الكتاب : مجموع كتب ورسائل الإمام الحسين بن القاسم العياني العياني |
من مجموع… (1/1)
كتب ورسائل الإمام العياني
الطبعة الأولى
1424هـ - 2003م
حقوق الطبع محفوظة
روائع تراث الزيدية
من مجموع
كتب ورسائل الإمام العياني
تأليف
الإمام الحسين بن القاسم العياني
(376-404هـ)
تحقيق
عبد الكريم أحمد جدبان
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم بقلم الأستاذ زيد الوزير
معضلة المهدية أنها لم تجن على الحسين وحده، ولا على الحسينية وحدها، بل ألحقت بالهادويين أضرارا، فهي قد تركت في تاريخ الحسين ندوبا، وفي الحسينية قروحا، ما زال الناس يعالجونهما حتى يوم الناس هذا بدون أن يصلوا إلى نتيجة حاسمة، كما أنها خلقت للهادويين تساؤلات مريرة حول إمكانية دخول مهدية من هذا النوع في جسم يرفضها، وحُبست فيه، وحُسبت عليه ردحا من الزمن.
فكيف قبل الهادويون العقلانيون- الذين يرفضون بطبيعة تكوين مذهبهم- هذا النوع من المهدية؟ وكيف سمح لمثل هذا الوباء أن يتسلل إلى جسدٍ ملقح؟ ثم كيف استشرى هذا الوباء فأصاب بعدواه الكثير من الناس؟ ثم كيف استمر زمنا طويلا يجتحف الشمال اجتحافا؟ ثم لم يرتفع إلا بعد أن طنَّب أوتاده، ونصب خيامه، وترك وراءه ندوبا وقروحا؟. ثم لو كان الأمر مقتصرا على العامة لهان الأمر، ولقلنا إن العامة يجذبها الغموض المريب، وتتجاذبها الأساطير الغامضة، وتغريها الخرافات المعتمة، لكن الأمر تعدى ذلك إلى علماء وفقهاء وشعراء(1)، مما يعني أن الوباء قد تسرب إلى كثير من مفاصل الجسد الهادوي، فكيف نجد تحليلا لهذا الاندفاع القوي من قبل هؤلاء العلماء بالذات والشعراء نحو هذا المسقى الوبيء؟.
__________
(1) قال ابن الوزير (كان أهل هذا المذهب من الحسينية منتشرين في كثير من البلاد كـ "الظواهر"و"الاودية" و "شظب"و"الشرفين" و"صنعاء" و"بلاد جهة الحيمة" كان جميع فقهائها حسينية، وكذلك "بلاد سنحان" و "مذحج" وسائر البلاد، (ورقة ش:186) وقال: ولهم كتب في ذلك، وتصانيف ورسائل وأشعار، وهم عدد كثير وعلماء أعلام،(ش:184).
أسئلة بحاجة إلى بحث بل أبحاث. وفي محاولة لاستبيان انبثاق ذلك الوباء الذي يفترض ألا يفرخ في ذلك المناخ العقلاني الصرف نجد سببين مهمين وراء ذلك، مُستبْعدِين الحديث عن الاغراءات المالية المؤقتة، أو المنافع العاجلة، فهذه المهدية غير المنتظرة قد أصبحت تيارا واسعا. (1/2)
السبب الأول: أن فكر المهدية نفسها لم يكن غريبا على اليمن في هذه الفترة، بل وقبلها، وعندما وصل الهادي إلى اليمن في 6 صفر 382/1 أبريل 993 كان فقه الإمامية الاثني عشرية يشكل حضورا معلنا، وبالذات في الجنوب. وليس لدينا صورة تفصيلية عن مدى انتشار الإمامية في اليمن، لكنا نعرف الآن أن مدينة جيشان والجند وعدن في الجنوب وعدن لاعة في الشمال قد كانت حمى لها. وعلى حسب رأي البريفسور مودلينع فإن حضورها في اليمن كان مبكرا(1) والمعروف أن علي بن الفضل كان قد درس الإمامية في جيشان، والجند، وعدن قبل أن يتحول إلى الإسماعيلية(2). وفي هذه الفترة كانت "المهدية" قد ترسخت عند "الإمامية" وأصبحت عقيدة ثابتة، ومن المفترض أن يكون علي بن الفضل قد اعتنقها أيام إماميته، ومع أن الإسماعيلية لا تقول بالمهدية(3)
__________
(1) انظر ويلفريد مودلينع: الإسلام في اليمن ص 175 ترجمة الدكتور علي القباني. تحت الطبع
(2) أنظر حواشي القاضي محمد الأكوع على كتاب المفيد ص59-61 ح9.(تاريخ اليمن المسمى المفيدفي تاريخ صنعاء وزبيد.تأليف نجم الدين عمارة بن علي اليمني. حققه وعلق عليه محمد بن علي الأكوع الحوالي.الطبعة الثالثة 1985. المكتبة اليمنية.
(3) بل قد تهكم الداعي حسين بن عامر الحميري قال ناعيا على المهدي:
يامدعي الوحي إن الوحي قد ختما بالمصطفى فأمط عن نفسك الوهما
(سيرة الأميرين تقلا عن الشرفي عن مسلم ص43)
إلا أن اشتراكها مع الإمامية بالعصمة قد جعل لأئمتهم مكانة روحية فوق الآخرين(1). وربما كان السبب في اتهام "علي بن الفضل" بادعاء النبوة(2) يعود لما كانت عليه المهدية والعصمة من نشاط داخل المذهَبين، فالمناخ الذي وجد فيه الحسين وابن الفضل نفسيهما يتيح لهما أن يشبعا طموحهما باتخاذ أحد الوسيلتين، أو تكون الدعاية قد وجدت مناخا مهيئاً للإتصاق بهما. (1/3)
__________
(1) الإمام عند الإسماعيلية هو نور الله في الأرض وهم لا يقولون بأن نور الله حل في الإمام أو أن للإمام صفة إلهية كما يشاع.(والواقع أن التهمة التي ألصقها أعداء الفاطميين بهم من ادعائهم العلم بالغيب تهمة باطلة وقد ثبت لدينا لطلانها من أقوال الأئمة الفاطميين ومن شعر تميم بن المعز(سيرى الأستاذ جوذر. ص 149-150. تصنيف أب علي منصور العزيزي الجوذري تقديم وتحقيق د محمد كامل حسينو د. محمد عبد الهادي شعيرة دار الفكر العربيبدون ذكر التاريخ ولا رقم الطبعة).
(2) تكاد تجمع التواريخ اليمنية القديمة على ذلك. ويبدو أن اتهامه بها كان بافعل على عهده وفي أيامه. انظر رسالة الإمام المرتضى إلى الريان الهمداني في سيرة الأميرين الجليلين الشريفين الفاضلين ص 295. تأليف مفرح بن أحمد الربعي. تحقيق ودراسة رضوان السيد و عبد الغني محمود عبد العاطي. دار المنتخب العربي. الطبعة الأولى1413/1993م.
ومع أن الإسماعيلية -كما قلنا- لا تؤمن بالمهدية إلا أن شيئا من ذلك أو أعظم من ذلك قد ظهر على فرقة منها عند أتباع "الحاكم بأمر الله" الفاطمي - وكان "الحسين" قد عاصر الحاكم- وكما غاب الحاكم بأمر الله، فقد غاب المهدي لدين الله. وقد لا حظ محققا كتاب سيرة الأميرين "رضوان السيد" ومحقق هذا الكتاب شبها قويا بين الحاكم والحسين(1). وقبل ظهور المهدي أيضا دخل أبو الحسين الطبري - بعد رحيل الهادي والمرتضى والناصر- في إحدى سفراته إلى عدن في حوار مع إمامي(2). (1/4)
وإذن فالمناخ المهدوي كان له حضور قوي في اليمن في هذه الفترة. وهو نفسه الذي أحاط بالحسين وجذبه إليه وفصله عن مذهبه. ولكن السؤال الرئيس هو كيف قبل المهدي الحسين بن القاسم هذه الفكرة، وهو الذي يصر دائما في كتبه أنه موافق للهادي وابناه، وأنه منتم إليهما، حتى أنه أظهر عدم رضاه عن أبيه عندما اجتهد باجتهادات تخالف الهادي(3) وهو في كل كتبه ومواقفه يعلن أنه يستمد شرعية أفكاره من كتب الهادي وابنه المرتضى؟، ثم كيف انبثقت الحسينية من الهادوية وما تمثله يعتبر عدوانا عليها أي على الهادوية؟ ثم كيف يعتنق علماء وفقهاء هذه المهدية وهم في الأصل هادويون؟ ثم كيف يصر المؤرخون الهادويون على اعتبار الحسينية من الفرق الهادوية(4) في حين أنها -بمهديتها المنتظَرَة- قد خرجت من المذهب الهادوي ودخلت في المذاهب التي تقول بغيبة المهدي، ولم يبق بينهما- وقد أصبح الخلاف جوهريا- أي صلة.
__________
(1) تقديم سيرة الأميرين الجليلين الشريفين الفاضلين ص 42. وانظر مقدمة المؤلف
(2) المستطاب1 أ: 47. ب. 42. تأليف يحيى بن الحسين بن القاسم.
(3) تاريخ بني الوزير ش:187. تحت الطبع
(4) قال الإمام المهدي أجمد بن يحي المرتضى في الملل والنحل.. الزيدية افترقت إلى ست فرق الجارودية... وإفترق متأخروا الجارودية إلى مطرفية وحسينية ومخترعة (المستطاب 1: 3).
هنا مربض الفرس كما يقال، وهو ما يجب أن يسأل عنه، ويناقش فيه. وفي سبيل تحليل هذه المعضلة ينبغي البحث عنها والنظر إليها من خلال حالة الفكر الهادوي في تلك الفترة، وهي فترة كان فيها هذا الفكر يكابد من إعياء واضح، مما يؤكد أن الحسينية لم تكن لتنجح لو ظل الفكر الهادوي قويا ناشطاً كما كان. وهذا يسلمنا إلى دراسة السبب الثاني من أسباب نجاح المهدية الحسينية في حقل لايقبلها. (1/5)
ليس من شك أنه في هذه الفترة -التي تفجر فيها الوباء- كانت التربة الهادوية قد تحللت كثيرا، ولم تبق كما كانت صلبة متماسكة، فتسربت إليها المهدية، وشيء من الإمامية، وكثيراً من الجارودية. وكل واحدة كانت تقتطع لنفسها جزءا من الجسد الواهي. والمعروف تاريخياً أنه منذ أن توفي الإمام الناصر لدين الله في جمادى الآخرة 322/(1) مايو- يونيو934. إلى ظهور الإمام المتوكل أحمد بن سليمان، (دعوته 532/37-1138وفاته 566/70-1171) أي ما يقرب من 210 عاما من الفوضى والتقاتل، ولولا قوة المذهب الداخلي وصلابة أسسه لكان قد دمر نهائيا؛ لكن بسبب هذه القوة الداخلية كان المذهب الهادوي يمر في فترة إعياء واضح نتيجة الخلاف الذي تفجر بين أولاد الإمام الناصر لدين الله عليه السلام، وبينهم وبين القوى المحلية، وبسبب انعدام الأئمة العلماء المؤلفين. وبطبيعة الحال فقد أدى ضعف المذهب السياسي إلى ضعف انتشار المذهب الفكري بالرغم من وجوده محصورا في المساجد يعيد تكوين نفسه، وكما هو ثابت تاريخيا أن المذهب - في هذه الفترة- قد خلا من قادة سياسيين علماء مؤلفين يثبتونه وينشرونه، فتصاعدت قوة "الإمامية"، وزاد تواجد "الأباضية" و"الجبرية" بعد أن كان الهادي وابناه قد تمكنا من إنزال ضربات شديدة بها، أما الآن
__________
(1) سيرة الإمام أحمد بن يحيى الناصر لدين الله ص10-11. منتزعة منكتاب أخبار الزيدية تأليف مسلم اللحجي عني بتحقيقه ويلفرد ماديلونغ الطبعة الأولى 1990. إيثاكا برس إيكستر.
وبعد التفكك السياسي فقد كاد مذهب الهادي أن يتقوض، لولا جهود أبي الحسين الطبري وأمثاله، والتي لولاها ولخصوصية المذهب العقلانية لكان أبناء الناصر -بتقاتلهم- قد تكفلوا بإزهاقه. وقد آوى الطبري وأمثاله إلى المساجد يحافظون على مذهب الهادي ويحاولون نشره، تاركين الساحة العملية لمعارك مدوية تعصف باليمنيين عصفا، وتلوي بجهود الهادي السياسية وابنيه المرتضى والناصر. وليس أدل على ذلك من أننا لم نجد- في هذه الفترة وباستثناء الإمام المنصور العياني إماما مؤلفا(1)، يرسخ فكر الهادي وعقلانية المذهب ويمده بالنمو عن طريق الاجتهادات المتنوعة، ولم نعد نسمع حديث الأقلام ولا نستروح فوح الأوراق، وإنما نسمع صهيل الخيول وقعقعة السيوف، وهرير المتقاتلين. ولم نعد نرى شكلا لدولة حاول الهادي وابناه إقامتها على أسس فكرية، وإنما صراعا بين القوى الطامعة من أجل مآرب مادية، وأدى طول التناحر (210 عاما) إلى إضعاف الدولة التي أقامها الهادي. لم يعد هناك جهد-كما نقرأه في أخبار تلك الفترة الهائجة والمهتاجة- لبناء دولة، ولكن لبناء مراكز قوى تعيث في الأرض فسادا. هذه الحالة أثرت سلبا على أولئك الذين انضووا في مساجدهم يحاولون نشر النور وسط ظلمات بعضها فوق بعض. (1/6)
__________
(1) لم نذكر المهدي الحسين بن القاسم بن مؤلفي الهادوية حتى يتم الفصل في موضوع مهديته لأنه أن إدعاها فقد خرج من مذهب الهادي.
وفي أواخر عام 388/نوفمبر-دبسمبر998 ظهر الإمام العلامة المجتهد المؤلف المنصور بالله القاسم بن علي العياني فذكّر بالإمام العالم الرسي، وحاول أن يعيد للفكر دوره، وللدولة كيانها، لكن أيامه كانت قصيرة وحاربه الأقارب والأباعد فلم يتمكن من كبح جماح الهيجان الثائر، ولم يستطع بقلمه ومؤلفاته أن يغلب ما تخطه السيوف والرماح والأطماع، فمضى إلى ربه في 9 رمضان393/11 يوليو1003(1) مخلفا وراءه صراعا محموماً، لقد ساد مناخ مظلم حقا شكل فيها القاسم بن علي ومضة عابرة. (1/7)
في مثل هذه الأجواء المعربدة فوق الساحة الشمالية، يزداد الظمأ -وسط وضع نفسي متأزم- إلى شيء غيبي يظنونه منقذا، ويعتبرونه مخرجا، ولم يكن هذا العلاج إلا المهدية، ولم يكن المنقذ سوى المهدي الحسين؛ وبقتله في 4 صفر 404/15 أعسطس 1013(2) تعمدت مهديته في جلال موته. وللموت تأثير في كسب عواطف الأحياء.
__________
(1) السيرة كمصدر تاريخي بقلم ويلفريد مادلونغ ص 8 (سيرة الأميرينص 8).
(2) السيرة كمصدر تاريخي بقلم ويلفريد مادلونغ ص 8 (سيرة الأميرينص 8).
وقد احتدم الخلاف بعد موته بين المؤرخين حول ماإذا كان قد ادعا المهدية فعلا؟ أم أن أنصاره هم الذين نصبوه بعد موته مهديا؟ فيذهب الإمام أحمد بن سليمان إلى تأكيد ادعائه المهدية(1) وكذلك يذهب حفيده الأمير ذو الشرفين محمد بن جعفر في وصيته(2)، وذهب صاحب "بهجة الزمن" إلى أن الحسين أعلن بالفعل أنه المهدي الذي بشر به النبي (ص) في "قاعة" في شهر صفر سنة 401/(3) ستمبر-أكتوبر1010 وأيد هذا الاتجاه آخرون، بينما يظن البعض أنه خولط في عقله فادعا المهدية(4)، كما دافع عنه آخرون على رأسهم العلامة حميدان(5). وعلى كل حال فالخلاف (1/8)
__________
(1) للإمام أحمد بن سليمان قولان الأول في حقائق المعرفة وهو ينفي عنه مايقال عنه مع ذكره لنص رسالته إلى السيد الهادوي بصعدة التي يتهمه فيها بنكران مهديته. والقول الثاني في "الحكمة الدرية" وهو يثبت ادعاءه المهدية. وهذا يؤكد أن كتاب حقائق المعرفة أو الحكمة الدرية قد أضيف إليه ما ليس فيه. والأقرب أن الإضافة كانت في حقائق المعرفة لأن المتقدمين من المؤرخين يذكرون الإثبات.(انظر النصين في سيرة الأميرين ص 345-353).
(2) يشهد الأمير ذو الشرفين في وصيته: (أن الحسين بن القاسم المهدي لدين الله الذي بشر به الرسول عن الله وأنه صادق في كل ما ادعى) (ص 168وانظر 169) وفي وصيته الثانية يقول أنه (يشهد أن الحسين بن القاسم بن علي: المهدي لدين الله الذي بُشر به على لسان رسوله الذي يملأها عدلا كما ملئت جورا، وأنه الغائب المنتظر، الذي أتى فيه عن الرسول الخبر، وأنه صادق فيما ادعى من جميع الأشياء إذ لاينطق عن الهوى)(سيرة الأميرين 153).
(3) تاريح اليمن المسمى بهجة الزمن ص 44. تأليف تاج الدين بن عبد الباقي اليماني. تحقيق مصطفى حجازي.دار العودة بدون تاريخ ولا رقم الطبعة.
(4) قال ابن الوزير: (أما "الحسين" فقد صح اختلاله في عقله واختلاطه) (تاريخ بني الوزير ش:186).
(5) انظر كتاب الإشكال في الملحق.
حوله قائم حتى اليوم، وربما يظل إلى ما بعد اليوم فللناس أهواء وميول ليس من السهل التغلب عليها. (1/9)
إن ظهور المهدية في المحيط الهادوي إذن، كان نتيجة- ضمن أسباب ثانوية- إعياء سيطر على الهادوية أنذاك، ولكنها لما بدأت تستعيد نشاطها بدأ الإنهاك يضرب الحسينية ومهديتها ويقزمهما، الأمر الذي يؤكد أن ظهورهما وضعفهما قد ارتبط بضعف وقوة الهادوية نفسها، فبقدر ما كان الفكر الهادوي يقوى ويشتد، كانت المهدية تخفت وتتضاءل، حتى انتهت من ذات نفسها تحت إشعاع فكري قوي. وفي هذا دليل على أنها كانت دخيلة على الفكر الهادوي. لقد وجدت فرصة في تربة لم تتماسك بعد فانغرزت فيها، فلما نظفت هذه التربة جفت جذورالزرع الطارئ، والغراس الغريب. باختصار لقد ازدهرت الحسينية بسبب إعياء الفكر الهادوي وخمدت نارها بفضل يقظة هذا الفكر من إعيائه.
* * *
من الطبيعي أن يتعرف الناس على هذه الشخصية المثيرة من داخله، بعد أن عرفوه من خارجه. عرفوا حروبه ومقاتلته وعنفه وانتصاراته ونهضاته وذكاءه الحاد، وسمعوا عن تأليفاته الغزيرة، ونشاطه السياسي المحموم، لكنهم لم يعرفوه من داخله، أي من أفكاره هو. ولهذا فقد أحسن صديقنا العلامة المحقق "عبد الكريم جدبان"- وكم له من محاسن في مجال التحقيق والتأليف- إلى المهدي وإلى الفكر عامة وإلى التاريخ بصفة خاصة بتحقيقه ما عثر عليه من كتبه ورسائله.
فأما إحسانه إليه وإلى الفكر الهادوي، ومن ثم إلى التاريخ فلأنه قدم للناس جميعا ما وجده من كتبه وأفكاره، وسيقرأ الناس أفكار هذا الإمام المثير للجدل من مصادرها، وليس مما كتب عنه وعنها، ومعرفة عقلية الرجل تلقي أضواء على سلوكه. مع العلم بأن ما نشر حتى الآن ليست كل كتبه ومن ثمة ليس كل أفكاره، وإذا صحت الأبحاث الجديدة التي قام بها العلامة المحقق نفسه، والأستاذان "رضوان السيد" و "عبد الغني" من أن بعض كتبه قد نظفت من أشياء كثيرة أو لطفت فإنه يبقى لما جمعه المحقق فضل كبير. وعلى كل حال فكتاباه - الأكثر أهمية: الرد على من أنكر الوحي بعد خاتم النبيين والذي له مساس بمهديته، وكتابه المعجز- قد تعرضا بالذات لشبهة التنظيف، ولا شك أن ذلك لو كان قد حصل فإن البت في موضوع ادعاء الحسين للمهدية يقلل من فرص النجاح في الوصول إلى رأي قاطع(1). (1/10)
ولقد رأى المحقق أن يضم إلى مجموع كتب المهدي كتابا ليس من تأليفه، ولكنه من تأليف العلامة "حميدان بن يحيى" المعروف بهجومه على المعتزلة. وكتاب "رفع الإشكال" ألفه للدفاع عن المهدي والنضال دونه، وقد أراد المحقق بضم هذا الكتاب إلى المجموع أن يوجد نوعا من التوازن بين القائلين بأن المهدي قد ادعا المهدية، وبين القائلين بأن الحسينية هم الذين فعلوا ذلك. والمحقق العلامة ممن يغلب القول بأنه من (خلال موازنة الآراء والأقوال والأحكام التي صدرت معه وضده يرجّحُ القول أنه كان يذهب إلى القول بأنه المهدي المنتظر الذي بشر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم).
ومن هنا فهو قد أضاف رفع الإشكال ليخلق توازنا في العرض. وهو بهذا النص يعرض "المع" و"الضد" في إطار واحد.
__________
(1) سيرة الأميرين ص39 وانظر مقدمة المحقق.
وقد أبدى العلامة المحقق في هذا المجموع من الكتب والرسائل يدا خبيرة في شروط التحقيق، يمكن القول بكل اطمئنان إلى أنه قد استكمل فيه عدته وعتاده وأقدم على تحقيقها وهو ضليع بمعرفتها، محيط بأجوائها، ضارب فيها بجذور. وتحقيق التراث-كما هو معروف- ليس سهلا، فله شروط ومواصفات وضوابط، بحيث أنه لا يقدم عليه إلا من أوتي بسطة في المعرفة، ومعرفة بالحقل الذي يتعامل معه، وعلما بسعة أبعاده، وعمق تياراته. والمؤسف أن هناك في هذه الفترة هجمة على تحقيق التراث ممن يعرف ومن لايعرف، والأنكى من ذلك أن يحقق الكتب الرفيعة من ليس يعرف من العلم إلا قليلا، ومن شروط التحقيق إلا الأقل، والأكثر إيلاما أن يتناوله من ليس من اختصاصه فيسعى فيه فسادا وإفسادا، إن أي محقق -وخاصة لكتب علم الأصولين- لا بد أن يكون على علم بسعة بحارهم، وبقوة أمواجهم، وبعمق تياراتهم، وإلا فسوف يجرفه الموج ويطويه التيار، وله في محققنا وفي غيره من المحققين الكبار أسوة حسنة لمن أراد في التحقيق نبوغا. (1/11)
ومحققنا الفاضل باختياره لهذا النوع من الكتب يعكس اتجاهه العقلي وتفكيره العلمي، وما نشر من تحقيقاته حتى الآن تنبئك أنه يختار الأصعب والأعمق، ولا يختار الأسهل والأيسر، وهو قد حقق الآن عدة كتب ومجاميع، تضرب أكثرها في الأمور العقلية الشاقة التي تحتاج إلى تأن وصبر ومكابدة، وخرج منها بطريقة واضحة هي أنه لايسرع فيخل، ولا يتقحم فيضل، ولكنه يعرف أين يضع قلمه فيدُل، فبارك الله في جهوده، وسقى طلاب التراث من يده ما ينقع الغلة، ويشفي الظمأ.
ومن هنا فهذا الكتاب الذي يقدمه اليوم مركز التراث والبحوث اليمني إنما هو إضافة إلى سلك منضود قام به علامتنا المحقق الشاب المتمكن.
وفقه الله لبلوغ أهدافه العلمية.
زيد بن علي الوزير
لندن، يوم الجمعة
9 - جمادى الثانية 1424هـ/8 أغسطس 2003م
مقدمة التحقيق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحسين والحسينيه والمهدية
ليس هناك خلاف بين مؤرخي الزيدية في وجود الفرقة الحسينية التي زعمت أن الحسين بن القاسم العياني لم يَمُت، وأنه سيعود ليملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا، وأنه المهدي, وأنه أفضل من رسول الله, وأن كلامه أبهر من القرءان... إلخ تلك العقائد الباطلة التي ستمر بها، والتي استمرت إلى حدود القرن التاسع الهجري. (1/12)
إنما الخلاف في عقيدة الحسين بن القاسم نفسه. فأكثر الزيدية المتأخرين يميلون إلى نفي هذه العقيدة عنه، أعني عقيدة المهدية والرجعة. وسيرة مفرِّح بن أحمد للأميرين تُثبتُ وجودَ هذه العقيدة لدى الأميرين، وإن مال الشريف الفاضل إلى إخفائها، فقد خالفه أخوه ذوالشرفين في إظهارها والتأكيد عليها. كما تُثبتُ سيرة مفرح وجود الشيعة الحسينية القائلة برجعة المهدي الحسين بن القاسم كفرقة أو فريق في جيش الأميرين، لكنها لا تقول شيئا عن عقيدة المهدي الحسين نفسه.
وفي المصادر ما يشير إلى أنه كتب كثيرا وبسرعة، للرد على خصومه ممن أنكروا عليه استحقاقه للإمامة وهو ما يزال في مقتبل العمر، إذ أنه بويع وعمره (17) عاماً، وأن مدخره من العلم كان قليلا، وكان يصرّ -رداً على خصومه - على أنه موافقٌ في المذهب للهادي وابنه المرتضى، لكنه من جهةٍ ثانيةٍ يُشيدُ بمؤلفاته ويعتبرها متفوقة على كل ما كتبه السابقون من الأئمة وغيرهم.
ومن خلال موازنة الآراء والأقوال والأحكام التي صدرت معه وضده يرجّحُ القول أنه كان يذهب إلى القول بأنه المهدي المنتظر الذي بشر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم. صحيحٌ أن تلقُّبه بالمهدي لدين الله لا يشير ضرورةً إلى ذلك، فقد تلقّب بذلك أحد كبار علماء أهل البيت الثائرين بالديلم من قبل دون أن يدّعي المهدية(1) لكن هناك إلى جانب اللقب أمورٌ أخرى هي بمثابة قرائن تدعم شكوك مسلَّم اللحجي (ت 552 /1060) والمتوكل على الله أحمد بن سليمان (ت 566/73-1074) وابن الوزير (ت 840هـ/1436م) وصلاح بن الجلال (ت855/1451) وابن أبي الرجال (ت1092هـ/1681م) وإن اختلفت تعليلاتهم لذلك. (1/13)
من تلك الأمور، اتساع دعواه، مع ازدياد المعارضة له، وقسوته ضد منافسيه من آل الهادي، ومزاجيته الخاصة، وذهاب ابني عمه ومجموعة من أنصاره بعد مقتله إلى أنه لم يُقتل وسيعود، وعدم ادعاء أحدٍ من أبناء أسرته الإمامة بعده، بل الإمارة والاحتساب ترقُّباً- فيما يُظنُّ - لعودته، وانتشار دعاوى المهدية على رأس القرن الخامس، وأفكار وتيارات الغُلُوّ بشكل عام.
أما اتساع دعواه فيظهر في عناوين كتبه مثل: المعجز، والتحدي للعلماء والجهال، والرد على الزنيم(2) وغيره من الضُلال الكَفَرة الأوباش، والردّ على الملحدين، وكتاب الرحمة، والرد على مَن أنكر الوحي بعد خاتم النبيين، والولاء والبراء... إلخ.
__________
(1) هو أبو عبد الله محمد بن الحسن بن القاسم، المعروف بأبي عبد الله بن الداعي. خرج إلى الديلم ودعا إلى نفسه عام (353/964) ولم يلق نجاحا كبيرا، وتوفي عام (360 /70-971)عن سن عالية. قارن عنه: أخبار أئمة الزيدية في طبرستان وديلمان جيلان، نصوص تاريخية جمعها وحققها ويلفريد ماديلونغ، بيروت 1987م / 103 – 118.
(2) والزنيم رجلٌ اسمه: يوسف بن عقيب اتهم الحسين بالجهل.
وكان يمكن التحقق من غلوه أو عدمه من مؤلفاته لولا أنها -كما يبدو - نُظفت من قبل، وربما في عصر الشريفين ابني عمه، لأن المتوكل على الله أحمد بن سليمان (566 هـ) يأخذ عليه من ضمن ما يأخذ تسمية أحد كتبه بالمعجز(1) بينما المعجز كتاب الله وحده. وأخذُه عليه التسمية فقط يدل على أنه لم ير في الكتاب في عصره ما يزعج أو يثير القلق غير الاسم. والكتاب - أو ما بقي منه- بين أيدينا اليوم هو بالفعل غير مشكلٍ إذ اسمه الكامل: (كتاب المعجز الباهر في العدل والتوحيد لله العزيز القاهر) - وهو عبارة عن إجابات على أسئلة عن وجود الله، وذاته، وصفاته، على طريقة البغدادية من المعتزلة، وهو يذكّرُ من بعيد بأسلوب القاسم بن إبراهيم في الكتب المنسوبة إليه. فالظاهر أن الكتاب نُظِّف، وتعرّض للحذف والاختصار قبل انتشاره، فما استطاع الخصوم الاستناد إلى غير اسمه في الحطّ على الحسين بن القاسم. (1/14)
وربما استناداً إلى هذا الكتاب بالذات، قبل تنظيفه كان ذهابُ مَن ذهب إلى أن الحسين زعم أنه أفضلُ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن كلامه أبْهَرُ من كلام الله، ومعنى أبهر عندهم: أي أقطع للخصوم الملحدين من كلام الله!.
__________
(1) الحكمة الدرية/323: (وألّف في التوحيد كتاباً وسماه كتاب (المعجز) وهذا أول الخطأ في تسمية الكتاب لأن المعجز كتاب الله. وكان أكثر ما فيه أنه احتج على عُبّاد الأهوية... ثم قال بعد ذلك: إن العرش هو الله).
وهناك عنوان كتاب آخر من بين كتبه هو: "الرد على مَن أنكر الوحي بعد خاتم النبيين". ويبدو أنه على أساسٍ من هذا الكتاب قال عنه أحمد بن عبد الله الوزير وهو غير مُعادٍ له ولأسرته، إذ ينوّه بأن جدته لأبيه عاتكة بنت محمد بن إبراهيم من ولد علي بن القاسم بن علي العياني: (وعرض معه اختلالٌ لأجله صدرت منه أفعالٌ وأقوالٌ لا تصدُرُ من العقلاء. فادعا أنه أفضل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن كلامه أبهر من القرآن، وأنه يُوحى إليه في النوم)(1). (1/15)
ومع شدة اختصار كتاب الرد على من أنكر الوحي فيمكن التبيُّن منه فعلا أن الوحيَ في نظره عدة أنواع: قال في كتاب الرد على من أنكر الوحي: (فمنه ما يكون على ألْسُن الملائكة المقربين، ومنه ما يُخلَق في أسماع المرسلين، ومنه ما يُقذَفُ في القلوب، ومنه ما يُرى في المنام).
وهو ينفي إمكان الخطاب عن طريق الملائكة بعد خاتم النبيين، كما ينفي إمكان الخَلق في الأسماع بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أيضا...(وأما الوحي الذي جعله الله في المنام، فلا ينقطع أبداً عن أهل الفضل والإسلام، ولأئمة الهدى من ذلك ما لا يكون لأحد من المخلوقين، ولا يمكن أن يُلقى إلى أحدٍ من المؤمنين، لأن الأئمة شركاء النبيين، وفي ذلك ما يقول أمير المؤمنين، الهادي إلى الحق المبين، عليه صلوات رب العالمين: (بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "الرؤيا الحسنةُ من الرجل الصالح جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزأ من النبوة")(2).
__________
(1) تاريخ بني الوزير ص32.
(2) الأحكام في الحلال والحرام2/550 للإمام الهادي يحيى بن الحسين.
ثم يتابع متحدّثاً عن تجربته الشخصية: (ولقد شاهدنا بحمد الله من عجائب الأسرار المكتومة، ما لو ذكرناه لما صدّق به إلا مَن امتحن الله قلبه بالإيمان. وإني لأحتاج إلى الحاجة فأطلبها من مولاي تبارك وتعالى فأرى في المنام قائلا يقول: إن حاجتك التي تطلب في موضع كذا وكذا... وربما تحيّرتُ في سببٍ فأطلب منه البيان فما ألبثُ في منامي إلا يسيرا حتى أرى قائلا يقول: قد استُجيبت الدعوة...)(1). (1/16)
قال في مطلع البدور نقلا عن صلاح بن الجلال(2): (وما زال الأمر بينهما [أي الحسين بن القاسم العياني والقاسم بن الحسين الزيدي] حتى توفي القاسم العياني في نحو من سنة أربعمائة من الهجرة، فدعا الإمام الحسين بن القاسم العياني وكان صغير السن، غزير العلم، مصنفا له خمسة وسبعون مصنفاً.
(قال السيد صلاح الجلال: وزعم أنه المهدي المنتظر الذي بشر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فافتتن الناس به، وأقبلوا إليه مهرعين، وزعم أنه أفضل من الأنبياء، وأن كلامه ومصنفاته ورسائله أفضل من القرءان، وأبهر في ظهور المعنى وقطع كلام الخصم، فنفر الناس عنه فجار على الناس في صنعاء وغيرها، وطلب منهم الأخماس في كل شيء من الحلية والأموال حتى في العبيد والإماء، والثلث في سائر الأشياء من الحبوب(3) وغيرها، فمن ساعده في ذلك وإلا حكم عليه بحكم اليهود في ضرب الجزية، وسلب السلاح، ومن تعذر عن ذلك قتله وصلبه أو حبسه أو نحو ذلك، فلحق الناس في أيامه ما لا يعلمه إلا الله.
(حتى إنها وصلت رسالة من الإمام الداعي يوسف الأكبر في هذا المعنى، فجوب عليه أقبح جواب، وسبه أعظم السب، وسماه الزنيم الأبتر إلى نحو ذلك.
__________
(1) الرد على من أنكر الوحي..
(2) صلاح بن الجلال ولد بهجرة رغافة سنة 793/1391، وتوفي سنة 855/1451 ودفن بمشهد الإمام الهادي، وله كتاب اللمع في الفقه. وهو ممن حضر دعوة الإمام علي بن صلاح. مطلع البدور 1/462.
(3) في نسخة: الحيوان.
(وقد بلغ المؤيد بالله الكبير دعوته إلى هوسم، وهو في الصحراء والألوية منشورة، فطوى الألوية وأرسل رجلين إلى صنعاء لتحقق صلاحه للإمامة، فصادفا ما ذكر، فرجعا إلى المؤيد بالله فنشر الألوية. (1/17)
(وقد حمله أكثر الشيعة على عروض نقصان العقل. واتسع الحرب بينه وبين القاسم الزيدي، فكانت بينهما حروب، ثم جاء القاسم الزيدي بجنود كثيرة من بلاد مدحج، ودخل صنعاء وتملَّكها، فجمع الحسين بن القاسم العياني جميع القبائل من الأبوان والظاهر والمشرق ومأرب وجميع البلاد، ولم يعدهم بجامكية(1) ولا أرصاد، وإنما وعدهم بالإباحة لأموال[الخصوم](2) وسبيهم، فتسارع إليه الناس ووصل إلى صنعاء في عساكر جرارة كالغيوث المنهمرة، فتصادف هو والقاسم الزيدي عند طلوع الشمس لثماني بقين من شهر صفر سنة ثلاث وأربعمائة في حقل صنعاء، ووقع القتال واشتد القتام حتى دخل صنعاء من ناحية القطيع عند الزوال وملكها، وانهزم القاسم الزيدي إلى ناحية الفج، وسائر الجنود والرؤساء انهزموا في كل مذهب، وتشتتوا تحت كل كوكب، مع أن قد قتل منهم خلق لا يحصى عددهم، في حقل صنعاء، وفي جنب القطيع في حال الانهزام، ولحقت الخيل القاسم الزيدي وهو منهزم نحو الفج حتى أدركوه، وصرع وقتل عند أذان الظهر، وأمر الحسين بن القاسم أن تطأ الخيلُ القاسم الزيدي المقتول، وسائر القتلى بسنابكها، حتى من فيهم في التراب كل عرف(3).
__________
(1) الجامكية: كلمة تركية، معناها:الأجر أو الرتبة.
(2) بياض في المخطوط.
(3) كذا في المخطوط.
(ووصل علم من صعدة بأن الإمام يوسف الداعي توفي في ذلك اليوم بعينه، ودانت البلاد للحسين بن القاسم العياني، ثم بعد سنة مال عليه أهل ريدة وأهل البون وجميع همدان وأكثر أهل البلاد، فجمع الحسين جموعا كثيرة من الجوف ومأرب، والتقوا بذي عرار عند باب ريدة رابع صفر سنة أربع مائة،[26/9/1009] فجعل الحسين يحمل بنفسه مرات كثيرة، حتى احتوشوه وقتلوه بذي عرار، قتله رجل من بني ريح. (1/18)
(فزعمت شيعته وقرابته أنه لم يقتل وأنه حي منتظر، وشاع هذا الاعتقاد الباطل في الناس وفي جهال الشيعة نحو من ثلثمائة سنة إلى نحو من سبعمائة من الهجرة، واضمحل وقد وتلاشى وقد بقي منه بقية في جهال من الناس وفي عوام الشيعة وغيرهم، في الخيام ونواحيها ومغارب صنعاء. وقبره قد برز بعد ذلك وظهر في ذي عرار من رأس الثمان المائة فقطع خُطا خيالاتهم)(1).
وقال السيد حميدان: (وحتى أن من الناس مَن نسبه لأجل ذلك إلى الجهل، ومنهم مَن وصفه بزوال العقل)(2).
وقال الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان: (وأما قولهم: إنه أفضل من الملائكة والأنبياء عليهم السلام، فهذا ضرب من الجنون، وغلط من ادعاء الربوبية)(3).
قال السيد صارم الدين الوزير في البسامة مشنعا على من يدعي أنه المهدي المنتظر:
وأُنزلت ساحة المهدي قارعة ... بذي عرار ونقع الخيل لم يَثُرِ
وقال قوم هو المهدي منتظر ... قلنا كذبتم حسين غير منتظر
كيف انتظاركمُ نفسا مطهرة ... سالت على البيض والصمصامة الذكر
وللخيالات أوهام مسلطة ... على العقول التي ضلت عن الفِكر
__________
(1) مطلع البدور2/211.
(2) بيان الإشكال.
(3) حقائق المعرفة /247، (مخطوط) للإمام أحمد بن سليمان.
وأما قسوته ومزاجيتُهُ فتبدو في كثرة الناس الذين قتلهم بين عامي 401/1010 و 404/1013 وبينهم أناسٌ من أعقاب الهادي، كأنما ليقضي على مُنافسيه من بينهم. ويذكر يحيى بن الحسين تخريبه لدورٍ كثيرةٍ بصنعاء وصعدة، وحملته على رجالٍ وعشائر كانوا من أنصاره في الأصل(1). (1/19)
جملة من عقائد الحسينية
- أن الحسين يملك الأقاليم السبعة.
- أنه يعلم الغيب.
- أن كلامه أقوى وأبهر من القرآن والتوراة والإنجيل.
- أنه أفضل من الملائكة.
- أنه أفضل من رسول الله ومن جميع الأنبياء.
- أنه أعلم من جميع الأئمة حتى من علي بن أبي طالب.
- أنه هو المهدي.
- أنه حي لم يمت وإنما غاب وسيرجع.
- أنه يظهر لبعضهم ويشافههم.
- أنه يحكم بحكم آل داود.
- أنه أراد الخروج من البيت فانشق له جدار البيت.
- تحريم الزواج بنسائه من بعده.
- أن الحج إلى عيان بدل مكة.
- أن التيمم جائز مع وجود الماء.
- أن الخمس يجب في كل شيء من الحلية والأموال حتى الإماء والعبيد.
- أن الثلث يجب في سائر الأشياء من الحبوب وغيرها.
__________
(1) يحيى بن الحسين بن القاسم: كتاب أنباء الزمن في تاريخ اليمن 1/143، 144، 145. يقول يحيى بن الحسين (ص145): (وقد كان بعض البلاد خالفت عليه لمّا عقد سيره إلى الهان، فلما عاد فعل بهم ما لم يفعله إلا الظلمة، ولزم مشايخهم وصلبهم منكّسين، ووهب خيلهم وسلاحهم للشيعة، وألزم جماعتهم الجزية وقبضها منهم. وسار إلى صعدة في جيشٍ عظيمٍ فخرّب دُورَها...). وذكر ابن الوزير في تاريخ بني الوزير (ص213) قصة قتل الحسين بن القاسم لمحمد بن القاسم بن الحسين الزيدي الثائر عليه مستهجنا، وبخاصةٍ قوله بعد الوقعة: (إنما صُلْتُ بأوباشٍ على أوباش!).
هذه جملة عقائد الحسينية وعباداتها كما ذكرها الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان وغيره، والعجيب أن هذه العقائد دان بها الكثير وظلت مئات السنين، ومع هذا لم يسجل لنا التاريخ أي موقف لأئمة الزيدية ضد هذه الفرقة!! رغم أنهم قد تجاوزوا المعقول والمنقول إلى مستوى أن بعض الحسينية شهد للإمام الحسين العياني بالربوبية، وكانوا ظاهرين أيام الإمام عبد الله بن حمزة!! بينما وجدنا الموقف من المطرفية موقفا شديدا إلى مستوى التكفير والقتل والسبي!!! فهل لنا أن نتساءل ما هو السبب؟!!! (1/20)
وأما تطرفه فيتجلى في القصة التي ذكرها المتوكل على الله أحمد بن سليمان (566 /70-1171) وهي القصة التي وقعت له مع إمام مسجد الهادي بصعدة المحسن بن محمد بن المختار، أحد أحفاد الناصر تصبُّ في مصبّ التطرف الذي عُرف عنه.
الأمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان
قال الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان: (وأما الفرقة الثانية وهم الحسينية، وذلك أنه ظهر لهم إمام يقال له: الحسين بن القاسم ودعا إلى الإمامة، وألَّف في التوحيد كتابا وسماه كتاب (المعجز) وهذا أول الخطأ في تسمية الكتاب، لأن المعجز كتاب الله، وكان أكثر ما فيه أنه احتج على عُبّاد الأهوية. ثم قال بعد ذلك: إن العرش هو الله، فبينما هو يحتجُّ على عُبّاد الأهوية حتى جاء بمثل ما قالوا، ولم يسمع قول الله عز وجل: ?فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(129)? [التوبة]. فكيف يكون الله عز وجل رب نفسه؟!
(ولم يسمع قول الله عز وجل: ?وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)? [الزمر]، وقوله: ?وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ (18)? [الحاقة]، فكيف يكون تعالى محمولا؟! (1/21)
(وفي كتابه أيضا الذي سماه "المعجز" أنه قال: إن أسماء الله تعالى هي الله، والأسماء أشياءُ كثيرةٌ على ما ورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لله تسعةٌ وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة)، فجعل الله أشياء، وقد قال الله عز من قائل: ?وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا? [الأعراف:180]، فأدخل عليها الجمع والتأنيث ولام التمليك، وقد يدخل اسم الكل والبعض، كما يقول المصلي: باسم الله وبالله والأسماء الحسنى كلها لله، فأَحلّ (كلّ) هاهنا والتأنيث.
(ثم انتهى آخره بعد ذلك إلى أن ادّعا أنه المهدي، وأنه يملك الأقاليم السبعة. ثم انتهى آخره بعد ذلك إلى أن قال: إنه أفضل من رسول الله، وأن كلامه أَبهرُ من كلام الله.
(ثم كتب كتابا إلى إمام مقتصدٍ من بني الهادي إلى الحق عليه السلام وكان إمام مسجد الهادي إلى الحق عليه السلام بصعدة، وكان عالما عابدا عفيفا ورِعا زاهدا، وهو المحسن بن محمد المختار بن الناصر بن الهادي إلى الحق عليه السلام، وكتب إليه كتابا يقول فيه:
(أما بعد، أيها الفاسق المنافق، الرجس النجس، البغيض المبغض، فإنه بلغني أنك تهجوني، وتزعم أني لستُ المهدي، فأنت أنت ومن معك بكل علم أنزله الله والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وبكلِّ علمٍ أنزله الرحمن، فلا يكون في علمي إلا كالمَجَّة في البحر. وما أنت يا مسكين؟! وما الفرق ما بيني وبين الأنبياء الأخيار والأئمة الأطهار إلا كفرق ما بين الليل والنهار!
(فردَّ المحسن بن محمد رحمه الله جواب عاقلٍ عالم، فذمّ الرفث والقول الشنيع، وأنشد من قول العرب: (1/22)
ويشتموا فترى الألوانَ مُسفِرةً ... لا عَفوَ ذُلٍّ ولكن عفو أحلام
(واحتج عليه بكتاب الله وسنة رسوله الله صلى الله عليه وآله وسلم، منها: في ادعاء الفضل، قول الله تعالى: ?أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)? [النجم] واحتج في القرآن بقول الله تعالى: ?لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)? [الحشر].
(وهذا الكتابُ صحيحٌ منه، وهو في أيدي أصحابه إلى اليوم، وهو أيضا عندنا في كتب بني الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين المبتدا والجواب، ولا يمكن نفيه عنه لتواتر الأخبار، ولقرب العهد، ولإجماع المخالف والمؤالف أنه منه.
(ويجري من الجواب فيما ادعاه، قول الله تعالى: ?وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)? [الأنعام]. فهذا فيمن قال سأنزل مثل ما أنزل الله، فكيف من قال: إن جميع ما أنزل الله في علمه كالمجة في البحر؟! وهذا ضرب من ادعاء الربوبية. وقال الله تعالى: ?أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا (50)? [النساء]. (1/23)
(ثم لأصحابه بعده أكاليم مستنكرة.
(منها: أنهم ادعوا أنه يعلم الغيب.
(ومنها: أن رجلا من بني أخيه يقال له: قاسم بن محمد بن قاسم بن جعفر زعم أنه يشافهه ويكالمه. وحَدّثني مَن أثِقُ به أنه قال له: هل رأيتَ المهدي أنت؟ قال: نعم. قال: كان معي في بيتٍ ثم قام وتهيَّأ للخروج، فانفلق له جدارُ البيت فخرج منه ولم يخرج من الباب. وقال: إنه أمره بالحج إلى عيان فأقام يحجّ سنينَ كثيرةً، وفتح شريعة الحجّ من مكة إلى عيان، فأقام يحجّ سنين كثيرةً هو وقوم من أصحابه قدر مائة رجل ويزيدون. وكانوا يفعلون ذلك في أيام عيد عرفة، حتى قال فيهم:...
حَجَّ الأنامُ إلى المحصّب من مِنًى ... وإلى مَدَقّة حَجَّ آلُ القاسم(1) (1/24)
(ولهم مخالط كثيرةٌ! وفيما أوردنا من جهلهم وكذبهم وقلّة عقولهم كفاية)(2).
وقال الإمام أحمد بن سليمان أيضا: (ثم قام بعده [أي الإمام القاسم العياني] ولده الحسين بن القاسم فدعا إلى طاعة الله وإلى الجهاد في سبيل الله، ثم بدا منه بعد ذلك أنه هو المهدي، قال: الذي تُملا به الأرض عدلا كما ملئت جورا! أو قيل: إنه قال: هو أفضل من رسول الله، وكلامه أبهر من كلام الله! وكان قد طلّق زوجةً له وانقضت عِدتُها وتزوجها رجل، فلما علم بنكاحه لها، أخرجها منه بغير طلاق! وتشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتج بقول الله تعالى: ?وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)?[الأحزاب])(3).
__________
(1) بينما يؤكد الإمام أحمد بن سليمان بالرواية عن شخص مسمى يذهب أحمد بن عبد الله الوزير إلى أنه (لابد للمتخالفين في الاعتقاد أن يرمي كل واحد صاحبه بما لم يقله في أهل الحق والباطل، ومما رمى به "الجعيد" القاسمية" انهم حجوا إلى قبر "القاسم بن علي" عليه السلام..وقد أنكروا ذلك. وليس في زيارة قبور الأئمة عليهم السلام نكير وإنما ذلك من قبيل التشنيع.(تاريخ بني الوزير ص211)
(2) الحكمة الدرية /323، (مخطوط) للإمام أحمد بن سليمان.
(3) وربما كتب لهذا السبب كتابه الأكفاء، وهو يقيم فيه الكفاءة على أساسي: المنصب والدين، ويتهدد من يخالف ذلك في منطقة سيطرته بالنكال: (ومن لم يزدجر من أولئك بآدابنا وكلامنا فسنردُّه إلى الحق بسيوفنا ورماحنا. وقد عرّضتُ لمن عقل بالتلويح قبل المباينة والضرب والتصريح. فمن قبل ما أمرنا به من حكم القرآن وإلا قتلتُهُ بحدّ السيوف والمران).
(وقال في كتاب كتبه إلى محسن بن محمد بن المختار بن الناصر بن يحيى الهادي عليه السلام - وكان من فضلاء أهل البيت وعلمائهم - وقد سأله عن مسائل، وأنكر عليه كلامه الذي تكلم به، فرد عليه كلاما فظيعا، وسبّه سبا شنيعا، ثم قال في كلامه: وما عسى أن تكون مسائلك في علمنا، وإداوتك في بحرنا؟! وما فضلُ علمنا على جميع العلوم إلا كفضل الشمس على جميع النجوم، وكل معجزة من الله الواحد القيوم. (1/25)
(وما الفرق بيني وبين الأئمة الأخيار إلا كفرق ما بين الليل والنهار! وشتان- يا جاهل- بين النجوم والشمس! وهل يوجد لنا نظيرٌ من الجن والإنس؟! وقد علم الله مَقتي للفجار، ولكن يجوز ويحسُنُ عند الاضطرار.
(ثم أغرق في كلامه وأفرط وقال: ما يكون علم الأنبياء؟ّ! وعَدَّ من موسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وعلم الأئمة عليهم السلام من علي بن أبي طالب إلى أبيه القاسم بن علي عليه السلام، إلا كعُشر العُشر من علمه.
(ثم قال: فأَحضِروا التوراة والإنجيل والفرقان، وكل علمٍ أوجد الرحمن، فإنكم تجدون قولي أقوى من ذلك حُججاً، وأَبين بيانا، وأوضح نورا، وأعظم برهانا، فما عسى أن تكون مسائلك؟ وذكر كثيرا من جنس هذا.
(فرد عليه محسن بن محمد جواب عاقلٍ عالمٍ، يَذُمُّ فيه السب والكلام المعور، وأورد من كلام الله حججا، مثل قول الله: ?لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ? [النساء:148]، وكقوله: ?وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)? [الفرقان]، وكقوله: ?وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)? [آل عمران]، ومثل قوله: ?فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ? [البقرة:109]، وكقوله: ?وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14)? [التغابن]. وأورد أيضا أبياتا من أشعار العرب، منها قول الشاعر:
ويُشتموا فترى الألوانَ مشرقةً ... لا عفو ذُلٍّ ولكن(1) عفو أَحلامِ (1/26)
(واحتج عليه في ادّعائه أن كلامه أبلغُ من كلام الله بآيات من كتاب الله، منها: أن الله تعالى قد تحدّى الجن والإنس بأن يأتوا بسورة من مثله فما فعلوا ولا قدروا، وذلك قول الله تعالى: ?لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ? [الحشر:21]، وأمثال ذلك. وأورد في ذم الافتخار قوله تعالى: ?فلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)? [النجم]. وبما أشبه ذلك.
(ونحن ننفي عنه هذا الكلام ونقول: هو مكذوبٌ عليه ولا يَصحُّ عنه، وهذا ادّعاء باطلٌ وفسادُهُ ظاهر (2)
__________
(1) في الحقائق: بل. والصواب ما أثبت.
(2) أنا في شك من هذه العبارة أنها من كلام المتوكل على الله أحمد بن سليمان!! بل لا أستبعد أنها أضيفت إلى كتابه بعد وفاته بفعل فاعل، لأربعة أسباب:
الأول: أنه قال في الحكمة الدرية: (وهذا الكتاب صحيح، وهو في أيدي أصحابه إلى اليوم، وهو أيضا عندنا في كتب بني الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين المبتدأ الجواب، ولا يمكن نفيه عنه لتواتر الأخبار، ولقرب العهد، ولإجماع المخالف والموالف أنه منه)). فهو هنا ينفي إمكان نفي الكلام عنه، ويدعي التواتر والإجماع على نسبته إليه، مع أنه أمر لا يخفى على مثله، لقرب العهد كما يقول.
الثاني: أنه لو كانت هذه الفقرة من كلام المتوكل على الله، لأثبتها في الحكمة الدرية، لئلا يلبس على الناس.
الثالث: أن كلامه متسق بدون هذه العبارة، مما يؤكد أنها مدسوسة في كلامه.
الرابع: أن من سبقه قد ذكروا ما أشار إليه. والله أعلم بالصواب، فإنني أشك في كثير من النقول والتهم المذهبية، لأن الداعي إلى كثير منها متوفر، سواء في حق الحسينية أو المطرفية، أو غيرهم. ولا ينبئك مثل خبير!!!
وإنما أردنا أن نبين القول فيه، لأن قوما من بني إخوته وشيعته قد صاروا يرون قوله هذا دينا، وقد صاروا فرقةً يناظرون عليه ويحيون ويموتون عليه، وينسبون من لم يقل به إلى الكفر. ويقولون: لم يُقتل ولم يَمُت، ولا يموتُ حتى يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا. ويقولون: إنه يعلم الغيب، وذلك لجهلهم وقلة معرفتهم لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. (1/27)
(ومن جهلهم أنهم قالوا: هو يحكم بحكم آل داود! فإذا سألهم سائل عن حكم آل داود كيف كان؟ قالوا: يعرفُ المُحِقَّ من المبطل من الخصمين قبل أن يتكلما! ولم يعلموا أن داود عليه السلام سئل عن نفسه فلم يعلم، ذلك قول الله تعالى: ...إلى قوله: ?وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (س). (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)? [ص:21-25].
(واعلم أن قولهم هذا غلط بيِّن من وجوه:
(منها: أن الله تعالى يقول: ?قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)? [النمل]، وقوله: إنه يعلم الغيب تكذيب لكتاب الله. وقال تعالى: ?وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) [لقمان]، وقوله: وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء? [البقرة:255]. (1/28)
(وقولهم: إن كلامه أبلغ من كلام الله، وأقوى حججا، تكذيبٌ أيضا لكتاب الله، لأن الله تعالى يقول: ?قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) ([الإسراء]، وقال تعالى: ?وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)? [الأنعام].
(وأما قولهم: إنه أفضل من الملائكة والأنبياء عليهم السلام، فهذا ضرب من الجنون، وغلط من ادعاء الربوبية، وذلك أنه قد أتى في كتاب الله أن الملائكة موكلون بأمر الله، قال عز من قائل: ?وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)? [النازعات]، وقال: ?قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ? [السجدة:11]، وقال تعالى: ?مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)? [ق].
(فإن كان ممن يموت فَمَلَكُ الموت موكَّلٌ عليه، والوكيل أفضل من الموكَّل عليه. (1/29)
(وإن كان لا يذوق الموت فهو رب، تعالى الله عما يقول الجاهلون علوا كبيرا.
(وأيضا فإن الملائكة صلوات الله عليهم هم خزنة الجنة وخزنة النار، والخازن يكون أفضل ممن يخزن عليه، فبطل قولهم: هو فوق الملكوتية.
(وأما قولهم: هو أفضل من رسول الله، ولم يعلموا أنه ما استحق الإمامة إلا بفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك علم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقرابة من رسول الله صلى الله وسلم. ولو كان أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم لجعله في مكان رسول الله، ولأنزل عليه الكتاب والمعجزات، وهذا القول خروجٌ عن الحدود المضروبة، والله تعالى يقول: ?فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)? [النجم:32]، وقال تعالى: ?النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ? [الأحزاب:6]، وقال تعالى: ?لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)? [آل عمران].
(وأما قولهم: هو أفضل من رسول الله، لأنه يملك الأرض كلها ولم يملك رسول الله صلى الله عليه وسلم كل الأرض، فليس ملك الأرض يوجب فضلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ملك آل داود ما لا يملكه أحد من بعدهم ولا ملكه أحد من قبل، قال الله تعالى: ?وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)? [ص]. فصح أنه لا يُعطى أحدٌ بعده مُلكا في الدنيا واقتداراً، مثل ما أعطى سليمان عليه السلام. ومع ذلك فإن سليمان لم يدِّع أنه أفضل الأنبياء، لما أُعطي من ملك الدنيا ما لم يُعطوا مع مُلك الآخرة. (1/30)
(وقد عُرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ملك الدنيا فكره ذلك وقال:"الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ويجمعها من لا عقل له" فلو كان الحسين بن القاسم قد ملك الدنيا بأسرها ثم افتخر بملكها، وادّعا ما ادّعا، لكان ذلك قبيحا منه، فكيف ولم يكن من ذلك شيء؟!
(وأيضا فإن المؤمن لا يكون مؤمنا حتى يكون مستعظما لسيئاته، مستصغرا لحسناته، قال الله تعالى: ?وَا لَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)? [المعارج]. وبأقل قليل مما تكلم به تسقط إمامته، اللهم إلا أن يكون الكلام مكذوبا عليه)(1).
* * *
__________
(1) حقائق المعرفة /247، (مخطوط) للإمام أحمد بن سليمان.
هذا الغُلُوّ البادي في الأقوال والتصرفات دفع مسلَّماً اللحجي - خصم الشيعة الحسينية لا خصم الأشراف القاسميين - إلى الزعم بأن المهدي الحسين بن القاسم ووالده المنصور كانا يريان أشياء تقضي بمخالفتهما لمذاهب أسلافهما، وأنهما ربما يسترجحان أشياءَ من مذهب الفاطميين(1). (1/31)
__________
(1) ليس فيما بين أيدينا من تاريخ مسلّم تصريحٌ بذلك، بل هناك اتهامٌ لبعض المتظاهرين بالتعصب لمهدية الحسين بن القاسم بأنهم كانوا جواسيس للإسماعيلية لفتنة عوامّ الزيدية. لكن الزُحيف، محمد بن علي بن يونس (916 /10-1511) ينقل ذلك عن مسلّم (في اللواحق الندية للحدائق الوردية، أو مآثر الأبرار في تفصيل مجملات جواهر الأخبار) 2/714، ويأخذ ذلك عنه الشرفي (ت1055/1645 في اللآلي المضية. فربما ذكر مسلّم ذلك في القسم الثالث الضائع من تاريخه. وقارن بأئمة اليمن للسيد محمد زبارة 1/85. ويذكر يحيى بن الحسين في أنباء الزمن 1/144 أن الحسين بن القاسم أغار على صنعاء مع أخيه عام (402 /1011: (فهدم دوراً لأهل صنعاء، واصطفى أموالهم، وأخذ أخماسها موافقةً للعبيدية).
على أن المعروف أن الإسماعيلية لا يقولون بمهديًّ منتظَر، وإن كانوا يرفعون القائم من أئمتهم إلى مراتب من الخشوع والتقدير والطاعة لا تعرفُها الزيديةُ على الإطلاق. ويكون علينا هنا أن لا ننسى أن الحسين بن القاسم جاء على رأس القرن الخامس، ورؤوس القرون يظهر عليها وفيها المجدِّدون والمهديّون، وأصحاب الأحلام الكبرى في تاريخنا كله، والمذاهب الإسلامية تمر بفترات تخلِّف وركود فكري، يعمد فيها المهووسون إلى دعاوى غريبة وهرطقات عجيبة. والشبهُ قويٌّ بين الحاكم بأمر الله (386-411/996- 20-1021) الخليفة الفاطمي المعاصر بمصر، والحسين بن القاسم باليمن. فكلاهما وصل للسلطة وهو فتىً صغير. وكلاهما وُوْجِهَ بمعارضةٍ قويةٍ من الطامعين بالسلطة. وكلاهما أحسَّ بالغربة في محيطه فغاص في عالمٍ خاصٍّ به بدت آثارُهُ في تصرفاته. وكلاهما كان قاسياً، متقلّب المزاج، بالغ العنف مع الخصوم والأصدقاء. لكن النظرية الإسماعيلية في الإمامة والأئمة تملكُ من إمكانيات المُضيّ والغُلُوّ ما لا يتوافر حتى في حدّه الأدنى في الإمامة عند الزيدية. (1/32)
ومن هنا وصل الحاكم إلى ادّعاء الأُلوهية - أو قيل ذلك عنه(1)
__________
(1) الدراسات حول الحاكم بأمر الله كثيرة، وهي تختلف اختلافا شاسعا في تفسير تصرفاته خلال فترة حكمه، كما تختلف في تفسير وتأويل حَدَث اختفائه أو مقتله. وأحدث تلك الدراسات وآخرها اثنتان: إحداهما: ليوسف فان J. van Ess بعنوان: الأحلام النشورية ومغامرة التألُّه: الخليفة الحاكم (386 – 411 هـ) (هايدلبرغ / بالألمانية /1977). وهو يوافق فيها مذهب القائلين بادّعاء الحاكم للألوهية لعلتين: الإمكانيات الكامنة لذلك في النظرية الإسماعيلية، وانتظارات الناس والقرانات الفلكية على رؤوس القرون.
والثانية: لهاينز هالم H. Halm بعنوان: أمين الله في الأرض: مراسيم الخليفة الحاكم (مجلة Der Islam 63، 1986، / 11 – 72) وهو يذهب إلى استبعاد ذلك عنه، ويحاول بالرجوع إلى المصادر الأصلية المعاصرة أو شبه المعاصرة له، إثبات وجود سوابق كثيرة لدى الفاطميين لمثل تصرفاته، وإن تكن كثافة تلك التصرفات تشي بإمكان وجود تشككٍ وخوفٍ مَرَضيَّين لديه تجاه محيطه للظروف التي أحاطت بسنيّ وصوله الأولى إلى السلطة في صغره، بالإضافة إلى نزعة متأصلة لديه للزهد والتطهر والسياحة، وإحساسه الحاد بأنه ((خليفة الله)) والمؤتَمَنُ على الناس، والرادع لهم عن التردي في مهاوي الغفلة والفساد.
- بينما لم يتجاوز الحسين بن القاسم تلميحات وخواطر كان لا بُدَّ أن يستعيرها من الفِرَق الشيعية الغالية لانعدامها في الفرقة الزيدية، ولتشدُّد أهل اليمن في الارتباط بالهادي ومذهبه. فبينما يشكّل كُل حاكمٍ أو إمامٍ جديدٍ عند الإسماعيلية عهداً جديداً تماماً يستطيع فيه أن يفعل ما يشاء، ويذر ما يشاء، فإن زيدية اليمن ما كانوا وقتها يسمحون بالخروج على مذهب الهادي في الأوصل والفروع. والمعروف فيما استقر عليه الأمر منذ القرن الثالث الهجري (أن المهدي لا يموت قبل أن يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا) لكنه عند بعض محدّثي أهل السنة والجماعة أمارةٌ من أمارات يوم القيامة، بينما هو عند الشيعة الإثني عشرية الإمام الثاني عشر، الذي لم يمت، بل غاب غيبةً كبرى، ويعود ليملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا. لذلك كان من المنطقي - ما دام من المرجّح أن الحسين ادّعا المهدية - أن يذهبَ اتباعُهُ إلى أنه لم يمُت وإنما غاب امتحاناً وابتلاءً. فإذا كانت في أفكاره بعض وجوه الشبه بالفكر الإسماعلي - كما تَنَبه لذلك مسلَّم اللحجي - فإن فكرة الغيبة ليست إسماعيلية (1) (1/33)
__________
(1) يورد هاينز هالم في دراسته السالفة الذكر (ص 72) نصاً دُرزياً يقول إن الحاكم غاب ولم يُقتل: (اعلموا أن غيبتي عنكم غيبةُ امتحان). بل إن هناك نصاً إسماعيليا (وليس درزياً لأن الحاكم يُسمى فيه: وليّ الله – ولا تُدَّعا أُلوهيته -)، انتشر في القاهرة بعد اختفائه يقول إنه غاب بسبب معاصي الناس، وفقد الأعوان على الحق، (قارن بدراسة هالم /11 حاشية رقم 1 و/70). ولذا ربما كان هناك تيارٌ جانبي ضمن إسماعيلية مطالع القرن الخامس يقول بالغيبة والرجعة. والطريف التشابُهُ الواضح في تعليل الغيبة بين النصين السالفين، ونصّ مفرِّح بن أحمد في السيرة /72: (ولما كان من غيبة إمام العصر وصاحب الدهر المهدي لدين الله الحسين بن القاسم.. وكان امتحاناً لأولياء الله، ونقمةً على أعداء الله.. بقي الناس في ظلمةٍ وفِتَن).
بل هي من تُراث الشيعة الإثني عشرية. (1/34)
بدأ الإنكارُ على المهدي الحسين بن القاسم في حياته من جانب بعض علماء اليمن، والأشراف من أتباع مذهب الهادي(1) ثم نعرف حملة مسلَّم اللحجي المفكر والمؤرخ المطرَّفي على اعتقادات العيانيين، وشيعتهم الحسينية. وقد أورد المتوكل على الله أحمد بن سليمان مآخذ عدة على الحسين في "حقائق المعرفة" و"الحكمة الدرية" كما سبق، عقّب عليها بالقول: (وبأقلّ قليلٍ مما تكلّم به تسقط إمامتُهُ اللهم إلا أن يكون الكلامُ مكذوباً عليه).
ويذكر حُميد المُحَلّي (ت652/1254) في "الحدائق الوردية" أن الإمام أحمد بن سليمان ألّف رسالةَ في ذَمِّ غُلُوّ الحسينية عنوانها: "الرسالة الزاجرة لذوي النُهى، عن الغُلُوّ في أئمة الهدى"(2). والمُلاحَظُ من العنوان أنه يحملُ فيها على الحسينية وليس على المهدي الذي يعتبره من (أئمة الهدى) ويُثني على كتبه(3).
السيد حميدان والحسينية
__________
(1) يذكر الشرفي في اللآلي المضية 2/145 – 146، نقلا عن مسلَّم اللحجي أن الداعي الباطني حسين بن عامر بن طاهر الحميري كان بين أوائل من أنكروا على الحسين، فقال من قصيدة:
يا مدعي الوحي إن الوحي قد خُتما
بالمصطفى فأَمِطْ عن نفسك الوهما
وليس للحسين بن عامر ذكرٌ بين دعاة الفاطميين باليمن، قارن: الصليحيون والحركة الفاطمية في اليمن لحسين بن فيض الله الهمداني /59 – 60.
(2) الحدائق الوردية 2/64.
(3) هل اعتباره من أئمة الهدى يناقض كل لأقواله فيه. يمكن القول أنه يقصد بهم عموم الأئمة. ولا يمكن البت فيما يبدو متناقضا من كلام الإمام إلا بدراسة الرسالة ومعرفة تاريخ تأليفها أكانت سابقة على الحقائق والحكمة الدرية أم لاحقة.
أما السيد حُميدان (من النصف الأول من القرن السابع) فقد خاض مهمةً أصعب عندما ألّف رسالةً بعنوان: "كتاب بيان الإشكال فيما حُكي عن المهدي من الأقول" وهو يعمدُ إلى كتب المهدي الحسين فيقتبس منها ما يدلُّ على حُسْن إسلامه، وغزارة علمه وهديه، ذاهباً إلى أن الأقوال الغالية المنسوبة إليه، إما أنها ممكنة التأويل، أو أنها من تشويه خصومه ووضعهم. وقد أشار المهدي نفسه إلى إمكان تشويه أقواله ومقاصده في حياته فكيف بالأمر بعد مماته؟! لكن السيد حميدان لا يرى أفضلية المهدي على السَلف من أئمة آل البيت. (1/35)
واضحٌ أن هذا الكتيب كان نتيجةً من نتائج الصراع مع الفرقة الحسينية وعليها. ويندرجُ في محاولات تبرئة الحسين بن القاسم من دعوى المهدية، والادعاءات الأخرى التي شاعت عنه. فغرضُها حصرُ النزاع مع الفرقة الحسينية، بالأتباع أنفسهم، وتبرئة آل القاسم وزعيمهم الحسين بن القاسم من تُهمة الخروج على تُراث آل البيت باليمن. وللمؤلف حميدان بن يحيى همٌّ شخصيٌّ أيضا. فهو نفسه من آل القاسم. يقول صاحب "تاريخ بني الوزير": (حُميدان بن يحيى القاسمي، من ولد جعفر بن القاسم العياني. ممن عاصر الإمام المهدي أحمد بن الحسين (ت656 /1258) وناصره. وكان علامة في الكلام، مطّلعاً على أقوال أهله ومتبحّراً في ذلك متقناً غاية الإتقان. وكتابُهُ هو المجموع المشتمل على أقوال الناس وحكاية مذاهبهم) (1).
__________
(1) تاريخ بني الوزير (ص116)، وتمام نسبه عند يحيى بن الحسين في طبقات الزيدية ص 123: حميدان بن يحيى بن حميدان بن القاسم بن الحسن بن إبراهيم بن سليمان بن القاسم بن علي... إلخ.
ويقصد صاحب "تاريخ بني الوزير" بالمجموع ما عُرف في تراث المذهب الزيدي بمجموع السيد حُميدان، وهو يتضمن عدة رسائل صغيرة تبلُغُ اثنتي عشرة رسالة، يحكمُها همٌّ مُحافظٌ مؤدَّاه الدعوة للتمسك بتراث الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين ومذهبه، يملكُ مبادئ وعقائد هي المذهب الصحيح، وهي تراث الفرقة الناجية. بعيداً عن التطرف المنسوب باطلاً في نظر السيد حميدان إلى الحسين بن القاسم، وبعيداً عن الاعتزال الذي تغلغل في أوساط الزيدية نتيجة اتصالهم بزيدية الجيل والديلم وفي سياق صراعهم مع المطرفية(1). (1/36)
وكتاب "بيان الإشكال فيما حكي عن المهدي من الأقوال" هو الرسالة التاسعة ضمن المجموع.
يعترفُ السيد حميدان في مطلع الرسالة أن هناك من الناس مَن غلا في الحسين بن القاسم حتى فضله على السَلف. وهناك مَن تطرف في الحط عليه حتى نسبه إلى الجهل أو الجنون. ويريد هو أن يوضح - استناداً إلى الصحيح من كتبه - أنه (قد كُذب عليه في كثير مما ينسب إليه). وقد رجع السيد حميدان فعلا إلى عشرات من كتب المهدي ورسائله لإثبات دعواه في أنه إمام هدى وحق، وأن ما نُسِبَ إليه مكذوبٌ عليه.
بدأ ذلك بفصلٍ أوردَ فيه أقوالاً من عدة كتب للمهدي حَذّر فيها من التقول عليه، ونسبة ما لم يُقلهُ إليه. ويُثبتُ هذا من وجهة نظر السيد حميدان أن الحسين بن القاسم عانى من البهتان والظلم في حياته، فكيف بعد مماته؟!
__________
(1) في طبقات الزيدية ليحيى بن الحسين /123 – 124: ((وكان مرماه تقرير عقيدة الهادي ومن تبعه دون غيره من أهل البيت السابقين قبل الهادي فلهم عقائد أُخَر، كما تضمنه الجامع الكافي جامع آل محمد وغيره)).
لكن المشكلة أن كثيراً مما قيل عنه موجودٌ في كتبه التي أخذها عنه أقاربُهُ وأعقابُهم. بيد أن السيد حميدان يتجاوز المشكلة بالقول إن أولئك الأقارب متوهمون مدسوسٌ عليهم. وكل بشرٍ يجوزُ عليه الخطأ والتصديق بما ليست له حقيقة، ولسنا مُلزَمين بتصديق الشواذ التي وردت عن المهدي، ولو رواها أقاربه لجواز التوهم عليهم. وبخاصة أنه هو نفسه حذَّرنا من تصديق ما يرد عنه وعن غيره من الأئمة، مما يخالف صريح مذهب الهادي أو صريح الكتاب والسنة. (1/37)
ثم يعودُ السيد حميدان لتفصيل الأمور التي قيل إن المهدي ادّعاها.
وأولها: الادعاء أنه فضّل نفسه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وثانيها: الادعاء أن كلامه أبهرُ من كلام الله سبحانه.
وثالثها: الادعاء بأنه قال: إنه لا حُجَّة بعده.
ورابعها: الادعاء بأنه زعم أنه مهديُّ عيسى.
وخامسها: الادعاء عليه أنه قال: إنه لا يموتُ ولا يُستشهدُ حتى يقوم في آخر الزمان.
وسادسها: ما ادُّعي عليه أنه قال: إنه يوحى إليه في المنام.
وطريقته في ردّ كلّ تلك الدعاوى إيراد فِقَر من كتب الحسين بن القاسم يرى السيد حميدان أنها تكذّب ذلك تماما.
ثم تأتي الخاتمة وتشتمل على عدة أسئلة وإشكالات أهمها أنه ثبتت للمهدي كتب وأقوال، كما أن هناك أقوالاً مختلفاً عليه فيها. وهو يرى أن نردّ المختَلَف عليه فيه إلى الثابت عنه.
- - -
وإليك أيها القارىء الكريم:
كتاب بيان الإشكال فيما حكي عن المهدي من الأقوال
تأليف
السيد الإمام أبي عبد الله نور الدين حُميدان بن يحيى
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد: حمدا لله تعالى على جزيل آلائه، والصلاة على محمد خاتم أنبيائه، وعلى السابقين المقتصدين من أبنائه، والسلام على جميع الصالحين من أوليائه، فإنه لما صحّت لنا إمامةُ الإمام المهدي لدين الله الحسين بن القاسم علي عليه السلام، لأجل تَكَامُل شروط الإمامة المعتبرة في كلِّ إمامٍ، ولما خصّه الله تعالى به من الفضائل والخصائص المشهورة، ولِما وَضَع -على حداثة سنّه- من العلوم الباهرة الكثيرة، ولحسن سياسته وسيرته، وظهور عدله ولطفه برعيّته، واستظهاره بما أوضح من الأدلة الدامغة لجميع مخالفيه، ولما رُوي عن إشارة النبي صلى الله عليه وآله إلى قيامه في الوقت الذي قام فيه، وأشباه ذلك مما عجز رَفَضتُه عن إنكاره لاشتهاره، حتى التجأوا إلى التحيُّل بأن يكونَ بعضهم من خواصّه وأنصاره - ليتوصّلوا بذلك إلى اللَّبْس والتدليس في كتبه، والصدّ بالكذب والتحريف عن سلوك مذهبه، وحتى أن من الناس مَن نسبه لأجل ذلك إلى الجهل، ومنهم مَن وصفه بزوال العقل، ومنهم مَن علا ففضَّله على السَّلف، ورفَضَ مَن بعده من أئمة الخَلَف - أردت إذ ذاك أن أعرف بالمعوَّل عليه، إن شاء الله وما الذي يجب أن يُنسَبَ من الأقوال إليه، فانتزعتُ من مشهور ألفاظه الصريحة المذكورة فيما أُجمع عليه من كتبه الصحيحة أقوالاً، أخبر عليه السلام فيها أنه قد كُذِبَ عليه في كثيرٍ مما يُنسبَ إليه، وأقوالاً حَذّر فيها من الاغترار ببعض المتنسِّكين، ومما سُطِّر في الكتب من مُشكل روايات المدلِّسين، وأقوالاً عَلّمَ فيها كيف يُعمل فيما يقع في بعض العترة من الإشكال، وفي مُشكل ما يُنسبُ إلى الأئمة عليهم السلام من الأقوال، وأقوالاً عارض بها ما يُنسبُ إليه من البِدَع، وكُثِّر بها عليه من الشِّنع. (1/38)
أما الأقوال التي أخبر فيها أنه قد كُذبَ عليه، فمنه:
قوله في ((باب السَّلَم)) من كتاب ((مختصر الأحكام)): ((ولست أُصدق بكل ما روي عن رسول الله لقلة الثقات طول الزمان. وها أنا أسمعُ في حياتي من الروايات الكاذبة عليّ ما لم أقل ولم أفعل. فربما يسمعُ بذلك أولياءُ الله فيُصدقون والعهد قريب)). (1/39)
وقوله في بعض أجوبته لعبد الملك بن غطريف: ((وذكرتَ أني فضّلتُ نفسي على الأنبياء عليهم السلام! وحاشا لله ما قلتُ ذلك في شيء من الكلام!... إلى قوله: فمتى سمعتَ أني فضّلتُ نفسي عليهم، أو ذكرتُ أني أعلمُ وأبدعُ منهم؟! ما أحسبُ إلا أن ذلك نُقل إليك، واشتبه اللفظ والكلام عليك)).
وقوله في بعضها: ((فذكرت في كتابك أنك مسترشدٌ معاتبٌ ثم حرَّفتَ قولي فصحَّ أنك مُعاند كاذبٌ وأنت - والحمد لله - من دَرك ما رجوتَ خائب، والله سائلك عما حرَّفتَ من كلامنا، ومُناقشُك على الكذب الذي أتيتَ به علينا، والكلام الركيك الذي نسبته إلينا)).
وقوله في بعض أدعيته التي ذكر فيها أصنافَ رفضته: ((ومنهم مَن هو مجتهدٌ في إهلاك عِرضي واغتيابي وانتقاصي)).
وفي بعضها: ((اللهم طهِّرني من كذب الألفاف، ونزهني من رواية الهَمَج السفساف)).
وفي بعضها: ((يا رب! أسألك الخلاص من عِشرة مَن لا يعرفني فقد والله أقرحت عشرتُهم قلبي! إن أمرتُهم بأمرٍ لم يقبلوا، وإن نهيتهُم عن منكر لم يتركوه، وإن أدَّبتُهم بأدبٍ لم يحفظوه، وإن سمعوا مني روايةً لم يأتوا بها على وجهها، وإن رأوا حكمةً لم يقفوا على فهمها... إلى قوله: وإن رأوا مني علماً حرّفوه جهلاً)).
فصلٌ يشتمل على أربع مسائل مما يُنبِّه على النظر
الأولى: أن يقال إذا ثبت بالدليل كون المهدي عليه السلام إمام حقّ يجب تصديقه في كل ما قال وادّعا، فهل يجب تصديقه فيما ذكر وأخبر به من أنه قد كُذبَ عليه في بعض ما نُسبَ من الأقوال إليه أم لا؟!
الثانية: هل ذلك الكذب الذي أخبر به موجودٌ أم لا؟!
الثالثة: إذا كان ذلك الكذب موجوداً، هل هو الأقوال المختلف فيها أم الأقوال المُجمَعُ على صحتها؟! (1/40)
الرابعة: ما الفرقُ في التشنيع على المهدي عليه السلام بين قول مَن زَعم أنه ترقّى من القول بتفضيله للنبي على نفسه والتكذيب لمن نسب ذلك إليه إلى القول بتفضيله لنفسه على النبي والرجوع إلى تصديق مَن كان نسب ذلك إليه، وأي بدعةٍ أفحش من هذه البدعة؟! وهي جَعلُ قول عبد الملك أصحّ وأشهر من قول المهدي عليه السلام. (رجع).
وأما الأقوال التي حذر فيها من الاغترار ببعض المتنسِّكين، ومما يُسَطَّّرُ في الكتب من مشكل الروايات، فمن ذلك:
قوله عليه السلام في كتاب ((الرد على أهل التقليد والنفاق)): ((ومَن بان لك منه النفاق فلا تنبسِط إليه وإن تنسَّك، وأَعرض عن القبيح وأمسَك، لأنه لا يؤمَنُ عند إظهاره لديانته أن يجعل ذلك سبباً للخيانة)).
وقوله في كتاب ((الرد على الدعيّ)): ((ولم يُدخَل على أمةٍ من الأمم إلا من مأمنها، ولم تُفتَتَن القرونُ الماضية إلا بمن يوهمُها أنه من المودة على دينها)).
وقوله في كتاب ((الرد على الدعي)) أيضا: ((ولو كان مَن خاف من شيء أو شك فيه عقده في رقبته، ويفحم عليه، ودعا جميع المسلمين إليه لحكم الشكُّ على اليقين، ولما فُرِّق بين الباطل والحق المبين)).
وقوله في كتاب ((الرحمة)): ((وليس كل ما رُوي حقاً، وما سُطّر كان صدقاً، مما يخالف علماء آل الرسول، وتُحيلُهُ ثواقبُ العقول)).
وقوله في كتاب ((التوفيق والتسديد)): ((فقد رأينا مَن يتكبَّرُ عن الجهل وهو لا يعلم، ويحمله الكِبرُ أن لا يقول: الله أعلم!)).
فصل
انظركم بين قوله عليه السلام في هذا، وبين مَن زعم أنه مَن قال في أمره: الله أعلم! كانت النارُ أولى به!
وأما الأقوال التي علم عليه السلام فيها كيف يُعمل فيمن أشكل أمره من العترة، وفيما أشكل من الأقوال المنسوبة إلى الأئمة، فمن ذلك:
قوله في رسالته إلى شيعة أبيه عليه السلام: ((ولا تقلِّدوا أحداً من آل نبيكم ممن اشتبه عليكم أمره منهم، وكِلوه إلى ربكم، ولا تُقلِّدوه دينكم، ولا تقاطعوا في الوقوف أحداً من إخوانكم. ومَن تبيَّن لكم رشده فاتبعوه، ومَن بان لكم غيُّه فاجتنبوه، ومن اشتبه عليكم حاله فارجوه، وكِلوه إلى خالقه ولا تُعادوه - فالمؤمنون وقّافون عند الشبهات -)). (1/41)
وقوله في كتاب ((تثبيت إمامة أبيه عليهما السلام)) بعد كلام: ((وإن قول أئمتنا لا يخالف مُحكَمَ الكتاب، ولا يحيل عن الحق والصواب. وإن ما اختلف من أقاويلهم، تمسَّكنا فيه بتأويلهم، وتبرأنا إلى الله من تكذيبهم، واعتمدنا على قول ربهم، واتبعنا من ذلك أَحسَنَه، وأقربه إلى الحق وأَبْينَه، وما اشتبه علينا من كلامهم، رجعنا فيه إلى أحكامهم، كي لا نبوءَ بآثامهم. لأن الله اللطيف بنا، أرحم من أن يعذبنا على ما يكون من وقوفنا، وطلبنا لسبيل نجاتنا، وما نرجو من عفوه لحسن ظنوننا، واطراحنا لأهواء أنفسنا، واعتمادنا على محكم كتاب ربنا، وسُنة نبينا. والله على ذلك المستعان، وهو حسبنا وعليه التُّكلان)).
وقوله في كتاب ((مُهَج الحكمة)): ((مَن أراد أن يستفيد من خاتم النبين، ومن أمير المؤمنين، فليقف على ما وضع الهادي إلى الحق صلوات الله عليه. وكذلك ما وضع المرتضى لدين الله عليه السلام، من العدل والتوحيد والحلال والحرام، وغير ذلك من شرائع الإسلام، لأنهما أخذا العلم الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يُلتَفَتُ إلى اختلاف المختلفين، ولا يُعتمد على أقاويل القائلين، وإني وطئتُ من العلوم مُهَجَها، واعتزلت - والحمد لله - هَمجَها! فما رأيت علماً أشفى، ولا أبين ولا أكفى، مما أَتَيا به من خالص الدين، ومحض اليقين، روايةً عن خاتم النبيين، وسيد الأولين والآخِرين، أخذاه عن آبائهما، وحفظاه عن سَلَفِهما، أباً فأباً، وجداً فجداً، حتى ينتهي إلى الأصل أمير المؤمنين، عن سيد المرسلين، عن الروح الأمين، وإخوانه الملائكة المقربين، عن رب العالمين، وفاطر السماوات والأرضين(1). فالحمد لله الذي جَعلنا من المقتدين، ومن علمهما مستفيدين. فمن علمهما استقيتُ، وبهُداهما اهتديت، وبهما في جميع الأمور اقتديتُ، وفي آثارهما مشيت)). (1/42)
وقوله في كتاب ((الرحمة)): ((وليعلم مَن سمع لنا قولاً أنه منهما، وإنا إن شاء الله لا نتكلم بخلاف قولهما، ولا نَدينُ الله بغير دينهما، ودين مَن حذا حَذوَهُما من ذريتهما. فمن سمع لنا كلاماً، فليعرِضهُ على كلامهما فما خالف قولَهُما فليس لنا، وما وافق ذلك فهو منا)).
فصل
__________
(1) في المخطوط والأرض. ولعل الصواب ما أثبت.
فإن قيل: إن الفضلاء من قرابة المهدي عليه السلام هم الذين رووا تلك الروايات، وهي إلى الآن مشهورةٌ في كتبهم؟ فالجواب: إن فضل الفضلاء من قرابة المهدي رحمة الله عليهم لا يمنع من اغترارهم ووجود الخطأ في كتبهم. وإن مخالفة ما يوجد في الخطأ من كتبهم لا ينقصُ من فضلهم. وذلك لأن جميع الفضلاء من الأنبياء وغيرهم يجوّزُ عليهم تصديق ما ليس بصحيح، ولذلك قيل: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُذُنُ، ووصفه الله سبحانه بأنه يؤمنُ للمؤمنين، أي: يصدّقُهم. (1/43)
وقال المهدي عليه السلام عقيبَ ذكره للروايات الكاذبة عليه: ((فربما يسمع بذلك أولياءُ الله فيصدّقون به والعهد قريب)). فانظر كيف وصفهم بأنهم أولياء الله، مع تجويزه لتصديقهم للكذب عليه.
فإن قيل: إن أولئك الفضلاء حكوا أنهم سمعوا تلك الروايات عن المهدي عليه السلام؟!
فالجواب: إذا ثبت كونها خطأً فأكثرُ ما يجب في حقهم أن نتأَوَّل فيهم كما نتأوَّل في المهدي عليه السلام، لو صَحّ أنهم قالوا ذلك! ولم يصح! بل في الرواية المشهورة أن علي بن القاسم رحمة الله عليه - وهو أعلم إخوة المهدي وأخصّهم به - قال: ما صحَّ عنده من كلام الناس إلا روايةٌ روتها له امرأة المهدي اللَّعوية. (رجع).
وأما الأقوال التي عارض بها ما شُنِّع به عليه من الروايات، فمما عارض به قولَ مَن زعم أنه فَضَّل نفسه على النبي صلى الله عليه وآله:
قوله في كتاب ((الرد على مَن أنكر الوحي بالمنام)): ((وليعلم من سمع قولنا، أو فهم تأويلنا، أن الوحي الذي ذكرناه فيما تقدّم من كلامنا أن الله خَتَمه بنبيِّنا هو هبوطُ الملائكة، وما كان يسمعُ موسى من المخاطبة، فذلك الذي ختمه الله وقطعه بعد محمدٍ صلى الله عليه، لأنه علم أنه أفضلُ الآدميين، ففرَّق بينه وبين أهل بيته أجمعين، بأن جعلهم له تابعين، وبشريعته مقتدين. ولو عَلم في ذريته أفضل منه لأزاحَ ختم النبوة عنه، ولجعل بعده أنبياء مثله، ولما أبان على فضلهم فضله)). (1/44)
وقوله في كتاب ((تفسير غريب القرآن)): ((وبلَغَنا - والله أعلم - عن بعض الإمامية - لعنهم الله - أنهم قالوا: محمدٌ رسول الله، وخاتم النبيين المهدي، وكذَب أعداءُ الله في قولهم! بل محمدٌ خاتم النبيين، وسيد الأولين والآخِرين)).
وقوله في كتاب ((التوفيق والتسديد)): ((وسألت عن العقول هل هي مُستويةٌ أم بينها اختلاف؟
والجواب أن اختلاف عقول الناس كاختلاف قُواهم. فمن كانت قوته تبلُغُ أداء الفرائض وجبت عليه، ومَن لم يُطِق فلا يكلفه الله ما يعدمُ لديه، ولا يَصِلُ بقوته إليه. وإنما العقول على وجوه معروفة، وأحوال بيِّنة موصوفة، منها: عقول سادتنا الملائكة المقربين. ومنها عقول الأنبياء المرسلين، وعقول الأوصياء المستخلَفين، وعقول الأئمة الطاهرين. وبعد ذلك عقول المكلَّفين. فأفضلُ العقول عقول الملائكة الأكرمين، ثم عقول الأنبياء، أكرم من عقول الأوصياء. ثم عقول الأوصياء أكملُ من الأئمة في العقول، وأفضل في الاعتقاد والقول. ثم للسابقين من الفضيلة على المقتصدين، كمثل فضل الأنبياء على الوصيين. وللأئمة المقتصدين من الفضل ما لا يكونُ لفضلاء المؤمنين. وأفضل الناس كلهم فضلاً وأكملهم ديناً وورعاً محمد خاتم النبيين، صلوات الله عليه وعلى أهل بيته الطاهرين)).
ومما عارض به قولَ مَن زعم أن كلامه أبهَرُ من كلام الله سبحانه:
قوله في تفسير غريب سورة الأنعام: ((ولا نعلمُ دليلا أَبيَن من القرآن، ولا أشفى ولا أوضح من الفرقان، ولا أبهر ولا أنور في البيان، مما جاء به محمدٌ وأهل بيته في البرهان)). (1/45)
وقوله في كتاب ((تثبيت إمامة أبيه عليهما السلام)): ((ولا يقول أحدٌ إن كتب الأئمة أولى من كتاب الله بالصدق، وأقرب إلى الصواب والحق)).
وقوله في جوابه لمن سأله عن معنى قوله: إن أدلة المعقول أقطعُ للملحدين من أدلة المسموع؟! وقوله: إن تفسير الأئمة عليهم السلام للمتشابه أَبيَنُ من المتشابه: ((إنما معنى قولي: إنه أقطَعُ للمشبّهين والملحدين، أنه أَبين من المتشابه من كتاب الله للمتعلِّمين! فأما أن يأتي أحدٌ بمثل آيةٍ من كتاب الله فلا يدّعي ذلك إلا كاذب)).
ومما عارض به قولَ مَن زعم أنه لا حجة بعده:
قوله في ((تثبيت إمامة أبيه عليهم السلام)): ((وأما قولُهم إن كتب الإمام وما سَطَّرَ، حُجةٌ على جميع البشر، فلعمري إن قَبولَ ما فيها من الحق واجبٌ على جميع المخلوقين، لا ما ذهبوا إليه من رفض الأئمة الباقين، والتعلُّق بكتب الماضين. ولو كان ما قالوا عند مَن عَقَلَ صدقا، وكان ما نطقوا به من الزور حقاً، لكان ذلك ردّاً لقول رب العالمين، وإثباتا لقول المخالفين. إذ كُلُّهم متعلقٌ بكتب مَن عدِمَ شخصه، رافضٌ لمن كان من الأئمة بعده. ولو كان لأحدٍ منهم أن يقف على إمامة رجلٍ مرفوض بعده، لجاز ذلك لمن كان من الروافض قبله. ولجاز لهم من ذلك ما جاز له، ولصارت العوامّ أولى بالإمامة من آل نبيهم، ولنقضوا قولَ ربهم، ولما كان لقوله: ? ????????? ??????? ????? ??? ? [الرعد:7] معنى، ولكان تمرداً وعَبَثاً، فتعالى الله عما يقولون علوا كبيرا... إلى قوله: وزعموا أن لله حُجةً مغمورةً، إذا لم يكن ثَمَّ حُجة مشهورة، غير مَن هو عندهم معارضٌ، ولكلام الأئمة رافض، والله سائلهم عما ذكروا من المحال، وأفحشوا في أولياء الله من المقال، وأكذبوا ما قال فيهم ذو الجلال، فأخرجوا الله بحجتهم هذا المغمور، من الحكمة والعظمة والتدبير، إذ زعموا أن الله يحتجُّ على عباده، وينفي الفساد من بلاده، بحجةٍ لا تُرى ولا تُبصرُ، ولا يُسمعُ بها ولا تذكر، ولا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، ولا يردّ على أحدٍ من المبطلين، ولا ينصر الحق والمحقين... إلى قوله: وأيضا فليس من حكمة الحكيم أن يحتجَّ على عباده بحجةٍ من أهل بيت نبيه ثم يُخفيها عنهم ويغمُرها، ولا يُعلمهم بها ويسترها، ونظائرها من القول وأشكالها. وإنما معنى ما روي من الحجة الباطنة عن أمير المؤمنين، عليه صلوات رب العالمين، هو المقتصد من آل الرسول. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر الحجة ثم قال: ((إما السابق، وإما المقتصد)). وإنما سمي المقتصد لاقتصاده عن المراد، وسُمي (1/46)
حُجّة لاحتجاجه على جميع العباد... إلى قوله: فكيف إلا أنه قد قال بإجماعهم، لو انتفعوا بعقولهم وأسماعهم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض))، ولا يخلو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)) من أن يكون باطلا أو حقاً، فنعوذ بالله من تكذيب الرسول، ومكابرة حُجج العقول. ولقد كفر من كَذَّبَ كتاب رب العالمين، وردَّ قول الرسول الأمين، وتعلق بأوهامه وظنونه، وقبِل وحي شياطينه، واعتمد على المتشابه من الأقاويل، وجهل مخارج السُوَر إلى السيرة والتأويل(1)، وفارق مُحكَمَ التنزيل، واتّكل على الأقاويل المُهلكات، وقبل ما روي من المتشابهات، وتبرأ من الأمهات المحكمات)). (1/47)
وقوله في كتاب ((شواهد الصنع)): ((أصل الإمامة في العقول لأن الحكيم قد علم أنه لا بد من اختلاف بين المخلوقين، فجعل في كل زمانٍ حياً مترجماً لغوامض الأمور، مبيِّناً للحَيران من الشرور. ولا يعدم ذلك في كل قرنٍ إما ظاهراً جليّاً، أو مغموراً خفياً.
فإن قيل: وما الظاهر الجليُّ، وما المغمور الخَفيّ؟
قيل - ولا قوة إلا بالله -: أما الظاهرُ فالسابق المنذرُ لجميع الخلائق، وأما الخفيُّ فالمقتصد المحتجّ لله على جميع العباد، الآمر بالمعروف والناهي عن الفساد، بغير قيام ولا جهاد)).
ومما عارض به قول مَن زعم أنه مهديُّ عيسى، وأنه لا بد لمهدي عيسى من غيبةٍ قبل قيامه، تفسيره عليه السلام لقول الله سبحانه: ? ?????? ????? ????????? ????????????? ??????? ????????????? ????? ??????? ??????????? ? [النساء:159]، قال: ((يحتمل أن يريد إلا مَن قد آمن، وأتى بالمستقبل بمعنى الماضي. ويحتمل إن ما روي عن الأئمة عليهم السلام يُظهره في آخر الزمان، يدعو إلى طاعته وطاعة المهدي، ويصلي خلفه)).
__________
(1) في مخطوطة الغربية: وجهل مخارج السير والتأويل.
وتفسيره لقوله تعالى: ? ?????????????? ????? ????????? ????????? ? [التوبة:33، الفتح:28، الصف:9]. قال: ((وهو وعدٌ من الله سبحانه لرسوله فكان ما وعد)). (1/48)
قال: ((وأما في الخبر عن الأئمة عن النبي عليه وعليهم السلام أن هذا الظهور يكون على يد المهدي عليه السلام يقهر جميع أديان الأمم)).
وتفسيره لقوله تعالى: ? ?????????? ????? ?????????????? ? [الأحزاب:27]. قال: ((أي ستملكونها. وقيل: سيملكها القائم من آل محمد في آخر الزمان)).
وتفسيره لمعنى ما روي عن النبي في المهدي أنه يؤيّم عِرسَه! قال عليه السلام: ((معنى يؤيّم عِرْسه أن يتركها عند قيامه اشتغالاً بالجهاد عنها)).
وتفسيره لمعنى ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في الحجة الباطنة بأنه المقتصد. واحتجّ على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((ستأتي من بعدي فِتَنٌ متشابهةٌ كقِطَعِ الليل المظلم، فيظن المؤمنون أنهم هالكون فيها، ثم يكشفها الله عنهم بنا أهل البيت، برجلٍ من ولدي خامل الذكر، لا أقول خاملاً في حَسَبِه ودينه، ولكن صِغَر سنّه وغيبته عن أهله، واكتتامه في عصره))! (1)، فبيَّن صلى الله عليه أنه يريد بذلك الاقتصاد، لا ما ذهب إليه أهل اللداد.
فصل
انظر كيف يجوز أن يُضاف إليه ما عابه على غيره وسمّاه فِريةَ وكفراً ولَداداً ونحو ذلك! وكيف يجوزُ الخروج من هذا المعلوم المُجمَع عليه إلى الروايات المظنونة المختَلَف فيها! ومن أقوال أئمة الزيدية، إلى أقوال غُلاة الإمامية!
ومما عارض به قول مَن روي عنه أنه لا يموت ولا يُستشهدُ حتى يقوم في آخر الزمان قوله في رسالته إلى شيعة جده القاسم بن إبراهيم عليه السلام: ((فالعياذُ بالله كيف يُداري في الحق مَن أصبح وأمسى منتظراً لسفك دمه، وقد وطئ وطأة المتثاقل على أعداء الله)).
__________
(1) هذه المواصفات هي نفس المواصفات التي تدعيها الحسينية في الحسين بن القاسم العياني، وهي نفس مواصفات الإمامية في مهديهم.
وقوله في كتاب ((الدامغ)) يصِفُ نفسه عليه السلام: ((وأُصبحُ متوقعاً للموت والفناء، وعادّاً الفقر أحب إليّ من الغنى)). (1/49)
وقوله في كتاب ((الأسرار)): ((فوالذي أنا في يده ما نمتُ نومةً حتى أُناقش نفسي، وأتذكر ما اجترحتُ في يومي وأمسي، لأن النائم ربما يحال بينه وبين انتباهه، كما يُحالُ بين اليقظان ومنامه)).
وقوله في بعض أدعيته: ((وأكبر همي الشهادة في سبيلك، والغضب لدينك، وأنا حريصٌ في ذلك. فيا رب لا تُخيِّب آمالي، ولا تخترم دون الشهادة أجَلي، وعجِّل يا مولاي ذلك، وارحم تضرُّعي... إلى قوله: وعليّ أن أبذُلَ جسدي وعِرضي ولساني حتى يُفرَّقَ بين روحي وجسدي، ويقطع فيه أَجَلي. اللهم خُذ بذلك عهدي وميثاقي، واشهَد عليّ وكفى بك شهيداً. اللهم إني أُشهدُك وأُشهدُ ملائكتك وحَمَلةَ عرشك وأهل سماواتك وأرضك أني لا أَرجِع ولا أَنثني، ولا أستقيلُك في بيعتي حتى ينقطع عُمُري ثم أزور قبري، أو يذهب لك في العَطَب لحمي ودمي)).
انظر كيف يجوزُ أن يُضافَ إليه عليه السلام أنه لم يفِ بعهده وميثاقه؟ وكيف يجوز أن يُترك تصديقه في هذا وشبهه، لأجل روايات لا دليل على صحتها؟! ولا ثقة بمَن أُسندت إليه من النسوان والمتشيعين، الذين حكى عنهم بعض إخوةُ المهدي عليه السلام.
ومما يُعارضُ به قولُ مَن زعم أنه كان يرى ما حُكي عنه في المنام:
قوله عليه السلام في كتاب ((الإمامة)): ((واعلم أن الإمامة لا تصحُّ بالملاحم والمنام، ولا تبطُلُ إمامةُ الأئمة بالأحلام، لأن الرؤيا وإن كانت من حكمة الله جل جلاله، وعظُمت نعمتُه وأفضاله، فإنها تُحملُ على التأويل، ولا يُعتبرُ ظاهرها في جميع الأقاويل. والحكيم لا يُصرِّح بكل أسبابه، لما في النظر والتمييز من ثوابه، مع ما في النظر من لقاح العقل، وبُطلان الحيرة والجهل. وربما رأيت الرؤيا للرجل وإنما المراد بها سواه من ذريته، أو بعض إخوانه وقرائبه)).
فصل يشتمل على مسائل
الأولى: إذا كان للمهدي عليه السلام أقوالٌ مُجمعٌ على صحتها وأقوالٌ مختلفُ فيها، ما الواجب أن يتّبع من ذلك في وقت الفترة؟! (1/50)
الثانية: إذا كان لا بد لله سبحانه من حُجةٍ من العترة في كل عصر، وكان كُلُّ حُجةٍ بعد المهدي علي عليه السلام لا يصدّق بما شنع عليه، هل يجب الاقتداء به مع ذلك أم يجبُ رفضه؟!
الثالثة: إذا كان مهديُّ عيسى عليهما السلام لا يُعلمُ أنه هو إلا بعد ظهور عيسى، ولا يُعلم أن عيسى هو هو حتى يحيي الموتى، فكيف يُعلمُ مع عدم ذلك؟!
الرابعة: إذا كان فضلُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجمعاً على كونه معلوماً بالنص، فكيف يجوزُ نسخُهُ بفضلٍ مختلَفٍ فيه؟!
الخامسة: هل تصحُّ إمامةُ مَن يدّعي خلاف ما أَجمعت عليه الأمة، مع أن من شرط صحة الجماعة ألا يُخالف شيئا من الأدلة، وأن يكون مقتديا بمن قبله من الأئمة، وغير مخالف لإجماعهم؟!
السادسة: لو صح القول بتفضيل المهدي على النبي، هل يكون فضله عليه معقولا أو مسموعا تفضُّلا أو مجازاة، وهل يكون قبل ظهور عيسى أو بعده؟!
السابعة: إذا قام من العترة بعد المهدي عليه السلام إمام، وأنكر بعض ما يجد في كتب المهدي عليه السلام من الروايات، هل يكذب أو يَصدُقُ كما قال القاسم بن علي عليه السلام في كتاب ((ذم الأهواء والوهوم)) في مثل ذلك: واحذروا - رحمكم الله - من فتنة الهوى، ومخالفة حُجَج الله التي تُعاينُ وتُرى، ولا تأتمّوا بالأخبار التي تَرِدُ عليكم من أئمة الهدى، فإن الله لم يجعل حُجَجَهُ خبراً فاسداً، ولا كتاباً مُفرداً، ليس معه من ذرية الرسل معين!
والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
* * *
وما أورده السيد حميدان في كتابه ليس مقنعا كله، لا لأنه ينتزع الأقوال أحيانا من سياقاتها، ويؤولها على غير الظاهر منها أحيانا أخرى، بل لأن الحسين بن القاسم نفسه تختلف أقوالُهُ وتتناقضُ تبعاً لحالاته النفسية فيما يبدو، ولطبيعة اتهامات الخصوم له. فقد كان مضطراً أحياناًً للتراجع عن بعض ما ادّعاه أمام هجمات الطاعنين، ثم يعودُ في رسالةٍ أخرى أو كتاب آخر لإثبات ما أنكره من قبلُ. (1/51)
ويبدو أن محاولة السيد حميدان لتصوير المذهب الزيدي بصورةٍ معينة، بما في ذلك رأيه في الحسين بن القاسم وتُراثه، لم تحظ بالاستحسان الكامل من جانب الزيدية المعاصرين واللاحقين، وإن قرّظها بعض المعاصرين.
يقول يحيى بن الحسين (1099/87-1688) في "طبقات الزيدية": إن الإمام الناصر لدين الله صلاح الدين محمد بن علي (793/90-1391) لما قرأ مجموع السيد حميدان كتب للهادي بن إبراهيم: (مجموع اليسد حميدان قد وقفتُ على شيء منه. وفي كلامه حِدَّةٌ. وهو من فضلاء أهل البيت. والأقوالُ تختلف، ولقد وقفنا على شيء في علوم آل محمد لأحمد بن عيسى بن زيد وغيره مما يخالف القواعد الأصولية الكلامية. وفيه أشياء من كلام أهل البيت منسوبةٌ إلى أهل البيت ادّعا أنها عقيدة أهل البيت كافة. وفي النفس أن ذلك غير متسِق. ثم إن كلامه وإيراده على وجه الإلزام. وبنى على ذلك قاعدة التعليل. والتعليل الحقيقي لا يقعُ بالإلزام والإفحام. ولعله حذا حَذوَ القاسم بن علي العياني في كتاب الدعامة في تثبيت الإمامة، فإنه على هذا النحو...)(1).
__________
(1) طبقات الزيدية /124.
وممن وقف مدافعا عن المهدي العلامة "محمد بن جعفر بن شبيل" قال في مقدمة سيرة الأميرين: قال القاضي الأَوحد الأفضل، العالم العامل الأكمل، أبو عبد الله محمد بن جعفر بن الشبيل بن عبد الله (1) رحمه الله: لما سمعت من السيد الشريف الفاضل حميدان بن يحيى هذه المجموعات التي جمعها وذلك بعد أن نسختُها من الكراريس التي بخطه، ومن جملتها هذا الذي من كلام مولانا الإمام المهدي لدين الله الحسين بن القاسم سلام الله عليه ورضوانه قلتُ فيه أبياتا وهي هذه: (1/52)
هذا إمامٌ عالمٌ عاملٌ ... أبرا إلى الرحمن من بُغضه
ومن مُوالاةٍ لأعدائه ... ومن غُلّوٍّ فيه أو رَفضِه
قف واتّق إله السما ... يا أيها الطاعنُ في عِرضه
إن تكُ منه اليوم مستقرضاً ... ففي غدٍ تندمُ من قرضه
أَدينُ أن الحقَّ ما قاله ... من صفة الباري ومن فرضه
وأنّ مَن في فضله قد غلا ... أكبر جُرْماً من ذوي بُغضه
فَخَفْ إله الخلق يا مَن غلا ... في خَلطٍ ما قد شيبَ في مَخضه
مثل ابن غطريف الذي لم يَقُلْ ... في كُلِّه الحقّ ولا بعضه
وردَّ ما قال ولم يَرضَهُ ... إذ أَسخط الله ولم يُرضه
صلى عليه الله من راحضٍ ... طاب فطاب الدينُ من رحضه)(2)
ولا تخرج معلوماتُ نشوان بن سعيد الحميري (573 هـ) كثيراً عما أورده الآخرون من قبل ومن بعدُ عن الحسينية. ويبدو أن الأكثرين يستندون في ذلك إلى مسلّم اللحجي والمتوكل على الله أحمد بن سليمان، ونشوان.
__________
(1) قارن عنه: طبقات الزيدية ليحيى بن الحسين /124.
(2) انظر مقدمة سيرة الأميرين.
يقول نشوان: (ومنهم - أي من الزيدية - فرقةٌ يُقالُ لها: الحسينية، يقولون إن الحسين بن القاسم... حيٌّ لم يمُت ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً، وأنه القائم المهدي المنتظر عندهم. وكان قُتل يوم السبت الرابع من شهر صفر سنة أربعٍ وأربعمائة. وكان مولده في سنة ثماني وسبعين وثلاثمائة، قتلته همدان في موضعٍ من أعمال صنعاء. ويقولون في الحسين هذا إنه أفضل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كلامه أبهَرُ من كلام الله. ويروون أن مَن لم يقل بقولهم هذا فيه فهو من أهل النار. ثم افترقوا فرقتين، فرقة تزعُمُ أنه يأتيهم في السر ولا ينقطع عن زيارتهم في حال مغيبه، وأنهم لا يفعلون شيئا إلا بأمره. وفرقة تُبطل ذلك، ويقولون إنه لا يُشاهَدُ بعد الغيبة إلى وقت ظهوره وقيامه وإنما يعملون بما وضع في كتبه)(1) (1/53)
الجديد عند نشوان قسمته الحسينية (ربما في عصره) إلى فرقتين. وسيرة مفرِّح بن أحمد لا تشير إلى شيء من ذلك. لكن مسلَّماً اللحجيَّ يذكر في تاريخه ما يُشعِر بذاك الانقسام، فهو يذكر شريفا اسمه يحيى بن عياش الرسي القاسمي، وآخر اسمه محمد بن إبراهيم الصبري، كانا في عهد ولاية الشريف جعفر بن محمد بن جعفر بن القاسم على شهارة يزعُمان ظهوره لهما. وقد اختص الشريف ابن عياش بالقول إنه يظهر له أيضا الخضر وعيسى بن مريم(2):
__________
(1) الحور العين /208، 211. وانظر فيما بعد نصاً في تاريخ بني الوزير ص210، يفيد أن والد نشوان ونشوان – في بدء أمره – كانا من الحسينية!
(2) تاريخ مسلَّم اللحجي 4/256، 260.
(وكان قد استعمل استعمالاتٍ واحتال بحيلٍ قبلها القوم من عوام الحسينية، ولم يلتفتوا مع ذلك إلى تكذيب مَن كذّبه من الأشراف والشيعة، وما قالوا فيه من الشعر لا سيما أمير شهارة يومئذ جعفر بن محمد بن جعفر بن القاسم بن علي... وكان ابن عياش قد واعد الناسَ لظهور المهدي الحسين بن القاسم وقيامه بالأمر وقتاً عرّفه إليهم بابيضاض المَطْو - يعني عذق الذُرة وهو سنبلتها .. ولم يصح منه شيء فأجمع الناس على تكذيبه) (1) (1/54)
والمعروف أن نشوان الحميري نفسه اشتبك مع الأمير عبد الله بن القاسم بن جعفر في نزاع حول حياة المهدي ورجعته اللتين نفاهما الحميري. وقد تهدّده الشريفُ بالموت فاعتذر نشوان بأن أبيات الذمّ للمهدي ليست له، لكنه لم يخفِ عدم إيمانه برجعة الحسين بن القاسم).
الصراع الأدبي
أدى الخلاف حول المهدية إلى اندلاع صراع شعري عنيف بين نشوان وصهره الجعيد، وبين الأشراف العيانيين. قال العلامة المؤرخ أحمد الشامي: (والملاحاة بين نشوان والأشراف العيانيين، لها حديث طويل في تاريخ الأدب اليمني، وكان من أسباب إثارة تلك الملاحاة الشعرية كما يقول المؤرخ أحمد بن صالح أبو الرجال في"مطلع البدور" إن الفقيه العالم الأديب جُعَيد بن الحجاج الوادعي قال بيتين ينكر على من يقول من القاسميين بمهدوية الحسين بن القاسم العياني، وأنه حي لم يقتل وهما:
__________
(1) تاريخ مسلم اللحجي 4/260ـ261. وفي طبقات الزيدية ليحيى بن الحسين 1/117 ذكرٌ للشريفين عبد الله بن جعفر بن القاسم و ((صنوه سليمان بن عبد الله بن جعفر بن القاسم؟)) وأنهما كانا من سكان الأهنوم، وعاصرا الإمام المنصور بالله، وبايعاه وأطاعاه. وفي اللآلي المضية 2/229 ذكر لشريفٍ اسمه فليتة من الأشراف القاسميين، ادّعا الإمامة أيام المتوكل أحمد بن سليمان فعيّره الأمير الحسين بن بدر الدين بمخالفة مذاهب آبائه في القول بمهدية الحسين بن القاسم! والمعروف أنه أسر الإمام بعد ذلك /229.
أما الحسين فقد حواه الملحدُ ... واغتاله الزمن الخئون الأنكد (1/55)
فتبصرّوا يا غافلين فإنه ... في ذي عرارٍ ويحكم مستشهد!
وكان الفقيه جعيد صهراً لنشوان، فلما ظهر هذا الشعر وطار في الآفاق اتهم الناس، وظن القاسميون أنه لنشوان بن سعيد، فقال الأمير عبد الله بن القاسم بن جعفر العياني قصيدة يشتم فيها نشواناً جاء فيها:
أما الصحيح فإن أصلك فاسدٌ ... وجزاك منا ذابلٌ ومهنّدُ!
فأجاب نشوان يذبّ عن نفسه بقصيدة طويلة، منها:
من أين يأتيني الفساد وليس لي ... نسبٌ خبيثٌ في الأعاجم يوجدُ
لا في علوج الروم جد أزرق ... أبداً ولا في السود خالٌ أسود
فدع السفاهة إنها مذمومة ... والكف عنها في العواقب أحمد
والله ما مني نظام جاءكم ... فيه يقول حوى الحسين الملحد
ولقد أُتيتُ به فقمت مبادراً ... عجلاً أمزّق طرسَه وأقدّد
فأشاعه من ظن أن ظهوره ... في الناس مكرمة عليها يحسد
أغضبتم أن قيل مات إمامكم ... ليس الإمام ولا سواه يخلّد
لا عار في قتل الإمام عليكم ... القتل للكرماء حوض يورد
إن النبوة بالنبي محمدٍ ... ختمت وقد مات النبي محمد
ومنها:
إني من النسب الصريح إذا امرؤ ... غلبت عليه العجم فهو مولد
ما عابني نسب الإماء ولا غدا ... باللؤم معرقهن لي يتردّد
فدع التهدد بالحسام جهالةً ... فحسامك القطاع ليس له يد!
من قد تركت به قتيلا أنبني ... ممن توعّدُهُ ومَن تتهددُ؟
إن لم أمت إلا بسيفك إنني ... لقرير عين بالبقاء مخلد!
اسكت فلولا الحلم جاءك منطقٌ ... لامَيْنَ فيه يذوب منه الجلمد
ينبي بأسرارٍ لديك عجيبة ... لكن جميل الصفح مني أعودُ!) (1)
- - -
أما أوسع المعلومات عن مصائر الشيعة الحسينية في جيلها الثالث، أي في النصف الأول من القرن السادس الهجري، فيملكها مسلَّم اللحجي في الجزء الرابع الباقي من تاريخه.
__________
(1) تاريخ اليمن الفكري 2/216 – 217.
وكما واجهت هذه المعضلة صراعا أدبيا فقد واجه فقه الإمام القاسم العياني منذ مجيئه نفورا منه من بعض علماء الهادوية. ويعيد يحيى بن الحسين (1099/87-1688) النزاع بين الهادوية والأشراف العيانيين إلى أيام القاسم بن علي العياني، أي قبل ظهور فكرة مهدية الحسين بن القاسم؛ فيقول في "طبقات الزيدية"(1): (القاضي عبد الملك بن غطريف الصائدي. ممن عاصر الإمام القاسم بن علي العياني. وهو الذي كاشف الإمام بالنكر، وتخلّف عن إمامته هو ومَن تبعه، وذلك بسبب مخالفة القاسم في مسائل الفروع للهادي. لأن الزيدية كانوا يعتقدون في ذلك الوقت أن المُصيب في الاجتهاديات واحدٌ والحقّ معه إلى زمن المتوكل على الله أحمد بن سليمان). (1/56)
__________
(1) طبقات الزيدية 1/63، وتاريخ بني الوزير ص214. وفي تاريخ مسلَّم 4/284: (والذي كان عليه مشايخ في عصره (عصر أبي السعود بن المنصور بن أبي ثور، النصف الأول من القرن الخامس الهجري)، تقليد الهادي إلى الحق عليه السلام في الفقهيات لا يعرفون غير مذهبه، ويستنكرون التصويب لغيره)). والطريف ما يذكره ابن الوزير من أن الحسين بن القاسم نفسه ((كان إذا مرّ بقبر أبيه ركضه برجله وقال: هو خالف مذهب الهادي!)). تاريخ بني الوزير ص212.
وقد يكون فيما ذكره يحيى بن الحسين بعض الحق. لكن الواقع أن الزيدية مذهباً ودولة كانت قد تضاءلت وانكمشت منذ وفاة الناصر أحمد عام (322هـ) ولم يخرج من أعقاب الناصر من استطاع إثبات وجوده حتى أواخر القرن الرابع. وعندما استدعت القبائلُ القاسم العياني - في عمليةٍ تشبهُ استدعاء الهادي من قبل - كانت اليمن تغصُّ بثوار آل الهادي الذين لم يحظوا بأي نجاح. ورغم أن العياني ما استطاع فعل الكثير بسبب قِصَر مدته، فلا شك أنه اعتُبر ناجحاً تماماً مُقارنةً بالخارجين السابقين والمُعاصرين. ونحسبُ أن هذا كان السبب الرئيس لنزاعات القاسم العياني وأولاده وأحفاده مع آل الهادي وهادوية الزيدية. فقد أسس العياني أُسرةً حاكمةً استمرت حتى أواخر القرن الخامس تلعبُ دوراً ملحوظاً في السياسات بشمالي اليمن. (1/57)
الوضع السياسي أنذاك
وكانت البلاد اليمنية كلُّها في هذه الفترة أي في النصف الأول من القرن الخامس الهجري، تعاني من فوضى ضخمة لسقوط الدويلات القوية بالتهائم وأعماق الجنوب، واستشراء الفوضى القبلية في الشمال.
يقول صاحب "أنباء الزمن": (من سنة (405/14-1015 إلى سنة 448/1056) عمَّ الخَرابُ صنعاء وغيرها من بلاد اليمن لكثرة الخلاف والنزاع وعدم اجتماع الكلمة الواحدة... وأظلم اليمن وكثُر خرابُهُ وفسدت أحواله... وكانت صنعاء وأعمالها كالحرقة، لها في كل سنة أو شهر سلطانٌ غالبٌ عليها، حتى ضعُف أهلُها وانتقلوا إلى كل ناحية. وتوالى عليها الخراب وقلّت العمارة في هذه المدة حتى أصبح عددُ دُورها ألف دار بعد أن كانت مائة ألف دار في عهد الرشيد... إلا أن صنعاء تراجعت بعض التراجع في زمن الصليحيين لما اجتمع لهم مُلك اليمن)(1).
__________
(1) أنباء الزمن 1/ 146 – 147، وقارن بغاية الأماني 1/ 240.
وزاد الطين بلّةً استشراءُ القحط والمجاعات، والتخريب القَبلي والسلطوي المتبادَل للحياتين الحَضرية والريفية في غزوات الاستعادة، وإغارات السلب والنهب. وبسبب من ذلك كله تمكن علي بن محمد الصليحي الذي أعلن الدعوة للفاطميين عام (439 /47-1048) من اكتساح أكثر أجزاء اليمن في وقتٍ قصير. فقد كان عمادُ جيشه من المؤمنين بالدعوة الإسماعيلية، لا من المرتزقة أو القبائل المتقلِّبة الولاء. (1/58)
ومع أن علي بن محمد كان همدانياً من بطن الأُصلوح، لكنه اصطدم في بدايات دولته، وهو يحاول بسط سلطته على البلاد ببطون همدان الكبرى، وبعض بطون حِميَرَ وخولان والحارث. وكانت وطأته على همدان بالذات بالغة الشدة، رمى من ورائها إلى كسر شوكتها وإخضاعها تماماً لسيطرته.
وهكذا خاض معها ومع حلفائها ثلاث معارك في سِنيّ حكمه الأُولى. وكانت آخر تلك المعارك (وقعة صَوف) أقساها عليها إذ افتتح الصليحي بعدها صنعاء التي كان أميرها الهمداني أبو حاشد بن يحيى بن أبي حاشد قد قُتل فيها مع ألفٍ من شجعان فرسان همدان وأشرافهم من مختلف البطون.
يقول مفرِّح بن أحمد في "سيرة الشريفين": (ونزل بالناس بلاءٌ عظيمٌ، وخَطبٌ هائلٌ جسيم...) (1).
ويقول مسلَّم اللحجي: (...كانت وطأةُ الصليحي على همدان وطأة المتثافل (2)حتى لم يَذَر لهم طِباخاً لأنهم كانوا أهمَّ أجناد اليمن عليه لوجوهٍ، أحدها: لشدتهم وفراستهم وشموخ أنوفهم عن الخضوع للملوك حتى أن الملوك لَتُداريهم، وتقبل المسالمة منهم، وتُحمل إليهم الجوائز والأموال الجمّة من زبيد وغيرها من ممالك شيعة بني العباس باليمن وغيرهم من المتغلبين على المخاليف...)(3).
__________
(1) السيرة /76.
(2) في لسان العرب وبعير ثفال: بطيء... الثفال: البطيء الثقيل الذي لاينبعث إلا كرها.مادة ثفل.
(3) تاريخ مسلّم 4/ 14 – 15.
ثم يعودُ مسلَّم للمقارنة بين وضع همدان تحت وطأة الصليحي، وأوضاعها السابقة فيقول: (فأخبرني مسعود قال: أدركتُ همدان قبل خروج الصليحي ودعوته وهم ألف فارس في صنعاء والبَون وأعمالهما غير وادعة وبَكيل ويام وحَجور. وأدركت عنساً وهم ألف فارس أيضا، وبني الحارث بالرحبة وفيهم خمسمائة فارس... فلم يَزل الصليحي بهم حتى تركتهم دولته رحمةً للعالمين، وعبرة للناظرين، وقسّم ابنه بعده بلاد همدان وبلحارث والأبناء وعنس بين جنب وسنحان ونهد والحجازيين، وبين مَن كان من همدان من جنده)(1). (1/59)
ويعلِّلُ هذا كلَّه مصير تلك القبائل للتحالف مع الأشراف القاسميين في محاولاتها للثأر من بني الصليحي واستعادة أرضهم وبلادهم التي سُلبت منهم.
لكننا نعلم أنه كانت للأشراف القاسميين آنذاك عصبيتهم الخاصة المتمثلة في الشيعة الحسينية. ونعرفُ الآن من أخبار مسلَّم الكثيرة عنهم ومن سيرة الأميرين أن المؤمنين بمهدية الحسين ورجعته في الجيل الأول كانوا في الأكثر من وادعة (من خولان)(2).
__________
(1) تاريخ مسلّم 4/15ـ16.
(2) جاء في سيرة الأميرين/331 ضمن كتاب لذي الشرفين: (وأما بلد وادعة الصريمي منهم والآخر فأكثرهم شيعتنا ومحابّنا. وبينهم المنازل والأموال. وأكثرنا عندهم من قديمٍ وحديث حال
أما مَن بين الأشراف فقد انحصر الأمر في أعقاب القاسم بن علي العياني، وشريف اسمه عيسى بن عياش الرسي القاسمي يذكره مفرِّح في سيرة الأميرين بين أوائل أنصار القاسم بن جعفر، ويذكر مسلَّم اللحجي ابنه يحيى بين الشيعة الحسينية بعد ذلك بخمسين عاما(1). (1/60)
وكنا من قبل قد تحدّثنا عن الأسباب التي قد تكونُ كامنةً وراء اعتقاد الحسين بن القاسم لمهديته، أما دوافع أنصار الفكرة من بين أفراد أسرته، وبعض البطون القَبَلية فقد تكمن في بعض خصوصيات شخصية الحسين بن القاسم نفسه، فقد قدّمته الأسرةُ على أخيه الأكبر جعفر بعد والده رغم صغر سنه، وتُظهر أخبار مسلَّم اللحجي عنه - من خلال ذكريات أتباعه على الأقل - أنه كان يتمتع بشخصيةٍ كَارِزْمِيّةٍ تثير الإعجاب والانجذاب من بعض فئات الناس.
والمعروف أن القاسم بن علي العياني نفسه عانى من تجذُّر تقاليد السلطة والمذهب باليمن في أعقاب الهادي والناصر، فكان لا بُدَّ من تأسيسٍ آخر للقاسميين خاصّ بهم يستطيعون بناءً عليه تثبيت دعائم سلطانهم الديني والسياسي.!!
- - -
__________
(1) في تاريخ بني الوزير ص32: أن القاسم بن علي العياني أعقب خمسة أولاد: علي، وسليمان، والحسين، وجعفر، ومحمد. أما أعقاب عليٍّ فكانوا في القرن الثامن بهجرة دار معين بالقرب من صعدة وقد انقرضوا. وأما أعقاب سليمان فكانوا بخيوان. وأما الحسين بن القاسم (المهدي) فلم يُعقِب غير ابنتين. وأما جعفر بن القاسم فله أولاد منهم أحمد بن جعفر جدّ أهل براقش وابنه القاسم بن جعفر له عقبٌ منهم بعض أهل غربان. وأما محمد بن جعفر ((فمن أولاده أكثر أهل غربان وشهارة، وقبره بشهارة...)).
ويذكر ابن الوزير في التاريخ ص211 أميراً اسمه فُليتة بن القاسم لزم (أَسَرَ) المتوكل أحمد بن سليمان بأثافت وكان من الحسينية. ويذكر المتوكل أحمد بن سليمان (في الحكمة الدرية /325) شريفاً اسمه القاسم بن محمد بن القاسم بن جعفر ((زعم أنه يشافه المهدي ويكالمه)).
فرقة الحسينية وغرائب أخبارها وعقائدها (1/61)
كان ما يزال هناك شيعةٌ حسينيون كثيرون أيام مُسَلَّم في النصف الأول من القرن السادس الهجري، وعن هؤلاء واعتقاداتهم الساذجة الباطلة يُفيضُ مسلَّم في الحديث على سبيل التهويل والتشهير والتعجيب(1)! ويذكر أحمد بن عبد الله الوزير(2) أن والد نشوان بن سعيد بن أبي حمير الحميري كان من الحسينية، وكذا نشوان في بَدء أمره، ومن شعره في ذلك آنذك قوله:
بريتُ إلى الرحمن من كلِّ مُدَّعٍ ... لمهديَّةٍ غير الحسين بن قاسم
لكنه رجع بعد ذلك (ووقع بينه وبينهم خصامٌ وكلامٌ وأشعارٌ). وكان من شعرائهم في النصف الأول من القرن السادس الهجري الجعيد(3) صهر نشوان زوج ابنته! (وكان أهلُ هذا المذهب من الحسينية منتشرين في كثير من البلاد كالظواهر والأودية وشظب والشَرَفين وصنعاء وبلاد جهة الجيمة... وكذلك بلاد سنحان ومذحج.. وإن كانوا في بعضها غالبين وبعضها مغلوبين. ومنهم الأمير فُليتة بن قاسم الذي لزم الإمام المتوكل على الله بأثافت، وهو القائل:
أنا شاهدٌ بالله فاشهد يا فتى ... بفضائل المهدي على فضل النبي
__________
(1) تاريخ مسلم 4/258 - 260.
(2) تاريخ بني الوزير ص210.
(3) هو الجعيد بن حجاج الوادعي.
وطالت مدة أهل هذه المذاهب، كانت من زمن الحسين بن القاسم إلى زمن الإمام يحيى بن حمزة. وحكى الفقيه عبد الله الورد أنه يعرفُ قبل الفناء الأعظم (الطاعون) الواقع في سنة أربعين وثمانمائة رجلاً في ثُلا من الكبراء يعتقد حياة الحسين بن القاسم ويرى رأيَ الحسينية) (1). لكن أحمد بن يحيى المرتضى (840هـ) يقول في معرض ذكره لفرق الزيدية: إن الحسينية التي اختصّت (بأن زعمت أن الحسين بن القاسم بن علي المقتول برَيدة لم يُقتَلْ، وأنه لا بد أن يظهر قبل موته...)(2) قد انقرضت كما انقرضت الفرقة المطرفية، ولم يبق إلا المخترعة من فِرق الزيدية باليمن. (1/62)
عقد يحيى بن الحسين في كتابه "طبقات الزيدية" فصلاً قصيراً ذكر فيه (مَن عُرِف من أعيان الحسينية من الهدوية أصحاب الإمام الحسين بن القاسم العياني)(3) والعلماء الذين ذكرهم هم:
الشريف قاسم بن جعفر:(وكان هذا الفاضل في درجة الإمامة لكنه لم يدعُ. قالوا: لأنه رُوي عنه أنه كان يعتقد أن عمه الحسين حي، وأنه المنتظر) و(كان مع صنوه [أخيه] محمد بن جعفر آمراً بالمعروف ناهيا من المنكر على صورة المحتسب).
وأخوه محمد بن جعفر، الذي كان يعتقد اعتقاد أخيه في الحسين.
__________
(1) تاريخ بني الوزير ص210-212.
(2) المنية والأمل /98 – 99. وفي العسجد المسبوك فيمن ولي اليمن من الملوك للخزرجي، مخطوطة مصورة، سلسلة وزارة الإعلام والثقافة، طبعة ثانية 1981م، ص 52: ((... وفي جَهَلة الشيعة من يزعم أنه حيٌّ لم يُقتل، وأنه المهدي الذي بشّر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكان على هذا الاعتقاد كثيرٌ من الأشراف. ثم انقرض أهل هذا الاعتقاد، وكانوا خلقاً كثيراً في مغارب صنعاء. والأئمةُ من أهل البيت وعلماؤهم باليمن مجمعون على أن الحسين بن القاسم اختلط عقله في آخر عُمره لأنه ظهرت منه أشياء من الأقوال والأفعال تخالف الشرع الشريف...)).
(3) طبقات الزيدية /97 – 98.
والشيخ محمد بن أحمد النضري، وكان عالما على مذهب الحسينية يعتقد أن الحسين بن القاسم حيٌّ لم يَمُت وأنه المهدي المنتظر، وله في هذا رسالةٌ وكلامٌ طويلٌ لا فائدة في ذكر شيء منه، وردَّ على اعتراضات الشيخ عامر التي اعترض بها الحسين بن القاسم في سيرته. (1/63)
وأحمد بن بُريه وقتله الحسين بن القاسم (1).
ولا ينسى يحيى بن الحسين المؤرخ مفرح بن أحمد لكنه يقول عنه فقط(2): (الشيخ مفرح بن أحمد: كان رأيُه رأي الحسينية وهو صاحب سيرة الأميرين المذكورين: الفاضل وصنوه) ومصدرا يحيى بن الحسين الأساسيان لهذه المعلومات عن الشيعة الحسينية هما: كتاب تاريخ بني الوزير الذي يسميه: "الفضائل" واللآلي المضية لأحمد بن محمد الشرفي(1055/1645)(3). والمصدران المذكوران لا يذكران فعلاً غير ذلك عن الشيخ "مفرح بن أحمد". لذا فقد حاولنا أن نجد شيئا عنه في المصادر التي تذكر أخباراً عن الشيعة الحسينية، وهو تاريخ مسلم اللحجي.
__________
(1) لعل قتل الحسين لأحمد بن بريه مع أنه حسيني يعود إلى قسوته ومزاجيته، انظر النص السابق في الدلالة على قسوته فيما ذكره المؤرخ يحي بن الحسين.
(2) طبقات الزيدية /98.
(3) تاريخ بني الوزير /32،33، 209-214، واللآلي المضية 2/149. وقد رجع يحيى بن الحسين أيضا إلى المنصور بالله في سيرته. ((وكان المطرفية والحسينية والقاسمية من رافضة الشيعة يسبون الصحابة، ولهم قواعد أربع، ولهم كتب وتصانيف ورسائل وأشعار...)).
ترجم اللحجي(1) ضمن الطبقة الرابعة من علماء الزيدية لمن سماه: أبا القاسم محمد الرَبَعي. ويذكر ضمن الترجمة مفرح بن أحمد الرَبَعي فيقول عنه:(إنه القاضي الأديب الشاعر. وأظنه أخاً لأبي القاسم بن أحمد. وطالت صحبته للأشراف الرسيّين بشهارة، وهو مصنف سيرتهم. وله فيها من الأشعار ما يُستحسَنُ ويُستجاد...)(2) أما معلوماته عن الأسرة الربعية فَتَرِدُ خلال الترجمة الطويلة نسبياً لأبي القاسم، وتتلخص في أنهم كانوا ينزلون من البَون الأسفل بلد همدان بنحو رَيدة، وبناحية بلد الصيد. فهم من ربيعة همدان(3). وكانوا في النصف الأول من القرن الخامس الهجري من بيوتات العلم والشعر ببلاد همدان، وقد خرج منهم عدةُ شعراء امتدحوا الصليحيين والشهاريين، يذكرهم مسلَّم، ويورد بعض أشعارهم. ولم يكن أبو القاسم نفسه شاعراً محترفاً، لكنه كان يقول الشعر، كما أنه لم يكن سيء العلاقة بالصليحيين فقد تولى ابنه أحمد بن أبي القاسم القضاء برَيدة ونواحيها للصليحيين. (1/64)
ويضيف مسلم إن صناعة قوم من آل الربعي كانت تعليم القرآن بالناحية التي يقيمون بها. فيبدو أن تقاليد الأسرة المتوارثة في الأدب واللغة والشعر والخطابة والكتابة والعلم بالقرآن، هي التي كانت وراء اتصال جماعة منهم بالقاسميين، شأنهم في اتصالهم بالصليحيين ومن هؤلاء مفرح بن أحمد.
__________
(1) تاريخ مسلم اللحجي 4/249 – 252، 272.
(2) تاريخ مسلم 4/251.
(3) في منتخبات في أخبار اليمن (من كتاب شمس العلوم لنشوان بن سعيد الحمير /40): ((ربيعةُ في قبائل اليمن كثير. والربيعة – بالألف واللام – حيٌّ من اليمن من قُضاعة. يُنسبُ إليهم ربيعي – بإثبات الياء – ويُنسبُ إلى غيرهم رَبَعي بحذفها)). فمفرح من ربيعة همدان لا قضاعة أو خولان قضاعة، وبخاصة أن أسرته كانت متوطنة بديار همدان.
ومن هولاء الأمير الشريف القاسم بن جعفر قال عنه العلامة المؤرخ مسلم اللحجي(1) وعن حمزة أبي هاشم أنه لم يكن في زمانهما من آل رسول الله صلى الله عليه أحدٌ أقوم منهما بعبادة الله تعالى فيما بلغني، ولا أشدّ غضباً لله على أهل المعاصي. (1/65)
__________
(1) هو مسلَّم بن محمد بن جعفر اللحجي الشّظَبي. وُلد حوالي العام (485هـ), وتوفي عام (545/50-1151)أو (55247-1148). يبدو أنه اهتمّ في فتوته باللغة والأدب والشعر, وألّف في ذلك كتاباً سمّاه الأُتْرنْجة في شعراء اليمن. ويظهر أنّ ياقوت الحموي (معجم البلدان, مادة لحج) اطّلع على نسخةٍ منه مكتوبة عام (530هـ)بخطّه فاستنتج أنه كان مايزال حياً آنذاك. وبدأ اهتمامه بآراء الفرقة المطرّفية من الزيدية (510ـ515ه).
ويظهر أن ذلك هو الذي دفعه لكتابة تاريخ للزيدية ورجالاتها وأفكارها باليمن هدفه إثبات الصورة المطرّفية عن تُراث المذهب بالبلاد، تدليلاً لكونهم أتباع الهادي الحقيقيين. وكانت الفرقة قد بدأت تواجه تحدياتٍ حقيقية منذ مطالع القرن السادس من جانب الأشراف, والعلماء المرتبطين بالتقاليد السلطوية لأعقاب الهادي بالبلاد. وبلغ ذلك ذروته بدعوة المتوكّل على الله أحمد بن سليمان, وعودة القاضي جعفر بن أحمد بن عبد السلام من العراق وجلبه لكثيرٍ من كتب زيدية الجيل والديلم, والمعتزلة معه.
وليست هناك دراسةٌ مستوعبةٌ عن مسلَّم حتى الآن؛ولكن قارن؛ ياقوت: معجم البلدان (مادة: لحج) , وطبقات الزيدية ليحيى بن الحسين 1/96ـ97,وإنباه الرواة للقفطي1/326, وتاريخ بني الوزير/109, 204-03, ochenour:op.cit.315J317,W.MadeIung:DerImam. وعبدالله لحبشي: مصادر الفكر العربي الإسلامي في اليمن, ص 405ـ406 , وأيمن فؤاد سيّد: مصادر تاريخ اليمن في العصر الإسلامي, القاهرة1974,ص106,ولنفس المؤلّف: تاريخ المذاهب الدينية في بلاد اليمن حتى نهاية القرن السادس الهجري, الدار المصرية اللبنانية, القاهرة 1988, ص36.
وكان القاسم أعلاهما عند الناس درجةً في ذلك. ولولا ما كان ينفّر عنه العامّة من أشياء كانت منه، نحو اعتقاده حياة الحسين بن القاسم بعد اعتقاده لقتله، وزعارة خُلُقٍ... إلى أن قال: وأما اعتقادُهُ حياة الحسين بعد الاعتقاد بموته فهو ما أخبرني به بعضُ أصحابه المخلصين بعد الاعتقاد في محبته على وجه القول بذلك والحُجّة على صحّته، وهو يوسف بن الذؤيب المعروف بالمسعود). (1/66)
[محمد بن إبراهيم الصَبَري حسينيٌّ متحمِّس]
قال مسلم اللحجي: (1) أخبرني سعد بن أبي السعود بن أبي ثور الأبهري - وكان من أبناء شيوخ الزيدية وأهل التربية في الدين، وهو يومئذ شابٌ - وقد بقي إلى وقت تصنيف هذا الكتاب... قال: كنتُ في أيام الخريف برَيمة من أرض الأبناء عند صهرٍ لي كنتُ أنا أعرفه من وجوه أهل الدين، يقال له: سليمان بن سودة. فصادف ذلك أوان خروج الزوار والحُجاج إلى مكة والمدينة، قال: فخرجت ذات يومٍ عند طلوع الشمس فقعدتُ خارج القرية للدفء بها والحاجُّ يمرون بحيث أرى، فعدل رجلٌ منهم إلى ماء رَيمة فتوضأ ثم صلى صلاة أحسبها الضحى عندهم وانصرف. فخطر ببالي أن أعرفَ به ما عند ابن الصبري في هذه الخرافات فكتبت إليه - وكان في بعض تلك النواحي - كتابا أخبره فيه أني رأيت أمرا عجيبا، وذلك أني كنت في مكان كذا فلم أشعر حتى صرت أرى شخصا بعد أن لم أكن أراه! وإذا هو في ثياب بيض قائما يصلي فبينا أنا أراه إذ صرتُ لا أراه، فأُحبُّ من تفضُّله - أطال الله بقاه - أن تخبرني ما يقال في ذلك؟!
__________
(1) تاريخ مسلم 4/ 256 – 258. في ترجمة محمد بن إبراهيم بن رفاد (514 هـ).
قال: فأتى جوابه يقول لي: الحمد الله الذي أسعده، ووفقه هداه وسدده، ليعلم أن ذلك مولانا المهدي لدين الله الحسين بن القاسم صلوات الله عليه! في كلامٍ نحو هذا! فليتمسك بحبل الدين، ويعتصم بعِصَم المهتدين، ويفعل ويصنع - في كلام ذكره -. قال أسعد: فلما رجعت إلى أهلي كنتُ لا أزالُ أعجبُ من كتابه ذلك، ومن وجدته يعجب منه وأوقفُهُ عليه. فبلغه ذلك فكتب يُعاتبني كتاباً فيه أبيات شعر، أولها: (1/67)
أبا حسّانَ لِمْ فُتِشَ الكتابُ ... وخولفت المروَّةُ والصوابُ
قال:ولقيته بعد ذلك فقال: يا أبا حسان! أخبرني بما رأيت يوم رأيتَ الإمامَ شفاها الآن! قال: فخشيتُ أن أُغالطه بشيء فأُعينه على الإرجاف بذلك بين العوام، فقلت له: ويحك! إنما رأيت رجلاً يصلي على الروث فهل الحسين بن القاسم ممن يصلي على الروث؟! فارتاع لذلك وسكت.
الحسين السراج وحمقى الحسينية
قال مسلم اللحجي(1) أخبرني محمد بن إبراهيم بن حُميد بشظب، وأحبُّها مما سمعت من محمد بن إبراهيم بن رفّاد أيضا، قال: كان الحسين السراج الصنعاني أحد متكلمي الزيدية وذوي المعقول منهم. وهو الذي ذكره ابن حُميد في أُرجوزته التي أجابه عنها أبو السعود بن زيد رحمة الله عليه. فاضطُرّ للوصول إلى شهارة وبها يومئذ الأمير محمد بن جعفر بن القاسم بن علي الرسي وأهل ولايته من الشيعة الحسينية فسألوه عمل سروج كانت لهم أو نحو ذلك ففعل، ولبث عندهم أياما وربما يتعرض له بعضهم فيعظه(2) ويدعوه إلى القول بإمامة الحسين وحياته ونحو ذلك، فربما يُداريهم ويدافعهم عن التصريح بما عنده، إذ كان لا يرى فيهم معملاً لما يريد من تبيين الحق الذي يعتقده، ولا يقدر لهم على إظهار منافرة وخلاف ييأسون له منه حتى يدعوه.
__________
(1) تاريخ مسلم 4/258 – 260.
(2) في المخطوط: فيعطيه. ولعل الصواب ما أثبت.
فاجتمعت عليهم إجارةٌ صالحةٌ وهَمَّ بالانصراف إلى مسكنه وأهله، فالتمس ذلك منهم فكأنه رأى بعض ما لا يريد من إقبالهم عليه واهتمامهم بحقّه. وخرج في بعض أوقات الصلاة إلى حَيد شعفٍ يقال له: الحُوار بشهارة لقضاء الحاجة، فرأى غراباً على طرف الجبل أمامه حين طار، ثم غَفل عنه فأسرع التواري عن بصره، فخطر بباله أن يُظهر لهم ما يتقرب به من قلوبهم، وتحسُنُ به له عشرتهم، وليتيقن ما يسمع به من تصديقهم بالكذب والخرافات. فلما رجع إلى المصلى أقبل على مَن هناك وقال: إني رأيت شيئا من صُنع الله عجيبا يرُوعُ مثلُه أهل العقول والتفكر - في كلام نحو هذا - ولقد وقع في نفسي منه شيءٌ، فارتاعوا لتهويله (1) وطالبوه بالكشف عما رأى، فتباطأ عليهم شيئا كالمستحضر لأذهانهم، أو نحو ذلك. (1/68)
فلما قويت مُطالبتهم له بالخبر قال: خرجتُ إلى جانب من صَرف هذا الجبل فظهر لي شخصٌ في الهواء يسير وأنا أراه ثم غاب عني! وهذا شيءٌ عجيبٌ جداً! فتفرَّقَ القومُ بذلك وأشاعوه في الجبل بين أهله، وقالوا:تاب السرّاج! وأقرّ بالحسين ورءاه! في نحو من هذا القول. وبالغوا في الكلام بذلك حتى انتهى إلى الأمير- وكان بخلاف القوم- فتهاون بذلك وأعرض عنه أو نحو هذا.
__________
(1) في المخطوط: لتهوله. ولعل الصواب ما أثبت.
وبادر القوم إلى السراج فجمعوا له ما كان له عند أهل الجبل من إجارة فقبضها. وتزايد الإرجافُ بتوبة السراج وكثُر، حتى أن الأمير أحبّ أن يطّلع على ما عنده في ذلك، وما سببُ ما يُقال إذ (1) كان في شكٍّ في وقوع ذلك منه كذلك. وعزم السرّاج على السفر فدخل عليه مودِّعا أو مستأذنا أو نحو ذلك، فلما صلح المجلس للكلام فَعَمَد في الخبر عن توبته، وما يُرجَفُ به عنه في الجبل يسأله عن ذلك؟ فقال: نعم يا مولاي! رايت شيئا! فأخذ عليه أن يَصدُقَهُ! قال: رأيت غراباً يطير أمامي في الهواء ساعةً ثم غفلتُ عنه والتفت فلم أره فذلك ما رأيت! فأحسبه ضحك وقال: قد عجبتُ أن يكون يجوز عليك ما يجوزُ على هؤلاء! فلما دخلوا وبّخهم وأوضع في العيب لهم، وأخبرهم بما قال السرّاج فتجدّدت عداوتهم له، وقد استقلّ مسافرا فلم يُرَع لما عندهم. (1/69)
[من حماقات الحسينية]
قال مسلم اللحجي(2) أخبرني علي بن يحيى بن مسلم اللُّداني بوقَش - وكان من أهل الدين - قال: لما تُوُفّني الشيخ علي بن أبي رزين رحمه الله بوقش كان من ورثته ابنته امرأةُ محمد بن إبراهيم الصبري فأقبل أحمد بن محمد بن إبراهيم الصبري إلى وقَش - وهي أمه - مطالبا بنصيبها في تركة أبيها. قال: فدخلت عليه وعلى رفقته وكان معه له صهرٌ تحته أخته ابنة محمد بن إبراهيم يقال له... (3) وكان من كبار الحسينية من أهل حَضور. وإذا بين أيديهم ماعزٌ لهم وهو يأمُرُ بإكرامها وصيانتها ويقول: أرفقوا بالأولياء! فقال الشيخ الحسن بن أحمد الجنبي رحمه الله: والحمير أولياء؟!
قال: نعم!
قال: من أهل الجنة؟!
قال: من أهل الجنة!
قال: فأنت؟
قال: الله أعلم!
قال: فقد تيقّنْتَ أن الحمير تدخُل الجنة وأنت شاكٌ في نفسك؟
قال: نعم!
__________
(1) في المخطوط: إن. ولعل الصواب ما أثبت.
(2) تاريخ مسلم 4/352 – 353.
(3) بياض في المخطوط. والغالب أنه هو الذي يرد اسمه في النص فيما بعد: علي بن يحيى.
فقلتُ أنا لعلي بن يحيى: إن عند الحسين بن القاسم مما هو مسطورٌ في كتبه أن البهائم تُبعث يوم القيامة وتدخل الجنة وتتنعّم، وأن الله تعالى لا يفعلُ ذلك بها إلا وقد جعل لها عقولاً تعرف بها، وإذا جعل لها عقولاً لم يَجُز أن يجعلها في الصُّور التي تُستقبحُ وتسوء! فيجعلها في صورٍ تُستحسن. وهذا فهو رأي بعض أهل التناسخ. (1/70)
سأل الشهاب الجزري أحد كبار قادة الأيوبيين في اليمن الإمام عبد الله بن حمزة فقال: ما الحجة في تقديم علي عليه السلام على سائر الصحابة؟ وفي إطلاق السب عليهم؟ وعن فرقة من الشيعة يعتمدون على التيمم مع وجود الماء وهم الحسينية؟ (1)
فأجابه الإمام إلا على السؤال عن الحسينية فإن مؤلف سيرته لم يثبت له جوابا عليه!!!
- - -
انخراط الإسماعيلية في صفوف الحسينية
قال مسلم اللحجي (2): وكان قد وقع إلى بلادنا مولىً حائكٌ أحسبُه من موالي ظُليمة أو مَن يجاورُها من القبائل يقال له: غدير، ضخم أسود اللون لا علم عنده ولا دين. وكان فيما أخبرني به عن نفسه وغيره عنه، قد عظُمت منزلته عند هذا الشريف يحيى بن عيسى بن عياش وشيعته، وكان يُرجف له ويأتي لما يُوافقُه وينصُرُ رأيَه ذلك، فوقع منه موقعاً رفع به منزلته حتى صار ممن يُتوسَّلُ به إليه، ويشفع عنده ويقدم ويؤخر. ثم صار إلى أسواق المغرب فشرب الخمر وقطع الصلاة، واستعمل الغناءَ من شعر العوام في بلادنا وما يواليها. وانتهى إلى أخسّ طبقةٍ في الفسق والخلاعة.
__________
(1) السيرة المنصورية1/ 45.
(2) تاريخ مسلم اللحجي 4/262 – 266.
..إلى أن قال: وأخبرني غدير فيما أخبرني به من حُمق أصحابه هؤلاء وجهلهم وقلة التمييز منهم، أنه أقبل في طريق مع الشريف يحيى بن عيسى بن عياش وأصحاب له، فإذا هم بدفتر لطيف في الأرض، فالتقطه أحدُهم وناوله الشريف - أو كان الشريف هو الملتقط له - فنظر فيه العهدَ الذي يأخذه أهل الدعوة الباطنية لإمامهم صاحب القاهرة من مصر على مَن رغب في الدخول معهم، فعرّفهم به وأراهُم مما ألقاه إليه الحسين بن القاسم، وقرأ افتتاح الكلام الذي فيه عليهم فاستحسنوه وطربوا له ونشوا. (1/71)
ثم قرأ عليهم العهد وأخذَهُ عليهم لصاحبه الذي وُضع من أجله باسمه وكنيته ولقبه، فلم ينتبهوا لشيء من ذلك ولا أنكروه، فصار لا يأتيه أحدٌ للدخول معه في حزبه وحلول محله ذلك إلا أخذ ذلك العهد عليه! وكان غديرٌ قد حفظ ذلك العهد الذي في الدفتر وخطبته المقدمة حفظاً تاما، فأردتُ امتحان ما يقول فأمرتُهُ بقراءة ذلك عليّ! وقد كانت عندي كراسةٌ فيها ذلك فقابلتُ بينهما فإذا هو عهدُ الأمير ابن المستعلي ولقب الأمير واسمه وكنيته! فغلب على ظني أنه قد كان يرى رأيَ القوم، وقدّم خواصّه مَن ألقى الدفتر على الطريق! لِمَا أرادَ من الحيلة في أخذه عليهم.
وقد كان فيمن اختلط بأهل الدعوة الحسينية والدولة الشهارية بشرٌ كثيرٌ من شيعة أهل الدعوة الصليحية. ووقت ابن عياش هذا قريبٌ من وقت دخول الذؤيب بن موسى بن الذؤيب الوادعي في مذهب أهل الدعوة الصليحية وقوله بالباطن، وأحسُب داءَهما كان واحداً.
وكان في أهل الرأي بشهارة ضريرٌ يُعرفُ بالبصير، بلغني أنه مولى من أهل دَرب شاكر الذي يلي أرض بني صُريم. فأخبرني عنه غير واحدٍ من أهل شهارة وغيرهم من الزيدية والحسينية أنه استعمل فيهم حِيلاَ وتدليساً ومخاريق غَلَب بها على أكثرهم، حتى أن الأمير محمد بن جعفر بن القاسم أيام مُلكه بشهارة كان يُداريه، وأنه بلغ من انقيادهم له أنهم كانوا يأتونه بالنساء فيمسح على أجسادهن للتبرك. وأنه ربما يأتونه بالمرأة التي لا تحملُ فيمسح على ظهرها.وأن الأمير بلغه منه ما يَقبُحُ فَهَمَّ به فانفصل إليه أكثر أهل شهارة فتركه! (1/72)
فأخبرني الشريف أحمد بن محمد بن أحمد العلوي أحد ثقات المرحبيين أنه قَدِمَ هذا البصير في نفرٍ من أصحابه للخريف إلى المدحك من بلاد وادعة، فنزل على شيخ البلد ورئيسهم وكان يتوالاه ويصدّقه ويُكرمُه ويرفع منزلته ويعظّمه. ثم إنه أخذه وأصحابه إلى عنبٍ من أعنابه فقسم لهم منه لكل إنسان شيئا، وقسم للحسين وعيسى بن مريم والخضر لكل واحدٍ جزءا. وكان يتولى تفقُّد ذلك العنب وحراسته بنفسه، فربما يصبح في الغدوات يدور فيه ويتفقده. فعمد البصير إلى شيء من المسك أو الزباد ونحوهما فجعله في مواضع من الجزء الذي قَسم للحسين، وعلى أول موضع منه يطلع عليه ويقف عنده أجوده. فأصبح هذا الشيخ يدور ذات يوم في العنب وينظر فيه حبلةً حبلةً، وأصبح في الأرض طلٌّ وندًى فاشتدت رأفةُ ذلك الطبيب، فلما مَرّ به شمّ تلك الرائحة وقد علت وقويت فصاح بأعلى صوته: أنا أشهدُ أنك يا حسين بنُ امْقاسم امْواحد امْقهار! فسمعه الناس فسألوه فأخبرهم بما شمّ في ذلك العنب الذي للحسين أو دعاهم حتى شمّوا، وازداد يقينه ويقين مَن كان على رأيه، وقويت بصائرهم في رأيهم!
وقوله: ياحسين بن ام قاسم امواحد امقهار يريد: الحسين بن القاسم الوَاحد القهار.
قال مسلم اللحجي(1) أخبرني أسعد بن عبد الفاضل بن يحيى العُبيدي رحمه الله، قال: أتى إبراهيم بن جابر بيت غفران من جبل حَضور وكان بها رجالٌ من الأغنياء وأهل السَّعة يقولون بإمامة الحسين بن القاسم وحياته. فقصد المسجد وكان به معلِّمٌ لهم على مثل رأيهم مع زيادة حمقٍ فيه، وذلك في وقت الزوال، فسلّم عليه وقال له: أنت فلان الفلاني؟ قال: نعم! قال: وهذه بيت غفران الثلاث القروات؟ قال: نعم! قال: وبها من المشايخ كذا ومن الناس كذا؟ وبك أنت وبمنزلك كذا وكذا من العلامات؟ مما أحسبُه أن قد كان سأل عنه، لأنه فيما ذكر لي ابنُهُ محمد بن إبراهيم بن جابر قد كان ينزل عُصفران من ناحية البرويّة - وكان موضعا قد نزل به عمُّهُ أحمد الحجازي أحد شيوخ الزيدية المذكوين في هذا الكتاب - بعد خروجهم من سَناع وهو قريبٌ من جبل حَضور، بحيث يمكنُهُ أن يقع إليه فيه أخبار أهله. وكان ببيت شعيب من شرقي جبل حَضور قومٌ من هذه القبيلة التي ينتسب إليها من عنز، لا أرى إلا أنه كان ينزل بهم ويأتي كثيراً من نواحي حَضور. (1/73)
قال أسعد: فلما سمع منه ذلك المعلمُ ذلك القولَ فزع له وخامره أمرٌ راعه! ثم إنه قال للمعلم: فإني رسول المهدي لدين الله الحسين بن القاسم وصاحبيه - أو أحسبه قال: وعيسى بن مريم والخضر - وهم بشعب كذا من حَضور شعب موحش خالٍ من الناس، وقد أمروني إليك بالسلام واختصّك الإمام بخاصّة سره وأهم حوائجه، وهو يأمرك بأن تلقى فلاناً وفلاناً من أهل هذه القرى الثلاث - فعدّ عشرة من كبارهم ومَن يجوزُ قولُه عليهم - قال: قال: فتأمرهم بأن يبعثوا إليه بمائة دينار كل رجلٍ منهم بعشرة دنانير، ويكون نصيبك أنت أن تصنع له ولصاحبيه عشاء، وأنا آتيهم به، ولا تخرجه إليّ حتى تغيب الشمس. فأحسب - والله أعلم - أنه قال له: فهل أدعوهم إليك هاهنا؟
__________
(1) تاريخ مسلم 4/335 – 336.
قال: إن فعلتَ فإنهم لا يرونني! فجعل المعلِّم يفكر، فلما اشتغل انسلّ إبراهيم حتى توارى في موضع، وأتى القوم فلم يروه فعظُم عليهم الأمر وبادروا حتى جمعوا الدنانير. فلما تفرّقوا برز للمعلِّم فقبضها وواعده موضعاً منتحياً عن البلد يأتيه فيه بالعشاء وقت غروب الشمس ففعل، وانصرف إبراهيم بالدنانير وبذلك الطعام إلى حيث يريد.!! (1/74)
[جدلٌ بين زيدي وحسيني]
قال رجل (1) من الحسينية لرجل زيدي فيما يتعلق بالقيامة والبعث والنشور قولا. فقال: وهل يصحُّ أن تكونَ قيامةٌ وبعثٌ ونشورٌ وثوابٌ وعقاب؟
قال: نعم!
قال: هل من دليل على ذلك؟
قال: قول الله تعالى: ? ??????? ?????? ?????????? ??????????????? ????????????????? ??????? ??????? ?????????????? ? [الأنعام:12]، وقال تعالى: ? ?????? ?????????? ?????????? ???? ???? ?????????????? ????? ??????? ????????? ??????????????? ????? ???????????????... ? [التغابن:7].
قال: وهذا كلامُ مَن هو؟
قال: كلام الله.
قال: ما الدليل على ذلك؟ وعلى أنه من الله؟
قال: لأنه معجزٌ لا يقدر البشرُ على المجيء بمثله!
قال: يا سبحان الله! من يقول هذا؟!
قال: لا خلاف فيه ولا ينفيه أحد!
قال: المدفوع والذي لا إجماعَ عليه! قال: لِمَ؟
قال: لأنكم رويتم زعمتم عن الحسين بن القاسم أنه قد جاء بما هو فوقه درجةً وأعلى منزلة. وقد كان يبطل كونه معجزة أن يؤتى بمثله، فكيف وقد ادّعيتم القدرة على المجيء بما هو أَبهَرُ منه أو أَبْيَنَ؟!! أي ذلك قلتم فهو إثبات فضل ما جاء به الحسين عليه! فلم يجد الحسيني حيلةَ إلا الجحد والإنكار لذلك القول، وأنه ما قاله الحسين ولا هو من كلامه.
قال: فأما إن كان الأمر على هذا ولم يقل الحسين هذا، فإنه صادقٌ وأنت سالمٌ من الهلكة التي عليها غيرك من القائلين بذلك.
__________
(1) تاريخ مسلم 4/345 – 346.
وقال له الحسيني: أتقول إن الحسين بن القاسم حيٌّ سويٌّ إلى الآن، وإنه المهدي الذي ينتظره الناس؟ (1/75)
قال: لم أَرَهُ بعد، ولا خلطة لي به ولا معرفة!
قال: إنه غائبٌ!
قال: كيف يعرفُ الشاهدُ الغائبَ من الناس بغير عيانٍ ولا خبرة؟
قال: إنه سيظهر ويملأُ الأرض عدلا كما ملئت جورا!
قال: إذا كان هذا عرفتُهُ حينئذٍ وأخبرتُك بما أعتقدُ فيه، فأما الآن فلا كلامَ لي فيه.
قال: فهل تقولون إنه أفضلُ من رسول الله حينئذ أم لا؟
قال: قد قلتُ حتى أراهُ، فأما الآن فلا قول لي فإن استعجلتَ عليّ فصِفْهُ لي!
قال: إنه رجلٌ من ولد رسول الله صلى الله عليه، فذكر نسبه وأباه وعلمه وديانته وفضائله على ما يعتقد فيه.
قال: فعلى هذا هو شريفٌ من آل رسول الله صلى الله عليه؟
قال: نعم!
قال: ولآل رسول الله من الشَّرَف به صلى الله عليه ما ليس لسائر أشراف العرب من قريش وغيرها؟
قال: نعم!
قال: فكيف يلزمُني أن أُفضل رجلاً على مَن لم يكن شريفاً إلا به ومن أجله؟! فانقطع.
- - -
المؤلف
هو الإمام المهدي الحسين بن القاسم بن علي بن عبدالله بن محمد بن الإمام القاسم الرسي الحسني اليمني المعروف كوالده بالعياني. أحد الأئمة العلماء الكبار، مجتهد، فقيه، عالم، نابغة.
ولد سنة 376/967 لعله في خثعم بالحجاز. ونشأ في حجر والده وأخذ عليه وعلى علماء عصره حتى فاق الأقران. وألف مابين سبعين إلى ثمانين كتابا كما شهد له الكثيرون من العلماء الفطاحل، لكن عقيدته كانت موضع ريبة وحذر عند كثير من علماء اليمن. كما تقدم.
بويع بعد وفاة والده سنة 393/02-1003 وعمره (17) سنة، وفي عصره تقلص ظل دولة الأئمة، وأصبح محصوراً بين ناحية إلهان وصعدة، لقوة نفوذ الدولة الزيادية، وكان من أشد منازعيه محمد بن القاسم بن الحسين الزيدي، وكانت بينهما معركة سنة401/10-1011 هزم فيها الحسين العياني ولكنه تمكن من جمع قوة أجابته من حمير وهمدان، وتوجه لمحاربة معارضه، ووقعت بينهما معارك، هزم فيها محمد بن القاسم سنة 402/11-1012 في فج صنعاء وداست الخيل ظهره، ولم يصف الأمر للإمام الحسين، إذ نشبت بعدها معارك عديدة، كان خلالها يقوم بمناضلة أعدائه بنفسه، حتى أسفرت إحداها عن مقتله في سنة 404/1013 وهو في سن مبكرة، بعرار في وادي البون بالقرب من مدينة ريدة، وعمره آنذاك (28) سنة، وقبره هناك مشهور مزور. (1/76)
كتبه
وقد خلف كتبا كثيرة ذكر أحمد بن عبد الله الوزير مرة أنها مايقرب من (80)كتابا أو يقل قليلا، ومرة قال:إنها(75)(1) وذكر صلاح الجلال أنه صنف نيفا وسبعين مصنفا(2). نذكر منها:
أجوبة مسائل في التوحيد.
الأدلة على اللّه تعالى.
الإرادة.
الأسرار.
كتاب الأكفاء.
كتاب الإمامة.
بناء الحكمة.
تثبيت الإمامة.
التحدي للعلماء الجهال والرد على الزنيم وغيره من الضَّلال.
تفسير الغريب من كتاب اللّه.
التوحيد والعدل.
التوفيق والتسديد.
التوكل على اللّه ذو الجلال والرد على المشبهة الضلال.
الدامغ.
الدليل على حدوث الأجسام.
الرحمة وابتداء اللّه سبحانه لعباده بالنعمة.
الرد على أهل التقليد والنفاق.
الرد على الدعي.
الرد على العقيانية.
الرد على الملحدين وغيرهم من فرق الضالين.
الرد على من أنكر قتل حاتم.
الرد على من أنكر الوحي.
كتاب السبيلين وهما العقل والنفس.
الصفات ومعرفة الصانع.
الفرق بين الأفعال والرد على الكفرة الجهال.
مختصر الأحكام.
مختصر في التوحيد.
المعجز(اسم لمجموعة كتب خمسة هي:
كتاب الطبائع.
__________
(1) تاريخ بني الوزير 212 و 32.
(2) مطلع البدور2/211.
شواهد الصنع. (1/77)
الرد على الملحد
التوحيد والتناهي والتحديد
الرد على عبدة النجوم).
مهج الحكمة.
الموعظة.
تفسير الصلاة.
الرؤيا.
الولاء والبراء.
فهذا ما قدرنا على جمعه من أسماء كتبه مما ينيف على (75) كتابا كما يقال. وقد وضع العلامة المؤرخ أحمد الشامي كمية كتبه المنسوبة إليه تحت التساؤل اعتمادا على دراية الدراسة لا روايتها فقال:
((تلك الكثرة الكاثرة من الكتب والتي قيل: إن الإمام الشاب المهدي الحسين بن القاسم العياني قد ألّفها وبلغت نيفا وسبعين كتابا، وجعلت شيخنا العلامة مجد الدين يقول: "وقد بلغ هذا الإمام في العلوم مبلغاً تحتار فيه الأفكار وتبتهر فيه الأبصار على صغر سنه" لا يسعنا إلا أن نعقب عليها بنقد دراية لا يخضع لتهاويل المواصفات التي يشترطها فقهاء الإسناد وعلماء الرواية في تصحيح الأخبار التي تروى لهم أو يروونها.
ونقاد الدراية إذ يقدّرون ويحترمون تلك الشروط والمواصفات عند نقاد الرواية، فلا بد أن يحكموا عقولهم فيما لم يكن دليله قطعياً ولا يفيد غير الظن، ويحللّونه ويعللّونه ويعملون دراياتهم في نقد ما يصح عقلاً وما يأباه العقل، ولذلك فلا أستطيع إلا أن اعترف بأني قد وقفت موقف الشك من هذه الكثرة الكاثرة من المؤلفات في شتى العلوم والتي نسبت لهذا الإمام الشاب.
وبالتالي فلا ألوم من يقول أو يتساءل متشككا: كيف استطاع هذا الشاب وهو في السابعة عشرة أن يصبح إماماً غزير العلم، مصنفاته خمسة وسبعون مصنفا، أيعقل هذا؟!
ولا ألوم ولا أنكر على من يجحد أو ينكر-أو يشك في- أن هذا الشاب الإمام صغير السن، قد تمكن وخُوِّل له من الوقت خلال السنوات العشر التي أمضاها بعد أن ادعا الإمامة والمهدوية، وقد كانت سنوات قتال وصراع بينه وبين أنصار أبيه وخصومه من الزيديين والرسيين وآل أبي الفتوح وآل الضحاك، والعديد من المشيخات والسلطنات حتى سقط قتيلا..أن يجد من الوقت ما يخوّل له تأليف خمسة وسبعين مصنفاً؟ وهل يعقل هذا أيضا؟! (1/78)
ولكنني لا أستطيع أن أجحد أن هذه الكتب قد ألّفت وهي موجودة في خزائن المكاتب اليمنية، بل وبعضها موجودة في المكاتب العالمية في مصر، ولندن، وبرلين، وتركيا، وقد ذكر أسماءها وأرقامها الأستاذ كارول بروكلمان.
وإذن فلا بد أن هناك من قد ألّفها أو شارك هذا الإمام الشاب العالم في تصنيفها، ولن أعترض على قائل يقول: إن بعض تلك المؤلفات كانت من تصانيف والده العالم الوقور الحكيم الذي لم يُبايع بالإمامة إلا وهو في سن الثمانين، والذي لم يجد له بروكلمان إلا كتاباً واحداً اسمه (التفريع)!
لماذا لا يكون الإمام القاسم في أعوامه الثمانين قد ألّف تلك الكتب أو بعضها، ثم لما ادّعا الإمامة والمهدوية ابنه الشاب النزق الذي تجالدت في عقيدته ألسن علماء اليمن، استولى على تلك الثروة، وربما زاد في بعضها ونقص في البعض الآخر، وأظهرها منسوبة إليه يتبجح بها ويفاخر، فتتحيّر الأفكار وتنبهر الأبصار؟!
لماذا لا يجوز ذلك إذا حكّمنا عقولنا، وانتقدنا الأمر نقد بصيرة ودراية؟! وعلى كل حال فبعد أن نطّلع على تلك الكتب وندرس ما فيها، سنستطيع أن ندرك ما هو للشيخ الإمام القاسم، وما هو أشبه به علماً ونفساً وبياناً، وقد نعرف ما هو أقرب إلى نزق وعقلية ابنه الشاب الإمام المهدي الحسين بن القاسم الذي قيل عنه ما قيل، وبألسنة أفذاذ منهم: الإمام أحمد بن سليمان، وصلاح الجلال، ومحمد بن إبراهيم الوزير، ومسلّم اللحجي))(1). (1/79)
الكتب المحققة
ما قمت بتحقيقه هو مجموعة كتب ورسائل الإمام الحسين بن القاسم العياني، حصلنا على نسختين منها إلا البعض منها فلم نحصل إلا على نسخة واحدة.
وهذا المجموع يحتوي على ثلاثة عشر كتابا، وهي:
1- دلة على اللّه تعالى
2- كتاب الأكفاء.
3- التوفيق والتسديد.
4- الرد على من أنكر الوحي.
5- كتاب السبيلين.
المعجز. (إسم لمجموعة كتب هي:
6-كتاب الطبائع
7- شواهد الصنع
8- الرد على الملحد
9- التوحيد والتناهي والتحديد
10- الرد على عبدة النجوم).
11- تفسير الصلاة.
12- الرؤيا.
13- الولاء والبراء
- - -
صور المخطوطات
الصفحة الأولى من كتاب المعجز النسخة (أ)
الصفحة الثانية من كتاب المعجز النسخة (أ)
الصفحة الأخيرة من كتاب المعجز النسخة (أ)
الصفحة الأولى من كتاب المعجز النسخة (ب)
الصفحة الثانية من كتاب المعجز النسخة (ب)
الصفحة الأخيرة من كتاب المعجز النسخة (ب)
الصفحة الأولى من كتاب المعجز النسخة (ج)
عملي في التحقيق
بعد تجميع الخطوطات ومقابلتها وتصحيح النص ونبطه، قطعت النص إلى فقرات، والفقرة إلى جمل، مستخدماً علامات الترقيم المتعارف عليها.
وضغت دراسة عن الكتاب والكاتب وتحدثت عن الفرقة الحسينية بما أحسب أنه جهد طيب.
__________
(1) تاريخ اليمن الفكري 1/244 – 245.
آملاً الحصول على بقية الكتب في طبعة قادمة، داعياً أبناء الزيدية خصوصاً والمسلمين عموماً إلى البحث الجاد عن الحقيقية، والتركيز على نقد الذات أولاً، والبحث الجاد والمنصف لا يضير الحق والحقيقية، فلا خوف عليهما إلا من التعتيم والغموض، فإن النار لا تزيد الذهب إلا وهجاً وصفاء، كونوا جريئين في البحث والتنقيب بهدف تجلية الحقيقة وخدمتها، تولوا ذلك بأنفسكم بدلاً من أن يأتي حاقد أو جاهل فيقلب الحقيقة ويشوه الصورة {أماالزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} سائلا الله أن يتقبل منا إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين. (1/80)
عبد الكريم أحمد جدبان
اليمن - صعدة 14 / ربيع الآخرة / 1423هـ
الموافق 25 / 6 / 2002م
- - -
كتاب المعجز
يحتوي المعجز على خمسة كتب هي:
كتاب الرد على من جحد الله.
كتاب الرد على عبدة النجوم.
كتاب الطبائع.
كتاب شواهد الصنع.
كتاب الرد على الملحدين.
كتاب
الرد على من جحد الله
كتاب الرد على من جحد الله
وقال بقدم الهواء، وغيره من الأشياء
فإن سأل بعض الملحدين، أهل الحيرة المتمردين:
فقال: ما الدليل على حدث الهواء؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على حدثه أنه لم يخل من الزمان طرفة عين، ووجدنا الزمان محدثا وهو حينئذ سكون الهواء، فعلمنا أن ما لم ينفك من المحدَث، ولم يوجد إلا بوجوده، أن سبيله في الحدث كسبيله.
فإن قيل: وما الدليل على حدث الزمان؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على حدثه أن كل ساعة لها أول وآخر، وكل ليلة، وكذلك كل يوم وشهر، فكلما حدثت ساعة انقطعت، فهذا دليل على حدث ما مضى من الزمان، فقد انقطع وفني، وما وقع عليه الانقطاع والفناء، فقد تناها، بيِّن البيان، وأوضح البرهان.
فإن قال: وما أنكرت من الزمان أن يكون الزمان، الذي هو سكون الهواء قديما لم يزل، على ما ترى ساعة تبقى بعد ساعة، وساعة قبل ساعة، إلى مالا نهاية له؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك، لأن قولك هذا لا يخلو من أحد وجهين: (1/81)
إما أن يكون عنيت به الزمان الذي انقطع ومضى، وتصرم وفني.
وإما أن تكون عنيت غيره، فإن كنت عنيت غيره، فليس كلامنا إلا فيه، وإن كنت عنيته، فكيف لا يتناهى عند من عقل من أهل النهى شيء قد وقع عليه الانقطاع والفناء، وما انقطع وفني فقد تناهى.
ودليل آخر
إما أن تكون عنيت بقولك: كل ما فني ومضى من الزمان الذي هو سكون الهواء.
وإما أن تكون عنيت ما بقي منه الآن، فإن كنت تريد ما مضى منه وغبر، فقد أجبت نفسك من حيث لم تشعر، وإن كنت عنيت ما بقي من الدهور، وما هو يمر على الخلق ويدور، من الساعات والأيام والليالي والشهور، فها هو اليوم يمضي ساعة حادثة ويحدث غيرها، فكلها حدثت ساعة، فثبتت ساعة وتناهت.
فهذا دليل على ما مضى من سكون الهواء، ولا يزال ذلك أبدا بإبقاء الله تبارك وتعالى، وسنزيد إن شاء الله بيانا، ونوضح لك من ذلك هدى وبرهانا، ونسأل الله أن يوفقنا.
فنقول إن شاء الله: ما تقول أيها السائل عن حدث الهواء؟ أهو في ذلك عندك ساكن أم لا؟
فإن قال: ليس بساكن كابر عقله، واستغني عن مناكرته بجهله، بأن الهواء لابث غير زائل، لا يمتنع من لبثه عاقل، ولا يكابر فيه عالم ولا جاهل.
وإن أقر بسكونه، قيل له: أخبرنا أكُلُّه ساكن أم لا؟
فإن قال: إلا بعضه كذب كذبا بينا، وإن قال: بل هو ساكن كله، فللكل نهاية وغاية، لا يخلو من السكون، والسكون يدل على تناهيه وتجديده، إذ لا يخلو منه.
ألا ترى أن الشيء إذا لم يخل من صفته، فذلك دليل على حدوده، كمثل اللون والحركة، والسكون والمسخة، وغيرهن من الأعراض، والكلية والأبعاض.
فإن قال: وما أنكرت من أن يكون الساكن ساكنا إلى مالا نهاية له؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: كلامك هذا محال باطل، لا يقبله من الناس عاقل، لأن ما صح حدثه فهو كله محدث، ثم نقضت قولك بقولك لا نهاية له، لأن الكل دليل على أنه لم يبق منه شيء حتى حدث بعد عدمه، فبطل ما ادعيت من قدمه. (1/82)
ودليل آخر
أن العقل لا يقع إلا على الكل والبعض، والطول والعرض، ولا يخلو الهواء من أحد ثلاثة أوجه:
إما أن يكون ساكنا كله.
وإما أن يكون بعضه ساكنا، وبعضه متحركا.
وإما أن يكون لا ساكنا ولا متحركا.
فإن قلت: إنه لا ساكن ولا متحرك جحدته، وأبطلت ما بالقدم وصفته، بل إن كنت من المشبهة فقد عبدته.
وإن قلت: بعضه ساكن وبعضه متحرك، فقد حددته وناهيته، وقسمته وجزأته، وأجملته وبعضته، لأنه إن كان على ما وصفت فهو على ضربين، وجزؤين موصوفين متناهيين محدودين، وحالين مختلفين، متغايرين معروفين.
فإن قلت: إنه ساكن كله، فقد أقررت صاغرا إذ وصفته بالسكون فحددته، إذ لم يبق منه السكون شيئا حتى جرى عليه، ولم يذر منه قليلا ولا كثيرا حتى وصل إليه، فانظر أي القولين أولى بالحق.
- - -
باب الدلالة على حدث الأجسام
ودليل آخر
يقال لمن قال بقدم الأجسام: أخبرنا ما أعظم الأجسام وأجلها، فلا بد أن يقول الأرض والسماء، فيقال له: أهما في الهواء، أم لا؟
فإن (1) قال: لا، كذب، وإن أقر بذلك صدق، ووجد الأجسام لا تنفك من الهواء، وما لم ينفك من المحدَث، ولم يوجد إلا بوجوده، فهو مثله مكون بكونه.
فإن قال: وما أنكرت من أن تكون الأرض منحدرة سفلا إلى ما لا يتناها، وكذلك السماء مصعدة؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: هذا محال باطل فاسد، وذلك أنهما مخلوقتان.
فإن قال: وما الدليل على ما ادعيت من حدثهما؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على حدثهما أنهما لم ينفكا قط من الهواء الذي بينهما، وقد أوضحنا حدث الهواء فيما تقدم من كلامنا، وما لم ينفك من المحدَث ولم يكن قبله، فسبيله في الحدث سبيله.
__________
(1) سقط من (ب): فإن.
فإن قال: وما أنكرت من أن يكون الهواء حدث بعدهما، ولم يكن معهما ولا قبلهما، ولا هو في القدم مثلهما؟ (1/83)
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك، لأن الأرض لم تخل من التحت، ولم تخل من التباعد والتباين، ولم تخل السماء من الارتفاع، ولم تخل الأرض من الاتضاع، وفوق الأرض فهو الهواء، وكذلك هو تحت السماء، وهو المسافة بينهما، وهو سبب تباعدهما، وهو الفرق بينهما، وأيضا فإنك مقر بأزلية تباينهما، وهذا محال لما بينا من كونهما ووجودهما، بوجود هذا الفضاء.
فإن قال: وما أنكرت من أن يكونا في حال أزليتهما غير مفترقين ثم افترقا؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: هذه حجة عليك لا لك، احتججت بها على نفسك، لأن حدث الافتراق دليل على المفرق، وافتراقهما بعد اجتماعهما، دليل على مفرقهما بعد جمعه، ونقلهما دليل على صنعه.
ودليل آخر
أنك قلت: افترقتا، والافتراق لا يكون إلا في مكان كما وصفنا، وكذلك الاجتماع ووجود المكان، دليل على حدثهما، إذ لم يخلوا من هذا المكان المحدث، الذي بينا حدثه فيما مضى من كلامنا، وإذا لم يسبقا المحدث، أعني الهواء، ولم يكونا قبله، فسبيلهما في الحدث سبيله.
ودليل آخر
أنك قلت: افترقنا، والافتراق لا يكون إلا بعد الاجتماع، وإذا كان للاجتماع آخر فله أول، ويستحيل آخر بلا أول، ألا ترى أنهما إذا كانا لم يزالا مختلفتين ثم افترقتا، فقد بطل ما مضى من كثرة سكونهما واجتماعهما، ولا يخلو هذا الباطل الذي بطل، وهو سكونهما من أن يكون بطل كله، أو بطل بعضه.
فإن قلت: بطل بعضه، فهذا محال، لأنك أقررت بحركة افتراقهما، بعد سكون اجتماعهما، وإذا تحركتا فقد بطل كلما مضى من سكونهما، وإذا بطل جميع السكون والساعات الحادثة، فقد صح أن لهما عددا، وإذا صح بأن للساعات عددا محدثا، وصح بعد حدوثه انقطاع جميعه، والأرض والسماء عندك لم يسبقا سكونهما، هذا الذي ذكرنا، حدث ساعاته، وانقطاعها بعد حدوثها.
دليل آخر
أن جميع الأجسام من الأرض والسماء، وغيرهما من الرياح والماء، وجميع ما خلق الله سبحانه وبرى، ودبر وذرأ، لا يوجد إلا في وقت وساعات، لأن الأجسام لا تنفك من السكون والحركات، وكل متحرك أو ساكن لا ينفك من أقل قليل الأوقات، وما لم ينفك من الوقت والزمان، فهو مثله في الحدث والبرهان، لأنا قد أوضحنا حدث الأزمان، فانظر كل علة من العلل، وعرض من الأعراض، فلن تجده إلا في جسم من الأجسام، وما لم يوجد إلا بوجود الجسم فلم يسبق الأجسام، وكيف يسبق ما لم يوجد إلا فيه؟! ولا يستقيم إلا به وعليه؟! وما لو لا هو لما وجد أبد الأبد، ولما رءاه من الخلق أحد، مثل اللون لا يوجد أبداً إلا في جسم، فإذا صح حدث الجسم المنفرد بذاته، فعرضه الذي لا يقوم بنفسه، ولا يوجد إلا متعلقا به، أجدر أن يكون محدثا، وأحرى بأن يكون مصنوعا مدبرا. (1/84)
ثم انظر إذا أردت أن تعرف حدث جميع الأشياء، فلن تجده إن شاء الله إلا على ما ذكرنا متحركا أو ساكنا، ثم انظر إلى الحركة والسكون، فلن تجدهما أبداً إلا في وقت ولو قل الوقت، ثم انظر إلى يومك وأمسك، وافرق بين ما تأمل من البقاء، وبين الماضي السالك، من عمرك الفائت الذي قد مضى، فإنك تجد كل يوم من أيامك السالفة الماضية، الذاهبة من عمرك الفانية، قد تضمنها الفناء، وكذلك تضمن غيرها، ثم انظر الفناء أوقع عليها كلها أم لا؟! فإنك إن نظرت وجدت كل ساعة من الساعات والأزمنة الماضية الخالية، لم ينقطع آخرها إلا بعد انقطاع أولها، ولم يحدث آخرها إلا بعد حدوث أولها، وكل أول من الزمان حدث وصح حدثه، فلم يحدث آخره حتى فني أوله، وما لم ينفك من الحدث والفناء، فقد تناها منه كل ما مضى، وبلغ غايته وانقضى، فلم يوجد الزمان إلا على هذين الحالين المتناهيين، الحدوث والفناء، وما صح حدثه ومبتداه، وصح فناؤه ومنتهاه، ولم توجد الأجسام جميعا إلا بوجوده، فسبيلهما في الحدث كسبيله.
ودليل آخر
لما نظرنا إلى الزمان والهواء، فأمكن في المعقول أن ينفردا من الأجسام، علمنا إذ ذلك أنهما كانا قبل الأشياء، ثم نظرنا إلى الأشياء فإذا هي لا تنفك منهما، ولا يجوز في المعقول أن تكون قبلهما، فعلمنا أن الأشياء محتاجة إليهما، مبنية في الشاهد عليهما، فلما علمنا أن الأشياء لم تكن قبلهما، ولم توجد إلا بوجودهما، رجعنا إلى الطلب لحدوثهما، والاستدلال على صنع الله فيهما، فنظرنا إلى أجلِّهما وأوضحهما وهو الهواء، هل ينفك طرفة عين أو أقل منها من الزمان؟ فإذا هو لا ينفك منه أصلا، فرجعنا بطلب الدليل على حدث هذا الذي لا ينفك منه شيء من الأشياء، فوجدنا - والحمد لله - في ذلك ما كفانا، ووضح لنا فشفانا، وهو ما ذكرنا، ولو لا خشية التطويل والإكثار، لشرحنا من ذلك ما لا يدفعه عاقل أبداً بإنكار. (1/85)
ثم علمنا أن الله خلقهما جميعا مع إذ لم ينفك من الزمان الهواء، ثم نظرنا إلى الزمان فإذا هو عرض من أجلِّ الأغراض، دلنا الله به على حدوث جميع الأجسام، وإبطال دعاوى الطغام، أهل التكمُّه في الإظلام، وأشباه عجم الأنعام، ولما نظرنا إلى هذا العرض الجليل، لم يكن بُدٌّ له من جسم، فإذا جسمه هذا المكان.
فيا لمن قال بعدم الطينة الويل! كيف تكون قديمة مع ما بينا من صنع الله الجليل؟! فانظر أيها المسترشد إلى ما ذكرنا، فلن تجده بخلاف ما قلنا، ولن يقدر أحد من الملحدين على فساد ما به دِنَّا، وعلى الله اعتمدنا، وهو حسبنا وخالقنا ومصورنا، وإلهنا ومدبرنا، ومخترعنا ومقدرنا، ورازقنا ومعمرنا، وآمرنا وزاجرنا، وواعدنا وموعدنا، وموفقنا ومسددنا، ومميتنا ومحيينا، وممرضنا وشافينا، ومطعمنا وساقينا، والذي نرجو أن يغفر لنا ذنوبنا ويعفو عن هفواتنا، وبتجاوز عن سيئاتنا وقبيح أفعالنا، وعظيم جرمنا وسيء أعمالنا، وأن يبارك لنا في قصر أعمالنا، ونزع أرواحنا من أجسادنا، وألا يخرج أنفسنا إلا من بعد رضائه عنا، في سبيله بعد اجتهادنا، ونسأله أن يتفضل بذلك علينا، وأن يجعل آخر صحتنا في أعظم ما كلفنا، وأزكى ما به أمرنا، وأن يجعل عند ذلك ذكره آخر كلامنا، واليقين به آخر اعتقادنا، والبذل لأجسادنا في سبيله والغضب له آخر أعمالنا، ولقاه آخر آمالنا، وثوابه آخر سرورنا، وألم الموت آخر محنتنا، والأجداث أول راحتنا، والطاعة أكبر همنا، والعداوة لأعدائه آخر حقدنا، والموالاة لأوليائه آخر ودنا، وأن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن يجعلنا من رفاقة نبيه وأحبائه، وجيرانه وأوليائه، وأن يجينا من عذابه، فلا قوة لنا إلا به، فما هي إلا مدة سنسأل فيها عن النعيم، إن لم نجتهد في الطلب غاية الاجتهاد، ونشمر قبل رحلتنا وطلب الزاد. (1/86)
فيا عجبا لمن يشتغل عما له خلق بالدنيا!! وقد وُعِد بالموت والفناء!! ووعد بعد ذلك بالثواب الجزيل إن عمل، أو بالعقاب الجليل إن غفل، وياعجبا كيف آثر ما هو عنه زائل؟! على ما هو أحد يوميه إليه راحل!! وياعجبا له كيف يطيل أمله؟! وهو ينتظر دون ذلك أجله، وياعجبا له كيف يخرب آخرته الباقية؟! بعمران دنياه الفانية، وياعجبا له كيف يعمر دار غيره؟! ويهدم داره، وياعجبا له كيف يحكِّم على عقله هواه؟! ويؤثر على آخرته دنياه؟! وياعجبا له كيف يشيِّد محل رحلته؟! ويترك محل إقامته! وياعجبا له كيف يصلح مال غيره ويفسد ماله؟! وياعجبا له كيف يجمع ما ينفع غيره؟! ويترك ما ينفعه، وياعجبا له كيف يجمع ما هو عنه هالك؟! وما هو لغيره تارك. (1/87)
وسنعود إلى بيان صنع الله وحكمته، وما هو أكثر من الأدلة برحمته، فنقول: إن أعظم الدلائل على الله سبحانه، وعز عن كل شأن شأنه، ما فطر من الأرضين والسماوات العلا، وصنع منهما تبارك وتعالى.
فإن سأل سائل عن بيان صنع الله فيهما وتدبيره؟ وحكمته وتقديره؟ فجوابنا له في ذلك وبالله نستعين، ما شاهدنا من إثبات السماوات بلا عمد وإثبات الأرضين، ففي ذلك أدل الدلائل على رب العالمين.
ودليل آخر
أنا نظرنا إليهما فإذا هما موصولتان مجتمعتان، ولا بد لك توصيل من مُوَصِّل، فلا بد لكل تفصيل من مُفَصِّل، ولا بد لكل مجموع من جامع، ولكل مصنوع محدث من صانع، وهو الله رب العالمين.
فإن قال: وما أنكرت من أن تكون الأرض لا نهاية لها؟! وكذلك السماء؟!
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك، لأن ما صح حدثه فقد صح منتهاه، ولا بد لكل مخلوق من غاية يتناها إليها، وصفة لا يوجد إلا عليها، إذ لا بد للمخلوق من تحديد محدد، والإحاطة بعلمه، ولا بد له من منقطَعٍ يدل على قاطعه، وحدود تدل على محدده وصانعه، وسنين من ذلك إن شاء الله تعالى طرفا نكتفي به عن التطويل، من صنع الله العظيم الجليل، وكذلك أنا نظرنا إلى الأرض، فإذا هي مختلفة الألوان والأقدار، فعلمنا أن لها صانعا خالف بين أجناسها، ولو كانت قديمة لاتفقت، ولما تفاوتت ولا اختلفت، لأن القديم لا فرق بينه في حال من الأحوال، والمحدَث فقد فرق بينه ذو الجلال. (1/88)
والدليل على نهاية جميع المصنوعات، من الأهوية والأرض والسماوات، أنها لا تخلو من أحد وجهين:
إما أن يكون صانعها فرغ من صنعها وقطعها.
وإما أن تكون ناقصة بعد ما ابتدعها، فإن كان الصانع قد أتم صنعه، وفرغ من العالم وقطعه، فقد صح تناهيه لانقطاعه، وحدده الصانع بعد ابتداعه، وإن كان هذا العالم محتاجا إلى النظام، فناقصه ذو الجلال والإكرام، وما كان ناقصا عن الكمال فهو مقطوع، وما كان له منقَطعٌ فهو مصنوع، والله محدثه وصانعه، ومحدده وقاطعه.
فإن قال: فكيف ثبتت الأرض على ثقلها، بغير عمد يعمدها؟!
قيل له ولا قوة إلا بالله: قد قيل في ذلك: إنها ثبتت مِن قِبَل الاعتدال، ثم هذا تَقَوُّلٌ من أحوال المحال، لأنا نجد ما كان ثقيلا، لا يثبت بغير عمد وإن كان معتدلا.
وقيل أيضا: إنها على لحج البحار، ويستحيل كون الأرض على الأنهار، لما طبعت عليه من الإنحدار، وقلة اللبث والقرار.
وقيل: إنها لم تزل تهوي بما عليها، من أجل قوتها وثقلها، وهذا من أضعف المقال، وهو قول الزنادقة الجهال، الكفرة الفجرة الضلال، أنها لم تزل تهوي، وهذا فما لا يقول به أحد يعقل ولا يعي، ولا يتكلم بهذا إلا مَن سُلب عقله، وعظم موته وجهله، وجلى هلاكه وخبله، لأنها لو كانت تحرك على عظمها وجلتها، لهلك من على ظهرها، ولما فرق بين الحركة والسكون إذ كانت حركتها لا ترى، فجعلوا السكون حركة والحركة سكونا، والظنون عقولا والعقول ظنونا، فزادهم الله عمى، وخبلا وضلالة وعيا، فيالهم الويل الطويل!! والعذاب والخزي الجليل. أما علموا لا علَّمهم الله رشدا، ولا وفَّقهم لخير أبدا، أن الحركة هي الزوال، وأن السكون هو اللبث؟! وشتان بين الهدوء والجمود!! والحركة والجثة!! (1/89)
أوما علموا أن حقيقة الحركة هي زوال الجسم واختفاقه؟! وحقيقة السكون تخلف الجسم ولبثه واعتتاقه.
أوما علموا أيضا أن الثقيل كلما ثقل كان أعظم لزواله؟! وأسرع لهُويِّه وانتقاله، فقد رأينا بعقولنا، وشاهدنا بأبصارنا الحجر أسرع هويا في الجو من الطين والتراب، ورأينا التراب أسرع انحدارا من الخفيف، فكيف لحقت الحجر الأرض والأرض أثقل منها، والثقيل أسرع مضيا وانحدارا، وأقل لبثا وقرارا، وأجدر بالسقوط والانحدار، وأبعد من اللبث والفرار.
ثم نظرنا إلى الريشة فإذا هي أخف الأشياء، ورأيناها تلحق الأرض على ضعفها، وقلة انحدارها وموتها.
ودليل آخر
أن الجسم إذا هوى سفلا، أو من السفل علوا، أو من غيرهما من الجهات، لا يخلو في حركته من أن يكون قطع أماكنا متناهية، أو قطع أماكنا لا نهاية لها، أو لم يقطع بحركته أماكنا.
فإن قلت: إنه لم يقطع أماكنا، جعلته ساكنا، لأن المتحرك لا يتحرك إلا في مكان، ولا بد المتحرك يقطع مسافة متناهية.
وإن قلت: إنه قطع أماكنا لا نهاية لها، فهذا محال، لأن قولك قطع أماكنا يوجب نهاية الأماكن، لأن القطع جرى عليها، وإذا قطعت فقد تناها قاطعها.
ثم قولك: لا نهاية نقص لإقرارك الأول، وهو قولك في القطع، وإذا صح تناهي الأماكن بقطع الجسم لها، فقد صح أيضا تناهي حركته وغايتها، إذ لا توجد الحركة إلا في المكان المقطوع، وإن رجعت إلى الحق فقلت: بل قطع أماكنا متناهية، علمت أنه - إن شاء الله - على ما وصفنا، وأنه بأيقن اليقين على ما قلنا. (1/90)
ألا ترى أن الأرض والرياح إذا كانتا بزعمهم لم تزل حركتهما تقطع مكانا بعد مكان، لا يخلوان من المكان طرفة عين ولا أقل منها، وإذا إن كانتا غير خاليتين من المكان، ولم توجد حركتهما إلا فيه، [فلا بد] من أن يكونا قطعتاه أو لم تقطعاه، فإن لم يجز عليه القطع منهما، فقد عدمت حركتهما، وصح سكونهما، لأن الأرض بزعمهم إذ هوت، فلا بد أن تقطع بهويها ما عبرت، وإذا صح أنها لا توجد إلا في الأجزاء، ولا تقطع إلا ما أتت عليه من الهواء، وكانت حركتها لا توجد إلا في المقطوع عند سيرها، فقد صح تناهي المكان لقطعها له، وصح نهايته إذ لم تنفك من المكان المعبور، ولم توجد إلا بوجوده عند الهواء والمسير، وفي ذلك - والحمد لله - من الأدلة والبراهين، أكثر مما ذكرنا من التبيين، فما طلبنا من ذلك شيئا يسيرا، إلا وجدنا بمن الله كثيرا، وإذا صح تناهي الأرض بالأدلة الواضحة وقد صح أنها له، لم تثبت على ثقلها إلا بلطف مدبرها، وخالقها ومصورها، وجاعلها ومخترعها، ومقتطرها وصانعها، والقول في السماء، كالقول في الأرض عندنا، فنسأل الله أن يوفقنا، وأن يغفر لنا ذنوبنا.
والعارف عندنا من أراه طريق النجاة، فليست إلا بالتسليم للمعقول، وجهاد النفس بالقبول، والاعتماد بأمر علام الغيوب، وإكذاب خواطر القلوب، لأن العاقل إذا ورد عليه شيئان أحدهما ظن، والآخر يقين، وجب عليه قبول أصدقهما، وإبطال أفسدهما بأحقهما، فإن الحق لا يشبه المحال، والهدى لا يماثل الضلال، والعلم لا يقاس بالجهل، والظن لا يمثل بالعقل، والصحة لا توازن السقم، والدليل أولى من الوهم، وصحة الخِبرة، أولى من وساوس الحيرة، فيجب على المتعبد أن ينظر الأمر من المتناهيين، المختلفين المتغايرين، المتباعدين المتنافرين، فليستمع قولهما، وينظر دلالتهما، ثم ينظر اختلافهما، فلن يشتبه ضدان أبدا. فليأخذ بأوضحهما دليلا، وأنورهما سبيلا، ويجاهد نفسه على قبوله أشد الجهاد، ويحرس قلبه من الفساد، ولا يبرح صابرا مصطبرا، متيقضا من السهو متفكرا، فلن يشتبه الحق والباطل عنده إن عقل، ولن يُهدى إلى الرشد إن غفل. (1/91)
فرحم الله عبدا نظر لنفسه في أوان المهل، قبل حضور ما وعد به من الأجل، فلعمري لو لم يكن لنا من النظر، إلا ما في أنفسنا من الآيات والعبر، لكان لنا في ذلك كافية، وأدلة واضحة شافية وبراهين جليلة باهرة، وآيات عظيمة قاهرة، وأنوار مبصرة زاهرة، من خلق الذكر والأنثى، من نطفة من مني تمنى، لا سمع فيها ولا بصر، ولا عقل ولا شعر ولا بشر، ولا حياة ولا حكمة، ولا إرادة ولا همة، فبينما هو كذلك إذ هو بشر سوي، حكيم عالم عاقل حي، سميع بصير قوي، أجزاء محكمة، متقنة مفصلة، وآيات محبوكة متسقة موصلة، ومفاصل مجموعة معتملة، وحكمة بالغة معتمدة، مأسورة مشدودة مؤكدة، تدل على حكمة صانعها، ويشهد بالفطرة لفاطرها، وتبين لناظرها، لا يمتنع عاقل حكيم من التصديق بأن تأليفها بعد العدم يدل على مؤلفها، وتصريف فطرتها دليل على مصرفها، وإتقان ما لم يكن متقنا منها دليل على متقنها، وتفصيل أجزائها دليل على مفصلها، وتوصيل آلائها دليل على موصلها.
فكفى لعمري بوجودها بعد عدمها دليلا على صانعها، وكفى بصنع أدواتها دليلا على علم الصانع بها، وكفى بوجود الأرزاق دليلا على الرزاق، الواحد الخلاق، وكفى بما يشاهد من النعم المنزلة من السماء المبسوطة لنا ولأنعامنا، دليلا على المنعم علينا، وكفى بما نشاهد من الأحسان في الأرزاق دليلا على المحسن علينا، فلعمري لفي أقل من هذا ما دل على الله تبارك وتعالى، فيالها نعما عظمت!! وأياديا جلت وجسمت!! ويالها فضائل كثرت عن التعديد!! وزادت على كل مزيد، والحمد الله الواحد الحميد، العدل الخالق المجيد، فلن نذكر من حكمته إلا قليلا، فسبحان الله بكرة وأصيلا، والحمد لله كثيرا، والله أكبر كبيرا. (1/92)
ولا تكون نعمة صح حدثها إلا من منعم، ولا كرم صح من بعد العدم إلا من متكرم، ولا حكمة بالغة إلا من حكيم، كما لا يكون العلم إلا من عليم، ولا الحلم في الشاهد إلا من حليم، ولا يجعل الشيء للشيء والمعنى للمعنى، إلا عالم بفاقة المخلوق إلى ما جعل وبنى.
ألا ترى إلى ما بث الله من الخلق، وما بسط لهم بعد خلقهم من الرزق، الذي لو لا هو لهلكوا ودمروا، ولما تناسلوا ولا كثروا، ولما ثم بقاء ولا صبروا، فلعلمه بفاقتهم رزقهم، ولإنفاذ الحكمة خلقهم، ولحسن التدبير فطرهم، وبالطاعة والرشد أمرهم، وعن الفواحش زجرهم، وللكفر حذرهم، وبالثواب وعدهم، فسبحان من لا تحصى آياته، ولا تنقطع أبدا دلالاته، فلو لم يكن لنا من الآيات، إلا ما ذكرنا من صنع الله في الحيوانات، لكان ذلك عليه دليلا، ولكان علما عظيما جليلا، من النطف الحقيرة، خلائقا مبثوثة كثيرة، لا يحصيها إلا خالقها، ومبتدعها ورازقها، وما جعل من ذكورها وإناثها، لتكثير نسلها وإحداثها، ثم جعل في الذكور من الشهوة للإناث، ما جعله سببا للجعل والإحداث، وجعل النسل في أصلاب الذكور، بتمام الحكمة والتدبير، ثم جعل لذلك النسل، مسالكا إلى أوصال الإناث، فاتصل بإذن موصله وانفصل من الأصلاب، بمشيئة الله رب الأرباب، فأحسن الصور في الأرحام بإكمالها، بعد أخذها من الأصلاب وإنزالها، ثم آخرجها من بطون الأمهات، وركبها للأغذية واللذات، فجعل لتلك النسول قبل أخراجها أغذية، لعلمه بفاقها، وجعل لتلك الأغذية من ألبان أمهاتها المركبة لهم في أجسادها، لعلمه بضعف الأطفال عن غيرها، مما يغتدي به بعد كبرها، فجعل غذاء الصغير بلطفه، غير غذاء الكبير لما علم من طفولته وضعفه، ثم ألهم هذه النسول رضع أغذيتها، ليتم بذلك ما أراد من حياتها. (1/93)
فياعجبا لأطفال البهائم العجم التي لا تعي ولا تعقل كبارا!! فكيف إلا صغارا!! كيف اهتدت لأماكن أغذيتها؟! أجل إن ذلك لمن غيرها لضعفها وصغرها، حتى كأن قد علمت ذلك علما يقينا أو حيرت عليه، أو قيدت قودا إليه، ولما علم الله عز وجل ما ركب من خلقه وجبل، وما نزل من الأرزاق وجعل، علم أن تلك الأغذية لا تتم إلا بالوصول إلى الأجساد، ومباشرة البطون والأكباد، فجعل سبحانه لذلك مسلكا فأوصله، وركبه لعلمه بفاقتهم وجعله، ثم بسط الرزق ونزله، فكم مخلوق عجيب الخلقة خلقه؟! ومرزوق لا يحمل رزقه؟! (1/94)
فالحمد لله الذي تفضل علينا بنشأته وخلقه، وبسط لنا الكفاية من رزقه، ثم علم عز وجل بما خلق وفطر وجعل من الحكمة، ودبر وعلم بفاقة المخلوق إلى مخارج الأغذية، التي لو لا مخارجها ما لبث المخلوق حيا، ولا بقي من الدهر شيًّا، إلا وقتا يسيرا، ثم تصير نعمته عليه تهلكة وتدميرا، فجعل سبحانه لما علم بمولجه مخارجا، لفاقة المخلوق إلى مخارجه، ثم جعل للمتعبدين عقولا، لتكون لهم عليه دليلا، فسبحان مَن دلنا إلى معرفته!! وجعل لنا العقول برحمته!! ثم جعل لنا حواسا خمسا، عيانا وسمعا وذوقا وشما ولمسا، فجعل العيان لدرك المهيئآت، والأسماع لدرك الأصوات، والذوق لدرك المطعومات، والشم للروائح المختلفات، من الخبائث والطيبات، وجعل اللمس أعراض المجسمات، من الحر والبرد واللين والخشونات، وجعل الأجسام وما فيها من المفاصل للحركات، ودليلا على حكمة فاطر السماوات، وجعل العقول لتمييز الأمور، ومعرفة الخيرات والسرور.
ثم لم يكلنا إلى ذلك دون أن أرسل إلينا الرسل والنبيين، مذكرين لنا من الغفلة ومخبرين، لما خلقنا له من النعيم والفضل من الله والكرم والتعبد، للفرق بين المطيعين والعاصيين، إذ لم يكن من حكمة الحكيم أن يساوي بين المحسنين والمسيئين، فياخالق الخلق، ويا باسط الرزق: أسألك أن تجعل آخر حياتي، وحضور وفاتي، على أكمل ما يكون من طاعتك، واتباع مرضاتك، والغضب لك، حتى تبلغني بفضلك ماله خلقتني، وأن تختار لي بعلمك، وتقبضني على أيقن يقيني، وتوفاني يا مولاي على شهادة ألا إله إلا أنت الحق اليقين، الصمد الواحد المبين، وأن ترزقني الحياة ما كان الحياة خيرا لي، وأن تمنن علي بالوفاة، في وقت طلبتي للنجاة، وسلوك سبيل الهداية، حتى تتم نعمتك علي وعندي ولدي!! (1/95)
فقد علمت يا مولاي ندمي على ما هو من غفلتي، فأسألك يا مولاي سؤال من عرفك، واستدل عليك فأيقن بك، أن تقيلني ما كان من عثرتي، وأن تغفر لي ما علمت من خطيئتي، وأن تجاوز عن زلتي، فهاأنا يا مولاي مستعبد إليك، ومتوكل في كل أموري عليك، طارح لنفسي في يديك، فإن عفوت يا مولاي وغفرت، وعدت بفضلك فقد نجوت، وإن لم تغفر لي ما سلف فَمَن غيرُك يا مولاي يغفر لي؟! وإن لم تهدني فَمَنَ غيرك يهديني؟! أو يوفقني أو يرشدني؟! وإن لم تنظر إلي فمن ينظر إلي؟! وإن لم تجب دعائي فمن أدعو؟! وإن لم تنجني فكيف أنجو؟! وإن لم أرجُك فمن أرجو؟! وإن لم أحبك فمن أحب؟! وإن لم أطلب منك فمن أطلب؟! وإن لم أهرب إليك فإلى من أهرب؟!!
وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما.
- - -
كتاب
الرد على عبدة النجوم
وغيرهم من فرق الملحدين
كتاب الرد على عبدة النجوم
وغيرهم من فرق الملحدين
حسبي الله وكفى ونعم الوكيل، والحمد لله الذي ابتدأنا بالهدى، واستنفذنا من الضلالة والردى، نحمده على ما كثر من الدلائل عليه، والدواعي التي دعت أولياءه إليه، فمن استدل بها عليه نظره، ومن قصر عن فهمها لم يره، فأي دلائل على الله ما أدلها!! وأعظم قدرها وأجلها!! لقد بهرت عقل من عرفها من المؤمنين، ودلت من أيقن بالله من المستدلين، واضطرت العقول إلى رب العالمين، فدلائل الله عليه منيرة لا تطفأ، وشواهد صنعه ظاهرة لا تخفى، تدل من فكر في صنع الله وتدبيره، ومعجز فطرته وتقديره، ولا يكفر بدلائل الله وتبصيره، من اشتغل عن وعظه وتذكيره، وأقبل على لهوه وفجوره، وأنى يظفر بدلائل الله من أقبل على اللهو والمحال؟! وقل خوفه من الكبير المتعال، كلا لن يظفر بذلك من اشتغل عن آخرته بدنياه، وصد عن الله واتبع هواه، ولن يكون ذلك بالله من العارفين، ولا إليه من الهادين، ولا عنده من المقبولين. (1/96)
ومن لم يكن لله من العارفين، لم يكن أبدا من المطيعين، ومن قصد إلى دين الله ورغب في طاعته، وهو مختار لترك طلب الأدلة إلى معرفته، ورضي بجهله وغفلته، كان داخلا في الجهل بمعصيته، ومن كان بالله جاهلا، وعن دلائله غافلا، لم يكن عنده من المؤمنين، ولا به من الموقنين، إذ رضي بالجهل والنقصان، واشتغل عن المعرفة والإيقان، فهو في صفات الله متحير جاهل، وعن الدلائل عليه مستوهل ذاهل، إن عسف النظر في ذلك ارتطم في الضلال، وإن رضي بجهله فهو من أجهل الجهال، لا يملك لقلبه جنة من الشيطان، ولا يؤمن عليه الدخول في محضور ولا عصيان، وإن عبد الله عَبَدَه بغير خشوع ولا إيمان، وإن جاهد على الطاعة نفسه، لم ينفعه عند الله علمه وحرصه، إذ كان مطيعا بزعمه من لم يكثر دلائله عليه، ولم يركن حقيقة الركون إليه، وكيف يركن إلى ما هو عنه متحير جاهل؟! وعن العلم بدلائله زائل؟! فليس العمل إلا بمعرفة الله سبحانه، وجل عن كل شان شأنه، فالحمد لله الذي جعل الدلالات عليه للمستدلين، بما صنع من خلقه المصورين. (1/97)
وبعد فإني لما نظرت الجهل قد شمل كثيرا من الأثام، وقَلَّتْ معرفتهم لذي الجلال والإكرام، حداني ذلك على أن أضع كتابا للمتعلمين، ومن أراد معرفة الله من العالمين، وأراد التخلص من العذاب المهين.
فنسأل الله التوفيق في ذلك بمنه، ونعوذ بالله من خذلانه، ونسأله التسديد بعونه، فإنه لا يُوفق إلا من هداه، ولا يصيب الرشد إلا من خافه واتقاه، ألا ورحم الله عبدا حذر على نفسه من الدنيا، فإن محنتها أصل كل فتنة، والركون إليها أول كل محنة، تصد من أحبها عن ذكر الرحمن، وتشغل من نالها عن الخشوع والإيمان، وتدعو إلى طاعة الشيطان، فكل ما قضى من حوائجها حاجة طاشت به إلى أخرى، وأعقبته عند الله فقرا، فهو عن الموت غافل مغرور، وبلهوها جذل مسرور، وعن الله ذاهل مغمور، فهي تقوده إلى النار والعذاب، وتبعده عن رب الأرباب، فهو من الموت على ميعاد، وهي إلى تصرم ونفاد. (1/98)
فنسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك لنا في قليل حياتنا، وأن يُحضرنا عفوه عند وفاتنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مَن عرفه حق معرفته، وأيقن به، وتخضَّع لعبوديته، ورجاء عفوه عما سلف من خطيئته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفوته من بريته، شهادة من صدق بنبوته، وتقرب إلى الله بمحبته، واشتاق إلى لقائه ورؤيته، وأشهد أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، شهادة أرجو بها عفوه يوم النشور، وأشهد أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه كان خير البرية بعد نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، وأشهد بإمامة ولديه الحسن والحسين ابني رسول الله الفاضلين، وأشهد أن الإمامة من بعدهما فيمن طاب من ذريتهما، وسار سيرتهما واحتذا بحذوهما، واقتدى في دينه بهما، اللهم يا مولاي فاكتبني بذلك مع الشاهدين، واشهد عليَّ بالبراءة من الجاحدين، ووفقني لسبيل الراشدين، واسلك في طريق المهتدين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على مولاي وسيدي خاتم النبيين، وسيد الأولين والآخرين، وعلى موالي وسادتي أهل بيته الطاهرين، الأخيار الأبرار الصادقين.
قال الإمام المهدي لدين الله الحسين بن القاسم عليهما السلام: ثم نقول من بعد توحيد خالقنا، والقول بالحق في الله سيدنا: إن سأل سائل مسترشد، أو قال قائل متعنت ملحد، كيف السبيل إلى معرفة الله جل جلاله، وظهرت نعمه وأفضاله، وبما يُعرف، وما معرفته؟ (1/99)
قيل له ولا قوة إلا بالله: أما السبيل إلى معرفة الله القدير، فالفعل المميز للأمور.
وأما قولك: بما يُعرف؟
فليس يعرف إلا بما أظهر من صنعه وتدبيره، ومعجز فطرته وتقديره.
وأما قولك: وما معرفته؟
فمعرفته اليقين بإلاهيته، والإقرار والتصديق بربوبيته.
فإن سأل سائل عن معرفة الله سبحانه وظهر دليله وإيقانه، فقال: أمعرفة الله اضطرار أم اختيار؟
فالجواب له في ذلك: أن معرفته اختيار، ولو كانت معرفته ضرورة كمعرفة الأرض والسماء، وغيرهما من الأشياء، لما كان بين معرفة الجاهل والعالم فرقٌ، ولكان الخلق كلهم بالله عارفين، ولما كانوا أبدا جاهلين، ولكانوا جميعا به موقنين، وعلى معرفته مجمعين، وهذا محال عند أهل العقول.
فأما من كان من الجهال، وأهل الحيرة والضلال، فلن يزال ذلك في الشك مترددا حايرا، وعن اليقين بالله نائيا جائرا، إذا رضي بتعطيل ما ركب الله من عقله، واستغنى عن المعرفة بجهله، وإنه وإن كان بالله جاهلا، وعن اليقين به غافلا، فليس بمعذور في ترك طلب الدليل، والنظر والبحث عن الخطب الجليل، فإن عطل ذلك لم يكن معذورا، وإن كان عن الله جائرا مغمورا، ألإن الله عز وجل قد جعل له عقلا وفكرا، وتمييزا وذكرا، واضطره إلى درك صنع عجيب، لا يخلو في الفعل من أحد أوجه، مَن عطلها لم يضطر إلى حقيقتها إذ جهلها، وسنذكر إن شاء الله ما يصح لذوي الألباب، ويستدل به على الله رب الأرباب، وذلك أنا نظرنا إلى أنفسنا، إذ هي أقرب الأشياء إلينا، فرأينا كل جارحة من جوارحنا قد جعلت لسبب ومعنى، ولا يجهل الشيء لصلاح الشيء إلا عالم حكيم بما صنع وبنى.
من ذلك ما شاهدنا، في جميع الحيوانات منا ومن غيرنا، من عجيب تصويرها، وإحكام صنعها وتدبيرها، وإصلاح منافعها وتعميرها، وما جعل الله لها من تفصيل أجسامها وتوصيلها، وشد أسرها وتعديلها، وإثبات مصالحها التي لو لا هي لهلكت ودمرت، ولما تناسلت ولا كثرت. (1/100)
ومن ذلك ما جعل فيها من العقول لاختلاف المنافع ونفي المضار، والمفاصل التي جعلها للحركة والمجيء والإياب والإدبار، وما جعل من الحواس الخمس، من العيان والسمع والشم والذوق واللمس، وجعل كل حاسة لشيء بعينه، لما أراد من ثبات الدليل وتبيينه، إذ لا يجعل الشيء للشيء إلا حكيم، ولا يدبر ويصف إلا عليم.
ومن ذلك ما جعل من الذكور والإناث، وأبان في ذلك من الجعل والإحداث، فجعل كل زوج من ذلك يصلح للآخر بتقديره، لما أراد سبحانه من خلق النسل وتكثيره، ثم جعل للنسل معايش في صدور الإناث بلطفه، لما علم من فاقة الطفل وضعفه، وهذا ومثله فلا يتم إلا بعلم من عليم، وتدبير من صانع حكيم، ثم جعل سبحانه للأطفال بعد كبرهم معايش غير معايشهم في حال صغرهم، ليتم بذلك ما أراد من تعميرهم، فبسط لهم الكفاية من رزقه، بعد إكمال تصويره وخلقه، وجعل في الأجساد مداخلا للأغذية لعلمه بفاقتهم إليها، وجعل لهم مخارج لها إذ فطرهم عليها، فلما نظرنا إلى عجيب ما صنع وافتطر، وبيَّن من حكمته وأظهر، صح عندنا بأيقن اليقين أن الحكمة لا تكون إلا من حكيم، لأن ا لحكمة لا تهيأ إلا لعليم، لأن الجهل ليس معه نعمة، ولا يتم للطبائع التي ادعا الملحدون علم ولا حكمة، لأن الموت لا يكون حكيما ولا سمعيا (1)، ولا يكون المصلح المنعم إلا رحيما.
فمن أنكر ذلك!! قيل له ولا قوة إلا بالله: ما نقول هل فيما ذكرنا حكمة تدل على الواحد الجليل؟
__________
(1) في المخطوط: حكيما ولا سميعا. ولعل الصواب كما أثبت.
فإن قال: ليس في ذلك حكمة خرج من المعقول، وبان كذبه لجميع أهل العقول، لأن جميع الحِكم تقصر عما ذكرنا، ولا تماثل حكمة مولانا وسيدنا، ولو جاز كون حكمة من غير حكيم، وعلم ورحمة من غير عليم، لجاز كون رسول من غير مرسل، وأمر ونهي (1) من غير ناه ولا آمر، ولو جاز ذلك لسُمع كلام من غير متكلم، ولوجد تعليم من غير معلم، وتفهيم وبيان من غير مبين مفهم، ولو جاز ذلك لجاز أن يوجد ثواب وعقاب، من غير مثيب ولا معاقب. (1/101)
ولا يخلو الفعل فيما ذكرنا من صنع الله في الحيوانات، وما ركب في الأجسام من الآلات والأدوات، والآيات المحكمات النيرات، من أن تكون شاهدا على أنها من حكيم، أو شاهدا على أنها من غير حكيم، أو غير شاهد على شيء من ذلك، فإن كان شاهدا على أن الحكمة من غير حكيم، أمكن أن يُشهد على علم من غير عليم، وحلم موجود من غير حليم.
وإن شهد بذلك لم يُسمَّ عقلا، وخرج من الصحة فعاد جهلا، لأن العقل لا يجوز عليه شيء من المحال، ولا يقبل ما فسد من المقال، وإن لم يشهد على شيء من ذلك خرج من تمييز الأمور ولم يفرق بين الخيرات والسرور، وإذا خرج العقل من التمييز فهو زائل فاسد، وما كان من العقول فاسدا، لم يكن عدلا ولا شاهدا.
وإن شهد على أن الحكمة لا تكون إلا من حكيم، صح ذلك لأن الحكمة لا تهيأ إلا من عليم.
وإن رجع إلى مكابرته، وتردد في شكه وضلالته، فقال: ليس في ذلك حكمة!!
قيل له ولا قوة إلا بالله: هل تعرف الحكمة أم لا؟
فإن قال: إنه لا يعرفها أصلا، وادعا في معرفتها جهلا، كان لما ذكرنا من الجهل أهلا.
وإن قال: إنه يعرف الحكمة.
قيل له: ما الحكمة في ذاتها؟ وما حقيقة صفاتها؟
فإن كان جاهلا بها بطل ما ادعا من معرفتها، وإن كان عالما أجاب، وقصد إلى الحق والصواب، فقال: الحكمة ما أتقن من الأمور، وبعد من الفساد والشرور.
__________
(1) في المخطوط: وناه. ولعل الصواب ما أثبت.
فإذا قال ذلك، قيل له: ويحك ما أجهلك!! وأعظم كفرك وأغفلك!! تقول: إن الحكمة ما حَسُنَ من الأفعال، وبعد من الجهل والضلال، ثم تزعم أن ليس فيما ذكرنا حكمة من أعاجيب الصنع الجليل، وما بيَّن الله من الدليل، وأقام على ذلك من شواهد العقول، لأن الحكمة لا تهيأ إلا بالحلم، ولا تتم إلا بالعلم من ذي الجلال والإكرام. (1/102)
ودليل آخر
لا يخلو صانع هذه الحكمة من أن يكون حيا قديما. وإما أن يكون حيوانا، وإما أن يكون مواتا، فإن كان حيوانا فهو كسائر الحيوانات، في العجز عن دفع الآفات، ونوازل المحن المحدثات، وسُلب ما يحب من الحياة، وبيان الصنع فيه والدلالات، وإن كان مواتا فهو كسائر الجمادات، من التُّرب والحجارة وغيرهما من الموات، والأجسام الجامدة المغفلات، ويستحيل أن يكون ذلك وما جانسه من المدبرات، خالقا لشيء من الحيوانات، وإن كان حيا مدبرا قديما، فقد صح ذلك، لأنه لو كان ميتا لما كان حكيما، ولما كان قديرا ولا عليما.
ودليل آخر
أنا قد أحطنا بجميع الأشياء علما، وأدركناها عيانا وفهما، فلم نجدها إلا على حالين محدثين، ومدبرين بمشيئة الله مصنوعين، وهما الحركة والسكون اللذان لا ينفك منهما شيء موجود، وإذا صح حدثهما، وصح أن جميع الأشياء لم تنفك منهما ولم تكن قبلهما، فهي في الحدث مثلهما، وسيبلها سبيلهما.
والدليل على أن جميع الأشياء لا تنفك منهما، ولا توجد قبلهما، أنها لا توجد إلا زائلة متحركة، أو مقيمة ساكنة، فإن زالت فزوالها حركة، وإن أقامت ولبثت، فالسكون هو لبث وإقامة.
والدليل على أن الحركة والسكون معنيان، وشيئان غير الأجسام متغايران، أنا نجد الحركة تكثر من الشيء الواحد، فلا تكثر لكثرها، وتقل تارة فلا تقل لقلتها، وتزول تارة فلا تزول لزوالها، ولا تبطل لبطلانها، مثل حركة النجم التي لا تحصى لكثرتها، والنجم واحد محدود، وحركته معدوم ما مضى منها، وهو بعينه باق موجود، ونجد السكون كذلك يكثر أيضا حتى لا يحصى، والساكن معروف بحدوده وأقطاره، موجود في محله وقراره، مثل الحجر التي لا تحصى ساعات سكونها، فكم من ساعة لا تحصى قد سكنت!! وكم من يوم وليلة قد لبثت!! فتلك الساعات قد عدمت، والحجر موجودة ما برحت، والحركة والسكون على الجملة دهور وأزمان، وعلى التصنيف صنوف وأفنان، وكل ذلك دليل على حدث الأجسام، وبيان على فساد دعاوى الدهرية الطغام، وأشباه عجم الأنعام، وأهل التَّكَّمُّه في الأإلام، وسندل إن شاء الله تعالى على فساد قولهم، ونوضح من حدث الدهر ما عموا عنه بجهلهم. (1/103)
فإن سأل سائل منهم فقال: ما الدليل على حدث ما مضى من الدهور، والأيام والليالي والشهور؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على حدوث ما مضى من الدهر وأزمانه، أنه لم يحدث ساعة إلا بعد حدوث ما قبلها وبطلانه.
فإن قال: وما أنكرت من أن يكون ما مضى من الساعات ساعة قبل ساعة إلى ما لا نهاية له؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك، لأن ما مضى من الساعات لا يخلو من أحد وجهين:
إما أن يكون عدم وبطل بعد حدوثه.
وإما أن يكون الآن موجودا كله.
فإن قلت: إن ما مضى من الحركة والسكون موجود فهذا محال، لأن ما مضى من الساعات التي هي السكون والحركات فقد عدم كله، بعد حدوث كل ساعة منه، وإذا عدم كله بعد حدوثه فهو محدث، لأن الساعات التي مضت، والأزمان التي بطلت، على حالين:
حال وجدت فيه بعد عدمها أوجب حدوثها، وحال عدمت فيه بعد وجودها.
فأما الحال الذي كانت فيه موجودة، فهو حدوثها إذ حدثت، وأما الحال الذي عدمت فيه، فهو وقتها إذ تصرمت قبله بعد حدوثها فعدمت، وإذا صح عدم جميع ما مضى، وتصرم بعد حدوث كله وانقضى، فقد صح ما قلنا به من ذلك، إذ هو في الحدوث كذلك، وإذا صح حدوث الدهر الذي هو كثرة الحركات والسكون، اللذين لم تنفك الأجسام كلها منهما، فسبيله في الحدث سبيلهما، وفي هذا ما قطع أهل الإلحاد والجحود، ودمغ إن شاء الله أهل الكفر والعنود. (1/104)
وسنزيد بعون الله بيانا، ونوضح إن شاء الله صنع الله لسائلنا بعد إيضاح حملة الدهر وكليته، وكرور أيامه وساعاته، وتبيين صنوفه وأفنانه، ومحاله من الصنع وبيانه. فنقول: إن الحركة أولى ما نحتاج إلى ذكره، إذ هي مشتملة على حدث السكون وغيره، وذلك أن محال الحركة في صنوف من الأجسام، وأماكن من الموات والحيوان، وذلك مثل حركة النجوم والبروق والسحاب، ومثل حركة الأشجار والرياح الهواب، ومثل حركة أمواج البحار، وجري خف التراب والأنهار، وغير ذلك مما يتحرك من الجمادات في الليل والنهار، ومن الحركة ما يحل في الحيوانات، وسنبين إن شاء الله تعالى حدوث جميع الحركات، وما يحل منها في كل حيوان أو موات، فأول ما نبدأ بذكره: حركة الحيوان.
فإن سأل فقال: ما الدليل على حدث حركة الحيوانات وما تنكرون من أن تكون حركات قبل حركات، إلى مالا يتناها من الأوقات؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: دلنا على حدث ما عنه سألت، وفساد ما ظننت وتوهمت، أنا قد بينا لك حدوث الحيوانات فيما تقدم من كلامنا، وأوضحنا نهاية الأوقات في أول قولنا.
ودليل آخر
أن حركة الحيوانات الأوائل المتقدمة التي زعمت أنها غير متناهية، لا تخلو من أن تكون الآن كلها موجودة، أو هي الآن معدوم وبها معدومة، فوجود ما مضى من حركات الأولين محال، لأنهم إنما تحركوا قبل موتهم في قيامهم وقعودهم، وإقبالهم وإدبارهم، وتنقلهم وسيرهم، والقيام والقعود فغير موجودين، بل يكونان عند جميع الخلائق معدومين، وإذا صح عدم جميع الحركات، التي ذكرنا تولدها من أجسام الحيوانات، فقد صح تناهي أجسامهم، لأن أجسامهم لم تنفك من حركاتهم، وللحركات نهاية وغاية وحال عَدِمَ فيه جميعها فانتفى عنها العدم. (1/105)
ودليل آخر
أن جميع الحيوانات لم تنفك أصولها من الحياة، ثم قد وقع الموت على جميعها، فهي في حالين محدثين، حال أحييت فيه بعد موتها فحييت كلها، وحال أميتت فيه فماتت جميعه، وإذ لم تنفك من الحالين المحدثين فهي محدثة مثلهما، إذ لم توجد ولم تكن قبلهما، وسبيلها في الحدث سبيلهما، إذ تضمنا أصول الحيوانات فلم تخرج منهما، فكيف لا تتناها الأصول وقد حوت الحياة جميعها، ثم تضمنها الموت بعد حياتها.
فإن قال: وما أنكرت أن تكون طينة العالم قديمة لم تزل ميتة، ثم حييت وانتقلت عن سكونها فتحركت؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا قدمها الذي ذكرت، لأنها إذا كانت ميتة كما زعمت، ثم حييت بعد موتها فذلك دليل على محييها، لأن الحياة من أكثر النعم وأجلها وأعظمها، ولا بد لكل نعمة من منعم، ويستحيل أن يكون الكرم من غير متكرم، إذ في الحيوان من الحكمة مالا يتم إلا لعالم، كما يستحيل أن يكون الكلام المحكم من غير متكلم.
ودليل آخر
إذا كانت الطينة بزعمك لم تزل ميتة ثم بطل موتها، فقد بطل قدم الموت، والقديم لا يبطل.
فإن قال: وما أنكرت من بطلانه؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأن بطلان موتها يدل على حدوثها، وذلك أنها بزعمك قد أقامت ميتة دهورا طويلا، وإذا كانت كما زعمت فللدهور نهاية وغاية، لأن الدهر محدث وما لم ينفك منه فهو مثله في الحدث، لأن الدهر قد انقطع كل ما مضى منه، ولم ينقطع إلا بعد حدوث كل ساعة من ساعاته. (1/106)
ودليل آخر
أن الطينة إذا كانت لم تزل ساكنة ثم تحركت، فقد انقطع آخر سكونها، ولم ينقطع آخره إلا بعد انقطاع أوله، وإذا صح انقطاع أول السكون وآخره، فقد انقطع كله، وإذا انقطع كله فله نهاية وغاية، وإذا صح أن لسكونها أولا وآخرا فقد انقطعا، فقد صح حدوث السكون، وإذا صح حدوثه فقد صح حدث الطينة، إذ لم يشبه ولم يوجد إلا بوجوده.
وكذلك إن سأل عن الدليل على حدث ما مضى من حركات السحاب والبرق والرياح والأنهار، والنجوم والجمادات من الأشجار؟
فالدليل على حدوث ذلك أنا نراه لا يكثر إلا بعد قلته، ولا يزيد إلا بعد نقصانه، فإذا نظرنا في ذلك علمنا أن ما مضى من الحركات لا يحصى، وأنه كائن بعد حدوثه عدما، وما صح حدوثه وصح عدم جميعه فقد تناها، لأنه على حالين متناهيين محدثين، وهما الحدوث والفناء، والحركات لن تنفك منهما.
فإن ادعا أن قبل الحركات سكونا قديما؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أليس تعلم أن السكون قد انقطع آخره وأوله بعد حدوثهما، وبطلان جميع دهورهما، فهذا دليل على حدوث جملة جميع الحركة والسكون، وقد زعم بعض الملحدين أن الفلك مدبِّر قديم، وأنه لا أول لحركته ولا غاية، ولا بُدأ لها ولا نهاية، وأن النجوم لم تزل تحرك ولا تغير وتطير، تقترن أبداً، وبدبر وسنين من فساد قولهم إن شاء الله تعالى ما فيه مقنع لذوي الألباب، ودلالة شافية على الله رب الأرباب، فاسمعوا - رحمكم الله - بقلوب سوية، وألطفوا النظر فيما نقول بعقول جلية، فنقول ولا قوة إلا بالله: إن النجوم في أنفسها محدثة مدبرة، ومخلوقة بمشيئة الله مقدرة، ومبرية مصنوعة مصورة، وذلك أنا نظرنا في جميع حالاتها، فإذا هي تدل على صانعها من قِبَلِ أجسامها وحركاتها، فأول ما نبدأ إن شاء الله تعالى بذكر حركة الفلك ومسيره، فنقول: إن النجوم لا تخلو في جريها من أحد أربعة أوجه لا خامس لها: (1/107)
إما أن تكون جرت فوق الأرض في جو السماء، قبل أن تجري في الفلك تحتها.
وإما أن تكون جرت تحت الأرض قبل أن تجري فوقها.
وإما أن تكون لم تبدأ بالحركة قبل أن تجري من تحتها ولا من فوقها.
وإما أن تكون بدأت بهما معا في حال واحد.
فإن قلت: إنها بدأت بالحركة من فوق الأرض قبل أن تجري تحتها، ناهيتها وأقررت بحدثها من الفوق قبل التحت، وجعلت بُديها بالحركة من أحد المكانين قبل الآخر.
وإن قلت: إنها بدأت بالحركة من تحتها قبل أن تحرك فوقها، ناهيتها أيضا وجعلت الحدث كان من التحت قبل الوصول إلى الفوق.
وإن قلت: إنها جرت في الفوق والتحت معا في حال واحد، لأن الفوق غير التحت، والتحت غير الفوق، فكل نجم مما ذكرنا لا يخلو من أن يكون سار من الفوق إلى التحت، أو من التحت إلى الفوق، أو لم يسر من أيهما.
وإن قلت: إن النجوم لم تبدأ بالحركة من فوق الأرض ولا من تحتها، جحدت حركتها وأبطلتها، وادعيت عدمها، لأنه لا يوجد إلا فوق الأرض في جو السماء، أو تحت الأرض في بعض الهواء. فهذا والحمد لله دليل واضح على بُدأ حدثها وجريها، وإبطال ما قيل به من قدمها، والله المستعان، وهو حسبنا وعليه التكلان. (1/108)
ودليل آخر
أنا نجد النجوم على حالين وهما الطلوع والأفول، ولا تخلو من أحد وجهين فيما مضى من الأزمة:
إما أن تكون تطلع وتأفل.
وإما أن تكون لم تطلع ولم تأفل.
فإن قلت: لم تطلع ولم تأفل جحدت حركتها، وإن أقررت بالطلوع والأفول، لم تخل من أحد ثلاثة أوجه:
إما أن تكون طلعت قبل الأفول.
وإما أن تكون أفلت قبل الطلوع.
وإما أن تكونا جميعا في حال واحد.
فإن قلت: إنها بدأت بالطلوع قبل الأفول، أقررت بمحدث الحركة من الطلوع قبل الغروب.
وإن قلت: إنها بدأت بهما معا في حال واحد، أَحَلْتَ، وأقررت بالحدث وناقضت، وجعلت الطلوع أفولا، والأفول طلوعا، ولزمك أن تجعل الليل نهارا، والنهار ليلا، والوجود عدما، والعدم وجودا، والباطل حقا، والحق باطلا.
ودليل آخر
أن الذي مضى من الحركة على حالين: طلوع قبل غروب، وغروب قبل طلوع، وللقبل والبعد نهاية وغاية، لأنهما يدلان على الزيادة بعد النقصان، والنقصان يدل على القلة قبل الكثرة، لأن الحركات لم تكثر إلا بعد قلتها، ولا تزيد إلا بعد نقصانها، والزيادة بعد النقصان تدل على نهاية الزائد الذي كان ناقصا قبل زيادة ما زاد فيه.
ودليل آخر
إما أن يكون ما مضى من طلوعها أكثر مما مضى من غروبها.
وإما أن يكون ما مضى من الغروب أكثر مما مضى من الطلوع.
وإما أن يكونا سواء سواء.
فإن قلت: إن الطلوع أكثر من الغروب، أو الغروب أكثر من الطلوع فيما مضى، جعلتهما متناهيين، إذا كانا متفاوتين، ألا ترى أن الطلوع إن كان أكثر بمدة فللمدة نهاية وغاية، لأن النجم إذا كان ما مضى من طلوعه أكثر ثمرة أتشيا عند غروبه، وإذا أتشيا فللتسوية نهاية وغاية، وإذا كانا منشقين مرة ومختلفين أخرى، فقد صح تناهيهما إذ لم يخلوا مما ذكرنا. (1/109)
ودليل آخر
أن الذي مضى من حركة النجوم هما الحالان اللذان ذكرنا، وما مضى من الأشياء فقد تعد وتقضى وما نفد فقد انقطع، وما انقطع فقد تناها.
ألا ترى أن الذي مضى طلوع وغروب، وكلٌ فقد عدم وتناها.
ودليل آخر
أن حركات النجوم لا تخلو من أحد وجهين:
إما أن تكون موجودة.
وإما أن تكون معدومة.
فإن قلت: إنها موجودة أَحَلْتَ، لأن حركتها في الأيام التي مرت على القرون الأوائل، غير حركتها في الأيام التي مضت علينا، لأن الدهور التي كانت فيها أصولنا، هي غير الدهور التي فيها اليوم فروعنا، لأن تلك أيام عدمت، وهذه أيام حدثت، وهذا فما لا يقول بغيره عاقل.
وإن قلت: بل ما مضى من الحركات معدوم، فقد أقررت بالحق، وما عدم فقد تناها.
فإن قال: وما أنكرت من أن تكون الحركات تحدث وتعدم إلا ما لا نهاية له؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: مسألتك تحتمل وجهين:
إما إن تكون عنيت ما هو الآن يحدث ويدور.
وإما أن تكون عنيت ما مضى وفني بعد حدوثه، فذلك متناهي، لأنه على حالين متناهيين، الحدوث ثم الفناء، وما يصح فناء كله بعد حدوثه كله، فله نهاية وغاية، وإن كنت تريد بقولك: لا نهاية له ما هو الآن يدور من الحركات، فليس يعقل تناهيه وانقطاعه إلا من المسموع، وقد أخبر الله في كتابه بانتثار الكواكب وانكدارها، وسقوطها حيث يريد وانحدارها.
ودليل آخر
إما أن يكون ما مضى من جري الشمس في المنزلتين اليمانية والشهامية موجودا.
وإما أن يكون معدوما.
فإن قلت: إنه موجود أَحَلْتَ، لأنها جرت على المنزلتين دهور مضت قبل حدوثنا بأزمنة مالا يحصيه إلا خالقها. (1/110)
وإن قلت: إنما مضى من جريها معدوم تناها جريها، لما قدمنا من بيان تناهي المعدوم، لأن الذي مضى من جريها على حالين: حال في المنزلة اليمانية، وحال في المنزلة الشامية، وللحالين الماضيين النافذين نهاية وغاية، وأيضا فقد يدل حدث حركات النجوم في المشرق والمغرب أنها ذات عدد، والعدد على وجهين متناهيين: وهما الشفع، والوتر، ولا يخلو ما فني وعدم من هذه المرار، وحساب الحركات والتكرار، من أن تكون شفعا أو وترا، وللشفع والوتر نهاية وغاية، لأن الشفع هو الأزواج، والوتر هو الفرود من الحساب، وقد عدم الجميع مما مضى، وتضمنه العدم والفناء.
فإن قال: وما أنكرت من أن تكون قبل هذه الحركة ساكنة، ثم وجدت بعد سكونها القديم متحركة؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك من قدم السكون الذي ذكرت، لأنها لا تخلو في حال سكونها من أحد وجهين:
إما أن تكون سكنت دهورا كثيرة.
وإما أن تكون سكنت دهورا قليلة.
وللكثير والقليل نهاية وغاية، وقد قدمنا الدليل على حدث الدهر وغايته، وانقطاعه بعد حدوث ساعاته، والحركة والسكون فهما حالان محدثان لا ينفك الجسم منهما، وهما حقيقة الزمان، وما كان مضطرا إلى حالين محدثين لا يجد من أحدهما بدا، ولا عنهما معا بددا، فلا يدله مِن بانٍ بناه عليهما، واضطره في الشاهد إليهما.
فإن قال: ما أنكرت من أن تكون النجوم تحركت قبل هذه الحركة التي دللت على انقطاعها، بحركة لم تزل من طباعها؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك لأنها لا تخلو من أن تكون تحركت في بعض الجهات، أو لم تحرك في شيء منها.
فإن قلت: لم تحرك في شيء منها جحدتها، لأنها لا توجد إلا في أماكنها من الأهوية أو من غيرها.
وإن قلت: إنها تحركت في بعض الجهات، فالجهات معروفة، وهي الفوق والتحت، والمشرق والمغرب، واليمن والشام.
فإن قلت: إنها لم تزل تهوي وتحرك سفلا، مما لا نهاية له من الأجواء. (1/111)
أو قلت: إنها تحركت في حال أزليتها علوا مصعدة، مما لا نهاية له من الهواء.
أو قلت: إنها تحركت من المشرق مما لا نهاية له، أو من المغرب إلى المشرق فما لا نهاية له، أو من اليمن مما لا نهاية له، أو من الشام إلى اليمن مما لا نهاية له أيضا.
فالجواب لك في ذلك وبالله توفيقنا: أنا أنكرنا ذلك، لأنها لا تخلو في مسيرها من أي الجهات كانت حركتها من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها:
من أن تكون قطعت بحركتها أماكنا متناهية.
وإما أن تكون قطعت أماكن لا نهاية لها.
وإما أن تكون لم تقطع بحركتها شيئا.
فإن قلت: إنها قطعت بحركتها أماكن لا نهاية لها أَحَلْتَ وناقضت، لأنك قلت: قطعت بحركتها أماكن، فأوجبت نهاية الأماكن بقطع النجوم لها، لأن المقطوع متناهي، ثم نقضت قولك بقولك: لا نهاية لها، فأوجبت نهاية الحركة، إذ لم تكن الحركة إلا في الأماكن المقطوعة المتناهية، لأن القطع للأماكن لا يكون إلا ببدء الحركة.
وإن قلت: إنها قطعت أماكن متناهية، أوجبت نهاية الحركة، لأن الحركة لم تكن إلا في مكان، والمكان مقطوع، والمقطوع متناهي.
وإن قلت: إنها لم تقطع بحركتها شيئا، لم تخل من أحد وجهين:
إما أن تكون حركتها هذه كاختلاج العروق في أماكنها، أو سيرا من مكان إلى مكان، فإن كانت حركتها من مكان إلى مكان، وقولك لم تقطع شيئا محال، لأن السائر منها لا يكون إلا قاطعا بحركته للهواء، وإذا تحركت النجوم وسارت، فلا بد أن تقطع ما عبرت.
وإن قلت: إن حركتها كاختلاج العروق في محلها، فقد حددت الحركة وناهيتها، لأنك زعمت أنها كانت تختلج في مواضعها، ثم انتقلت عن الاختلاج فانقطع منها، لأنها لما زالت عن ذلك المكان بطل اختلاجها، وثبتت حركتها وجريها، وإذا انقطع اختلاجها فقد تناها، لأن الحركة أتت بعد انقطاع أوله وآخره، وأيضا فإنه لا يخلو ما انقطع من اختلاجها من أن يكون عدم جميعه أم لا، فلا يجد بدا من أن يعلم علما يقينا أن جميع ساعات الاختلاج قد بطلت، وعدمت جميعا بعد ما حدثت. (1/112)
والجواب في حدث حركات الرياح وهبوبها، كالجواب في حركات النجوم في طلوعها وغروبها، وقطعها للأماكن المتناهية بمسيرها، وبيان الحدث في حركتها وتسخيرها، وإذا صح حدث الحركة والسكون، صح أن صانعهما ومحدثهما بخلافهما، وأنه ليس بمتحرك ولا ساكن، لأنه لو كان متحركا أو ساكنا لكان محدثا، وأنه لا يعقل ولا يعرف شيء من الأشياء، إلا بأن لهذه المحدثات صانعا بخلافها، وأنه عز وجل أولى بكل ما حسن من الصفات، وأحق بالتنزيه عن شبه المحدثات، ومن أكرم صفات العلم.
والعلم فهو ذاته.
والدليل على أنه عالم أنا وجدناه مصلحا حكيما، والحكمة لا تتم للجهال، وأيضا فإن الجاهل ممنوع من العلم، والله ليس له مانع، لئن الممنوع مصنوع، والله صانع، وإذا انتفى عنه أن يكون ممنوعا، أو يكون مدبرا مصنوعا، صح أنه لم يزل من الجهل ممتنعا، وإذا لم يزل بريا من الجهل والنقصان، فعلمه قديم بأبين البيان، وإذا كان علمه قديما أزليا، وكان من تأليف الغير إليه بريا، صح أن علمه هو ذاته، وكذلك قدرته وحياته، لأنه سبحانه لم يزل قادرا حيا، سمعيا بصيرا قويا، وسمعه وبصره فهما: علمه، وعلمه فهو: قدَمُه سبحانه، وقدَمُه وعلمه: حياته، وحياته: قدرته، وقدرته: ذاته، وذاته: حقيقته، وحقيقته: وحدانيته، وحقيقة كلمته التي هي من صفات الذات هي: علمه سبحانه بجميع المعلومات، وحقيقة حكمته عز وجل في صنعه لمحدثات هي: إتقانه لما صنع من المحكمات، التي لا تهيأ إلا بالحكمة الأزلية، والصفة السابقة الأولية، وحقيقة عدله: إحسانه، فمن وصفه بالإحسان فقد عدَّله، ومن نسب إليه القبيح فقد جَوَّره. (1/113)
وحقيقة رحمته لأوليائه: ثوابه، وحقيقة غضبة على أعدائه: عقابه، وحقيقة كرم ذاته: عظمته، وعظمته: قدرته، وحقيقة كرم فعله: نعمته، وحقيقة عدله في البلوى: تكليف ما يطاق، وحقيقة عدله في التكليف: إظهار الحسن من أفعال عباده، وإظهار الحسن: خير من تركه، وحقيقة عدله في الأمر: بإظهار الحسن، لأن إظهار الحسن عاقبة حسنة من ثوابه، وحقيقة عدله في خلق الكافر: أنه لم يخلق كفره، بل نهاه عنه وزجره، وأوعده على فعله وحذره، وحقيقة حكمته في خلقه لمن علم بمعصيته: أن خلقه لجسم العاصي وعقله، وحياته بعد موته وايجاده بعد عدمه حكمة جليلة، ونعمة عظيمة، وفعل النعمة والحكمة خير من تركها.
وأيضا فليس يجب على الحكيم أن يترك الحسن من فعله، لعلمه بقبح القبيح من فعل غيره، وليس علمه بمعصية العاصي يدخله في معصيته، ولا علمه يجبر المطيع بجبره على طاعته، وليس يثيب ويعاقب على علمه، وإنما يثيب العبد أو يعاقبه بفعله، لأن العلم هو الله عز وجل، وليس يثيب الله على نفسه، وإنما يثيب العبد على حسن فعله وطاعته. (1/114)
فإن قال قائل: فلم لم يجبر عباده على الطاعة كلهم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأنه لو جبرهم على الطاعة، لكانت الطاعة فعله لا فعلهم، ولما استحقوا المدح على فعل غيرهم، وحقيقة عدله في سقم عباده وإمراضهم وموتهم، أن المرض والألم يدعو إلى الخوف من العذاب، والخوف يدعو إلى النعمة والثواب، ولو أمنوا الموت والإنتقام، وشفوا من الأمراض والآلام، لعظمت ذنوبهم، ولهلك بسبب الأمان أكثرهم، ولقل خوفهم، وهاهم اليوم مع قصر أعمارهم قد عظم هلاكهم، وجل ظلمهم وضلالهم، فكيف لو أهملهم من ذلك وأنظرهم، ولكنه جاد علينا بذلك لعلمه بضعفنا، وأغاثنا به على جهاد أنفسها، لأنا وجدنا الخوف يمنع من اللذات، ويشغل عن فعل السيئات، ويدعو إلى فعل الحسنات، ويدعو إلى الأقصار عن الموبقات.
والدليل على أن للصانع رسولا أنه حكيم، والحكيم لا يهمل خلقه من الأمر بالخيرات، والنهي عن المنكرات، ولا يكون ذلك إلا كلاما مسموعا، فوجب أن يرسل إليهم رسولا مسمعا، وحقيقة عدله في ذبح البهائم وإحلالها، أن لها على ذلك ثوابا في آخرتها، وليس ألم البهائم وإتعابها إلا دون ألم الأخيار وموتها، وحقيقة عدله ونفي الجور عنه، أنه غني عن الجور غير محتاج إليه، وأنه عالم بقبحه، وإذا كان عالما بقبحه غنيا عنه لم يفعله، وحقيقة الدليل على البعث أن الصانع حكيم، والبعث والحياة خير من موت الأبد.
ودليل آخر
أنه لم يخلق الخلق إلا لينفعهم بالبقاء، إذ لا منفعة في الهلاك والفناء.
ودليل آخر
أن موتهم بالكلية لا ينفعه ولا ينفعهم، وشيء لا ينتفع بفعله لا يكون من فعل حكيم. (1/115)
ودليل آخر
أن بعثهم بعد موتهم لا يؤوده ولا يعجزه، وإذا لم يعجز عن فعل الخير وجب عليه فعله.
ودليل آخر
أنه أمر ونهى فأطاعه قوم وعصاه آخرون، وقد وعد من أطاعه بالثواب، وأوعد من عصاه بالعقاب، ثم انقضت آجال المطيعين ولم يثابوا، وانقضت آجال العاصيين ولم يعاقبوا، فعلمنا أن ثَمَّ دارا غير هذه الدار، يثاب فيها المحسنون، ويعاقب فيها المسيئون، لأن المطيع يجب له الثواب، وكذلك يجب على أهل المعصية العقاب، لأن الحكيم لا يخلف الميعاد، لأنه غني عن إخلاف وعده ووعيده.
ألا ترى أن المخلف لوعده إنما يخلفه لأحد ثلاثة أوجه:
إما لاجتلاب منفعة.
أو دفع مضرة.
أو عبث وسفه.
فاجتلاب المنافع واللذات، لا يكون إلا للمحدثات، لأن لذة المنفعة لا تصل إلا إلى كل شيء أو بعضه، والكل والبعض لا يكون إلا مخلوقا محدثا، ومربوبا مدبرا، لأن المحتاج المضطر لا بد له من مانع منعه من الغناء والسعة والجاه، واضطره إلى الحاجة، وكذلك الدافع عن نفسه للمضار يكون محتاجا إلى الدفاع عن نفسه، ملجأ مضطر إلى الخوف من هلكته، ومن كان مضطرا ضعيفا خائفا، لم يكن ربا ولا خالقا، لأنه محل للخوف واللذات، وملجأ إلى المحن النازلات، غير آمن من المهلكات، فهاتان صفتان للمخلوقين، يتعالى عنها رب العالمين، وفاطر السماوات والأرضين، وخالق الخلق أجمعين، ومجيب المضطرين، وأرحم الراحمين، وأعظم الأعظمين، وأكرم الأكرمين.
وأما العبث والسفه، فإنما تولد من الشهوات والهوى، والخالق تبارك وتعالى لا يشتهى ولا يهوى، لأن الهوى والشهوة عرض يحل في القلوب، ويتعالى عنه علام الغيوب، وأيضا فقد نجد من المخلوقين الضعفاء المحتاجين من لا يخلف وعده، ولا ينقض أبدا عهده، مع ضعفه وحاجته، ومسكنته وفاقته، وقلة علمه وحكمته، فكيف بمن لا يضعف عن التدبير؟! ولا يهن عن التقدير؟! ولا يحتاج إلى ظلم عبده وإخلاف وعده ووعيده، ومن هو أحكم الحكماء، وأعلم العلماء، وأرحم الرحماء، وأقدم القدماء، وأخبر الخابرين، وأقدر القادرين، وخير الغافرين، وأحسن الخالقين، وأرزق الرازقين، وأسرع الحاسبين، وأقرب الأقربين، ومن عظمت منته، ووسعت رحمته، وبانت حكمته، وظهرت نعمته، وقامت حجته، وتمت كلمته، ونفذت مشيئته، وقهر سلطانه، وعم إحسانه، وعظم شأنه، ووضح برهانه، وكمل عدله، وجل فضله، وكرم فعله، وبلغت رسله، والحمد لله ولي النعم، والفضل والكرم، على بديء نعمه، وفضله وكرمه، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وسلم تسليما. (1/116)
تم كتاب عبدة النجوم
- - -
كتاب الطبائع
كتاب الطبائع
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى أهل بيته الطاهرين، وسلم تسليما.
سألت يا أخي - وفقك الله لطاعته، وخصك بأجزل كرامته، وحباك بأسنى هدايته - عن أولى مسائل المتعبدين، وأاعظم مقاصد المهتدين، وأهلك مهالك الملحدين، فقلت: ما الدليل على حدث السموات والأرضين؟
وهما أدل الدلائل على رب العالمين. والدليل على حدثهما، أنا نظرنا إلى اختلافهما، فلم يخلوا عندنا من أحد أوجه تدل على حدوثهما:
إما أن يكونا خالفتا بين أنفسهما.
وإما أن يكون اختلافهما من قِبَل قدمهما.
وإما أن يكون اختلافهما دليلا على حدثهما.
فإن قلت: إن اختلافهما من فعل أنفسهما، فهذا محال لما علمنا من موتهما، لأن الميت لا يقي نفسه، فكيف بتدبيره لها، وإذا عجز الحي الحكيم عن تدبير نفسه، وتعذر عليه تحسين القبيح من صورته، فالموات أعجز من ذلك، وأجدر بالعجز عن أن يكون كذلك. (1/117)
وإن قلت: إن اختلاف أجناسهما، وتغاير صفات أجسامهما، من قِبَل قدمهما، فالقدم لا يوصف بالاختلاف، ولا يتضاد في شيء من الأوصاف، ولأنه إن اختلف في شيء من أوصافه، وقع الفرق بينه لعلة اختلافه، وبطلان اتفاقه وائتلافه، لأن القديم صفة واحدة توجب الإئتلاف، ولا توجب المضادة والاختلاف، فلو كانت السماء والأرض قديمتين، لما كانتا في الأوصاف مختلفين، إذ لا فرق بين قدمهما، فلما وقع التفاضل بين أجزائهما، والاختلاف بين صور أجسامهما، صح عندنا بأيقن اليقين حدثهما، إذ لا فضل لقديم على قديم مثله، ولا يخالفه إذ هو من شكله.
فإن قال بعض الملحدين بجهله، أو عارض بمكابرة عقله: وكذلك المحدث أيضا لا يخالف محدثا مثله، ولا يوجد في الأوصاف مغايرا له.
فالجواب في ذلك وبالله نستعين: أن اختلاف المحدثات أوجب من اختلاف القديم، لأن القديم لا فرق بين قدمه، ولا مخالف بينه، فيدل فيفصل بعضه على بعض، والمحدثات أضداد مختلفة، وفي الدلالة على الصانع مؤتلفة، واختلاف أجناسها دليل على المخالف بينها، ليعلم أنه سبحانه بخلافها، وتَصَرُّفُ أحوالها دليل على مصرفها، لأنا لما وجدنا السماء قد خصت بالسمو والارتفاع، وخصت الأرض بالهبوط والاتضاع، علمنا أن مختصا خالف بينهما، ودل بذلك على حدوثهما، ومما يدل أيضا على حدوث الأرض إذ هي أقربهما إلينا، وأنشرهما مشاهدة علينا، أنا لما نظرنا إليها، وما أظهر الله من الدلائل عليها، فوجدناها على ضربين مختلفين:
وهما الكبر والصغر، فما الذي جعل بعضها كبيرا، وجعل منها شيئا صغيرا، حتى خالف بينهما، وما الخصيصة التي فضلت أحدهما بالكبر، وخصت أحدهما بالقلة والصغر، أو لست تعلم أن الخصائص تدل على المختص بها. (1/118)
ودليل آخر
لما نظرنا اختلاف سهولها وجبالها، وتضآد أحوالها وألوانها، دل ذلك على صانعها وجاعلها، إذا التفضيل لبعضها على بعض، دل على المفضل بينها.
ودليل آخر
أنا نظرنا إلى افتراقها واجتماعها، فوجدنا منها ما هو ملتحم مجتمع، ومنها ما هو مفترق منقطع، [فـ] علمنا أن له مفرقا جامعا، ومفتطرا خالقا صانعا، وإلا فما جعل المفترق مفترقا، دون أن يكون ملتما ملتزقا؟ وما خص أحدهما بالتباين والافتراق؟ وخص الآخر بالملائمة والإلتزاق؟!
ومما يدل على حدث الجسم الواحد في ذاته، أنه متغاير مختلف في جميع صفاته، لأن حركة الشيء غير سكونه، ورائحته أبدا غير لونه، وصفاته غير عينه، فلا بد من صانع ألف بين المختلفات بلطفه، وإلا فما الذي خالف بين الموصوف ووصفه؟!!
وسألت عن الدليل على حدث أصول المتناسلة وفروعها، وبيان الصنع في عللها وطبائعها؟
والجواب في ذلك: أن الدليل على حدث أصولها وفروعها، أن الحكمة لازمة لجميعها، لأن كل طبيعة من طبائعها قد جعلت لمصلحة من مصالحها، كما أصلحت الأجساد بآلات جوارحها، فكل طبيعة من هذه الطبائع لا تشبه الأخرى، ولولا اختلافها على الحيوانات لهلكت، وما تناسلت ولا كثرت، لا الحيوانات في بُدي نشأتها ركبت على ضعف بنيتها، لتعلم بفاقتها وحاجتها، أنها مضطرة إلى المنعم بقوتها، لتشكر فضل نعمه بحياتها، فتستحق المدح والثواب على شكرها.
والطبائع الأربع فهي أضداد متنافية، وهي في صلاح الأجسام متكافية، لأن الحر والبر ضدان، وكذلك الرطوبة واليبس مختلفان، وكذلك الاختلاف دليل على حكمة صانعها، إذ جعل كل طبيعة يصلح بخلاف ما تصلح له الآخرى، وإلا فما الذي جعل البرد والحر مختلفين؟! دون أن يكونا جميعا مؤتلفين؟! وما الذي خص أحدهما بالتبريد والاجماد؟! وخص الآخرى بالحرارة والاتقاد؟ وما الذي خالف بين اليابس والرطب فاختلفا؟ دون أن يتفقا ويأتلفا؟! وما الذي خص أحدهما بالرطوبة واللين؟ دون أن يكونا على اليبس مجموعين؟! فالموجود من الأجسام كلها لا يصح وجوده إلا يابسا أو رطبا حارا أو باردا؟! ولو بطلت الطبائع من الجسم لما كان موجودا!! كما لا يصح وجود محدث عدمت حركته وسكونه، لأن الموجود صفة لا يصح مع بطلانها كونه، ولو عدم الحيوان طبائع الحركة، لكان ذلك له من أعظم التهلكة، وكذلك القول في الأشجار المغتذية، أنها لا تتم إلا بطبائع الأغذية، وليست الطبائع بفاعلة للحكمة والتدبير، ولا هي بعالمة بعجائب التقدير، وإنما هي حكمة من حكم رب العالمين، ودلالة عليه بجميع المخلوقين. (1/119)
وأصل الحكمة عند جميع أولي الألباب، فإنما هي إصلاح الأسباب بالأسباب، فلما وجدنا الأشياء مصلحة بطبائعها، دلنا الإصلاح على حكمة صانعها، لأن الطبائع جعلت لمنافعها، فعلمنا أن المتفضل عليها بنعمها، حي عالم بضعف أجسامها، لأنه لو كان ميتا جاهلا بفاقتها، لما اهتدى إلى الصلاح قوام حياتها، لأنا نجد الموت والجهل يوجبان الفساد، ولا يدركان تدبير أمور العباد.
والدليل على أصول هذه الفروع، أن الموت وقع على الجميع، وللجميع نهاية وغاية.
ألا ترى أن الفروع متشعبة من أصولها، فإن الأصول في التدبير كنسولها، وإذا صح أن في هذه النسول من الحكمة مثل ما في الأرض فلا بد لها من محكم، وإذا صح أن عليها نعمة فلا بد من منعم، وإذا كانا جميعا محدثين، فهما بغير شك متناهيان، لأن الموت وقع على أصولها كلها، وللكل نهاية وغاية. (1/120)
ألا ترى أن أصولها على معنيين يدلان على النهاية، ويخبران بالأصل والغاية، وهما الحياة والموت، وذلك أن الحياة حوتهم كلهم فلم تغادر منهم أحدا حتى حوته، ولم تترك من أجسادهم جسما حتى حلته، ثم خرجت الحياة من الأجسام كلها، وانتقلت فروعها وأصولها، فلم تُبق الحياة جسما حتى فارقته، ولم تترك جسدا حتى باينته، ثم تضمن الموت جميعهم، وحوى أصولهم وفروعهم، وإذا حواهما الموت فقد ناهاهم، وأوضح حدهم وغاياهم، لأنه لم يقع على الفرع حتى تضمن أصله، ولم يُفن الفرع حتى أفنى الأصل قبله، وإذا تناهت الفروع إلى أصولها، ورجع أكثرها إلى قليلها، فلا بد من النظر في الأصل الذي هو أقل من فرعه، والبحث عن (1) فعل الحكيم وصنعه، فإذا نظرنا في ذلك علمنا أن الغاية التي صحت، والنهاية التي سلفت، زوجان أصليان غير مولودين، ولا من الأصلاب والأرحام موجودين.
والدليل على حدثهما، كالدليل على حدث فروعها، وذلك أن في كل واحد منهما حكمة في ذاته، ومصالح في جوارحه وصفاته، ثم علمنا أن فيهما جميعا صنعا محدثا، من عجيب خلق الذكر والأنثى، وجعل كل واحد منهما لصاحبه غمدا، وقصد الصانع لإتفاقها قصدا.
والدليل على أنهما كانا قبل حياتهما ميتين، وكانا قبل الحياة معدومين، أنهما إذا كانا حيين معمرين، فلا يخلو ما مضى من أعمارهما من أن يكون كثيرا أو قليلا، وللكثير والقليل نهاية تدل على الابتداء، لأن ما مضى من العمر فقد تناها، لأن كثيره لم يكثر إلا بعد أوليته.
ودليل آخر
__________
(1) في المخطوط: على. ولعل الصواب ما أثبت.
أن حركتهما فيما مضى لم تكثر إلا بعد قلتهما، وقلة الحركة تدل على أوليتها، وتخبر بقضا جميعهما بنهاياتها، وانقطاع أولها وآخرها بغاياتها، لأن أحد الحركة لم يعدم إلا بعد عدم أولها، وانقطاع أكثرها وقلتها، وفنائها بعد حدوثها كلها، والحياة مقرونة بالحركات، والسكون مقرون بالممات، فكانت حياتهما مدة والمدة قد عدمت، وكانت لهما حركات فسكنت، وأعمار بعد حدوثهما انقطعت، فرحمة الله عليهما ورضوانه، وصلواته وغفرانه. (1/121)
وإذا صح أن لحياتهما أولا، لم يخلوا من أن يُخلقا في البدء طفلا، أو يكون جعلهما تماما كاملا، فإن كانا في بدء خلقيهما طفلين، وكان إلى التربية واللطف محتاجين، وذلك دليل على خالقهما، إذ جعلهما بعد صغرهما، وقوَّاهما بعد ضعفهما، وكثرهما بعد قلتهما، وعلَّمهما بعد جهلهما، وأغناهما بعد فقرهما.
وإن كانا في بدء الأمر كاملين، وخُلقا في البدء عاقلين، فإنهما في الكمال محتاجان إلى الأغذية، وأنواع المصالح المخلتفة، من المآكل والمشارب الطيبة، واللباس وأظلة الأبنية، وذلك فما لا يقدران عليه، ولا يجدان السبيل أبدا إليه، إلا بالله المنعم الواحد الخلاق، المتفضل الرازق، لأنهما في بدء خلقهما لا يدريان ما أريد بهما، ولا يكون ذلك إلا بعد تأديب مؤدبهما، وقبول إلهام معلمهما، لأنهما مع جهلهما وخبرتهما، لا يعلمان المنافع والمضار إلا بعد طول تجريبهما، والتجربة ربما كان فيها الهلاك والتدمير، وبطلان الحكمة والتدبير، فمن أجل هذا أوجبت أن يكونا معلَّمين، وبجميع أسباب الحكمة مُلهمَين.
والدليل على أصول هذه البهائم ونسلها، كالدليل على هذه الفروع وأصلها، فلعمري لو لم يكن لنا من النظر إلا ما في جوارحنا، لكان في ذلك دلالة على الله سيدنا!! ولكنا علمنا أن الفحص عن أصل هذا لخطب الجليل، أولا بالحكمة عند أهل العقل، ولِتركِ النظر هلك الملحدون، الفسقة الكفرة الجاحدون، الصم البكم المتلددون، الجهلة الفجرة المتمردون، ولترك الأدلة لم يعرفوه، وبعداوتهم جهلوه، فهم كالبهائم التي لا تعرف إلا ما جاهرت، ولا تميز إلا ما حاضرت، ولا تدرك إلا ما شاهدت ونظرت، فزادهم الله نأيا وبعدا، ولا وفقهم لخير أبدا. (1/122)
وسألت - أكرمك الله - عن دوام التكليف بعد الرسول، وذكرت أن يكون الجواب من المعقول؟
والدليل على دوام ذلك: أن الحكيم لا يهمل خلقه من الأمر بالخيرات، والنهي عن المنكرات، لأنه إن تركهم على الضلالة ولم يهدهم، ولم يأمرهم ولم ينههم، فقد اختار لهم الضلالة على الهدى، وأرغبهم في الغواية والردى، ومن اختار الضلالة فغير حكيم، ومن رضي للعباد بالجهل فليس برحيم، فمن هاهنا صح دوام التعبد لجميع العباد، إذ الإهمال يدعو إلى الفساد.
ودليل آخر
أن الحكيم إذا أظهر حكمته لم ينسخها ولم يبدلها، إلا بخير منها أو مثلها، ولم ير بعد القرءان بَدَلَه، ولم ير خير منه ولا مثله.
ودليل آخر
أن الحكيم إذا ركب في عباده الاستطاعة والقوى، وفطرهم على منازعة الهوى، فلا بد من صرف ذلك في طاعة (1) وهدى، وهذا أوفى جهل وضلالة وردى، فالعقول تشهد أن الحكيم لا يأمر بصرف نعمه في الفساد، ولا يرضى لعباده بغير الرشاد، ولا رشدا أرشد ولا هدى أهدى، مما نزل الله في الفرقان من الهدى.
ودليل آخر
أن من أخفى هداه وحكمته، فقد نزع عن أوليائه رحمته، ومن أخفى حكمته عن أوليائه وخلع حجته عن أعدائه، فقد برئ من الحكمة والتدبير، إذا رضي بالجهل والتدمير.
ودليل آخر
__________
(1) في المخطوط: طاعته. ولعل الصواب ما أثبت.
أن دار البلوى لا يخلو أهلها من التشاجر في أحكامهم وأديانهم، واختلاف آرائهم وأهوائهم، وإذا كانوا من الصفة على ما ذكرنا، وكانوا من الاختلاف على ما به قلنا، فلا بد للحكيم من أحد وجهين: (1/123)
إما أن يختار لهم أحكامهم على حكمه، ويصطفي جهلهم على علمه.
وإما أن يُحكِّم علمه على جهلهم، وينفي بحكمه باطل حكمهم، وإذا لم يكن بد من كتاب يحكم بينهم، ويبين لهم ما التبس عليهم، فلا يُعلم أبين من قوله، وما نزل من الهدى على رسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإذا كانوا من اختلاف الأهواء على ما قدمنا، وفي قلة الإتفاق على ما شرحنا، لم يُؤمن أن يُلبِّسوا بذلك على من يريد النجاة بجهلهم، ويبطلوا الحق بأسوأ فعلهم، فمن هاهنا وجب على الحكيم تبارك وتعالى أن يرسل في كل قرن من القرون رسولا ليبين لهم ما فيه يختلفون، وينفي من الباطل ما لبس الضالون، وإذا كان ذلك واجبا عليه لحكمته، لم يُؤمن أهل التموية من بريته، أن يلبسوا على الناس بدعوى رسالته، فمن هاهنا وجب أن يخص بالإمامة أهل بيت معروفين، وبصحة النسب عند الخلائق مشهورين، ليكذب الناسُ مُدعِي ذلك من غيرهم، ويكون الطلب للإمامة في بعضهم أيسر من الطلب في كلهم، وأبين للمرتادين، وأهون على المتعبدين، من أن يطلبوه في الخلائق أجمعين، مع أنه لو كان ذلك في جميع الناس، لوقعوا في أعظم الالتباس، لكثرة دواعي الفاسقين، واغتيال الظلمة المنافقين.
ولما كان ذلك واجباً على الحكيم نظرنا في قوله، فوجدناه قد افترض مودة ذوي القربى من رسوله، ووجدناه أقرب القرابة لديه، وأسبقهم وأعظمهم عليه، وأجداهم في الجهاد بين يديه، وأحبهم إلى الله وإليه علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، عليه صلوات رب العالمين، ثم وجدنا أقرب قرابته، وأخصهم بنسبه وولادته السبطين، ابني الرسول الطاهرين، صلوات الله عليهما، وعلى أبيهما وأُمهما، وعلى من طاب من ذريتهما، ثم وجدنا الرسول صلى الله عليه قد خصهما بنسبه وولادته، فعلمنا أن ذريتهما أقرب قرابته، مع دلائل تطول لو ذكرناها، ويتسع بها القول لو شرحناها، فهم أقرب قرابة الرسول، وأحقهم بنسبه عند جميع أهل العقول، وإذا كان الإمام من هذين الحيين، وكان لا يوجد في غير آل السبطين، فلا بد له من دلائل يبين بها عنهم، وإلا فلا فرق بينه وبينهم. (1/124)
فمن تلك الدلائل التي تبينه عن قرابته، وتشهره للناظرين عن أهل نسبته من أهل بيته، أن يكون أرجحهم عقلاً، وأحسنهم مقالاً وفعلاً، وأشهرهم حكمة وفضلا.
وسألت - وفقك الله لمرضاته، وأعانك على طاعته - عن حكمة الله في خلق هذه الضوآر، من ذوات السموم والمضار.
واعلم يا أُخي أن هذه الهوآم في أنفسها حكمة جليلة تدل على خالقها، من تركيب آلاتها وأدواتها، وإحكام صنعة هيئاتها، وإصلاح جميع قوام حياتها، وإلهامها لمنافعها ومضارها، ولَذَّات نعيمها ومسآرّها، فقد كُفِيت أسباب أرزاقها، وسُهل لها جميع أرفاقها، لعلم الصانع الحكيم بضعفها، عن اختيار الأرزاق وتكلفها، فأعانها عز وجل من سعة فضله، وكفلها بأنواع لطفه، وهي لا تحرث ولا تزرع، ولا يدخر أكثرها ولا يجمع، فكم فيها من عجيبة تضل فيها العقول!! وحكمةٍ يقصر دون وصفها القول!! وما عسى أن نذكر من عجائب أوصافها!! ونشرح من خصائص ألطافها!! ونحصي من غرائب أصنافها!! لعجزنا عن ذلك وضعفنا، وجل صنع الحكيم عن وصفنا.
ألا ترى إلى الذرة وضعفها، كيف عجزت الحواس عن وصفها؟! وقصرت عن إدراك مختلف أغراضها، في تصرف إقبالها وإعراضها، ودرك فهمها لمعايشها، ونفورها عن المهالك وخوفها، وشهواتها لجميع لذاتها، وقوام روحها وحياتها، وإصلاح خلقها وتعديلها، وتوصيل جوارحها وتفصيلها، قد جعلن لها أعماد تقلها عن السقوط، وفصِّلت للإصعاد والهبوط، ولولا تلك الأعماد لما ارتفعت، ولولا تفصيلها لما انتفعت، ولسكنت عن التحرك وانقطعت، ولكن الحكيم جاد عليها برحمته، وامتن عليها بإظهار حكمته، وأتمها بفواضل نعمته. (1/125)
وأما ما ينال الآدميين من ضرر الهوام، فما هو إلا كسائر الآلام، وما السم إلا سقم من الأسقام، وعلة من علل الأجسام، ومحنة من محن ذي الجلال والإكرام، يعظم فيها الأجر للمسلمين، ويجل فيها ثواب المؤمنين، وتخويف من رب العالمين، وموعظة لعباده الموقنين، وحجة ونعمة للفاسقين، وعقوبة للفجرة الظالمين، لأن الألم يدعو إلى ذكر الموت والفناء، ويزهد ذوي الألباب في الدنيا، فيدعوهم الخوف إلى الإقصار عما يولج في عذاب النار، فهذه حكمة من حكم رب الأرباب، يستحق الشكر عليها من ذوي الألباب، مع أنه عز وجل يثيب المؤمنين على أمراضهم وأسقامهم، أكثر مما يثيبهم مع صحتهم، فالحمد لله الذي جاد علينا بموعظته، وجعل الرحمة في نعمته، فيا لها محنا حسنت؟!! ونعما جلت وحسمت؟!! وحكمة بانت وعظمت!!
وإذا كان في البهائم لله حكمة، وكان عليها منه نعمة، وكان آلمها بأنواع من الآلام، وامتحنها بالموت والأسقام، فلا بد لها في الآخرة من نعيم لا يبلى، إذا كان إيلامه لها عدلا، وإذا كان بالبهائم الخرس رحيما، وكان في أمورها عدلا حكيما، فكيف بمن عرفه من أوليائه؟! وأيقن بثوابه ولقائه؟! وأحب وأبغض فيه، وهجر في بغضه مبغضيه، وصافا في محبته محبيه، ووالى فيه من يواليه، وعادا وناصب من يعاديه، فرحم الله عبد اتصل بمولاه، وذل له ولمن والاه، وقطع فيه جميع من عاداه، ولم يركن إلى متاع غرور دنياه. (1/126)
وقد بلغنا عن بعض أهل الحيرة والعمى، ومن لم يُعط من التوفيق عطية لحكماء، أنه زعم أن البهائم تكون بعد الحشر ترابا، ولا يجعل الله لها على ألمها ثواباً، وإنما يقول هذا من جهل حكمة الواحد الرحمن، ولم يوقن برحمته حقيقة الإيقان، وقذفه بالجور والعدوان، ولو كان الأمر في البهائم على ما وصف الجهال!! وقال به الكفرة الضُلال!! لم يخل في إماتته لها من أحد وجهين:
إما أن يكون عدلا في إماتتها مرتين، ويثيبها على بعثها ثوابين، بعد أن يحشرها في الآخرة حشرين. وهذا محال عند ذوي العقول، فاسد في الاعتقاد والقول.
وإما أن يكون جائراً كما زعموا. فيعذبها عذابين، بعد أن أحياها كرتين، فكيف يكون عدلاً إذا آلمها؟! وامتحنها بعد الحشر فأعدمها؟! ومن عَذَّب في الآخرة والأولى بغير ذنب لم يكن عدلا!! فقذفوا الله تبارك وتعالى وأخرجوه من الحكمة جهلاً.
ودليل آخر
إما أن يكون تعالى عن قولهم رحيما في إماتتها.
وإما أن يكون رحيماً في حياتها، فالرحمة لا تكون في الموت الأبيد، وإنما الرحمة في الحياة والتخليد.
ودليل آخر
إما أن يكون موتها ينفعه، وإما أن يكون ينفعها، فهو غني عن موتها وحياتها، وهي محتاجة إلى حياة أنفسها، والموت فغير نافع لها، وإذا اتسعت رحمته، فكيف يضيق على البهائم نعمته؟! وهو قادر على تخليدها، وغير عاجز عن مزيدها.
وسألت عن الدليل على دوام التخليد؟ (1/127)
والجواب في صدق الوعد والوعيد، أن الحكيم رؤف بالعباد، وإبطال الجنة وأهلها من أكبر الفساد، والحكيم لا يقطع ثوابه عن أوليائه، كما لا يقطع عقابه عن أعدائه، لأنه إن قطع ثوابه فقد ظلمهم، وعبث في خلقه فأهلكهم، والله يتعالى عن العبث والفساد، ويجل عن ظلم العباد، لأن أهل الجنة صبروا على محن الحكيم، والصبر محمود عند كل رحيم، وأيضا فإن الحكيم لا يظهر الحكمة للعبث والفناء، ولكنه جعل ذلك للبقاء، وقد أحسن أهل الجنة بالطاعة والإيمان، فهل يجازى أهل الإحسان بغير الإحسان؟!
أجل أنه لبعيد عن ذلك!! وأكرم من أن يكون كذلك!! وأيضا فإنه شكور للمطيعين، والشكور لا يقطع شكره عن الشاكرين، ولا يهلك عباده المؤمنين.
ألا ترى أن حكيما من حكمائنا لو أنعم بنعمة ثم سلبها، وانتزعها عن المنعَم عليه وأذهبها، لما سميناه مع هذا الفعل الدنيء حكيماً!! ولا دعاه أحد أبدا كريماً!! ولصار عند الخلائق مذموماً! ولكان عند الجميع لئيماً! ولَمَا كان عندهم أبدا رحيماً! فكيف بأحكم الحاكمين؟! وأرحم الراحمين؟! وأشكر الشاكرين؟! وخير الغافرين؟!
فإن قال بعض الجهال الملحدين، الكفرة الفجرة الجاحدين: فَلِمَ زعمتم أنه لا يرحم أهل النار؟! ولا ينقلهم إلى دار الأبرار؟
قيل له ولا قوة إلا بالله العظيم: لأن إخراج الفاسقين من العذاب الأليم، إلى الجنة والثواب الكريم، يدعوهم إلى البطر والفساد، وإلى ما كانوا فيه من الكفر والعناد، والعبث والظلم للعباد، وذلك قول الواحد الرحمن، فيما نزل من محكم القرآن: ? ??????? ???????? ?????????? ????? ???????? ???????? ???????????? ????????????? ???? ? [الأنعام:28]. فكيف لا يستحق هؤلاء الفاسقون، ما صاروا إليه من العذاب المهين؟! مع ما علم الله من كفرهم وفسادهم، وفجورهم وعنادهم، حتى أنه علم أنه لو أخرجهم من العذاب، لعادوا لما نهوا عنه من الأسباب، فكيف يا أخي - أكرمك الله بثوابه، ونجانا وإياك من عذابه - يُرجي لهؤلاء أبدا ثوابه؟! أو ينتظر منهم إنابة؟! أو تنفع فيهم موعظة أو تذكير؟! مع ما سمع من قول العليم الخبير!! ومتى يرجي لهم فلاح؟! أو صبر أو رجعة أو صلاح؟! إذا لم يزجروا أنفسهم عن اللذات، ويقطعوها قطعاً عن الشهوات، ويجاهدوها جهاداً عن المهلكات. (1/128)
فإن قال قائل، أو سأل من الملحدين سائل: فيكف لا يهلكهم ويفنيهم؟! ويميتهم في النار ويبليهم؟!
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأنه لو أماتهم وأهلكهم، لأخلف وعيده في تخليدهم، والحكيم لا يكذب في وعيده، فيكون ناقصا عند جميع عبيده.
وأيضا فإنه لو أهلكهم لكان الموت راحة لهم، ولكان تخفيفاً عنهم، وتخليصا لهم من العذاب، وتفريجا من كرب العقاب، فكيف يفرج الحكيم عن من قتل أنبياءه؟! وظلم رسله وأولياءه؟! وأعان على دينه أعدائه؟! واجتهد في إطفاء نوره! واستهزأ وتلعَّب أموره، وأقبل على لهوه وفجوره، واشتغل عن وعظه وتذكيره، فكل هؤلاء الظلمة الفجار، الفسقة الأنجاس أهل النار، يَظلم على قدر طاقته، ومبلغ قوته واستطاعته.
فمنهم: من فعل جميع الشرور، ورَكِب أنواع الظلمة والفجور، وقتل الأنبياء المرسلين، والأئمة الطاهرين، وأتباعهم الأخيار المؤمنين.
ومنهم: من خذل المرسلين، وأعان بخذلانه لهم القاتلين.
ومنهم: من كثَّر بداره ديار الفاسقين، وكثَّر جمائع الظالمين، وعَمَّر أسواق الجائرين. (1/129)
ومنهم: من ظلم نفسه وأغواها، واختار الهلكة فأرداها، ثم يطمع أن يخلف الله وعده، ويظلم بإخلاف الوعيد نفسه، والحكيم لا يظلم نفسه بالمحال، وإخلاف صدقه في المقال، للكفرة الفجرة الضُّلال، العصاة للواحد الرحمن، العظيم المتفضل المنان، ذي العزة والكرم والإحسان، والقدرة والمحال والسلطان، والحكمة والجلال والبرهان، واللطف والبر والإيمان، من لا يعذب أولياءه، ولا يظلم في الحكم أعداءه، ولا يأخذ أحد بغير كسبه، ولا يعذبه إلا بذنبه، ولا يعذِّب بصغائر الذنوب، ولا تخفى عليه خواطر القلوب (1)، ولا تحتجب عنه خفيات الغيوب، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
- - -
كتاب
شواهد الصنع
والأدلة على وحدانية الله وربوبيته
كتاب شواهد الصنع
والأدلة على وحدانية الله وربوبيته
الحمد لله الذي لا يعذب مَن حمده، ولا يَضل عن الهدى من أرشده، ولا يخيب رجاء مَن قصده، ولا يذل مَن نصره، ولا يُضل سعي مَن شكره، ولا يعمى عن الحق مَن بصَّره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، شهادة مَن أيقن بوحدانيته، وتعرَّض لعفوه ورحمته وجوده وكرمه ورأفته، وأقر (2) بذلَ مَلكَتِه، وتخضَّع لعظمة سطوته، وانقطع إليه بكليته، وأخلص (3) قلبه لمحبته، وانقاد لأمره وطاعته، وتاب إليه من خطيئته، وأستعينُ به على نصيحته، وأرغب إليه في مودته، وإلهام رشده وحكمته.
وبعد يا أخي (4) فإن الله جل ذكره، تعرَّف إلى خلقه بإيجاد ما أوجد من بريته، وصنع ودبَّر بمشيئته، ثم أوصل إليهم العلم لربوبيته، بما أظهر لهم من أعاجيب فطرته، وشواهد صنعه، وآياته.
باب الدلالة على الله عز وجل
__________
(1) في المخطوط: الغيوب. ولعل الصواب ما أثبت.
(2) في (ب): فأقر.
(3) في (ب): وأخلف.
(4) سقط من (أ): يا أخي.
إن سأل سائل مسترشد، أو قال قائل ملحد: ما الدليل على الله رب العالمين؟ (1/130)
قيل له ولا قوة إلا بالله: اعلم أيها السائل أنا نظرنا إلى (1) الإنسان، فإذا هو أقرب الأدلة على (2) نفسه، فلم يخل عندنا من أحد ستة أوجه لا سابع لها:
إما أن يكون خلق نفسه.
وإما أن يكون قديماً لم يزل.
وإما أن يكون حدث لعلة من العلل.
وإما أن يكون هملا رسلا لا من علة ولا من خالق.
وإما أن يكون متولدا لم يزل نطفة من إنسان وإنسانا من نطفة، إلى ما لا نهاية له ولا أصل، ولا غاية ولا أول.
وإما أن يكون من خالق محدِث قديم، حي قيوم (3).
فإن قلت: إنه قديم لم يزل، فهذا محال، لأنا وجدناه بعد العدم.
وإن قلت: إنه أحدث نفسه، فهذا محال، لأنا وجدناه في حال كماله وبلوغه وحياته عاجزاً عن تحسين القبيح من صورته، فعلمناه في حال نطوفيته وموته وغفلته ونقصانه وقلته، أعجز وأضعف، لأنه إذا عجز في حال الكمال، فهو في حال الضعف أحرى بالعجز.
وإن قلت: إنه حدث من علة من العلل، فهذا محال، لأن العلة لا تخلو في حال إحداثها من أحد (4) وجهين:
إما أن تكون مواتا.
وإما أن تكون جسماً حيوانا.
فإن كانت حيوانا فيستحيل تدبير الحيوان مثله، إذ الحيوان مصنوع عاجز عن الصنع ممنوع (5)، وإن كانت العلة مواتا فيستحيل أن يصنع الموات إنسانا محكماً مدبراً، متقنا مصورا ً، حكيما عالماً، إذ الموات لا يعني (6) نفسه، فضلا عن فعل الحكمة البالغة، والنعمة السابغة.
__________
(1) سقط من (أ): إلى.
(2) في (ب): إلى.
(3) في (أ): قويم.
(4) سقط من (أ): أحد.
(5) في (ب): مصنوع. مصحفة.
(6) في (أ): ينفي.
وإن قلت: إنه حدث بالتولد نطفة من إنسان، وإنساناً من نطفة، إلى ما لا نهاية، ولا أصل ولا بُدي، ولم يزل شيئا من شيء، فهذا محال، لأنك قد أقررت بما شاهدت من حدثه، ثم نقضت يقينك بالظن الكاذب، فقلت: لا أصل للمحدث ولا بديء، وهذا المحدث لم يزل شيئا من شيء (1)، فقولك: محدث يقين، وقولك: قديم ظن. (1/131)
ودليل آخر
أنا نجد في هذا المحدث آثار الحكمة بعد عدمها، ويستحيل أن تكون الحكمة الحاثة قديمة أزلية.
ودليل آخر
أنا نظرنا الخلق فإذا هو قد أُكمل وأحكم، وأُنعم عليه وأكرم، فعلمنا أن الإحكام والإكمال لا يكون إلا من مكمل محكم، وأن الكرامة والنعمة لا تكونان إلى من مكرِم منعِم.
ودليل آخر
أنا وجدنا الإنسان فرعاً، ولا بد لكل فرع من أصل، ويستحيل فرع من غير أصل.
ودليل آخر
أنا وجدنا الإنسان ينتسب إلى ذكور وإناث، فإذا أصله على قسمين، وللقسمين نهاية وغاية.
ودليل آخر
يدل على الأصل والفرع من الجدود، أن الموت وقع عليهم، فلم يخل من أحد ثلاثة أوجه:
إما أن يكون وقع على جميع آبائه الأول منهم والآخر.
وإما أن يكون وقع على بعضهم.
وإما أن يكون لم يقع على أول منهم ولا آخر.
فإن قلت: لم يقع على أحد، فأَوجِدْنا جميع جدودك الأحياء الأولين.
وإن قلت: بل وقع على بعضهم، فأَوجِدْنا الأوائل الباقين أهل القدم منهم.
وإن قلت: بل وقع على أولهم قبل وقوعه على آخرهم، فهذا يدل على أن الإنسان قد وقع عليه الموت.
ودليل آخر
لما وجدنا الإنسان فرعا حيا (2)، والجدود أصولا أمواتاً، لم يخل الموت من أن يكون وقع على الأصل كله، أو لم يقع، فلا يجد بيدا من أن يقول: بل وقع على كل ذكر وأُنثى من الجدود والجدات، وفي إقراره ما كفى إن أنصف عقله.
ودليل آخر
إن قال: ما أنكرتم من أن يكون لم يمت أموات (3) من هذه الأصول، إلا وقبلها أموات إلى ما لا نهاية له (4)؟
__________
(1) سقط من (أ): من شيء.
(2) سقط من (أ): حيا.
(3) سقط من (أ): أموات.
(4) سقط من (أ): له.
قيل له ولا قوة إلا بالله: أوليس قد تقدم فيما مضى من كلامنا أن قولك هذا محال، لأنه ظنٌ، وحدوث الحكمة والنعمة والرحمة يدل على المحدث الحكيم، المنعم الرحمن (1) الرحيم بأيقن اليقين، وقبول العقول أولى من قبول الظن. (1/132)
ودليل آخر
أنا قد بينا لك أيضا أن قولك متناقض فاسد، لأنك أقررت بالحدث!! ثم نقضت ذلك بقولك: قديم، والمحدث لا يكون قديما كما لا يكون القديم محدثاً.
دليل آخر
لا يخلو قولك لا نهاية للأموات من أحد ثلاثة أوجه:
إما أن تكون عنيت جميع الأموات.
وإما أن تكون عنيت بعضهم.
وإما أن تكون ظننت ذلك ظنا وتوهما، فإن كنت ظننت ذلك ظنا، فاليقين أولى بالإتباع من الظن، والحق أولى بالتصديق من الباطل، والتعلق بالخيرة أولى من المقام في الحيرة (2)، وإن كنت أردت بقولك: لا نهاية تريد بعضهم، فهذا محال، إذ لا فرق بين أولهم وآخرهم في وقوع الموت عليهم، وانقطاع آجال جميعهم، وتصرم الكل منهم، وإن كنت عنيت بقولك: لا نهاية له(3) جميع الأموات، فهذا محال، لأن الموت وقع على الكل، وللكل نهاية وغاية.
ألا ترى أن الموت قد حوى الجميع ولم (4) يغادر منهم أحدا، ولم يقع الموت على الفرع حتى تضمن أصله، لأنه لم يُفنِ الفرع حتى أفنى الأصل قبله، ولم يفن بعض الأصل بل أفنى كله.
وإن قلت: إنه حدث من غير محدِث، ولا من علة هملا رسلا، فهذا من أحول المحال، وأبطل الباطل وأفسد المقال، لأنه إذا حدث من غير علة ولا محدِث، لم يخل من أن يكون حدث من العدم، أو من نفسه!!
فإن قلت: إنه حدث بإحداثه لنفسه فهذا محال، لما قدمنا من فساد ذلك.
__________
(1) سقط من (أ): الرحمن.
(2) في (أ): التعليق بالخير أولا من المقام في الخير.
(3) سقط من (أ): له.
(4) في (ب): فلم.
وإن قلت: إنه حدث من العدم فهذا محال بيِّن الفساد، لأن العدم لا يوصف بالإيجاد، ولأن (1) العدم لا شيء، والفاعل لا يكون إلا موجودا مدبِّرا، حكيما مقدرا، لأن قولك: لا شيء (2) يحدث شيئا نفي للمحدَث والمحدِث، لأن لا شيء عدم، والشيء وجود، والعدم ليس بعامد ولا معمود، ولا شيء سوى اللفظ مقصود، وإنما قولنا: عدم، نريد النفي بهذا الاسم، وإذا كان هذا المحدَث عدما قبل حدوثه، فالعدم لا شيء، ولا شيء لا يكون شيئاً بغير شيء، لأنك إذا قلت: معدوم يقوم (3) بمعدوم، نفيت الجميع، إذ كله باطل محال، وعبث من صاحب المقال، وإلا فما الذي (4) جعل وجود المعدوم أولى من عدمه؟! وما جعل حدوثه أولى من تركه؟! (1/133)
فإن قلت: إن ذلك من أجل أنه متروك فالمتروك متروك.
وإن قلت: من غير الترك، فذلك الفاعل، الحكيم الجاعل، المتفضل بالتكوين، الخالق بغير معين، الرحمن الرحيم، العليم الحكيم، الواحد الأحد، المفرد (5) الصمد، الذي لا إله سواه، ولا أمد حواه، ولا عين تراه، ولا له مثل (6) ولا نظير، ولا وزير ولا نصير، ولا شريك ولا مشير، إلاهنا وسيدنا، وحبيبنا ومعتمدنا، وربنا وخالقنا، ومنشئنا ورازقنا، من لا تُحصى آياته، ولا تنقطع دلالته، ولا تعد نعمه، ولا يتناقض علمه، ولا يستجهل حلمه، ولا يدركه نظر، ولا يحويه قُطْر، ولا يكتنهه ضمير، ولا يحده مصير، ولا يعجزه تدبير.
ودليل آخر
لو حدث لعلة لم تخل تلك العلة من أحد وجهين:
إما أن تكون جسما.
وإما أن تكون عرضا.
فإن كانت جسما فالجسم محدَث ضعيف عاجز، وإن كانت العلة (7) عرضا فالعرض أعجز من الجسم، لأنه لا يوجد إلا بوجود الجسم، ولا يقوم إلا بقوام الجرم، وما لم ينفك من الجسم ولم يكن قبله، فهو بغير شك في الحدوث مثله، وذلك أن الجسم لا يخلو من أحد وجهين:
__________
(1) في (أ): لأن.
(2) سقط من (أ): شيء.
(3) في (أ): بعدم.
(4) سقط من (ب): الذي.
(5) في (أ): المتفرد.
(6) في (ب): مثيل.
(7) سقط من (ب): العلة.
إما أن يكون ساكنا. (1/134)
وإما أن يكون متحركا، وأي المعنيين كان فيه فهو يدل على حدثه (1)، لأنه إن كان ساكنا فسكونه (2) على ضربين:
سكون ماض، وسكون مستقبل.
فالسكون الماضي يدل على مبتداه، والسكون المستقبل فقد ناهاه، لأن ما مضى من السكون له آخر، وما كان له آخر فله أول، ويستحيل آخر بلا أول، لأن آخر السكون هو أقل قليل الأوقات، وما مضى منه فهو أوله الكثير، وذلك السكون الماضي الذي هو بزعمهم قديم لا يخلو من أن يكون عَدِمَ كله أو لم (3) يعدم، فإن قالوا: إنه غير معدوم فهذا محال، لأنه قد سكن من الدهور والأزمان ما لا يحصى من ألوف السنين، والألوف فقد عدمت، ولم يعدم آخرها إلا بعد عدم أولها، وإذا صح عدم الجميع فقد صح تناهي السكون الماضي، لأن العدم قد وقع على أوله وآخره، وإذا صح أن له أولا فقد بطل قدمه وثبت حدثه (4)، وإذا بطل قدمه وثبت حدثه (5)، فقد صح حدث الجسم، إذ لم يسبقه ولم يتقدمه.
ودليل آخر
قالوا لما نظرنا إلى الجبل ساكنا غير زائل، علمنا أنه لم يسكن وقتا إلا وقبل الوقت وقت إلا ما لا نهاية له ولا غاية (6)، وهذا محال بيِّن الإحالة عند من عقل، لأن سكون الجبل على قسمين:
قسم قليل.
وقسم كثير.
فالقسم القليل موجود وهو المستقبل، لأنك إذا نظرت سكونه انتظرت أن يسكن بالمشاهد أقل مما سكن قبل ذلك فيما مضى من الدهور، لأنه قد سكن فيما مضى ألوف سنين (7) لا تحصى، فأنت قد شاهدته لأنه موجود، ولم تشاهد الألوف لأنها قد (8) عدمت كلها، وذهب أولها وآخرها، وللكل نهاية وغاية، وإذا صح تناهي السكون وانقطاعه، وعدم آخر السنين بعد عدم ما قبلها، فهو على ضربين معدومين:
سكون قبل سكون.
وسكون بعد سكون.
__________
(1) في (ب): حدوثه.
(2) في (ب): كان سكونه.
(3) في (أ): كله لم.
(4) في (ب): حدوثه.
(5) في (ب): حدوثه.
(6) سقط من (أ): ولا غاية.
(7) في (ب): وسنين.
(8) سقط من (أ): قد.
وكل (1) ذلك قد مضى، وتضمنه العدم والفناء، وما صحت نهايته وعدم أوله وآخره فله أول معدوم، وما كان له أول فهو محدَث، وإذا صح حدث (2) سكون الجبل فالجبل محدَث، إذ لم يسبق سكونه بزعمهم. (1/135)
ودليل آخر
إذا صح أن سكون الجبل أولا قد عدم، لم يخل ذلك السكون الأول من أن يكون قليلا أو كثيرا، فإن كان قليلا فأقل السكون بعض ساعة، وإن كان كثيرا فالكثير من السكون لا يكثر إلا بعد قلته، ولا يزيد إلا بعد نقصانه، ولا يوجد إلا بعد عدمه، ولا يوجد آخره إلا بعد عدم أوله، وأوله (3) أقل القليل.
ودليل آخر
إذا كان الكثير من سكون الجبل لا يوجد إلا بعد العدم، فالقليل أحرى بأن لا يوجد إلا بعد العدم (4)، وإذا عدم جميع ما مضى منه فالعدم قد وقع على الكل، والفناء قد تضمنه وحوى أوله قبل أن يحوي آخره، وإذا حوى الآخر الكثير، لم يكن ذلك إلا بعد أن مضى على الأول اليسير.
ودليل آخر
إذا قلت: لا أول لسكون الجبل، سألناك هل له آخر؟!
فإن قلت: ليس له آخر، جحدت الجميع.
وإن قلت: بل له آخر بلا أول. سألناك هل قبل الآخر سكون أم لا؟!
فإن قلت: ليس قبله سكون أوجبت حدثه.
وإن قلت: بل (5) قبله سكون. سألناك أهو موجود أو معدوم؟!
فإن قلت: موجود، أَحَلْتَ، لأنك لا تجد سكونه ألوف السنين (6) في ساعة واحدة.
وإن قلت: بل هو معدوم أوجبت عدم الجميع.
ودليل آخر
إذا قلت: لا نهاية للمعدوم. سألناك هل عدم كله أو (7) بعضه؟!
فإن قلت: لا كله ولا بعضه، جحدته ونفيته.
وإن قلت: عدم بعضه. سألناك أين الباقي من ما مضى من ألوفه؟!
ودليل آخر
__________
(1) سقط من (ب): وكل.
(2) سقط من (أ): حدث.
(3) سقط من (ب): وأوله.
(4) سقط من (أ): فالقليل أحرى بأن لا يوجد إلا بعد العدم.
(5) سقط من (أ): بل.
(6) في (أ): سنين.
(7) في (ب): أم.
إذا قلت: لم يعدم من سكون الجبل شيء، إلا وقد عدم قبله شيء إلى ما لا نهاية له. سألناك أتريد بقولك: لا نهاية له الكل من المعدومات، أم البعض أم لم ترد كلا ولا بعضا؟! (1/136)
فإن قلت: لم أرد كلا ولا بعضا جحدته، وأبطلت ما بالقدم وصفته.
وإن قلت: بل (1) عنيت وأردت (بعضه، فالبعض قسم محدود متناهي.
وإن قلت: بل عنيت وأردت) (2) وذكرت بالقدم وقصدت الكل من المعدوم، فقد ناقضت قولك عند أهل العقول، لأن الكل المعدوم قد تضمنه العدم، فلم يغادر منه طرفة عين ولا وَهْمٌ.
ودليل آخر
إذا قلت: إن العدم قد وقع على الماضي من سكون الجبل كله، لم يخل هذا السكون المعدوم من أن يكون وجد جملة واحدة معا في ساعة واحدة، أو وجد كثيره بعد قليله، وآخره بعد أوله، أو وجد قليله بعد كثيره، أو لم يوجد أي ذلك.
(فإن قلت: لم يوجد شيء مما ذكرت، جحدت ما لا ينجحد وما لا ينكره ممن عقل أحد) (3).
وإن قلت: بل وجد قليله قبل (4) كثيره، وكثيره بعد قليله، أصبت وجعلته عددا (5) معدودا، متناهيا محدودا، والعدد القليل والكثير لا يوجد الآخر منه إلا بعد الأول، ولا الاثنان إلا بعد الواحد، وذلك يدل على سبق قليله لكثيره (6)، إذ لا توجد ساعة إلا بعد عدمها (7)، ولا تكثر إلا بعد قلتها.
وإن قلت: بل وجد جميع ما مضى في ساعة واحدة، أقررت بحدثه وأَحَلْتَ، لأن الماضي من زمان ساعات لا تحصى، ويستحيل أن تكون (8) الأزمان الكثيرة ساعة يسيرة، بل إذا صح أن العدم وقع على الكل صح منتهاه، إذ (9) حده العدم وحواه، وتضمنه وغاياه، وأبطل الجميع وناهاه.
__________
(1) سقط من (ب): بل.
(2) سقط من (أ): ما بين القوسين.
(3) سقط من (أ): ما بين القوسين.
(4) في (أ): بعد.
(5) في (ب): عدما.
(6) في (ب): لا كثيره.
(7) في (أ): نقصانها.
(8) سقط من (ب): من زمان ساعات لا تحصى، ويستحيل أن تكون.
(9) في (ب): إذا.
وإذا ثبت في المعقول أن سكون هذا الجسم لا يكون إلا شيئا بعد شيء، ولا يسكن كثيرا إلا بعد سكونه يسيرا، صح ما قلنا به من مبتدأ السكون، وصح بصحته مبتدأ حدوث الجسم، إذ لم ينفك من هذا الحادث ولم يسبقه. (1/137)
فإن قال: وما أنكرت من أن يكون تحرك قبل ذلك السكون بحركة لا نهاية لها؟!
قيل ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك، لأنه إذا تحرك قبل السكون، فسبيل الحركة سبيل السكون في الحدث.
ودليل آخر
إذا كان للحركة (1) آخر ومنقطع، فلها أول ومبتدع، وذلك أن آخر الحركة التي قطعها السكون أقل القليل، وقد كان قبلها (2) بزعمك أكثر الكثير، فخبِّرني عن هذا الكثير، أعَدِمَ كله أم بعضه، أم لم يعدم منه كل ولا بعض؟!
فإن قلت: لم يعدم أَحَلْتَ.
وإن قلت: بل عدم بعضه أحلت، لأن الحركة لا يوجد منها شيء بعد السكون.
وإن قلت: بل عدم الكثير كله، ففي قولك: عدم الكل ما كفى، وللكل أبعاض لم يوجد أحد منها إلا بعد وجود أول، ولا يوجد (3) كثير منها إلا بعد وجود قليل.
ودليل آخر
إذا قلت: إن قبل كل حركة سكونا وقبل كل (4) سكونه حركة إلى ما لا نهاية له، سألناك هل تعني بقولك: لا نهاية له، كل ما مضى وعدم منهما، أم تريد بعض ذلك، أم لا تريد أيهما؟! فلا تجد مخرجا مما ذكرنا.
__________
(1) في (ب): ليحركه.
(2) سقط من (أ): قبلها.
(3) في (أ): وجد.
(4) سقط من (أ): كل. في الموضعين.
قال المهدي لدين الله الحسين بن القاسم صلوات الله عليه: إذا لم يكن الجسم كائنا ما كان من الأشياء، لم (1) ينفك من هذين الحالين، فهو محدث بأبين البيان، وإذا كانت الأعراض لا توجد إلا في الأجسام، وكان محالا أن توجد (2) قبلها، فسبيلها في الحدث سبيلها، لأنا نفينا أن تكون علة كون الإنسان وغيره من الحيوان جسما (3) أو عرضا، لأنهما محدثان، فلما بطل أن يكون علة كون الإنسان وغيره من الحيوان جسما أو عرضا أو عدما، صح أن له صانعا قديما، وهو الله رب العالمين. (1/138)
- - -
باب الدلالة على صنع الله في الحيوانات
إن (4) سأل سائل فقال: أخبروني (5) ما الدليل على الله عز وجل؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: اعلم أيها السائل أن أقرب الأدلة إلى الإنسان نفسه، وذلك أنا نجد الإنسان بعد عدمه، فنعلم أن له موجدا أوجده بعد عدمه، ثم يجد في نفسه حكمة ويجد عليه نعمة، ولا تكون الحكمة إلا من حكيم، ولا النعمة إلا من منعم كريم.
فإن قال: وما الحكمة التي في الإنسان، وما النعمة التي عليه؟
__________
(1) سقط من (ب): لم.
(2) في (أ): محال أن تكون.
(3) في (ب): كون الأشياء جسما.
(4) في (أ): قال الإمام المهدي لدين الله الحسين بن القاسم صلوات الله عليه: إن...
(5) في (ب): أخبرني.
قيل له ولا قوة إلا بالله: أما الحكمة التي فيه فالصنع الذي لا يكون إلا من صانع حكيم. وأما النعمة فالرزق المبسوط الذي (1) لا يصح إلا من رازق كريم، وذلك أنا نظرنا الإنسان فإذا هو نطفة من ماء مهين، ميت قليل حقير، غير سميع ولا بصير، ثم وجدناه بعد ذلك إنسانا حيا حكيما مدبرا سميعا بصيرا موصلا مفصلا، قد جعل كل معنى منه لمعنى، ولا يجعل المعنى للمعنى (2) إلا عالم بما صنع وبنى، فأول ما نظرنا منه تكثيره بعد قلته، وقوته بعد ضعفه، وحياته بعد موته، وعلمه بعد جهله، فعلمنا بيقين أن هذه نعم محكمة لا تكون إلا من حكيم عليم، وتدبير لا يكون إلا من مدبر قديم، ورحمة لا تكون إلا من رحيم. (1/139)
__________
(1) في (ب): التي لا تصح.
(2) سقط من (ب): المعنى للمعنى. وترك مكانها فراغا.
والدليل على ما ذكرنا من العلم (1) والحكمة والرحمة، أن الرحمة هي الفضل (2) والنعمة. وأن الكرم هو البسط للمنافع عند الحاجة والفاقة، وإن (3) ذلك لا يكون إلا من عالم حكيم، لأنه لم يعط عبيده ما أعطاهم إلا لعلمه بفاقتهم، ولم يتكرم عليهم بإيجادهم إلا لإتمام الحكمة في خلقهم، ولم ينعم عليهم إلا تفضلا برزقهم، وذلك أنا نظرنا إلى ما جعل فيهم من الحياة بعد موتهم، فعلمنا أن الحياة من أكثر النعم، وأعظم الفضل وأكمل الكرم. ثم نظرنا إلى ما جعل فيهم من المفاصل المفصلة التي لا يصلح التدبير ولا يتم إلا بها، فجعل المفاصل للحركة والمسير، والقيام والقعود، والإقبال والإدبار، ولم يكن ذلك ليتم إلا بما جعل من الأبصار، المضيئة المنيرة في الليل والنهار، الهادية في البر والبحار، ولولا تلك النواظر لما تم التدبير، ولكان العمى من أعظم المهالك والتدمير، ثم جعل الألسن الناطقة، وجعل الأسماع الواعية، وجعل العقول المميزة، التي لولا هي لهلك المخلوق، فجعلها لاجتلاب المنافع ونفي المضار، ومعرفة الخيرات والسرور، واستخراج عجائب الأمور. (1/140)
__________
(1) في (ب): العلة.
(2) في (ب): القصد. مصحفة.
(3) في (ب): إن.
ثم ركب الأجساد على النعم واللذات، والمعايش المقرونة بالحياة، من الأرزاق المبسوطة، المنزلة المجعولة (1)، التي لا قوام لهم إلا بها، ولا غنى لهم أبدا عنها، وعلم أن تلك الأغذية لا تتم إلا بالوصول إلى أجسادهم، ومباشرة بطونهم وأكبادهم، فجعل لها مداخل اضطرهم إليها، وبناهم بناء عليها، وعلم أنه إن لم يجعل لذلك الغذاء مخارج قبل كونه في بطونهم، وإلا هلكوا ودمروا، ولم ينموا ولم يكثروا، فقدم ذلك وجعله، وركبه وفعله، لعلمه بفاقتهم إليه، فركبهم وبناهم عليه،رحمة منه لهم، وتفضلا عليهم، وعلم عز وجل أنهم لا ينمون ولا يكثرون إلا بما جعل من(2) الإناث والذكور، وما في تناسلهم من التدبير، وعجيب الصنع والتقدير، فجعل منهم إناثا وذكورا، ليكون للنسل أصولا، وصنعا عجيبا جليلا (3)، فجعل في الذكور والإناث، من الشهوة ما يكون سببا للإحداث، وجعل لذلك أماكن(4) غير مشتبهة يصلح بعضها لبعض، بتقدير الحكيم، المدبر الحي العليم، وجعل في تلك الأماكن مسالك لنطف الذكور، إلى أماكن الحكمة والتصوير، فانفصل (5) من الأصلاب إلى الأرحام، بتدبير ذي الجلال والإكرام، نطف أقرها الله بقدرته، وأثبتها بمشيئته، إلى أجل معلوم، ووقت من الأوقات مفهوم، ثم أخرج تلك النطف بعد نطوفيتها (6) وموتها أطفالا صغارا، قد شق لهم أسماعا وأبصارا، وأخرجهم سبحانه من بطون أمهاتهم لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، ولا يقدرون للآفات والمضار دفعا ولا منعا، ولا يعقلون بصرا ولا سمعا، ولا يهتدون سبيلا، ولا يملكون عقولا، وعلم عز وجل أنهم لا يقومون، ولا يحيون ولا ينمون، إلا بما ركبهم عليه من الأغذية واللذات، وقوامه الأجساد المجسمات، وأنهم يضعفون بصغرهم(7) (1/141)
__________
(1) سقط من (ب): المجعولة. وترك مكانها فراغا.
(2) في (أ): في.
(3) سقط من (ب): جليلا.
(4) في (أ): أماكنا.
(5) في (أ): فالفصل. مصحفة.
(6) في (أ): به أخرج... وفي (ب): ثم أخرج تلك النطف بعد توقيتها.
(7) في (ب): بعصرهم. مصحفة.
عن المآكل التي لا تصلح للأطفال، فجعل لهم قبل كونهم أغذية في أجساد أمهاتهم، لعلمه بضعفهم وفاقتهم، وجعل في قلوبهن رحمة بهم فأحياهم بذلك وقواهم، وكفلهم به وأغناهم، وأنبتهم به وأنماهم، وأنعم عليهم (1) بذلك وغذاهم، وشد أسرهم وقواهم، وأعطاهم العقول فهداهم، ثم أمرهم ونهاهم، بعد أن بصَّرهم هداهم. (1/142)
فأي عجيب أعجب مما ذكرنا؟! وأي حكمة أكمل مما به قلنا؟! وأي نعمة أسبغ؟! أو أي حجة أبلغ؟! مما ذكرنا من صنع ربنا وخالقنا، وإلهنا ورازقنا، فبينما نحن نطف حقيرة أموات إذ نحن على غاية الكمال، من توصيل الأجساد والأوصال، والحياة بعد موتتنا، والتكثير بعد قلتنا، والعقول بعد غفلتنا، والحمد لله على ما امتن به علينا، وأسداه من النعم إلينا، ولا إله إلا هو جل جلاله، وظهرت نعمه وأفضاله، وسبحانه عن شبه المخلوقين، وتبارك عما يقول به العادلون، وينسب إليه الجاهلون، فلما نظرنا إلى هذه الحكمة البالغة، والنعمة السابغة، علمنا أن الحكمة صفة حكيم، لما فيها من بيان علم العليم، والصفة لا تكون إلا لموصوف، فمن هنا صح ما به قلنا.
ودليل آخر
إما أن يكون العقل شاهدا على أن في هذه الحيوانات حكمة.
وإما أن يكون شاهدا على أنه ليس فيها حكمة.
__________
(1) سقط من (أ): عليهم.
فإن قلت: إن العقل شهد على أن ليس فيها حكمة، فهذا من أكبر المحال، وأقبح ما نُطق به من المقال، لأن كل حكمة موجودة ليس الأصل فيها إلا من الحيوان، وهو في نفسه وخلقه وعقله وتركيبه، أحكم من فعله وقوله، وإن رجعت إلى الحق فقلت: بل في الحيوانات من الحكمة ما لا (1) أن ينكره عاقل، ولا يكابر فيه عالم ولا جاهل، لم يخل العقل من أن يكون شاهدا على أن هذه الحكمة من صفة حكيم، أو شاهدا على أنها من صفة جاهل موات غير عليم (2)، أو شاهدا على أنها من صفة معدوم، فهذا محال، لأنك جعلت للعدم صفة وهي الحكمة، فجعلت العدم حكيما، فأثبت موجودا والعدم لا شيء، ولا شيء لا يوصف بالحكمة ولا بالجهل!! ولا يوصف بالتدبير ولا العقل!! وأيضا فقد أوجبت الحق بإثباتك الصفة (3) إذ لا تكون الصفة إلا لموصوف، ثم نقضت قولك بإثباتك للمعدوم والعدم ليس بمجهول ولا معروف. (1/143)
وإن قلت: إن الحكمة من صفة موات جاهل، فهذا ما لا يقول به من الخلق عاقل، ولا يراه من الناس إلا غافل، لأن من صفة الموات الجهل، وبطلان الحكمة والعقل، وما كان من الأشياء جاهلا، وكان عن التدبير حائرا غافلا، لم يكن حكيما ولا عاقلا، وما كان بالموت والغفلة موصوفا، وكان بالعجز والجهل معروفا، فيستحيل أن يكون منه حكمة بالغة، ونعمة جليلة سابغة، لأن الحكمة هي الإحكام، والكرم والتفضل والإنعام، فإذا بطل أن يكون ذلك من العدم المعدوم، وبطل أن يكون من موات غير عليم، صح الوجه الثالث وهو الله العليم الحكيم.
ودليل آخر
إما أن تكون هذه الحكمة تولدت من طبائع قديمة حية مدبِّرة.
وإما أن تكون تولدت من طبائع محدثة مصنوعة مدبَّرة.
وإما أن تكون تولدت من العدم.
فإن قلت: إنها تولدت من العدم أوجبت أنها معدومة ونفيت وجودها، لأن العدم لا يوجب وجودا إذ هو غير موجود، ولا شيء سوى النفي مقصود.
__________
(1) في (أ): هو في الحيوانا ما لا.
(2) في (أ): عالم.
(3) سقط من (ب): الصفة.
وإن قلت: إن هذه الحكمة تولدت من طبائع محدثة، فالمحدِث لأولها هو المحدِث لآخرها، وفي هذا إثبات الخالق لها. (1/144)
وإن قلت: إن هذه الحكمة تولدت من طبائع قديمة ميتة، فهذا محال، لأنها لا تخلو من (1) أن تكون أوجدتها بعد العدم، أو هي كانت موجودة معها في حال العدم (2).
فإن قلت: إنها كانت قديمة معها، ثم انفصلت عنها، فهذا محال، لأنا قد بينا حدثها، وأوضحنا الدليل على حدوث فرعها وأصلها فيما تقدم من قولنا، وأيضاً فإن في (3) الحكمة آثار صنع العالم الحكيم.
وإن قلت: إن هذه الطبائع الميتة أوجدت الحكمة بعد العدم، فهذا محال، لأنها لا تخلو من أحد وجهين:
إما أن تكون أوجدتها بعلم.
وإما أن تكون أوجدتها بجهل.
فإن قلت: إنها أوجدتها بعلم فهذا محال، لأن الميت لا يعلم شيئا، ولا يكون العالم إلا حيا.
وإن قلت: إنها أوجدت الحكمة بجهل فهذا محال، لأن الجاهل الميت لا يعقل ولا يعي، ولا يحسن ولا يسيء (4)، ولا يحكم التدبير، ولا يبرم الأمور.
وإن قلت: إن هذه الحكمة حدثت من علل قديمة مدبِّرة، فهذه (5) صفة الخالق والخالق ليس يسمى عللا، وإنما هو الله الذي لا إله إلا هو العليم الحكيم.
ودليل آخر
أن العلل الميتة محدثة، لأن الموات ساكن، والساكن مقيم لابث، واللابث لا يخلو من أن يكون لبث وأقام وقتا طويلا، وأقام وقتا قليلا.
فإن قلت: إنه لبث وقتا قليلا، أوجبت حدثه من قليل من الأزمان.
__________
(1) سقط من (ب): من.
(2) في (ب): القدم.
(3) سقط من (ب): في.
(4) في (ب): ولا يغني، ولا يمس ولا شي. مصحفة.
(5) في (أ): فهذا هو.
وإن قلت: إنه مقيم لابث منذ وقت طويل قديم، فهذا محال أن يكون الوقت قديما، لأن الأوقات هي الأزمان والأزمان قد فنيت، ووقع الفناء على كل ما مضى منها فعدمت، ولم تعدم الأوقات والأزمان كلها إلا بعد حدوثها، ولم يعدم آخرها إلا بعد عدم أولها، وإذا كان للمقام والأوقات أول وآخر فقد صح حدث الجسم المقيم إذ لم ينفك من المقام والأوقات، وما لم ينفك من سكون الساعات، ولم يكن قبلها، فسبيله في الحدث سبيلها. (1/145)
إن قلت: إن الأجسام كانت قبل الزمان، سألناك أكانت متحركة أو ساكنة؟
فإن (1) قلت: لا متحركة ولا ساكنة جحدتها ونفيتها.
وإن قلت: إنها كانت قبل الزمان غير منفكة من حركة أو سكون، لم يخل من أن تكون تحركت أو سكنت قليلا أو كثيرا (2).
فإن قلت: إنها تحركت أو سكنت كثيرا، فالكثير أوقات، ودهور وأزمان وساعات، وفي ذلك إثبات ما قلنا به من أن الأجسام، لم تنفك مما ذكرنا من الأزمان.
وإن قلت: إنها تحركت أو سكنت أوقاتا قليلة، أوجبت أيضا أنها لم تنفك من قليل الأوقات، فكأنها لم تنفك من المحدثات، ولم تكن قبلها موجودات، وإذا لم تكن قبلها، ولم تتقدمها فهي محدثة معها، وإذا صح حدث الأجسام كلها، وصح حدث حركاتها وسكونها، لم تخل من أحد أربعة أوجه:
إما أن تكون أحدثت (أنفسها.
وإما أن تكون حدثت هملا.
وإما أن تكون حدثت من) (3) محدِث قديم.
فإن قلت: إنها أحدثت أنفسها، فهذا محال، لأنها كانت معدومة، فكيف تحدث أنفسها وهي غير موجودة، والفاعل لا يكون إلا موجودا غير معدوم(4).
وإن قلت: إنها حدثت لعلة، لم تخل العلة من أحد وجهين:
إما أن تكون جسما.
وإما أن تكون عرضا.
__________
(1) في (أ): وإن.
(2) في (ب): تحركت كثيرا وسكنت قليلا وكثيرا.
(3) سقط من (ب): ما بين القوسين.
(4) في (ب): والفاعل لا يكون معدوما.
وقد بينا حدوث الجسم والعرض (1)، ولو كانت المحدثات من محدثات، لكان في ذلك دليل على رب السماوات، إذ كل المحدثات لم تنفك قط من السكون والحركات، وإذا لم ينفك الكل من الحدث، صح بذلك الخالق المحدِث. (1/146)
ودليل آخر
لو كان (2) كل محدَث من محدَث لكان لذلك آخر، وما كان له آخر فله أول، وما كان له آخر وأول فقد صح حدث الجميع.
ودليل آخر
إذا كان للمحدثات آخر، لم يخل ما مضى من المحدثات من أن يكون الآن كله موجودا (3)، أو بعضه أو كله معدوما.
فإن قلت: عدم كله، أوجبت أنه عَدِمَ بعد حدوثه، وصح عدمه كله، بعد حدوثه (4) كله.
وإن قلت: بل عَدِمَ بعضه، جعلته على قسمين:
قسم قد عدم فناهاه العدم بعد حدوثه، وأفقده بعد وجوده.
وقسم حدث ثم هو الآن موجود كله.
وإن قلت: إنه الآن موجود كله، فقد ناهاه الوجود، وللكل نهاية وغاية.
ودليل آخر
إذا لم يكن شيء من الأشياء المحدثة كلها ينفك من الحركات (5) والسكون، فقد مضى للحركات والسكون أزمنة تضمنها الفناء، وفي ذلك من الكلام ما قد مضى، وفيه كفاية لمن اكتفى.
وإن قلت: إن الجمادات حدثت في البدء هملا لا من علة ولا من محدِث أَوجَبْتَ عدمها، لأنها إذا كانت عدما لم تخل من أن تكون وُجِدَت من قِبَل العدم أو وجدت لسبب.
فإن قلت: إنها وجدت للعدم فهذا محال، لأن العدم لا شيء، ولا (6) شيء لا يكون سببا للأشياء، لأن السبب لا يكون معدوما، لأن العدم نفي الأسباب.
وإن قلت: إنها حدثت لسبب، لم يخل ذلك السبب من أحد وجهين:
إما أن يكون قديما.
وإما أن يكون محدثا.
__________
(1) في (ب): والعرض، وإما أن تكون حدثت لعلة، وإما أن تكون حدثت هملا رسلا، وإما أن تكون حدثت من محدث قديم، ولو كانت زيادة مكررة.
(2) في (ب): المحدث، وذلك لو كان. مصحفة.
(3) في (ب): يكون الكل موجودا.
(4) في (ب): حدثه. في الموضعين.
(5) في (أ): الحركة.
(6) في (أ): فلا.
فإن قلت: إنه محدث فالمحدث مخلوق، وليس كلامنا إلا في المخلوق، لِمَ خلق وما سببه وما علته؟! (1/147)
وإن قلت: إن السبب الذي أوجد الخلق قديم أصبت، وعرفت الخالق ورشدت (1).
ودليل آخر
لا تعدو هذه الحكمة التي قدمنا ذكرها من أحد وجهين لا ثالث لهما:
إما أن تكون حكمة قديمة.
وإما أن تكون حكمة محدثة.
فإن قلت: إنها قديمة، فهذا محال، لأنا قد بينا حدثها.
وإن قلت: إنها محدثة، لم تخل من أن تكون حدثت بإحداث الحكيم أو بالإهمال.
فإن قلت: حدثت بالإهمال فهذا من أكبر المحال، لأن الهمل هو العدم، والعدم لا يوجب كون الحكمة ولا غيرها.
وإن قلت: بل حدثت بإحداث الحكيم، صدقت وكان ذلك كما ذكرت.
ودليل آخر
إما أن تكون عنيتَ بقولك: الحكمة قديمة تريد قدم سببها الموجب لها.
وإما أن تكون أردتها هي بالقدم في نفسها، فهذا باطل لما قدمنا من الدليل على حدثها، وإن كنت تريد سببها الذي أوجدها، فلعمري إن سببها قديم وهو خالقها وربها.
ودليل آخر
لم يختلف أحد في حدث ظهور تمام هذه الحكمة، وإنما اختلف في سببها أصلها وكيفية ظهورها (2) وبيانها، فأجمع الكل أن سببها شيء قديم، ثم اختلفوا فقال بعضهم: طبع موات، وقال بعضهم: رب حي، ففسد قول الملحدين، الكفار الملاعين، لأن الموات لا يكون سببا للحياة (3) وللحيوانات، وفسد قولهم أيضا لأن الموات ليس بحكيم والحكمة صفة للحكيم، كما أن العلم صفة للعليم (4)، وفسد قولهم أيضا لأن الموات محدَث كسائر المحدثات، وفسد قولهم أيضا لأن الجود صفة جواد، والموات لا يعي ولا يعقل، فكيف إلى أن يجود ويتكرم، والكرم والجود لا يكونان إلا من كريم، متفضل رحيم.
ودليل آخر
__________
(1) في (أ): أصبت ورشدت وعرفت الخالق.
(2) في (ب): وكيفيتها وظهورها.
(3) سقط من (أ): للحياة.
(4) سقط من (أ): للحكيم، كما أن العلم صفة. وفي (ب): كما أن العلم صفة حكم صفة للحكيم كما أن العلم صفة العليم. وما أثبت اجتهاد.
إنما سميت الحكمة: حكمة، لأنها محكمة، والمحكم (1) فهو المتقن المبرم، والإتقان والإبرام فلا يكونان إلا بعلم وإحكام، والعلم والإحكام لا يكونان إلا من الحكيم العلام (2)، والنعمة لا تكون إلا من العالم (3)، لعلمه بفاقة المحكَم إلى الإحكام، ولا يبرم المبرمات إلا عالم بحاجتها إلى الإبرام، وذلك كله فلا يكون إلا من ذي الجلال والإكرام. (1/148)
ودليل آخر
لا بد أن تضاف هذه الحكمة إلى حكيم، أو تضاف إلى غير حكيم، فأيهما شهد بجوازه العقل جاز، فالعقل يشهد بالجواز أن تضاف إلى الحكيم، ولا يجوز في العقل أن تضاف الحكمة إلى غير حكيم.
ودليل آخر
لا بد أن تضاف هذه الحكمة إلى موات محدَث أو إلى (4) قديم حي محدِث، فالعقل يشهد (5) بإضافتها إلى القديم المحدِث الحي، ولا يشهد بإضافتها(6) إلى الميت المحدَث أصلا.
ودليل آخر
إما أن تكون هذه الحكمة أحكمت، وبسطت النعمة وأنعمت، بعلم الحي أو بجهل الميت.
فإن قلت: بالجهل فالجهل لا يوجب خيرا.
وإن قلت: بالعلم فالعلم صفة عالم.
ودليل آخر
إما أن تكون هذه الحكمة تمت بفعل قادر حي.
وإما أن تكون تمت بفعل ميت عاجز.
فإن قلت: بفعل الميت العاجز (7)، فالموت والعجز لا يتمان خيرا.
وإن قلت: بل بفعل قادر حي صدقت، لأن الفعل لا يتم إلا من الحي القادر.
ودليل آخر
إما أن يكون التوصيل والتفصيل من فعلِ موصِّل مفصِّل.
وإما أن يكون من فعل ميت غافل، فالميت الغافل لا يوجب توصيل أوصال، ولا تفصيل مفاصل.
ودليل آخر
إما أن يكون جعل الشيء لمصلحة الشيء من فعل مصلِح فاعل (8).
__________
(1) في (أ): والحكيم. مصحفة.
(2) في (ب): العليم.
(3) في (أ): المنعام. مصحفة.
(4) في (أ): وإلى.
(5) في (أ): شهد.
(6) سقط من (ب): بإضافتها.
(7) سقط من (ب): فإن قلت: بفعل الميت العاجز.
(8) في (ب): قادر.
وإما أن يكون من فعل ميت غافل، فالعقل يشهد أن الإصلاح من المصلح (1) الجاعل. (1/149)
ودليل آخر
إما أن يكون الرزق للمرزوقين من الميت الغافل.
وإما أن يكون من العالم الحي الرازق، فالعقل يشهد أن الرزق لا يكون إلا من الرازق الخالق، ويستحيل أن يكون ذلك من غير خالق.
ودليل آخر
إما أن يكون الفصل من الميت.
وإما أن يكون من حي فاضل، فالعقل يشهد أن الموات ليس بفاصل.
ودليل آخر
إما أن يكون الهدى من هاد.
وإما أن يكون من ميت، فالعقل يشهد أن الميت ليس بهاد ولا مرشد ولا راشد، ولا هدى أهدى من العقول المركبة في كل عاقل.
ودليل آخر
إما أن يكون التفهيم من مفهِم.
وإما أن يكون من موات، فالموات لا يفهم فكيف إلى أن يفهم وليس بفاهم؟!
ودليل آخر
إما أن يكون التعليم من ميت جاهل.
وإما أن يكون من حي عالم، وقد وجدنا هذه الحيوانات معلَّمة للخيرات، ملهَمة لنفي المهلكات، فالعقل يشهد أن التعليم حادث، وأنه من معلِّم عليم، إذ العقل يشهد أن التعليم من صفة عالم، ويشهد أن التعليم لا يكون من فعل جاهل ميت غافل، وإن كان التعليم من غير عالم وكان من جاهل(2)، فهذا العدم بعينه، والعدم لا يوجب شيئا.
ودليل آخر
أنا نظرنا إلى جميع الحيوانات فإذا هي مهدية إلى كفالة أولادها، وإلى طلب مناكحها ومآكلها ومشاربها ومنافعها ومساكنها ومصالحها، مفهَمة للنفور (3) عن مضارها ومهالكها، فعلمنا أن الهداية هي الدلالة، والدلالة (4) لا تخلو من أن تكون من عالم حي، أو من طبع(5) ميت، فالعقل يشهد أن الدليل لا يكون ميتا، ويشهد أن الهادي لا يكون (6) جاهلا.
ودليل آخر
__________
(1) في (ب): فالعقل لا يشهد أن الإصلاح لا يكون إلا من المصلح. مصحفة.
(2) في (أ): من غير جاهل.
(3) في (أ): للتقوى. مصحفة.
(4) في (أ): الأدلة، والأدلة. مصحفة.
(5) في (أ): من علم حي، أو من صنع. مصحفة.
(6) سقط من (ب): لا يكون ميتا، ويشهد أن الهادي.
إما أن تكون هذه العقول المركبة الدالة من مركِّب دآل. (1/150)
وإما أن تكون من ميت، فالعقل يشهد أن الميت لا يدل على خير ولا شر، ويشهد أن العقل من أَجَلِّ العلوم، والعلم لا يكون من فعل الموات (1)، والعقل يشهد أن العلم من فعل عالم.
فإن قلت: إن هذا العلم الحادث في الصدور، المحيط بجميع الأمور، المميز بين الخيرات والشرور، من فعل طبع ميت، فالعقل يشهد أن الميت لا يصنع العلم.
وإن قلت: إنه من فعل لا شيء ناقضت قولك، لأن لا شيء لا (2) يصنع علما ولا جهلا، لأن لا شيء عدم، والعدم ليس بجاهل ولا عالم، ولا حي ولا ميت، وإنما هو نفي والنفي فهو كلامنا ونفينا.
وإن قلت: بل هو من فعل عالم صدقت، وكان ذلك ضرورة كما ذكرت.
وإن قلت: إن هذا العلم لا من حي ولا من ميت، ولا من شيء أصلاً، لم تخل من أن تكون أوجبت بهذا القول عدمه أو قدمه، فإن كنت أوجبت عدمه أكذبك وجوده؟! وإن كنت أردت قدمه أكذبك حدثه.
ودليل آخر
إن كنت تريد بهذا القول نفي الخالق، فكيف يثبت الخلق بغير خالق؟!!
فإن قلت: من أجل أن الخلق قديم أَحَلْتَ، لأنا قد أوضحنا حدثه.
وإن قلت: من أجل علل قديمة، فقد أوضحنا حدوث العلل، وإن قلت: من أجل العدم، فقد أوضحنا (3) لك أن العدم لا شيء، ولا شيء نفي والنفي لا يوجب إثبات شيء.
وإن قلت: من أجل الحدث، فالحدث من المحدِث، إذ ليس إلا المحدث الفاعل أو العدم، فلما انتفى العدم ثبت الخالق تبارك وتعالى.
- - -
باب الدلالة على نفي الصفات عن الخالق
والدليل على قدمه قال المهدي لدين الله، الحسين بن القاسم عليه السلام:
فلما صح أن للأشياء خالقاً محدِثاً جاعلاً، صح أنه بخلافها من جميع (4) المعاني، وصح أنه لا يشبهها في الذات، ولا الفعل، ولا الصفات.
__________
(1) في (أ): الأموات.
(2) سقط من (أ): لا.
(3) سقط من (ب): وإن قلت: من أجل العدم فقد أوضحنا.
(4) في (ب): وجميع. مصحفة.
ألا ترى أنه لو أشبهها في بعض الشيء، لكان ذلك البعض مثلها في الحدث، والحدث لا يتعلق بقديم، لأنه لا يوجد متعلقاً إلا في كله أو بعضه، وللكل والبعض نهاية، لأن الكل محدود، والبعض لا يتعلق إلا في متحرك أو ساكن، والمتحرك والساكن محدثان، ولو أشبهها في كل شيء لكان محدَثاً مثلها، ولو كان محدَثا لما كان ربا، لأن المحدَث مربوب والمربوب مخلوق، ولا فضل لمخلوق على مخلوق في معنى الحدث بعد العدم، فوجب أن الخالق لا يشبه المخلوق، وفي ذلك من الأدلة ما يكثر لو شرحناه، ويطول به (1) الكتاب لو ذكرناه. (1/151)
فإن قال قائل ملحد، أو سأل سائل مسترشد: فما تنكرون من أن يكون الخالق مخلوقا، وخالقه مخلوق إلى ما لا نهاية له؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك لأنك جعلت الكل مخلوقين، ويستحيل أن يكون(2) المخلوق رباً لمخلوق، إذ هما سواء في الحدث لا فرق بينهما.
ودليل آخر
إما أن تكون هذه المحدثات أُحدثت وفُعلت بأمر قديم، أو بأنفسها.
فإن قلت: بأنفسها، فهو محال، لأن المحدَث مربوب، والمربوب لا فضل له على المربوبات، إذ سبيله سبيل المحدثات.
وإن قلت: إن الأصل هو القديم، أثبتَّ الخالق سبحانه.
ودليل آخر
إذا كان الخالق آخر المخلوقات، وكان محدَثاً بعد محدثات، لم يخل ما قبله من المحدثات من أحد وجهين:
إما أن يكنَّ كلهن مثله (3) في الحدث.
وإما أن يكون بعض محدثا وبعض (4) قديما.
فإن قلت: كلهن محدثات أوجبتَ لهن محدِثاً قديماً بخلافهن أحدثهن وخلقهن.
وإن قلت: إن بعضهن محدث وبعضهن قديم. أوجبتَ أنهن على قسمين:
قسم محدث مخلوق.
وقسم خالق قديم.
والخالق لا يسمى: قسماً، ولا بعضاً.
ودليل آخر
__________
(1) في (أ): له.
(2) سقط من (ب): يكون.
(3) في (ب): يكون ظاهرا مثله.
(4) في (ب): بعضهن. في الموضعين.
إذا كان الخالق بزعمك مخلوقا، وقبله خالق قديم (1) وخالق إلى ما لا نهاية له، فقد جعلته آخر الخالقين المخلوقين، وفي هذا تناقض أن يكون المحدَث قديماً والخالق مخلوقاً، وإذا كان لهم آخر فهم أول، ويستحيل آخر بلا أول. (1/152)
ودليل آخر
لم يقع كلامك لا على مخلوقات (2)، ولا بد للمخلوقات من خالق قديم.
ودليل آخر
إما أن تكون عنيتَ بقولك: لا نهاية تريد الكل من المحدثات أو البعض، أو لم تعن (3) كلا ولا بعضاً، وفي هذا ما كفى.
ودليل آخر
إذا كان هذا الخالق المخلوق آخر المخلوقات، لم يخل مَن قبله من الخالقين المخلوقين من أن يكون الآن كلهم موجودين، أو كلهم معدومين، أو بعضهم موجودا أو بعضهم معدوماً.
فإن قلت: إن الكل موجود، فللكل نهاية وغاية، إذ لم يبق منهم شيء حتى هو الآن موجود، لم يعدم منهم شيء، وإذا صح وجود الكل، وصح حدث الكل، صح المحدث الخالق الأول القديم، وهو الله (4) الرحمن الرحيم، الواحد الحكيم، العليم.
وإن قلت: إن الكل معدوم الآن فللكل نهاية، لأن ما صح حدثه كله، وصح عدمه كله بعد وجوده وحدوثه، صح محدثه بعد العدم ومفنيه، وهو الله خالقه وبَارِيه (5).
وإن قلت: إن البعض موجود والبعض معدوم. جعلتها مقسمة قسمين:
قسم هو الآن موجود كله مخلوق.
وقسم كله قد عدم بعد حدوثه، ومضى بعد إيجاد موجوده ومحدثه، وكلا القسمين لم يخل من الحدوث، والله محدثهما وخالقهما (6)، ومفني ما فني بمشيئته، ومبقي ما بقي (7) برحمته.
وإن قال: إن قبل كل شيء شيئا.
__________
(1) سقط من (ب): قديم.
(2) في (ب): المخلوقين.
(3) في (ب): تكن. مصحفة.
(4) في (أ): والله.
(5) في (ب): وبادبه.
(6) في (ب): محدثها وخالقها.
(7) في (ب): وصح ما بقا. مصحفة.
قيل له: أتعني بقولك: لا نهاية له، كل ما هو الآن موجود، أو كل ما هو الآن معدوم، أو ما بعضه معدوم وبعضه موجود، فلا يجد مخرجاً إلا أن يقول: لم أعن شيئا، فيبطل جميع الأشياء، أو يقول: عنيت بالعدم بعض المعدوم، فينقض قوله، لأنه إذا أوجب العدم على قِسمٍ ثم قال: عنيت بعضه، فقد نقض قوله، (لأنه لا فضل لبعض المعدوم على بعض، إذ كله معدوم، وكذلك إن عنى بالوجود بعض الموجود فقد نقض قوله) (1)، لأن الوجود وجود كله، والعدم عدم كله، وأين ما ذهب لم يجد مذهبا، أو في جميع (2) ما يذهب إليه نهاية للأشياء. (1/153)
(ودليل آخر
أن هذه الأرباب المخلوقة التي زعمت محدثة، وإذا كانت محدثة فيستحيل قولك خَلَقَت أمثالها، لأن المخلوق لا يقدر على خلق مثله، ويستحيل أن تكون الأجسام من فعل)(3).
- - -
باب الدلالة على نفي الصفات عن الله فاطر السماوات
قال المهدي لدين الله الحسين بن القاسم صلوات الله عليه (4):
إن سأل سائل فقال: هل لله صفات؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: مسألتك تحتمل وجهين:
إما أن تكون أردت أن له صفات غيره، بها عَلِمَ وقَدِرَ.
وإما أن تكون أردت أن له صفات هي هو.
فإن قلت: إن معه صفات غيره بها قدر وعلم، فهذا محال أن يكون في القدم غيره، أو يكون أيضا محتاجاً إلى غيره.
ودليل آخر
لو كان له صفات غيره لم تخل تلك الصفات من أحد وجهين:
إما أن تكون متعلقة به.
وإما أن تكون مباينة له منفصلة عنه.
فإن قلت: إنها متعلقة به جعلته محلا وموضعا، والمحل لا يكون إلا مكانا، والمكان لا يكون إلا جسماً.
ودليل آخر
__________
(1) سقط من (ب): ما بين القوسين.
(2) سقط من (ب): أو في جميع.
(3) هذه الفقرة في (ب): وإن قال: إن قيل...
(4) سقط من (ب): قال المهدي...
لا يخلو من أن تكون (1) متعلقة بجميعه، فيكون له كل، وإما أن تكون متعلقة ببعضه، فيكون جزأين جزء خلا من الحلول، وجزء محلول، والكل والبعض لا يكون إلى مفترقا أو مجتمعا، والمفترق والمجتمع لا يكونان إلا من صفات (2) الأجسام، لأن المفترق مفصَّل لا بد له من مفصِّل، والمجتمع موصَّل لا بد له من موصِّل، والمجتمع والمفترق لا يكون (3) إلا متحركاً أو ساكناً، وقد أوضحنا حدث المتحرك والساكن فيما تقدم من كلامنا. (1/154)
وإن قلت: إن له صفات هي هو أَصَبْتَ في قولك، لأنه واحد ليس معه شيء يعلم به ولا يقدر، ولكنه غني حكيم عالم قادر حي، بغير معاني سواه (4).
فإن قال: من أين علمتم أنه حي؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: دلنا على أنه حي أنا نظرنا (5) إلى صنعه فإذا هو محكم متقن، والإحكام لا يكون إلا من حكيم، والحكيم لا يكون ميتا لأن الميت لا يعقل ولا يعي، ولا يحسن ولا يسيء.
فإن قال: من أين علمتم أنه عالم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأنا نظرنا إلى إحكام الصنع فإذا هو دليل على أنه من غير جاهل، لأن الجاهل حائر (6)، والفاعل لا يفعل إلا بعد علمه بالمفعول.
فإن قال: وما أنكرت من أن يكون فعل بجهل؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك لأنا نظرنا إلى الفاعل بالجهل، فلم يخل عندنا من أن يكون أتقن الصنع وأحكمه بفكر وذكر بعد نسيان.
وإما أن يكون فعل ذلك بعلم لم يسبقه سهو (7) ولا نقصان.
فإن قلت: إنه فعل ذلك بخاطر فكر بعد جهل فهذا محال، لأن الخاطر من صفة مخلوق عاجز غير قادر، لأن الذكر عرض عارض لا يكون إلا في جسم متحرك أو ساكن، كل أو بعض، وكذلك النسيان فهو عرض يحل في القلوب، وذلك أولا ما تنزه عنه علام الغيوب.
__________
(1) سقط من (ب): تكون.
(2) في (ب): لا يكونان بان إلا من الأجسام. وفي (أ): لا يكون.
(3) في (ب): لا يكونان.
(4) في (ب): حي معاين سواه.
(5) في (ب): أنا كل ما نظرنا.
(6) في (ب): جايز.
(7) في (أ): بسهو.
وإن قلت: إنه فعل ذلك وهو عالم أصبت، وكان ذلك أحسن ما ذكرتَ، وكان الموصوف بالعلم عز وجل (1) أولى مَن وصفت. (1/155)
فإن قال: من أين علمتم أنه قادر؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأنا نظرنا إلى الصنع فإذا هو مخترع من غير أصل ولا بدء، فعلمنا أنه من فعل قادر، لأن العاجز لا يصنع الشيء من غير أصل ولا بدء (2)، وقد بينا في أول كلامنا حدث الأشياء من غير شيء، ولأن العجز عرض لا بد أن يكون في الكل والبعض، أو في الطول أو في العرض.
فإن قال قائل: فكيف يعقل (3) شيء ليس بجسم ولا عرض، ولا له كل ولا بعض، ولا طول ولا عرض؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: يُعقل بما أظهر (4) من صنعه الجليل، الذي لا تمتنع منه العقول، ولا يوجد إلى دفعه (5) سبيل.
فإن قال: فكيف تعبد ربا لا تراه؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: اعلم أيها السائل أنا لو رأيناه لما عبدناه، وذلك أن الأبصار لا تقع إلا على مفترق أو مجتمع، ولم نستدل على الله إلا بالمفترق والمجتمع، لأنهما محدثان، ولا بد للمحدَث من خالق أحدثه، ولا بد أن يكون بخلافه في (6) جميع المعاني.
فإن قال: فبم عرفته؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: عرفته (7) بما هو أولى وأحق من الأبصار، وأصدق من جميع الأخبار.
فإن قال: وما ذلك؟
__________
(1) سقط من (أ): عز وجل.
(2) في (ب): بدي.
(3) في (أ): يعقل بفعل. زيادة.
(4) سقط من (ب): أظهر.
(5) في (ب): إلى ذكره.
(6) في (أ): من.
(7) سقط من (أ): عرفته.
قيل له ولا قوة إلا بالله: ذلك العقل (1) الذي لا يجوز عليه المحال، ولا يقبل ما فسد من المقال، فلو أدركنا صنع جميع الأشياء مشاهدة رأي أعيننا، لما كان (2) ذلك أبداً مثل العقل عندنا، فالحمد الله الذي هدانا إلى معرفته، وعلَّمنا ما نستدل به على حكمته، ووهب لنا التمييز برحمته (3)، فلقد جاد علينا من العقول بما لا نؤدي شكره، فالحمد لله الذي ضمَّن قلوبنا نوره، ونسأل الله أن يجعله آمرا لنا بالخيرات، وزاجرا عن السيئات، وأن ينجينا من الموبقات، وينقذنا به من المهلكات، فلم مجوج به لم ينتفع بضياء بهجتهه، ولم ينف به حندس ظلمته، ولم يخرج به من معصيته، ولم يطلب به رضاء الله في آخرته، وصرفه في أهلك مهالكه، وسلك به شر مسالكه، فلعمري ما أُتينا من قِبَل عقولنا!! ولكن من سوء أفعالنا وظنوننا، فنسأل الله المغفرة لما تقدم من ذنوبنا. (1/156)
- - -
باب الدلالة على التعبد
قال المهدي لدين الله الحسين بن القاسم صلوات الله عليه: إن سأل سائل فقال: ما الدليل على التعبد؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: اعلم أيها السائل أن الله ركب الاستطاعة في العباد والشهوة، فلم يكن بد من صرف (4) الاستطاعة في خير أو شر، فتعبَّدهم بفعل الخيرات، وترك الفاحشات، إذ الحكيم لا يحب الفساد.
فإن قال: ولِمَ ركَّب فيهم الاستطاعة؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأن الاستطاعة هي القدرة، والقدرة خير من العجز، والعقول هي العلم، والعلم أفضل من الجهل.
فإن قال: فلم كلفهم ما يستثقلون؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: للفرق بين المطيعين والعاصيين.
فإن قال: ولم فرق بين المطيعين والعاصيين؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: يميز بين الخبيث والطيب، إذ ليس من صفة الحكيم أن يجعل المفسد والمصلح سواء في محل واحد.
__________
(1) في (ب): فإن قال: وما الذي قيل له ذلك العقل.
(2) سقط من (ب): كان.
(3) في (ب): لنا العقل لنميز برحمته.
(4) في (ب): ظرف.
فإن قال: فلم خلقهم وقد علم بإفسادهم (1)؟ (1/157)
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأن خلقه (2) لهم حسن وفعلهم قبيح، ولم يكن الحكيم ليترك فعل الحسن من صنعه (3)، لقبيح فعل غيره.
فإن قال: فما الدليل على البعث (4)؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على ذلك أن الحكيم لا يخلق الخلق ويظهر الحكمة إلا للبقاء، لأن الفناء بالكلية ليس من الحكمة، وإذا لم يكن بد من أمر ونهي، فلا بد من مأمور مطيع (5) وعاصي، وإذا لم يكن بد من الطاعة والمعصية فلا بد من الثواب والعقاب، وإذا لم يكن (6) بد من الثواب والعقاب ولم يكن ذلك في هذه الدار فلا بد منه في غيرها، وإذا لم يكن بد من التعبد ولم يكن ذلك إلا بأمر ونهى فلا بد من رسول.
فإن قال: فلم خلقهم في بد المنشأ (7)؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأن إظهار الحكمة من صفة الحكيم.
فإن قال: ولِمَ يظهر الحكمة؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأن إظهارها حسن.
فإن قال: ولِمَ يظهر الحسن؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأن إظهار الحسن خير من تركه.
فإن قال: ومن أين كان إظهار الحسن خيراً (8) من تركه؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأنه لم يكن بد من أحد المعنيين، إما تركه وأما فعله، فتركه ليس من صفة الحكيم، وفعله أولى بالحكمة.
فإن قال: فمن أين جاز الشرع؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: من قبل التعبد، لأن الشرع هو نفس العبادة والبلوى، التي بها يعرف بين من أحسن وأسماء.
فإن قال: فمن أين جاز يتنبأ بعض الخلق دون بعض؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأن النبوة ثواب وتفضيل، والثواب والتفضيل لا يكونان إلا بفعل الطاعة والصبر على المحنة (9).
__________
(1) في (ب): بعنادهم.
(2) في (ب): قيل: خلقه.
(3) في (ب): صفته.
(4) في (ب): على الهدى. مصحفة.
(5) في (ب): يكن... فلا يقبل مطيع.
(6) سقط من (ب): لم يكن.
(7) في (أ): المعنى. مصحفة.
(8) في (أ)، (ب): خير. والصواب ما أثبت.
(9) هذه نظرية المطرفية في النبوة والإمامة.
فإن قال: فلم ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم؟ (1/158)
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأنه لم يخرج من الحكمة، إذ جعله نذيرا لجميع الباقين، وحجة إلى يوم حشر العالمين.
فإن قال: ولم جاز أن يكون الميت حجة على الأحياء المتعبَّدين؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأنه أتى بالتعبد والآيات والقرآن الحكيم، والأئمة الهادون مترجمون عنه، والعقول شاهدة على ذلك على المخلوقين، وكل ذلك فلم يعدم بعدمه صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قال: فهل للإمامة (1) أصل في المعقول؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: نعم أصل الإمامة في المعقول، لأن الحكيم قد علم بأن لا بد من الاختلاف بين المخلوقين، فجعل في كل زمان إماما (2) حيا مترجما لغوامض الأمور، مبينا للخيرات من الشرور، ولا يعدم ذلك في كل قرن من القرون، إما ظاهرا جليا، أو مغمورا خفيا.
فإن قال: وما الظاهر الجلي، وما المغمور الخفي؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أما الظاهر الجلي فالسابق المنذر لجميع الخلائق، والشاهر لسيفه، المصلح لله في عباده وبلاده، وأما المغمور فالمقتصد المحتج لله على جميع العباد، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر (3) الفساد، بغير قيام ولا جهاد.
فإن قال: فهل الإمامة في أهل بيت دون غيرهم، أم هي في جميع الناس كلهم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: بل هي في أهل بيت معروفين، مخصوصين بالفضل مشهورين، معلومين غير مجهولين.
فإن قال: ومَن أولئك؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أولئك نسل البتول، وأقرب قرابة الرسول.
فإن قال: فهل لهذه الخصصة أصل في العقول (4)؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: نعم أصل ذلك في العقول، وبعد ذلك في محكم التنزيل، ووحي الواحد الجليل.
فإن قال: وكيف يعقل أن تكون الإمامة في قوم دون سائر الأنام؟
__________
(1) في (أ): الإمامة.
(2) سقط من (ب): إماما.
(3) سقط من (أ): المنكر.
(4) في (أ): المعقول.
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأن الله عز وجل حكيم، والحكيم لا يحب الفساد، ولا فساد أعظم من أن يجعل دينه في أيدي الخلائق وأمره ونهيه وحدوده وحلاله وحرامه ووعده ووعيده وحجته وأحكامه، فيهمل (1) الكل ويلبس عليهم دينهم، إذ جعل الإمامة في جميعهم، ولم يكن ذلك في قوم بأعيانهم مخصوصين بذلك من دون غيرهم حتى لا يختلف فيهم، فهذا في المعقول. (1/159)
وأما في الكتاب فقول الله عز وجل يدل (2) على أصل الإمامة، وكذلك في السنة المجمع عليها عند جميع الأمة.
__________
(1) سقط من (ب): فيهمل.
(2) في (ب): فقوله تعالى يدل. وسقط من (أ): يدل.
فأما وجوبها في الكتاب فقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: ? ?????????? ?????? ???????? ????????? ??????? ????? ??? ? [الرعد:7]، فبين أن كل قوم هاديا، فاختلفوا في الهادي من هو وممن هو؟ فبيَّن الله ذلك بفضله، فيما نزل من محكم قوله، فقال عز من قائل: ? ????? ???????? ?????? ???????????? ??????? ???? ????????? ? [الطلاق:10 - 11]، فسمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكرا، ثم أمر بسؤال آله، فقال عز من قائل: ? ??????????????? ????????? ??????????? ???? ??????? ??? ????????????? ???? ? [النحل:43، الأنبياء:7]. وأهل الذكر فهم آل محمد عليهم السلام، وفي ذلك ما يقول عز من قائل لنبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فيما نزل من الفرقان إليه: ? ???? ????? ???????????????? ????????? ????????? ??????? ????????????? ? ??????????????? ? [الشورى:23]. فافترض مودتهم على الخلق فرضا، وأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأن يأمر الناس بذلك أمرا، فهذا في الكتاب المبين، وفيه كفاية لجميع المسلمين، غير أنا سنذكر أيضا بعض ما ذكر الرسول، مما لا تنكره العقول، مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا على الخوض)). (1/160)
وأما في الإجماع فأجمعت الأمة كلها على نبيها صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((الحق ما أجمعت عليه الأمة، والباطل ما اختلفت فيه))، ووجدنا الناس كلهم مجمعين على إمامة أمير المؤمنين ونسله في أصل الإجماع، وأصل الإجماع أن الناس أجمعوا كلهم على جواز الإمامة في آل الرسول واختلفوا في غيرهم، فالحق ما أجمعوا عليه من جواز الإمامة في آل نبيهم، والباطل ما اختلفوا فيه من إمامة غيرهم، لأن الأمة خمس فرق، وهم: الشيعة، والمعتزلة، والخوراج، والمرجئة، والعامة.
فأما الشيعة فقالت: الإمامة لآل علي دون غيرهم. (1/161)
وأما المعتزلة والخوارج فزعموا: أنها في الناس كلهم، ومن أجازها في الناس فقد أجازها في أهل البيت، إذ هم خير الناس.
وأما العامة والمرجية فزعموا: أن الإمامة في قريش، ومن أجاز الإمامة في قريش فقد أجازها في آل محمد عليهم الصلاة والسلام، إذ هم خير قريش. وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وسلم تسليما كثيرا مباركا (1).
- - -
كتاب
الرد على الملحدين
وغيرهم من فرق الضالين
كتاب الرد على الملحدين
وغيرهم من فرق الضالين
توكلت على الله،
الحمد لله الواحد القديم الذي لا نهاية لقدمه، ولا إحصاء لنعمه، المنفرد بوحدانيته، المنعم على جميع بريته، الموصوف بحكمته، الموجد لجميع الخلق بقدرته، ونفاذ مشيئته، وتمام كلمته، العزيز الذي لا يضام، القوي الذي لا يرام، ولا يَسِنُ ولا ينام، ولا يدركه الطالبون، ولا ينجو منه الهاربون، ولا يتوهمه المتوهمون، ولا تشتبه عليه الأصوات، ولا يغشاه النور ولا الظلمات، ولا تدركه حواس المحسين، ولا يحيط به فكر المربوبين، ولا يخطر على قلوب المخلوقين، تقدس عن ذلك رب العالمين.
__________
(1) سقط من (أ): كثيرا مباركا.
جاز عن قصد السبيل مَن كيَّفه، وأخطاء ظنُّ مَن اكتنهه، ولم يعرفه مَن وصفه بغير ما وصف به نفسه، وكفر به مَن حده بحد، أو أيَّنه، وشبَّهه مَن بَعَّضه، وجاربه (1) من جمعه، ليس بمجتمع فيعرف بالتحديد، ولا بمفترق فيعرف بالتعديد، ولا بمتحرك ولا ساكن فيوصف بصفة العبيد، عز عن ذلك ذو العرش المجيد والبطش الشديد، ليس بجسم فتدركه الأبصار، ولا تحويه الأقطار، ولا تقع عليه الأفكار، ولا يشبه شيئا من المصنوعات، فينال بالأوهام الجائلات، ولا تنال معرفته بحاسة من الحواس المدرِكات، فيدخل في صفة المحدثات المكيفات (2)، ولا ذاته سبحانه في جهة من الجهات، فيوصف بصفات المحدثات المباينات (3)، فتبارك وتعالى من لا يوصف بشيء من هذه الصفات، وحده لا شريك له. (1/162)
وأشهد إلا إله إلا الله شهادة عبد مقر بعبوديته، مصدق بربوبيته، ومعتقد لألوهيته، راج لعفوه ورحمته، هارب إليه من خوف عقوبته، معتصم به مستوهب (4) لهدايته، ومؤمن به، متمسك بطاعته، شهادة لا (5) يخالطها شك ولا إرتياب، ولا يعترض دونها شرك ولا إكذاب.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، شهادة مقر بنبوته، معتقد لمحبته.
وأشهد أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأشهد أن وعده ووعيده حق، وقوله سبحانه صدق، وأنه عدل في حكمه، رؤوف بجميع خلقه.
وأشهد أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه كان خير البرية بعد نبيها صلى الله عليه وآله، وأولاهم بمقام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأبرعهم علما، وأكثرهم حلما، وأطوعهم لربه، وأبذلهم في سبيل الله لنفسه، وأكملهم في جميع صفاته.
__________
(1) في (أ)، (ب): حاربه. لعلها مصحفة. والصواب ما أثبت.
(2) في (أ): المطيعات.
(3) في (أ): المحيبات المأينات. مصحفة.
(4) في (أ): مستوهبه.
(5) في (أ): ألا. مصحفة.
وأشهد بإمامة ولديه السبطين، الإمامين الكريمين العالمين الحسن والحسين، ابنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وسليلي البتول، وأن الإمامة من بعدهما فيمن طاب من ذريتهما واحتذا بحذوهما، وكان في جميع صفاته مثلهما، اللهم فمن شهد بمثل ما شهدت به فاكتبه مع الشاهدين، ومن لم يشهد بمثل ما شهدتُ به فاكتب شهادتي مكان شهادته، والحمد الله على تمام نعمته وإكمال حجته. (1/163)
وبعد:
فإني لما اطلعت على كثير من أقاويل الملحدين، وزخرف قول المتلددين، واختلاف أهواء الضالين، وباطل كلام المتحيرين، واستغلاط الجاحدين لجهلة المسلمين (1)، وسرعة القلوب إلى الأوهام، وتقحمها في لجج الظلام، وشكها في زخرف الكلام، ووجود ما ذكرت في أكثر الأنام، وإن لم يبدوا غير دين الإسلام، فنعوذ من ذلك بذي الجلال والإكرام، حداني ذلك على تصحيح ما دِنَّا به من الدين، وإبطال وساوس الشياطين.
فكان أول ما ينبغي لنا أن نذكره، ونبين لمن عقل خلله، ونحتج عليه بأبين الحجج، مَن جحد خالقه، وأنكر صانعه من الدهربة الكفرة، وغيرهم من الثنوية المتوهمين، الظانين بالله ظن السوء الجاحدين.
أجمعوا لعنهم الله على نفي خالقهم، وجحدان (2) صانعهم، حيرة منهم لعنهم الله واستكبارا، واستعظاما لكون الحق وإنكارا، وتسهيلا في الدين ومعاندة للحق جهارا، وإعلانا بالسوء وإسرارا!!
__________
(1) في (أ): الجهلة للمسلمين. مصحفة.
(2) في (أ): وجحدوا أن. مصحفة.
فنعوذ بالله من قبول خواطر القلوب، والشك في دين علام الغيوب، ونسأله النجاة من موالاة الشيطان، والحيرة والمرية والجحدان، فكم من هالك أردى نفسه بالوهم؟! وتقحَّم في لجج الظلم؟! قد فارق الحق والهدى، واتبع الغي والردى، وتردد في الدين ترددا، وتشعبت به أوهامه، فهو في بلية من نفسه، مما تدعوه إليه من تماديه في غيه، وصده عن رشده، قد ملكته فأهلكته بأهوائها، وتفرقت به السبيل بإغوائها، وزخرفت له ما أمرته به (1) من الأسواء، وردَّدته فيما زيَّنت له من الأهواء، ورغَّبته فيما دعته إليه من الإغواء، فهو غير مخالف لها فيما تدعوه إليه، ولا منكر عليها فيما تحضه عليه، من ترهات المنى، وما ترغبه فيه من الركون إلى الدنيا، قد نسي الموت وما بعده من الحساب، مما دخل نفسه من الشك والارتياب، فنعوذ بالله مما أردى الكافرين!! وأبعدهم وأقصاهم عن رب العالمين. (1/164)
- - -
باب الرد على الدهرية
قال المهدي لدين الله الحسين بن الإمام القاسم بن علي صلوات الله عليه: إن سأل سائل فقال: ما الدليل على صنعة الله في الإنسان (2)؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على ذلك قول الله سبحانه: ? ????????? ???????????? ????????????? ??? ??????????? ???? ????? ???? ?????? ????????????? ????????? ? ???????? ???????? ???? ????? ???????????? ????????????? ???????? ????????????? ???????????? ????????? ???????????? ????????????? ?????????? ?????????????? ????????????? ??????? ?????? ?????????????????? ????????? ???????? ???????????? ?????? ????????? ??????????????? ???? ? [المؤمنون:12-14]. فأخبرنا سبحانه عما لا ننكره لما شاهدنا من ذلك بأبين البيان وأيقن اليقين محدثا لا يخفى، بَيِّنا نوره لا يطفأ.
__________
(1) سقط من (أ): به.
(2) في (ب): ما الدليل على حدوث الأشياء وأن لها صانعا، وما الدليل على صنعه؟
فإن قال: وما أنكرت من أن تكون هذه الأشياء قديمة العين حديثة الأحوال بالقوة الهيولية، وهي الأصلية في لغتنا؟ (1/165)
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك أشد الإنكار، و ذلك أن القديم لا يكون محدثا كما لا يكون المحدث قديما، وقولك: قديم نقضُه بيِّنٌ إذا قلت ثم حدث فيه حادث، لأن الحادث لا يجري في قديم، كما لا يجرى القديم في الحادث.
ودليل آخر
أن المحدث فيه إبانة صنع محدِثه، ومحال أن يكون للقديم صانع محدِث.
ودليل آخر
يوضح فساد قولك (1): قديم العين حديث الأعراض، أن هذا القديم الذي زعمت لا يخلو من أحد وجهين:
إما أن يكون لم يزل ممتنعا من الحدث غير موجود بجميع صفاته.
وإما أن يكون غير ممتنع من الحدث.
فإن كان غير موجود الصفات قبل كونه، وكان غير ممتنع من الحدث، صح أن له خالقا نقله من صفة إلى صفة، حتى أبلغه الغاية التي أراد.
وإن كان لم يزل ممتنعا من الحدث ثبت على امتناعه ودوامه، ولم يجز أن يتغير أبد الأبد عن صفة القديم، لأنه إن تغير إلى صفة الحدث استحال قدمه، ولا يجوز أن يكون القديم مواتا ولا مركبا ولا محدثا، ولا موصوفا بصفة تدل على حدثه، وهذا وجه قد تبين فساده بحمد الله.
- - -
باب الرد على أصحاب الكمون
فإن قال: وما أنكرتم من أن تكون هذه الأشياء لم تزل موجودة بجميع صفاتها، وهي كوامن في أعيانها؟!
__________
(1) في (أ): قولهم.
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك لاستحالته وبطلانه، وهذا القول مكابرة العيان، لأنا وجدنا النطفة والعلقة معدومة ثم كانت علقة، والمضغة معدومة (1) في حال كونها علقة ثم مضغة، والعظام معدومة ثم كانت عظاما مؤلفة، لا بد لها من مؤلِّف، وكسوة اللحم عدم ثم صورة بعد عدم التصوير، والمحدث مالم يكن ثم كان، وقد وجدنا هذه الأحوال بعد العدم، والصورة غير موجودة في حال كونها نطفة، والحركة معدومة في كل (2) موات من الإنس وغيرهم من الجمادات، والحياة معدومة في حال الموت، والصورة لا بد لها من مصوِّر، وفيها إبانة صنع صانع حكيم. (1/166)
فإن قال: وما إبانة الصنع في الصورة؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: تأليف الأجزاء وإحكامها وتقديرها وإتقانها تدل على صنعها، إذ لم يكن شيء من ذلك، فقضينا على أن لكل مؤلف كان معدوم التأليف مؤلفا، ونظرنا الحياة بعد الموت فعلمنا بيقين أن له محييا، إذ لم نجد صنعا إلا وصانعه موجود وإن لم نره، كالبناء لا بد له من بانٍ وإن لم نر مَن بناه، والكتاب لا بد له من كاتب وإن لم نر كاتبه، والأثر وإن لم نر (3) مؤثِّره، والصوت إذا سمعناه علمنا أن له مصوتا وإن لم نره.
ودليل آخر
__________
(1) في (أ): عدم.
(2) سقط من (أ): كل.
(3) في (أ): تر. وكذلك ما قبلها من الأفعال.
وهو أن صنع الحكيم العالم بيِّن، ومحال أن يكون في العلل إبانة صنع، وذلك أن الحكمة لا تكون إلا من حكيم، ولا بيان عليم إلا من عليم، وهو الله الرحمن الرحيم، لأنا نظرنا الإنسان إنسانا كاملا بعد أن كان نطفة من ماء مهين، فعلمنا أن (1) لا بد له من مكمِّل أكمله، ونظرنا إليه حيا بعد أن كان ميتا، سميعا بصيرا بعد أن لم يكن سميعا ولا بصيرا، فبان صنع العالم الحكيم، إذ جعل سبحانه له (2) سمعا يدرك به الأصوات، وبصرا يدرك الهيئات، وشما يدرك به جميع الروائح الخبائث (3) والطيبات، وذوقا يدرك به ما ذاق (4) من الطعوم المختلفات، ولمساً بالجسد كله يدرك به الحر والبرد والخشن واللين وغيرها من أحوال (5) المجسمات، فكل هذه الحواس المختلفة تدل على حكمة صانعها إذ خالف بينها، فجعل كل حاسة تصلح لخلاف ما تصلح له الآخرى. (1/167)
ودليل آخر
لا تخلو هذه المختلفات من أحد وجهين:
إما أن تكون خالفت بين أنفسها.
وإما أن تكون خالف بينها مدبرها!!
فإن كانت خالفت بين أنفسها فهذا محال، لأنها لم تكن واعية عند كونها، ولا عالمة في حال عدمها، فلما استحال هذا الوجه صح الثاني وهو أن لها مدبرا خالف بينها، إذ الفاعل الحكيم بين صنعه في إحداثها، وجعل كل (6) واحدة من هذه المختلفات لشيء بعينه، ولا يجعل الشيء للشيء إلا حكيم، ولا يجعل الشيء للضرورات إلا عليم.
__________
(1) في (أ): أنه.
(2) سقط من (أ): له.
(3) في (ب): من الخبائث.
(4) في (أ): ذاق به.
(5) في (ب): وغيرهما من الأحوال.
(6) في (أ): لكل. مصحفة.
ألا ترى أن هذه الحواس جُعلت لعلم جاعلها بضرورة أصحابها إليها وفاقتهم لها، وجعل سبحانه لهم من الأغذية واللذات ما لا قوام لهم (1) باضطرار إلا بها، وجعل لهم مداخل للأغذية ومخارج، ولا يجعل المخارج للشيء إلا عالم بما صنع من المداخل التي لا قوام لهم إلا بها ولا منصرف لهم عنها إذ اضطرهم إليها، وجعل ما ينتفعون به من الآلات والأدوات من (2) الأيدي التي تصلح للبطش، والأرجل التي تصلح للخطو والحركة والسير، والألسن الناطقة بأفنان الحكمة المؤدية للمصلحة، والعقول المميزة النافرة عن المضار المجتلبة للمنافع، التي هي حجج على من جُعلت له. (1/168)
ولا تكون حكمة محدثة صح حدثها وبطل قدمها، وكانت بعد عدمها إلا من حكيم، مدبِّر عليم، حي قيوم، ولا يجعل ذلك إلا لبقاءه ونفعه، لا (3) لفنائه وضره، إذ الحكمة موجبة لذلك فيما قد بان من رأفة الصانع، إذ جعل في المصنوعات مصالح تدل على أنه أراد ذلك لها، وأخبر بذلك على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك أوجبت حكمة الألباب أن من مكن من(4) الاستطاعة من الأنام لا بد من إساءته وإحسانه، فوجب لذلك الثواب على إحسان من أحسن من المحسنين، ووجب عقاب من استحق العقوبة من المسيئين، فلما انقضت آجال المحسنين ولم يثابوا، وانقضت آجال المسيئين ولم يعاقبوا، علمنا أن دارا غير هذه الدار يثاب فيها من استحق الثواب، ويعاقب فيها (5) من استحق العقوبة من المسيئين، فنسأل الله أن يرزقنا ما رزق المستحقين لثوابه، وأن يصرف عنا ما استوجب العاصون من عقابه وعذابه، وأن يثبت أقدامنا على صراطه، إنه على كل شيء قدير، وإليه المعاد والمصير.
- - -
باب الرد على أهل الإلحاد في التولد
__________
(1) في (أ): له. مصحفة.
(2) سقط من (أ): من.
(3) في (أ): إلا. مصحفة.
(4) في (أ): في.
(5) في (أ): عليها.
وقولهم: إنه لا نهاية لشيء من الأشياء، وإنه لم يزل نطفة من إنسان وإنسان من نطفة، وبيضة من طائر وطائر من بيضة إلى ما لا نهاية، وحبة من سنبلة في سنبلة من حبة إلى مالا نهاية له ولا غاية. (1/169)
قال المهدي لدين الله ا لحسين بن الإمام القاسم بن علي صلوات الله عليه: فإن قال بعض الملحدين: فما أنكرت من أن تكون هذه الحيوانات لم تزل تحدث شيء من شيء وشيء بعد شيء وشيء قبل شيء إلى مالا نهاية له ولا غاية؟
قيل له ولا قوة إلا بالله:أنكرنا ذلك أشد الإنكار، وقولك متناقض فاسد، وذلك أنك قلت: لم تزل فأوجبت أنها أزلية، ثم نقضت قولك بقولك: تحدث فأوجبت الحدث والعدم في حال واحد، فأحلت (1) القول على نفسك، وذلك أنك إذا جعلتها أزلية بطل الحدث، وإذا جعلتها محدثة أزلية فسد قولك، لاستحالة كونها معا في حال واحد كما ذكرنا.
ودليل آخر
على فساد هذا القول أن كل شيء موجود بذاته محدَث له غاية في نفسه.
ودليل آخر
أن لكل (2) منهم وإن كثر كون بعضهم من بعض، له نهاية وغاية وعليه نعمة، وفي تركيبه وبنية حكمة (3)، والنعمة لا تكون إلا من منعم، والحكمة لا تقوم إلا بمحكم (4)، وما كان من الحيوانات منعَما عليه، وكان في جميع أسبابه محسنا إليه، فيستحيل أن يكون غير متناهي (5)، وأن يكون من غير أصل ولا بدي.
ودليل آخر
أن كل ما احتمل الزيادة والنقصان فقد كان ناقصا قبل زيادة ما زاد منه إلى غاية الزائد المتناهي إلى النقص، لأن الزائد لا يزيد إلا بعد النقصان، والنقصان متناهي بأبين البيان، لأن المنقوص محدود بأوضح البرهان.
ودليل آخر
أن كل ما كان له آخر فله أول، ويستحيل آخر بلا أول.
ودليل آخر
__________
(1) في (أ): فأدخلت. مصحفة.
(2) في (ب): الكل.
(3) في (أ): نعمه في كل تركيبه وتنبيه حكمه. مصحفة. وفي (ب): نعمه في تركيبه وبنيته حكمه. ولعل الصواب ما أثبت.
(4) في (ب): من بمحكم. مصحفة.
(5) في (أ): يكون متناهيا. مصحفة.
الفرع والأصل لما وجدنا الفرع دلنا على الأصل(1)، ويستحيل فرع بلا أصل. (1/170)
ودليل آخر
أن الحيوانات على قسمين:
قسم ميت هو الأصل.
وقسم حي هو الفرع، وللقسمين غاية ونهاية (2).
ودليل آخر
أن الأصل لا يعدو (3) مكانه الذي هو محله، ومحل أصول الحيوانات هذه الأرض، والأرض قد حوت الجميع وحازتهم، وتضمنت جميع الأموات وأحاطت بهم، وكل ما أحيط به فهو محدود، وكل شيء حل موضعا فموضعه(4) أكثر منه عددا، وما كان غيره أكثر منه كان بالنقص (5) محدودا.
ودليل آخر
أن أصول الحيوانات محمولة على الأرض كلها، ولكلٍ نهاية وغاية، لأن المحمول على الأرض أقل من حامله، والأرض فقد حملت جميع الحيوانات، من الأحياء والأموات.
ودليل آخر
أن الأصول التي زعمت أنها غير متناهية لا تخلو من العدد، وكل ذي عدد لا يخلو من النوعين المعروفين وهما الشفع والوتر، وقد وجدنا كل ذي نسل من الإنس والبهائم والطير والزرع من كل الأشجار ذوات زيادة (6) غير منفك من العدد، والشفع له نهاي وغاية، وكذلك الوتر أيضا.
ودليل آخر
أن الأصل وقع عليه الفناء، وكل ما فني وامتحق فله نهاية وغاية.
ألا ترى أن الموت لا يقع إلا على نفس معدودة، متناهية محدودة.
- - -
باب الرد على أصحاب الطبع
قال المهدي لدين الله الحسين بن الإمام القاسم بن علي عليهما السلام: فإن رجع إلى قول أصحاب الطبائع فقال: ما أنكرت من أن تكون هذه الأشياء حدثت من الطبائع الأربع الخير والشر واليبس والرطوبة عند امتزاجها واعتدالها، ثم نقص من جزء وزيد في جزء فجاء ضرب غير الأول، ثم على هذا القياس كمثل خضرة وحمرة وبياض وصفرة، مزج بينهما (7) فعدلت حينا، ونقص من جزء وزيد في آخر (8)؟
__________
(1) في (ب): أصله.
(2) في (ب): نهاية وغاية.
(3) في (ب): لم يعدوا. مصحفة.
(4) في (أ): فهو وصفة. مصحفة.
(5) في (أ): بالبعض.
(6) في (ب): الزيادة.
(7) في (أ): أنها. مصحفة.
(8) في (أ): الآخر.
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك من وجوه شتى أحدها: (1/171)
أن قولك ظن بغير يقين شاهدته، فأرنا من ذلك ما رأيت، وأوجدنا من ذلك ما وجدت.
فإن قال: - وهو قائل لا شك - حجتنا على ذلك أنا وجدنا الأجسام لا تنفك من هذه الطبائع الأربع فقضينا (1) عليها بأنها دبرتها، إذ لم تنفك (منها.
قيل له ولاقوة إلا بالله: وكذلك أيضا قد وجدناها لا تنفك من) (2) الألوان من الحمرة والخضرة والبياض والصفرة وغير ذلك، فلو وجب أن يكون ما ادعيتم، لكان أيضا ذلك في القياس على ما ذكرتم.
ودليل آخر
أنا شاهدنا هذه الطبائع في الأجسام بعد إكمال الله لها غير فاعلة فعلا مما(3) ادعيتم.
ودليل آخر
أنا وجدنا في الصور التأليف والتركيب، وآثار صنع الحكيم المؤلِّف المركِّب، ومحال أن تكون العلل مؤلِّفة أو مركِّبة أو حكيمة عالمة (4)، إذ هي عن ذلك محجوبة، لا إحسان(5) لها، ولا إساءة ولا عقول لها تقي (6) بها أنفسها، فكيف تدبر غيرها؟!!
ودليل آخر
أن هذه الطبائع لا تخلو من أحد وجهين عند اجتماعها:
إما أن تكون جمعت أنفسها.
وإما أن تكون مجموعة بأمر صانعها.
فإن قلت: إنها جمعت بين أنفسها، فكيف تجمع بين أنفسها وهي أعراض لا توجد منفردة (7) بذواتها، ولو كانت منفردة بذواتها (8)، موجودة بأعيانها، لاستحال ذلك ولما أمكن أبدا (9)، إذ المفرِّق الجامع لا يكون إلا حيا (10).
ودليل آخر
__________
(1) في (أ): وقضينا.
(2) سقط من (أ): ما بين القوسين.
(3) في (أ): فما. مصحفة.
(4) في (أ): عالمية. وفي (ب): حكمة عالمة.
(5) في (أ): الأجسام. مصحفة.
(6) في (ب): تعنى. مصحفة.
(7) في (أ): متعددة. مصحفة.
(8) سقط من (أ): ولو كانت منفردة بذواتها.
(9) سقط من (أ): أبدا.
(10) في (أ): جزء. مصحفة.
أن الفاعل لا يكون إلا (1) موجودا قبل المفعول، وقد وجدنا هذه الطبائع مع وجود المحدثات (2)، فعلمنا أن حال المحدثات سواء، إذ وجدن في حال واحد وَعَدمنَ في حال واحد، لأن الطبيعة لا توجد قبل الجسم، والجسم لا يوجد قبل الطبيعة، والطبيعة فإنما هي عرض، والأعراض على وجهين: (1/172)
فمنها: أعراض حادثة بعد حدوث الجسم.
ومنها: أعراض مع الجسم لم تسبقه ولم يسبقها.
والأعراض فلا تسبق الأجسام أصلا، ولا تنفصل بأعيانها أبدا.
فأما الأعراض التي حدثت مع الجسم فمثل الطبائع الأربع: الحر والبرد واليبس والرطوبة، ومثل الاجتماع والطول والعرض والحركة والسكون، لأنه قد يستحيل أن يوجد جسم ليس برطب ولا يابس، وكذلك يستحيل أن يوجد جسم ليس بمتحرك ولا ساكن، ويستحيل أن يوجد جسم ليس بحار ولا بارد، فمن هاهنا قلنا: إن هذه الطبائع أصلية لم تحدث بعد الجسم، ولها علل تنقلٌ (3) وتصرفٌ يطول شرحها.
وأما العلل التي يمكن أن تحدث بعد حدوث الجسم فمثل أن يكون ساكنا فيتحرك فتحدث الحركة، أو يكون الجسم مجتمعا فيفترق فيحدث الافتراق، أو يكون طويلا فيقصر(4) فيحدث القصر، ومثل الأعراض الحادثة في الحيوان بعد عدمها.
- - -
باب الرد على عبدة النجوم
قال المهدي لدين الله الحسين بن القاسم بن علي عليهما جميعا السلام(5): فإن رجع إلى قول أصحاب النجوم فقال: وما أنكرتم من أن تكون هذه الأشياء تصورت بدور(6) الفلك وحركات النجوم، والفلك متصل بالعالم كاتصال خيوط الإبريسم بآلة الحوك، فإذا دار الفلك على المصنوع بسعدٍ تمَّ وصلح، وإن دار عليه بنحس فسد ولم (7) يتم، كما إذا حرك الصانع آلة الحوك الملائمة السدى واللحام، أظهر في الحوك ما أراد من صورة، إما رأس طائر وإما جناحه؟
__________
(1) سقط من (أ): إلا.
(2) في (أ): بوجود المحدث.
(3) في (أ): وتبقى.
(4) في (أ): فينقص. مصحفة.
(5) في (ب): صلوات الله عليهما.
(6) في (أ): لدور.
(7) في (أ): ولا.
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك من ثلاثة أوجه: (1/173)
أحدها: أنك قايست ما لا يقاس، لأنك قايست اتصال خيوط الإبريسم(1) بآلة الحوك وتحريك الصانع لها، وإظهار ما يريد تحريكه الفلك والمخلوقين، فهذا مالا ينقاس عند ذوي الألباب، لأن الخيوط متصلة بآلة الحوك غير مباينة لها، والنجوم مباينة (2) للمخلوقين، وغير متصلة بأجسامهم، وحركتها غير متصلة بهم، إذ كل منهم منفرد بذاته، ولو أحدثت حركة النجوم في العالم حكمة، لجاز أن تحدث من تحريك الصانع لجوارحه في الحوك صورة مختلفة بغير ملامسة، لأنه إذا جاز عندك أن يتحرك النجم بنفسه فتفعل(3) حركته في العالم صورا، جاز لحائك الإبريسم وهو بعيد عنها، كما جاز للنجم ذلك في (4) الصور وهو باين منها، فهذا وجه (5) يبطل فيه قياسهم.
والوجه الآخر: أنك زعمت أن الفلك إن دار على المصنوع بنحس فسد ولم يتم، وإن دار عليه بسعد تمَّ وصلح ولم يفسد، ووجدنا الأمر بخلاف ما ذكرت، وذلك أنا نظرنا إلى الأحمال أحمال الإناث (6) من الإنس والبهائم والطير والأشجار وما لا يحصيه إلا الله عز وجل من الحيوان (7)، ربما لم يتم وربما تم في حال دور السعود التي زعمتم أنه يتم في حال دورها، ووجدناه ربما تم وربما لم يتم في حال دور النحوس التي زعمتم أنه لا يتم فيها، وما كان من ذلك فبإذن الله وتقديره، مما سنذكره إن شاء الله تعالى، من بيان صنع الله فيهما، وفساد قول من زعم أنها قديمة الحركات إلى ما لا نهاية له.
والوجه الثالث: أنها في أنفسها مخلوقة أبان الله صنعه في إيجاده إياها.
فإن قال: - وهو قائل لا شك - وما ذلك على أنها مخلوقة؟
__________
(1) سقط من (أ): الإبريسم. والإبريسم هو الحرير.
(2) سقط من (أ): لها، والنجوم مباينة.
(3) في (أ)، (ب): فيفعل. ولعل الصواب ما أثبت.
(4) سقط من (أ): في.
(5) في (أ): أوجه. مصحفة.
(6) في (ب): الانبات. مصحفة.
(7) في (أ): الحيوانات.
قيل له ولا قوة إلا بالله: دلنا على ذلك إبانة صنعه فيها. (1/174)
فإن قال: وما إبانة صنعه فيها؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: وجوه شتى:
أول ذلك تصويرها وإحكامها وتقديرها، ولا بد لكل صورة من مصوِّر، ولكل تقدير من مقدَّر، ولكل تدبير من مدبِّر.
ودليل آخر
أنها لو كانت قديمة لما كانت في أوصافها مختلفة، فلما وجدناها مختلفة الأنواع علمنا أن لها مدبِّرا خالف بينها، وفصل بعض هيئاتها، وخالف بين صفاتها.
ودليل آخر
أن في العالم آثار حكمة صانع العالم، والحركات ليست بعالمة ولا هي بمدبرة حكيمة (1)، ولا هي بحية مقدِّرة، لأنها علل متعلقة بأجسام النجوم غير متلاحقة، لا تعد ومواضعها من معلولاتها.
ودليل آخر
على فساد قولهم أن حركات النجوم ليس لها أول، وسنبين إن شاء الله فساد قولهم، وذلك أن ما قد مضى من حركاتها لا تحصى لكثرتها (2) في طلوعها وأفولها وإقبالها وإدبارها، وما مضى فقد وقع عليه الفناء، وما صح حدثه وصح فناؤه فله نهاية، لأن الحركة الماضية على حالين محدثين هما الحدوث والفناء، لأن الحركة الماضية لم تعدم إلا بعد حدوث كل ساعة منها، وما صح حدثه وصح فناؤه بعد حدوثه فله نهاية وغاية، لأن الحركة لم تعدم إلا بعد عدم أولها، وما كان له أول وآخر فله نهاية وغاية.
ودليل آخر
أن دور القمر في المنزلتين الشامية واليمانية يدل على حدوث حركته، وعلى حدوث ما كان من شكله، وذلك أنه لا يخلو من أحد ثلاثة أوجه:
إما أن يكون ما مضى من دوره في أحد المنزلتين أكثر من دوره في المنزلة الآخرى.
وإما أن يكون ما مضى من دوره فيهما سواء بالسوية.
وإما أن يكون لم يدُر فيهما أصلا.
فإن قلت: إنه لم يدر جحدت حركته.
وإن قلت: إن دوره في أحد المنزلتين أكثر من دوره في الأخرى، فللكثير العدد نهاية وغاية، لأنها لم تكثر إلا بعد قلتها، وللقليل نهاية وغاية.
__________
(1) في (أ): بعالمة حكيمة مدبرة.
(2) في (أ): لكثرها. مصحفة.
فإن قلت: إن حركته في المنزلتين بالسوية فهي شفع، وللشفع نهاية وغاية، لأن الحركة في موضعين تدل على التناهي، وكذلك القول في أفولها وطلوعها، أنه يدل على حدث الحركة وبدئها، لأن الحركة لا تكون إلا من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى المشرق، وقد مضى من ذلك ما لا يحصى، وكان بعد حدوثه عدما، وما صح عدم جميعه بعد حدوثه فله نهاية وغاية، لأن الطلوع والأفول حادثان، وهما بعد حدوثهما منصرمان، وكل ما مضى منهما فهو عدم، وللكل نهاية تحيل القدم، وإذا صح حدث الفلك فلا يخلو من أحد ثلاثة أوجه: (1/175)
إما أن يكون أحدث نفسه.
وإما أن يكون حدث ولا محدث له.
وإما أن يكون أحدثه محدث أبان صنعه من تركيبه وبنيته، وهو الله الذي صنع وافتطر، وأحكم ودبر.
فإن قال: وما أنكرت من تدبيره لنفسه؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك لأنه لا يخلو في حال تدبيره لنفسه من أحد وجهين:
إما أن يكون دبَّر نفسه وخلقها في حال الوجود.
وإما أن يكون ذلك في حال العدم، فإن كان في حال العدم فمحال تدبير العدم، لأن الفاعل لا يكون إلا موجودا في حال فعله، والعدم ليس بشيء موجود فيفعل، وإن كان خلقها في حال الوجود فهذا يستحيل، لأنها إذا كانت موجودة استحال قولك: خلقها، إذ كان وجوده سابقا لفعله، وأيضا فإن المخلوق لا يفعل إلا حركة أو سكونا وما أشبههما من الأعراض.
فإن قال: فما أنكرت من أن يكون (1) حدث ولا محدث له؟!
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك لأن قولك: حدث يوجب أن له محدثا، ثم نقضت قولك بقولك: لا محدث له، فأقررت بالحدث ثم نفيته، لأن الحادث لا بد له من محدِث، كما لا بد لكل فعل من فاعل، ولا بد لكل بناء من بانٍ، ولكل كتاب من كاتب، ولا بد لكل صوت من مصوِّت، ولا بد لكل أثر من مؤثِّر، ومحال أن يكون أثر من غير مؤثِّر، وصوت من غير مصوِّت.
ودليل آخر
__________
(1) سقط من (أ): من أن يكون.
أنه لو كان يحدث بلا محدث لم يكن بالوجود أولى منه بالعدم، ولم يكن بالحدوث أولى منه بالقدم (1). (1/176)
ودليل آخر
أنه لو كان كما زعمت لم يعدم من أن (2) يكون حدث لعلة فهذا محال، لأن العلل ليست بحكيمة مدبِّرة، ولا بحية مقدِّرة، كما قد ذكرنا في أول الكتاب، وكذلك أيضا فقد ذكرنا ذلك في كتاب التناهي والتحديد، في بيان صنع الله في العلل وغيرها، فلما استحال هذان الوجهان صح الوجه الثالث وهو صنع الله سبحانه، وعز عن كل شأن شأنه، وذلك أنا نظرنا إلى النجوم والشمس والقمر فإذا هي مسخرات، مدبَّرات مقدَّرات، فعلمنا أنه لا بد لكل مسخَّر كان معدوم التسخير من مسخِّر، ولا بد لكل تقدير كان بعد عدمه من مقدِّر، ولكل مدبَّر كان بعد عدمه من مدبِّر، وذلك أنا وجدنا لحركتها غاية تدل على أوليتها، ووجدنا فيها تصويرا وإحكاما يدل على محكمها ومصورها، ووجدنا لها أقدارا تدل على مقدِّرها، ووجدناها متفاضلة فدل تفاضلها واختلافها على المفضِّل بينها، ووجدنا فيها دلائلا على منافع العباد، وقدوة للخلق في جميع البلاد، وهداية في ظلمات البر والبحر، ومصالح لهم في الليل والنهار، فدل ذلك على أنها نعمة، والنعمة لا تكون إلا من الواحد القهار، لما جعل(3) فيها من الزينة والأنوار، وأقام بمنفعة ذلك من المعايش والإبصار.
ودليل آخر
أن مكان هذه النجوم والشمس والقمر ضد لها منافر، مفارق مباين (4) غير موافق ولا مؤالف، فلما نظرنا التأليف بين الضدين، دلنا ذلك على حدثهما جميعا، وعلى أن لهما صانعا ألف بينهما (5) بلطفه وقدرته، وتدبيره وإظهاره لحكمته (6).
فإن قال: وما أنكرت من أن تكون ثبتت بطباع لها من غير عمد يعمدها؟
__________
(1) في (أ): بالعدم.
(2) في (أ): زعمت ثم بعد أن. مصحفة.
(3) في (أ): القهار وجعل.
(4) في (أ): ومفار ومباين. مصحفة.
(5) في (أ): لها صانعا ألف بينها.
(6) في (ب): وأصل هذه بحكمته. مصحفة.
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك لأن من طباعها الثقل، لأن أفولها وطلوعها وهويها دليل على قوتها (1) وثقلها، والثقل لا يستقر إلى على معتمَد، فإذا لم نر لها عمدا علمنا بيقين، أنها ثبتت (2) بلطف مدبرها. (1/177)
فإن قال: وما أنكرت من أن يكون الهواء يحملها؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك لأن من طبع الهواء الضعف عن أن يحمل حبة الخردل فما دونها!! فكيف يحمل السموات والنجوم والماء وجبال البرد؟! لأن من طبعها الثقل ومن طبعه الضعف.
ألا ترى السحاب ليس بينه وبين الماء والبرد مشاكله، وكذلك الهواء لا يشاكل الماء، لأن من طبع الهواء الضعف، فلما وجدنا الماء والسحاب مجتمعين علمنا بيقين أن ذلك الاجتماع ليس من فعلهما، وأن الجامع بينهما غيرهما، لأن من طبع الهواء الضعف، ومن طبع السحاب الخفة والطيشان والضعف، فلما وجدنا الماء والسحاب مجتمعين علمنا بيقين أن ذلك الاجتماع ليس من فعلهما وأن الجامع بنيهما غيرهما، لأن من شأن السحاب الخفيف أن يعلو صعدا، ومن شأن الماء أن ينحدر سفلا، فيجب على هذه الطبائع ألا يجتمعا طرفة عين، فأي حديث أعجب من اجتماع هذه الأضداد التي من شأنها الافتراق؟ وليس من طبعها الاجتماع والالتزاق.
ودليل آخر
أن الهواء لو كان يعمد النجوم لما أسلمها إلى الأفول والطلوع، ولو جاز ذلك في أقل قليل إسلامه لها من حيِّز إلى حَيِّز، لما كان أي الحيزين أولى بإسلامهما من الآخر، لأن الهواء لو كان يعمدها عند طلوعها لوجب أن يعمدها أيضا عند أفولها، ولو كان الهواء هو الذي يسقطها عند غروبها لأسقطها في وسطه قبل مغيبها، فلما وجدناها لا تسقط عند طلوعها علمنا أن لها مسخرا أطلعها، فلما استقلت في وسط الجو ولم يُسلِمْها إلى الهبوط علمنا أن غيره أمسكها لأنه يضعف عن حملها (3).
- - -
باب الرد على الثنوية عبدة النور والظلمة
__________
(1) في (أ): كونها.
(2) في (أ): تثبت.
(3) سقط من (أ): عن حملها.
قال المهدي لدين الله الحسين بن القاسم بن علي عليهما السلام: فإن رجع إلى قول الثنوية فقال: وما أنكرتم من أن تكون هذه الأشياء أحدثها اثنان سميعان بصيران عالمان، فالنور يخلق كل خير، والظلمة تخلق كل شر ومكروه وضير(1)، وليس ذلك باختيار ولكن ذلك بطباع أزلية؟ (1/178)
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك من وجوه شتى أولها:
أنك لا تخلو في قولك هذا من أحد وجهين:
إما أن تكون قُلتَه تظننا وتوهما.
وإما أن تكون قُلتَه بدرك ويقين.
فإن قلت: إنك أدركتهما رأي العين يخلقان أَحَلْتَ.
وإن قلت: بل ظننت وتوهمت، فقد قال الله عز وجل: ? ?????? ?????????? ??? ????????? ???? ????????? ???????????? ? [يونس:36].
وإن قال: - وهو قائل لا شك - حجتي على ذلك أني نظرت في العالم خيرا وشرا، فقضيت على أن الخير والشر من أصلين (2)، أحدهما فاعل خيرا، والآخر فاعل شرا، ولا يمكن أن يأتي بالخير من يأتي بالشر، ولا يمكن أن يأتي بالشر من يأتي بالخير؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: قولك هذا تظنن (3) وتوهم، ويستحيل من وجوه شتى أولها:
أنا وجدنا فاعل الخير والشر واحدا، ولو كان كما توهمت لما أحسن محسن، ولا اعتذر مذنب، ولا تاب مخطئ، إذ زعمت أنه لا يأتي بالخير مسيء أبدا.
ودليل آخر
أن الخلق تام متقن محكم، وفيه إبانة صنع محدِثه، ومحال أن تكون الحكمة من علة من العلل الطبيعية.
ودليل آخر
إما أن يكونا (4) عند تمازجهما أحدثا (5) الخلق بإرادة منهما.
(وإما أن يكون الخلق حدث بغير إرادتهما)(6).
وإما أن يكون حدث بطبائع (7) تمازجهما.
__________
(1) في (أ): وضر.
(2) في (ب): والشر أصلان.
(3) في (أ): تظنين.
(4) في (أ): يكون.
(5) في (أ): أحدث.
(6) سقط من (أ): ما بين القوسين.
(7) في (ب): بطباع.
فإن قلت: إن الخلق حدث بإرادتهما أَحَلتَ، لأنك وصفتهما بصفات تدل على حدثهما، وذلك أنك زعمت أن لكل واحد منهما خمس حواس مختلفات، ولا بد لما اختلف من الأشياء من صانع خالف بين أجناسه لإظهار حكمته، فجعل كل واحد (1) يصلح لخلاف ما يصلح له الآخر، لفاقته إلى ما جعل له صانعه، وإذا كان في الشيء من الأشياء ما يدل على حدثه بطل قدمه، وإذا بطل قدمه لم يكن بالفعل أولى من غيره، ولزمه إذ ذلك ما يلزم مثله من العجز عن (2) أن يصنع!!! (1/179)
وإن قلت: إن الخلق حدث بطباع تمازجهما أحلت، لأن المصنوع المطبوع لا تعدوه طبيعته، والاجتماع هو غرض لا يتعداهما إلى غيرهما، كما أن افتراقهما لا يوجب حكمة في سواهما.
ودليل آخر
أنهما إذا كانا (3) من التصوير على ما ذكرت، وفي تمام الحواس على ما وصفت، فقد يجب شكر المنعم بكمال أدواتهما، والمتفضل بتمام جوارحهما، إذ جعل لهما حواسا خمسا، عيانا وسمعا وذوقا وشما ولمسا، وخالف بين علمهما وحواسهما، وغاير بين صفات أجناسهما.
ودليل آخر
يقال لهم: ما العلة التي أوجبت تمازجهما بعد مُباينة كل واحد لضده؟! إذ زعمتم أنهما تمازجا بعد مباينة كل واحد لصاحبه!!
فإن قلتم: إن الظلمة بغت على النور، أوجبتم حدث حركة لاقَتْ بينهما، وإذا حدث بينهما حادث فهما على حالين محدثين، وهما الحركة والسكون، وما كان من الأشياء متحركا أو ساكنا فهو مضطر إلى الحركة والسكون، والمضطر لا بد له من صانع اضطره إلى الحوادث وبناه عليها.
ودليل آخر
قالوا: إنهما تمازج بعضهما ولا نهاية لما بقي منهما، وإذا كان لهما بعض تمازج بحركتهما فالذي بقي منهما، لا يخلو من أن يكون: ساكنا كله فينتظمه السكون ويتعلق بجميعه، أو يكون غير ساكن ولا متحرك فيكون عدما.
ودليل آخر
__________
(1) في (أ): حكمته فكل. وفي (أ)، (ب): واحدة. ولعل الصواب ما أثبت.
(2) في (ب): على. مصحفة.
(3) في (أ): إذا كان. وفي (ب): إما كان. ولفقت النص منهما.
لا يخلو (1) من أن يكونا ميتين أو حيين، فإن كانا ميتين فقد لا بسهما الموت وحواهما، وإن كانا حيين فقد حوتهما الأرواح وناهتهما. (1/180)
ودليل آخر
لا يخلو كل واحد منهما من أن يكون مجتمعا أو مفترقا، والافتراق يوجب التفصيل (2)، والاجتماع يوجب التوصيل، والتوصيل والتفصيل لا يكونان إلا من صانع موصِّل مفصِّل.
ودليل آخر
قال بعضهم: إنهما جنسان فالنور بياض كله، والظلمة سواد كلها، وللكل نهاية وغاية، لأن البياض قد لبس النور كله ولا بد لكل لباس من مُلبِس، وكذلك القول في السواد إنه قد لبس الظلمة كلها، وللكل نهاية وغاية، وإذا حواهما لباسهما فقد حدَّهما وتضمنهما، والسواد والبياض فهما عرضان صفتان لغيرهما، والخالق ليس بعرض ولا جسم، لأن الجسم فيه إبانة صنع صانعه، والعرض صفة له، لا إحسان له ولا إساءة، ولا قوة له ولا عقل ولا حياة ولا فعل من الأفعال، فكفى لعمري بشيء هذه صفته عجزا وضعفا!!!
ودليل آخر
أن البياض والسواد لا بد لهما من صانع خالف بين أجناسهما، لأن القديم لا يخالف القديم، والمحدثات أضداد لا بد لها من مضاد ضاد بينهما بقدرته ليُعلم أن لا ضد له.
باب الرد على المتجاهلة
قال الحسين بن القاسم عليهما السلام: فإن رجع إلى قول المتجاهلة فقال: وما أنكرت من أن تكون هذه الأشياء لا تصح علم أحدها، لأن النائم لا يصح منامه إذا استيقظ، والظل في الماء والمراية لا تصح إذا طلب، فلعل هذه الأشياء التي تذكرون (3) ستطل كما بطل غيرها؟
__________
(1) سقط من (ب): لا يخلو.
(2) في (أ): التوصل. مصحفة.
(3) في (ب): يدركون.
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك لأن ما بطل من الأشياء إنما بطل لعلة، وذلك أنه لا حقيقة لعقل (1) النائم، وإنما صح عنده الباطل في حال تغير عقله، وبطل عنده الباطل في حال صحة عقله حين استيقظ، مثل رَجُل رأى في منامه أنه مقطوع اليد ثم انتبه من منامه فلم يجد لما رأى حقيقة، وذلك أنه إنما رأى ذلك عنده بلا حقيقة، فبطل عنده حين عقل، ولو أنه رأى ذلك في اليقظة في صحة من عقله لما بطل ذلك عنه، ألا ترى أنه لو رأى في منامه أنه قتل وصلب لبطل ذلك عند يقضته، ولو رأى أنه قد قتل (2) في حال صحة عقله ويقضته لما بطل ذلك عنده إلى يوم القيامة، فنعوذ بالله من الكفر بعد الإيمان (3)!! ونسأل الله الثبات على الهدى والبرهان!! ولا حول ولا قوة إلا بالله ذي العزة والسلطان!! (1/181)
فإن قال: فما الدليل على حقائق الأشياء؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: وجودها مبرأة من عوارض العلل التي تعرض دون دركها.
فإن قال: فما العوارض التي تمنع من درك الحقائق؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: من ذلك النوم وزوال العقل وتغير الحواس.
فإن قال: فما حقيقة الجسم؟
قيل له: وجوده بذاته مدبرا مدركا، تحويه الجهات الست: الفوق والتحت واليمين والشمال والخلف والأمام.
فإن قال: فما (4) حقيقة العرض؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: وجوده بحيث أحلَّه الله من الأجسام.
فإن قال: فما حقيقة الحس؟
قيل له: دركه الحاسة للمحسوس.
فإن قال: فما حقيقة الحركة؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: وجود العضو المتحرك زائلا عن اللبث.
فإن قال: فما حقيقة السكون؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: وجود العضو الساكن لابثا غير زائل.
فإن قال: فما الدليل على أن الحركة غير المتحرك؟
__________
(1) في (أ): لعلل. مصحفة.
(2) في (أ): ولو أنه قتل.
(3) في (ب): الإيقان.
(4) في (أ): وما.
قيل له ولا قوة إلا بالله (1): وجود العضو على غير الحركة ساكنا ثم ترى الحركة، فتعلم أن الحركة شيء لم تره ثم رأيته، ولو كانت الحركة هي العضو المتحرك (2) لرأيت الحركة في حال السكون، فلما رأيت العضو ساكنا ولم تر الحركة ثم رأيتها، علمت أن الذي لم تكن رأيته غير الذي كنت رأيت، فقس وافْهَمْ إن شاء الله تعالى. (1/182)
باب الرد على من جحد النبوة
قال الإمام المهدي لدين الله الحسين بن القاسم بن علي عليهما السلام: فإن قال: وما أنكرتم من أن يكون لنا خالق على ما وصفتم ولم يرسل رسلا(3)؟
فلنا بحمد لله رد على هؤلاء سنذكره، وذلك أنهم جحدوا الرسل واعتلوا في ذلك بأن الله سبحانه حكيم، والحكيم إذا علم أنك لا تجبه فلا يرسل إليك إلا وهو عابث.
فيقال لهم: ليس الأمر كما توهمتم، ولكن إذا علم الحكيم أنه قد أعطاك قوة تفعل بها ما أمرك بفعله، وتترك ما أمرك بتركه، ثم أرسل إليك فلا يرسل إليك إلا وهو يعلم أن لك قوة إلى فعل ما أمرك بفعله، وترك ما أمرك بتركه.
ويقال لهم: أَعِلمُ الله مانع له من إرسال الرسل؟! أم علمه مانع لكم من طاعته؟!
فإن قالوا: إن علمه منعه جعلوه ممنوعا، مضطرا مدفوعا، وجعلوا العلم شيئا مانعا، ولحجته دافعا، فسبحان الله عما يشركون!! وإنما علمه ذاته.
وإن قالوا: إن علم الله مانع لهم من طاعته، فقد أحالوا في قولهم، لأن العلم هو الله، والله حكيم، والحكيم لا يمنع المطيعين من طاعته.
ودليل آخر
أن الحكيم إذا علم أنه يعصى لم يمنعه ذلك من الرسالة إلى من عصاه، لتكون الحجة له عليهم، ولتكون دعوته ورسالته أقطع (4) لعللهم وأدحض لحججهم.
ودليل آخر
أن الحكيم إذا علم بمعصية أعدائه، لم يمنعه علمه بمعصيتهم من الرسالة إلى أوليائه.
- - -
باب التوحيد ونفي التشبيه
__________
(1) سقط من (أ): ولا قوة إلا بالله.
(2) في (أ): المتحركة.
(3) في (أ): رسولا.
(4) في (ب): دعوته والحجة له أقطع.
قال المهدي لدين الله الحسين بن القاسم بن علي عليهما السلام: فإن رجع إلى قول أصحاب الاثنين فقال: وما أنكرتم من كون خالقين قديمين بالصفات التي وصفتم بها الواحد القديم، وهو الله الرحمن الرحيم؟ (1/183)
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك لتضاد الاثنين!!
فإن قال: وما أنكرت من اتفاقهما؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لو اتفقا لم تعدوا صفاتهما (1) في العلم والجهل والقدرة والعجز، فإن كان كل واحد منهما يقدر على إخفاء فعله وخلقه في سماواته وأرضه عن صاحبه، خرجا جميعا من العلم وصارا جميعا إلى الجهل، إذ كان كل واحد منهما جاهلا بما يخفي عنه صاحبه من الفعل، وإن كانا لا يقدران على إخفاء كل واحد فعلا يفعله، خرجا من صفات القدرة إلى العجز، إذ كان كل منهما لا يقدر أن يخفى فعله عن الآخر، وإذا كانا عاجزين جاهلين صح أنهما مخلوقان (2)، وإذا كان أحدهما يقدر على إخفاء فعله والآخر لا يقدر، ثبتت الربوبية للعالم القادر، والمربوب هو العاجز الجاهل بعجزه عن قدرة خالقه، إذ لا بد للعاجز من معجز أعجزه ومنعه.
ودليل آخر
أنهما إذا كانا اثنين لم يخلوا من ثلاثة أوجه:
إما أن يكونا حكيمين.
وإما أن يكونا سفيهين.
وإما يكون أحدهما سفيها والآخر حكيما.
فإن كانا حكيم (وجب عليهما أن يبينا أنفسهما، ولا يخملا حكمتهما)(3) وإن كان سفيهين فهما غير قديمين، لأن السفه والعبث إنما تولد من الهوى، والقديم لا يعبث ولا يهوى، لأن الهوى بنية ضرورية جعلت للبلوى، وإن كان أحدهما حكيما والآخر سفيها، فالربوبية للحكيم الذي بيَّن حكمته، والسفيه مربوب مخلوق عاجز، والله أعجزه وابتلاه، وركَّبه على الشهوات وبناه.
- - -
باب الرد على الفضائية
__________
(1) سقط من (أ): لم تعدوا صفاتهما.
(2) في (أ): مخلوقات.
(3) سقط من (أ): ما بين القوسين.
قال المهدي لدين الله الحسين بن القاسم بن علي عليهما السلام: فإن رجع إلى قول الفضائية فقال: فإذا أوضحت لي أنه واحد فما أنكرت من أن يكون الفضاء الهواء المكان الذي فيه الأشياء قديما (1)؟ (1/184)
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك من وجوه شتى:
أحدها: أن الفضاء جسم ضعيف، والخالق لا يكون جسما، ولو كان جسما لما قدر على خلق جسم، والخالق أيضا لا يكون ضعيفا لأن الضعيف مخلوق.
ودليل آخر
أن الفضاء مجتمع مُوَصَّل ولا بد لكل مجتمع من جامع، ولا بد لكل توصيل من موصِّل، والله موصله وجامعه، ومبتدعه وصانعه، وأيضا فإنه محدود ولا بد لكل محدود من محدِّد قطع حدوده وناهاه، وأوضح نهايته وغاياه.
ودليل آخر
أن الهواء موات ولا بد من مميتة ومجمِّده، ومضعفه ومحدده، ومن هؤلاء الفضائين من يقر بالقرآن (2)، والله يقول عز وجل من قائل: ? ????? ??????????? ?????????? ????? ?????????? ? [البقرة:255]. والهواء يُدرك ويحاط بعلمه، ويقول سبحانه: ? ???? ???????????? ????????????????? ? [الأنعام:103]. والهواء فهو المسافة المدركة بين السماء والأرض.
ودليل آخر
أن الهواء ساكن وربما تحرك فهو مضطر إلى الحركة والسكون، ولا بد له من صانع اضطره إليهما وبناه عليهما.
ودليل آخر
أن كل ما لم (3) ينفك من الحركة والسكون فهو محدث، لأنهما محدثان يكثران ويقلان، لأن الهواء قد طال مقامه فيما مضى من الأزمان، والأزمان محدثة بأبين البيان، لأن ما مضى منها فلم يعدم إلا بعد حدوثه ساعة بعد ساعة، وتلك الساعات فقد عدم جميعها بعد حدوثها كلها، وللكل نهاية وغاية، وهو لم ينفك منهما ولم يكن قبلهما، وإذا لم يكن قبلهما فهو في الحدوث مثلهما، نسأل الله المغفرة والهدى، ونعوذ به من الحيرة والردى.
- - -
باب المعرفة
فإن قال: فما الدليل على معرفة الخالق وأين هو؟
__________
(1) سقط من (ب): قديما.
(2) في (ب): بالكتاب.
(3) في (أ): لا.
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على معرفته ما أظهر (1) من الصنع المتقن، وأقرب الأدلة إلى الإنسان نفسه، لأنا رأينا كل جارحة من جوارحه، لم تجعل إلا لمصلحة من مصالحه، فعلمنا أن الإصلاح لا يكون إلا من صانع عالم، لأنه لو كان جاهلا لما اهتدى إلى الإصلاح. (1/185)
وأما قولك: أين هو؟ فإن أين مكان وربنا ليس في مكان، لأنه خالق المكان وهو كان ولا مكان.
فإن قال: فكيف هو؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لا كيف له، لأن كيف صفة من صفات خلقه، تحتمل أوصاف الأجسام، والله ليس بمكيف مصنوع فيوصف بصفات المكينين(2).
فإن قال: ففي أي الجهات هو؟ أفوق كل شيء، أم تحت كل شيء، أم هو محيط بكل شيء، أم هو في كل شيء، أو هو مع كل شيء؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: مسألتك تحتمل ثلاثة أوجه:
إما أن تكون عنيت ذاته.
وإما أن تكون عنيت علمه.
وإما أن تكون عنيت قدرته.
فإن قلت: عنيت بقولك قدرته، فهو لعمري فوق كل شيء قاهر، وذلك قوله سبحانه: ? ?????? ??????????? ???????? ??????????? ? [الأنعام:18، 61]. وإن كنت عنيت بفوق وتحت ومحيط وفي ومع تريد: علمه، فهو لعمري كذلك محيط بكل شيء، وفي كل شيء، لا يخلو منه شيء، ومع كل شيء لا يخفى عليه شيء.
__________
(1) في (ب): ما ظهر.
(2) في (أ): المطيعين. مصحفة.
وإن كنت عنيت ذاته، فمحال أن يكون محادا للعالم فيكون مجزأ مبعضا، لأنه إذا كان فوق العالم فالذي يحاد العالم منه أسفل، وإذا كان تحت العالم فالذي يحاد العالم منه أعلا، وإذا كان محيطا فالعالم منه في كل أو بعض، والكل والبعض من أوصاف المخلوقين، وكذلك إذا كان في العالم كان العالم له محلا، ومسكنا وملجأ ومعقلا، وكان مكانه أكثر منه وكان محدودا، والمحدود لا بد له من محدِّد، لأنه إذا حاط به المكان فله غاية ومنقطع، وما كان له منقطع فله قاطع، لأن المقطوع مفروغ منه، والفراغ من فعل المحدِّد القاطع للحدود المناهي لها، وهو(1) الله محدِّد الأجسام وقاطعهان ومفتطرها وصانعها، ومفرقها وجامعها، وهذه صفات المخلوقين الموهومين (2)، ذوي الأماكن المدبَّرين، وربنا بخلاف خلقه، لأنه لا يقع عليه الفكر ولا يخطر على بال، لأنه ليس في مكان ولا بينه وبين خلقه مكان، لأن المكان لو كان بينه وبينهم لم يخل ذلك المكان من أن يقربه فيكون قريبا منهم، أو بعيدا فيبعده عنهم، ولو كان قريبا بذاته منهم لكان مقرَّبا لا بد له من مقرِّب قرَّبه!! ولو كان بعيدا بذاته عنهم لكان مبعَّدا لا بد له من مبعِّد أبَعَّدهَ (3). (1/186)
ودليل آخر
أنه لو كان بينه وبين خلقه مسافة لم تخل تلك المسافة من أن تكون قاربت كله أو بعضه، وللكل والبعض نهاية وغاية، والله سبحانه ليس بذي كل ولا بعض، ولا طول ولا عرض، ولا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا خلف ولا أمام، ولا لون ولا طعم ولا رائحة لا محسة، ولا افتراق ولا اجتماع، ولا حركة ولا سكون، لأن هذه الصفات لا تكون إلا في الأجسام التي ذكرنا، والله خالقها وجاعلها.
- - -
باب الرد على من أنكر قول آل محمد
صلوات الله عليهم في أن الله شيء لا كالأشياء
__________
(1) في (أ): للمحدود المناهي وهو.
(2) في (أ): الموهمين.
(3) في (أ): أبعده.
قال الحسين بن القاسم عليهما السلام: فإن قال قائل: بم (1) زعمت أن الله شيء ولم تقل مشيء الشيء، وقد علمت أنا لم نجد شيئا إلا جسما، فهل نفيت عن ذلك صفات الأجسام؟! (1/187)
قيل له ولا قوة إلا بالله: اعلم أن قولنا: شيء إثبات موجود ونفي معدوم، وقولنا: لا كالأشياء نفي التشبيه، وذلك قول الله عز وجل: ? ????? ?????? ??????? ??????????? ????????????? ????? ??????? ???????? ? [الأنعام:19]، فسمى نفسه شيئا، ثم قال: ? ??????? ??????????? ???????? ? [الشورى:11]. فحكينا من قوله ما قال، ونسبنا إليه سبحانه ما نسب إلى نفسه، ونفينا عنه ما نفى عن نفسه من شبه خلقه.
مسألة
فإن قال: أهو عالم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: نعم هو سبحانه عالم.
فإن قال: أَعِلْمُه هو أم عِلمُه غيره؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: اعلم أيها السائل أن علمه وقدرته صفتان (2)، من صفات ذاته، هما الذات والذات هما، وهو العالم بنفسه، القادر بنفسه، الحي بنفسه، لا بحياة سواه، ولا علم ولا قدرة غيره (3).
مسألة
فإن قال: ربكم مريد؟
قيل له: نعم.
فإن قال: ما إرادته؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: فعله للشيء فقط.
مسألة
فإن قال: ربكم يقدر أن يريد أو يريد أن يقدر؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: هذه مسألة مغالطة، منها ما يصح ومنها ما يفسد.
فأما الصحيح فقولك: يقدر أن يريد، لأن الإرادة فعله وهو لعمري قادر على الأفعال.
وأما الفاسد المحال فقولك: يريد أن يقدر، فكأنك قلت يفعل القدرة وهو لم يزل قادرا، فجعلت القدرة من المفعولات ففسد القول (4) واستحال.
مسألة
فإن قال: ربكم يعلم أن يقدر أو يقدر أن يعلم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: ربنا يعلم أنه يقدر.
وأما قولك: يقدر أن يعلم ففاسد محال، لأن القدرة لا تقع إلا على المقدورات، وليس علم الله بمقدور فتقع عليه القدرة.
مسألة
__________
(1) في (ب): لِمَ.
(2) في (أ): صفات.
(3) سقط من (ب): ولا علم ولا قدرة غيره.
(4) سقط من (أ): القول.
فإن قال: ما دليلك على أن الله حي؟ (1/188)
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأنا نظرنا إلى الخلق، فإذا هو متصل تام محكم متقن، فعلمنا أنه صنع حكيم حي، لأن الميت لا يقي (1) نفسه فضلا عن غيره، ومحال تدبير من هو ميت، والحكيم لا يكون إلا حيا، والميت لا علم له ولا قدرة ولا إرادة ولا حكمة.
مسألة
فإن قال: فما دليلك على أنه قادر؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أبين الأدلة وأوضحها، وذلك لأن العاجز لا يقدر على فعل شيء أصلا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا!!
مسألة
فإن قال: فما دليلك على أنه عالم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لولا أنه عالم لما اهتدى خلق الأشياء من غير شيء، بل لعلمه بها قبل تكوينه لها خلقها وفطرها واخترعها بغير مثال احتذى عليه، وكيف لا يعلم المبتدِع ما ابتدع، والحكيم الصانع ما صنع؟!!
مسألة
فإن قال: هل له حد أو نهاية أو أمد أو غاية (2)؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: تعالى الله خالقنا عن أن يكون له حد أو نهاية، أو أمد أو غاية، لأن كل محدود لا بد له من محدِّد أحاط به، وكل ذي عدد لا بد له من معدِّد، وربنا ليس بذي حد به يحد، ولا بذي أجزاء تعد.
مسألة
فإن قال: فهل يُدرك بحس أو نفس؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: هذا محال لا يجوز على الله، لأن النفس لا تدرك إلا جسما أو عرضا، وكذلك درك الحس أيضا، والجسم والعرض محدثان، ومدبَّران بعد العدم مصنوعان.
- - -
باب الحقائق
فإن قال: فما حقيقته في ذاته؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: مسألتك تحتمل وجهين:
إما أن تكون أردت حقيقة ذاته.
وإما أن تكون أردت الدلالة على وجوده.
__________
(1) في (أ): لا يعني.
(2) في (ب): حد وغاية، وأمد ونهاية. وسقط من (أ): هل.
فإن كنت أردت ذاته فحقيقته ذاته وذاته حقيقته، وإن كنت أردت الدلالة على حقيقته وصنعه (1)، فالجواب في ذلك أن وجود خلقه وصنعه يدل على أنه شيء حق، وليس عندنا من الجواب في المسألة إن ما ذكرت لك، إذ كل شيء موجود مدرك محسوس تعرف حقيقته بذاته، والله لا يعرف إلا بما أظهر من حكمته، وحقيقته قدمه وهو حقيقة ذاته، وكذلك غير القدم من صفاته كعلمه وقدرته وحياته. (1/189)
مسألة
فإن قال: فما هو؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: مسألتك تحتمل ثلاثة أوجه:
إما أن تكون سألت عن اسمه.
وإما أن تكون سألت عن صفته.
وإما أن تكون سألت عن ذاته.
فإن كنت سألت عن اسمه فهو الله الرحمن الرحيم، وإن كنت سألت عن صفته فهو الواحد القديم القدير العليم، وإن كنت سألت عن ذاته فهو الذي ليس كمثله شيء.
مسألة عن الإرادة
فإن قال: أخبرونا لم (2) يزل الله مريدا أم إرادته حدثت ولم تكن أزلية؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: اعلم أن إرادة الله سبحانه هي فعله.
وأما إرادته لطاعة عباده فهي أمره لهم فقط، وكذلك سخطه لمعصيتهم فهو نهيه لهم، والله سبحانه لم يزل عالما بجميع فعله، عالما بجميع ما سيريد تكوينه، وإنما الذي يريد بلا علم تقدم، ويضمر بغير تكوين هو الإنسان الجاهل، الجائل الفكر الذي تحدث له النية والضمير والإرادة بإضمار القلب والطوية، ولو كانت إرادته قبل فعله لكانت إرادته كإرادة المخلوقين، ولكانت عرضا في (3) جسم، ولو كان جسما لأشبه الأجسام. وإنما إرادته فعله وفعله مراده، وليس ثَمَّ إرادة غير المراد، فيكون مشابها للعباد.
__________
(1) سقط من (أ): وصنعه.
(2) في (أ): وإن قال: لم.
(3) في (أ)، (ب): من. وما أثبت اجتهاد.
ومحبة الله هي: رضاه ورضاه محبته، ومحبته ثوابه، وبغضه غضبه، وغضبه عقابه، وكراهته نهيه، لا غير ذلك، وهذه صفات تكون لله فعلا، وتكون للمخلوقين بخلاف ما هي لله أعراض علل في المعلولات، لأن إرادة المخلوقين إهتشاش قلوبهم، ومحبة نفوسهم قبل فعلهم، وكراهتهم ومحبتهم مختلجان (1) في صدورهم، وحاش لله أن يوصف بصفات خلقه، والشهوة والكراهة بغيتان ضروريتان، وحاش الله (2) أن يكون مضطرا إلى شيء أو مبنيا عليه. (1/190)
مسألة
فإن قال: فما دَعَاه إلى أن يخلق؟!
قيل له ولا قوة إلا بالله: كلامك هذا فاسد محال، لا يجوز على الله سبحانه، لأنه لم يزل عالما بلا داع خطر، لأن الخاطر الداعي من صفات الجهال المخلوقين، الذين يذكرون بعد (3) النسيان، والناسي لا بد له من مانع منعه، وهو الله الذي فطره على الضعف وصنعه.
مسألة
فإن قال: فأيهما أكثر، إقامته قبل أن يخلق، أم إقامته بعد أن خلق؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: هذه مسألة محال، لا يصح بها اعتقاد ولا مقال، لأن الإقامة من صفات المخلوقين، وليست من صفات رب العالمين، والإقامة فإنما هي الحركة (4) والسكون.
مسألة
فإن قال: أخبرني عن الله لِمَ لَمْ يخلق خلقه قبل أن يخلقهم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: هذه مسألة تستحيل، ولا تثبت عند أحد من أهل العقول، لأنك قلت: يخلق الخلق قبل أن يخلقه، فأوجبت أن قبل الخلق زمانا مقدما، والله خالق الزمان والمكان، والحين والأوان، وهو الأول الذي لا قبل لأوليته ولا كيف لأزليته، كان في حال القدم قبل (5) بريته، ولا عقل ولا معقول سواه، ولم يكن معه أزمنة ولا شهور ولا ساعات، ولا أمكنة ولا أوقات، ولا علم ولا معلوم، ولا فهم ولا مفهوم، ولا وهم ولا موهوم.
مسألة
فإن قال: خلق الله بعلة (6) أو بقصد وإرادة؟
__________
(1) في (أ): مختدعان. مصحفة.
(2) في (أ): لله.
(3) سقط من (أ): بعد.
(4) في (أ): الحركات.
(5) سقط من (أ): قبل.
(6) في (أ): بعلم. مصحفة.
قيل له ولا قوة إلا بالله: أإن العلة لازمة بغير إرادة المعلول، وما كان بغير إرادته فلم يقصده، وما كان غير مقصود فلم يعمده، وما كان غير معتمد لم يخل من أن يكون قديما أو محدثا، فإن كان محدَثا فالمحدِث له لا يخلو من أن يكون عنه جاهلا مضطرا إلى الجهل، أو ربا عالما بالفعل، فإن كان هذا الصنع من علة بغير قصد ولا مشيئة فهذا محال، لأن العلة لا توجب حكمة بالغة، ولا نعمة سابغة، لأن العلة ضرورة بُنِي عليها المعلول، وليست توجب حكمة عند أهل العقول، وما كان مضطرا فهو ممنوع من الاختيار، وما كان ممنوعا ملجأ إلى الاضطرار، فصانعه بخلافه في جميع الأمور، بفضل الفاطر على المفطور، وأن هذا الصنع من رب عالم صنعه بعلمه واختياره، وأوجبه بقوته واقتداره، وجاد على البرية بإظهاره واقتهاره(1)، غير مضطر إليه، ولا مكرَه بالعلل عليه، فذلك مُجري العلل في المعلولات، وصانع جميع المصنوعات، وفاطر الأرض والسموات. (1/191)
مسألة
فإن قال: فهل الإرادة الله نهاية؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: اعلم أن الإرادة هي الفعل وللفعل نهاية وغاية، والفرق بين (2) إرادة الله وإرادة خلقه أن إرادة المخلوقين خواطر، وإرادة الله سبحانه أجسام موجودة بصفاتها، وبدائع تعرف بجهاتها (3).
مسألة
فإن قال: ما الفرق بين فعل الله وفعل خلقه؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الفرق بين ذلك أن فعل الله ابتداع واختراع، وفعل العباد حركات وسكون واعتقاد، وأفعال العباد بآلاتهم وهي أعراض متعلقة بأجسامهم، وأفعال الله غير (4) متعلقة بذاته.
مسألة
فإن قال: أخبرني كيف خلق الله الخلق؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: هذه المسألة تشتمل على وجوه كثيرة:
فمن ذلك أن يكون السائل أراد بقوله: كيف خلق؟ أي كيف أسعده الخلق وتهيأ له.
__________
(1) سقط من (أ): واقتهاره.
(2) في (أ): من. مصحفة.
(3) في (أ): بحياتها. مصحفة.
(4) سقط من (أ): غير.
ومن ذلك: أن يكون أراد بقوله: هل خلقه بحيلة أو علة؟ فإن أراد أنه خلق الخلق بحيلة، فهذا محال لا يجوز عليه، ولا ينسبه عالم إليه. (1/192)
وإن أراد بذلك أنه خلق بعلة فهذا محال، لأن العلة لا تخلو من صفات المحدثات، والمحدثات لا تخلق أمثالها، ولا توجب أشكالها، لأن المحدثات هي الأجسام والأعراض، والجسم لا يخلق جسما ولا يوجد لحما ولا دما.
وإن أراد كيف خلق؟ يريد بذلك أي كيف تهيأ له الخلق؟
فالجواب في ذلك: أن الخلق تهيأ له بالقدرة التي لا كيف لها.
مسألة
فإن قال: أخبرني أَعِلمُ الله كثير أم قليل؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: إن كنت أردت علمه الذي نزل على أنبيائه ورسله فهو كثير، وإن أردت علمه الذي هو ذاته فليس يوصف بالكثرة فيكون عددا، ولا يوصف بالقلة وبالبعض أبدا، لأن العدد الكثير يدل على التغاير والأبعاض، وذلك فلا يوجد إلا في الأجسام والأعراض، وكذلك العدد القليل فهو منقوص، والمنقوص بالعلة مخصوص.
فإن قال: أمعلوم الله كثيرٌ أم قليل؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: معلوم الله كل دقيق وجليل، وصغير وكبير، وممكن ومستحيل، ومعلومه ما قد كان وما سيكون وما لو كان كيف يكون وما لا يكون أنه لا يكون.
مسألة
فإن قال: هل يحصى تقدم الله قبل خلقه؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: هذا محال لا يجوز على الله سبحانه، لأن تقدم الله هو قدمه، وقدمه ذاته، وذاته لا توصف بقلة ولا كثرة ولا عدد، ولا أمد ولا حد، وقدم الله لا يفهم ولا يدرك ولا يعلم.
مسألة
فإن قال: لِمَ ذكَّرَ الله اسمه؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: إن تذكير الاسم أولى من تأنيثه، وإنما الأصل في تذكير الاسم أن الشيء هو الموجود، والموجود مذكر أبدا، وإنما جعل التأنيث للمعنى.
مسألة
فإن قال: خلق الله الخلق من شيء أولا من شيء؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: اعلم أن الله عز وجل خلق الخلق من غير شيء، لأن القديم لا يتغير ولا يزيد ولا ينقص، ولا يعدم بعد وجود كما لا يوجد بعد عدم، لأنه إن تغير لم يخل من أن يكون تغير كله أو بعضه، والكل والبعض لا يكون إلا متحركا أو ساكنا، والحركة والسكون محدثان، وكذلك لا يفنى إلا الكل أو البعض، والكل والبعض متناهيان مقطوعان، ومحدثان بعد العدم مصنوعان، لأن الكل محدود، والتبعيض عدد معدود، والاجتماع دليل على الجامع، والافتراق دليل على المفرِّق الصانع، فلو كان أصل الخلق قديما لم يخل من أن يكون خلق الخلق من كله أو بعضه، وفي (1) الكل والبعض نفي القدم، وحدوث العالم بعد العدم، لحدوث (2) الكل والبعض والاجتماع والافتراق والحركة والسكون، فلحدوث الأشياء تفرقت واجتمعت، ولتدبير مدبرِّها تصرَّفت وتنقلَّت، فالحمد لله الذي لا ينقص ولا يزيد، ولا يبطل ولا يبيد. (1/193)
مسألة
فإن قال: لم خلق الله الخلق؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: اعلم أن الله سبحانه خلق الخلق لإظهار حكمته.
مسألة
فإن قال: فَلِمَ أظهر الله حكمته؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأن إظهار الحكمة حسن، وإظهار الحسن خير من تركه.
مسألة
فإن قال: فلم كلَّفهم؟
__________
(1) سقط من (ب): وفي.
(2) في (أ): بحدوث.
قيل له ولا قوة إلا بالله: لإظهار الحسن من فعلهم، لأن الصبر على الكلفة حسن يستوجبون عليه الثواب، لأن التعبد داعٍ إلى الحكمة زاجر عن الجهل، وكلما دعا إلى الحكمة والرشاد، وزجر عن الغي والفساد، ففيه مصلحة لجميع العباد، مع ما في الصبر على المحن التي امتحن الله بها جميع المكلفين من المصلحة لجميع العالمين، والغبطة بما وعد الله من الثواب، والسرور بالنجاة من أليم العقاب، لأن الثواب بعد المحنة أكمل وأعظم للنعمة، وإنما ابتدأ الله الخلق بدار المحنة لإظهار فضلهم، ولعظيم (1) سرورهم بالنجاة بعد خوفهم، وأيضا فإن طول المحن والتجارب، أفضل من الغفلة عن العجائب، لفضل الحكمة والمعرفة على الجهل، ولما في التجارب من لقاح العقل. (1/194)
مسألة
فإن قال: فما الدليل على صدق الرسل؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على صدقهم ما أتوا به من المعجزات، مثل: إحياء الموتى، وكلام البهائم والشجر، والرمي بالعصا فإذا هي حية تسعى، وفلق البحر، والسير فيه يبسا.
- - -
باب الرد على من جحد نبوة محمد
صلى الله عليه وآله وسلم وعلى جميع الأنبياء وسلم تسليما.
قال المهدي لدين الله الحسين بن القاسم بن علي عليهما السلام: فإن رجع إلى قول اليهود فقال: وما أنكرتم من أن تكون النبوة لموسى عليه السلام من دون محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك لأنهما نبيان جميعا لا فرق بينهما.
فإن قال: فبم صحت لك نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: بمثل ما صحت لك نبوة موسى.
فإن قال: صحت لي نبوة موسى بالمعجزات؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: وكذلك صحت لنا نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزات.
فإن قال: وما علمكم بصدق الرواة؟
__________
(1) في (أ): وتعظيم.
قيل له ولا قوة إلا بالله: كعلمك بصدق الرواة، ودلنا أيضا على صدقهم هذا القرآن الذي أتى به نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، فعجز الخلق أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله، وفيه تصديق نبوة موسى وعيسى صلى الله عليهما وعلى الأنبياء أجمعين. (1/195)
فإن قال: وكذلك صحت نبوة موسى بإجماعكم (1) معنا ونحن غير مجمعين معكم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: كلامكم هذا فاسد محال، لأن إجماعنا معكم على نبوة موسى صلوات الله عليه طاعة منا لربنا، نستحق بها منه ثوابه، وجحدانكم لنبوءة محمد صلى الله عليه وآله وسلم معصية الله تستحقون بها منه عقابه، وكذلك الرد عليه إن كان نصرانيا أو مجوسيا.
- - -
باب الرد على من جحد الإمامة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال المهدي لدين الله الحسين بن القاسم بن علي عليهما السلام: فإن رجع إلى الحق، وأقر (2) بكلمة الصدق، وجحد الإمامة فهو مشرك، لأن الإمامة فرض من الله لا يسع أحد جهلها، لأن الحكيم لا يهمل خلقه مع ما يرى (3) من اختلافهم من الحجة على من عَنَدَ من الحق منهم، والهداية لمن طلب النجاة من أوليائه، والبيان لتلبيس أعدائه، وإلا فقد ساوا بين حقهم وباطلهم، وفي ذلك ما يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((من مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية))، وقول الله سبحانه: ? ?????????? ?????? ???????? ????????? ??????? ????? ??? ? [الرعد:7]. فأخبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منذر للعباد، وأن لكل قوم هاد إلى الحق في كل زمان، يوضح لهم ما التبس من الأديان، ويرد على من دان بغير دين الإسلام، ويوضح الحجة على جميع الأنام.
فإن قال: مَن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ زعمتم أن الأرض لا تخلو من الحجة؟
__________
(1) في (أ): بإجماعهم.
(2) في (أ): وأخر. مصحفة.
(3) في (أ): بدا.
قيل له ولا قوة إلا بالله: الحجة بعد نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أقدر الخلق على القيام بأمور الدين، وأكمل جميع المسلمين، ولم يعلم ذلك غير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه صلوات رب العالمين، وفيه يقول أخوه رسول الله عليه أفضل الصلاة والتسليم: ((علي منى بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي)). (1/196)
ويقول صلوات الله عليه: ((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، واخذل من خذله، وانصر من نصره)).
- - -
باب الرد على من زعم أن الإمامة بعد رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذريته
وفي غيرهم من الأمة
قال الحسين بن القاسم صلوات الله عليه: فإن رجع إلى مذهب أمة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم فقال: وما أنكرت أن تكون الإمامة بعد النبي في أهل بيته وفي غيرهم، إذ ليس معكم من الروايات شيء إلا ومعنا أكثر منها؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الحق يعرف من ثلاثة أوجه وهي:
محكم الكتاب، والسنة، وحجج الألباب.
فأما أصل ذلك في حجج العقول فإن الحكيم لو جعلها في جميع الناس، لوقعوا في أعظم الالتباس، لكثرة دعاوي الفاسقين، واغتيال الظلمة المنافقين، فمن هاهنا وجب أن تكون الإمامة في أهل بيت معروفين، وبالفضل والشرف مخصوصين.
وأما في الكتاب فقول الله سبحانه: ? ????????? ???????? ?????? ?????????? ??????? ?????????? ????????? ??????????? ????????????????? ??????????? ???? ? [الأحزاب:33]. وقوله سبحانه لنبيه: ? ???? ????? ???????????????? ????????? ????????? ??????? ????????????? ? ??????????????? ? [الشورى:23]. فافترض سبحانه مودة ذوي القربى من رسوله.
فيأيها الأمة الضالة عن سبيل رشدها، الجاهدة في هلاك أنفسها، أمرتم بمودة آل النبي؟! أم فرض عليكم مودة تيم وعدي؟! ومَن الذين أذهب لله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، إلا الذين أمرتم بمودتهم من ذوي القربى من آل نبيكم! فهذه بحمد الله حجج واضحة منيرة لا تطفأ، وشواهد مشهورة ولا تخفى، إلا على مكابر عمي، أو شيطان غوي، قد كابر عقله، ورفض لُبَّه. (1/197)
وأما السنة فهي (1) ما أُجمع عليه من إمامتهم، والباطل ما اختلف فيه من إمامة غيرهم.
- - -
باب الرد على الإمامية الرافضة
قال الحسين بن القاسم بن علي عليهما السلام: فإن رجع إلى قول الإمامية فقال: وما أنكرت من أن تكون الإمامة لولد الحسين من دون ولد الحسن صلوات الله عليهما؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك لأنهما في الولادة سواء لا فرق بينهما، وكذلك لا فرق بين ذريتهما، وإلا فما حجتك في رفضهم، وما عذرك عند الله في إبطال إمامتهم؟!
فإن قال: بإجماعكم معنا على إمامة ولد الحسين، ولسنا مجمعين معكم على إمامة ولد الحسن؟
__________
(1) في (ب): ففي.
قيل له ولا قوة إلا بالله: ليس إجماعنا معكم على الحق بحجة تُثبت لكم باطلكم، ولا رفضكم لحجج الله عز وجل مما يصحح دعواكم، وإنما إجماعنا معكم على إمامة ولد الحسين طاعة منا لربنا نستحق بها منه الثواب، وففريقكم بين آل (1) الرسول معصية تستحقون بها منه العقاب، والله يقول عز من قائل: ?? ???? ????? ???????????????? ????????? ????????? ??????? ????????????? ? ??????????????? ? [الشورى:23]. فإن كان أولاد الحسن من ذوي القربى فقد افترض الله (2) مودتهم، وإن آخرجتموهم من قرابة النبي فأنتم بالبعد أولى منهم، وقال سبحانه: ? ??????????????? ????????? ??????????? ???? ??????? ??? ????????????? ???? ? [النحل:43، الأنبياء:7]. والذكر فهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الموضع، وذلك قول الله سبحانه: ? ????? ???????? ?????? ???????????? ??????? ???? ????????? ? [الطلاق:10 - 11]. فسمى رسوله ذكرا، ثم أمر بسؤال أهله. (1/198)
فإن كان ولد الحسن من آل الرسول لزمكم الإقرار بإمامتهم، وإن كانوا من غير آل الرسول فقد صدقتم في رفضهم، وأصبتم في عداوتهم، ثم أنتم بين أحد وجهين:
إما أن تقروا بإمامتهم، وتتبعوا ما أمركم الله به من سؤالهم، أعني من كان حجة لله (3) منهم، إذ لم يستثن إحدى الطائفتين من دون الأخرى، وأمركم بسؤالهم أمرا.
وإما أن تلجوا في عتوكم ونفوركم، وتخالفوا أمر ربكم، وتظهروا خالفكم (4)، فتثبت حجة الله عليكم.
- - -
باب الرد على الإمامية في صفة الإمامة
قال المهدي لدين الله الحسن بن القاسم بن علي عليهما السلام: فإن رجع إلى الحق وأقر بولاة الأمر من آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقال: قد أقررت بأن الإمامة في ولد السبطين، فما صفة الإمام الذي تلزم الأمة حجته، وتجب عليهم طاعته؟
__________
(1) سقط من (أ): آل.
(2) سقط من (أ): الله.
(3) في (أ): الله.
(4) في (أ): خلافكم.
قيل له ولا قوة إلا بالله: اعلم إن الإمام الذي تجب طاعته، يكون كاملا في جميع خلال الخير، غير ناقص من الصفات المحمودة، عالما بما يُحتاج إليه من السنة والكتاب، فَهِماً بما يُحتاج إليه من الأسباب، تابعا لآثار سلفه المهتدين(1)، مخالفا لمذاهب الضالين، شجاعا كريما بذولا لماله زاهدا، وفي أمور الله سبحانه جاهدا، رصين العقل، بعيد الجهل. (1/199)
فإن قال: فما أنكرت من أن يكون يطبع بخاتمه الحصى، ويعلم ما وراء الجدار، وما يحدث في آفاق الأرض والسماء؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك لأن هذا الإمام الذي زعمت لا يخلو من أحد ثلاثة أوجه:
إما أن يكون يعلم الغيب.
وإما أن يكون يوحى إليه.
وإما أن يكون كاهنا ساحرا.
فإن قلتم: إنه كاهن ساحر، فهذا من القول أعيبه وأفضحه، على من ينتحل التشيع (2) في آل الرسول، لأن من نسب إليهم السحر والكذب فقد غابهم بأعظم العيب، ومن كان ساحرا كذابا فهو ظالم، و ? ??? ???????? ??????? ???????????????? ????? ? [البقرة:124]، ولا يوفق الله الكافرين.
وإن قلتم حاش لله أن يكون كذلك (3) ولكنه يوحى إليه!! خرجتم إلى ما هو أعظم مما نفيتم وجعلتموه نبيا، وجحدتم قول الله سبحانه: ? ???? ????? ?????????? ???????? ??????? ???? ???????????? ????????? ???????? ?????? ?????????? ????????????????? ? [الأحزاب:40].
__________
(1) في (أ): المهتدي. مصحفة.
(2) في (ب): التشنيع.
(3) في (ب): ذلك.
وإن قلتم: إنه يعلم الغيب خرجتم من ملة الإسلام، ورجعتم إلى الشرك والآثام، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالاحتجاج على المشركين فقال: ? ?????? ????? ?????????? ???????????? ?????????????????? ???? ??????????? ????? ????????? ????????????? ? [الأعراف:188]. وقال: ? ?????? ???????? ??? ?????????? ??? ????? ???????? ? [الأحقاف:9]. وقال: ? ????? ???????? ???????? ??????? ????????? ??????? ????? ???????? ????????? ???????? ??????? ????????? ? [لقمان:34]. والحمد لله رب العالمين (1)، وصلى الله على محمد النبي وعلى آله الطيبين وسلم تسليما. (1/200)
تم كتاب الرد على الملحدين
- - -
كتاب
التوحيد والتناهي والتحديد
كتاب التوحيد والتناهي والتحديد
الحمد لله الواحد (2) الذي لا يوصف بالتعديد، العظيم الذي جل عن التحديد، العدل الذي تنزه عن ظلم العبيد، أحمده حمد متوكل عليه، وأعتصم به اعتصام من أناب إليه، وكيف يوصف بالتعديد من أحصى كل شيء عددا؟! بل كيف يوصف بالتبعيض واحد (3)؟! لما في التبعيض والتعديد، من صفات التناهي والتحديد، وإذ لا بد لكل تعديد من معدد، ولكل تحديد من محدد، ولا بد لكل مفترق أو مجتمع من مفرق وجامع، ومفتطر صانع، لما في الافتراق والاجتماع، من بيان الصنع والابتداع، والله سبحانه بخلاف خلقه المدبَّرين، ذوي الأماكن المصوَّرين، إذ المصوَّر مضطر إلى مصوِّره، والمدبَّر محتاج إلى مدبِّره، والمقدَّر غير ممتنع من مقدِّره، لا ينفك من أماكنه ومواضعه، ولا يقدر على دفع إحاطة علم صانعه، فهو إلى محله مضطر مدفوع، وجهاته وأقطاره تدل على أنه مصنوع.
__________
(1) سقط من (أ): والحمد لله رب العالمين.
(2) سقط من (ب): الواحد.
(3) في (ب): تصف بالتبعيض واحدا.
وكذلك يُنفى عن الله سبحانه، وعز عن كل شأن شأنه، درك الحواس والنفوس والأوهام، إذ لا يقع شيء منها إلا على جسم من الأجسام، في جهة من الجهات، أو على صفة من الصفات، فتبارك الله وتعالى عن الحس والتوجس، أو خاطر نفس من الأنفس، أو مشاكله شيء من أوصاف الموصوفين، أو محادة جنس من أجناس المصنوعين، إذاً لدخل عليه ما يدخل على شكله، ولجاز عليه ما يجوز على مثله، من الصفات اللازمة للأجسام (1)، المنفية عن ذي الجلال والإكرام، وأشهد إلا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وآله وسلم. (1/201)
- - -
باب الدلالة على معرفة الله سبحانه
والرد على الملحدين الكفرة الجاحدين
قال المهدي لدين الله الحسين بن القاسم بن علي عليهما السلام: إن سأل بعض الملحدين، أو الشاكِّين في جلال رب العالمين، أو قال بعض المتعنتين: فكيف تعبد ما (2) لا ترى، ولا يدرك بحاسة من الحواس؟ وما الدليل الذي دلك عليه؟ وما الدواعي التي دعتك إليه؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: اعلم أيها السائل أن الدليل الذي دلنا على الله سيدنا ومولانا، والدواعي التي دعتنا إليه تبارك وتعالى، أنا وجدنا في الصنع آثار حكمة الصانع المتقن الحي العالم، وهو الله رب العالمين.
فإن قال: وما دلكم على بيان علم الصانع وحكمته؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: دلنا على بيان علم الصانع وحكمته، ما شاهدنا من جليل صنعه وفطرته، مما لو رمنا تعديده لما أحصيناه عددا، ولا أدركنا له أمدا، لعجزنا عن إحصاء آياته، والانحصار (3) عن تصنيف دلالالته (4).
__________
(1) في (أ): الأجسام.
(2) في (أ): من.
(3) في (أ): ولانحاز. مصحفة.
(4) في (أ): دلالته.
من ذلك ما شاهدنا من جليل صنعه في الحيوانات، وما خلق سبحانه من الذكور والإناث، وأبان في ذلك من الجعل والإحداث، وما جعل بينهم من الأولاد الكثير، من نطف الماء الحقير، فعادوا كثيرا مذكورا، بعد أن كانوا قليلا محقورا، وما شق لهم سبحانه من السمع والأبصار، والأفئدة للتمييز والأفكار، والاجتلاب للمنافع والنفور عن المضار، وما خلق لنا سبحانه من الحواس الخمس، من العيان والسمع والذوق والشم واللمس، فجعل العيان لدرك الهيئات، وجعل السمع لدرك الأصوات، وجعل المشام لدرك الروائح المختلفات، وجعل الذوق لدرك المطعومات، وجعل اللمس لدرك أحوال المجسمات (1). (1/202)
فكان ما عُويِنَ من اتصال التدبير، واطراد الحكمة والتقدير، دلالة على أحكم الحاكمين، واضطرارا إلى معرفة رب العالمين، ودليلا مبينا على فاسد قول الملحدين، ممن قال بالطبائع من الكفرة الجاحدين، أهل الحيرة المتلددين، إذ صح عند أهل العقول أن هذه العلل المواتات لا تعني (2) أنفسها، فضلا عن أن تعني تدبير غيرها، إذ لا يجعل الشيء للشيء إلا حكيم، ولا يصرف ولا يدبر إلا عليم، وسنزيد إن شاء الله بيانا، ونوضح له من ذلك هدى وبرهانا.
__________
(1) في (ب): المحسوسات.
(2) في (أ): تقي.
ألا ترى أنه لا يجعل العين إلا عالم بما جعل من النظر، ولا (1) يجعل الأنثى إلا عالم بما جعل لها من الذكر، ولا يجعل العقول المميزة إلا عالم بما يحتاج إليه ذو الألباب، من الاجتلاب للمنافع والنفور عن المضار، ولا يجعل الأيدي والأرجل، وغيرها من العروق والعصب والمفاصل، إلا عالم بما سيكون من حركاتها، واجتلابها لمنافعها، ولا المراضع في أجساد الإناث، إلا عالم بما سيكون من أولادها قبل الإحداث، وما علم من حاجتها إلى ما جعل لها من الأغذية قبل كونها، فجعل تقدُّمَه غذاء الطفل بلطفه، لما علم من فاقته وضعفه، وألهمه الرضاع وجبره عليه، لما علم من حاجته إليه، ولولا هداية الله سبحانه للأطفال لهلكوا ودمروا. (1/203)
ألا ترى إلى أطفال (2) البهائم عند خروجها من بطون أمهاتها، كيف تقصد مواضع أغذيتها ولذاتها، وما جعل الله سبحانه من قوام أرواحها وحياتها، ولا يجعل السمع إلا عالم بفاقة صاحبه إلى درك الأصوات، ولا يجعل الأبصار إلا عالم بفاقة أصحابها إلى درك (3) الهيئات، ولا يجعل المعايش والأرزاق إلا عالم بفاقة من جعلت له من الحيوانات، ولا يجعل في الجسد مداخل للأغذية ومخارج قبل كون ذلك إلا عالم بفاقة الإنسان إلى مداخل ذلك ومخارجه، إذ لا قوام له ولا ثبات للتدبير، إلا بما قدر الله سبحانه من التقدير، فلما استحال عند ذوي الألباب أن تكون العلل الميتة عالمة حية مدبِّرة، متقِنة للصنع مقدِّرة، علمنا عند ذلك بيقين أنه لا صانع حكيم، مدبر قدير عليم، إلا الله الحي القيوم.
- - -
باب الدلالة (4) على حدث الحيوانات ونهايتها
__________
(1) في (أ): فلا.
(2) في (أ): إظهار. مصحفة.
(3) سقط من (أ): درك.
(4) في (أ): الرد. مصحفة.
قال المهدي لدين الله الحسين بن القاسم بن علي عليهم السلام: فإن سأل سائل من الملحدين فقال: ما أنكرتم من أن تكون الحيوانات لم تزل على ما يرى تحدث نطفة من إنسان وإنسانا من نطفة، وبيضة من طائر وطائرا(1) من بيضة، إلى ما لا نهاية له، ليس لشيء من ذلك أول ولا يكون له انقضاء، ولا خالق للأشياء؟ (1/204)
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك أشد الإنكار، وذلك أنا قدمنا لك أن في هذه الحيوانات آثار حكمة الحكيم، والحكمة (2) لا تهيأ إلا لعليم (3)، وما كان فيه آثار صنع الحكيم العالم فهو محدث مبتدع، ومنشأ بإذن الله مصطنع، وما صح إحكامه وتدبيره، وإنشاؤه وتقديره، فهو محدث مجعول، ومبتدأ مفعول (4)، وما صح حدثه واجتعاله، ونشأته وافتعاله، فقد صح تناهيه واعتماله.
ألا ترى أن في الحيوانات إبانة صنع الحكيم، والقديم لا يكون فيه آثار علم عليم، إذ القدم أغناه عن الفاقة إلى غيره، والأزل لا يوصف بحاجة إلى الحكيم وتدبيره، إذ هو ممتنع عن علمه وتقديره، فلما وجدنا الحيوانات ليست ممتنعة من التدبير، ولا خَلِيَّة من الإحكام والتصوير، علمنا أنها بخلاف ما ذكرتَ، وأنها غير ما وصفتَ، فقولك: ليس لشيء من ذلك أول هو من أحوال المحال، وأفسد الفساد وأضل الضلال، لأن هذه الحيوانات لا تخلو من أحد وجهين في حال قدمها، وما ادعيتَ من أزلها:
إما أن تكون على ما ترى من إحكامها وتكويرها، ونعيمها وحياتها وتعميرها.
وإما أن تكون ميتة جامدة، وساكنة لابثة هامدة.
فإن قلت: إنها كانت على ما ترى من كمالها، فذلك (5) دليل على حكمة خالقها وجاعلها.
__________
(1) في (أ)، (ب): وطائر. وما أثبت اجتهاد.
(2) سقط من (أ): والحكمة.
(3) في (ب): لعالم.
(4) في (أ): معقول. مصحفة.
(5) في (أ): وذلك.
وإن قلت: إن أصول الحيوانات، كانت ميتة كسائر الجمادات، ففي(1) موتها والحمد لله دليل على صانعها ومميتها، والممتن عليها بعد إماتتها لحياتها، والمظهر لصنعه في إحكام أدواتها، والمنعم عليها بكفايتها، والعالم بحاجتها إلى جميع آلاتها، والمتفضل عليها لعلمه (2) بعافيتها. (1/205)
- - -
باب الرد على الجوهرية
وزعم صنف من الملحدين وهم أصحاب الجوهر أن الهيولى - وهو أصل الحيوانات - جوهر قابل للأعراض، وأن معه قوة قديمة وهو قديم، فحرك القوة فحدث البرد فقبله، ثم حرك (3) القوة فحدث الحر فقبله، ثم قبل اليابس والرطوبة.
قال المهدي لدين الله الحسين بن القاسم عليهما السلام: فأي عاقل يجوز عليه قول من قال من الجوهرية، أن الطينة الميتة معها قوة هيولية أصلية، قديمة عنصرية، تدبر لها نفسها، حتى تصير مدركة حيوانية، بعد إن كانت ترابية مَوَاتية، وقد وضح في عقول ذوي الألباب، فساد ما (4) ادعوا من قوة التراب، وكيف يتوهم ذلك متوهم غوي؟! فضلا عن عاقل سوي، وأنى يكون ذلك من فعل التراب وهو موات ضعيف غافل؟! وقد عجز عن ذلك وهو حي حكيم سوي عاقل، وكيف يكون للطينة قوة هيولية، وليس لها إرادة ولا مشية، وهي إذ ذلك غافلة مَوَاتية؟! وإذا عجز الجوهر في حال بلوغه وكماله، عن تدبير صورته وأوصاله، فهو في حال موته ونقصانه، أحرى بالعجز من إحداث خلقه وتبيانه!! وإذا عجز الجوهر(5) في حال حياته وقوته، فهو أحرى بالعجز في حال موته وغفلته.
ودليل آخر
لا يخلو الجوهر الذي ادعيتم قوته وادعيتم خلقه لنفسه (6) من أحد وجهين:
إما أن يكون حيا حكيما عاقلا سويا، قادرا مدبرا قويا.
وإما أن يكون ميتا غافلا ضعيفا.
__________
(1) في (أ): فمع. مصحفة.
(2) في (أ): بعلمه. مصحفة.
(3) في (أ): حدثت.
(4) في (أ): من.
(5) سقط من (أ): الجوهر.
(6) سقط من (أ): لنفسه.
فإن قلتم: إنه كان حيا سويا حكيما، مدبرا قويا عليما، فقد أقررتم بأنه مصنوع لما في الحيوان العاقل من آثار التدبير الذي وصفنا، والحكمة التي على الله قدمنا في أول كتابنا. (1/206)
وإن قلتم: إن الجوهر في حال خلقه لنفسه وتحريكه لقوته، كان (1) ميتا غافلا، فهذا ما لا يقول (2) به المجانين لجهلهم، ولا يتكلمون به مع ذهاب عقولهم، لأن الميت لا يحكم ولا يدبر، ولا يحرك نفسه ولا يقدر، وإذا كان الحي السوي عاجزا عن تدبير نفسه وغيرها، فالميت أعجز عن إحياء نفسه وتدبيرها.
ومما يدل على فساد قول أصحاب الطبائع أن يقال لهم: لا تخلو هذه الطبائع من أحد وجهين:
إما أن تكون حية قديمة مدبِّرة، متقنة للصنع مقدِّرة.
وإما أن تكون مواتا مثل الجوهر الذي هو أصل الحق.
فإن كانت مواتا من جنس الهيولى فقد بان صنع الموات وتقديره، وبطلان حكمته وتدبيره، لأنه لا يعني (3) نفسه فضلا عن تدبيره غيره، بل هو من العجز والضعف فيما لا (4) يمنعه من الحدث، إذ لا قوة له ولا حياة، ولا إحسان له ولا إساءة، وكفى له بذلك عجزا وضعفا!!
__________
(1) سقط من (أ): كان.
(2) في (أ): ما يقول.
(3) في (أ): لا يقي.
(4) سقط من (أ): لا.
وإن كانت العلة للخلق حيا قديما مدبرا، ليس له شبيه ولا مثيل، ولا نظير ولا عديل، فهذه صفات الخالق، والخالق ليس بعلة ولا معلول، بل هو(1) الله الرحمن الرحيم الذي عجز عن نعته الناعتون، وضل عن وصفه الواصفون، ولم يتوهمه المتوهمون، ولم تقع عليه الظنون، ولم تدركه الأبصار، ولم تحوه الأقطار، ولم تحل عليه الأفكار، بل عجزت عن اكتناهه القلوب، ولم تخف عليه العيوب، ولم تحده الجهات، ولم تنله الأدوات، وجل عن الصفات المحدثات، وعز عن النوم والسبات، وجل عن درك المدركات، ولم يؤده حفظ الأرض والسماوات، ولم يشتبه عليه شيء من الأصوات، ولم يمازج النور ولا الظلمات، ولم تجر عليه عوارض الساعات، ولم تنله صفات عواجز اللهوات، ولم يحتجب عن الأبصار بحجاب ولا سبب من الأسباب، مما يجول في خواطر الألباب، تعالى عن ذلك رب الأرباب، جعل الخلق ليُستدل به عليه، ويكون للمكلفين داعيا إليه، وتعبَّد المخلوقين، للفرق بين المطيعين والعاصيين، وأرسل المرسلين مبشرين ومنذرين، وأكمل بهم (2) الحجة على جميع العالمين، ? ???????????? ???? ?????? ???? ???????????? ?????????? ???? ????? ???? ????????????? ???????? ?????? ????????????? ??????? ???? ? [الأنفال:42]. (1/207)
- - -
باب الرد على الفضائية والدليل على حدث الفضاء وتهاييه(3)
قال المهدي لدين الله الحسين بن القاسم بن علي عليهما السلام: إن سأل بعض الملحدين فقال: ما الدليل على حدث الهواء، المكان الذي فيه الأشياء؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على حدثه ما شاهدنا فيه من لبثه وإقامته، وقلة زواله وحركته.
فإن قال: وما في سكونه ولبثه، من الدليل على تكوينه وحدثه؟
__________
(1) سقط من (أ): هو.
(2) في (أ): به. مصحفة.
(3) في (أ): ونهايته.
قيل له ولا قوة إلا بالله: أبين الأدلة وأوضحها، وأقواها في العقول وأصحها، وذلك أن (1) الإقامة لا تكون إلا على وجهين، وهما عند أهل العقول فغير منكَرَين: (1/208)
فأحدهما: إقامة لا تحصى عددا أوقاتها، ولا تعتد لكثرة سنيها (2) وساعاتها.
والثانية: فإقامة كانت بعد العدم، وتلك فما لا يدعى أحد (3) أنها توصف بالقدم.
فأما ما كان من الإقامة بعد أن لم يكن، فاستغنينا عن الدليل على حدث ساعاته لكونها بعد العدم. وأما الإقامة التي هي ساعات لا تحصى عددها، ولا يدرك لتقدمته أمدها، فمثل إقامة الهواء، المكان الذي فيه الأشياء، ويستدل إن شاء الله على حدوثها، وبديء (4) كليتها ولبثها، وذلك أن ما مضى من إقامته (5) سنينه وشهوره وساعاته، لا يخلو من أحد ثلاثة أوجه:
إما أن يكون مضى كله.
وإما أن يكون مضى بعضه.
وإما أن يكون لم يمض منه كل ولا بعض.
فإن قلت: لم يمض شيء من دهوره وأزمنته، وما لا يحصى من إقامته، جحدته وجحدت (6) قدمه، وأوجبت حدوثه أو عدمه.
وإن قلت: بل مضى بعض الماضي المتقدم من الأيام، ناقضت بين ما نطقت به من الكلام، ولم تجد بين ما مضى فرقا عند جميع الأنام.
وإن قلت: بل عدم كل ما مضى من ذلك وخلا، وتضمنه العدم بعد حدوثه والفناء، أوجبت أنه محدث لحدوث أوله، وصحة (7) فنائه بأجمعه كله، إذ لم تكثر الإقامة إلا بعد قلة أولها، وبعد حدوثها وفنائها كلها، وإذا صح في المعقول أن لإقامته أولا وبديا، قد (8) تقدم وخلا، فهو بأيقن اليقين محدث لحدوث إقامته، إذ لم ينفك من الإقامة بكليته، وإذا صح أنه مقيم كله بذاته، وصح أنه محدث (9) بجميع صفاته، فقد صح بأبين البيان تناهيه وتحديده، وأن الله مخترعه ومربده.
__________
(1) سقط من (أ): أن.
(2) سقط من (ب): ولا تعتد لكثرة سنيها.
(3) سقط من (أ): أحد.
(4) في (أ): وتبدي.
(5) في (ب): إقامته.
(6) في (ب): أو جحدت.
(7) في (أ): لصحة.
(8) في (أ): فقد.
(9) في (أ): يحدث.
فإن رجع إلى مكابرة عقله، وسأل عن المحال بفاحش جهله، فقال: وما أنكرت من أن يكون الهواء قديما قبل إقامته، أو أن يكون متحركا في حال العدم قبل سكونه؟ (1/209)
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك لأنه لا ينفك من الإقامة أصلا، لأنه إن تحرك فهو مقيم على الحركة، ولا بد لإقامة الحركة من كثرة أو قلة، ولا بد لها من تبعيض أو كلية، ولا بد إن شاء الله (1) من الكلام، والرد على من توهم حركته في سالف الأيام.
فنقول ولا قوة إلا بالله: إن قولك بحركته هو ما يدل على تناهيه وغاية، ويوضح ما قلنا به من حدوث أوليته، وذلك أنه لو كان قبل سكونه متحركا، ثم وجد بعد ذلك من الحركة منفكا، لكان لتلك الحركة آخر ومنقطع، وللسكون بدء ومبتدع، وإذا صح أن لحركته انقطاعا، ولسكونه حدثا وابتداعا، صح أن الحركة قد انقطعت كلها، وأبطل آخرها وأولها، وانتفى قدمها وأزلها.
فإن قال: هل للفضاء حدود محدود (2) يتناهى إليها وأماكن يعتمد عليها؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: نعم له حدود متناهية، وأطراف متباعدة مباينة.
وأما قولك: هل له أماكن؟ فيحتمل وجهين:
إما أن تكون أردت به الجهات الست، اليمين والشمال والخلف والأمام والفوق والتحت.
وإما أن تكون أردت به غير ذلك مما سنذكره، ونشرحه إن شاء الله ونفسره.
فإن كنت أردت ما وصفنا من الجهات، فليس جهات غيره تحويه، ولا له مكان سواه يحل فيه، لأنه لو احتاج إلى مكان لاحتاج كل مكان إلى مكان، وهذا فيبطل غاية البطلان، لما دللنا عليه من حدوث الأمكنة، التي هي من الأفضاء والأهوية.
وإن أردت بالأمكنة التي ذكرت، وعنها في بدء الكلام سألت، أن الأجزاء الكثيرة منه أماكن لقليله (3) فقد أصبت، ولا اختلاف بين ذوي العقول فيما به نطقت، ألا ترى أن أطرافه تحوي وسطه، وأن أعلاه جهة لما دونه.
فإن قال: هل له أعلا وهل له أسفل وجوانب أم لا؟
__________
(1) في (أ): إن سألته. مصحفة.
(2) سقط من (أ): محدود.
(3) في (أ): كقلته. مصحة.
قيل له ولا قوة إلا بالله: نعم له أعالٍ وأسافل، وله جوانب (1) وقوابل، وكل ما ذكرنا من ذلك فهو حدود وغايات، وليس لها بعد انقطاعه جهات. (1/210)
فإن قال: وهل (2) بين تلك الحدود مغايرة تعرف، أو هل وراء الحدود شيء يتغاير (3) أو يوصف؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أما الحدود في أنفسها فالأعالي من الجو مغاير لأسافله، والأوساط منه فغير قوابله.
وأما سؤالك عن وراء الحدود فليس لها وراء، ولا شيء يتوهم ولا يرى، وإنما المتوهَّم والمرئي (4) المعقول، هو المحدث المصوَّر المجعول.
فإن قال: فهل لو أرسل الله جسما ثقيلا وخلاه، وأهطبه إلى أسفل الجو وأهواه، أيخرج من حدود الجو إلى شيء سواه؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لو كان ذلك من الله عز وجل، لم يمتنع أن يوسع الله له في المحل.
فإن قال: فما تقولون لو لم يرد في محل الجسم وأهمله، وخلاه ينحدر سفلا سفلا وأرسله؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لو كان الله عز وجل يريد المحال، ويعبث كما توهمتَ في الأعمال، لكان يهوي حتى يصل الحدود.
تم فيه كلام.
فإن قال: وما ذلك الكلام؟
(قيل له ولا قوة إلا بالله: إما أن يرسله ويخلق معه مكانا يهوي فيه) (5).
وإما أن يمسكه (6) في الحد الذي وصل إليه.
وإما أن يهويه في غير مكان.
وإما أن يرده من حيث أهواه.
وإما أن يهويه في مكان لا نهاية له.
وإما أن يفنيه إذا وصل الحد ويبطله.
فإن قال: إنه قد يمكن أن يخلق له مكانا، أو يحدث فيه فناء وبطلانا، أمكن ذلك في قدرة الرحمن، وذلك فما لا يختلف فيه عالمان ولا جاهلان.
وإن قلت: إنه قد يمكن أن يمسكه عند بلوغ حده، أو يمكن ما قلنا به من رده، أمكن ذلك في صنع الله وتقديره، ولم يُنكر ذلك من تدبيره.
__________
(1) في (ب): وجوانب.
(2) سقط من (أ): وهل.
(3) في (أ): للغائر. مصحفة.
(4) في (ب): الموهوم المرئي.
(5) سقط من (أ): ما بين القوسين.
(6) في (أ): قيل: يمسكه.
وإن قلت: إنه يهويه في غير مكان، فهذا القول من مسائل المحال، ومما يتناقض من المقال، لأنك قلت: يهويه فأوجبت حركته وانحداره في مكان، إذ لا تكون الحركة إلا في أماكن الجولان، ثم نقضتَ قولك بقولك: في غير مكان!! (1/211)
وإن قلت: إنه يهويه في مكان لا نهاية له، فهذا من أكبر التناقض والفساد، وأعظم الكذب والجحد والإلحاد، وذلك أنك قلت: يهويه في مكان لا نهاية له، وقد بينا حدث المكان وكليته، وأوضحنا نهايته وغايته، فكيف يكون المخلوق المحدَث قديما؟! أو كيف يكون الحد الموجود معدوما؟!
ودليل آخر
أن الله عز وجل لا يفعل فعلا إلا لحكمته، والله يتعالى عن أغاليط الملحدين، ويتنزه عن ألاعيب المفترين، ولولا المبالغة والنصفة للمناظر في الجدال، لما ذكرنا شيئا مما لا يليق بالله من المحال، لكن الواجب علينا أن نبين كذب الجاحدين، ونذب عن دين رب العالمين، إذ كانت في الله رغبتنا، ولدينه بالمجهود (1) نصرتنا، فنسأل الله عالم الغيب والشهادة، أن يجعل حياتنا في طاعته ما أحيانا، وأن يحشرنا مع الأبرار إذا توفانا، ونسأله عز وجل ألا يقبض أرواحنا إلا بعد رضائه عنا، وأن يجعل آخر ساعة من حياتنا في أعظم فروضه التي كلفنا، وألا يخرج أرواحنا من أجسادنا إلا في سبيله عند جهادنا، ونسأله أن يمتن (2) علينا ببلاغ مكروه أعدائه، والنصر للصادقين من أوليائه، وأن يجعل نصره (3) المحقين آخر أعمالنا، والثواب آخر آمالنا (4)، والشهادة آخر محنتنا، والمقابر أول راحتنا، وأن يغفر لنا ذنوبنا، ويثبت على دينه أقدامنا، وأن يجعل ذكره وتوحيده آخر كلامنا، والغضب له إن شاء الله آخر حقدنا، والرضا فيه آخر ودنا، والمحبة إن شاء الله آخر حبنا.
مسألة
__________
(1) في (أ): بالمحمود. مصحفة.
(2) في (ب): ببلاغ.
(3) سقط من (أ): نصره.
(4) سقط من (أ): والثواب آخر آمالنا.
فإن قال بعض الملحدين، أو سأل عن رب العالمين، وقدرته في خلق المخلوقين، فقال (1): هل كان الله يقدر أن يخلق الهواء الذي هو محل الأشياء قبل أن يخلقه؟ (1/212)
قيل له ولا قوة إلا بالله: اعلم أيها السائل أن الله عز وجل لم يزل قادرا، وإنما تقع القدرة على المقدورات، وليس يقول أحد يعقل إن القدرة تقع على المحالات، وهذه مسألة محال، لا يفهمها أحد من الجهال، وذلك أنك جعلت الوقت قبل الهواء بقولك: يخلقه قبل أن يخلقه، لأنك إذا أردت يخلق الهواء قبل أن يخلقه، لم يَخلُ أن يخلقه قبل أن يخلقه بقليل أو كثير من الأوقات، ومقادير الأزمنة والساعات؟!
ومحال أن يكون الوقت قبل الهواء، لأنهما خلقا معا فكان الوقت هو (2) إقامة الهواء، وجعلت أنت أيها السائل صفة الهواء قبله، ومحال أن تكون الصفة قبل الموصوف. وإذا صح حدث الهواء بدلائل الحركة والسكون اللذين هما الأوقات، وهما حقيقة الأزمنة والساعات، فقد صح حدث العلل والمعلولات، لأن كل علة أو معلول، أو دقيق من الصنع أو جليل، لا يكون إلا جسما أو عرضا، ومتحركا (3) زائلا، أو ساكنا مقيما، مجتمعا أو مفترقا، والعرض لا يوجد إلا في جسم، والجسم محدث، وما لا يوجد إلا بوجود المحدثات فهو محدث مثلها، بل هو أضعف منها، إذ كانت هي توجد بأنفسها، والعرض لا يوجد إلا بوجودها، ولا يثبت إلا بعد عدمها.
__________
(1) سقط من (أ): فقال.
(2) سقط من (أ): هو.
(3) في (ب): متحركا.
والدليل على التناهي والتحديد، فأقرب ما يكون من الحدث الموجود، وتفسير ذلك أن الله سبحانه خلق الأشياء كلها، وإذا صح حدث جميعا فقد تناهت بصحة ابتداع بدائعها، لأن ما صح ابتداعه، وبدء صنعه واختراعه، فقد تناهى حَدثُ أوله، وفرغ (1) الصانع من آخره، والفراغ نهاية (2)، وإنما هذا الدليل يدل على غاية الأجسام، وليس نريد بذلك انقطاع آخر الأزمان، وإنما تناهي الأعراض من الأوقات (3)، تناهي حدوث ساعات وبطلان ساعات، وليس ينقطع حدوثها أبد الأبد، ولا يكون لحدوثها غاية تنقطع ولا أمد، ولا يقطع كرور الساعات قاطع ولا يحد، وذلك (4) بمشيئة الواحد الأحد الجبار الفرد الصمد. (1/213)
فإن قال قائل: كيف أوجبت دوام حدوث الساعات، وكرور الأزمنة والأوقات؟! وقد وعد الله سبحانه بالفناء في هذه الدنيا، وحكم للآخرة بالبقاء؟!!
قيل له ولا قوة إلا بالله: إن الله عز وجل إنما أراد بقوله: ? ????? ?????? ??????? ??????? ?????????? ? [القصص:88]، الحيوان ولم يرد بذلك الأوقات والأزمان، وهذا فمعروف بيِّن غاية البيان، فيما نزل الله سبحانه من الفرقان، وذلك قوله سبحانه في ملكة سبأ وما أوتيت، وما حكى عز وجل مما ملكت: ? ????????????? ??? ????? ?????? ??????? ?????? ????????? ???? ? [النمل:23]، وقد علم بيقين أنها لم تملك كثيرا من الأشياء، من ذلك ملك سليمان وغيره، وإنما هذا القول خاص في بعض الأشياء دون بعضها.
مسألة
فإن قال قائل: أخبروني هل كان قبل الهواء شيء يعرف، أو يحد أو يوصف؟
__________
(1) في (ب): وفروغ.
(2) في (ب): وللفراغ نهاية وغاية.
(3) سقط من (ب): وإنما تناهي الأعراض من الأوقات.
(4) في (أ): ذلك.
قيل له ولا قوة إلا بالله: قد قال غيرنا بذلك ولم يصح. فأما قولنا فإن الهواء أول ما خلق الله سبحانه، وسنبين فساد قولهم إن شاء الله وبطلانه، وذلك أنهم زعموا أن الله حكيم، والحكيم بزعمهم لا يخلق خلقا إلا ليُنتفع به، فزعموا أن الواجب على الحكيم أن يخلق عاقلا، وأن لا يخلق غيره من المنافع أولا. (1/214)
فأما قولهم: إن الله حكيم فكذلك (1) نقول، وبذلك شهدت حِكَمُ العقول.
فأما قولهم: إن الواجب على الحكيم أن يخلق العاقل المنتفع، قبل أن يخلق له المنافع، فهذا والحمد لله غير واجب على الحكيم، وقد خلق الله السماوات العلا، وغيرهن من الأرضين السفلى، قبل أن يخلق أحدا من العقلاء، فلم يدخل على حكمته في ذلك تهجين، ولم يجر عليه فيما أبرم ضعف ولا توهيم، وما في تقديم المنافع قبل المنتفع من سقوط الحكمة؟!! وأي حكمة عند من عقل أحكم من تقديم النعمة؟!!
ألا ترى إلى ما قَدَّم الله سبحانه للأطفال قبل خلقهم، من المراضع التي جعلها لهم وصوَّرها في صدور أمهاتهم، أولا ترى ما في هذا من حكمة التدبير!! وبيان الصنع والنعمة والتقدير!! وفي بعض قولهم والحمد لله عندنا من الدلائل ما يكثر ويطيب، ويصح لكل عاقل لبيب، غير أنا نميل إلى اختصار الكلام، ولو رمنا شرح جميع الدلائل في صنع ذي الجلال والإكرام، لطال ذلك على أكثر الأنام (2)، ولعسر تناوله على جميع أهل الإسلام، ولكنا نلقي إن شاء الله تعالى من ذلك ما فيه كفاية، لمن كان له بنفسه عناية. فرحم الله عبدا نظر لنفسه، واجتهد في طلب الدليل على ربه، وأخذ في عمارة قلبه.
__________
(1) في (أ): وكذلك. وفي (ب): فذلك. ولفقت الكلمة منهما.
(2) في (أ): الأيام. مصحفة.
وليعلم من أراد معرفة الله جل جلاله، وظهرت نعمه وأفضاله، أنه من صار إلى ذلك بنية صادقة، وعزيمة وطاعة متحققة، فهو من خاصة الله وأخلائه، وأحبابه وأوليائه وخلصائه (1) وكفى لعبد أن يكون له (2) وليا، وحبيبا إليه مرضيا، ومن كان كذلك، وعلى ما وصفنا من ذلك، فسيعلم إن شاء الله تعالى ما دام على ما وصفنا أن الله يمده من معرفته بأكثر مما يحتاج إليه، ويرزقه من يحث لا يحتسب ما كان متوكلا عليه، ويطلعه على كثير من الأسرار المكتومة، ولا يحجب (3) عنه حقيقة علم (4) معلومة، فلا تَزِلُّ قدمه مع ذلك عن الهدى، ولا تهلك إن شاء الله تعالى مع نور قلبه أبدا. (1/215)
ألا ترى أن الحكيم منا لا يطلع عدوه على أسراره، ولا يخصه منه ببواطن أخباره، وإذا كان ذلك فينا موجودا وعند حكمائنا معايَنا مشهودا، وكان الله عز وجل أحكم منا، كان الواجب عليه أن يبعد من كان له عدوا، ولا يدفع عنه مكروها ولا سُوًّا، وكذلك أيضا عند حكمائنا أن الحكيم لا يخذل له أبدا وليا، ولا يكتمه من أسرار علمه شيا، ولا يقطع عنه أبدا خواص بشاراته، وتحف سرور كراماته، وإذا كان ذلك واجبا على حكمائنا، فهو على الله أوجب إذ هو أحكم منا.
- - -
باب الوحدانية
قال المهدي لدين الله الحسين بن القاسم بن علي عليهم السلام: إن سأل سائل فقال: ما الدليل على أن الله سبحانه واحد؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على وحدانية الله سبحانه تضاد الإثنين وتنافيهما.
فإن قال: وما أنكرت من إتفاقهما؟!
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك لأنهما لا يخلوان من أحد وجهين:
إما أن يكونا اتفقا من قبل ذلك، فإن كانا اتفقا من بعد ما تضادا، فاتفاقهما ذلك حاجة وضرورة وخوف، فالخائف المضطر المحتاج مخلوق ضعيف عاجز، والخالق فلا يكون بهذه الصفات موصوفا، ولا بمضادة الأمثال معروفا.
__________
(1) سقط من (ب): وخلصائه.
(2) في (ب): لله.
(3) في (أ): يحتجب.
(4) في (أ): علة.
وإن كانا اتفقا من قبل الاختلاف، فما حداهما إلى الاتفاق؟ (1/216)
فإن قلت: خوفا من الاختلاف، فالخائف ضعيف عاجز، محتاج إلى معين وشريك، والخائف من النوازل والملمات لا يكون إلا مضطرا إلى الخوف مدفوعا، وعن القدرة بالعجز ممنوعا.
وإن قلت: إنهما اتفقا لغير معنى، كان ذلك من أعظم العيوب، وأولى ما تُنزه عنه علام الغيوب، لأن الأفعال لا تكون إلا للمعاني أو للعبث والسفه والهوى، والخالق لا يعبث ولا يهوى، لأنه غني غنهما، وفي ذلك من الدلائل أكثر مما ذكرنا.
- - -
باب القدم
فإن قال: فما الدليل على أن الله قديم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على أنه سبحانه قديم أن في كل محدث صفة تدل على محدِثه، وبنية في جسده (1) تدل على بانيه وصانعه، وليس لله عز وجل صفة تدل على حدثه، ولا له ذات مركبة يدل ذلك التركيب على مركِّبه، وإذا كان الله سبحانه لا يوصف بصفات تدل على الحدث فقد ثبت له القدمن وانتفى عنه الوجود بعد العدم.
فإن قال السائل: فإذا كان لا بد لكل محدَث من دليل يدل على حدثه، فكذلك أيضا لا بد للقديم من دليل يدل على قِدَمِه؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على قِدَمه تبارك وتعالى أنا وجدنا المحدثات تحتاج إلى محدِث أحدثها، وأن المحدث لها لا يكون محدَثا مثلها، لأنه لو كان مثلها وكان يشبهها، لتعذر عليه خلق الأجسام كما تعذر عليها.
- - -
باب الصفات القديمة التي هي الله عز وجل
قال المهدي لدين الله الحسين بن القاسم عليهما السلام: إن سأل سائل ملحد، أو قال قائل مسترشد: ما الدليل على أن الله عالم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على علمه سبحانه وجود صنعه تاما محكما، والحكمة لا تتم من جاهل، فعلما أنه عالم بكيفية الصنع قبل فعله، كعلمه به بعد جعله.
__________
(1) في (أ): حدة. مصحفة.
ألا ترى أن الفعل يتعذر على من يجهله، وأن الفاعل لا يقصد فعل شيء إلا وهو عالم بكيفيته بعد إكماله، وإلى ما يؤول عند تمامه واعتماله، ألا ترى أنه لو قصده بغير علم لما تم له بجهله، والله يتعالى عن الجهل والنقصان، ويجل عن شبه مَن خلق مِن الإنسان. (1/217)
ودليل آخر
أنه لا يخلو في حال فعله للمفعولات، وصنعه لما صنع من المحدثات، من أحد وجهين مختلفين، متضادين غير مؤتلفين، لا يوجد إلى ثالث سبيل، ولا تشهد بغيرهما العقول:
إما أن يكون صنعها وهو عالم بكيفيتها.
وإما أن يكون صنعها وهو جاهل بصنعها، لا يدري إلى ما تصير عند كمالها.
فإن كان صنعها وهو عالم فذلك أولى ما وصف به الرحمن، وأوضح ما شهد به البرهان، وإن خلقها وهو لا يدري إلى ما تؤول، فلا فرق بين الفاعل والمفعول، لأن من قصد فعل شيء يجهله، فهو متحير لا يدري كيف يفعله، ومن تحير في شيء وشك في (1) عمله، فهو أحرى بالعجز عن فعله، فكيف يتسق له ما هو به جاهل؟! وعنه متحير غافل؟! وعن الهدى والرشد زائل؟! وبالجهل مستكين (2) ذاهل؟! أبخاطر خطر على باله فجلا عنه ما كان من جهله؟! وأوضح له ما جهل من فعله (3)؟! فالخاطر عرض يخطر (4) في القلوب، ويتعالى عنه علام الغيوب، والعرض لا يحل إلا في الأجسام، وقد بينا حدثها في أول الكلام، وإذا كان له بال يخطر عليه الذكر بعد نسيانه، ويتبين له ما عمي (5) عليه من شأنه، فقد عاد ثلاثة مجموعة:
أولها: الجسم القابل للأعراض، الجاهل الذي لم يخل من الحيرة والأمراض.
والثاني: جهله المركب المبني عليه.
__________
(1) في (ب): فيه في.
(2) في (أ): مستكبر.
(3) في (ب): شغله.
(4) في (ب): يحدث.
(5) في (أ): وتبيين ما غير. مصحفة.
والثالث: علمه الحادث المضطر إليه، الذي لولا حدثه لما انتفع بجسمه، ولأضر الجهل بما ركب من جِرمه، ولوقع في أعظم الهلاك وهو لا يدري، ولكان لا يعقل ولا يعي، ولا بد لما اجتمع من الأشياء بعد افتراقه من جامع، ومفتطر عالم صانع، وهو الله العليم القدير، الواحد السميع البصير، الذي لا تحل به الآفات، ولا تغيره الأوقات، ولا ينقص ولا يزيد، ولا يبطل ولا يبيد. (1/218)
وكذلك إن سأل عن القدرة فقال: ما الدليل على أنه قادر؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على قدرته عز وجل وجود ما قدر على إيجاده، وإحداث ما صنع من مراده.
والدليل على قدم القدرة (1)، كالدليل على قدم العلم، لأنه لو خلا من القدرة لكان قبل ذلك عاجزا، ولو حدثت القدرة فيه لم يخل من أن يكون هو الذي أحدثها أو غيره.
فإن قلت: هو أحدثها، لم يكن ذلك إلا بقدرة متقدمة.
وإن قلت: غيره أحدث فيه القدرة، جعلت له خالقا، ولم يكن ربا ولا صانعا، وإذا حدث فيه حادث (2) فهما شيئان مجتمعان، وقد قدمنا الدلالة على حدث الاجتماع بأبين البيان.
فكذلك إن سأل عن الحياة فقال: ما الدليل على أن الله حي سميع بصير؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على أنه حي سميع بصير، أنه عالم حكيم قدير، ومن صح له العلم والقدرة والقدم والحكمة، فقد انتفى عنه الموت والغفلة، لأن الميت لا يكون حكيما، وكذلك الأصم الأعمى لا يكون عليما.
والدليل على قدم الحياة والسمع والبصر، أنه لو خلا من قدمها، لما كان عالما قادرا قبل حدوثها، لأن الميت لا يكون عليها قديرا، ولا يكون سميعا بصيرا، ولو حدثت هذه الصفات بعد عدمها، لكان لها محدثا بخلافها.
فإن قال أخبروني: عن القدم ما هو؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: مسألتك تحتمل وجهين:
إما أن تكون أردت قدم الله رب العالمين.
__________
(1) في (أ): القدم. مصحفة.
(2) في (أ): وإن أحدث فيه شيء.
وإما أن تكون أردت غيره من قدم إنسان (1) المخلوقين، وتقادم أزمنة الأولين. (1/219)
فإن (2) كنت عنيت بسؤالك قدم الإنسان، فذلك طول الدهور والأزمان.
وإن كنت عنيت قدم الواحد الرحمن، فقدمه هو ذاته وذاته قدمه، فكذلك علمه قدرته وقدرته علمه، وكذلك القول في سمعه وبصره وحياته، أنها شيء واحد هو الله عز وجل.
ألا ترى أن السمع هو العلم بالأصوات، وكذلك البصر هو العلم بالمبصرات، لا أنه كما قال أهل التشبيه ذو آلات، لما في الآلات والأدوات، من السكون والحركات، والحركة والسكون محدثان، وهما عن الله منفيان، لأنهما عرضان متداولان، وضدان متنافيان، لا يوجدان إلا في مفترق أو مجتمع، ولا يكون الافتراق والاجتماع إلا من مفرِّق جامع، وخالق فاطر صانع، وهذه صفات المحدثات التي لا تنفك من الأعراض، ولا تمتنع من الكلية والأبعاض، فهي غير ممتنعة من صنع صانعها، وتفريق مفرقها وجمع جامعها، فهي لا تعرف إلا بتقدير مقدرها، ولا تنفك من تدبير مدبرها، فجهاتها تدل على غايتها وانقطاعها، وإكمال صنعها وابتداعها، وحدودها يدل على محددها، وعددها يدل على معددها، وأدواتها تدل على فاقتها، والتفضل بذلك يدل على رحمة صانعها، فتعالى الله مولانا وسيدنا وربنا وخالقنا عما يقول المفترون!! وتقدس عما يتفوه به العادلون، وينسب إليه الضالون!! وإنما تولد الشرك والتشبيه والتجوير ونسي العدل والتوحيد، مِن قِبَل الجهل بحدث العالم، ولو علموا بحدث المحدثات لما شبهوا، ولو أيقنوا حقيقة اليقين لما ألحدوا في الله ولا كفروا.
وقد أظن إن شاء الله تعالى ظنا صادقا، وأعلم علما متحققا، أن من عظم يقينه بالله تبارك وتعالى لا يرغب في معصيته(3) أبدا، ولا يدخل في محظور متعمدا، ولا يخلو قلبه من الخشية والرحمة والهدى، ولا يدخل ما حيي في باب ردى.
__________
(1) في (أ): أسنان. مصحفة.
(2) في (أ): وإن.
(3) في (أ): معصية.
ولقد أظن إن شاء الله تعالى أن من صار إلى ذلك فقد ظفر بأنواع الحكمة كلها، وبرئ إن شاء الله تعالى من جهلها، وعظم بالله سروره وأنسه، وهان عليه ماله ونفسه، وقلَّت هيبته للموت في الله ليقينه بالمعاد، ووثق بما ادخر لنفسه من الزاد، واجتهد في الله غاية الاجتهاد، وقرب من العفو عن كل من أساء إليه، ولم تنكصه الشبهات على عقبيه، ونظر الدنيا وأهلها بعين الزوال، وأيقين عنها بالارتحال، وأصبح للخيرات كلها أهلا، وللدين محلا ومعقلا، وروي بمعرفة الله من الضمأ، وظفر بالغنائم العظمى. (1/220)
فإن قال قائل: فَلِمَ يعذب الله الجهال على مالم يعلموا، ولم يضطروا إليه فيعرفوا؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: إنما يعذبهم الله عز وجل على ترك طلب الدليل عليه، والتوصل بالفكر في صنعه إليه، والخوف منه والطمع فيما لديه، ألا ترى أنك لو خُوِّفت بشيء من المهالك وجب عليك أن تجتهد في طلب الأمان مما خفت، وأن تحرص في نفي ما كرهت، وأن لا توانا في ذلك، ولو جهلت حتى تعلم حقيقة ما به وُعدت، فعلى تفريطهم استحقوا العذاب، ولخلاف أدلتهم عدموا الصواب، ولو تمسكوا بسفن النجاة لما غرقوا في بحور العمى، ولو شربوا من علم آل نبيهم لشفوا من الظمأ، ولظفروا بالغنائم العظمى، ولأنارت قلوبهم لمرافقة الحكماء، ولكنهم اكتفوا بعلم أنفسهم، واستقلوا آل نبيهم.
فلا يبعد الله إلا من ظلم، وعلى نفسه السوء اجترم، فهذا سبب هلاك الجهال، وكثير من أهل النحلة الضلال، الذين شاهدناهم في عصرنا، ورأيناهم في دهرنا، فكم غريق شاهدناه!! وضال عمي رأيناه!! قد استعمل في أئمة الهدى سوء الظنون، ورضي بباطله عن الحق المبين، وأعرض عن الحكمة واليقين، يرى بجهله أنه قد هُدى إلى الصواب، وأنه أولى بالحق من ورثة الكتاب، ولو علم الله عز وجل أنه في ذلك المحل لجعله قدوة لعباده، وحجة على الخلق في بلاده، ولكن الله علم بعمى قلبه، فلم يجعل له حظا في وراثة كتابه.
فرحم الله عبدا نظر لنفسه، وأعمل الفكر بقلبه، وميز ما ينجو به من عذاب ربه، وألطف النظر في طلب السلامة، من هول عذاب يوم القيامة، ومناقشة الحساب يوم الحسرة والندامة، والتمس النور في الثقلين، اللذين جعلهما الله حجة باقية إلى يوم الدين، وحشر العالمين، ولم يقتصر على واحد منهما دون ثاني، ولا على ميت من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم دون حي، وحذر إجحاف سؤال الرسول ومناقشته، بين يدي الله في ذريته وولده، ومهجة قلبه وثمرة فؤاده، وسلالة لحمه ودمه، الطاهرين الذين احتذوا بحذوه، وساروا بسيرته واقتدوا به، فكم هالك هلك فيهم بسوء ظنه فضل وأضل؟!! وحل من السخط في أعظم محل!! ? ????? ???? ??????????????? ????????????????? ??????????? ????? ?????????? ?????? ??????????? ? ???????????? ????????????? ?????? ????????????? ??????????? ????????????? ????????? ????? ? [الكهف: 103-105]، ? ????????????? ?????????? ??????????? ?????? ????????? ????????????? ????? ? [الشعراء:227]. (1/221)
والحمد الله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد النبي خاتم النبيين، وعلى سادتنا أهل بيته الطاهرين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، الحي القيوم، الواحد الفرد الصمد القديم، المدبر الخالق العليم، المنعم المتفضل(1) الجواد الكريم، البر الرحيم، الغفور المحسن الحليم، السلام المؤمن المهيمن الحكيم، الذي لا تحصى فضائله، ولا تنقطع أبدا دلائله، ولا يضل من تمسك به عن هداه، ولا يهدى إلى الحق من عاداه (2)، ولا يرشد من خذله وأرداه، ولا يذل من والاه، أحمده حمد من أقر بربوبيته، وأشهد ألا إله إلا هو شهادة من تخضَّع لعبوديته، وتعرَّض لعفوه ورحمته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، بعثه برسالته، واختصه بهدايته، وانتخبه لأمانته، واحتج به على بريته، فأدى الأمانة، ونصح الأمة، وأكمل الحجة، وبلَّغ الرسالة، جاهدا مجتهدا، صابرا متعبدا، حتى أكمل به الدين، وأرغم به الشياطين، وأنذر عشيرته الأقربين، ولم يأخذه في الله لوم اللائمين، بل صدع بما أمر به، واجتهد في طاعة ربه، حتى قبضه الله إليه، واختار له (3) ما لديه، على حقيقة من دينه، وصحة من نفسه، رضيا مرضيا، زكيا هاديا مهديا، مقربا نجيا، ختم الله به أنبياءه، وهدى به أولياءه، وأرغم به أعداءه، وأوضح به حجته. (1/222)
فلما ختم به نبوته ورفعه من الأرض وطهَّره، وتوفاه إليه وبشره (4)، خَلَفَه الله على أمته، وامتن على بريته، بأخيه ووصيه وحبيبه، ووليه وخدينه وصفيه، وشقيقه ونسيبه، ووزيره وقريبه، أمير المؤمنين، وقاتل الناكثين، وسيف رب العالمين، ومردي الأوثان، وقاصم (5) الأقران، ومستنزل الفرسان(6)، عن كل طامح العنان، إذا التقت صليب المران، المسمى في القرآن بالإيمان، والمبشر في القرآن بالرحمة والرضوانز
__________
(1) في (أ): المفضل.
(2) في (أ): عداه.
(3) سقط من (أ): له.
(4) في (أ): ونشره. مصحفة.
(5) في (ب): وقاتل.
(6) في (ب): الأبطال.
تم أكرمه الله بالوفاة، وختم له بالنجاة، وألحقه بنبيه، وأخيه ووليه، محمد خاتم النبيين، وسيد الأولين والآخرين، واحتج على خلقه بالسبطين، الطاهرين المطهرين، أبناء الرسول، وسليلي البتول، الحسن والحسين، ثم قبضهما الله إلى رحمته، وألحقهما بنبيه، وأخيه ووليه، وخلفهما بعترة طيبة مرضية، وشجرة مباركة زكية، وذرية هادية مهدية، يكثر عددهم، وسنذكر إن شاء الله بعض من يجب طاعته منهم، مثل: زيد بن علي رضي الله عنه، إمام المتقين، عليه صلوات الله رب العالمين. (1/223)
ومثل: ابنه يحيى المقتدي به، والمحتذي بحذوه.
ومثل: محمد بن عبد الله، وإبراهيم أخيه المصممين في أمر الله، المجتهدين في طاعته، المحتسبين في مرضاته، صلوات الله عليهما ورحمته ورضوانه (1) وبركاته وغفرانه.
ومثل: الحسين بن علي الشهيد المحرِم، الباذل لنفسه في سبيل الله المصمم، الذي لم تأخذه في الله لومة لائم.
فيحيى بن عبد الله بن الحسن، القائم لله المحتسب، الصابر لله على الشدة والغضب.
ومثل: محمد بن إبراهيم بن إسماعيل، القائم بحجة الله الجليل.
فمثل القاسم بن إبراهيم، الفاضل العالم الكريم.
فمثل أمير المؤمنين، الهادي إلى الحق المبين، صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين.
فمحمد بن الهادي إلى الحق المرتضى، الذي بشر به النبي المصطفى، صلوات الله عليه ورضوانه، ورحمته وغفرانه، ونضر الله وجهه، وتقبل سعيه وعمله، وحشرنا في زمرته، وجعلنا من حزبه، فهؤلاء الذين بشَّر بهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، اللهم إني أشهدك يا مولاي وسيدي، وأشهد حملة عرشك، وأهل سماواتك وأرضك، أني أشهد بإمامة هؤلاء الذين ذكرت في كتابي هذا، وأتولاهم وأوالي من والاهم، وأعادي من عاداهم، اللهم يا مولاي إني أشهدك أني بريء ممن رفضهم، أو رفض أحدا منهم، إلى يوم حشر العالمين، وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وسلم تسليما.
- - -
الجزء الثاني
__________
(1) سقط من (أ): ورضوانه.
من كتاب التناهي والتحديد فيه مسائل المحال (1/224)
حسبي الله (1) إن سأل بعض المشبهة الضلال، فيما يقولون به في الله ويعتقدونه من المحال، فقال: أخبروني هل لو أراد الله أن يفني نفسه أيجوز ذلك أم لا؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: كلامك هذا فاسد محال باطل لا معنى له، ويستحيل أن يريد الله تعالى المحال، لأن الإرادة لا تقع إلا على الأفعال، والموت والفناء لا يقع إلا على الأجسام، ولا يدرك إلا ما كان جرما من الأجرام (2)، لأن الموت عرض يحله الله في الأشباح، والله ليس بشبح (3) محدود، ولا غيره من العدد المعدود، إذ لا تقع إلا على مفترق من الأشياء أو مجتمع، أو متحرك أو ساكن، ولا يفنى إلا ما كان من الكل والبعض، وما لا ينفك من الطول والعرض، والله ليس بذي كل ولا أبعاض (4)، ولا بذي أحوال ولا أعراض، لأن في ذلك من الحدث، ما يدل على الخالق المحدِث.
مسألة
كذلك إن سأل (5) بعض المشبهة الملحدين، الضانين بالله ظن السوء المتحيرين، فقال: أخبروني هل لو أراد الله أن يدركه بعض خلقه أيجوز ذلك أم لا؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: وهذه المسألة أيضا من المحال، والله لا يريد المحالات، ولا يوصف بصفات المحدثات، لأن الأبصار لا تقع إلا على مفترق من الأشياء أو مجتمع، والمفترق مفصَّل لا بد له من مفصِّل، والمجتمع موصَّل لا بد له من موصِّل، والله موصِّل الأشياء ومفصلها، ومفرقها وجامعها، ومبتدعها وصانعها.
وكذلك إن سأل فقال: أخبروني عن الله هل يقدر أن يخلق مثله؟
__________
(1) سقط من (ب): حسبي الله.
(2) في (أ): حرما من الأرحام. مصحفة.
(3) في (أ): بشيء. مصحفة.
(4) في (أ): بعض.
(5) في (أ): قال.
قيل له ولا قوة إلا بالله: كلامك هذا فاسد محال لا معنى له، لأنك قلت: هل يقدر أن يخلق؟ فأوقعت القدرة على مخلوق، ثم نقضت قولك بقولك: مثله، لأن الله خالق وهذا مخلوق، والله مدبِّر وهذا مدبَّر، والله صانع وهذا مصنوع، والله غني وهذا فقير، والله قديم وهذا محدث، والله لا نهاية له وهذا متناهي، والله محدِّده ومفصِّله وموصِّله، وهو موصَّل مفصَّل، وهذا من أكبر المحال، وأقبح المقال، فكيف يكون مخلوق خالقا؟! ومحدَث قديما؟! ورب مربوبا؟! وكيف يكون المحدث مثل القديم؟! أو الخالق مثل المخلوق؟! أو كيف يكون الرازق مثل المرزوق؟!! (1/225)
مسألة من المحال أيضا
وإن سأل فقال: هل يقدر الله أن يخلق خلقا لا جسما ولا عرضا؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: هذا محال وليس عن المحال.
مسألة
لأن كل محدَث فيه آثار حكمة الصانع، وذلك ما ذكرنا من الكل والبعض، والكل والبعض لا يكون إلا جسما من الأجسام، الموصوف بالطول والعرض، فقولك هذا متناقض فاسد لا معنى له، لأنك قلت: يخلق خلقا، والخلق فهو ما ذكرنا.
ثم نقضت قولك فقلت: لا جسما ولا عرضا، فكأنك قلت: يخلق خلقا ليس يخلق.
فإن قال: فَلِمَ قلتم (1) إن ربكم شيء ليس بجسم ولا عرض، وقد نفيتم ما ليس بجسم ولا عرض؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأنا نفينا أن يكون خلقا محدَثا لا محدِثا.
لأنك إذا قلت: محدَثا، أوجبت فيه دلائل الحدث.
فإذا قلت: ليس فيه دلائل الحدث نفيته، والنفي والإثبات لا يجتمعان في شيء واحد.
وأما قولكم ثم نفينا عن الله سبحانه أن يكون جسما أو عرضا، وأثبتناه شيئا، فالجواب في ذلك: أنا جعلناه قديما، والقديم لا يكون محدَثا، وكذلك نفينا أن يكون المحدَث ليس فيه دلائل (2) الحدث، فيكون قديما أو عدما، ويستحيل أن يكون القديم محدثا.
__________
(1) في (أ): زعمت.
(2) في (أ): دليل.
وأما قولنا: إن الله شيء، فإنما نريد بذلك: إثبات الموجود، ونفي العدم المفقود، إذ ليس إلا موجود أو معدوم (1)، فالموجود شيء والمعدوم لا شيء، فلما وجدنا الصنع علمنا أن الصانع شيء، ويستحيل أن يصنع العدم شيئا، ويستحيل أن يصنع الجسم جسما، لما قد وصفنا. (1/226)
مسألة
فإن سأل فقال: هل يقدر الله أن يخلق خلقا لا نهاية له؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: مسألتك تحتمل وجهين:
إما أن تكون أردت جسما لا حدود له ولا جهات.
وإما أن تكون أردت أعراض الزمان والساعات، وما وعد الله بدوامه أهل الآخرة من اتصال الأوقات.
فإن (2) كنت أردت جسما لا حدود له فهذا محال، وتناقض من القول والسؤال، لأنك سألت عن الجسم المحدود، ثم نقضت بنفيك للحدود (3).
وإن كنت أردت بسؤالك، وبما ذكرت من مقالك، أعراض الآخرة ودوام ساعاتها، واتصال حدوث أزمنتها وأوقاتها، فكذلك نقول إنه لا انقطاع لدوامها.
مسألة
وإن سأل فقال: هل يقدر الله أن يعلم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: كلامك هذا باطل لا يجوز على الله سبحانه، وعز عن كل شأن شأنه.
وذلك أنك (4) قلت: هل يقدر الله أن يعلم، فجعلت العلم من المفعولات المحدثات، وأخرجته من الصفات الأزليات، والمقدور عليه لا يكون إلا من المحدثات، وذلك كعلم الإنسان المستفاد بالأفهام (5) المدركات، والله يتعالى عن الجهل والنقصان، ويتقدس عن شبه الإنسان، وغيره من الحيوان(6)، وغيره من صنع الواحد الرحمن.
مسألة
فإن سأل فقال: هل يريد الله أن يقدر؟
__________
(1) في (ب): موجودا أو معدوما.
(2) في (أ): وإن.
(3) في (أ): بقولك الحدود. مصحفة.
(4) سقط من (أ): وذلك أنك.
(5) في (أ): بالأفعال.
(6) في (أ): الحيوانات. مصحفة.
قيل له ولا قوة إلا بالله: هذه مسألة من أحول المحال، وأولى ما تنزه عنه ذو الجلال والإكرام، لأنك قلت: يريد أن يقدر؟! والإرادة فمن المفعولات، والقدرة فمن الصفات الأزليات، ولا تكون الإرادة إلا بقدرة من قدير، لم يسبق قدرته ضعف ولا تقصير، فجعلت الصفة القديمة من المفعولات، فنقضت قولك!! لأنك قلت: يريد، والإرادة فهي الفعل، والفعل لا يكون إلا بقدرة، فكأنك قلت: يخلق القدرة بقدرة، وهذا محال متناقض وربنا محمود. (1/227)
مسألة
وإن سأل فقال: هل يريد الله أن يعلم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: هذه مسألة تستحيل عن ربنا جل جلاله، وظهرت نعمه (1) وأفضاله، لأن العلم ليس بمفعول، ولا هو شيء سوى الله معقول، والإرادة على الأفعال، فلا تتم إلا بعد العلم بالأعمال.
مسألة
فإن رجع إلى الحق، وسأل عما يليق بالله من الصدق، فقال: هل يعلم الله أن يقدر؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: نعم هو سبحانه يعلم أنه يقدر.
مسألة
فإن سأل فقال: هل يقدر الله سبحانه (2) أن يريد؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: نعم يقدر سبحانه، وجل علمه وسلطانه، وظهر دليله وبرهانه، أن يريد، لأن الإرادة فعله، والله قادر على الأفعال.
فإن قال: فهل يعلم أن يريد؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: نعم يعلم (3) سبحانه إنه يريد، ولا يخفى عليه في(4) سابق علمه ما سينقص من فعله ويزيد.
مسألة
فإن قال: فهل يعلم أن يعلم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: نعم يعلم أنه يعلم، ولا يخفى عليه شيء من المحدثات في حال العدم.
مسألة
فإن قال: فهل يقدر أن يقدر؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: هذا محال، لأن القدرة إنما تقع على المحدثات، وليس لله عز وجل قدرتان تقع إحداهما على الأخرى، فتكون واحدة في عداد المفعولات، وتكون الأخرى في عداد الصفات.
__________
(1) في (أ): نعمته.
(2) سقط من (أ): الله سبحانه.
(3) سقط من (أ): يعلم.
(4) في (أ): عليه بشيء في.
فإن قال قائل: فكيف جاز قولك: يعلم أن يعلم، وبطل (1) قولي يقدر أن يقدر؟! (1/228)
قيل له ولا قوة إلا بالله: للعلة التي قد ذكرنا، وذلك أن الله عز وجل يعلم أنه عالم بكل معلوم، كما هو قادر على كل مقدور، ويستحيل قولك: يقدر أن يقدر، لأن القدرة إنما تكون على الأفعال، وليس لله قدرة أخرى، فيما يعلم كل ذي عقل وحجى، إلا أن تريد بقولك: يقدر أن يقدر، تريد: أن (2) يفعل المفعولات، فنقول: قد أصبت فيما اقتصرت عليه، ولم تخُطِ فيما نسبت من لفظك إليه.
مسألة
فإن سأل فقال: هل يريد أن يريد؟
قل له ولا قوة إلا بالله: اعلم أن الإرادة قد اختلف فيها على وجهين:
إرادة ضمير.
وإرادة فعل.
فأما الضمير فينفى عن الله سبحانه لما قدمنا في ذلك من البيان، وأوضحنا بمن الله من البرهان.
وأما الفعل فهو أولى ما وصف به الرحمن، وأيما قصدت فلن يخلو من أحد ثلاثة أوجه:
إما أن تكون تريد هل يضمر (3) أن يفعل، أو هل يضمر أن يضمر غير ما أضمر.
أو تكون أردت تكرير القول فقط، لا غير الفعل الذي هو إرادة الله عز وجل.
فإن كنت أردت أنه يضمر أن يفعل فهذا محال، لا يجوز على الله ذي الجلال، لما قدمنا من نفي الضمير، عن الله الواحد الخبير.
وكذلك إن أرت أنه يضمر أن يضمر غير ما أضمر، فهذا من أكفر الكفر والجحدان، وأحول ما استحال عن الرحمن، لأن من يحب ويهوى، ويخطر على باله الأشياء، لا يوصف بعلم ولا خبرة، ولا تدبير ولا فطرة، لأنه لا يخلو من أحد وجهين:
إما أن يكون على تلك الشهوات مجبولا مصطنعا.
وإما أن يكون عزيزا عن ذلك ممتنعا.
فإن كان غير ممتنع من الخواطر والأحوال، ولا عزيزا عن الزوال والانتقال، فذلك مضطر مفطور لا يمتنع من الحوادث والتدبير، ولا ينفك من صنع العليم القدير، وإن كان عن ذلك عزيزا، وكان من الخواطر ممتنعا حريزا، فقولك هذا كفر بذي الجلال، وجهل بالله الكبير المتعال!!
__________
(1) في (أ): ويبطل.
(2) في (أ): تريد بقولك أن.
(3) في (أ): تريد أن يضمر.
وإن أردت تكرير القول بالإرادة، فقد أصبت، وأخطأت (1) في تكرير القول وترديده على (2) غير معنى. (1/229)
مسألة
فإن قال: أخبرني عن الله أيعرف نفسه أم ينكرها؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: اعلم أنه لا ينكر نفسه، لأن المنكِر لنفسه الجاهل بها إذا جهل نفسه فهو لغيرها أجهل، والله يتعالى عن الجهل والنقصان، ويتنزه عن شبه المخلوقين في كل شأن.
مسألة
فإن قال: أخبرني عن معرفته سبحانه لنفسه أهي هو أم هي غيره؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: اعلم أيها السائل أن معرفة الله لنفسه هي هو.
مسألة
فإن سأل فقال: أخبرني عن الله سبحانه أخلق الأشياء من شيء أم من غير شيء؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: اعلم أن الله سبحانه خلق الأشياء من غير شيء، واخترعها اختراعا من غير بدي.
فإن قال: وما أنكرت من أن يكون خلقها من شيء قديم لم يزل، فنقله إلى الحدث حتى أبان فيه صنعه، من غير أن يكون اخترعه؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: قولك هذا فاسد محال، لأنه لا يخلو من أن يكون نقله كله أو نقل بعضه، أو لم ينقل منه كلا ولا بعضا.
فإن قلت: لم ينقل كله ولا بعضه، نفيت ما عنه سألت وجحدت.
فإن قلت: بل نقل كله أو بضعه، أوجبت بأبين البيان حدوثه، ونفيت أزله وقدمه، لأنا قد بينا حدث الكل والبعض فيما تقدم من كلامنا، وأوضحناه في أول كتابنا، وإذا صح أن الأصل كل أو بعض، صح أن ذلك لا يكون إلا جسما، وقد تقدم من قولنا إن الأجسام محدثة، وإذا كانت أصول الأشياء محدثة فقد فسد قولك في (3) نقلها واصطناعها، وصح قولنا في اختراعها وإحداث أصولها وابتداعها.
مسألة
فإن قال: أيقدر الله أن يظلم عبيده، ويخلف وعده ووعيده؟
__________
(1) في (أ): فقد أخطأت.
(2) في (أ): في.
(3) في (أ): من.
قيل له ولا قوة إلا بالله: نعم هو قادر على ما سألت، وغير عاجز عما ذكرت، وليس كلما قدر عليه الحكيم فعله، لأنا نجد الحكيم منا مع حاجته لا يفعل القبيح لذمامته، فكيف بالحكيم الغني؟! لأن الفاعل لا يفعل فعلا إلا لحاجة تدعوه إلى منفعة أو دفع مضرة، والله لا يحتاج إلى اجتلاب المنافع ولا إلى دفع المضار والفجائع، فتبارك الله وتعالى عن ظلم عبيده، وإخلاف وعده ووعيده!! وأيضا فقد يكون الكذب والسفه والعبث من الظالمين، لغير حاجة تدعوهم إلى ظلم المظلومين. (1/230)
فإن قال بعض الملحدين: فما تنكر أن يعبث الله؟ تعالى سيدنا عن (1) قول الملحدين!!
قيل له ولا قوة إلا بالله: إن عبثهم هذا الذي ذكرنا، وجورهم لغير حاجة فيما قدمنا، إنما يدعوهم إليه البطر والهوى، والله يتعالى عن ذلك لا يبطر ولا يهوى، لأن الهوى داعٍ إلى كل منكرِ، ومنه تولد الظلم والبطر، والهوى فهو ضمير وخاطر، والله يتعالى عن الخواطر، لأنها شهوات لا توجد إلا في القلوب، وما يتعالى عنه علام الغيوب، وقد تقدم كلامنا في الجزء الأول من نفي الخواطر عن رب العالمين، وتبيين حدوث ذلك في المخلوقين.
مسألة
وإن سأل فقال: هل يحب الله نفسه أو بعضها؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: كلامك هذا باطل محال لا يجوز على الله، لأنه غني عن الحب والبغض، لأن الحب يخرج على وجهين، وكذلك البغض:
فمن الحب ما يكون ضميرا أو نية، وشهوة في القلوب مبنية، وهذا من صفات المخلوقين المحتاجين إلى محبة أنفسهم، المجعولين على فطرة شهواتهم.
__________
(1) في (أ): من.
وأما الوجه الثاني فهو: حب الله لأوليائه المؤمنين، وهو ثوابه ونعمته للمطيعين، والله غني عنه وغير محتاج إليه، لأن المحتاج إلى الرزق لا يكون إلا مبنيا على الحاجة إليه، والله يتعالى عن الحاجة إلى الأرزاق، واجتلاب النعم والأرفاق، لأن الذي يرتزق ويغتذي (1)، لا يكون إلا مضطرا غير غني، ومن كان مضطرا فهو فقير إلى اللذات، مبني على الحاجة إلى الشهوات، والملتذ لا يكون إلا جسما مجتمعا، متحركا أو ساكنا، وقد بينا حدث الجسم فيما تقدم من كلامنا. (1/231)
والبغض يخرج على وجهين:
فمن ذلك: بغض الآدميين، وإضمار كراهة (2) ما يكرهون، والله يتعالى عن شبه المخلوقين.
والوجه الثاني فهو: بغض الله الكافرين، وهو أليم عذابه ونكاله للفاسقين، والله ليس بذي جسم فتحله الآلام، ولا بذي شخص (3) فتلعقه الأسقام، بل هو رب العالمين، وفاطر السماوات والأرضين، فتبارك وتعالى عما يقول الظالمون، وتقدس عما يتفوه به الجاهلون، وتنزه عما يقول المفترون!!!
مسألة
وكذلك إن سأل فقال: أيكرم الله نفسه أم يهينها؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: من هذه (4) المسالة ما هو من المحال، ومنها ما يليق بالله ذي الجلال، لأن الكرامة على وجهين:
كرامة تنزيه عن الظلم والعدوان، وذلك أولى ما وصف به لرحمن، فهو يكرم نفسه عن ذلك جل جلاله، وكرمت عن الجور والدناءة أفعاله.
والوجه الثاني: فكرامة النعيم، وما يتعالى عنه الواحد القديم، وهذه الكرامة فتستحيل على (5) الله الرحمن الرحيم، وكذلك الهوان على وجهين يستحيلان على (6) الرحمن:
فوجه هوان دناءة الأفعال، والجور والسفه في الأعمال، وذلك منفي عن الله ذي الجلال.
__________
(1) في (أ): يرزق ويغتدي.
(2) في (أ): كراهته.
(3) في (أ): حسد.
(4) سقط من (أ): من هذه.
(5) في (أ): عن.
(6) في (أ): مستحيلان عن.
والوجه الثاني فهو: أن العذاب الأليم، وما جعله الله ضد الرحمة والنعيم، وهو مما يستحيل على (1) الخلاق العليم، لأن الألم لا يحل إلا في الأجسام، وذلك فيتعالى عنه ذو الجلال والإكرام. (1/232)
مسألة
وكذلك إن سأل فقال: هل يقدر الله أن يُعلم بعض خلقه جميع معلوماته، فإن قلتم: يقدر فقد صار غيره في العلم مثله، وإن قلتم: لا يقدر عجَّزتموه؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: هذه مسألة متناقضة، لأنك قلت: هل يقدر أن يُعلم بعض خلقه جميع ما يعلمه، فجعلت لمعلومه (2) جميعا، والجميع يتناهى ومعلوم الله لا يتناهى ولا يحد، ولا يحصى أبدا ولا يعد، فالنقض لمسألتك أتى من عندك، لما في مسألتك من تناقض قولك.
ألا ترى أن الله من معلوم نفسه، وليس له جميع فيكون محدودا، وليس بعدد فيكون معدودا، فكيف يريد أن يُعلم خلقه نفسه، ونفسه لا تعلم، ولا تدرك بغير الأدلة ولا تفهم، لأنها نفس ليست من الكل والأبعاض، ولا من الأجسام والأعراض، وسؤالك فإنما هو عن (3) كل المعلومات، والكل فلا يصح إلا من المصنوعات.
مسألة (4)
فإن سأل فقال: أخبروني لِمَ زعمتم أن هذه المسائل تستحيل، ولا يجوز [أن] يوصف بها الواحد الجليل؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: إنما استحالت هذه المسائل لتناقصها، وتكاذبها في المقال وتداحضها، لأنك أيها السائل تسأل عن الله الجليل، ثم تنقص بالقول المستحيل، وتشبه الله بالعبد الذليل، مثل قولك: هل يقدر أن يفني نفسه؟! فجعلته ثلاثة وإنما هو الواحد الأحد، القديم العظيم الفرد الصمد، فكأنك سألت عن مخلوق وأنت تحسبه خالقا!! وسألت عن ثلاثة وأنت تحسبها واحداً!! لأن المفِِي هو الفاعل والمُفنَى هو المفعول، والفعل هو الثالث المجعول، المتوسط بين القابل والمقبول.
وصلى الله على مولاي وسيدي محمد النبي وآله، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
- - -
كتاب
الفرق بين الأفعال
__________
(1) في (أ): عن.
(2) في (ب): لعلومه.
(3) في (ب): من.
(4) سقطت هذه المسألة من (ب).
والرد على الكفرة والظلال (1/233)
الفرق بين الأفعال
والرد على الكفرة والظلال
وبه نستعين. الحمد الله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين، وعلى أهل بيته الطاهرين، الأخيار الأبرار الصادقين، ونسأل الله التوفيق لما قصدنا من الإحسان، ونعوذ به من الضلالة والجهل والخذلان، وأشهد أن لا إله إلا الله، الحق اليقين، الواحد الأحد الصمد المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفوته ووليه وخليله، بعثه بالحق هاديا إلى الرشاد، وداعيا إلى رحمة الله لجميع العباد، وزاجرا عن الجهل والغي والفساد، فاجتهد صلوات الله عليه غاية الاجتهاد، وأنذر جميع من حوته أقطار البلاد، حتى أتاه ما وعد الله من اليقين، بعد أن أوضح به مسائل حقائق الدين، فصلوات الله عليه وعلى ذريته الصادقين، والحمد لله رب العالمين، فلما قبضه الله إليه، واختار له من الثواب ما لديه، علم أن سيكون من عباده من يحتاج إلى الهدى، وكشف الضلالة عنهم والردى، بذوي الدين والفضل والحجا، ذرية الرسول أئمة الهدى، وأعلام الدين ومصابيح الدجى، فكشف بهم أغطية الضلال، وقمع بهم مَن عاند الحق من الجهال، وأهل الحيرة الكفرة الضلال، فمن طلب الحق عند غيرهم فقد جهل، ومن عاندهم فقد ضل وخذل، لأن الله لو علم أن العباد يكتفون بعقولهم، لما فرض سؤال آل نبيه عليهم السلام، فمن رأى أن يكتفي عنهم بعقله، فقد وقع في ضلالته وجهله، لأنه كلف نفسه ما لا يطيق، ومن فعل ذلك مُنع من التوفيق، ومن لم يوفقه الله وقع في العمى، لفراقه للصفوة الحكماء، ولم يزدد بذلك من الحق إلا بعدا، لما تكلف ونصب نفسه له من الهدى، وقد أمر أن يقصد غيره قصدا، لأن الله قد جعلهم معتمدا، ولم يأمر بقصد غيرهم أحدا، فالحمد لله الذي جعلنا من ذريتهم، وبحبوحة نسبهم وذروتهم. وبعد فلما رأينا خبط جميع الناس في الجهل والضلال، وترددهم بين هؤلاء الجهال، واختلافهم في موجبات جميع الأفعال، حدانا ذلك على تبيان جميع الأحوال، ليعمل
بذلك من أراد التعلق بذي الجلال، ولا يلتفت إلى غيره من ترهات المقال، وما زخرفه الأوباش من المحال. (1/234)
فأول ما نبدأ بذكره من الأفعال، فعل الله الواحد الأحد الكبير المتعال، فألطفوا النظر فيما يلقى إليكم من المقال، فنقول: إن فعل الله يخرج على وجهين، وينقسم في المعقول على قسمين:
أحدهما: فعل فعله بالاختراع، يستخرج بالألباب، مثل فعله لأول ما صنع، وفطر من الأهوية وابتدع، وكذلك خلقه للسماوات والأرضين، فذلك ابتداع من أحكم الحاكمين.
والوجه الآخر: فعله بالعلل بالمعلولات، مثل إثباته للأرض بالجبال الراسيات، ومثل إحراقه للزبد بالنيران، ومثل ضربه للماء بالرياح، ومثل خلقه للحيوانات بعواقب النكاح، ومثل حياته التي أثبتها في الأجسام، وأقرها بطبائع الماء والطعام، ومثل خلقه للأشجار، بما نزل برحمته من الأمطار، وحياة جميع الحيوان والثمار، وهو يقدر مع ذلك أن يخلق جميع الأشياء، كخلقه للهوى والنار والماء، ولكنه أراد أن يدل ذوي الألباب على حكمته، بإصلاح الأنساب بالأسباب، لأنه لا يفعل المعنى بالمعنى، إلا عالم بما صنع وبنى، فنقول: إن الله عز وجل دبر جميع مصالح العباد، بالطبائع الأربع المركبة في جميع الأجساد، لما أراد من المصالح ونفي الفساد، وهي: الحر، والبردن واليبس، والرطوبة، وخالف بينها وجعلها من الأضداد، لما أراد من البيان للعباد، وقد ذكرنا ذلك في كتاب الطبائع، لمن رغب في الحق والرشاد، فأما عرضنا في هذا الكتاب فهو بيان جميع الأفعال، ونفي ما خالف الحق من المقال، وخبط هؤلاء الظلمة الجهال، بما لا تنكره أبدا عقول المكلفين، ولا يقدر على دفعه أحد من الخلق أجمعين.
وأفعال الله عز وجل بالطبائع هي كما ذكرنا، من حياة الأشجار بالماء، فأما التصوير فمن رب العالمين، ولا يكون ذلك أبدا من غير أحكم الحاكمين.
ووجه آخر: أن صعود الماء إلى الثمار، وعلوه مصعدا في أعالي الأشجار، لا يكون إلا من الواحد القهار، لأن الماء طُبِعَ على الانحدار ولم يطبع على الصعود والعلو في الأغصان، لأن ذلك لا يوجد إلا بالله الواحد الرحمن، وكذلك النطف التي في الأرحام، فتصويرها من ذي الجلال والإكرام، وأما الغذاء بحرارة الأرحام، فهو طبيعة تفضل الله بها على الأنام، كما تفضل عليهم بالماء والطعام، فمن زعم أن الرحم التي صورت، وأن المياه والأرضين التي قدرت، وصنعت الصورة ودبرت، فقد كفر صاغرا وأشرك، وهلك بجهله فأهلك، لأن الماء يغدو بطبيعة البرد واللين، والصورة في نفسها ليس لها طبيعة غير حكمة الله الحق اليقين، لأن كل شيء في الصور يدل على الحكمة، والعلم الحق المبين، ولله عز وجل فعلان، فعل الإرادة والقصد في الأحيان، وفعل طبائع كامنة في الجمادات والأبدان، كمنها قبل هذا الزمان وفي هذه الأزمان، وأما الإرادة والقصد منه تبارك وتعالى، فمثل خلقه للذكر والأنثى، وأما الفعل الكامن فمثل طبائع الحجارة والنيران، ومثل المياه والحديد وغير ذلك من صنع الرحمن. (1/235)
واختلف في هذه الطبائع فقال بعضهم: هي تفعل لغير صانع صنعها، ولا فاطر فطرها وابتدعها، وهم الملحدون، الكفرة الأنجاس الجاحدون، قد رددنا عليهم في كتاب الطبائع وغيره، ما يكتفى به عن إعادته وتكريره.
وقال آخرون من المسلمين، وأولياء الله المتقين: إن الله عز وجل كَمَنَ في هذه الطبائع خيرا وشرا، وجعل فيها نفعا كامنا وضرا، فمن تناول منها شيئا نفع به وضر، وصرفه أينما شاء من الخير والشر، مثل: ما كمن الله برحمته من طبائع أدوية الأمراض، ومما يعرض لعباده من الأعراض، فبالمشاهدة يعلم أنه ينفع، ويحرك تارة ويقطع، ويكف هيجان المِمَّرة، وينفع ويلين الطبيعة، ومنه ما يحمد، ومنه أيضا ما يبرد، ومنه ما يحرق، ومنه ما يروح البدن ومنه ما يعرق، وبالمشاهدة أيضا أن من الطبائع ما يقتل ويمرض، مثل ما يستعمله أعداء الله من السموم، وما قد نهى عنه الواحد والقيوم. (1/236)
مسألة
فإن سأل سائل مسترشد، أو قال قائل متعنت ملحد: ما تقولون في المؤمنين، وأصحاب الأخدود المتقين، الذين أحرقهم أعداء الله بالنيران، وما قولكم في الأئمة الطاهرين، الذين قتلهم أعداء الله الكافرون، وأهلكوهم بطبائع السموم، أتقولون ذلك من الحي القيوم، أم من فعل الكفرة الظالمين، الخونة الأشرار المجرمين؟!
فالجواب في ذلك وبالله نستعين: إن إهلاك أصحاب الأخدود، كان بظلم أهل الكفر والعنود، ولم يكن ذلك من الله الواحد المجيد، فأما النار التي أحرقتهم فلم يحرقهم الله بها، وإنما أحرقهم الذين ألقوهم فيها، وإنما يعذبهم الله على حركتهم، وطرح أولياء الله في النار وإسقاطهم، وجرأتهم على الله في هلاكهم، فأما الإحراق في نفسه فهو من طبيعة النار، التي كمنها الله وجعلها في الأشجار، فتناولها أعداء الله للأبرار، وذلك الحر فعلٌ فعله الله وجعله، وصنعه للمنافع ونزله، فصرفه أعداء الله في غير طاعته، وقلبوه في سخطه ومعصيته، وهو لا يخلو من أحد أوجه لا بد منها، ولا منصرف أبدا في المعقول عنها.
إما أن يكون الله هو الذي أحرق أولياءه في النار.
وإما أن تكون طبيعة الحرارة من فعل الفجار، الظلمة الخونة الأشرار.
وإما أن يكون ذلك من فعل النار.
وإما أن يكون لا من فعل الله ولا من فعل الكافرين، ولا فعل الطبيعة الكامنة ولا من فعل المقتولين. (1/237)
فإن قلت: إن الله هو الذي قتل المؤمنين، فهذا ما لا يجوز على رب العالمين، ولا ينسبه إليه أحد من المسلمين. وإن قلت: إن ذلك الإحراق من فعل الكافرين، فهذا ما لا يقول به أحد يعقل من الناس أجمعين، لأن الكافرين لا يقدرون على فعل الإحراق، لأن الحرارة طبيعة من فعل الواحد الخلاق، وإنما فعل أعداء الله الحركة والسكون والضمير، والطرح لأولياء الله في النار والسعير. وإن قلت: إن ذلك الإحراق من فعل المقتولين، فهذا أشبه شيء بقول المجانين! فلا بد من الرجوع إلى ما قلنا من فعل الطبيعة الكامنة في الأجسام، التي كمنها الله لمنافع الأنام.
فإن قال: كيف تفعل الطبيعة وهي لا تعقل ولا تعي، ولا تقصد شيئا من الأمور ولا تهتدي؟
فالجواب في ذلك وبالله التوفيق والتسديد، ومنه العون والنصر والتأييد، والقوة والهداية إلى ما نقصد ونريد: إنها تفعل بإذن الله فعل طباع الكمون، ولا تفعل فعل أهل العقول والتدبير، لأن ذوي العقول والتدبير يفعلون بالاختيار، وفعل الطبيعة بالتركيب، وإنما أنكرنا على ذوي الإلحاد، أنهم أضافوا الحكمة إلى الجماد. فقلنا: ذلك يستحيل، ولا تقبله عن قائله العقول، لأن الجمادات لا تفعل أعاجيب التدبير، ولا يكون ذلك إلا من العليم القدير، لأنا وجدنا الحكمة التي في الجوارح، وتركيب أدوات جميع المصالح، تدل على علم الصانع... (1) الألباب مثل خلقه عز وجل للذكر والأنثى، وجعله لأجسامهما صنعا محدثا، ومثل خلقه وفرقه بين الرؤوس والأقدام، ومثل فرقه بين مخارج الماء والطعام، ومداخلهما ومجاريهما ومسيرهما في الأجسام، ومثل فرقه بين العقول والأوهام، ومثل تقديمه للمراضع في صدور الإناث، لعلمه بحاجة الأطفال قبل الإحداث، ومثل هداية أطفال البهائم إلى الرضاع لعلمه بفاقتها إلى الإلهام، ومثله صنع ذي الجلال والإكرام، لأن الطبائع لا تفعل أعاجيب التدبير، ولا يتم ذلك إلا بالله العليم الخبير، الواحد الأحد السميع البصير، الفرد الصمد العليم القدير، مصلح الأمور بالأمور، والعالم بعجائب التقدير، والمحسن في العباد بالتصوير، وما لا يحصى من عجائب التدبير، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وسلم تسليما. (1/238)
- - -
كتاب الأدلة
كتاب الأدلة
إن الله جل جلاله خلق الخلق لإظهار حكمته، ودلهم على نفسه بآثار صنعه، وجعل أقرب الأدلة عليه لخلقه، ما ركب فيهم من عجائب فعله، فكل ما فطر فهو دليل عليه، وهاد جميع العباد إليه، فالحمد لله الذي هدانا إلى معرفته، وامتن علينا بإظهار حكمته، وابتدأنا بفضله ورحمته، وبعد:
__________
(1) بياض في الأم.
يا أخي - وفقك الله - فقد سألت عن أَولى ما سأل عنه السائلون، وقال به في دين الله القائلون، إذ لم يُوجد الله سبحانه الخلق إلا لما عنه سألت، ولم يقصد الحكمة إلا لما قصدت، من إبانة الدليل على وحدانيته، والإقرار بعد ما صنع بإلهيته، والتوصل بذلك إلى رحمته، فعلمتُ عند سؤالك عن الدليل على الله - سيدَنا - أن قد وُفِّقت إن شاء الله لسؤالنا، وحُبيت منه بأفضل جوابنا، وأنور الأدلة على مولانا وخالقنا، ورأينا عند ذلك أن دلائل الله أجل من أن تحد، وأكثر من أن تحصى أو تعد، فقصدنا من ذلك أهونه، وأيسر ما يحتاج إليه وأبينه، فاستغنينا لك به إن شاء الله تعالى عن غيره، إذ كان في قليله كفاية عن كثيره، ورجونا أن لا يعزب عنك الاختصار، وأن يمكنك بعد ذلك الإمعان والإكثار، فنسأل الله أن يعينك على طاعته، وأن يوفقك لمرضاته. (1/239)
باب الدلالة على معرفة الله سبحانه
قال عليه السلام: إن سأل سائل فقال: ما الدليل على معرفة الله سبحانه؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على معرفته، ما صنع وخلق من بريته، وأقرب الأدلة إلى الإنسان نفسه، وذلك أنا وجدنا الإنسان نطفة من ماء مهين، ثم رأيناه بعد ذلك مؤلفا مركبا، موصلا مفصلا، محكما مدبرا، فعلمنا أن له مدبرا خالقا، إذ لا بد لكل تدبير من مدبر، ولا بد لكل تأليف من مؤلف، ولا بد لكل تفصيل من مفصل، ولا بد لكل توصيل من موصل، ولا بد لكل حكمة من محكم، كما لا بد لكل بناء من بان، وكما لا بد لكل كتاب من كاتب، وكما لا بد لكل أثر من مؤثِّر.
والدليل على حكمة الله في صنعه للإنسان: أنا نجده أجزاء وأصنافا، وكل صنف منه قد جعل لشيء بعينه، ولا يجعل الشيء لصلاح الشيء إلا عالم، وذلك مثل المفاصل التي جعلت للحركة، ومثل المداخل والمخارج للأغذية، ومثل العقل الذي جعل للتمييز بين الأمور، واختلاف الخيرات ونفي الشرور، ومثل العين جعلت للنظر، والأذن التي جعلت للسمع، واليد التي هي للبطش، والرجل التي جعلت للخطو والمسير، وغير ذلك مما لا يحصى من التدبير، ومثل خلق الأنثى للذكر، وما فطر عليه من ذلك جميع البشر، ففي هذا والحمد لله من بيان الحكمة ما لا ينكر منكر، ويتحير فيه متحير. (1/240)
فإن سأل سائل فقال: ما الدليل على أن هذه الحكمة التي ذكرتم، من صانع حكيم، ومدبر خبير عليم، وما تنكرون أن هذه الحكمة من طبع قديم، فسنورد عليه من القول بيانا، ونوضح له إن شاء الله هدى وبرهانا، فاسمعوا لجواب قوله تهتدوا، وضمنوه قلوبكم ترشدوا؟
فنقول ولا قوة إلا بالله: الدليل على أن ذلك من الله سبحانه، ومن أسمائه خلق الإنسان حكمة، والحكمة صفة حكيم، وكذلك في الإنسان آثار العلم، لأن الحكمة لا تهيأ إلا بالعلم من الحكيم، والعلم صفة عليم، وكذلك نجد في الإنسان جميع ما يحتاج إليه، من المصالح والإصلاح، دليل على الرحمة، والرحمة صفة رحيم، فإذا كان في الإنسان آثار الحكمة والعلم والرحمة، فهذه صفات الواحد الحي، لأن الطبع الميت لا يعي ولا يعقل، ولا يحكم ولا يرحم، ففي أقل من هذا دليل على الله سبحانه، وعز عن كل شأن شأنه، وفي هذه الأحرف اليسيرة ما يقطع جميع الملحدين ويدفع عن الله أقاويل الجاحدين، وفيهن ما كفى وأغنى أهل العقول عن التطويل، وعما لا يفهم من نزهات الأقاويل. وقد زعم غيرنا أنه لا يستدل على الله إلا بالأعراض والأحوال، وأتوا في ذلك بكثير من المقال، وقد يصبح بعض ذلك من غير الطرق التي ذكروا، وتنبسط من غير ما آثروا، غير أني حسبت أن ذلك يدق على كثير من المتعلمين، ويطول لو شرحناه على المسترشدين، فلا تعتمدوا من الأقاويل على ما لا يفهم، ولا تخدعوا أنفسكم بما لا يُعلم، فليس بحكيم من خدع نفسه بغير مقنع من الجواب، وشغل قلبه بما لا يفهم من الخطاب، ورضي من العلوم بغير الصواب. (1/241)
- - -
باب الوحدانية
قال عليه السلام: إن سأل سائل فقال: هل مع الله إله آخر؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: ليس مع الله إله ولا شريك ولا مثيل، ولا له نظير ولا شبيه ولا عديل.
فإن قال: وما الدليل على صحة ما ذكرت؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على ذلك أنهما إذا كانا اثنين لم يخلوا من أحد وجهين:
إما أن يكونا مجتمعين، أو مفترقين. فإن كانا مجتمعين فهما جزءان ملتزمان، وإن كانا مفترقين فهما جزءان مفترقان، وإن اجتمعا أو افترقا فهما مخلوقان، لأن الافتراق والاجتماع لا يكونان إلا في الأجسام، وتعالى عنه ذو الجلال والإكرام، لأن المجتمع موصَّل، لا بد له من موصِّل، والمفترق مفصَّل، لا بد له من مفصِّل، والله موصل الأشياء ومفصلها، وخالق الأجسام وجاعلها، ومفرقها وجامعها، ومبتدعها وصانعها. (1/242)
- - -
باب الصفات
قال عليه السلام: اعلم أن صفات الله على وجهين:
صفات قديمة.
وصفات محدثة.
فأما الصفات القديمة، فالعلم والقدرة، والعلم والقدرة فهما الله عز وجل، وكذلك القول في حياة الله عز وجل، إنما هي الله وحده لا شريك له (1).
__________
(1) اعلم أن في أقوال الأئمة عليهم السلام أن صفات الله القديمة هي ذاته، وماكروا من التسمية والتعديد، الواقع على لفظ الصفات فتنة فاتنة لثلاثة:
الأول: رجل قصر فهمه وفكره عن معرفة الفرق والتمييز، بين العقل والوهم في النظر، وبين الحقيقة والمجاز في الألفاظ، وبين الحق والباطل في المعاني.
والثاني: رجل يعلم في التوحيد مع بعض المخالفين فيه للأئمة من علماء العامة، الذين منهم من يجعل صفات الباري سبحانه أشياء غير ذاته، ومنهم من يجعلها أمورا زائدة على ذاته، لا هي هو ولا غيره، ولا شيء ولا لا شيء، ومنهم من لا يثبت الوصف ولا ينفيه.
والثالث: رجل رافض يتتبع ما أشكل من أقوال الأئمة، ويلزمهم خلاف ما قصدوا له من إثبات ما أثبت الله سبحانه، ونفي ما نفى، وأنه سبحانه موصوف لا بصفات موجبة لوصف، ولا موصوفة بأنها أمور غيره، ولا زائدة عليه ولا حآلة فيه، وقد بين ذلك الحسين عليه السلام في مواضع من هذا الكتاب وغيره، وكذلك الهادي عليه السلام.
قال عليه السلام: وأما الصفات المحدثة فالإرادة والمشيئة والسخط والرحمة والبغض والمحبة، فالإرادة هي: المشيئة، والمشيئة هي: الإرادة، والمعنى واحد، والإرادة فهي: المراد، وهو الفعل لا غير ذلك، والسخط فهو: البغض، وهو: الغضب، وهو: العقاب، المعنى في ذلك كله واحد، والرحمة فهي: الرزق، وهي: الرأفة، المعنى واحد وإن كثرت الأسماء، والمحبة فهي: الثواب والتوفيق والتسديد. (1/243)
والدليل على أن العلم والقدرة والحياة هي الله عز وجل، أن هذه الصفات قديمة
وليس ثَمَّ قديم غيره عز وجل، فإذا لم يكن ثَمَّ قديم سواه، فهي الله، وفي ذلك والحمد لله من الأدلة عندنا، ما يكثر لو شرحناه، ويطول به الكتاب لو ذكرناه، وفيما ذكرنا والحمد مقنع لكل لبيب، وكفاية لكل عبد منيب.
- - -
باب الفرق بين صفات الله وصفات خلقه
قال عليه السلام: إن الله عز وجل لا يوصف بصفات خلقه، وتفسير ذلك: أن قدرة الله هي الله سبحانه، وكذلك علمه هو، فقدرته علمه، وعلمه قدرته، وقدرته حياته، وحياته قدمه، وقدمه حياته، فافهم هذه الصفات الأربع، فإنها هي الله وحده، وإن اختلفت الأسماء الحسنى، وقدرة المخلوق هي: غيره، لأن المخلوق جسم، وقدرته عرض، وهي قوة الجسد، واستطاعة الجوارح، وكذلك علم الإنسان غيره، وهو عرض، والإنسان جسم، وعلمه فهو نفسه، مما جلبت الحواس إلى قلبه، واتصل علمه إلى عقد معقوله، بعد جهله. وكذلك إرادة الله سبحانه فهو: فعله لا غير ذلك، وإرادة المخلوق بمحبة قلبه، واهنشاش من مودته، وضمير قبل فعله، ومحبة الله: ثوابه، وغضبه: عقابه، ومحبة الإنسان: هواه، وبغضه: كراهيته، فاعلم ذلك وافهمه إن شاء الله.
- - -
باب نفي صفات الأجسام عن الله ذي الجلال والإكرام
قال عليه السلام: اعلم أن الله سبحانه ليس بداخل في الأشياء، ولا خارج كخروج الأشياء، ولا بينه وبين خلقه مكان، ولا هو في مكان، ولا هو فوق الأشياء، ولا هو تحت الأشياء، ولا محيط بالعالم كإحاطة الإناء بالماء، وغيره من الأشياء. (1/244)
وإنما معنى قول الموحدين أنه فوق الأشياء، إنه قاهر غير مقهور، وغالب غير مغلوب، وذلك قوله تعالى: ? ?????? ??????????? ???????? ??????????? ? [الأنعام:18، 61].
ومعنى قولهم: إنه في كل مكان: يريدون بذلك: أنه مدبر في كل الأماكن، عالم فليس يخلو جميع الخلق من علمه وتدبيره، وذلك قوله سبحانه: ? ??? ??????? ??? ?????????? ???????????? ??????? ???? ??????????? ????? ????????? ??????? ???? ??????????? ?????? ?????????? ??? ??????? ?????? ?????????? ??????? ???? ???????? ???????? ??? ????????? ? [المجادلة:7].
ومعنى قولهم: إنه محيط بخلقه، يريدون بذلك: أنه خبير بهم، عالم بجميع أشيائهم، وذلك قوله سبحانه: ? ?????????? ????? ??????????? ??????????? ????? ?????? ???????? ???? ? [الجن:28]. وأن بصره عز وجل هو سمعه، وسمعه بصره، وبصره وسمعه فهما: علمه، ومعنى السمع والبصر فهو: الله وحده.
ألا ترى أنه لم يزل سميعا بصيرا، كما لم يزل عالما قادرا، وإذا صح قدم السمع والبصر، فليس ثَمَّ قديم إلا الله عز وجل، فهما الله لا شريك له، وأنه ليس بذي شخص محدود، ولا عدد معدود، ولا بذي كل ولا بعض، ولا طول ولا عرض، ولا عمق ولا لون، ولا طعم ولا رائحة، ولا محسة ولا سمع، ولا بصر ولا ذوق، ولا شم ولا لمس، ولا فكر ولا نفس، ولا شك ولا ظن، ولا محبة ولا بغض، ولا له صبر ولا غيظ، ولا جهل ولا خاطر، ولا يمين ولا شمال، ولا خلف ولا أمام، ولا فوق ولا تحت، ولا افتراق ولا اجتماع، ولا حركة ولا سكون، ولا ارتفاع ولا اتضاع، وأنه بخلاف كل ما وقع عليه وَهْمٌ أو أدركه ظن، وأنه لا يخطر على القلوب، وأنه لا يعرف بشيء من الأشياء، إلا بأن لهذا الصنع صانعا، ليس له شبيه ولا مثيل، ولا نظير ولا عديل. (1/245)
قال عليه السلام: وإنما نفينا عنه هذه الصفات، لأنها من صفات الأجسام، المتعلقة بالصور والأجرام، والخالق لا يشبه صنعه، لأنه - تعالى عن ذلك - لو أشبهه، لكان محدثا مصنوعا مثله، ولو كان محدثا لكان مربوبا، ولما كان خالقا ولا ربا. فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا.
- - -
كتاب الرد على من أنكر الوحي بعد خاتم النبيين
كتاب الرد على من أنكر الوحي بعد خاتم النبيين
... فليس يدعي النبوة إلا كاذب في المقال، متكمه في الضلال، لأن الله ختم به نبوته، وأكمل به حجته، فلما قبضه الله إليه، واختار له ما لديه، خلفه في أمته بأخيه وذريته، وجعلهم هداة بريته، فهم خلفاء الله في خلقه، وأمناؤه على وحيه، لا يسلم أحد إلا بولايتهم، ولا يهلك إلا بعداوتهم، فنعوذ بالله من الهلكة في الدين، واتباع مردة الشياطين، فقد جهل الحق من جهلهم، وعادى الله من جهل فضلهم، إذ هم فرع الرسول، وسلالة البتول، وخيرة الواحد الجليل.
وليعلم من سمع قولنا، وفهم تأويلنا، أن الوحي الذي ذكرنا، فيما تقدم من كلامنا، إن الله ختمه بنبينا، هو هبوط الملائكة، وما كان يسمع موسى من المخاطبة، فذلك الذي ختمه الله وقطعه بعد محمد صلوات الله عليه، لأنه علم أنه أفضل الآدميين، ففرق بينه وبين أهل بيته أجمعين، بأن جعلهم له تابعين، وبشريعته مقتدين، ولو علم في ذريته أفضل منه، لأزاح ختم النبوة عنه، ولجعل بعده أمناء مثله، ولما أبان على فضلهم فضله. (1/246)
والوحي فهو على أوجه معدودة، وأسباب محدودة:
فمنه: ما يكون على ألسن الملائكة المقربين.
ومنه: ما يخلق في أسماع المرسلين.
ومنه: ما يقذف في القلوب.
ومنه: ما يرى في المنام. وكل ذلك لا يتهيأ إلا لذي الجلال والإكرام.
وأما الوحي فإنما يسمى: وحيا، لأنه شيء خفي، لا يسمعه إلا الموحي إليه، ولا يطلع أحد سواه عليه، لأنه سر من أسرار الحكمة، وكرامة من أجلِّ النعمة، ولطف من أحسن اللطف والرحمة.
وأما خطاب الملائكة فلا يكون بعد النبي، ولا يدعيه إلا كاذب من الأنام، وكذلك ما كان يسمع موسى عليه السلام من الكلام. وأما الوحي الذي جعله الله في المنام، فلا ينقطع أبدا عن أهل الفضل والإسلام، ولأئمة الهدى من ذلك ما لا يكون لأحد من المخلوقين، ولا يمكن أن يلقى إلى أحد من المؤمنين، لأن الأئمة شركاء النبيين، وفي ذلك ما يقول أمير المؤمنين الهادي إلى الحق المبين، عليه صلوات رب العالمين: بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: ((الرؤيا الحسن من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة)) (1). وكان يقول صلى الله عليه وآله: ((لم يبق بعدي إلا المبشرات. قيل: ما المبشرات يا رسول الله؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له، جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة)). وكان يقول صلى الله عليه وآله وسلم: ((الرؤيا من الله والحلم من الشيطان)). وقد فسر الحلم في كتاب الرؤيا بأبين البيان، ولقد شاهدنا بحمد الله من عجائب الأسرار المكتومة ما لو ذكرناه لما صدق به إلا من امتحن الله قلبه للإيمان، وإني لأحتاج إلى الحاجة فأطلبها من مولاي تبارك وتعالى، فأرى في المنام قائلا يقول: إن حاجتك التي تطلب في موضع كذا وكذا، أو عند فلان، وربما تحيرت في سبب فأطلب منه البيان، فما ألبث في منامي إلا يسيرا حتى أرى قائلا يقول: قد استجيبت الدعوة، ثم يشرح لي ذلك القائل كلما سألت عنه، حتى أرى من البيان أكثر مما طلبت، وربما أغفل عن الشيء فأرى في المنام من يقول: لا تغفل عن هذا الشيء، فإن فيه خيرا ومصلحة، وإن كان شرا قال: لا تغفل عن هذا واحترز منه، فإن فيه هلاكا وشرا، وربما أرى في المنام سرا مكتوما، وعلما مكنونا، مما سيكون ويحدث، من الخير والشر، والموت والقتل، (1/247)
__________
(1) انظر مقدمة سيرة الأميرين، تحقيق الدكتور/ رضوان السيد، والسيد/ عبدالغني محمود. وقد أفدت كثيراً في هذه الدراسة مما كتباه ونقلت نصوصاً طويلة، راجع المقدمة.
فيقال: سيحدث هذا الأمر في الشهر الفلاني، أو في اليوم الفلاني، في أول النهار، وسيقتل فلان، أو سيموت فلان، وهذا على الدوام والحمد لله. (1/248)
وربما أخبرت بعداوة العدو، وولاية الولي، فأحترز من العدو، وأنبسط إلى الولي، وربما امتحن الله أولياءه الفينة بعد الفينة، وربما أحتاج إلى معنى من المعاني، فأرى صورة ذلك المعنى في المنام، وإلى ما يئول، وكيف يكون، وربما أطلب من الله حاجة أجهلها، وأطلب منه بيان ما أريد من صلاحها، فإذا هجم عليَّ النوم رأيت رجلا يصف لي الحاجة التي أطلب، ويقول: أنا أشير عليك بطلب حاجتك هذه، ولكنها تعسر عليك من وجه ذا وذا، وتسهل من وجه كذا وكذا، وحاجتك هذه التي أشير عليك بها، صفتها ونهتها وحليتها كذا وكذا، أصلها كذا وكذا، فأنظر ذلك جهارا على ما وُصِفَ لي في المنام، وربما أغفل عن النعت والصفة، لوجه من وجوه الحكمة، وضرب من ضروب المحنة، وربما اشتبهت عليَّ الإجابة بالألغاز، والتعريض والإشارات، حتى يتبين لي الجهل من نفسي، والعجز عن إدراك مرادي، فأدعو إلى الله عز وجل: يا رب إني لم أفهم ما أوميت إليه، ولم أقف بفهمي عليه، فبيّن لي أمره، فإني لا أقدر على فهمه، فإذا نمت هجم عليَّ تفسير تلك الألغاز، بأبين ما يكون من البيان، وأوضح ما يحتاج إليه من البرهان.
وقد يجب على الغافل إذا ورد عليه ما لا يفهمه من اللغز والإشارة والتعريض، لا يعجل ولا يتقحم على الشبهة، فإن التقحم بغير بينة، لا يؤمن معه الزلل والخطأ، لأني رأيت في المنام قائلا يقول: إن من الرؤيا ما لا يتبين عند رؤية النائم، وربما رأيت شيئا والمراد سواه، ولعمري لقد جربت ذلك فربما رأيت السيد في المنام، وإنما الرؤيا لعبده، وربما رأيت الأب، وإنما الرؤيا لولده، وربما رأيت الرؤيا للرجل، وإنما هي سميه أو قريبه، وليس لعاقل أن يفسر الرؤيا لنفسه، ولا يعتقد ظاهر ما يرى في منامه، لأن الرؤيا من حكمة الله، وغور حكمة الله لا يدرك.
ومن الرؤيا: بيان ولغز وإشارات، وأخبار وبشارات، ومواعظ وآداب وعلامات، وليس يفسر كثيرا من الرؤيا بالوهم، إلا قليل الورع جاهل أحمق، لأنك ربما رأيت شرا وتأويله خير، وربما رأيت خيرا وتأويله شر، وليس يبين الحكيم كل أموره للعباد، وليس يريد بكتمانها التعمية والتجهيل، وإنما يريد بذلك أن لا يتكلوا على البيان، فيغفلوا عن استعمال العقول، والغفلة ربما كان فيها الهلاك، وإنما يريد أن يمتحنهم بترك البيان، لينظروا ولا يغفلوا، لأن الإتكال على البيان يوجب ترك النظر والبحث والطلب، وترك النظر يوجب البلادة، والبلادة توجب الوقوع في المصائب، والوقوع في المصائب يوجب الهلاك، وترك البيان يوجب الفاقة، والفاقة توجب الخوف، والخوف يوجب الطلب، والطلب يبعث الحيلة مع التثبت والأناة، والتبيين والتمييز، والكشف والبحث، لأن الحكيم عز وجل لا يرضى بالفساد، ولا يقصده لأحد من العباد، ولا فساد أعظم من إهمال العقل، والإقامة في البلاهة والجهل، لأن في ذلك الزهد في الحكمة، ومن زهد في الحكمة فقد رضي بالضلالة، والضلالة مذمومة، ومن اختار المذموم على المحمود فقد بلغ الغاية في الخطأ. (1/249)
وقد زعم قوم أن التوكل على الله في جميع الأسباب واجب، وجهلوا حقيقة التوكل، وإنما حقيقة التوكيل على الله اليقين بالله، والرضى بجميع ما قدر وقضى، ولو كان التوكل هو: أن يغلق المتوكل عليه بابه، ويهلك نفسه، لكان من لم يفعل ذلك غير مؤمن بخالقه، ولو جاز له أن يفعل ذلك، لجاز له أن يحج إلى بيت الله الحرام بغير زاد، وأن لا يستعد لأعداء الله في الجهاد، ولا يطلب العلم الذي ينجو به من عذاب الله في يوم المعاد، وإذا صار إلى ذلك فقد ألقى بنفسه إلى التهلكة، وخرج من الحقيقة إلى البدعة، وهذا جهل ممن ظنه وتوهمه، فضلا عمن عمل به واعتقده، لأن الدنيا دار المحنة والحاجة، وليست بدار الآخرة والنعمة، والله يقول عز من قائل: ? ????????? ????????? ???????????? ??????????????? ? ??????????? ???????????????? ??? ??????? ?????? ????????????? ?????? ???????? ???????????? ????????????? ???? ? [الجمعة:10]. وهذا كثير في القرآن، بيّن غاية البيان. (1/250)
- - -
كتاب الرؤيا
كتاب الرؤيا
إن سأل سائل فقال: هل الله في الأماكن بذاته، أم هو في الأشياء بعلمه وإحاطته... إلى قوله في الجواب: وإنما معنى قولنا: إنه في الأشياء، نريد بذلك أنه مدبر في الأرض والسماء، وفيما بينهما من الأحوال، لم ينقطع من الأماكن تدبيره، ولم يعدم فعله وتقديره، وإدراكه للأشياء فهو: علمه بها، وعلمه فهو: قدرته عليها. فأما من زعم أنه عالم قادر، ولم يقل أن العلم والقدرة هما الذات، وكذلك ما وافقهما من الصفات، فقد جهل حقيقة العلم لتناقض قوله، ونفي إدراكه للمعلومات بجهله، وبلغ الغاية في مكابرة عقله، لأنه قد أقر لله بإدراك معلوماته، إذ الدرك من أكرم صفاته، والدرك حق عند جميع ذوي الألباب، وليس شيء غير الله رب الأرباب، لأن الدرك يخرج على وجهين:
فدرك من صفات المخلوقين.
ودرك هو من صفات رب العالمين.
فأما إدراك العباد فهو: علمهم، وعلم العباد متعلق بهم، وهو ما ركب الله من عقولهم، وجمع بينه وبين أجسامهم، وكذلك علم حواسهم وأوهامهم. وأما علم الله فهو: ذاته، وكذلك قدرته وحياته، لأن علمه لو كان سواه لكان مجموعا إليه، ولكان له جامع فطره عليه. ألا ترى أن من قال: إنه عالم، ثم قال: لا علم له، فقد نقض بأبين البيان قوله، وإنما أنكروا ذلك بجهلهم، وضعف تمييزهم وعقولهم، وقد علم الله سبحانه ذلك منهم، فلم يكلهم إلى أنفسهم، بل أمرهم باتباع آل نبيهم، وسبيل هدايتهم ونجاتهم. (1/251)
وسألت يا أخي - وفقنا الله وإياك لطاعته، وأعاننا على اتباع مرضاته - عن الإنسان المخاطب المأمور، المتعبد في جميع الأمور، المكافأ على البر والفجور، أهو العقل أم الجوارح؟
والجواب في ذلك: أن العقل حجة تعبد الله الخلق بعد كمالها، وأثاب وعاقب البرية بفعالها، فأما العقل فلا يقع عليه الثواب والعقاب، وإنما هو شاهد على الخطأ والصواب، وإنما يقع الثواب والعقاب على الجسم والروح إذا اجتمعا، وعلى الروح وحده وإن لم يكونا معا، فأما الجسم الموات، فلا يعقل إذا فارقته الحياة.
وسألت - تولى الله حفظك، ووفر في الثواب الجزيل حظك - عن الرؤيا التي يراها المؤمنون والكافرون، وكيف تلتقي الأرواح، وهل تكون الرؤيا بشيء ليس من الله سبحانه، وهل يصح من الرؤيا ما هو من الشيطان؟
فذكر في الجواب: أن الرؤيا من الله وحده، لأن الرؤيا إنما تكون عند خروج الأنفس مع الأرواح، وخروج الأنفس من القلوب، فلا يتم إلا لعلام الغيوب، والروح فهو: خلق لطيف، حجب الله فهمه، ولا سبيل إلى علم ما أخفى الله علمه، وإلا فأين من يفهم كيفية خروجه؟! ورجوعه في البدن وولوجه؟!! وكيف خرجت الأنفس والعقول معه من الأجساد؟! وأين مخرجه من أجساد العباد؟! وكيف لا يعقل الروح نفسه عند هجوم المنام؟! وكيف يرجى ويترك في جميع الأنام؟! حتى لا يعقل في أكثر الليالي والأيام، وما جعل الله سبحانه من حياة الأرواح وكمالها، وتوصيل جوارحها واعتدالها، فلا يتم إلا بلطف مدبرها وجاعلها، ومفتطرها وفاعلها، لما فيها من صنعه وتدبيره، وبيان حكمته وتصويره. (1/252)
وأما الرؤيا التي يراها المخلوقون،ويفهمها المؤمنون والكافرون، فهي إخبار من الله، وكرامة للصالحين، وحجة على الظلمة الفاسقين، لأن إعلامه لهم بالحوادث قبل كونها، دليل على علم المخبِر بها، ولأولياء الله وأصفيائه، من عجائب الرؤيا ما ليس لأعدائه، وذلك خاصة منه لهم، وإجابة لدعواتهم عند سؤالهم، وأما غير ذلك من رؤيا السرور، ومكاره ما يرى النائم من الأمور، فمنه ما يحتمل التأويل، ومنه ما هو كائن على ما يراه النائم في المنام، وذلك بإعلام الله ذي الجلال والإكرام، ولا يصح الخبر بالشيء في حال عدم، إلا من عالم أحاط به قبل كونه، لأنه لو كان جاهلا به، لما علمه قبل حدوثه، وفي هذا دلالة على الله رب العالمين، وحكمة تفضل بها على المخلوقين.
وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله الطاهرين من قوله: ((إن الحلم من الشيطان)). فإنما أراد بذلك: أن الله سبحانه أطلع العباد في المنام على أفعال الشياطين ليجتنبوها، وليتعوذوا بالله منها ولا يقربوها، لأنها لا تضر من أخلص التوبة إليه من أفعالهم، واستعاذ به من سوء أعمالهم.
- - -
كتاب (1/253)
السبيلين (العقل والنفس)
كتاب السبيلين العقل والنفس
الحمد لله الذي فرق بين الأضداد... إلى قوله: وللحق والباطل طريقان، وسبيلان مفترقان، وهما: العقل والنفس، فالعقل محل كل صدق وصيانة، ومعدن كل حق وأمانة، والنفس محل كل باطل وخيانة، ومعدن كل دناءة ومجانة... إلى قوله: فاجعلوها - رحمكم الله - تابعة للعقل، ولا تجعلوها سلما إلى الجهل، وحكِّمُوا العقول عليها، ولا تتكلوا أبدا إليها، ومن أراد أن يظفر بأعظم الكرامة، ويحل في محل السلامة، وينجو من الحسرة والندامة، فليحكِّم عقله على هواه، ويؤثر آخرته على دنياه، فالعقل إمام الملائكة المقربين، والأنبياء المهتدين، والأئمة الراشدين، وأتباعهم المقتدين، وهو الدليل على رب العالمين، وحجته على المخلوقين... إلى آخر كلامه عليه السلام.
- - -
كتاب الولاء والبراء
كتاب الولاء والبراء
مما سأل عنه أبو عبد الله محمد بن نقصان
الحمد لله رب العالمين، وصلواته على خام النبيين، وعلى آله الطاهرين.
سألت يا أخي - تولى الله حفظك - عما أوجب الله على عباده من الولاية لأوليائه، والعداوة والمباينة لأعدائه؟
والجواب في ذلك: أن الله عز وجل بيَّن للعباد ما يأتون وما يذرون، وافترض عليهم قبول ما به يُؤمرون، فكان مما أمرهم به، وأوجب عليهم من أصول دينه، عداوة أعدائه الأشرار، ومحبة أحبابه الأخيار، فقال عز من قائل:?? ????????? ??????????????? ??????????? ? [الحجرات:10]. فوجبت موالاتهم، وقال: ? ????? ??????????????? ?????? ?????????? ?????????? ? [هود:113]، فوجبت عداوتهم، إذ ليس من حكمة الحكيم أن يساوي بين المحسنين والمسيئين، وذلك قوله: ? ??????????????? ???????????????? ????????????????? ???? ??? ?????? ?????? ???????????? ???? ? [القلم:35-36].
ثم اعلم - أكرمك الله بهدايته، وأتم عليك ما أولاك من نعمته - أن الهجرة واجبة على جميع المكلفين، لا يعذر الله في تركها أحدا من المخلوقين، ولها وجوه وأبواب وسنذكرها، ونشرحها بعون الله ونفسرها، ولا يجوز لأحد أن يهجر ويباين قبل الدعاء إلى الرحمن، ولا تكون الهجرة إلا بعد البيان، والتلطف والبر والإحسان، وقد روي عن النبي صلوات الله عليه أنه كان يقرب الناس ويدنيهم إليه، ويلطف بهم ويفرش ثوبه لهم لتكمل الحجة بذلك عليهم، وليستعطف قلوبهم بإحسانه إليهم، وفي ذلك ما يقول الله عز وجل فيما أوحى إلى رسوله ونزل: ? ?????? ??????? ??????? ???????? ?????????????? ????????????????? ?????????????? ? [النحل:125]، وقال: ? ????????? ??????????? ???? ????????? ????????? ???????? ?????????? ????????????? ????????? ????????????? ??????? ??????? ???? ? [فصلت:34]. فإذا فعل ذلك وقربهم بالموعظة الحسنة إلى ربهم، فهو مستوجب لإحسان الله وثوابه، ناجٍ عند الله من سخطه وعذابه، فإن هم أجابوا إلى ما دعا إليه، فقد وجب حقهم على الله وعليه، وكان له عند الله كأجر كل من أجابه، وزاده الله على أجره وأثابه، وينبغي له حينئذ ألا يحملهم فوق طاقتهم، ولا يكلفهم جميع الشرائع في آخر ساعتهم، لأن الطبيب لا يحمل على المريض ما لا يطيق، ولا يكلفه من الأدوية ما لا يليق، وإن أبوا إلا التمادي في الضلال، واتباع الكفرة الفجرة الجهال، وجب عليه الإعراض عنهم، والتنحي بجهده وطاقته منهم، وينبغي له إذا هجرهم ألا يفحش في كلامه لهم، إلا أن يطلبوا قتله فيدفعهم، وإن أمسكوا عن قتاله قطعهم، ولم يجز له بعد المقاطعة أن يحل معهم، وإن نابذوه في دينه نابذهم، ولم يجز له أبدا أن يخضع لهم، وحرمت عليه مكاينتهم، ولم يجز له أبدا مقاربتهم، وإن أقروا بفضله عليهم، فلا بأس بالبر والإحسان إليهم، ولا يحرم عليه الانتفاع بهم، إذا كان ماقتاً لهم في فعلهم، داعيا لهم طول (1/254)
دهره إلى ربهم، وكان مع ذلك لا يركن إليهم، ولا يأكل شيئا من ذبائحهم، ولا يجيز شهادتهم، ولا يجيب دعوتهم، وكان يكتمهم أسراره، ويحمل عندهم أموره وأخباره، ففي أولئك ما يقول الله سبحانه، وعز عن كل شأن شأنه: ? ???? ????????????? ?????? ???? ??????????? ???? ???????????????? ? ????????? ?????? ?????????????? ????? ????????????? ???? ?????????????? ???????????????? ???????????? ?????? ?????? ????????? ???????????????? ??? ?????????? ????????????? ?????? ???? ?????????? ??????????????? ? ????????? ????????????????? ???? ????????????? ?????????????? ??????? ???????????????? ???? ??????????????? ????? ?????????????? ????????????????????? ???? ???????????????? ??? ? [الممتحنة:8 - 9]. ففرق عز وجل بين هؤلاء الفاسقين، وبين هؤلاء الظلمة المحاربين، وإذا أعرضت عن الفاسقين وعن قربهم، واستغنيت في ساعات حوائجك عنهم، فإعراضك وموعظتك حجة لله عليهم، إذ أنت مع ذلك لا تركن إليهم، وإن هجرتهم على فسقهم، ولم تستغن في حوائجك بهم، فذلك جائز لك غير حرام عليك، حتى يرجعوا صاغرين إلى الله وإليك، ويجب على المسلم في والديه، إذا لم يقبلا من الحق ما في يديه، أن يتباعد منهما بجهده، وكذلك من خالف الحق من أهله وولده، غير أن الله سبحانه أوجب للأبوين من الكسوة والنفقة إذا كانا فاسقين، ما لم يوجب لغيره مما من الأقربين، ولم يحكم به لسواهما من المخلوقين، ويجب على الرجل في زوجته إذا لم تُقبل إلى الحق، ولم ترجع من المحال إلى الصدق، أن يهجرها مليا من الدهر أو يطلقها، ولا يحل له أبدا أن يدنو منها، إلا أن تتوب إلى الله من العصيان، وتُقبل صاغرة إلى طاعة الرحمن، ويجب عليه في بنيه أن يؤدبهم، ويستقبل بالنصفة قلوبهم، ويحبب إليهم الدين ويقربهم، فإن أبوا إلا عتوهم وكفرهم، وجب عليه أن يبعدهم ويهجرهم، وهذا جواب ما سألت عنه من ولاية (1/255)
المسلمين، وعداوة أعداء الله المجرمين، والحمد لله رب العالمين، وصلواته على خاتم النبيين، وعلى آله الطاهرين وسلم. (1/256)
- - -
كتاب
التوفيق والتسديد والآداب
كتاب التوفيق والتسديد والآداب
فأول ما سألت عنه التوفيق والتسديد وما حقيقتهما ومعناهما؟
والجواب في ذلك: أن التوفيق والتسديد، هما العون من الله والتأييد، فمن أعانه الله على طاعته، ووفقه لمرضاته، فقد وفقه لهداه، وسدده لسبيل تقواه، ولن يوفق الله أبدا من عصاه، وأعرض عن الله واتبع هواه، ثم يقال لمن زعم أن الله وفق العصاة قبل توبتهم، وسددهم في حال معصيتهم: أخبرنا أيها الجاهل عن التوفيق والتسديد، والعون من الله والتأييد، أهما مكافأة للعبد على طاعته، أم عون للفاسق على معصيته، أم تأديب من الله على غفلته، لما علم من إنابته ورجعته.
فإن قال: إنهما زيادة من الله للموقنين، ومكافأة لعباده المؤمنين، فقد أصاب في قوله... إلى قوله: وأصل التوفيق مأخوذ من السداد، وأصله الحق والصدق والرشاد... إلى قوله: وأعلم يا أخي - زادك الله علما، ونجانا وإياك من العمى - أن التوفيق هو التسديد، وهو الهدى من الله والتأييد، وهو زيادة من الله للمهتدين، وإرشاد منه لعباده الراشدين، فمن قَبِلَ عن الله الهدى، وشكره على نعمه الابتداء، زاده هدى إلى هداه، وبصَّره وآتاه تقواه، وأول توفيق الله وتسديده، وعونه للمؤمنين وتأييده، أن يبصرهم معالم دينهم، ويزيدهم في علمهم ويقينهم، ويعينهم بلطفه على جهاد أنفسهم، وأول خذلان الله لأعدائه تركه لهم على ضلالهم، واستدراجه إياهم بإغفالهم، فإذا خذلهم بالترك والإغفال، لم يصيبوا رشدا في حال من الأحوال، ولم يزالوا مرتطمين في الضلال... إلى آخره.
وسألت عن الشجاعة والجبن، أهما من الله تركيب في الأجسام، أم هما اكتساب من العباد؟
واعلم يا أخي أن الشجاعة على وجهين، وكذلك الجبن أيضا على معينين:
فمن ذلك شجاعة المتعبدين.
وشجاعة من لا يعقل من المخلوقين.
فأما شجاعة البهائم، فإلهام وتركيب من رب العالمين. (1/257)
وأما شجاعة المكلفين، وإقدامهم على ما يكرهون، فهي صبر منهم لدفع ما يخافون، واجتلاب منافع ما يريدون، ولا يتم ذلك لهم إلا بما ركَّب الله من الاستطاعة فيهم، ولأولياء الله من الصبر والاجتهاد، ما ليس لجهلة العباد، وذلك ليقينهم بالمعاد، وزهدهم في الإقامة والإخلاد.
وأما جبن البهائم وذلها، فهو محنة من الله لها، ونعمة منه لغيرها، ليثيبها على ذلك عند حشرها، وبعثها يوم القيامة ونشرها.
وأما جبن الآدميين، فلا يخلو من أحد وجهين:
إما أن يكون لعلة مرض أذلهم، ومنعهم من الجهاد وأملهم، وأضعفهم عن ذلك وأكلَّهم.
وإما أن يكون ذلك زهدا منهم في الجهاد، وميلا إلى الراحة والرقاد، فإن كان ذلك لعلة مانعة، ومحنة عن الجهاد قاطعة، فلا يكلف الله سبحانه خلقه ما لا يستطيعون، ولا يسألهم ما لا يجدون، لأنه عز وجل أرأف وأرحم بهم من أمهاتهم وآبائهم، وإن كان ذلك منهم ميلا إلى الفساد، وكراهية منهم لحر الجلاد، وصيانة بالأهل والأولاد، فسيفارقون صاغرين، ويرتحلون عنه مأزورين.
وسألت عن قول الله سبحانه: ? ????????????? ?????????? ???????? ?????????????? ? [الزخرف:32]؟
والجواب في ذلك: أن الله سبحانه سخر بعضهم لبعض تسخيرا، وجعل في ذلك حكمة وتدبيرا، ولو لا تسخيره لما عاش ضعيفهم مع قويهم، ولما انتفع فقيرهم بغنيهم.
وسألت عن الرياح تهب على إنسان فتسقطه في بئر، أو تهدم عليه جداراً فيموت، أذلك من الله، أم هو من الرياح؟
والجواب في ذلك: أنه لا يخلو، إما أن يكون تعرَّض لذلك، وأهلك نفسه. وإما أن يكون ذلك بغير كسبه، فإن تعرَّض للهلكة وألقى بنفسه إليها، فقد أثم في نفسه واعتدى عليها، وإن كان لم يتعرض لشيء من ذلك حتى هجم عليه، وورد بغير اكتسابه إليه، فذلك من الله سبحانه صنع وتدبير، وتهلكة منه لعبده وتدمير، فأما الجدار والرياح فلا ينسب الفعل إليهما، ولا يقال به في سبب من الأسباب عليهما.
وسألت عن الغيث والبَرَد إذا تلف منهما تالف ومات بأسبابهما؟ (1/258)
والجواب في ذلك: أن الله أتلفه بالبَرَد والمطر وأماته، وأذهب عمره بذلك وحياته، فأما الغيث والبرد فلا يعيان ولا يعقلان، ولا يقتلان أحدا ولا ينشران، ولكن أمات بهما وأحيا، ودبّر بهما وهيَّأ، وجعل فيهما خيرا وشرا، وركب فيهما نفعا كامنا وضرا.
وسألت عن الرجل أمأثوم إذا سافر إلى بلد السدم؟
والجواب: أنه إن تعمد بذلك تلف نفسه فقد أثم، وإنما السدم طبيعة حارة من جنس النار، تقوى بشلكها، وتبطل بخلاف أمثالها، وإنما ركب الله سبحانه أجسام العباد على أربع طبائع مختلفة، متضادة غير مؤتلفة، وهي: الحر والبرد، واليبس والرطوبة، وكل طبيعة من هذه الأربع تقوى بشكلها، وتبطل بضدها، فكل حار من الأغذية يقوِّى الحرارة التي في الجسد وينميها، وكل بارد من الأغذية يبطل الحرارة وينفيها، ويقمعها أبدا ويطفيها. وكذلك روي عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله.
وأما ما روي عنه من المقال، بأن بلد الوباء يقرب في الآجال، فهذا فاسد من الرواية والمقال، ولكن يمكن أن يكون نهى عن بلد الوباء لتعب الحر وأعراضه، ونكد عواقب السدم وأمراضه. فأما الأجل، فلا يقربه إلا الله عز وجل، أو ظلم العباد، وتفريقهم بين الأرواح والأجساد، لأن الله سبحانه طبع الروح والجسم على الاجتماع، والإفتراق عند التغير والإنقطاع، فإذا تغير الجسد خرج الروح بعد قراره وثباته، ومات الجسم وهلك بعد حياته، رحمة منه سبحانه للمخلوقين، وتنبيها بالضعف للغافلين، لينظروا إلى ضعف أنفسهم وأجسادهم، فيزهدوا في الدنيا باجتهادهم، ويقبلوا على طاعة ربهم، ويستعدوا للموت قبل حلوله بهم، حتى تخرج أنفسهم على أيقن اليقين، ويقفوا بين يدي الله على الحق المبين، ويسلموا بذلك من صفقة الحظ الغبين.
وسألت عن المقتول هل بقي من عمره شيء، أم قد اخترم القاتل أجله قبل وقته؟
واعلم أن الله عز وجل خلق الحياة خلقا، وأوجدها إيجادا، فإن شاء قبض الأرواح، وإن شاء تركها. فأما المقتول فقد علم بقتله، ولم يجعل له أجلا بعينه، ولو حتم له أجلا موقوتا لبقي إلى وقته، ولما قدر أحد من المخلوقين على قتله. (1/259)
وسألت عن رجل كان يسير في طريق فلدغته حية أو غيرها من الهوام؟ ومن الجراد وأكلها للزرع، أذلك من الله بإلهام، أم هو من أنفس الهوام؟
والجواب في ذلك: أن الله عز وجل ألهم جميع الدواب والأنعام اجتلاب منافعها، ودفع مهالكها، فإن كانت هذه العجم قصدت الملدوغ قصدا، وتعمدت هلاكه عمدا، فذلك بإلهام الله ومشيئته، وإن كان هو الذي تعرض بها فذلك بإرادته، لأنه قصد شرا كامنا بمهجته، لأن الله عز وجل قد ألهمها نفي ما يهجم عليها، وإهلاك ما قصد إليها.
وسألت عن البهائم هل معها عقول تعقل بها، وتميز ما يضرها وينفعها؟
والجواب في ذلك: أن العقول لا تنسب إلا إلى المتعبدين، ومن كان من المهتدين والضالين، ولكن الله ألهم أنفس البهائم إلهاما، وجعل ذلك لحياتهن قواما.
وسألت عن الأمراض، وما ينال الآدميين من وَصَب الأعراض؟
وذلك من الله لا شريك له، وهو الذي صنع ذلك وجعله، وركبه في الأجسام ونزله. وأما ما يستعمله الناس من الطبائع فليس يقدرون على طبعه، وإنما يقدرون على تناوله وجمعه، وليس للعباد فعل في هذه السموم غير الحركات، ولا ينسب قتل السم إلى الجمادات، وإنما هو محنة هلكة من الهلكات، وإنما فعل العباد تفريق وجمع، ورفع ووضع، وصلة وقطع، وطاعة ومعصية، وسكون وحركة، وضمير ونية. فأما الطبائع فهي من فعل الله وتدبيره، وحكمته وتقديره، ولا ينسب الفعل إليها ولا إلى جامعها، ولا يكون ذلك إلا من فعل صانعها.
وسألت عن المرض الذي يسمى الجنون، أهو من الجن، أم هو فعل من الله في المجنون؟
واعلم يا أخي - أكرمك الله - أن الجنون هو ما أجن العقل وستره، وحال بينه وبين المعقولات وغمره، ولا يكون ذلك إلا بملابسة العلل ودخولها، وجولانها في القلوب وحلولها، والجان فلا يتهيأ له الدخول، ولا يمكنه الملابسة والحلول. (1/260)
وسألت عن قول الله مولانا الواحد الجليل، وما ذكر في أهل الربا من القول: ? ??????????? ?????????????? ????????????? ??? ???????????? ??????? ????? ????????? ???????? ?????????????? ??????????????? ???? ?????????? ? [البقرة:275]؟
وهذا مثل ضربه الله لمن يعمل بالربا بالموسوس وخبله، إذ لم ينتفع ولم يزدجر عن الحرام بما ركب الله من عقله، والمس فهو الجنون، وإنما خاطبهم الله بما يعرفون، لأنهم إذا رأوا مجنونا سموه مخبوطا منقوصا، وكان بذلك الاسم عندهم مخصوصا.
وسألت - أكرمك الله - عن العين، وما يعتقد العوام من إصابتها للبهائم للحسان، والأشجار المثمرة، وغير ذلك؟
واعلم يا أخي أن ذلك لا يصح عند من يعقل، ولا يقول بذلك من الناس إلا من يجهل، ولكنه ربما وافق أمر الله نظرهم، فيتوهمون أن ذلك منهم، وليس يخلو نظرهم من أن يكون انتقل منه جسم إلى الشيء المعجب فلابسه، ووصل إليه ولامسه. وأما أن يكون لم يصل شيء منه إليه، ولم يقع مما توهموا عليه.
فإن قالوا: إنه خرج من أنفسهم وأعيانهم جسم أمرضه، ووصل إليه وعارضه، فهذا الجسم لا يخلو من أن يكون لطيفا، أو يكون عند خروجه كثيفا، فإن زعموا أنه خرج من أعيانهم وأنفسهم جسم كثيف أوجعه، وغلب الشيء المعجب وصرعه، أو أيبس الشجر وقطعه، فهذا محال لأن العين والنسمة ضعيفان، وهما مع ضعفهما لطيفان، وما كان من الأشياء كلها ضعيفا، وكان مع ضعفه لطيفا، فيستحيل أن يخرج منه جسم كثيف.
وإن قالوا: بل خرج منه جسم لطيف، فليس يخرج من العين والنسمة إلا ما هو ألطف، وأقل منها وأضعف، وما كان ألطف من اللطيف، وأقل وأضعف من القليل الضعيف، لم يذهب في الأهوية إلا ضلالا، وكان كل ما ينسب إليه محالا، وقد علم كل عاقل أنصف عقله، ولم يتبع جنونه وجهله، أن ذلك لو صح لمدعيه، لما ترك على وجه الأرض أحدا يعاديه، وقد رأينا بالمشاهدة أعداءه أحسن حالا، وأكثر منه ولدا ومالا، فلو كان صادقا فيما يدعي من المحال، وينتحل عند الرعاع والجهال، لما ترك أعداءه يوما واحدا، ولما ترك لهم مالا وولدا، ولا أبقى في إلحاح النظر جهدا، وقد أجمعوا على صحة هذا السبب غاية الإجماع، ولكن لا يلتفت إلى إجماع الرعاع، لأن همج الناس لا يفرقون بين العقول والأوهام، فمن هذا الوجه لا يتكل على إجماع الطغام، ولو أجمعوا على شيء يمكن في المعقول، لما صدقناهم لما هم عليه من الفضول، فكيف تصديقهم في المستحيل، وما لا يمكن أبدا في العقول؟! (1/261)
وسألت عن العقل في ذاته؟
وهو عرض ركبه الله في قلوب المتعبدين، وجعله حجة على المكلفين، والعقل والنفس ضدان، وهما في القلوب متعلقان، والجسم والروح لهما موضعان، وأحقهما بحمل النفس والعقل الروح، لأن العقل والنفس روحانيان، وهما في ذاتهما عرضان، والنفس تنقسم على أقسام وأضداد:
فمنها: داع إلى الخير والرشاد.
ومنها: ما يدعو إلى الغي والفساد.
والعقل قسم واحد يقين، وأمين ناصح شاهد مبين.
فأما النفس:
فمنها: الذكر والنسيان، وهما في القلب ضدان متنافيان.
وقسم ثالث: هو الشواهد للذات.
والرابع: ضد الشهوة وهو الكراهية للمكروهات.
والخامس: الأمان، وهو السكون والإطمئنان.
والسادس: ضده وهو الخوف.
والسابع من الأقسام: ما يجول في النفوس من الظنون والأوهام.
والثامن: وهو الوهم وهو اليقين، والحق الواضح المبين.
والتاسع: هو السرور والفرح.
والعاشر: ضده وهو الغم والترح.
والحادي عشر: الرجاء والطمع.
والثاني عشر: وهو اليأس.
والثالث عشر: الرحمة. (1/262)
والرابع عشر: ضدها وهو القسوة.
وكثير من هذه الأقسام يوجد بالمشاهدة في أنفس الأنعام، ولكنها تنقسم في قلوب أهل المعقول على أقسام، وتخرج على وجوه يخشى فيها الإمعان في الكلام، ولا فاقة لأحد إليها من الأنام، والنفس فهي تقلب القلوب أطوارا، وتغيره حالا بعد حال مرارا، فمرة تدعوه إلى الصالحات، ومرة تدعوه إلى المهلكات، ومرة تدعوه إلى العقل، ومرة تدعوه إلى الجنون والجهل، وأصل الجنون وفرعه خلو هذه الأقسام، بغير عقل ولا زمام، وإذا كان العقل مع هذه الأسباب سترها، وعلا نوره عليها فغمرها، وإذا خلت الأقسام بأنفسها من العقل، جالت في أنواع القبائح والجهل، فنستمتع الله بما وهب لنا من العقول، والحمد لله الواحد الجليل.
ثم نقول من بعد: إن الروح محل لهذه الأقسام، وإنه جسم لا يدرى ما هو من الأجسام، لأن الروح ينتقل من الموضع إلى غيره، وذلك بلطف الله وتدبيره، ولا يجوز الانتقال إلا على الأجسام، وما ركب الله من الأجرام.
وسألت عن كلام إبليس اللعين، ومخاطبته لسيدنا آدم وغيره من النبيين، صلوات الله عليهم أجمعين؟
وقد حكى الله عز وجل في القرآن ما قد سمعت من قسمه لآدم وزوجه، أنه لهما من الناصحين، ولا يكون القسم والحلف إلا بالكلام، ولا يجوز أن يسمى القسم خاطر وَهْمٍ من الأوهام، وإذا أقسم لهما فقد سمعاه، وروي في ذلك أنهما صدقاه، وحسبا، أن عدو الله لا يجتري على اليمين كاذبا، لما داخلهما من اليقين بالله ذي الجلال، والتوقير لذكر الله عن الكذب والمحال، حتى ظنا صلوات الله عليهما أن في قلب عدو الله من الخشية كالذي في قلوبهما، وإنما اغترا في حال حداثتهما وقلة تدبيرهما وتجربتهما، فلما حكمهما طول الزمان، وكثرة التجارب للأفنان، حذرا من الغرر والجهل، واستقاما على الدين والعقل، حتى قبضهما الله إلى رحمته، وتوفاهما على طاعته.
وأما سائر الناس، وما يعارضهم من الوسواس، فأكثر ذلك من النفوس وجولانها، وتقلب القلوب وخطرانها، وقد روي أن إبليس اللعين ربما قارب الإنسان في حال فكره، وربما قَوَّى طبع النفس بما هو من شكله، كما يقوى الحر من النار بزيادة مثله، وقيل أيضا: إنه كان يخاطب الناس في أول الزمان ويدعوهم إلى العصيان، ولسنا نبالي أدعاهم أم لم يدعهم، وسواء عندنا أكلمهم أم لم يكلمهم، لأن لك لا يوجب في دين الله فسادا، ولا يضر من أولياء الله أحدا. (1/263)
وسألت عن رجل أطاع الله وقتا ثم عصاه، ثم تاب إلى الله ومات على تقواه، هل يثاب على الطاعة التي كفر بعدها، أم تبطل ولا يثاب عليها؟
والجواب: أنه لا يثاب على شيء قد أبطله، وأفسده عبثا وعطله، ولكن الله قد غفر له، وتاب عليه عند الرجعة وقَبِلَه.
وسألت عن رجل عسر عليه الاكتساب، وأراد أن يتفقه في الدين، ويُقبِل على طلب الحق واليقين، وأعرض عن المنازل والزوجات، فلم يَبْن لنفسه منزلا، ولم يتخذ من الزوجات أهلا، أيأثم في ترك شيء من ذلك أم لا؟
والجواب في ذلك: أنه غير مأثوم ولا مأزور، ولكنه في حكم الله مرضي مأجور، وقد أعرض سيدنا المسيح عن ذلك واشتغل بغيره، فلم ينقص الترك لذلك من أجره. وأما ما روي عن سيدنا خاتم النبيين، صلى الله عليه وآله الطاهرين، من قوله: ((لا حصر بعد يحيى، ولا سياحة بعد عيسى))، فلما أراد بذلك التخفيف عن المخلوقين، ولم يرد بذلك حظر السياحة في أرض الله على السائحين.
وسألت عن العقول هل هي مستوية، أم بينها اختلاف؟
والجواب: أن اختلاف عقول الناس كاختلاف قواهم، فمن كانت قوته تبلغ أداء الفرائض وجبت عليه، ومن لم يطق فلا يكلفه الله ما يعدم إليه، ولا يصل بقوته إليه، وإنما العقول على وجوه معروفة، وأحوال بينة موصوفة.
منها: عقول سادتنا الملائكة المقربين.
ومنها: عقول الأنبياء المرسلين، وعقول الأوصياء المتسخلفين، وعقول الأئمة الطاهرين، وبعد ذلك عقول المكلفين، فأفضل العقول عقول الملائكة الأكرمين، ثم عقول الأنبياء، أكمل من عقول الأوصياء، ثم الأوصياء أكمل من الأئمة في العقول، وأفضل في الاعتقاد والقول، ثم للسابقين من الفضيلة على المقتصدين، كمثل فضل الأنبياء على الوصيين، وللأئمة المقتصدين، من الفضل ما لا يكون لفضلاء المؤمنين، وأفضل الناس كلهم فضلا، وأكملهم دينا وعقلا، محمد خاتم النبيين، صلوات الله عليه وعلى أهل بيته الطاهرين. (1/264)
وسألت فقلت: هل يثاب مَن عُمِّر في طاعة الله وقتا يسيرا، كثواب مَن عُمِّر في الطاعة زمانا طويلا، وكيف يكون كمثله، وتكليفه أطول كمثل نوح ومحمد صلى الله عليهما؟
والجواب في ذلك: أن أعلمهما بالله أفضلهما وأخشاهما، وأعظمهما خشية لله أتقاهما، وأتقاهما لله أهداهما، وأهداهما إلى دين الله إحداهما (1)، وأحد الرجلين بأجزل الثواب أولاهما.
واعلم أن عقول حجج الله على قدر كلفتهم (2)، وعلى قدر منازلهم عند الله ومحنتهم. وأما سائر المكلفين، فقد اختلف القول فيهم من المتكلمين، فقال قوم: إن الله ساوى بين خلقه في العقول، كما ساوى بينهم في التعبد، فاستعمل بعضهم عقله، وترك بعضهم النظر وأهمله، وزهد في التمييز وعطَّله، فأصدأ بمخالفة الله عقله، حتى صار لكثرة اللعب كمن لا يعقل، فأما من كان مغمورا بالخُبْل، مطبوعا على البلاهة والجهل، وضعف التمييز في الطبيعة والجهل، فليس يكلف الله ذلك، ولا يكون أبدا في المكابرة كذلك، لأنه لم يتعمد في ذلك تجاهلا، ولم يزل عن جميع الأمور جاهلا، ولم يكن مع الناس فيهما عاقلا، ولم يزل عن وجوه التعبد غافلا.
__________
(1) كذا في المخطوط.
(2) في المخطوط: كلفهم. ولعل الصواب ما أثبت.
وزعم قوم آخرون: أن الله خالف بين عقول العباد، ودل جميعهم على الرشاد، فذو العقل المنقوص يلحق بضعف علقه إذا سلم من الجنون، كمثل ما يلحق كامل العقل من الدين، كما أن أضعف الناس يلحق من الصلوات، وأداء جميع المفروضات، كالذي يلحق أقواهم جسدا، وأشدهم بدنا، وهذا قولهم واختلافهم. (1/265)
والذي أقول أنا واعتقد، والله الموفق والمسدد: إن من عمل على قدر عقله، وسلم من مكابرته وجهله، فهو عند الله من الناجين، ولديه إن شاء الله من المقبولين، ومن كان ضعيف العقل، مغمورا بطباع الحيرة والجهل، فهو بمنزلة البهائم والأطفال، في رحمة الله الواحد المفضال. وأما من غمر عقله باللعب والإهمال، وشبه نفسه بالبهائم في الإغفال، فهو وليس - ولا كرامة - من المعذورين، ولكنه عند الله من الكافرين، ولو استعمل عقله حق الاستعمال، لنال به من الخير كل المنال، ولكنه أقبل على العبث والمحال، حتى ارتطم ووقع في الضلال، وصار من أجهل الجهال، فهذا ما اعتقد وأقول، وإليه أذهب وأميل.
وأما الاختلاف والتبغيض إلى العباد، وسوء الأدب والميل إلى الفساد، والمكابرة واللجاج في الإلداد، فليس ذلك من أخلاق الصالحين، ولا هو من أفعال المسلمين، ولا يجوز مقاطعة المؤمنين، إلا بكبيرة من كبائر المفسدين، إذا أقام عليها، ولم ينتقل بالتوبة عنها، وقد رأيت كثيرا من المؤمنين، وأولياء الله المتقين، يضلون عن السبب من أسباب الدين، فينبغي للمؤمن أن لا يقاطعهم حتى يبين لهم، ويرفق بهم ولا يعجل عليهم، فإن الله سبحانه لا يعذب وليه على السهو والنسيان، كما يعذب على العمد والبيان.
وقد زعم بعض الحشوية أهل الضلال، الجهلة الكفرة الضُّلال: أن هؤلاء الجهلة لا يرجعون إلا بالاحتيال، والاستدراج والنفاق والاغتيال، وأنه يجوز للإمام وغيره أن يوهمهم، ويوقع في أنفسهم أنه على دينهم، حتى إذا اطمأنوا إليه وعظهم، بعد أن يستميل بالتوهيم قلوبهم. وتأولوا لعنهم الله وأخزاهم، وأضل سعيهم وأرداهم وزادهم عمى على عماهم، أن إبراهيم وموسى عليهما السلام دخلا مع قومهما في الضلال، ليخرجاهم من الفساد بالاحتيال، وزعموا أن موسى لما رأى قومه يشبهون الله، قال: ?? ????? ????????? ?????????? ?????????? ? [الأعراف:143]، وقد علم أن الله لا يسعده إلى ما طلب، فلما لم يعطه إرادته قال لهم: يا قوم كم تطلبون رؤية الله؟! وقد ترونه قد منعني ذلك فكيف بكم؟! فزعموا أنه ردهم بهذه الحيلة عن التشبيه، وزعموا أن قوم إبراهيم لما عبدوا النجوم دخل معهم، وقال لهم: لما ? ????? ???????????? ?????? ??????? ???????? ? [الأنعام:76]. حتى يرجعوا معه إذا رجع، ويصنعوا من التوبة ما صنع، فيا للحشوية الويل الطويل!! والعول والعذاب الجليل!! أما سمعوا قول الله سبحانه: ? ??????????? ?????? ????????? ? [الحجر:94]، وقوله: ? ?????? ?????????????????? ? ?????????? ????????????? ???? ????????? ? [النساء:145]. ولئن كان الأنبياء عندهم محتالين، وبالكذب للناس مغتالين، لقد جعلوهم قدوة للمنافقين، والله يقول: ? ????????? ??????????? ?????????? ?????????? ??? ???????????? ? [النحل:105]. ولئن لم يرجعوا بنور الحق وبهجته، لارجعوا بالباطل وظلمته، وضعفه وعجزه وركاكته، ولكن الحشوية عجزوا عن الحجج، ونورها، فدخلوا في أبواب النفاق وزورها، وإنما يدعا الناش بلين المراجعة في المقال، ويبين لهم فساد ما يعتقدون من المحال، ويوضح لهم بما هم عليه من الضلال، فإن أقبلوا إلى الحق ورجعوا، وصاروا إلى المؤمنين وأجمعوا، وإلا رفضوا صاغرين وقطعوا، فيا لعباد الله (1/266)
أترون موسى كان عيا جاهلا؟! وكان عن حجج المعقول غافلا؟! حتى لا يقول لهم: إن الأبصار لا تبلغ ولا تقع، إلا على ما يفترق من الأشياء ويجتمع، ولا يُنظر بالعيان وبالأبصار، إلا ما كان في قطر من الأقطار، وما حوته الأقطار، وأدركته وعاينته الأبصار، فهو أصغر من محله وموضعه، وأقل من مهبطه ومطلعه، وما كان من الأشياء صغيرا منقوصا، وكان بالنقص والصغر مخصوصا، فلا بد له من صانع نقصه وأصغره، وقطع نهايته وبتره!! (1/267)
فاتقوا الله يا قوم وذروا منكم التجاهل، والجنون والخبل والتغافل، وإلا فإني بريء إلى الله منكم، ومهاجر في أرض الله عنكم، وكذلك الخليل صلوات الله عليه فقد كان غير غبي بالجلال، ولا حصر بمخاصمة أهل المحال، أفهو عاجز عن أن يقول: إن النجوم لا تنفك عن الحركات والمسير؟! والاضطرار على الحركة يدل على التسخير، مع ما فيها من عجائب التقدير، وآثار الحكمة والتدبير، وإلا فما الذي خالف بين ألوانها وهيئاتها، وفرق بين أجسامها وحركاتها، لو كانت يا قوم قديمة لاتفقت، ولما تباينت ولا اختلفت. فاتقوا الله يا قوم وخافوه، ولا تغفلوا ذكر الموت وراقبوه.
ولكن أعداء الله حسبوا وتوهموا، وتجاهلوا عن الحق فلم يعلموا، أن غضب أولياء الله لربهم، أكثر من غضبهم لأنفسهم، أو ليس قد حكى الله في القرآن مجادلتهم للفراعنة الجبارين؟! العتاة الطغاة المتكبرين، فكيف بضعفة الإسرائليين؟! وغيرهم من المسكنة الضالين؟! وهل كانوا يضنون بأنفسهم عن طاعة رب العالمين؟! وقد حكى الله عن نبيه إبراهيم، من العزيمة ما ألقي لأجله في الجحيم، فنجاه برحمته من كيد الكايدين، وكذلك يجزى الله المحسنين، وأمره الله وامتحنه، وابتلاه ومحَّضه، واختبره بالعزيمة على ذبح ولده، ولم يرد الله غير [إظهار] عزيمته، ولكنه لم يدر عليه السلام بقصد الله وإرادته، فقام عليه السلام بولده ومهجة قلبه، وثمرة فؤاده ونفسه، ليفري أوداجه ذنجا، طاعة لله ومسارعة ونصحا، مع ما هو عليه من شفقته، وكرم طباعه ورحمته، وحسن أخلاقه ومروته، فما منعه ذلك من طرح ولده على وجه الأرض وصرعه، وعزيمته على تلفه وقطعه، وتركه لحُرِّ جبين ولده على حضيض التراب ووضعه، فلما رأى الله منه ما رأى، وإذ لا شك عنده في طاعة الله ولا امتراء، وأظهر من أمره وفضله ما كان مستورا، أمره حينئذ بأن لا يذبح ولده، بعد ما أظهر سبحانه بهذه المحنة صبره وجَلَدَه، ولم يعلم صلى الله عليه بإرادة الله فيما أوحى إليه، وكذلك فعل بقومه وأبيه، بعد احتجاجه ولطفه وتأنيه، واستغفاره لوالده خوفا من أن يكون من الضالين، ورجاء أن لا يكون من المتعمدين، احتياطا منه لطلب الأمان، وخوفا من العذاب والنيران، ? ?????????? ?????????? ?????? ?????????? ??????? ???????? ??????????? ??????? ?????? ??????????????? ??????????? ??????? ????? ? [التوبة:114]. والأواه فهو: المتأوه الحزين، والتأوه في ذاته فهو: الأنين، والزفير والأحزان والحنين، لما دخل قلبه من خالص اليقين، ولما عرف من الحق المبين، فلما امتلأ قلبه نورا، وصار بذكر الله ومعرفته معمورا، حزن على نفسه عند ذلك من ذكر (1/268)
الموت والعذاب، وأقبل على الدين والحق والصواب، ونقَّى قلبه وطهَّره من اللعب، وسلا عن التصابي والجهل والطرب، ولم أر شيئا أجلى للقلوب من العدل والتوحيد، ومعرفة الوعد والوعيد، وتلاوة القرآن، وكثرة الدعاء إلى الرحمان، فمن أراد أن ينجو عند الله من العقاب، ويُسدد إلى طريق الصواب، فيتحرز من الكبر والإعجاب، ويحتسب نفسه أذل من التراب، فإن الله عز وجل نهى عن التكبر لما فيه من أصناف العيوب، لأنه أحد متالف القلوب. (1/269)
وكيف يتكبر من هو ضعيف رذل؟! لمنقوص في جميع الأحوال نذل؟! وكيف يعجب بنفس تزول عن قليل محاسنها؟! ويكثر وشيكا عويلها وحزنها؟! مع ما يستر دائما من عيوبه، ويحمله على مُقارنه وقريبه، إلا أن يكون قد أعجب بنفسه لكثير عمله، فهو يعلم أن حقوق الله أكثر من فعله، وأن عمله لا يقوم بنعمة من نعم مولاه، ولا بشربة ماء مما سقاه، ولا بشفاء مرضه مما شفاه، ولا بعافية ساعة مما عافاه.
وأيضا فإن الإنسان كثير الذنوب، قبيح الفعل كثير العيوب، وإن كان يعجب بشبابه فكيف يعجب بشباب يصير إلى الهرم؟! إن سلم أحد اليومين من الموت والسقم والمصير إلى التفرق والعدم، وإن كان يعجب بشجاعته، فكيف يعجب ويله لجرأته؟! وهو يضعف عن العملة لعجز بنيته، حتى ربما شغلته ومنعته، من الفكر وقطعته، وإن كان يعجب بنفسه لكثرة علمه، وجودة تمييزه وفهمه، فكيف يعجب بنفس تجهل أكثر مما علمت؟! ولا تدري متى يحل بها ما كرهت، ولو علمت كل علم في الدنيا لما سلمت، وإن العلم يزول إذا عطبت. فأول مَن فخر، وأعجب بنفسه واستكبر، إبليس، الكافر النجس الرجيس، فمن اقتدى به فقد فعل فعله، وصار بذلك في حكم الله مثله، وذلك أنه فخر بالنار على الطين، وذلك فليس من فعل اللعين، وإنما فخر بالنار لحدتها وضرامتها، وعلوها في الأهوية وخفتها، وما هي عليه من قوة بنيتها، وذلك فإنما هو فعل الله لا فعله، وتقدير الله لا تقديره، وحكمته وفضله. فأما العباد فخيرهم أكرمهم طباعا، وأسبقهم إلى طاعة الله إسراعا، لا ينظر في الخيرة إلا إلى أفعالهم، ولا يفضلون بغير أعمالهم، وقد رأينا من الناس من يتكبر على الجهل وهو لا يعلم، ويحمله الكبر أن لا يقول: الله أعلم، ولو قتل الإنسان نفسه في طلب العلم قتلا، لما برح ولا زال مع معرفته جاهلا. (1/270)
فاحفظوا رحمكم الله وافهموا، ولا تغفلوا عن ذلك واعلموا، لأن الله سبحنه نقص العباد بأنواع من الشرور، لما في نقصهم من عجائب الأمور، ولو أتمهم وأكملهم وأغناهم، ولم يرهم من النقص والعيوب ما أراهم، لعظم هلاكهم وعُتاهم، ولقتلهم حب الدنيا وأطغاهم، ولكنه جاد عليهم بما كفاهم، ثم زجرهم ونهاهم، بعد أن بصرهم هداهم، وبيَّن لهم فجورهم وتقواهم.
وسألت عن الكلام الذين سمعه موسى عليه السلام؟
وذكرت أن الحشوية قالوا: إن زعمنا أن الله كلمه دخلنا في مذهبهم، وإن زعمنا أن الكلام هو الذي قال لموسى: ? ???????? ???????? ? [طه:12]، فقد عبدنا الكلام بزعمهم، فقل للحشوية إن كانوا يعقلون، وكان ينصفون عقولهم أو يفهمون: إن الكلام ليس بخالق فيدعي الربوبية، وإنما هو عرض أوجده الله وأوصله، وخلقه في الشجرة وفعله، وخاطب نبيه به وفصَّله. وأما مذهبكم فلا نرجع إليه، ولا نفتري على الله كما افتريتم عليه. (1/271)
ثم يقال لهم: أخبرونا عن الكلام الذي زعمتم أنه قديم، وأنه صفة قديمة للواحد الكريم، أهو مثل معبودكم فيكون معبودكم جزأين؟! ويبطل وحدانيته إذ صار نصفين، لا سيما إذا كان هو والقرآن مثلين، أم تقولون أنه أفضل من القرآن باللسان والشفتين، فتشبهون الله بغيره من المخلوقين، كما لم تزالوا لذلك معتقدين، فإن كان معبودكم على ذلك، وكان في الصفات المحدثة كذلك، فلا بد له من صانع خالف بين شفتيه ولسانه، وغاير بين حنكه وأسنانه، وكذلك لا بد له من صانع خالف بين صوته وجثمانه، لأن الصوت لا يخرج إلا من الجثمان، ولا يفرق بين الحروف إلا بالنسمة والجنان، والحنك والشفتين والأسنان، وإذا كان كذلك فلا فرق بينه وبين الإنسان.
ويقال لهم أيضا في قولهم: إن معبودهم جالس على كرسيه وعرشه، وأنه يسكن عليه بعد حركاته وبطشه، أليس معبودهم يباشر السرير بأسفله، ويباشر الهوى بأعلاه وأوله، فما الذي فرَّق بين أعلاه وأسفله، وغاير بين مدبره ومقبله، فلن يجد المشركون - إن شاء الله تعالى - جوابا، ولن يملكوا بعد هذا القول خطابا، فزاد الله قلوبهم عمى وجهلا، وغيا وضلالا وجدلا، فلقد عموا ويلهم عن أعظم الأشياء وأجلها، وانتقصوا أعظم الموجودات وأكملها، وعبدوا غير الله بزعمهم، وما أرى للإمام بعد عرض التوبة غير قتلهم، والتقرب إلى الله بتلفهم، لأنهم بمنزلة عباد الأصنام، وغيرهم من كفرة الأنام، إلا أنهم قد زادوا على شرك المشركين، بقذفهم وشتمهم رب العالمين، وعداوتهم لخاتم النبيين، وذريته الأخيار الطاهرين، صلوات الله عليهم أجمعين، ولعنة الله على الظالمين، والحمد لله رب العالمين، وصلواته على رسوله سيد المرسلين، وأهل بيته الصادقين. (1/272)
تم الكتاب بمنِّ الله وفضله.
- - -
كتاب الأكفاء
كتاب الأكفاء
سألت يا أخي أكرمك الله بثوابه، ونجانا وإياك من سخطه وعذابه، عن مسألة غرق فيها كثير من الجهال، وتخبَّط فيها من لا يعقل من الضُّلال، وعمي عنها جميع أهل الركاكة الأنذال، ممن جهل الحكمة وضل عن الهدى، واتبع الغي والتكمة والردى، فزاد الله من كان كذلك نأيا وبعدا، وقلت: ما صفة الأكفاء عند النكاح؟
وسأوضح ما سألت عنه بعون الله أحسن الإيضاح، ولقد سألت عن سبب يلزمني إنكاره وبيانه، ويجب على العباد إيضاحه وتبيانه، ويجب العقوبة باللسان والسيف لمن خالفه، والإخاء والمودة لمن والفه، لأن الله عز وجل حكم بأحكام الحق بين العباد، فمن خالف ذلك وقع في الغي والفساد، وخرج من الحق والصدق والرشاد، فرأيتُ عند مسألتك أن يكون كتابي هذا جوابا لسؤالك، وزجرا وتحذيرا لمن كان من أولئك، وكان في خلاف حكم الله على ما ذكرنا من ذلك.
واعلم يا أخي علمك الله رشدا، وزادك إلى هداك هدى، أن الله سبحانه خالف بين أصناف عباده، ونشرهم وكثرهم في بلاده، لغير حاجة منه إلى تكثيرهم، ولا فاقة منه إلى شيء من أمورهم، فجعل النكاح سببا لنشر حكمته، وعجائب صنعته، وإظهار نعمته، وحرم على الأصناف الدنية نكاح من ليس من أشكالها، وأمر تلك الأصناف بنكاح مثلها، وكذلك يكره لأهل الشرف نكاح الزنجيات، وإن كن في حكم الله غير محرمات، وفي ذلك ما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبني هاشم: ((عليكم ببنات الأعجميات فإن في أرحامهن بركة)). (1/273)
ثم قال عليه السلام: ((وإياكم والزنحيات، وما شابههن من الخلق المكروهات، فإنهن خلق مشئوم))، وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله، أن الزنجيات وما شابههن من الخلق المكروهات، لخلق مشئوم، على أهل الأنساب، وأهل الشرف والمرواءت والأحساب. لأن الولد ربما أشبه من تلك الأمهات قبح ألوانهن وصورهن المقبحات، فيصير الهاشمي بعد حسن أصله الصريح، كالزنجي الشنيع الدني القبيح، فكره رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك لنسله، وزجر من دخل منهم في ذلك لجهله، وقلة تمييزه وركاكة عقله، وكان صلى الله عليه وآله يأمر بأن تحمل الأشكال من جميع الحيوانات على أشكالها، ولا تحمل أبدا عند من عقل على غير أمثالها، وقال صلى الله عليه وآله: ((الكفؤ في المعنيين جميعا، في المنصب والدين معا)). والمنصب فهو: الأصل الصحيح، والنسب المعروف المهذب الصريح، فأعظم الأنساب كلها نسب ذرية الرسول، وأولاد الوصي وفاطمة البتول، صلوات الله عليهم أجمعين، فنساء رسول الله صلى الله عليه وآله على جميع الخلق محرمات، لأنهن لخاتم النبيين ذرية وبنات، وحُرَمٌ له على مماليكه محرمات، لأنه صلى الله عليه وآله مالك وغيره مملوك، وهو أولى بهم من أنفسهم، وأعظم حقا عليهم من آبائهم، ولذلك حرم رسول الله صلى الله عليه وآله نساءه عليهم، وجعلهن للعباد مثل أمهاتهن، وإذا حرمت بحق لأجل النكاح زوجاته، فتحريم نسله أعظم لأنهن بناته، ولأن حق الأولاد أجل من حق الفراش، لا ينكر ذلك أحد من الأخيار والأوباش، وإذا حرمت على بناته زكواتهم، فأجدر أن تحرم عليه مناكحتهم، لأن الله نزههم من وسخ الأموال، فكيف بما هو أقبح من ذلك من الأحوال، فعظَّم سبحانه بنات رسوله من أقل الأشياء وأسهلها، وطهرهن من زكاة الرعية ونذالتها، فكيف بأعظم القبائح من فعلها، وجعل نكاح زوجات الرسول من أعظم الكبائر كلها، ببنات البتول ونسلها؟! فمن أحل ذلك بعد علمه بتحريمه، أو قال ذلك حلال مع تعظيمه، رأيت قتله في (1/274)
حكم الله واجبا، وفرضا من الله مؤكدا لازبا. (1/275)
وبعد ذلك فقريش أكفاء فيما بينهم، وكذلك جميع العرب على قدر أنسابهم، ومعرفتهم بمناصبهم وأحسابهم، فلا تحل نساء العرب إلا لمن هو مثلهن في النسب، أو من هو أفضل منهن في الأصل والحسب، ومن كان مجهول الأصل من العباد فمناكحته حرام على المعروفين، ولا يجوز نكاح المجهول بمعروفة النسب، لأنه لا يؤمن أن يكون أصله من غير العرب، فيكون ذلك النكاح محرما لدناءة المنصب، ومن فعل ذلك رأيت التفريق بينه وبينها واجبا، ورأيت الأدب لوليها، والتنكيل والإبعاد للناكح لها، وكتابي هذا إعذار وإنذار لمن نكح من هؤلاء المجهولين، إلى العرب الصرحاء المعروفين، فرحم الله عبدا عرف أصله، ثم طلب من النسوان من كان مثله، ومن فعل غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، ومن سمع كتابي هذا وهو من المذكورين، الذين حرم الله نكاحه على الصرحاء المعروفين، فيفارق من كان عنده، ويستر بذلك عَوَره وعرضه، وإلا فيصبر نفسه على كشف أمره، وقبيح شناعته وذمامة ذكره، فإني بعون الله أخزي مَن حكم بغير حكم الرسول، وأميز بين أهل الدناءة والأصول، وكذلك من كان غير حمي على أصله، ولم ينكف على حرمه وأهله، فيبشر منا بالعقوبة والهوان، وبما يخزيه في الآخرة من عذاب الرحمان، ومن لم يزدجر من آولئك بآدابنا وكلامنا، فسنرده إلى الحق بحد سيوفنا ورماحنا، وقد عرَّضت لمن عقل بالتلويج، قبل المباينة والضرب والتصريح، فمَن قَبِلَ ما أمرناه به من حكم القرآن، وإلا قتلته بحدة السيوف والمِرَان، والله حسبنا وعليه التكلان، وكذلك لا يتم النكاح إلا بعد رضى الحرم وإعلامهن، ولا يجوز لأوليائهن ذلك إلا بأمرهن، أو بعد الإخبار بمساكهن، ولا يجوز لأحد أن ينكح من هي كارهة له، والذي أراد الله من العباد، هو كلما أبعد من المقت والفساد، والكفؤ فهو: على ما ذكرنا، وبه من المنصب والدين قلنا، وبعد فلا يجوز لقبيح الصورة ثقيل، أن ينكح ذات جمال وخلق عديل، إلا أن
ترضى به رضى لا تريد معه أن يطلقها، وإلا فيجب عليه في حكم الله أن يفارقها، وبالله لولا ما أراد الله من الحق، وحكم به من العدل والصدق، لما ذكرنا شيئا من ذلك، ولا مسكنا عمن كان من العباد كذلك، ولكن الله أكرم القائلين، قال: ? ??????????? ?????? ????????? ????????????? ???? ??????????????? ???? ? [الحجر:94]. وصلى الله على مولانا خاتم النبيين، وعلى أهل بيته الطاهرين، وسلم ورحم وكرم. (1/276)
انتهى كتاب الأكفاء كاملا بحمد الله ومنِّه.
- - -
كتاب
تفسير الصلاة
كتاب تفسير الصلاة
سألت يا أخي - ألزمك الله بهدايته، وجاد علينا وعليك برحمته - عن تفسير ما أوجب الله من الصلاة على العباد، وشغلهم به عن الغي والفساد، ودعاهم به إلى الخير والرشاد... إلى قوله: وإنما تعبد الله سبحانه المكلفين بالصلوات والخشوع، والتذلل والدعاء إلى الله والخضوع، ليشغلهم بذلك عن التكبر والإعجاب، لما في التكبر والقسوة من سوء الآداب، وفساد القلوب وتغير الألباب، ولأن التذلل أولى بالعباد، وأبعد لهم من الغفلة والفساد، لأن من خضع لله وذل، فقد سلَّم لأمر الله وقَبِل، ومن سلَّم لأمره سَلِمَ من الموبقات، ونجا برحمة الله من المهلكات.
فأول ما نبدأ به - إن شاء الله - حكمة الله في الأمر بالظهور، وما تفضل به علينا من المصلحة في التقدير، فنقول: إن الله عز وجل بنى الإسلام على الطهارة من الأقذار، والنزاهة من الأدران والآثار... إلى قوله: والصلاة في لغة العرب هي: الدعاء إلى الله والابتهال، والتضرع والطلب والسؤال، والأذان فهو: الإيذان والإعلام، والإخبار بوقت الصلاة والإفهام، والتنبيه بالدعاء إلى الصلاة للغافلين، وذلك حجة لله على كل مَن سمعه من السامعين، وهو أصل من أصول الدين، وداعية إلى الحق المبين.
فأول ما يقول القائل في الصلاة، عند وجوب ما حد الله من الأوقات، أعوذ بالله السميع العليم، من الشيطان الرجيم، ومعنى قوله: أعوذ هو: أستجير بك يا رب، وألوذ من فعل الشيطان المبعد المرجوم. ومعنى السميع: فهو العليم، تأكيد وتكرير لذكر الحليم الحكيم. ثم يقول: الله أكبر، الله أكبر، يريد: الله أقدر الله أقدر، وأعز من جميع المخلوقين، وأعظم قدرا من جميع المربوبين. ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، يريد بقوله: أشهد، أعلم أنه واحد أحد، فإن كان لا يعلم ذلك فليتعلم، وإلا فهو كاذب إن شهد وأقر بما لم يعلم، وكذلك تفسير قول القائل: أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، صلى الله عليه وآله إلى خلقه، وأمينه على وحيه. ثم ذكر الدليل على أن الله واحد، وعلى نبوة النبي صلى الله عليه وآله... إلى قوله: وسنرجع إن شاء الله إلى تمام التفسير، بعون الله الواحد العليم الخبير، فنقول: معنى قوله: حي على الصلاة: هلم إلى الصلاة. ومعنى: حي على الفلاح: هلم إلى الخير والربح والنجاح، والتقى والسلامة والصلاح. ومعنى: حي على خير العمل، هلم إلى خير أفعال العباد، وأفضل الحسنات بعد الجهاد. ومعنى: قد قامت الصلاة: وجب فرضها وقام، وثبت على المصلين ودام. ومعنى: الله أكبر، الله أكبر، قد ذكرناه في الكلام. (1/277)
- - -
باب التوجه والافتتاح
فإذا توجه تعوذ بالله وهو مستقبل القبلة، وليسكِّن أطرافه، ولا يعجل في شيء من صلاته، وليذكر وقوفه للحساب، ويلهم نفسه الخشية من العقاب، ويَقُلْ: ? ???????? ????????? ???????? ???????? ??????? ?????????????????? ?????????????... إلى: ?????? ???????? ???? ???????????????? ????... ? [الأنعام:79] (1) الآية، ولا يتكلم بكلمة من صلاته إلا ويريد بها الدعاء إلى الله سبحانه، وعز عن كل شأن شأنه. ومعنى قوله: ? ????????? ???????? ? يريد: توجهت إليك يا رب، وأقبلت إلى طاعتك واتباع أمرك وإرادتك. ومعنى ? ??????? ?????????????????? ????????????? ?: هو الذي صنعهما، وافتطر خلقهما وابتدعهما. ومعنى قوله: ? ??????????? ??????????? ?، الحنيف فهو: المستقيم الخاشع، والمسلم هو الذي سلَّم لأمر الله تسليما، وانقطع إليه، ورضي عن الله وتوكل عليه، فلم يرضا من الأشياء كلها إلا بما ارتضاه، ولم يوال أحدا غير من والاه، واتصل بالله سيده ومولاه. ومعنى قوله: ? ?????? ???????? ???? ???????????????? ???? ? الذين أشركوا مع الله في عبادتهم، وشرَّكوا بين الله وغيره في عملهم، إما بعبادة الأوثان وإما بالنفاق والتزيين، والإنفاق لطلب الذكر والسمعة والجاه عند المخلوقين، والرفعة كما قد رأينا من أفعال الفاسقين، والظلمة المنافقين، المشركين بين الخالق والمخلوقين. (1/278)
__________
(1) في المخطوط: ?... إلى: وأنا من المسلمين ?.
ومعنى قوله: ? ????? ?????? ??????? ?????????? ???????????? ?????????? ??????? ????? ??????????????? ????? ? [الأنعام:162]، يريد بذلك: اللهم إني جعلت دعائي وديني وحياتي ما حييت لك، وموتي في الغضب لك، لا أصرف شيئا من ذلك في غير مرضاتك، ثم يفتتح الصلاة فيقول: الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل، الله أكبر. ومعنى قوله: ? ?????????? ??????? ? [الإسراء:111] هو: أمر من الله للعباد أن يحمدوه، فيقولوا بأفواههم ويعتقدوا بقلوبهم، ويعملوا بجوارحهم، فمن حمد الله بهذه الأوجه، فقد أطاعه، واستوجب من الله ثوابه. ومعنى قوله: ? ???? ??????????? ??????? ? فهو: لم يلد ولدا، فيكون أصلا والدا، لأن الوالد مخرج للولد، والمخرج لا يكون إلا من الجسد، والجسد لا يكون إلا متحركا مستمرا، أو ساكنا لابثا مستقرا، وإذا كان إلى هذين الحالين مضطرا، لم يكن خالقا مدبِّرا، وإذا كان كذلك لم يستحق شكرا. ومعنى قوله: ? ?????? ????? ??????? ???????? ? ?????????? ? [الإسراء:111]، فالملك هو: الخلق المملوك، الذي ليس مع الله فيه شريك. ومعنى قوله: ?? ??????? ?????? ??????? ??????? ????? ?????????? ? هو: أنه غير محتاج إلى معين يواليه، وينفي عنه الذل ممن يعاديه. ومعنى قوله: الله أكبر، فهو: أعز وأعظم وأقدر. (1/279)
- - -
تفسير سورة الحمد
معنى ? ??????? ?????? ? فهو: بذكر الله نبدأ. ومعنى ? ?????? ? هو: الذي تفزع إليه القلوب، وتَلِهُ ولهاً إليه، وهو الشوق عند المهمات، والنوازل والمصائب والملمات.
قال الكميت بن زيد يمدح آل رسول الله صلى الله عليه وآله:
ولهت نفسي الطروب إليهم ... ولهاً حال دون طعم الطعام
يعني بالوله: الشوق.
ومعنى ? ?????????????? ? هو: ذو الرحمة والإحسان. ومعنى ? ??????????? ??? ? مثل: تأويل الرحمان، وهو تأكيد بذكر الرحمة وزيادة في البيان، وإنما أراد سبحانه أن يخبر العباد برحمته ليرجوه، ويطيعوه فيما أمرهم ولا يعصوه. ومعنى ? ?????????? ??????? ????? ??????????????? ??? ? فهو: الشكر لله رب العالمين. والرب فهو: السيد المالك ليوم الدين، والدين في هذا الموضع فهو: الجزاء على الأعمال، والمكافأة على الهدى والضلال. ? ?????????? ?????????? ? هو: نطيع ونوحد. ? ????????????? ????????????? ??? ? من العون، والهداية والتوفيق للطاعة والدين. ? ?????????? ??????????? ???????????????? ??? ? هو: أرشدنا يا رب إلى الطريق المستقيم، لأن الصراط في لغة العرب هو: الطريق، وإنما جعل الله عز وجل هذه السورة للدعاء إليه، رحمة منه للعباد، ووسيلة إليه في طلب الرشاد، فهي أشرف ما دعا به الداعون، وتضرع إلى الله به الطالبون. (1/280)
- - -
تفسير سورة التوحيد
? ????? ???? ?????? ?????????? ??? ?????? ???????????? ??? ???? ?????????? ?????? ???????? ??? ?????? ?????? ??????? ??????? ??????????? ??? ?. معنى ? ????? ? أمر من الله عز وجل بالقول. ومعنى الأحد فهو: الواحد الذي ليس بذي أجزاء ولا عدد، وهو الواحد أيضا في فعله الذي لا يفعل مثله أحد. ومعنى قوله: ? ?????? ???????????? ??? ? هو: المقصد المصمود إليه في الحوائج والمعتمد. والكفؤ هو: المثل والنظير، فنفى عز وجل أن يكون له أحد كفؤا ونظيرا.
- - -
باب الركوع والسجود (1/281)
فإذا ركع بتكبيرة وضع يديه على ركبتيه، وسبح فقال: سبحان الله العظيم وبحمده، ثلاث مرات. ومعنى سبحان الله هو: بُعدان الله مِن شبه المخلوقين. ومعنى العظيم فهو: الجليل المقدر والقادر على ما أراد فعله. ومعنى: وبحمده فهو: بحمده وطاعته نقول ونعمل، ونعتقد ونقر ونشهد، فإذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده. ومعنى: سمع الله هو: أجاب الله دعاء من أطاعه، يريد بذلك: الدعاء إلى الله أن يستجيب منه ويرحمه ويجيب دعاه، ويرحم تضرعه ونداه، ثم يكبر ويخر لله ساجدا، وفي التذلل والخضوع جاهدا، ويقول عند سجوده وتمكنه على الثرى بوجهه: سبحان الله الأعلى وبحمده، ثلاثا، سبحان الله قد فسرناه، ومعنى الأعلى هو: الله المستعلي القادر. ومعنى: بحمده، قد فسرناه.
- - -
باب الجلوس في التشهد (1/282)
فإذا صلى ركعتين وجلس بعدهما، قال: بسم الله وبالله والحمد لله، ومعنى بسم الله هو: بذكر الله نبدأ، ومعنى: وبالله هو: بالله نستعين على طاعته، والحمد لله هو: الشكر والعمل بطاعة الله، والأسماء الحسنى كلها لله، ومعنى ذلك: أن كل صفة محمودة فالله مستحق أن يسمى بها ويوصف، وينعت بها ويعرف، والصفات مميزة العدد، والموصوف بها واحد أحد. ومعنى: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، قد فسرناه فيما مضى من كلامنا. ومعنى: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد هو: اللهم أرحم محمدا وآل محمد. ومعنى: بارك على محمد هو: اللهم أعطه البركات، وأمنن عليه بالخيرات وعلى آله. كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، الحميد هو: المحمود. والمجيد هو: الجواد الكريم. السلام عليكم ورحمة الله يعني: الملكين اللذين عن اليمين وعن الشمال، وَكَلَهُما الله بحفظ الأعمال، وأمرهما أن يكتبا على العبد كل فعل ومقال، فرحم الله عبدا أمسك لسانه عما لا يعنيه، وخشي من فعله أن يُكتب عليه، واستكثر من الحسنات، وجاهد نفسه عن السيئات، وبكى على نفسه، واشتغل بعيوبه، وتاب إلى ربه، واستعبر لذنبه. ومعنى: السلام عليكم هو: السلامة لكم، ورحمة الله: وصلواته عليكم.
قال عليه السلام: وأنا أسال الله عالم الغيب والشهادة، أن يمحو عني ما كتب علي من الزلات، وأن يغفر لي ما تقدم وتأخر من العثرات، ويغفر لمن ولدني من المؤمنين والمؤمنات، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين وآله الطييبن وسلم.
الفهارس
الفهارس
تقديم بقلم الأستاذ زيد الوزير…5
مقدمة التحقيق…17
الحسين والحسينيه والمهدية…19
جملة من عقائد الحسينية…28
الأمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان…29
السيد حميدان والحسينية…43
كتاب بيان الإشكال فيما حكي عن المهدي من الأقوال…47
فصلٌ يشتمل على أربع مسائل مما يُنبِّه على النظر…49 (1/283)
فصل يشتمل على مسائل…61
الصراع الأدبي…66
الوضع السياسي أنذاك…69
فرقة الحسينية وغرائب أخبارها وعقائدها…74
الحسين السراج وحمقى الحسينية…80
[من حماقات الحسينية]…83
انخراط الإسماعيلية في صفوف الحسينية…85
[جدلٌ بين زيدي وحسيني]…89
المؤلف…92
كتبه…93
الكتب المحققة…97
صور المخطوطات…99
عملي في التحقيق…103
كتاب الرد على من جحد الله…109
باب الدلالة على حدث الأجسام…113
كتاب الرد على عبدة النجوم وغيرهم من فرق الملحدين…131
كتاب الطبائع…159
كتاب شواهد الصنع والأدلة على وحدانية الله وربوبيته…177
باب الدلالة على الله عز وجل…178
باب الدلالة على صنع الله في الحيوانات…193
باب الدلالة على نفي الصفات عن الخالق…211
باب الدلالة على نفي الصفات عن الله فاطر السماوات…216
باب الدلالة على التعبد…221
كتاب الرد على الملحدين وغيرهم من فرق الضالين…231
باب الرد على الدهرية…235
باب الرد على أصحاب الكمون…237
باب الرد على أهل الإلحاد في التولد…241
باب الرد على أصحاب الطبع…245
باب الرد على عبدة النجوم…249
باب الرد على الثنوية عبدة النور والظلمة…258
باب الرد على المتجاهلة…262
باب الرد على من جحد النبوة…265
باب التوحيد ونفي التشبيه…267
باب الرد على الفضائية…269
باب المعرفة…271
باب الرد على من أنكر قول آل محمد صلوات الله عليهم في أن الله شيء لا كالأشياء…274
باب الحقائق…278
مسألة عن الإرادة…279
باب الرد على من جحد نبوة محمد…287
باب الرد على من جحد الإمامة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم…289
باب الرد على من زعم أن الإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذريته وفي غيرهم من الأمة…291
باب الرد على الإمامية الرافضة…293
باب الرد على الإمامية في صفة الإمامة…295
كتاب التوحيد والتناهي والتحديد…299
باب الدلالة على معرفة الله سبحانه…301
والرد على الملحدين الكفرة الجاحدين…301 (1/284)
باب الدلالة () على حدث الحيوانات ونهايتها…304
باب الرد على الجوهرية…306
باب الرد على الفضائية والدليل على حدث الفضاء وتهاييه()…310
باب الوحدانية…322
باب القدم…323
باب الصفات القديمة التي هي الله عز وجل…324
الجزء الثاني من كتاب التناهي والتحديد فيه مسائل المحال…334
الفرق بين الأفعال والرد على الكفرة والظلال…351
كتاب الأدلة…361
باب الدلالة على معرفة الله سبحانه…361
باب الوحدانية…364
باب الصفات…365
باب الفرق بين صفات الله وصفات خلقه…367
باب نفي صفات الأجسام عن الله ذي الجلال والإكرام…368
كتاب الرد على من أنكر الوحي بعد خاتم النبيين…373
كتاب الرؤيا…381
كتاب السبيلين العقل والنفس…387
كتاب الولاء والبراء…391
كتاب التوفيق والتسديد والآداب…397
كتاب الأكفاء…419
كتاب تفسير الصلاة…425
باب التوجه والافتتاح…427
تفسير سورة الحمد…429
تفسير سورة التوحيد…430
باب الركوع والسجود…431
باب الجلوس في التشهد…432
الفهارس…435