتلهم.
والوجه السابع من الفتنة: الصبر، وذلك قوله في سورة المائدة: { وأحذرهم أن يفتنوك } . يقول أن يصدوك عن بعض ما أنزل الله إليك.
وقال في سورة بني إسرائيل: { وإن كادوا ليفتنونك عن بعض ما أوحينا إليك } . يعني ليصدونك.
والوجه الثامن من الفتنة: يعني به الضلالة، فذلك قوله عز وجل في سورة الصافات: { إنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين } . يعني ما أنتم عليه بمضلين من أحد { إلا من هو ضال الجحيم } . يعني إلا من عمل عملا يصلى به الجحيم.
وقال في سورة المائدة: { ومن يرد الله فتنته فلن تملكه من الله شيئا } . والله عز وجل لا يضل به إلا من استحق الضلالة، وذلك قوله عز وجل: { وما يضل به إلا الفاسقين } . وقوله: { ويضل الله الظالمين } . ويخرج الضلال على الحكم والتسمية لا على الجبر والقسر.
والوجه التاسع من الفتنة: يعني به المعذرة، وذلك قوله عز وجل في سورة الإنعام: { ثم لم تكن فتنتهم } . يعني ثم لم تكن معذرتهم، إلا أن قالوا: والله ربنا ما كنا مشركين.
والوجه العاشر من الفتنة: قوله عز وجل في الأعراف: { إن هي إلا فتنتك } . يقول إن هي إلا محنتك.
43- وسألت عن قول الله سبحانه: { فلا عدوان إلا على الظالمين } . تقول لا سبيل إلا على الظالمين، وقلت: ما العدوان؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: العدوان على وجهين في القرآن:
فالوجه الأول: قوله سبحانه: { لا عدوان إلا على الظالمين } . يقول لا سبيل إلا على الظالمين.
والوجه الآخر: كقول موسى صلوات الله عليه في سورة القصص: { إلا الآجلين قضيت فلا عدوان عليَّ } . يقول: فلا حجة عليَّ.
44- وسالت ما الرد على من زعم أن القاتل لو لم يقتل المقتول لمات في تلك الساعة بعينها؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: لهذه المسألة جوابات كثيرة يجزي منها ما سنذكره إن شاء الله تعالى، فنقول: لو كان كل مقتول يقتل لو لم يتقل لمات في ذلك الوقت ولم يعض طرفة عين، لكان على قود قولكم إن من قصد إلى أنعام قوم من بقر وإبل وغنم فذبها عن آخرها أنه على نحو قولكم لا يجب عليه لوم ولا ذم ولا غرامة، بل يجب أن يشكر ويحمد ويحسن مكافأته والثناء عليه، لأنه لو لم يذبحها لماتت كلها على زعمكم، وكان أهلها لا ينتفعون بشيء منها لا بلحم ولا بجلة، وهذا القول خارج عن حكم الإسلام ومفارق لما جاء به محمد عليه السلام.
ومن الحجة على من قال انه لو لم يقتل لمات، وأن من قتل إنما قتل بأجله، وأنه لم يكن ليجوز ذلك الذي قتل فيه، لأن قتله موته الذي حكم الله به عليه.
فيقال لمن قال هذا القول: ما تقول فيمن يقتل رجلا هل يقتل به أم لا كان؟
قال: يقتل به فقد جوز الله سبحانه في فعله، لأنه حكم عليه بالقتل وجعله له موتا، فلم يكن هذا القائل ليقدر أن يخرج مما جعل الله وحكم به عليه، فإذا حكم عليه بأمر وعذبه فيه فقد ظلمه، وعز الله سبحانه عن ذلك وجل عن ظلم العباد، أو أن يأمر بأمر ويعاقب عليه، وأن يرضى ما يسخط سخط ما يرضى، والقائل
بهذا لا يرضى لنفسه لو كان له عبد فأمره بأمر، فلما أنفذه عاقبه عليه، لكان ذلك ظلما وعدوانا ولنفاه عن نفسه، ولما أذن أنطق لسانه أن ينسب الظلم إلى من هو فوقه ممن يخافه، كيف يقول بذلك قائل أو يتكلم به متكلم، والله عز جل ينفي ذلك عنه ويقول: { النفس بالنفس والجروح قصاص } . ويقول: { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } . ويقول عز وجل: { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاءه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما } . وقوله: { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا } . وإنما السلطان الذي جعله الله للولي أن يقتل قاتله، وكيف يقتل رجلا من قتل أخاه والله حكم بذلك عليه وجعله له موتا، هذا قول فاسد مدخول، لا يقول به مؤمن ولا يتكلم به عاقل ولا عالم، لأنه يلزم من قال هذا، الظلم لله سبحانه والتجوير والتكذيب لكتابه، وعز الله وجل عن ذلك.
ومن الحجة في ذلك قول الله عز وجل: { إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم } . فأوجب عليهم العذاب في فعلهم ولو كان فعلهم هو الموت الذي أراد أن يجعله بأيديهم لما عذبهم فيما حكم به عليهم، لأنه يقول سبحانه: { إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون } . فنفنى الظلم من نفسه، وأعلمنا أن الظلم من العباد لأنفسهم بارتكابهم لما نهاهم عنه وحذرهم إياه، ومن جور الله سبحانه في فعله وقال عليه بما هو نفاه عن نفسه فقد كفر واستوجب بكذبه النار وساء مصيرا، وهذه الحجج من كتاب الله سبحانه وعن رسوله صلوات الله عليه وعلى ما يطول شرحه ويكثر ذكره، وفي أقل مما ذكرنا كفاية ولله الحمد كثيرا كما هو أهله ومستحقه.
45- وسألت فقلت: ما معنى خلق الحية والعقرب وفيهما الضرر على الناس وكان أولى في الحكمة وأقرب إلى الرحمة أن لا يخلق من هذه الضارة لبني أدم ما يضرهم؟
قال أحمد بن يحيى صلوات الله عليهما: إن من عدل الله سبحانه ورحمته وحمته خلق الحيات والعقارب، لأن فيها من التذكرة والتخويف لما هو أشد منها من عذاب جنهم المقيم ما جعل فيه حذرا وزجرا عن الاقتحام على المعاصي، ولو لا ذلك أيضا ما درى الناس فضل العافية على البلاء، ولا السلامة على الشقاء، لا عرفوا الفرق بين النعمة والنقمة، وفي ألم ذلك السم وشدة حريقه من التحذير للعباد ما يورث المنفعة والتوبة والكف عن الإقدام على ما يسخط الله عز وجل: { وإنما هو حريق ساعة ثم يموت أو يسلم } . فكيف بالعذاب الدائم الذي أعد الله عز وجل لمن عاداه وعند من أمره، فالمصاب بالسم يعتبر والناظر إليه يعتبر كل ذلك حكمة ورحمة، فافهم ذلك إن شاء الله.
وقولك: لم خلق الله الحية والعقارب وفيها من الأذى ما قد سميت والله عز وجل يخلق ما يشاء، وليس لأحد أن يقول لم خلق الله ما يضر، والله عز وجل لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وخلقه كله حكمة وفي خلقه دلائل عبرة، نسأل الله لنا ولك الهداية بمنَّه ورحمته.
46- وسألت عن قوله تعالى: { له قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم أذن لا يسمعون بها } . الآية؟
قال أحمد بن يحيى صلوات الله عليهما: الجواب في ذلك إنهم كانوا عميا عن الخف صما عن أسماعه من يغر عمى ولا صمم كان بهم، والعرب تكلم بهذا في قولها من ذلك: إن الرجل إذا كلم رجلا فلم يرفع لكلامه رأسا قال: أنت أصم عن قولي، وأعم عما لا بد منك.
قال الشاعر في نحو ذلك:
أعمى إذا ما جارتي خرجت ... حتى يواري جارتي الستر
وأصم عما كان بينهما ... وسمع ي وليس يحويه وقر
وفي هذا البيت الآخر إضمار أيضا فافهم.
ألا ترى كيف قال: واصم عما كان بينهما، ولم يذكر اثنين وإنما ذكر جارة واحدة ثم قال: بينهما، فصار اثنين، وذلك أنه أرادها وزوجها فأضمر الزوج، وهذا ليس من مسألتك ولكن زدناك حجة في الإضمار، فاعلم ذلك إن شاء الله.
47- وسألت عن قول الله سبحانه: { ولا توعدوهن سراقا } ؟
قال أحمد بن يحيى عليه السلام: في لغة العرب هو النكاح معروف عندهم غير منكر، قال أعشى بني قيس:
فلا تدنون من حرة أن سرها ... عليك حرام فأنكحن أو تأبدا
والتأبيد ترك النكاح مشتق من التوحش.
والدليل على ذلك قول لبيد بن ربيعة الكلابي حيث يقول:
عفت الديار محلها فمقامها ... بمنى تأتد غولها فرجا مها
والتأبد عنهم معروف غير منكر، وجماعة الوحش الأوابد.
وقال امرؤ القيس الكندي:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني ... وأن لا يحسن السر أمثالي
48- وسألت عن الطاغوت ومعانيه فقلت: نحن نجد الطاغوت في القرآن مرة مذكورا ومرة مؤنثا ومرة جماعة فما معنى ذلك أعلى الله ذكرك؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: تفسير الطاغوت على ثلاثة أوجه في القرآن:
الوجه الأول من الطاغوت: يعني به الشيطان، فذلك قوله في سورة البقرة: { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله } . يعني به الشيطان، نظيرها في سورة النساء حيث يقول: { والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت } . يعني في طاعة الشيطان، فهذا مذكر.
والوجه الثاني من الطاغوت: يعني به الأوثان، فذلك قوله في سورة الزمر يقول: { والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها } . يعني: والذين اجتنبوا عبادة الأوثان فجماعة الأصنام مؤنثه.
والوجه الثالث من الطاغوت: فقد جاء في الرواية أنه يعني به كعب بن الأشرف اليهودي الذي قتله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذلك قوله في سورة البقرة: { والذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات } . فهذا جماعة فافهم ذلك إن شاء الله.
49- وسألت عن قوله عز وجل: { وأوجس في نفسه خيفة موسى } . فقلت: كيف خاف صلوات الله عليه في ذلك المقام العظيم وقد علم أن الله عز وجل لا يخذله فيه وهو ولي الله ورسوله صلى الله عليه؟
قال أحمد بن يحيى صلوات الله عليه: إنما تخوف موسى صلى الله عليه على قومه أن يفتنوا لما عاينوا من فعل السحرة أو أن يسبق إلى قلوبهم أن حركة الحبال والعصي على حقيقته، إذ ليس لهم مثل بصيرة موسى صلى الله عليه.
فأما هو صلوات الله عليه فقد كان واثقا عالما أن الله جل ثناؤه لا يخذله ولا يشمت به، وإن أعداءه لا يظهرون عليه في ذلك المقام الشريف.
50- وسألت عن قول الله سبحانه: { بل مكر الليل والنهار } . فقلت: كيف مكر الليل والنهار وهل لهما مكر؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: إنما عنا تبارك وتعالى مكرهم بالليل والنهار الذي حاق بهم ولو كان مكر الليل والنهار الذي حاق بهم بأنفسهما لم يجز في العدل أن يؤاخذهم بفعل غيرهم، وهذا جائز في لغة العرب يقول الرجل أكل الليل يضر بي وشرب الليل يتعبني وسهر الليل يعني.
وإنما المعنى في ذلك كله أنه يقول أكلي بالليل وشربي وسهري، لا أن الليل فعلا يطالب به الآدمي. قالت خنساء الأسلمية تذكر ناقة فقدت ولدها وأن جزعها على أخيها صخر كجزع الناقة على ولدها:
ترعا إذا نسيت حتى إذا ذكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار
تقول: إنما الناقة مقبلة ومدبرة فصيرتها إقبالا وإدبارا، ومثله قول أعشى بكر:
حياك في الصيف في نعمة ... تصان الجلال وتعطي الشعيرا
يريد: تصان بالجلال فأضمره.
51- وسألت عن قول الله عز وجل: { ولا ينظر إليهم يوم القيامة } . فقلت: ما معنى النظر في هذا الموضع؟
قال أحمد بن يحيى صلوات الله عليه: النظر على ثلاثة أوجه: نظر البصر، وذلك لا يجوز على الله تبارك وتعالى، ونظر العلم والذكر، ونظر العطف كقول الرجل للرجل: أنظر إلي نظر الله إليك أي أحسن إليَّ أحسن الله إليك، ونظر العلم فهو ما يكون من العلوم، مثل نظر العين والذكر، فيقول ذكرني فلان بخير، أي أحسن بي النظر، وأنظر إلي نظر الله إليك أي يخير مثله، ويقول الرجل لصاحبه: لا يسمع الله لك والله عز وجل يسمع، وإنما يعني به الداعي لا استجاب له جفاه، وكذلك قوله سمع الله لمن حمده، والله عز وجل يسمع من حمده ومن لم يحمده، قال الشاعر:
دعوت الله حتى خفت أن لا ... يكون الله يسمع ما أقول
يعني: أن لا يستجيب لي دعائي.
52- وسألت عن الكبائر التي توجب النار؟
قال أحمد بن يحيى رضي الله عنه: في كتاب الله تبارك وتعالى أربع عشرة كبيرة، من أتى واحدة منها ثم مات غير تائب دخل النار، فأولهن الشرك بالله عز وجل،
وذلك قوله عز وجل في سورة الحج: { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق } .
والثانية: أكل أموال اليتاما ظلما، وذلك قوله تعالى في سورة النساء: { إن الذين يأكلون أموال اليتاما ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا } .
والثالثة: أكل الربا، قال الله عز وجل: { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } .
والرابعة: قذف المحصنات، وذلك قوله عز وجل في سورة النور: { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم } .
والخامسة: الفرار من الزحف، وذلك قوله عز وجل في سورة الأنفال: { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار } ... إلى آخر الآية.
والسادسة: المهرب بعد الهجرة، وذلك قوله سبحانه في سورة محمد صلى الله عليه: { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من عبد ما تبين لهم الهدى الشيطان سؤل لهم وأملئ لهم } .
والسابعة: قتل المؤمن، وذلك قوله عز وجل في سورة النساء: { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاءه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما } .
والثامنة: عقوق الوالدين، وذلك قوله سبحانه في سورة بني إسرائيل: { ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما } . ثم ذكر بعد ذلك في سورة الأنعام وذلك قوله عز وجل: { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا } .
والتاسعة: استغناء الرجل بالرجال، وذلك قوله تبارك وتعالى في الثناء على بنية لوط صلى الله عليه وذكر قومه في سورة الشعراء حيث يقول: { أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون } . ثم
ذكر ما نزل بهم في سورة هود صلى الله عليه، وذلك قوله عز وجل: { وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود } .
والعاشرة: الزنا، وذلك قوله في سورة بني إسرائيل: { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا } .
والحادية عشرة: شهادة الزور، وذلك قوله سبحانه في سورة الفرقان: { والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما } .
والثانية عشر: كتمان الشهادة، وذلك قوله عز وجل في سورة البقرة: { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون } .
والثالثة عشرة: الفساد في الأرض، وذلك قوله تبارك وتعالى في سورة المائدة: { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم } .
والرابعة عشرة:أذى المؤمنين، وذلك قوله سبحانه في سورة الأحزان: { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا } .
53- وسألت عن قول الله عز وجل: { فاقع لونها } . فقلت: ما الفاقع في الكلام؟
قال أحمد بن يحيى صلوات الله عليه: الفاقع في لغة العرب الشديد الصفرة، تقول العرب أصفر فاقع، وأبيض يقف واصق أيضا، وأخضر ضر ونضر، وأحمر قان وناص، وأسود حالك وحابك معروف كل ذلك في اللغة غير مستنكر، قال الله عز وجل: { إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين } .
54- وسألت ما الدليل على أن الله تبارك وتعالى لم يخلق أفعال العباد وأن فعل العباد غير مخلوق من رب العالمين؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: الدليل على ذلك من كتاب الله سبحانه ومن الاحتجاج بالحق الواضح الثابت في العقول من ذلك قوله عز جل: { صنع الله الذي أتقن كل شيء } . فلما كان ظلم العباد ليس بمتقن علمنا أنه ليس من
صنعه، وقوله عز وجل: { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون } . ونحن نعلم أن الله عز وجل خلق الأنعام، وإنما نفى عن نفسه جعل ما جعلوه، والشق الذي جعلوه في آذان الأنعام، فعلمنا أن الذي نفاه الله عن نفسه هو كفر العباد، وقال عز وجل: { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } . فلما كان الكفر متفاوتا متناقضا، علمنا أن الكفر ليس من خلقه، وقال عز وجل: { وما جعل أزواجكم اللآئي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } . وقال عز وجل: { إن الله بريء من المشركين } . فهو عز وجل لم يتبرأ من خلقهم ولا من موتهم ولا من حياتهم، وإنما بريء من فعلهم وفي هذا الباب أدلة كثيرة يطول بها الشرح، وفيما ذكرنا لك كفاية إن شاء الله.
55- وسألت عن قوله عز وجل: { ويحذركم الله نفسه } . وقلت: إنما النفس تكون للمخلوقين؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: معنى ويحذركم الله نفسه يعني إياه، وذلك موجود في لغة العرب يقول الرجل نزلت في نفس الجبل أي في الجبل، وفي نفس الوادي وليس للوادي نفس ولا للجبل، وتقول أيضا هذا نفس الخبر وليس للخبر نفس، وكذلك تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك، يقول تعلم ما في نفس ولا أعلم ما عندك، وقال الأعشى البكري في نحو ذلك:
يوما بأجودنا يلا منه إذا ... نفس البخل تجهجمت سؤوالها
والنفس لا تجهم السؤال، وإنما المتجهم الرجل لأنه يدعي أن البخيل يتجهم سؤاله.
56- وسألت عن قول الله عز وجل: { فقليلا ما يؤمنون } . وقلت: كيف مخرج هذا القول حيث قال: { فقليلا ما يؤمنون } . وهم لا إيمان لهم من الأصل وقد صيره قليلا؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: يجوز ذلك على نحو قولك للرجل الذي تخاطبه وهو لا خير عنده البتة ما أقل خيرك جائز في اللغة، وكقولك ما أقل راحة أهل النار يريد لا راحة لهم البتة، وكقولك ما أقل النسا في بلد كذا وكذا وهي بلد ليس بها إنسان واحد.
وقال عمرو بن معدي كرب في نحو ذلك:
وكم من غائط من دون سلمى ... قليل الإنس ليس به كتيع
فقال: قليل الإنس فنسبه إلى القلة ثم قال: ليس به كتيع، يعني ليس به إنسان واحد.
ومن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث بن مسعود ليلة وفد الجن لو أطاعوا عليا لدخلوا الجنة أجمعين أكتعين. وقالوا: يعني باكتعين أنه لا يتغادر منهم صغير ولا كبير ذكر ولا أنثى.
57- وسألت عن قول الله عز وجل: { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق } . والآيات فدلالة وهدى ونور، فكيف جاز أن يصرف الله تبارك وتعالى عن آياته الخلق وهو الذي دعاهم إليها وإلى قبولها؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: ليس المعنى حيث ذهبت، ولا كما توهمت من أنه عز وجل يصرف عن آياته عباده من طريق الصد والصرف عن اتباعها، وإنما المعنى أنه جل ثناؤه يصرف أعداءه والمفسدين في أرضه عن إبطال آياته وإفسادها، وإدخال العيب فيها بما أظهر من دلائلها وعجائبها وحججها ونورها وبراهينها العظيمة، كنحو قولك للرجل سأمنعك من فلان أي أمنعك من أذاه وإدخال المكروه عليه، وذلك جائز في اللغة.
58- وسألت عن قول الله عز وجل: { إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون } . وقلت: كيف مخرج التزيين هاهنا؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: هذه المسألة تخرج على وجهين، وكلاهما حسن.
أما أحدهما فإنه يقول: زينا لهم أعمالهم من الطاعات، فتركوها فهم يعمهون.
وأما الوجه الآخر فإنه يجوز على الإمهال كنحو ما تقول العرب أنا الذي زينت لك عملك وأنا الذي أفسدتك، وهو لم يزين له عمله ولم يفسده، ولكنه أمهله ولم يغير عليه ولم يمنعه، فكان تركه له وإمهاله إياه مزينا له فعله إذ لم يحل بينه وبينه ولم يمنعه ولو منعه لم يكن من ذلك شيء فإنه عز وجل لم يقسر العباد على الطاعة قسرا ولم يمنعهم من المعصية جبرا ولو فعل ذلك سبحانه ما جاز أحد أمره، ولكنه أمر تخييرا ونهى تحذيرا، فلم يطع مكرها ولم يعص مغلوبا، ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي بينة وإن الله لسميع عليم، وإنما مخرج زينا على مجاز الكلام وقال جل ثناؤه: { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون } . يعني بالتحبيب والتكريه الأمر والنهي، وما وعد وأعد من الجنة والنار لا جبار على طاعته، ولا على معصيته عز الله عن ذلك وتعالى علوا كبيرا.
59- وسألت عن قوله عز وجل: { ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون } . وقلت: كيف جاز ليوسف صلى الله عليه أن يرمي بالسرقة من قد علم أنه لم يسرق صواعه؟
قال أحمد بن يحيى عليه السلام: قد قيل في هذه المسألة بجوابات كلها تجوز في لغة العرب وتثبت العدل والبراءة ليوسف صلى الله عليه من الظلم والإثم من ذك ما أنا ذاكره فافهمه إن شاء الله.
أما الوجه الأول فقالوا: أنه يجوز أن يكون المنادي نادى بغير أمر يوسف صلى الله عليه، فحكى الله عز وجل عن المنادي.
وأما أن يكون أمر بوضع الصواع في الرحل بغير علم المنادي الذي نادهم بالسرقة، فلا يكون المنادي تعمد كذبا، وذكر عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه أن يوسف صلوات الله عليه أمر المنادي بذلك وأضمر في نفسه إنكم لسارقون لي سرقتموني من أبي، وطرحمتوني في الجب، وهذا حسن.
وقول آخر قال بن يوسف صلى الله عليه قال: هذا على الاستفهام أنكم لسارقون على معنى { وذو النون إذ ذهب مغاضبا أن لن يقدر عليه } . على طريق الاستفهام، لأن نبي الله صلى الله عليه لا يظن أن الله عز وجل لا يقدر عليه والعرب تستفهم بغير ألف في كلامها. قال الشاعر:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا ... شعيب بن سهم أم شعيب ابن منقر
يريد أشعيب بن سهم أم شعيب بن منقر، فكل هذا قد قيل في تفسير هذه الآية، وقول أمير المؤمنين أحسنها عندي وكلها حسن جائز، وقد أعلمتك بما قال أهل العلم فيها، فافهم ذلك موفقا إن شاء الله. وإنما أراد يوسف صلى الله عيه بوضع الصواع في رحل أخيه ليأخذه به من أخوته، لأنه لم يكن يمكنه في دبن الملك أن يأخذه والأنبياء صلوات الله عليهم فلا تفعل فعلا إلا بأمر الله عز وجل، وذلك قوله سبحانه: { كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دبن الملك إلا أن يشاء الله } . فكل فعل من ذلك بإذن الله، لأن إذن الله عز وجل هو أمره، فهذا هو الحجة البينة في هذا الباب، وما أمر الله به فلا يعب فيه ولا إثم لوا كلام لمتكلم، قوله الحق وأمره الصدق، لا إله إلا هو العلي العظيم.
60- وسألت عن الجواب للمجبرة في قولهم أنه لم يكن بد لقريش من الخروج إلى بدر في حرب رسول الله صلوات الله عليه وآله وسلم فإن قال لهم أهل العدل: بلى قد كان لقريش بد من الخروج لو أرادوا ذلك. قالت المجبرة لأهل العدل: فأذن يلزمكم أن الله يخلق قوله في قولكم وأنتم تقولون أن الوعد والوعيد شيء لا ينتقض ولا يخلف، فنحن نلزمكم أنه يخلق وعده في قوله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولأصحابه { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين } . وهذه يلزمكم لنا أنه لم يكن بد لقريش من الخروج إلى بدر في حرب رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله؟
قال أحمد بن يحيى صلوات الله عليه: إن الله تبارك وتعالى إنما أخبر عنهم في معصية ولا يخرجهم من طاعة، فأخبر بما يختارون.
والجواب لهم في ذلك أن يقال لهم: أليس قد رويتم في كتبكم وأخباركم أن هذه الآية نزلت في أبي طالب بن عبد المطلب حيث قال الله عز وجل: { وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون أنفسهم وما يشعرون، ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا } .... إلى آخر الآية. فقد أخبر الله عز وجل عن أبي طالب، وعن وقوفه على النار كيف يكون كما رويتم أنتم وغيركم، ثم رويتم أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له عند الموت:( يا عم قل لا إله إلا الله وأقر أني رسول الله صلى الله عليه واضمن لك على الله الجنة )، فيقال للمجبرة: فما تقولون لو أسلم أبو طالب في ذلك الوقت. وأجاب النبي صلى الله عليه إلى ما أراد هل كان ينفعه إسلامه كما قال له رسول الله صلى الله عليه أو لم يكن ينفعه. فإن قالوا: لم يكن ينفعه إسلامه جهلوا رسول الله صلى الله عليه وخطوا فعله وأفسدوا ضمانه، وقد قال الله عز وجل: { وما ينطق عن الهوى } . وقال: { إن ابتع إلا ما يوحى إلي } . وإن قالوا: بلى قد كان ينفعه إسلامه لو أسلم، وجب عليهم أن وعد الله تعالى منتقض، وإن وعده يخلف، لا بد لهم أن يقولوا أحد القولين، وفي ذلك فساد قولهم وبطلان دعواهم، لأنهم إن زعموا أن قول النبي صلوات الله عليه وضمانه لأبي طالب أمر فاسد لا يصح، خطوا النبي وكفروا، وإن قالوا: إنه ضمان صحيح بطلت دعواهم في قولهم إن وعد الله يخلف في قول أهل العدل، لقول الله عز وجل: { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم } . فها هو الجواب، فافهمه وقف عليه إن شاء الله.
61- وسألت عن قول الله عز وجل: { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأءها إن ذلك على الله يسير، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم } . فقلت: فيقول القائل: وأي مصيبة أعظم من المصيبة في الدين وإن المصيبة مكتوبة على العباد؟
قال أحمد بن يحيى عليه السلام: لعمرو الله أن المصيبة في الدين لأعظم المصائب، ولكن الله عز وجل لم يعن بذلك الضلالة ولا الهدى، فقوله: { لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم } . فلو كانت هذه الآية في الأعمال لم ينبغي
للعبد إذا أطاع الله عز وجل وأحسن العمل أن يفرح ولا إذا عصا أن يحزن، ولكان ذلك منه خطأ وعصيان لله أن يفرح بما أوتي من خير في دينه، وأن يحزن على ما ضيع وفاته من دينه، لأن الله في قولهم قد نهى عن ذلك، وأذن لا ينتقض قوله، واختلف كتابه وقد قال: { ولو كان من عند غر الله لوجدوا فهي اختلافا كثيرا } . ولخالفت هذه الآية التي ذكرتم هذه الآية التي أنا ذاكرها، حيث يقول تبارك وتعالى: { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } . وقال عز وجل: { فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يعملون } . وليس وجه هذه الآية التي ذكرت على ما وضعوه عليه هم، إنما عنى الله عز وجل في هذه الآية المصيبات التي يصيب بها عباده في الأنفس والأولاد والأموال والثمرات، وما سخر لهم من الأشياء التي سخرها لهم به أعمالهم قبل نزول المصيبة لهم إن سوف يبتليهم وعلمهم كيف يقولون عند المصيبة إذا نزلت بهم، وما لهم فيها من الأجر إذا صبروا، وقالوا القول الذي علمهم وقال: { ولنبلونكم بشيء من الجوع والخوف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابته مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربك ورحمة وأولئك هم المهتدون } . يقول سبحانه إنما علمناكم ما تقولون وبينا لكم في ذلك من الأجر والثواب لكيلا تأسوا عند البلاء على ما فاتكم ولا عند المصيبة تجزعوا تسليما لأمر الله تبارك وتعالى، ولو كان الأمر على ما توهموا ما كان ينبغي لمن صلى وصام وحج وجاهد وفعل الخيرات يفرح، ولا لمن زنا وسرق وشرب الخمر وقتل النفس الحرام وعصى الله عز وجل أن يحزن على معصيته، ولكن الناس تركوا لاحق وأهله واتبعوا أهوائهم، وقلدوا أمر دينهم من أضلهم وأغواهم، وقد أمروا فأعرضوا وزجروا فلم ينتهوا، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
وأما الكتاب الذي ذكرت هاهنا فهو العلم، لأن الله عز وجل لا يحتاج إلى الكتاب.
62- وسألت عن قول الله عز وجل: { فول وجهك شرط المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } . فقلت: ما معنى هذا الكلام فإني لا أدري ما معنى الصلاة إلى شرطه دون كله، وأي الشرطين أقصد إذا صليت؟
قال أحمد بن يحيى صلوات الله عليهما: ليس الأمر على ما توهمت ولا على ما ظننت، وإنما لمعنى في الشرط الكل وذلك جائز في لغة العرب، تعني العرب بالشطر النحو فنحو لاشيء عندها شطره.
ألا تسمع قول زهير بن أبي سلمى حيث يقول:
وعارض عمه بوارقه ... شطراه ربح وشطره برد
يريد نحوه ريح ونحوه برد، ولم يكن على ما ذكرنا لك، لوجب أنه أثبت له ثلاثة شطور، وهذا مالا يجوز ولا يعقل في عجمية لوا عربية أن يكون للشيء ثلاثة شطور.
وقال خفاف بن بديه في مثل ذلك:
إلا من مبلغ عمروا رسولا ... وما تغني الرسالة شطر عمر
يريد نحو عمر.
وقال القيط الأيادي:
وقد أظلكم من شطر ثغركم ... هول له ظلم تغشاكم قطعا
يريد من نحو ثغركم وهذا معروف في لغة العرب غير متنكر ولا مجهول، وإنما عنى بذلك البيت الحرام فأي جوانبه استقبلت فهو قبلة، وليس من جوانبه جانب إلا وبصرك يحيط بجميعه وله الحمد، وإن كان بعضه بين عينيك ليس منه شيء داخلا ولا ذاهبا من موضعه، ولو ستر بعضه بعضا فكله قبله ونور وهداية لمن اهتدى به، نسأل الله الهداية بمنه وفضله.
63- وسألت عن قول الله سبحانه: { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } . قلت: فإن قال القائل: أهو بعض القرآن خير من بعض ما تقول له؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: المعنى في ذلك أنه يقول عز وجل خير لكم فهيا تخفيف لكم به خصه، وليس بعضه خير من بعض بل كله في الفضل والشرف والقدر عند الله عز وجل سواء.
64- وسألت عن قول الله عز وجل: { إن الله لا يحب الفرحين } . فقلت: ما معنى هذا والأنبياء صلوات الله عليهم والأئمة عليهم السلام والصالحون يفرحون؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: إنما عنى بالفرح في هذا الموضع البطر والأشر، وأن يفرحوا ولا يشكروا.
65- وسألت عن قوله عز وجل في قصة قارون: { ولا تنس نصيبك من الدنيا } . فقلت: كيف جاز أن يوصوه بالدنيا وهم يعظونه وكان هو أشد في طلب الدنيا وأحرص عليها منهم وأشد رغبة فيها؟
قال أحمد بن يحيى صلوات الله عليه: إن قومه لم يأمروه بطلب الدنيا والحرص عليها، وإنما ذكروه إنها طريق إلى الآخرة، فأمروه أن لا يذهب عمره في معصية الله عز وجل، لأن الدنيا فيها تكتسب الجنة، وقد سمعت قول أمير المؤمنين صلوات الله عليه حيث سمع الرجل الذي ذم عنده الدنيا، فصرخ به ثم قال:( الدنيا موضع صدق لمن صدقها )، مع كلام اختصرناه قد سمعته.
66- وسألت عن قول الله عز وجل: { ثم استوى على العرش } . فقلت: كيف مجاز الاستواء في التوحيد، وما معناه؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: الاستواء هاهنا هو الاستيلاء، والعرش فهو الملك معروف ذلك في لغة العرب، وأشعارها من ذلك قول زهير بن أبي سلمى حيث يقول:
تدار كتما عبسا وقد ثل عرشها ... وذبيان إذ زلت بأقدامها النعل
وفيه شواهد كثيرة وكلام يطول، ولجدي القاسم بن إبراهيم عليه السلام في العرش والكرسي كتاب بليغ اجتزينا عن التطويل في جوابك هذا، فأنظر فيه إن شاء الله.
67- وسألت عن قوله عز وجل: { بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } . فقلت: ما معنى ذلك؟
قال أحمد بن يحيى عليه السلام: معنى قوله: { يداه مبسوطتان } . يعني نعمتاه نعمته في الدين ونعمته في الدنيا، وكذلك قوله: { خلقت بيده } . وقوله: { عملت أيدينا أنعاما } . يقول: ما توليته بنفسي، والعرب تقول لمن تخاطبه في عنقك يا فلان لي يد يعني نعمة، لا أن في عقنه له يد لازمة بكف وأصابع، وقد قال الله سبحانه: { وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم } . فهل يجوز في العقول أن للمؤمنين عند الله عز وجل قدم مطروحة بعقب وأصابع، هذا ما لا يجوز في العقول ولا يتوهمه مسلم، وقد قال الشاعر في نحو ذلك:
تحملت من اسما ما ليس لي به ... ولا للجبال الراسيات يدان
والجبال ليس لها أيدي، فجاز هذا في لغة العرب، وإنما خاطبهم الله عز وجل بلغتهم التي بلغتهم التي يعرفون، وإنما جاء الهلاك في الدين والترك للتوحيد من جهل الخلق باللغة العربية.
ألا ترى أن العرب تقول ما زلنا نطأ السماء حتى وصلنا إليكم من مسيرة أيام كثيرة، وهذا الكلام عند من لا يفهمه غير جائز أن يكون أجد يطأ السماء وهو عند العرب وأهل المعرفة صحيح جائز، لأنهم يعنون بالسماء هاهنا الغيث أي لم يزالوا يطئونه حتى بلغوا إلى أصحابهم، وقال الشاعر في نحو ذلك:
وكأن نفحته وطيب نسيمه ... غب السماء صريمة مقفار
قال: غب السماء يعني به ثانية الغيث، أي اليوم الثاني من الغيث.
وقال الكميت بن زيد الأسدي:
تصل السماء إلى السماء ... بصوت أسحم ذي زماجر
يعني الغيث، فصيره سماء إلى سماء.
68- وسألت فقلت: كيف الجواب لمن قال: إن الله جل ثناؤه على عرش مثل السرير؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: نقول لهم: قال الله عز وجل: { لقد كفر الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء وقتلهم الأنبياء بغير حق سنكتب ما قالوا } . من احتاج إلى شيء من جميع الأشياء كلها صغيرها وكبيرها، فهو فقير غير غني، فيثبت على من قال أن له عرشا مثل السرير أنه محتاج، ومن زعم أنه محتاج إلى قليل أو كثير فقد أوجب أنه فقير ولزمه الكفر بقول الله عز وجل: { لقد كفر الذين قالوا إن لله فقيرا } . لأن من زعم إن الله عز وجل يشبه خلقه في مجيء أو ذهاب، أو صعود أو نزول، أو حركة أو سكون، أو عرش يستوي عليه كاستواء الملوك على أسرتها أو ملائكة تحمله ما يفعل الناس بحمل بعضهم لبعض، أو أمر من جميع الأمور التي يلزم التشبيه، فقد أوجب أنه فقير، ومن قال بذلك فقد كفر بالله العظيم، والله تبارك وتعالى هو الغني على الحقيقة لا على المجاز، فكل غني وأن عظم غناءه لم يكن يغني على الحقيقة، وإنما هو غنى المجاز، وذلك لو أن رجلا ملك الأرض ومن عليها لم يكن يغني، لأن الحاجة والفاقة، والعجز والفقر، لازم له، وإن ملك جميع الأرض ومن فيها، لأنه يحتاج إلى الطعام والشراب، والجيئة والذهاب، والغليظ والساب، فالفقر له مقارب في جميع الأسباب، والله تبارك وتعالى هو الغني لا يحتاج إلى شيء من جميع الأشياء كلها، وذلك قوله عز وجل: { هو الغني } . لأنه لا غني إلا هو تبارك اسمه.
69- وسألت عن قول الله عز وجل: { وهل يجازي إلا الكفور } . فقلت: أرى الجزاء ليس هو إلا للكفور وحده؟
قال أحمد بن يحيى صلوات الله لعيه: هذا من الإضمار الذي ذكرت لك في القرآن، والمعنى فهي وهل يجازي بالعقوبة إلا الكفور، ومثله من الإضمار ما ذكرت في قوله: { ولو لا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم } . يذكر بعده شيئا، والإضمار مشهور في لغة العرب قد قدمنا ذكره في هذه المسائل بما فيه الكفاية إن شاء الله، ومن ذلك قول الأعشى البكري:
أقول لما جأني قوله ... سبحانه من علقمة الفآخر
يريد: سبحان الله، فأضمره ولم يذكره.
70- وسألت عن قوله عز وجل: { وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا } . فقلت: إن قال قائلك كيف يجوز التسبيح للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والتسبيح لا يكون إلا لله جل ثناؤه؟
قال أحمد بن يحيى صلوات الله عليه: هذا مستعمل في لغة العرب من قصة تدخل بين قصتين، قال: { لتؤمنوا بالله ورسوله } . ثم ندب إلى نصرة النبي صلى الله عليه فقال: { وتعزروه } . أي: تنصروه، { وتوقروه } والتوقير لا يخفى على أحد، ثم رجع إلى نفسه تبارك وتعالى فقال: { وتسبحوه بكرة وأصيلا } . لأنه قال: { لتؤمنوا بالله } . ثم عطف الكلام حتى عاد إلى تسبيحه هو عز وجل.
71- وسألت عن قوله سبحانه: { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا } . فقلت: ما معنى التجلي من الله عز وجل؟
قال أحمد بن يحيى عليه السلام: قد قيل فيه بأقاويل لا أشك أنك قد عرفتها، وأحسنها عندي ما أنا ذاكره لك وهو أولى بلغة العرب، وله نظائر من القرآن، فافهمه ذهنك إن شاء الله.
قال: { فلما تجلى ربه للجبل } . يعني: فلما تجلى ربه بالجبل، أي تجلى لخلقه الذين كانوا مع موسى صلوات الله عليه بالجبل، يعني أن تجليه بالجبل هو دلالة لهم
عليه، فلما أوقع من الآية التي نظروا إليها فقامت اللام الزائدة مقام الباء، لأن حروف الصفات يعقب بعضها بعضا، والله تبارك وتعالى لا يتجلى للجبل، والله عز وجل لم يغب عن الجبل منذ خلق الجبل، والتجلي يلزم من كان عليه حجاب وستر، ثم تجلى عنه ذلك الحجاب، والله عز وجل متقدس متعال عن ذلك، لأنه شاهد كل نجوى، وحاضر كل ملي لا يخلو منه مكان ولا يخفى عليه، والتجلي فقد تعرفه العرب في لغاتها وأشعارها، وأنه يجوز عندها على يغر تجلي الرؤية من ذلك قول الشاعر يصف بعض الملوك، لأنه تجلى لقوم خالفوا أمره فوجه إليهم عسكرا ولم يبرح هو، قال الشاعر:
تجلى لهم بالمشرفية والقنا ... وإن كان من طعت الأسنة نائيا
فترى كيف خرج التجلي عند العرب وكيف جوازه في لغاتهم ومخاطباتهم، وقد قال عز وجل: { يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون } . فكيف يستوفون الخيرات لو سبقوا الخيرات لم يكن ذلك لهم ب فخر ولا لهم فيه مديح، وإنما المعنى فيه يسارعون في الخيرات وهم بها سابقون، فقامت اللام مقام الباء. قال اشاعر:
لقد نلت أموا لم تكن لتناله ... ولكن لفضل الله ما نلت ذلك
يريد بفضل الله، فأقام اللام مقام الباء، فها حجة في حروف الصفات التي يعقب بعضها بعضا، وقد جرى في ما سألت عنه نظائر لهذا في جواباتنا هذه، وفيه لك الكفاية بحول الله وقوته، وبهذا الجواب في هذه الآية يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون أجاب أبي الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين.
72- وسألت هل يجري على الله عز وجل شيء مما يجري على المخلوقين في بعض المعاني من قليل أو كثير؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: هذا قول لا يجوز ولا يصح في صفة الله تبارك وتعالى، لأنه يقول في كتابه: { ليس كمثله شيء } . وفي هذه الآية كفاية، لأن من صفة الخلق أن الله عز وجل جعل منه ساكنا ومتحركا، وحيا ومميتا، وجمادا وحيوانا، وناطقا وصامتا، وداخلا وخارجان ومنقطعا وليس بذهب منه شيء إلا فقد ونقص معناه، وليس يجوز على الله جل ثناؤه معنى شيء، وذلك إن جميع ما عددت لك مخلوق، والله عز وجل خلاف ذلك.
ومن الحجة أن الموصوف بتلك الصفة لا يكون فردا أبدا، لأنك تعلم أن الساكن وسكونه، والمتحرك وحركته، والحي وحياته، والميت وموته، والخارج وخروجه، والداخل ودخوله، وعلى مثل ذلك سيجري ما ذكرنا لك، والله تبارك وتعالى بريء من شبه ذلك عز وكرم وتقدس ذو السلطان العظيم.
وأعلم أن الله جل ثناؤه خلق الحواس الخمس، وهي السمع والبصر والشم والذوق واللمس للحار والبارد، واللين والخشن، وما أشبه ذلك مما تدركه الحواس الخمس، ولا يجوز أن يطلق إلى الله عز وجل منه، لأن السمع إنما سمع صوتا فحدث له منه علم بالأصوات، وكذل البصر إنما رأى شخصا فحصل له علم الأشخاص، وكذلك الأنف إنما شم ريحا فحدق له علم الأرواح، وكذلك الفم إنما ذاق فحدث له علم بما ذاق من حلو أو مر، وكذلك اليد إنما لمست فحدث له علم بالمحسوسات، والله عز وجل الخالق لذلك كله، والمصور له، والمستغني عنه، والله تبارك وتعالى خلق الإنسان لا يعلم شيئا حتى إذا استفاد المعارف والعلوم وكل ما وصفنا، وذلك قوله في كتابه: { والله آخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا } . فإذا كان الله عز وجل لا يشبه شيئا من جميع خلقه فهم من أن يشبه أفعال خلقه أبعد وأجل، فتعال الله أن يشبه المخلوقين أو في شيء من جميع المعاني كلها علوا كبيرا.
وأعلم أن حجة الله عز وجل قائمة بالتوحيد عن الله سبحانه قبل مجيء الأنبياء وبعد مجيئهم، لأن أنبياء الله صلوات الله عليهم إنما بلغوا التوحيد عن الله على ما يجوز من الكلام بين الناس، وقد ذكر الله تبارك يدا وسمعا، وبصرا وعلما، وعينا
ووجها، ونفسا وجنبا، وقبضه وبسطة، ومجيئا واستواء على عرش، واتيانا في ظلل من الغمام وغير ذلك مما يجوز في اللغة العربية التي غلط من أهل التشبيه المقصرين في توحيد الله عز وجل، فأنظر أنت ذلك إلى مجاز الكلام وكيف مخرجه في اللغة، فاحمل عليه دون التشبيه الذي لا يليق بالآدميين، تصب رشدك إن شاء الله، ولو لا الاجتزاء بما قد ذكره الهادي إلى الحق صلوات الله عليه في هذا المعنى في كتاب المسترشد لشرحناه وبيناه، ولكن لم يترك الهادي صلوات الله عليه لأحد كلام، مع ما بين في كتاب المسترشد ولله الحمد والمنة.
73- وسألت عن قول الله عز وجل: { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } ؟
قال أحمد بن يحيى صلوات الله عليه: إن من زعم أن الله تبارك وتعالى دعا العباد إلى أمر قد حلا بنيهم وبينه ونهاهم عما قضاه، وقدر عليهم أن يعملوا به وأراد بذلك المجبر السائل جهله، وأن يزين لنفسه خطأه ويكابر الحق الذي جاء من عند الله عز وجل صراحا بدعواه في قول الله جل ثناؤه: { وإنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } . كأنه يرى عند نفسه إن الله تقدس وتعالى قال لنبيه محمد صلوات الله عليه: أن دعاك للعباد وما أرسلناك من البرهان والنور والهدى والبينات والآيات الواضحات لا ينفع الناس شيئا ولكن أنا أقسر عليه من شئت منهم، وليس ذلك كما تأولوه ولا كذلك فعل الله عز وجل، وإنما كان ذلك أن رجلا كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكان ومنزلة، فحرص عليه أن يسلم فأخبر الله سبحانه نبيه صلوات الله عليه وعلى آله أن حرصك لا يغني أذن أيرى العبد أن يسلم، فإن أحدا لا يستطيع أن يغلب أحدا على إرادته وهواه إلا الله القوي القادر الذي يملك تصريف القلوب في الهوى، وبيده النواصي والأقدام، وقال: { ولو شاء ربك لآمن من الأرض كلهم جميعا } . أي قسر أو جبرا، وكذلك قوله: { ولو شاء الله لجعلهم على الهدى } . وليس من صفته جل ثناؤه أن يجبر أحدا من خلقه على طاعة ولا معصية حتى يختار كل منهم ما أراد م
ذلك لنفسه، وبذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
74- وسألت عن قوله عز وجل: { فمنهم شقي وسعيد } . وقلت: ما معنى ذلك؟
قال أحمد بن يحيى صلوات الله عليه: قوله: { فمنهم شقي وسعيد } . يقول: منهم ناج بعلمه سعيد في الجنة، ومنهم شقي بعلمه هالك في النار. وقال عز وجل: { ذلك بما قدمت أيديكم وإن الله ليس بظلام للعبيد } . فكيف تكون يداه قدمتا له، وإنما هو أمر قسر عليه زعمت المجبرة، وبطل قوله عندهم { وما ربك بظلام للعبيد } . نعوذ بالله لنا ولك من الجهل في دينه، والمعاندة لكتابه أنه منان كريم.
75- وسألت عن قوله تعالى: { ولا ينفعكم نصحي أن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم } .
76- كأنهم يرون أن القول على الله عز وجل يريد أن يمنعكم من الإيمان، ومما أمرني أن أدعوكم إليه من الحق وليس وجه الآية كما ظنت المجبرة، إنما عنى نوح صلوات الله عليه إن كان الله يريد عذابكم فلن ينفعكم نصحي، والعذب فهو الغي.
ألا ترى أن اله سبحانه يقول: { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا } . يقول: فسوف يلقون عذابا، وقول إبليس اللعين { فيما أغويتني } . يقول: فيما جعلتني وحكمت عليَّ أني من المعذبين، فالغي عقوبة كما ذكرنا، والغي على وجهين: عقوبة عاجلة، وعقوبة آجلة.
العاجلة ما أصاب إبليس من اللعنة وآخراجه مما كان فيه من الكرامة.
والآجل قول الله عز وجل: { فسوق يلقون غيا } . يقول: فسوف يلقون عذابا.
وجواب آخر يقول: إن كان الله يريد أن يغويكم ولم يقل قد أراد أغواءكم، وإنما قال إن كان على مجاز الكلام، ولم يقل أنه قد فعل، وبها أجاب القاسم بن إبراهيم صلوات الله عليه.
77- وسألت فقلت: ما الدليل على أن الله تبارك وتعالى عدل لا يجور؟
الدليل على أن الله تبارك وتعالى عدل لا يجوز: إقرارك أنه غني، لأنا وجدنا الجائز لا يحمله على الجور إلا استجلاب منفعة يجرها إلى نفسه، أو دفع مضرة نجاها على نفسه، فلما كان الله جل ثناؤه لا يستجر إلى نفسه منفعة ولا يدفع عنها مضرة، ثبت بالحقيقة أنه غني، وأن لاغني عدلا لا يجور، وهذه المسألة جواب الهادي إلى الحق صلوات الله عليه. وقولي فيها على قوله.
78- وسألت عن قوله: { أرساها } في مواضع من القرآن . فقلت: ما معنى ذلك؟
قال أحمد بن يحيى صلوات الله عليه: أرساها على وجهين في القرآن كل واحد منها غير صاحبه، فالوه الأول أرساها يعني: أثبتها، فقال في سورة النازعات: { والجبال أرساها } . يقول أثبتها في الأرض لئن لا تزول بمن عليها، وكقوله: { وقدور راسيات } . يعني ثابتات في الأرض.
والوجه الثاني من أرساها يعني به: حينا، والحين هو الوقت، فذلك قوله عز وجل: { أيان مرسها } . يقول مجيئها وقياما وحينما.
79- وسألت عن قوله عز وجل: { رب أرجعون } . فقلت: كيف جاز أن يجعل الله هاهنا جماعة؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: إنما يجوز هذا القول في التعظيم للمخاطب.
80- وسألت عن قوله عز وجل: { فلا أقسم بمواقع النجوم } . فقلت: ما معنى هذه النجوم؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: قد جاء في التفسير أن القرآن نزل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم آيات بعد آيات، فذلك في لغة العرب يجوز، تقول
العرب اجعلوا لنا الدية على آل فلان نجوما، أن يدفعونها إليهم شيئا بعد شيء، فيسمون ذلك نجوما. قال زهير بن أبي سلمى:
ينجمها قوما لقوم غرامة ... ولما يريقوا بينهم ملء محجم
وإنما أقسم بها كما أقسم بالطور، وإنما أراد بهذا القسم أن هذا القرآن لقرآن كريم، فهذا موضع القاسم وهو عندي الجواب في هذه المسألة.
والجواب الأول قول بعض أهل العلم.
81- وسألت عن تفسير الجهاد كيف معانيه في القرآن؟
قال أحمد بن يحيى صلوات الله عليه: تفسير القرآن على ثلاثة وجوه:
فالوجه الأول من الجهاد يعني به: القول، فذلك قوله عز وجل: { فاهدهم به جهادا كبيرا } . وهذا بمكة قبل أن يؤمر بالسيف، وقال في سورة النبي صلى الله عليه: { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم } . يعني بالقول الغليظ.
والوجه الثاني من الجهاد يعني به: القتال بالسلاح، فذلك قوله: { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين } . يعني: الذين يقاتلون في سبيل الله على القاعدين درجة، وكلا وعد الله الحسنى، وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما، وقال في براءة: { جاهد الكفار والمنافقين } . يعني بالسيف ومثلها في { يا أيها النبي لم تحرم } .
والوجه الثالث من الجهاد يعني به: العمل، فذلك قوله في سورة العنكبوت: { ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه من يعمل الخير فإنما يعمل لنفسه } . وقال فيها أيضا: { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } . يقول عملوا لنا، وقال في سورة الحج: { وجاهدوا في الله حق جهاده } . يقول أعملوا لله حق عمله.
82- وسألت عن قوله عز وجل: { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } . وقلت: ما المكاء وما مخرجه في اللغة؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: المكاء في لغة العرب هو الصغير موجود ذلك في كلامها وأشعارها، من ذلك قول عنترة العبسي:
وحليل غانية تركت مجدلا ... تمكوا ترابيد كشدق الأعلم
يقول: يصفر ويخور عند خروج نفسه حين قتله، وإن ترابيه زعم الشاعر مفتحة كشدق الأعلم، والأعلم فهو مشقوق الشفه.
83- وسألت عن قول الله عز وجل: { فإن طبن لكم منه نفسا } . فقلت: كيف جاز أن يقول نفسا واحدة وهن جماعة أنفس؟
قال أحمد بن يحيى صلوات الله عليه: ذلك جائز في لغة العرب، قال الربيع بن زياد العبسي في نحو ذلك لقومه:
فإن طبتم نفسا بمتقل مالك ... فنفسي لعمري لا تطيب لذالكا
فصيرهم نفسا واحدة وهم جماعة رجال كثير.
84- وسألت عن قوله عز وجل: { ومهيمنا عليه } . فقلت: ما معناه؟
قال أحمد بن يحيى رضي الله عنه: المهيمن هو الشاهد، قال عبد الله بن العباس يمدح ابن عمه أمير المؤمنين صلوات الله عليه:
إلا إن خير الناس يعد محمد ... مهيمنة التاليه في العرف والنكر
وفي أمير المؤمنين عليه السلام ما يقول عز وجل لنبيه صلوات الله عليه: { أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه } . يعين بذلك: النبي صلى الله لعيه وآله والتالي علي رضي الله عنه.
85- وسألت عن قوله عز وجل: { وكان الله على كل شيء مقيتا } . فقلت: ما معنى مقيتا؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: المقيت في لغة العرب برفعة الميم القادر على الشيء، المقيت بفتح الميم فهو البغيض، قال قيس بن الأسلت الأنصاري يذكر الاقتدار على الشيء ومعناه، قال في ذلك:
وذي ضعن كففت النفس عنه ... وكنت على اساءته مقيتا
يعني قديرا.
86- وسألت عن قوله عز وجل: { وكان الله على كل شيء وكيلا } . فقلت: إن قال لنا قائل: كيف يجوز أن يكون الله عز وجل وكيلا، ويقول العبد الله وكيلي، وكيف الجواب في هذا المعنى؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: قد بلغني أن القرامطة الكفار عليهم لعنة الله يحتجون بهذه الآية على جهال الناس، ويغالطون الغباة وأهل الغفلة، ويقولون: كيف يجوز أن يكون الله وكيلا، وإنما له الوكالة، يريدون بذلك الإلحاد، وإن كون وقدر خالقان، وذلك من جهل من يلقون من الناس بالدين وبلغة العرب التي خاطب الله بها عز وجل رسوله صلى الله عليه، وخاطب رسول الله صلى الله عليه القوم أهل اللسان العربي، الذي بعث صلوات الله عليه به.
فالجواب لهم عليهم لعنة الله أن يقال لهم: إن اللغة العربية واسعة، جهلتها القرامطة وغيرهم، ولذلك موهوا على الخلق الذين لا يعقلون، ومن ذلك أن العرب تسمي اسما كثيرة بأضدادها من الكلام، من ذلك أنك تقول: مولاي فلان الذي اعتقته، وفلان مولاي الذي اعتقني، فجاز الاسم لهما جميعا وهما ضدان، وتسمي العرب المكري الذي يكري الإبل كريا، وتسمي المكتري الذي اكترى من الجمال أيضا كريا. قال الشاعر:
كرية لا يطعم الكريا ... ومثلها لا يصحب المطيا
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( البيعان بالخيار ما لم يفترقا )، يعني: البائع والمشري، فسماهما تبعان، وإنما أحدهما بيع والآخر مشتري، والوكيل يجوز
في لغة العرب المالك للشيء كله يسمى وكيل، شيه أي مالكه، والوكيل لغيره سيما وكيلا وكل ذلك جائز في اللغة معروف غير منكر والحمد لله، لا ما ذهبوه إيه من الكفر، وإن كون وقدر يخلقان من دون الله عز وجل، وتقدس عما قالوا علوا كبيرا.
87- وسألت عن قوله عز وجل: { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا } . وقوله: { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار } . فقلت: ما معنى هذا في العدل؟
قال أحمد بن يحيى صلوات الله عليه: أعلم أرشدك الله أن الجعل في كتاب الله عز وجل يخرج على وجهين: فمنه جعل حتم وهو قوله عز وجل: { وجعلنا السماء سقفا محفوظا } . وقوله: { وجعلنا الليل والنهار آيتين } . وما أشبه لك من جعل الحتم.
والجعل الآخر فهو قوله عز وجل: { جعلناهم أئمة يدعون إلى النار } . فذلك جعل حكم وتسمية، أي جعلناهم وسميناهم بفعلهم، وكذلك أئمة الهدى استحقوا الإمامة بالهدى والتقوى، فحكم لهم بالهدى والتقوى، وجعلهم أئمة لعباده وكهفا ونجاة.