الكتاب : مجموع رسائل الإمام الشهيد المهدي أحمد بن الحسين عليه السلام
المؤلف : الإمام الشهيد المهدي أحمد بن الحسين عليه السلام

مجموع رسائل الإمام الشهيد المهدي أحمد بن الحسين
(صاحب ذيبين)
روائع تراث الزيدية
تأليف الإمام أحمد بن الحسين بن أحمد بن القاسم بن عبد الله بن القاسم بن
أحمد بن أبي البركات إسماعيل بن أحمد بن القاسم بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب
[612 - 656 هـ]
---

(1/1)


حليفة القرآن في نكت من أحكام أهل الزمان
? ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ?.
أما بعد:
فإن الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وهو وقوله: (( إن عند كل بدعة تكون من بعدي يكاد بها الإسلام وليا من أهل بيتي، يعلن الحق وينوره, ويرد كيد الكايدين، فاعتبروا يا أولي الأبصار )) ، حملنا على ما يحق لمثلنا أن نتكلم فيه, وننشر أنوار الحق من مثانيه، فإن الحجة بنا اتضح دليلها, ولاحت سبيلها, وأنارت غررها وحجولها، فإن الأرض لا تخلو من قائم لله بحجة، لئلا تبطل حججه وبيناته، وتلتبس آياته، وتظلم من الحق مشكاته، ويعمى من الهدى واضحاته، وإن أهل بيت النبوة هم سفن نجاة العالمين، وشهداء الله على خلقه يوم الدين، قال تعالى: { ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول عليكم شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس } . وقال النبي صلى الله عليه: (( مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح, من ركبها نجا ،ومن تخلف عنها غرق )). وقال: (( إني تارك فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض )).
وأئمة الهدى هم النمرقة الوسطى، إليها يرجع الغالي ، وبها يلحق التالي، وهم لب اللباب, ونظراء السنة والكتاب، وقدوة أولي الألباب, والسابقون إلى الخيرات، والمتوقلون أعلا الدرجات، صفو[ة] الذرية النبوية, وخلاصة الثمرة الزكية.
ولما تقلدنا قلائد الزعامة، وتحملنا

(1/2)


أثقال الإمامة، سار العلماء إلينا أرسالا من كل فج عميق, ومكان سحيق، قياما بما يلزمهم من إجابة الواعية, وإخالة لبارق كانوا فيه على الرجاء والطماعية، وكانوا يغدون في ميدان الاختبار, ويجاروننا صباح مساء في ذلك المضمار، فسبقنا سوابق فرسانه, واستبددنا برهانه في طويل ميدانه، وقامت من الإمامة دلائلها، وسارت فضائلها، فحينئذ اتضح الحق, وتعين فرض الإمامة على كافة الخلق، وازدحموا على البيعة ازدحام الإبل الهيم على حياضها، والحدابير المسنة على رياضها، وكانوا عند ذلك بين متنكب قوسا، أو متقلد سيفا، أو معتقل رمحا, يمشي إلى صف, أو يتقدم في رجف, وبين قارع منبرا, أو قارئ دفترا، هذا يقوم بجمعتها، وهذا يدعو إلى جماعتها، وهذا يتحدث في فضائل صاحبها، وهذا متبطئ إلى الآفاق بدعوتها مطاء نجايبها.
ولما رأتهم الدهماء كذلك قلدوهم فيما لا يعرفونه إلا من جهتهم, وضموه إلى ما تتناوله معرفتهم من خصالها التي تستوي في معرفتها العالم والجاهل، والنبيه والخامل، وأعطونا صفقتهم طائعين، وأنفقوا أموالهم متقربين، وساروا في مقامات الجلاد كأنهم إلى نصب يوفضون, حتى قمعنا نواجم الضلالة، وطمسنا رسوم الجهالة، وصار أنف الإسلام كله لنا، ونحن في خلال ذلك ندعو بني عمنا إلى النصرة، ونقول: أنتم وجوه الأسرة، وأعلام العترة، وهم مرة ينتقصون الإمام والإمامة، ومرة يقولون: نحن أولى بالزعامة، ومرة يصدون عن أمر الله ويبغونها عوجا، ومرة يكاتبون سلطان اليمن نظما ونثرا، ويلتمسون من لديه فرجا ونصرا، بغيا وحسدا،? أم يحسدون الناس على ما أتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما } .
هذا أميرهم أحمد بن الإمام المنصور بالله عليه السلام يقول (( لعمر سلطان اليمن في أحد مكتوباته المصونة, وأسراره المخزونة:
رقدت وطاب النوم لي وكفيتني ... وكل فتى يكفى الهموم ينام
وقال:
---

(1/3)


إذا أيقظتك صعاب الأمور ... فنبه بها عُمَراً ثم نم
ويقول عقيب ذلك: يا عمراه يا عمراه، ويُعَّرفه كيف يكيدنا, ومن أين يأتينا، فلما ولى عمر, وظهر أمرنا واستمر، دخلوا في الإمامة كما دخلت بنو أمية في النبوة، إما رغبة وإما رهبة، وكانوا كما قال الله تعالى: { لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون } . وقبلناهم عند ذلك وقلنا: لعل ما ظهر من ألسنتهم يبطن, وما قبح من بواطنهم يحسن، وكانوا مرة يسلقوننا بألسنة حداد، وتارة ينظروننا بأعين الحساد، وآونة يذكرون علينا قديم الأوتار والأحقاد، ويدلون على عوراتنا الأعداء والأضداد، ونحن في خلال ذلك ما غمص من كيدهم أوليناه اصطبارا، وما ظهر أوسعناه صفحا واغتفارا، ثم حلفوا لنا مرارا, وأكدوا البيعة أسفارا، ثم تركونا حتى نال العدو من أطرافنا ما نال، وآل ألا مر بنا إلى أضيق مآل ،ومالوا علينا يسرون حسوا في ارتغاء، ويحلبون شخبا في الأرض وشخبا في الوعاء، ثم صرحوا بالحرب, وبرزوا للطعن والضرب، ورجعوا عن القول بالإمامة, ونسوا مناقشة يوم القيامة.
قلنا: أما كنتم قبل الإمامة تؤمنون بالإشارات إلينا, وتعولون في الزعامة علينا، فما بالكم لما سطع قيامها, وخفقت أعلامها, انقلبتم على أعقابكم؟‍‍!وخالفتم كريم نصابكم؟‍!? ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ?.
---

(1/4)


ما أشبه ما نرى منكم بما حكى الله سبحانه عن نبيه محمد صلى الله عليه وآله وقوم يهودا حين كانوا يخوفون الأوس والخزرج بنيء قد أظلهم زمانه, ودنا أوانه، قال تعالى: { ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يفتستحون على الذي كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكفرين بئس ما اشتروا أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكفرين عذاب مهين وإذا قبل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم ... } إلى آخرها.
فإن كان ما أظهروه من القول بالإمامة من قبل صحيحا، فقد صار ما قالوه من إنكارها كذبا، وإن كان ما أظهروه آخرا من إنكارها صحيحا، فقد بان أن الذي كانوا عليه منها أولا نفاقا.
فإن قالوا: دخلنا بدلالة وخرجنا بدلالة.
قلنا: غرقتم في بحار الجهالة, وتهتم في أودية الضلالة، كيف تكون المتنافيات أدلة توجب علما؟! أو تورث فهما؟!
فإن قلتم: كانا شبهتين جميعا في دخولنا وخروجنا.
قلنا: فقد أخطأتم في الدخول من غير يقين، وأخطأتم في الخروج من غير يقين, وأصبحتم بين الفريقين مذبذبين, وأنتم إلى الآن تجرون في ميدان الاشتباه. أفما لهذه النومة من انتباه؟! وإن كان الدخول شبهة والخروج يقينا.
قلنا: فشرائط الإمامة يفضى فيها إلى الاضطرار, ويستوي العلماء فيها والأغمار، فالمدعي لخلافها بعد الإقرار بصحتها يشهد على نفسه بالكذب, ويحجب من باطله مالا يحتجب, على أنه قد جعل على نفسه سلطانا، ومكَّن منها زماما وعنانا.
فإن أوضح على الإمام فسقا بَيَّناً, وضلالا قادحا متعينا، وإلا دخل فيما خرج عنه، فإن الإمامة لا تبطل بعد ثبوتها إلا بفسق ظاهر يقع عليه الإصرار, ويلازمه المتابعة والاستمرار، لأن الإمام لو أخطأ خطأ وتاب عادت له الإمامة, واستقرت أحكام الرياسة والزعامة.
---

(1/5)


وإن كانت الشبهة في الخروج فذلك إقرار بالبقاء على الضلال، وتعلق بأسباب المحال, وعدول عن رقراق السلسال, إلى بَرَّاق الآل، والذي بقي بعد هذا إما تَدَّعون الإكراه في الإمامة عند دخولكم فيها كنتم مباهتين مكابرين، وإما أن تعتقدوها باطنا وتدفعوها ظاهرا، فكفى بذلك عذابا ونكالا عند رب العالمين، ولنا فُلجاً عليكم إن أظهرتم خلاف ما أبطنتم عند جميع المسلمين، بل العقلاء المميزين, ملحدين كانوا أو موحدين.
ومن عجائب,بلغنا عن الأمير شمس الدين أنه يقول: لم يرض قتل حميد, ولم يرض له هذه الميتة، وكان من طلبة الدنيا, ودلاّه هذا الرجل ـ يعنينا ـ بغرور, وأوقعه في محذور، ولو أطاعنا ما كان الذي كان, وغيره يقول: اقتلوا الإمام والشيعة تصفُ لكم الدنيا.
وقوله: لم يرض بقتله ولم يرض له هذه الميتة, كلام متناقض، لأنه إن كان حميد محقا فلا ميتة أرضى من ميتته!! فقوله: لم يرض له هذه الميتة كلام فاسد، وإن كان حميد مبطلا فكيف لم يرض بقتله،? لا تأس على قوم كافرين ? ، وقوله: لم يرض قتله كلام لا يستقيم، لأنه قاتله. ألا ترى أنه أجلب عليه بخيله ورجله، وقُتل بقوة سلطانه, والأمة مجمعة على أن يزيد بن معاوية قاتل الحسين بن علي, وهو بالشام والحسين بن علي قتل بالعراق, وللأمير في حميد أكثر مما ليزيد في الحسين، لأنه حاضر قتله, وجالب خيله ورجله، وإنما قالها تنزها وتسترا قبالة العامة, لما قالت: أكنت تمشي رويداً لتقتل حميدا، لقد جئتم شيئا إذا, تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا!! ويلك من الله ? يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء، تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ? . أتروم إعادة أمس؟! أو تنل الشمس باللمس؟!
وهبني قلت هذا الصبح ليلا ... أيعمى الناظرون عن الضياء
---

(1/6)


رادفتَ الغمة, وراكمتَ سحايب الظلمة، وقَتلتَ رباني هذه الأمة, رجلا أفنى عمره في الذب عند الدين، ونشر علوم أهل بيت محمد الأمين, ولأبيك أمير المؤمنين من مقاماته غررها, ومن أكاليمه شذورها ودردها, ومن تصانيفه روائقها وطرائفها، ومن رسائلها سوابقها وشرائفها.
ننشدك الله ومَن سمع كلامنا هذا لو بعث أبوك وجدك رسول الله صلى الله عليه أكانا مع حميد أو عليه؟! أو سعيا إليك أو إليه؟! أو كانا يؤثران نصرنا أو نصرك؟! أو يعضدان أمرنا أو أمرك؟!
فإن قلت: معنا ومع حميد، كان رسول الله صلى الله عليه وأبوك الثائَرين لنا منك، وإن قلت: معك أكذبك قول والدك:
لا أعرف الخمر إلا حين أهرقها ... ولا الفواحش إلا يوم أنفيها
أليس في عسكرك هذا فعل المنكرات؟! وشرب المسكرات؟! وقتل النفوس المحرمات؟! ومن ينفيك من محمد وعلي؟! من يرى بولاية كل عدو وعداوة كل ولي؟! وأما لحمتك الواشجة، وقرابتك القريبة، فإنها لا تفيدك أكثر من النسب، ولغيرك المذهب، قال الله تعالى: { يا نوح أنه ليس من أهلك أنه عمل غير صالح } . وقال تعالى: { أن أولى الناس يا إبراهيم للذين ابتغوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين } .
وأما قوله: بأنه أخلد إلى الدنيا. فكيف يخلد إليها من عُمرّ عمرا طويلا متمكنا منها وهو تارك لها؟! ولما توفي لم يدع دينارا ولا درهما؟! ولا هتك في حياته محرما! ولا ارتكب مأثما! ولا ظلم مسلما! ولا سفك في غير الحق دما! ثم سفكتَ دمه, وعفيت كرمه.
ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يُقطِّع الليل تسبيحا وقرءانا
---

(1/7)


وأما قولك: إني اغتررته. فكيف يغر رباني الكلام؟! وعين عيون أهل الإسلام؟! وهو يصنف من قبل أن نولد نحن، أمثل حميد يختلس في دينه؟! أو يلوى عن يقينه؟! وأنت مع ذلك تدعي لنفسك البصيرة!! وتدعو إلى الصراط السوي والطريقة المنيرة!! ? فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ? ، { أمن هو قانت أناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب } ؟! أم من كان بصفة من نزل فيه قوله تعالى: { كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكفرين ما كانوا يعملون } ؟!
كلام الزهاد، وقلوب قوم عاد,? ومن الناس من يعجبك قوله في الحيوة الدنيا، وشهد الله على ما قلبه وهو ألدَّ الخصام، وإذا تولى سعي في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد، وإذا قيل له اتق الله أخذته الغرَّة بالإثم، فحسبه جهنم ولبئس المهاد ?.
وأما قول القائل: اقتلوا الإمام والعلماء. فأي عصابة حق يكون هذا أميرها أو من أمرائها؟! وما سمعنا لقوله شبها إلا قول الملاحدة في عهودهم إلى أوليائهم: اقتلوا الدبوك والملوك. يعنون بالدبوك: العلماء, وبالملوك: ملوك الإسلام, محقين ومبطلين. وقد زاد عليهم لأنه اختص الإمام وحده من الملوك, حتى يكون بقتله أونية قتله كأنه قتل الناس جميعا, كما ذكر الله في قوله: { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا } . وهذا في أئمة الحق عند المفسرين.
---

(1/8)


وبلغنا تشدق في المقال, واستهزاء بالدين وأهله، وسخريّ برؤوس العلماء, وتهجين بالشيعة، فعجبنا!! وتأسينا في ذلك بقول الله سبحانه: { زين للذين كفروا الحيوة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب } . فقد كنتم أهل هذه الدولة من قبل قيامنا تلتمسون إماما تقاتلون معه, فلما قام الإمام قلتم نحن أحق بالملك منه ولم يؤت سبعة من المال، فكنتم كالملأ من قوم موسى حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة.
وأما قول قائلكم: لو أطاعنا حميد ما قتل, ولا كان الذي كان. فقد دخل جوابه نحت قوله:? لو أطاعونا ما ماتوا وما قتلوا ? ، فكيف يطيعك حميد إلى ما أنت عليه؟! وأنت بالأمس أنت وهو مجتمعان على تضليل من فعل أدنى فعلك!! وقاضيان عليه بتحريم المناكحة, والموارثة وأكل الذبيحة, ولم يبدل حميد شيئا مما كنتما عليه، إلا أن يكون حكمك حكم دّابة القاضي!!
ألم تعلم أن الإمام المنصور بالله عليه السلام كفَّر أهل حقل بمواصلة كانت هينة يعرفونها؟! وكفّر شريفا من بني الهادي مر بأهل مخرفة وفسخ بينه وبين زوجته النكاح؟! فكيف تدعون الناس إلى ما أنتم عليه وأنتم بالأمس تكفرون من أتاه؟! ? ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم لاحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره، إن الله على كل شيء قدير ?.
---

(1/9)


أما تستحيون من الله؟! أما تخافون عاجل النقمة, بترك التناهي وكفر النعمة؟! أما سمعتموه تعالى يقول لقوم: { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون، ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم، أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون، ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إيه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون } . انظر في هذه الآيات هل بعدت منكم في معانيها؟! أو سلمتم مما فيها. ألم تعلم أن الله سبحانه يحكم على بقية بني إسرائيل في وقت رسول الله صلى الله عليه بأنهم قاتلون للأنبياء الذين قتلهم أسلافهمو فقال تعالى: { فلم يقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين } . وزمانهم غير زمانهم, ومكانهم غير مكانهم, لما كانوا مطابقين لهم على الرضاء بتلك الأفعال، فكيف تنكرون قتل العلماء وأنتم مباشرون لذلك؟! وسالكون في قتلهم أوضح المسالك؟!
ومن العجائب أنه بلغنا أنهم ربما ينتقصوننا، والنقص علينا وعليهم واحد، لأن القاسم بن إبراهيم يجمعنا, وإن كانوا يقولون من هنالك: إنهم جادوا وذَلَلْنا!! فإن كان الكلام في شرف الدنيا فنحن قبل قيام المنصور كما تعرفون إن لم نزد عليهم لم ننقص عنهم, إلا أن يكابروا فبيننا في ذلك قبائل همدان, فالكل بين أظهرهم حاسدنا ومحسودنا, وناشئنا ووليدنا, وما غطى ولا كتم, من استشهد السواد الأعظم, وإن كانوا في شرف الأخوة، فالإمام المنصور بالله عليه السلام يقول ليس بينه وبين محمد صلى الله عليه إلا من هو من أهل الجنة, ونظم ذلك فقال:
والله ما بيني وبين محمد ... إلا امرئ هادي نماه هادي
وهذا لعمر الله شرف عميم, وكرم جسيم, لا ننكره ولا نرده ولا نحسده عليه، وكذلك ما قال في نفسه نطما ونثرا مِن حملها على الفضائل, ورفعها عن الرذائل, كما قال:
---

(1/10)


فلا والله ما قارفت ذنبا كبيرا ... مذ ملكت جفون عيني
وهذا نعترف به أيضا وهو خليق به صلوات الله عليه، ولكن نقول نحن ندلي به وندعي مثل دعواه, ولا يمكن أحد تكذيبنا إلا مباهت, كما لم يكذبه سلام الله عليه من الفرق الضالة في قبيلة إلا مكابرْ فنقول والله ما عرفنا كذبة, ولا تدنسنا برذيلة, نقول ذلك تعريفا لا افتخارا, وتبصرة لمن يريد أن يكتسب في أمرنا استبصارا.
فالحمد لله الذي طهرنا من الأدناس, وقضى لنا بالفضل والبسطة على كافة الناس, وهو ? الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ? ، وكذلك نقول كما قال المنصور بالله عليه السلام: ما بيننا وبين محمد صلى الله عليه وآله إلا مثل ما ذكره من أب أو أم، وكان ذلك الصف مستقيما, فردناه ترصيصا وتقويما, وشيدنا بنيانه تكريما وتعظيما، فإن جاء بعدنا ولد يخالف معتادا, أو جعل في الثوب الأبيض سوادا, فلا بلَّغه الله ولا بارك فيه ولا جعل له في آل محمد نسلا، لأن من تقدمه من أبوته قد أخرجه بفعله عن أن يكون له أهلا.
ووجه أخر: وهو أن ما يدعيه المنصور بالله عليه السلام نحن شركاؤه فيه، فإن كثيرا من جداته الطاهرات هن جداتنا, فهو ثوب نحن نتجاذبه, شرف تلوح فينا كواكبه.
ووجه أخر: وهو أنا ورثته دونهم، لأنا منه, وما كان من شرف الدنيا والآخرة فقد ورثناه قولا وفعلا, ونسبا ومذهبا, وعلما وعملا,? أن أولى الناس بإبراهيم للذين ابتغوه، وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ? وهم معه كولد نوح صلى الله عليه، حذو المثال بالمثال, وما زلنا نطرز المنابر بذكره, ونحلي المقامات بذكره وشكره، ما قصدنا بذلك إلا الخروج عن عهدة ما يجب علينا من حقه, ولو عقلتم ولن تعقلوا لشكر تمونا على ذلك، فإن رجلا لو ورد بقصيدة يمدحكم بها لعظمتم من شأنه, ورفعتم من مكانه, ومدحُ أبيكم أشرف لكم, وحقه أوجب عليكم, ولكن لا تمييز!!
---

(1/11)


ووجه رابع: وهو المصيبة الكبرى, والفافرة العظمى, انظروا إلى الصف الذي كان فيه هل بقي بعده, أو سعيتم في نقض ذلك البيان المرصوص؟! فهل يشده ويشيد بنيانه وتأتون فتخربونه وتهدمونه؟! ثم تكونون معه يوم القيامة!! فلماذا أُرسل الرسول, وأنزل الكتب, وأرصد الوعد والوعيد, وأعد الثواب والعقاب؟! إن ألحق المسيء بالمحسن, والكافر بالمؤمن؟!! ? ليس بأمانتكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سواء يجزيه ?.
فأما الذي تدَّعونه علينا من قلة الوفاء، فإن كان هذا عذرا فيما فعلتموه من الأفعال القبيحة، فإن الإنسان لا يكون معذورا فيما يفعله من المعاصي لأجل إساءة غيره إليه, وقلة وفائه له، الكفر لا ينباح بما ذكرتم لو صح، ? أحسنوا حيث أساء الناس ? كما ورد في الخبر مع أنا لم نفعل شيئا مما ذكرتم, بل فعلنا أفعالا نعرضها على الكتاب الكريم والسنة الشريفة والعقول التي ركبها الله تعالى حجة على الخلق، وجعلها وما تقدم من الأدلة آية للحق، وهو أنا نقول: شرطنا وحرمتم شروطنا فتركنا مشروطكم, فلو وفينا مع الإخلال بالشروط التي جعلناها فارقة بين عقود المسلمين وعقود غيرهم, لكنا قد نصحنا من غش المسلمين, وقرَّبنا من أبعده رب العالمين, مع أن العقود التي يجب الوفاء بها هي عقود الذمم, والعقود اللازمة في الإصلاح. فأما الولايات والإقطاعات وما يجرى مجراها فليست بعقود عند مَن عقل الصواب, وفهم مضمون ما انطوت عليه السنة ونطق به الكتاب، إذ لو كانت عقودا لما رجع النبي صلى الله عليه عنها في مجلسه وللزمت الولايات, وما كان لنبي ولا إمام أن يعزل ولا يولي غير مَن ولاه، وضرورة الدين وما علم من أمور المسلمين يقضى ببطلان ذلك.
ألا ترى أن النبي صلى الله عليه رجع عن (( إقطاع الأبيض بن جمال حبل الملح بمأرب!! حين قيل: يا رسول الله أعلمت ما أقطعته؟! قال: لا. قال: إنما أقطعته العد الذي لا ينفذ فرجع في الحال عن ذلك )).
---

(1/12)


وكذلك في قصة الدهناء, ومن المعلوم الذي لا يُشك فيه أن الإنسان لو وكَّل وكيلا على عمل من الأعمال ثم عزله قبل أن يفعل الفعل أو بعد فعله, وكانت وكالته عامة أنه لا حرج عليه ولا عتب في الدين ولا في الدنيا، والوكالة ولاية، والولاية في معنى الوكالة لا فرق بينهما عندنا، وقد روينا عمن نثق به عن الإمام المنصور بالله عليه السلام أنه اتفق له ثلاثة ولاة لموضع واحد في يوم واحد في مكان واحد، وذلك جائز تبيين ذلك أن مبنى ولايات أولي الأمر على نحو ما يقضي به النظر في اعتبار الأصلح والأقوم بأعباء ما حمل, ومن الجائز أن يقع نظر المولى على واحد ثم يتجدد نظره على الأصلح منه, فيفسخ ثانيا ما فعله أولا لأجل المصلحة، أو مصادفة الموافق, وهذا نوح ألحقه الناس بباب العقود وليس منها وطعنوا به جهلا بمواقع العلم وإيثار الهوى, على ما قضى بصحته العقل والشرع.
والنوع الآخر الذي ألحقوه بالعقود وليس منها: الرقاعات التي تتضمن الصلات والهبات، وليس الأمر كما اعتقدوه, ولا حكم الله يقف على ما توهموه، لأن هذا ليس بعقد لازم، بل إن حصل ذلك فهو المطلوب، وإن لم يحصل لم يقتض تعذره فسقا ولا كفرا, ولا قلة وفاء، لأن الفاعل لذلك قد يتوهم أن هناك شيئا حاصلا وليس به، أو يتصور أن شيئا يحصل فيتعذر بعض أسبابه وصاحبه محسن، وقد قال سبحانه: { ما على المحسنين من سبيل قدمهم } لأجل ذلك ذم لمن لا يستحق الذم، وهذا عند كافة أهل الإسلام لا يسمى: عقدا، وأكثر ما في ذلك أن الفاعل لذلك والتارك للعطاء غير ممتثل للأمر، فهو العاصي دون الآمر إن كان المأمور به حاصلا.
---

(1/13)


وأما العقود التي هي الذمم فنحن أكثر الناس محافظة عليها, وأعظمهم تأكيدا في تمامها على شروطها، والله تعالى قد قيد الوفاء بالشرط فقال تعالى: { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } فشرط التمام بالمدة وهي أحد الشروط، وجعل ذلك سبحانه مشروطا بوفائهم، فالوفاء لهم لا يجب إلا بشرط الوفاء منهم، فقال تعالى في أول الآية: { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا } فشرط في الوفاء عدم النقصان وترك المظاهرة, وهذه شروط على الحقيقة، فقد ثبت: (( أن الشرط أملك )) وأن الإخلال بالشروط في هذه العقود يرفع حكم المشروط.
---

(1/14)


ونحن نوضح طرفا من أفعالكم معنا ليعلم الناس صدق مقالنا, وسلامة أحوالنا، فنقول: إنكم بعد دعوة الإمامة تربصتم بصاحبها كما علمه الخاصة والعامة، فكان أول ذلك منعكم للناس عن إجابتها, وصدكم للخلق عن سماعها، وانتهى بكم الحال في ذلك إلى خراب ديار المجيبين, وإخافة من بادر إليها باليقين، فلما غلبتكم الدهماء, وذهب عنكم جمهور العلماء, استكبرتم حينئذ الخلاف ظاهرا, وأسررتم المكائد باطنا، كما حكيناه آنفا من استدعاء سلطان اليمن والانتصار به، فلما لم يشف ذلك عليلا, ولا نقع غليلاو شمرتم عن ساق الجد في الشقاق, ونسيتم أمر الواحد الخلاق، حيث قال: { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم } وقال تعالى: { يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويخركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء } الآية. فقهركم سلطان الحق، ودمغكم نصر الله لولي الأمر، فجنحتم إلى السلم, وامتطيتم مطية النفاق، وصاحبكم يؤثر التقريب على الإبعاد، وما يدنيكم إلى الصلاح ويصرفكم عن الإفساد، فكان أول الغدر وإن تقدَّمه ما وقع من آحادكم تقدَّم موسى وداود لسدادة الثغر, والإقامة بوادي ظهر، وهما على الحقيقة يضمران خلاف الأمر، فأقاما أياما ينقضان الذمم، ويحرفان الكلم، ثم نكصا على أعقابهما من غير تعريج على ثغر الإسلام، ولا التفات على أمر إمام، فكانا أحق ببيت الشاعر حيث يقول:
لحى الله قيسا قيس عيلان إنها ... أضاعت ثغور المسلمين وولت
---

(1/15)


ونحن في خلال ذلك نعلن بالانتصار, وندعو الكافة إلى طاعة العزيز الجبار، فكان الجواب أنهما عادا بعد مدة إلينا يُزحيان جيشا حشو الغدر, وشعاره ودثاره النفاق والمكر، فوصلوا لتشتيت الشمل, ووقوع الخبل, كما قال تعالى في قصة المنافقين: { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولا وضعوا خلائكم يبغونكم الفتنة } . فكانت هذه حالهم بغير مرية, حتى جد أمرنا في الخروج إلى نحو الشهابية، فخرجوا للفساد معنا بعد أن مضى جمهورهم، وتفرقت أمورهم، وتسللوا لواذا، واتخذوا الخداع اتخاذا، فلما وصلنا قرب البلاد، أرسلوا إلى إخوانهم من أهل العناد، ألا لا يهولنكم ما نحن عليه من الإبراق والإرعاد، فهو حظنا مع صاحبنا لا نريد القتال ولا الجلاد، وأخذوا في التخذيل, وتزهيد الناس فيما نحن عليه جيلا بعد جيل، حتى تضعضعت أمور المسلمين، وظهرت سماة الغلب على الصالحين، وخالفوا قوما على قتلنا ونحن وهم في مكان واحد، فذرنا بهم, وأحسسنا ما قد أعملوه من مكرهم، فصدوا خاذلين, وولوا على أعقابهم متقلبين، وهذه خليقة لم يرضها مسلم, ولا تظاهر بمثلها مجرم، لأن كثيرا من الكفار بأعمال أهل النار, يتنزه عن أن يكون بصفة الغُدَّار.
وقبل هذه ماسوَّد ولد أميرهم, وسليل رئيسهم وكبيرهم, ثوب الإسلام, بما فعل مع أهل تًنْعِم الأباة الكرام، من بيع ثغره بألف مثقال، وصدوره عنه على أقبح حال، يتبختر في ثوب الغدر, ويتحلى بحلية أهل المكر، ويجيب عند عتابه أن أباه أرسل إليه, وخرج في تخليه سد ذلك الثغر عليه، فهذا هو النكث على الحقيقة, والبوار العاجل عند هذه الخليقة، أتأمرون الناس بالوفاء, وشيمتكم مع المسلمين ما ذكرنا ظاهر لا عن خفاء؟! ? أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ?، أتعيرونا بقلة الوفاء بالعقود, ولكم ما تقدم من الفعلات بعد العهود المؤكدة, والأيمان المغلطة؟!
---

(1/16)


ولما توجهتم معنا نحو صنعاء، تريدون النصرة على الدين, والإدالة بما مضى منكم في حرب المسلمين، واجتمعنا في البلد بملازمة الثغر, نَجَمَ من نفاقكم, وظهر مر سيء أخلاقكم, ما تحقق معه الناس خبث سرائركم, وفساد ظواهركم, لم تتركوا عمولة في روح, ولا مواصلة لعدو, ولا دلالة على عورة لمسلم، يشهد بذلك ما كان من طلوع علي روهاس ليلا إلى براش, وهو بزعمه الناصح الناصر، وما فعله داود في الملاقاة للأسد ومماليكه في مثنى الغواير, من غير مانع ولا حاجرو وأظهر من ذلك خلافا ما عمل مع المشطوب, من سلامته من تحت السيوف, وإخراجه لا عن أذن أحد بل على رغم الأنوف، وأثبتوا العمولة فينا يوم الجبوب، فلم يسعدهم الجد ولا ساعفهم المطلوب, بل قصَّرت عساكر الحق من هممهم، وقلَّت عزائمنا غروب دعمهم, وصبرنا منهم بعد ذلك على أَمرّ من العلقم, وآلم للأجسام من سم الرقم, ومضرتهم ممكنة لنا، واستئصال شأفتهم غير معجز لمثلنا, وإنما تركنا ذلك كرما في الطبيعة, وبعدا من الأفعال الشنيعة، وفي خلال الرباط منهم والصبر, تنزل عليهم تحف الصليحيات بالخمر, يتساقاها منهم أولوا الفخر, نقل منهم من شهد الأمر, واطلع على مكنون السر، ونحن نتجرع غصص الاصطبار, ونتخلق لتأليفهم وتقريبهم تخلُّق الأحرار، ونطمع في أن ينتقلوا عن عمل أهل النار, إلى أعمال المتقين الأبرار، وهيهات أن يُجتنى من الشرى أريا شافيا, ويمترى من ذكران المعز حلبا صافيا.
ودع عنك نهبا صيح في حجراته ... ولكن حديثا ما حديث الرواحل
---

(1/17)


جعلناه زعيم جيوش المسلمين، وقلدناه سد الثغر المنفتح علينا من اليمن فباع ذلك بعرض من الدنيا يسير، وقدم إليهم خاتمه ذمه في كونه منهم، وذلك أمر ظاهر, وقد أقر به عند من يوثق به, ولما غنم المسلمون غنيمة من أعداء الدين، طلبهم بردها بعد رد ما وقع في يديه, وقبل بهم نحونا يهديهم هدى العروس, ويطأ بهم ربع الإسلام المأنوس، فلما طال عليه أمد النفاق في بيت رحال، شمر للغدر عن الأذيال، وفارق زافرة, يا لها من زافرة رافضة للدنيا مقبلة على الآخرة، فحل من الكفر في بحبوحته, وسكن من النكث في صميم أرومته، وكم من ذمة خرمها من صنعاء إلى يومنا هذا !!! من مأسور قتل بعد الذمة، ومعتق أوثق بعد المنة بإرساله, يشهد بذلك ما كان في صعدة من قتل ابن زيدان والعَلَم في يده, وأخذ ابن النجار وأمارته والذمة على إرساله وولد محمد بن فليته وما فعل معه، وجفر بن يحيى، وذمه حمزة بن حسين على روحه وما يملكه, وأخذه وهو في خيمته، وعلي بن صفى الدين بعد ذمة عز الدين عليه, وأخذ أحمد بن عواض بعد الذمة من علي بن عمرو، وما كان في شأن السويدي من أنواع التخليط, ونهب بيوت لا تحصى بعد الذمة وهي بيوت أهل سمارة كافة، فإنها ما أخذت إلا بعد الأمان الظاهر, وتأكيده بالعَلَم على السطوح.
---

(1/18)


ثم أفعالهم الشنيعة, في رؤوس علماء الشيعة وتراجمة الشريعة، وذمتهم على دار الفقيه محمد بن أبي السعادات وأخذها بعد ذلك، والعَلَم على رأسها, ومن غدرهم الطري, ما جرى في دار الشريف المجزري، وإحراق علمهم الفري الزري، وكذلك القُليعة وبنوال أحذتموهما بعد الأمان الأكيد، وكيف يمكنكم تدَّعون مثل ما ندعي وأنتم على خلاف ما تعلمون من مذهب أبيكم وآبائكم جميعا؟! بل كيف وأنتم تخوضون في أموال المسلمين ودمائهم بغير دعوة ولا كتاب ولا سنة؟! وبين أيديكم من فعل المنكرات ما لا يمكن دفعه!! بل كيف وتائبكم إذا وُفَّق يتوب إلينا, ويقر بقبح ما هو عليه وبصحة مذهبنا، وهل تاب أحد منا إلى ما أنتم عليه عند مماته، أو جادل على صحة ما هو عليه في حياته، فهم كما قال الله تعالى في أهل الكتاب: { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا } .
وأصحّ مذاهبهم في هذا قولهم: نفسد عليه ونكدر عيشه كما كدر عيشنا، فهذا وجه بَيّن ومذهب معقول دون غيره، ونحن في دنيا مشوبة بالتكدير, وطريق مقرون بالتغيير، لا نبالي فيها بتكدير عيش ما أطعنا الرحمن، وسلمت الأديان، ? قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ?.
---

(1/19)


إنما يحزن على النعمة أهلها, ويتبرم بمفارقة اللذات مَن اعتادها, وكم عسى أن يكون نعيمها وهي إلى زوال؟! وراحتها وهي إلى تغير وانتقال؟! إنما المكدر للذاتها, مَن حمل أهلها على مفارقة عاداتها, من شرب القهوات، وإذهاب الأوقات, في غير الطاعات، وانتظار الصلوات بعد الصلوات، ونقل الخطى إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في السبرات, وهو لا يزال شجا في حلوقهم، وقذى في عيونهم، ما مد الله مدته, وبسط بسطته, فليموتوا بغيظهم كظما، وليستبدلوا بوجود ملكهم عدما, وعن قريب يظهر الحق على الباطل، ويتميز المستقيم من المائل، { وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا } بين مَن قرباؤه الصالحون المهتدون، وبين مَن خلطاؤه المردة المفسدون، وبين مَن ناصره رب العالمين، ومن يعتمد في نصرته على الكفرة الجاحدين, والباطنية الملحدين، وبين مَن عيون أنصاره العلماء، ومن عيون أصحابه المترفون, ? وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذين ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ? , ? الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكوة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ? ، وإن صال العدو صولة لا عن دولة, فكثيرا ما صغَّرته سيوف الحق وتركته خاسئا، وما كان أولا فمثله يكون ثانيا, ? لا يغرنك تقلب الذين كفورا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد، لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار ?.
ومن عجائب ما ألّفوه, وجالب ما زخرفوه, أن قالوا: بأنا منعنا من بلادنا, وخلينا عن طريفنا وتلادنا، فاستعنا بالكفار, على بلوغ الأموال والديار. وقالوا يجوز لنا ذلك كما جاز للنبي المختار، حيث استعان بخزاعة الأنصار, على حرب قريش الأشرار.
---

(1/20)


ونحن نقول: إن هذا مبني على شفاء جرف هار، إنما الانتصار بالفجار لبعض الأعذار, يجوز للأئمة الأخيار, العالمين بمواقع الإيراد والإصدار, المميزين للملتبسات بثاقب الأفكار, وغامض الأبصار، وتحصيل هذه الجملة المذكورة, والدرر المبددة المنثورة، أن المستنصر بالمبطلين يكون على شروط:
أحدها: أن يكون المنتصر محقا.
والثاني: أن يكون المستعان عليه مبطلا.
والثالث: أن تكون له شوكة وغلبة على من استعان به, حتى تكون أفعال المستنصربه, مقيدة بإرادة المستنصر وأفعاله، لأنه متى كان ذلك كذلك, أمن من الوقوع في المنكر الذي طلب إزالة مثله في القبح.
والرابع: أن يكون ذا ولاية كاملة, وزعامة شاملة.
وإنما اشترطنا أن يكون محقا، لأنه متى كان مبطلا لم يكن بأن يستعين على غيره أولى من أن يُستعان عليه، وذلك يؤدي إلى أن يكون محاربا محارَبا, وليا عدو في وقت واحد، وهذا لم يقل به أحد. واشترطنا أن يكون المستعان عليه مبطلا، لأنه متى كان محقا فلا سبيل إلى جواز حربه، ولأنه إنما يجوز حربه لأجل المنكر, ولا منكر منه يجب إنكاره فضلا عن محاربته عليه، وقد تقدم الوجه في اشتراط الشوكة للمستنصر.
وإنما اشترطنا الولاية الكاملة، فلأن إزالة المنكر بتجييش الجيوش لا يكون إلا إلى الأئمة, ومن يجري مجراهم من أهل الولايات التي توجب المتابعة، يبين ذلك أن من يُحتج بفعله في هذا الباب لم يكن إلا على هذه الصفة، كالنبي صلى الله عليه, وعلي عليه السلام، حيث يقال: إنه استعان بقتلة عثمان على ضلالهم عند من يقول بذلك. ومن أدعا خلاف ذلك قلنا: عليك الدليل, ولا يجده إلا أن يقول: إنه منكر وإنكار المنكر واجب على كل أحد.
قلنا: هذا الذي نحن فيه ليس من هذا القبيل، بل هو متضمن لسفك دماء، وأخذ أموال، وتصحيح أقوال وأفعال، وذلك لا يكون إلا ممن ذكرنا دون غيره من المنكرات، فإنه يقوم به أفناء الناس.
---

(1/21)


وأما في وقت الإمام فليس لأحد أن يتقدم ولا يتأخر في شيء من ذلك إلا عن أمره.
فإن قيل: ولسنا نسلم ثبوت إمامة صاحب الزمان ولا نقر بذلك.
كان الجواب أن إمامته لم تثبت بقولكم، فيكون فُقد إقراركم وجها في بطلان إمامته، لأن الإمامة تثبت عند جميع الأمة بوجهين:
أحدهما: العقد والاختيار من العلماء والفضلاء وعيون المسلمين.
والآخر: بالدعوة وتكامل الخصال، وهذان الوجهان قد حصلا لصاحب الزمان على أبلغ الوجوه، وأنتم الشهود على ذلك ودخلتم في غمار أتباعه، وكنتم بلا شك من أنصاره وأشياعه. والفضل ما شهدت به الأعداء.
فهذه شروط انتصار المحق بالمبطل على المبطل، وهذه الخصال جميعا معقودة فيكم.
أما الأول: وهو أن يكون المستنصر محقا, فليس بحاصل فيكم بل أنتم في بحار الضلال تهيمون, وفي ضحضاح الكفر تعمهون، ويكفي في ذلك موالاتكم بالحلف والنصرة والمودة للباطنية والمجبرة والمشبهة, بل أنتم في أبلغ من ذلك، لأنكم خدم لهم, ومدبرون عن أمرهم فعلا وتركا، وهذا ظاهر لا يخفى على أحد، ولا يمكن إنكاره، وأنواع المنكرات بين أظهركم ظاهرة، وكفى بذلك ضلالا, مع ما اقترن به من أفعالكم التي ضاهت أفعال عباد الأوثان، من قتل عيون المسلمين, وسفك دماء البررة المتقين، إلى غير ذلك مما يكثر تعداده.
وأما الشرط الثاني: وهو أن يكون المستعان عليه مبطلا، ففي ذلك وقع النزاع، لأنه الحجة عليكم في زمانكم، والناظم لدين آبائه وآبائكم، والمدمر لأعداء الدين، والقامع لما نجم من المفسدين, الذي برز في ميدان الكمال، وانتقم من أرباب الضلال، وأرغم أنوف الجهال, حتى نال في الفضل أبلغ منال، وآل في رضى ربه إلى خير مآل, أخذ بدمائكم المطلولة، وأقفر ربوع أعدائكم المأهولة، يشهد بذلك حضور وحوشان, وغيرهما من مشاهدنا المشهورة في البلدان.
وكم يوم سقيت به الأعادي كؤوسا ... ما يفيق لها ضريع
---

(1/22)


وأما الثالث: وهو أن يكون للمستنصر شوكة وغلبة على من استنصر به، فليس ذلكم إليكم بل أنتم خدم للمستنصرين به وأتباع لأتباعه, لا تقدمون أمر إلا عن أمره، ولا تصدرون رأيا إلا عن رأيه، هو الإمام وأنتم المأمون، وأقوالكم ناطقة بذلك، وأفعالكم شاهدة به، يدل على ذلك أفعال بصعدة في الذمم والمواثيق التي أخللتم بها، وجعلتم العذر أنكم لا تقدرون على الخلاف، ولا سبيل لكم إلى مخالفة أمر سلطانكم، وهذا ظاهر لا يفتقر إلى بيان, ولا يشك في صحته إنسان، ولذلك سلمتم أسرانا إليه، وعلقتم جميع أفعالكم الواقعة عليه, على كره منكم.
وأما الشرط الرابع: وهو أن يكون المستنصر ذا ولاية عامة، فلستم هنالك عند أحد من العالمين, لقوله تعالى: { لا ينال عهدي الظالمين } ولأن الولاية هي ولاية الإمامة وهي فيكم مفقودة, أو ولاية الحسبة وهي باطلة لديكم غير موجودة, لوجوه:
أحدها: ما أنتم عليه من الكفر.
والآخر: وجود إمام أبطل حكمَ الحسبة ثبوتُ إمامته، ووجوب رياسته، لأن الحسبة تدل على ما هو أعلى منها، وهو لا يجمع البدل والمبدل منه.
والآخر التسلط والخروج عن زمرة أهل العدالة وأهل الدين.
هذه نكتة أردنا بيانها لما توجه علينا من أمرها، فإن الله تعالى أخذ على العلماء في ميثاق كتابه البيان, عند أن يعرض مثل هذا الشأن، حيث يقول: { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيينه للناس ولا تكتمون } وقال صلى الله عليه وآله:(( من كتم علما يعلمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار )) ، ? إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين ? ، ? إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ?.
والحمد لله وحده, وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلامه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. تمت هذه الرسالة المباركة.
---

(1/23)


الرسالة الزاجرة لصالحي الأمة عن إساءة الظن بالأئمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل الأنبياء أمناء وحيه، والخلفاء أمراء أمره ونهيه، والعلماء حفظة علمه وتراجمة إثباته ونفيه، وصلواته على نبيه المقتدي ببيانه وهديه، محمد وعلى آله الحامين لدينه والمحددين لما خفي من سعيه.
وبعد: فإن الله تعالى لما قلدنا بأطواق الزعامة، وحلانا بحلية الإمامة، وتجرد للنص على ذلك والدعاء إليه, والامتثال لأمره والاعتماد عليه، علماء هذه الفرقة الزيدية الذين هم أفضل الفرق، وفضلاء العترة النبوية وهم المبلغون عن الله وألسنة رسله, وحجته على خلقه, والكارعون من العلم في سلسال معينه, وأدلة الوُرَّاد إلى صافي يقينه, وفوَّارة عيونه، لأن الله تعالى جعل العلماء خلفاء أنبيائه, وعماد خلفائه, وحملة أنبائه, عن صفوة أنبيائه، فهم القدوة والحجة, وسواء السبيل وواضح الحجة, وعليهم الاعتماد، وهم الرأس الذي يرم به كل متخمط لينقاد, وكان عند ذلك من أمر الناس ما علمه مَن شاهد أحوالهم، وبطن خلالهم, من أن إمامتنا كانت كإمامة أبينا علي بن أبي طالب عليه السلام، سارع إليها الصغير, وهدج إليها الكبير، وتطلعت إليها الكعاب، وحُسر لها كل نقاب، وفتح بها كل باب، ورفع كل حجاب، وانثال الناس من كل سبسب, ونسلوا من كل حدب، وكان المحظوظ عندهم من أعطى صفقته طائعا, وسبق غيره مسارعا، أو أنفق ماله مسترسلا, وبرز للجهاد مستبسلا, بصيرة ودينا، وثقه بأمرنا ويقينا، حتى علت كلمة الدين, ورسخت سواري اليقين، وأبدنا جيوش الجاحدين، وسلبنا ملك الظالمين، ورفعنا أيدي المتسلطين على المستضعفين. فلما نجمت نواجم العناد، ووقدت نيران الفساد، وقل الناصر، وكثرت المعاذر، وعطلت الثغور أو كادت، وقهقرت ليوث الكفاح وحادت, سامة وملالا، واستطاله للأمد المبارك واستثقالا, على ما حكى الله تعالى عن الأمم الماضية, والقرون الخالية، أن طول الأمد أورثها في القلوب قسوة، وفي
الطباع عن سماع الحق نبوة، حيث يقول سبحانه: { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع
---

(1/24)


قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون } .
سمعنا عند ذلك ركزا خفيا, وكلاما نجيا، ظاهره عتبٌ، وباطنه تْلب، فمن قائل يقول: هذا أمر لم يحكم ترتيبه. وآخر يقول: هذا وال لم يؤثر تقويمه وتأديبه، ومتأسف على ولاة كانوا قبلنا، ومتفجع لعدو بما ناله [منا ], وإن كان من غب مكره، وجزاء غدره, ومتوجع لولي من سوء حظه، وقلة ذات يده، وإغفال أمره, وتحلل عراء جَلَدِه، ومغضب يشكو سدة باب، أو غلظة حجاب، أو جفوة أصحاب، ومعذر في لزومه قعر داره، وتحليل أوتاره، وإرخاء أزاره, بما هو عليه من قلة عطية, أو عدم مطية، ومعتل بكثرة ماله, وضؤلة أطفاله، وترادف أشغاله، ومعتقد أنه حط عن منازل أمثاله، وقصر به عن درج أشكاله، فجعل ذلك وجها في التأخر عن نصرة الدين بنفسه أو ماله.
فأما الأول: فإن كان معتقدا للإمامة فقد سلَّم السيرة، وإن لم يعتقد الإمامة فلا فائدة في الطعن في الفرع مع فساد الأصل، لأن ما بني على شفاء جرف هار، فهو منهال منهار. وهل يستقيم الظل والعود أعوج؟! مع أنه لو بلي بشيء مما بلينا به, من ترتيب حاجات تباعه، أو إصلاح أمر جماعة، لضاقت موارده وعميت مصادره، والتبست بصائره، وافتضحت معاذره، ولتبين له ما قيل في المثل السائر:(( في ملام من ليس بعاذر, فيما ليس له بخابر )). (( هان على الأملس ما لا قى الدّبر )).
ولو قيل له: كن صاحب هذا الترتيب، واجعل حظك من الجهاد هذا النصيب، لتولى يعتذر بالعجز، ويدافع بالضعف عن القيام بعظيم هذا الأمر، ومع ذلك يدعي وقوع الخلل في الفعل على من حنَّكتْه التجارب، وقرعت صليب مروته النوائب.
---

(1/25)


وأما الثاني فهو أيضا مثله يطعن في فروع قد سلم أصولها، ويعترض في الولايات بأمور ما تيقن محصولها، فهو من دخيلته في زلزال، ومن باله في بلبال، ومن كلامه في شجون متعارضة, وأمور متناقضة، إن طعن لم يستيقن مقاله، وإن أمسك لم تطاوعه عوارض باله، لكنه آثر ما سمعه على ما رءاه, وقدَّم هواه على هداه, ونسي ما قاله قدوة الهداة، علم الحق الأواه, علي بن أبي طالب عليه أفضل السلام والصلاة، حيث يقول: (( أما أنه ليس بين الحق والباطل إلا أربع أصابع فسئل عليه السلام عن معنى قوله هذا؟! فوضع أصابعه بين أذنه وعينه، وقال: الحق أن تقول رأيت، والباطل أن تقول: سمعت )) .
ودواء هذا المعترض ما يجده من نفسه من عداوة وقادة, أو حسيفة معتادة، بأن أبرز مكامنه, وأظهر مطاعنه، أصاب أم أخطأ، أسرع في رضي ربه أم أبطأ، ولم يعقل أن الولاية وكالة يتقلدها الأمين، وحالة يحبى بها الضنين، وقد فعل ذلك سيد المرسلين, واقتفاه في فعله إمام المتقين, فولى صلى الله عليه الوليد بن عقبة. وهو أحد صبية النار, بنص النبي المختار، ومَن نص الحكيم على فسقه في آيتين من كتابه الكريم، وولى صلى الله عليه عمرو بن العاص في البعث الأكبر, وهو المقصود بأنه الشانئ الأبتر، وخالد بن الوليد سماه سيف الله المسلول, مع أنه حكم في الدم المطلول, برفض المسموع وتحكيم المعقول، وتبرأ صلى الله عليه من فعله. ومع ذلك لم يقض بتحريم ولايته, ولا تأخير إمارته، بل جعله بعد ذلك أمير الجيوش الإسلامية، واجتمع المسلمون على إمارته بمؤتة، واقتفى أبو بكر في ذلك أثره، وكان من خالد في بني تميم ما قبحوا به خبره, وتبينوا به مخبره.
---

(1/26)


فأما أمير المؤمنين عليه السلام فإنه ولى أبا موسى الأشعري وهو يشير إليه بالخيانة، ويظهر أنه ممن يموه على المسلمين بالتعمق في الديانة، وكذلك زياد بن أبيه وغيرهما، ويكفى المستبصر ما ذكره عليه السلام عند صفة أصحابه من قوله:(( يا أشباه الرجال ولا رجال )) إلى أن انتهى إلى آخر كلامه فقال: (( لو ائتمنت أحدكم على قعب، لخشيت أن يذهب بعلاقته )) أتراه أيها المعترض ولا هم مع اعتقاده لخيانتهم ؟! وهو الناطق بالحق، والمتولي للبيان في ذلك الأوان ؟! أو ترك ولايتهم حتى ضاعت الأقطار, واستبيحت الثغور وعفت من الدين الآثار؟!
فإن قلت: بالأول، فهو الذي قصدناه في معنى الوكالة، وإن قلت بالثاني، فهو مما علم أنه لم يقع، حتى قُبِض سلام الله عليه ورضوانه, على أن من قاس الأمر بالأمر علم أنه عليه السلام كان في القرن الثاني والثالث من الذين قال فيهم نبينا صلى الله عليه وآله: خيركم القرن الذين بُعثت فيهم، ثم الذين يلونهم, ثم الدين يلونهم )) فإذا كان الأمر في أهل زمانه عليه السلام مع قربهم من رسول الله صلى الله عليه وآله, وكونهم خير الأمة هكذا، فكيف يكون حال أهل زماننا الذين هم حثالة التمر, ونفاضة العلم؟! فإذا اضطر عليه السلام إلى ولايتهم, والاستعانة بهم, وهم على تلك الصفة, لئلا يبطل الجمهور من أمور الدين، فنحن كذلك أيضا.
وأما الثالث وهو المتفجع فإنه قرى وما درى, وجهل أحكام الولاء والبراء، والله تعالى يقول لنبيه نوح عليه السلام لما عطفته على ولده عواطف الرحم والرحمة, عند همول سحائب العذاب والنقمة: { يا نوح أنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح } هلا رجعت عن أبعد الصحابة, كما رجع نوح عن أقرب القرابة، وعلمت أن حق الله أولى بالرعاية, ودينه أحق بالذب والحماية, على أن هذا طعن في السيرة وقد قال بالإمامة, أو تعرض أن أصولها بعيدة عن السلامة, قريبة من السلامة.
---

(1/27)


وأما الرابع وهو الشاكي لنفسه ولغيره من سوء الحظ, وقلة ذات اليد، فهو يوجه الملام إلى من لم يخط ولا ألام، والأرزاق عندنا قضايا قدرية, وأمور سماوية, (( لا يجرها حرص حريص، ولا يردها كراهة كاره )) ، كما ورد في الخبر عن سيد البشر على أن ما كان إلينا من ذلك فقد بذلنا فيه جهدنا، وأدينا وجدنا, توخَّيّاً لمواضع الحاجة والاستحقاق, أو المصلحة في الدين، كعطايا المؤلَّفين على قدر ما أدى إليه اجتهادنا, ووقع في أيدينا من رزق ربنا, والقسمة أيضا من حملة السيرة, والاعتراض مع تسليم أصولها يؤذن بضعف البصيرة, على أن الذين نأخذه هو الصدقات، وهي كانت في الأصل تضيق بالفقراء، فكيف تَسع بجميع الوجوه المصروفة فيها اليوم, لو لا لطف الحكيم بالبركة فيما قسم على هذا التقسيم.
وأما الخامس وهو الشاكي من سُدة باب أو شدة بواب، فإنه لم يخلص السريرة, ولا نظر بعين البصيرة، لأن من له أدنى خبرة يعلم أنه لا يمكن قضاء حاجات الناس دفعة واحدة، بل يتمانعون ويتدافعون لا سيما مع عدم الكفاءة وقلة المعاونة, على ما يلزم أهل الديانة، وكأن القائل بذلك ما سمع نهي الله تعالى عن دخول بيت نبيه وغير نبيه إلا بإذن, وأمر بالرجوع عند عدم الأذن، فقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم } ,وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خيركم لعلكم تذكرون فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم } .
---

(1/28)


على أن ذلك إنما كان متوجها أو مقبولا لو كنا خالين على اللذات, أو منافسين في طلب الراحات، وليس الأمر كما ظنه، بل إنما خلو بشغل عن شغل، وبزيد عن عمرو, فما ننفك ليلا ولا نهارا، ولا نطعم العيش إلا نزرا، ولا النوم إلا غرارا، نذكر ذلك تعريفا لا افتخارا، مع أن ذلك المتحدث يلوم عليه فإذا دخل وخلا بحاجته عذر نفسه, وبسط أنسه, وأمر بإيثاق الباب, وشدة البواب، وغلظة الحجاب, حتى يقضي حاجته ثم يخرج معتذرا عنه وعنا, وعاذرا فيما كان من قبل يعيبه منا، وليس بينه وبين أن يعود لائما, أو يصبح بغيظه كظيما لا كاظما, إلا أن يعود لحاجة أخرى, يوضح دون قضائها بفورها عذرا، ثم يرجع يُهينم في نفسه بالملامة, ويهز رأسه إيهاما لوَهَن وَجَدَه في هذه الإمامة، وقد خبرنا هذه الأحوال, وتصفحنا هذه الخلال، فوجدناها كذلك علما يقينا، وإتقانا رصينا، مع أن لنا بأبينا صلى الله عليه أسوة في رد خير الناس من بابه، (( وأمره صلى الله عليه وآله بالشدة في حجابه, حتى انقلب علي عليه السلام عن أنس بن مالك ثلاث مرات )) وهو (( خير البشر, بعد النبي صلى الله عليه )) بنص الخبر.
وأما السادس وهو المعذَّر في لزومه قعر داره, وحل أوتاره، فإنه على قسمين:
أحدهما: أن يكون صادقا على عظم المشقة وبعد الشقة، فيكون معذورا عند ربه, وداخلا تحت قوله: { ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الدين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله } , وقال: { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع خزنا ألا يجدوا ما ينفقون } ,فإن الله تعالى عذر النبي صلى الله عليه فيهم وعذرهم عنه، هذا ما لم يضم إلى عزمه ملاما, فيقترف بذلك حوبا وأثاما، فيكون معذورا غير مشكور، ومبتلى غير صبور.
والثاني منهما: أن يكون غير صادق في عذره, ولا منقوص في أمره، فهذا قد جمع بين وجوه من الإثم:
أحدها: الكذب.
---

(1/29)


والثاني: الاعتذار عن الواجب بما ليس بعذر.
والثالث: الطعن علينا, وخصم هذا ربه وهو المجازي عنا يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة، يوم الآزفة والطامة، ? يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا، وما عملت من سوء، تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ?.
وأما السابع وهو المعتذر بكثرة ماله, وصولة أطفاله، وترادف أشغاله، فجوابه في قوله تعالى: { سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا... } الآية. فإن الله تعالى لم يعذرهم بذلك, ولم يخرجهم من قسم مالك، وحكم عليهم بالمهالك، وعدل بهم عن نجاة المسالك.
وأما الثامن وهو الذي يعتقد أنه حُط عن منازل أمثاله, وقَصُر به عن درج أشكاله، فجعل ذلك عذرا عن الجهاد بنفسه أو ماله، فجوابه في قوله تعالى: { ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر } , وفي قوله تعالى: { ولا تمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } , على أنه لا يمتنع أن يكون اعتقاده في نفسه ذلك، وإمامه يرى أنه ليس ممن سلك في هذه المسالك، بأن يكون أقل كفاية, وأنقص ممن لحظه بالحسد عناية ورعاية، والإمام يؤثر اجتهاده على إجتهاد، وما رآه من المصلحة على مراده، { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } , على أن هذا إذا لم يجب على الإمام, لم يكن تركه مطعنا عند كافة أهل الإسلام, على فحوى ما تقدم من الكلام.
---

(1/30)


وهذه الأقسام التي ذكرناها لسنا نعم بها، فإنا قد قدمنا في صدر كتابنا أن الإمامة إنما قامت شواهدها ورسخت قواعدهابالعلماء والأفاضل من أهل البيت عليهم السلام، وأتباعهم من علماء الإسلام، وإنما قد علموا وعلمنا أن ما ذكرناه قد كان، ومع ذلك أنا لا ندعي عصمة مقطوعا بها في أنفسنا، وقد عاتب الله تعالى أنبياءه وعدلهم جرما وذنبا, من نحو قوله تعالى: { وعصى أدم ربه فغوى وعتب على الذاهب مغاضبا وامتحنته } , وامتحن يوسف عليه السلام بسبب قوله: { اذكرني عند ربك في آن أنساه الشيطان ذكر ربه } , وقال لمحمد عليه أفضل الصلاة: { عفى الله عنك لم أذنت لهم } , وغير ذلك, ولم يخرجوا بذلك عن أن يكونوا صفوته من خلقه, وأمناءَه على وحيه.
كذلك نقول: إن كان لنا ذنب في رأي أو غيره, مما لم نقصد به معصية ولا نتعمد على ربنا جرأة, من باب التأويلات وما يجري مجراها، فإن اختيار الله تعالى لنا للإمامة غير زائل, وحكمه بسبقنا على أهل عصرنا غير حائل، فإن عليا عليه السلام وهو الحُوَّل القُلَّب يقول في تولية محمد بن أبي بكر رحمه الله لمصر وعزل قيس بن سعد عنها:
لقد زللت زلة لا أعتذر ... سوف أكيس بعدهاوأ عتبر
وأجمع الرأي الشتيت المنتشر
وكذلك ولاتنا وأمراؤنا ومن يتصرف عنا, يحوز أن يخطئ الواحد منهم خطيئة يستحق بها عزلا وإقصاء وبعدا، ويجوز أن تكون خطيئته مما تبقى معها ولايته، فلا تبطل عندها سعايته، فيقوَّم من أَوَده, ويُشفى من لدده، ويقال ل‍ه: لعا من عثاره, ولا يزاد خطبا في ناره، ويجوز أن يكون فيهم المحسن كثيرا، ومن إحسانه أكثر من إساءته، ومن لا يقوم مقامه غيره, ولا يسد مسده سواه، ويجوز أن يكون فيهم من قد استتر عنا حاله, واختلف مقاله وفعاله, ولسنا نعلم الغيب, ولا ندعي العصمة التي عم الله بها عموم ملائكته وأنبيائه، وجاز أن يختص بها بعض أوليائه, من غير أن يقوم بها فيه دلالة, ولا يشهد له بها آية ولا رواية.
---

(1/31)


ونحن نقول: هلم إلى المعاونة على البر والتقوى التي أمر الله تعالى بها، وفتح بين المسلمين غلق أبوابها، حيث يقول سبحانه: { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ومعصية الرسول واتقوا الله إن الله شديد العقاب ? , وقد علمتم وفقكم الله وهداكم, وحرسكم عن معاصيه وكلاكم, طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعموم وجوبهما على الكافة مع تكامل شرائطهما, وشرائطهما بحمد لله فيكم متكاملة، وفروضهما على الجميع منكم حاصلة، فمن علم من أهل العلم أو غيرهم ممن يعرف المعروف أو ينكر المنكر من أحد من ولاتنا أو أمرائنا، ومن يتصرف عنا من أخ أو صاحب أو خادم أو متصرف في جليل أو دقيق خللا أو رأى منكرا، أو ظلما، أو عسفا، أو ضياع حق، أو جورا في رعية، أو حيفا في قضية، أو تسلطا على الناس، أو قلة التفات على الصواب، أو استخفافا بحقوق المسلمين، أو جهالة بحرمة الدين، أو قبيحا يختص به المقصود في نفسه, ولم يكن من باب الظنون والتوهمات التي تضعف أمارتها، أو مما يستند إلى المنقولات الواهيات، أو من التجسس الذي نهى الله تعالى عنه, أو من الظن الذي أخبر الله تعالى بأن بعضه إثم، وهو الظن الذين يستند إلى غير أمارة, أو إلى أمارة لا يُعتمد عليها، فقد قال تعالى: { ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا } , وقال تعالى: { إن بعض الظن إثم } .
---

(1/32)


فقد أمرناه بشيء قد أمره الله تعالى به، وهو أن يقوم بذلك الفرض، أو يغير ذلك المنكر، أو يقيم تلك السنة، أو يمحو تلك البدعة، أو يأخذ للمظلوم من ظالمه بحقه، أو يصغر المنكر في نفسه، أو يقوم المصغَّر من خده, قاصدا لله تعالى في فعله، لا لغرض يريده من إسماع قاله، أو تفخيم حاله، أو كسب هيبة، أو تحصيل جلالة، بل لما أمر الله تعالى به من تقويم الأَوَد في الدين، وقمع ما نجم من فساد المفسدين، فإن القاصد لما ذكرنا يبارك الله له في فعله،، ويمضي قوله, ويُتَّبع أمره، ولا يَقُلَ في نفسه: أنا صغير عن هذه المنزلة، أو صاحب هذا الفعل كبير، آن أمره وأنهاه، فإن كلمة الله هي العليا, وأمره هو الأولى، وليس أحد فوق أن يؤمر بتقوى الله, ولا دون أن ينهى عن معصيته، والقائم بأمر الله نائب عن ولاة أمر الله، من نبي أو وصي, أو إمام أو ولي، وما نفذ من ذلك ومضى, أصاب به الغرض لنفسه ولنا، وما تعذر عليه من ذلك لتعذر نصره, أو قلة قدره, أو عدم منفذ أو بُعد أعانة من منفذ, أنهاه إلينا, وبث شكواه علينا، فإنه يجد منا في كل شيء وضحت سبيله, وأنار دليله، ما يقمع كل ظالم, ويرد بغيظه كل آثم، ويصغر كل متكبر, ويذلل سلطانُ الله كلَ متجبر، وإلينا يرجع الغالي, وبنا يلحق التالي، ونحن أولوا الأمر المردود إليهم مشتبهاته، والمطلوب من لديهم أدلته وبيناته، قال تعالى: { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } , وقال تعالى: { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم } وهاتان الآيتان لنا وفينا أهل بيت النبوة، وأمرنا من أمر الله وطاعتنا من طاعته، ونحن عِدل الكتاب, والحجة الناطقة بالصواب,وقال صلى الله عليه: (( إني تارك فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا كتاب الله وعترتى أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض )) ، وهذا يكون في الجملة بالإتفاق من أهل البيت عليهم السلام ---

(1/33)


وأشياعهم، واتفاقهم حجة بما لا يسع هذا المسطور, ويكون في الآحاد منهم, وهم ولاة الأمر لما تقدم من الأدلة على وجوب الانقياد لولاة الأمر، والاقتفاء لآثارهم, والاهتداء بمنارهم، ولِماَ جعل الله تعالى لهم من الولاية التي حتمها، والزعامة التي أحكمها, ولما ورد به الأثر المنقول, في ذرية الرسول: (( إن عند كل بدعة يكون من بعدي يكاد بها الإيمان وليا من أهل بيتي موكلا، يعلن الحق وينوره ويرد كيد الكايدين، فاعتبروا يا أولى الأبصار )) ، وفي هذا أبلغ الدلالة على أن الواحد من ولاة الأمر، يقوم مقام الجملة في وجوب طاعته والتمسك بأمره، والأخذ بقوله, والاقتداء بفعله.
ونحن أيضا نقول: من صلح لأمر من أمرنا، من ولاية في قضاء، أو تصرف في قبض أو إعطاء، أو إمارة جيوش، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو دعاء إلى دين، أو إيضاح ليقين، فإنه يجب عليه أن يبرز صفحته لنا, ويعرض أمره علينا، وقد ألزمنا كل واحد ممن ذكرنا عراضة نفسه، والقيام بفرضه, ومعاونتنا على ما ذكرنا ومن تقاعد مع ذلك عنا كان كلامه واهيا، وحجته ساقطة، ونصحه غير مقبول، وباطنه مدخول معلول، ونحن نأمر بذلك جميع من وقف عليه، وبلغه من المسلمين من العلماء الراشدين, والمتعلمين المسترشدين، ومن يَقْفُوهم من سائر أهل الدين, فيما يتعلق بأمور أهل التقوى واليقين، لا سيما مع أمرنا بذلك لكافتهم, بعد أمر الله تعالى بالمعاونة لجماعتهم، وإن كان التكليف شاقا والأمر صعبا، فهو باجتماع المسلمين عليه يسهل، وبتظاهرهم على القيام بفرضه يتم ويكمل، والله تعالى أمر بالقيام بذلك عاما، وإنما جعل لهم من أنفسهم في أحكام ذلك الأمر نظاما, سماه هاديا وإماما، وأمرهم بتوقيره وتعزيزه, وتعظيم أمره وتكثيره، فعليه فرض وهو ألا يخل بما أمر به، وعليهم مثل ذلك في حقه, فأقل أحوالهم إن كانوا من المقصرين, أن يكفوا عنه المطاعن:
ليت حظي من أبي كرب ... أن يسد خيره خبله
---

(1/34)


فأما نحن في أنفسنا، فمن أشكل عليه أمر, أو اشتبه عليه حال في سيرة أو قضية, أو ولاية أو رعية، يختص بنا أحكامها ويتعلق بأكفنا زمامها، فليواصلنا أو يراسلنا على قدر إمكانه، كاشفا قناع المساترة, آمنا سطوة الجبابرة، فليعرض ما معه، ولينقد ما جمعه, حتى تميزه نُقّاده، ويتضح له إصداره وإيراده، ويكون قد رجع إلى من أمره الله بالرجوع إليه، واعتمد على من أوجب الله الاعتماد عليه، فإن آل محمد صلى الله عليه وعليهم هم ماء الحياة, وسفن النجاة، وهم الذين أوجب الله في كتابه مودتهم، وأوضح على لسان نبيه محجتهم، قال تعالى: { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } وقال صلى الله عليه وآله: (( مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق )) ، وإن كان لا يجب علينا بعد ثبوت الإمامة بالأدلة الواضحة, والبراهين اللائحة, المباحثة على السيرة، والاحتجاج على كل صغيرة وكبيرة، ولكن هذا زيادة في الحجة, ومحبة الإيناس والمعاونة على نفي الشبهة, لمن جاز أن يُلَبَّس على نفسه, أو تلتبس عليه جلية يقينه لعارض لَبْسِه، ولعل ذلك يكون زيادة في الإيمان, واستظهارا بالاطمئنان, لمن يجوز أن تعتريه الشبهات, أو تغيره عن سنن الرشد التمويهات، فإن الناس بين مستقيم وميال, ومختدع بلامعٍ آل عن سلسال زلال.
---

(1/35)


ونحن نعلن إلى كل مسلم, بالبراءة عن فعل كل مجرم، ونقول كما قال صلى الله عليه: اللهم (( إني أبرأ إليك مما فعله خالد )) ونعقب فعله بما عقب صلى الله عليه من جبر الخلل، وإقامة الميل إن وقع ذلك, مع أنا نرجو أن مكن الله في البسطة, وزاد في القدرة, حتى يرجع أهل الضلال عن ضلالهم، ويبلغ المسلمون إلى نهاية آمالهم, أن يزول كثير مما تعظم به الشبهة، ويقع بسببه الحرج على كثير ممن لم يرد مشارع البصيرة، فإن الضرورات عند تضايق الحالات, ألجأت إلى وقوع كثير من هذه المشكلات, من إنصاف من لا يستحق الإنصاف بفعله، وإنما يجيء به لضرره على المسلمين أو لنفعه الذي لا يقع منه إلا بأن يرفع في الدنيا وحطامها على أهل الدين، ويؤثر بالعطاء على المخلصين، وأن يكون بعد ذلك ما يكون من إظهار شعار الدين على الكمال, والعمل بما أمر الله به من غير إخلال، فإن كثيرا من أمور الدين مهمل, والمجمل في ذكره يغني عن المفصل، وعلينا بذل الجهد في القيام بالصلاح, والسعاية في علو كلمة الحق بالأموال والأرواح، وليس علينا أن يقع المقصود, بعد إبلاء المجهود:
لأمر عليهم أن تتم صدوره ... وليس عليهم أن تتم عواقبه
فنسأل الله تعالى أن يهدينا جميعا إلى الرشاد، وأن يعضدنا بالتوفيق والسداد، وأن يبصرنا السنة ويصرفنا عن البدعة، وأن يرزقنا الثبات على الحق، ويجنبنا مداحض الباطل.
وهذه الرسالة إلى إخواننا المسلمين على وجه الإجمال, والإشارة على ما نحن عليه من تراكم الأشغال، وتضايق الأحوال، فلينتفعوا بها ولْيَحْمِلونا على أحسن ما يحمل عليه مثلنا من مثلهم، أيدهم الله بهدايته, وأسبل عليهم ستر رعايته وحمايته. والحمد لله وحده, وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلامه. تمت الرسالة المباركة.
---

(1/36)


عهد لبعض أمرآئه وولاته
حسبنا الله وحده, هذه بصيرة وتذكرة, ليعتمد على العمل بما فيها [مَن ]أمده الله بتأييده، وضاعف عليه مواد توفيقه، وسلك به منهج الصواب، وأخذ بيده إلى موافقة مقتضى السنة والكتاب، وهي تتضمن أمورا مفترقة:
أما أولها: وهو على الحقيقة مجموعها، فيكون مدار أمره على تقوى الله تعالى في السر والجهر، وعلى كل حال من شدة ورخاء، وسراء وضراء، فإنه الأصل الذي له قصدنا, وعلى إيثاره في جميع أمورنا اعتمدنا، وبه يحصل العون من الله تعالى، والنصر على العدو والسلامة في الأولى والآخرى.
وبعد ذلك: فإن الله تعالى قد ولانا أمور عباده، وهو لا محالة سائلنا عن ذلك,(( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته )) ، كما ورد عن جدنا صلى الله عليه والسائل لا بد له من جواب، وهو لا يقبل سبحانه منا إلا الصدق, ولا يجازينا إلا على ما فعلناه, إن أصلحنا فجزاء ذلك ثواب جزيل, وثناء جميل، وإن غيَّرنا وبدَّ لنا فعقاب وبيل, وذم من الملك الجليل، فليلاحظ هذا الأصل أيضا ويعمل بمقتضاه, من السيرة المحمودة في رعيته، فإنهم عباد الله, أمر فيهم بالعدل, ونهى فيهم عن الظلم والجور، ولا راد لأمره, ولا معقب لحكمه.
فإذا قدمتَ أعزك الله إلى عملك, وموضع ولايتك، دعوت الناس قبل كل شيء إلى طاعة الله تعالى، من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والقيام بما افترض الله سبحانه بعد لك من الواجبات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، وموالاة أولياء الله، ومعاداة أعدائه، ومتابعة أهل البيت عليهم السلام في أقوالهم وأفعالهم، فإنهم سفينة النجاة, وماء الحياة، وباب حطة الخلق، وسبب نجاة أهل الحق، وبأولهم هدى الله تعالى هذه الأمة، ويهديهم سبحانه ويصلحهم بآخرهم, وتُعَّرفهم بأن إمامنا وإمامكم أمرنا فيكم بذلك, فاسمعوا له وأطيعوا.
---

(1/37)


وبعد ذلك تأمرهم بتسليم حقوق الله تعالى من أموالهم على وجهها, من غير أن يخلوا شيئا, ومن غير أن تطلب منهم سوى ما يجب عليهم، وتعلمهم أن من سلَّم ما يجب عليه طايعة بذلك نفسه، استحق رضوان الله والسلامة من عقابه، ومن امتنع عليها أخذناها منه كرها، ? وكان ثوابها لنا وعقابها عليه ? كما ورد الكتاب الكريم والسنة الشريفة، هذا في واجبات الأموال وهو العشر مما أخرجت الأرض, من كل قليل وكثير, لا يعتبر في ذلك نصاب, ولا يراعى بلوغ قدر معلوم.
وزكاة المواشي وهي: البقر والغنم والإبل، إن كانت في ولايتك، والزكاة فيها معروفة لا تكون إلا بعد بلوغ النصاب، ولا يعتبر في ذلك أن يجمعها الماء ولا المرعى، فإن ذلك كان رأيا رأيناه، ثم رأينا بعد ذلك أنها لا تؤخذ إلا مما بلغ النصاب من هذه الأصناف.
وزكاة أموال التجارة تطالبهم بها، وهي لا تجب في السنة إلا مرة واحدة بعد أن يبلغ النصاب، والنصاب في الفضة مأ تبادِرهم قفلة، وفي الذهب عشرون مثقالا, وفي ذلك ربع العشر بعد بلوغ هذا القدر المعروف، ومن امتنع عن ذلك أخذ منه ومثله, عقوبة في منع ما يجب عليه من حق الله تعالى، هذا في أموال التجارة, وفي أعشار الخارجات من الأرض.
ثم بعد ذلك تمنعهم من التظالم, والتهارج والفساد في الأرض، فمن ظلم غيره قمت مع المظلوم حتى يستوفي حقه, ويصل إلى غرضه، وحقَّرتَ الظالم وأدبته, إن تمادى في غيه وظلمه، حتى يرجع إلى الحق ذليلا حقيرا, على قدر خطيئته, وقدر ما فعل من الظلم.
ومن فعل معصية من معاصي الله مما يوجب الحد، سألت أهل المعرفة ممن هو في جهتك من أهل الثقة والأمانة والعلم بحكمه, فإن استحق الجلد جلدته، وإن استحق القطع قطعت يده بعد التبصر في أمره, بفتوى أهل الورع والثقة والعلم. وإن استحق القتل بالفساد في الأرض أيضا قتلته، فإن هذا حكم الله تعالى في المحاربين, وأهل المعاصي ذوات الحدود.
---

(1/38)


وما التبس عليك من هذه الأشياء, أو على صاحب جهتك الذي هو القاضي والعالم, رفعتم حكم ذلك إلى إمامكم، ليحكم فيه بحكم الله, ويأمركم فيه بما أوجب الله تعالى، فإن الله تعالى لم يترك حكما يجب علينا, أو يدخل تحت تكليفنا, إلا وقد دل عليه. ومع ذلك عند وصول الجهات تأمر لمن يصلح للقضاء في الجهات, ممن قد صار في يده منا ولاية ذلك، فتثبت أمره, وتشد أزره, وتعرَّفه أنك معرف لأحكامه, وقائم معه على ما حكم به وأنفذه, لتجري أمور الدين بالاستقامة في بلدك, وتأمره أن يولي الأوقاف والوصايا والمناهل والمساجد والطرق والفقراء، و يُصلح ذلك وأنت القائم معهم بما يجب, وما كان من أوقاف مصرفها بيت المال، كان ذلك عندك محفوظا حتى نُعلمك كيفية صرفه.
ومتى قبضت هذه الواجبات المأخوذة من الناس أخرجت ربعها وميزته, وأحطت علما بما في الجهة من الأيتام والضعفاء والفقراء والمسلمين أهل الحاجة، فأعطِهم على قدر ما يحتمله حالهم، فإن لم تبق شيئا فقد أصبت في فعلك, وفعلت ما أمرت به، وإن بقي شيء من ذلك، أنهيت علمه إلينا, حتى نأمرك فيه بما نعتمد عليه إن شاء الله تعالى، والثلاثة الأرباع تصرفها فيما قد تحملت أمره عنا من الخيل، وهي عشرون فارسا أجوادا, أهل عُدد وكمال في السلاح والآلة، وأربعون راجلا من أهل الشجاعة والنفاسة, لا يطلبون منا بعد ذلك شيئا في وقت حرب ولا سلم.
وهذه وإن كانت زكاة وهي محرمة على الأشراف, لنحاسب بها ربنا ونتحرى فيه بعد العلم بمقدار ما يخلصنا.
---

(1/39)


وإذا جنى رجل جناية أو أحدث فسادا أدبت فيه بقدر ما يحتمله، فإن جهلت مقداره بلَّغ رسولك إلينا حتى ندلك على ما نعرفه مما يخلصنا ويخلصك إن شاء الله، ولا تستعمل في جهاتك إلا أهل الثقة والأمانة والدين، فإذا عدمت أهل الدين ولَّيتَ من لا يخونك, ومن يحتفظ بما يُحصَّل، فإن كان قليل الدين جعلت عليه أيضا من يترقب عليه، لئلا يتعدى على المسلمين, ولا يأخذ منهم ما لا يجوز, وعليك التحري في ذلك بجهدك، وهذه السبيل هي سبيلي أدعو إليها وآمر بها، فمن سمع ما دعوته إليه أو أمتثل ما أمرته فهو موافق لغرضي. وأنا إمامه ومن خالف ذلك فأنا بريء من فعله فيما بيني وبين الله تعالى، وهذا لجميع من تولى مني واستعملته على عمل, فمن أحسن فإحسانه لنا يوفقنا لمرضاته. والحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد وآله الطاهرين وسلامه. تم ذلك.
---

(1/40)


عهد آخر
حسبنا الله وحده، وهذه الولاية أمانة, عَهِدَ إليه فيها إمامه عهدا, عليه القيام به والعمل بما تضمنه، وهو أنه أمره بتقوى الله وإيثار طاعته, على جميع الحالات في الغضب والرضى، والسر والجهر، والقرب والبعد، وأن يجعل ذلك أساس أمره، والأصل الذي يرجع إليه.
وبعد ذلك بالنظر في أمور الجهات, والمعرفة بأحوالها على التفصيل, وجباية خراجها، فما كان عشريا أخذ منه العشر, من قليل ما يخرج من الأرض وكثيرة، إما خرصا يتحرى فيه خارصه موافقة المقصود من غير زيادة ولا نقصان، بحيث أن صاحب المال إن تصور الزيادة عليه كان الخارص بأخذه مما خرص طيبة بذلك نفسه، ويسلَّم ما يخص صاحب المال، وإما قسمة تمييز حق الله تعالى من حق غيره, من غير إضرار بصاحب المال, ولا تفويت لما وجب إخراجه لله تعالى من الحق، ويولى ذلك من يثق به من أهل الديانة والأمانة والمعرفة بمواقع ما ذكرناه، فكم من أمين!! ورُبَّ وَرِعٍ يعجز عن استيفاء ما وجب ويضعف عن ذلك, وإن عدم صاحب الورع والدين لم تعدل عن صاحب الأمانة، لأنها الأصل فيما ذكرناه، لأن كثيرا من ذلك بمنزلة الوكالة, لا يعتبر فيها العدالة، وإنما يعتبر فيها أن يكون صاحبها أمينا فيما وُكَّل فيه، كذلك ينبغي لمن أُمر بقبض الحقوق أن يكون أمينا في القبض على وجهه، والتسليم إلى مُوَكَّله فيما يغلب على الظن, ويقضى به النظر والتحري.
وما كان خراجيا من ذلك لم يؤخذ فيه إلا ما وضع من الخراج, وهو الذي يضعه إمامه, وتفصيل البلاد الخراجية والعشرية يكون تعريفه في غير هذا الكتاب، وإذا قبض ما ذكرناه من عشر وخراج ميز كل شيء عن نقيضه, ليصل كل شيء إلى مستحقه، ويُصرف إلى مصرفه, وآمره أن يسلك بالرعية المطيعين مسلك العدل والترفيه, من النظر في أمورهم، والاستماع لشكواهم, والقرع لقويهم عن ضعيفهم، وإنصاف مظلومهم من ظالمهم، والرحمة لهم والتحنن عليهم، فالنبي صلى الله عليه يقول: (( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته
)) ,وأن تشتد وطأته على المفسدين والمرجفين,وأهل المعصية لله والتمرد عن استيفاء الحقوق, من غير أن يأخذهم بغير ما جنوه, أو يقبل فيهم ما لا يلزم به الحكم.
---

(1/41)


وأن تكون سيرته إذا دخل بلدا أمر أهله قبل كل شيء بطاعة الله, من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة،، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإيفاء المكيال والميزان، والقيام بالمصالح، والبعد من أعداء الله، والقرب من أولياء الله، وتوفير ما يلزمهم إخراجه بعد ذلك، والجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فإن ذلك سنام الدين, وبه استقامت قواعد التقوى، وخمدت نيران أهل الباطل، وجُعل له الولاية في أن يأخذ أجرة عمله مما يجوز لمثله من الأشراف, من خراج أو خمس أو شيء يؤخذ من غير الزكاة، فإنها محرمة على بني هاشم, كما وردت به السنة الشريفة. وفي الحلال مندوحة عن الحرام, والله تعالى أحق أن يتقى معاصيه، وآمره أن يفتقد علماء الجهات وذوي التدين منهم، فيجري عليهم كفايتهم من ربع الواجبات المأخوذة, من غير إضرارا بالضعفاء والأيتام في قدر ما يخصهم، وأن يتحرى في تقسيط ذلك بجهده، وأن يولي على ذلك على الخصوص من يوثق به في القبض والتفريق، وأن يكون عينا على أهل الحصون في ولايته، ليكون كل منهم واصلا إلى حقه، ويكون المخزون فيها معلوما مقدَّرا مُعَدّاً لوقت الحاجة، وعليه الرجوع فيما يغتر به من المشكلات, وينوبه من القضايا المدلهمات, إلى إمامه إن كان قريبا يتمكن من الرجوع إليه في ذلك, قبل فوات وقت الحاجة فيما دهمه، فإن كان بعيدا أو الوقت ضيقا, يرجع إلى من في جهاته من العلماء, أهل الورع والدين والبصائر، وليتحرى أعلمهم وأفضلهم في جميع الخصال، فليعمل بما يأمره به, وليكن معه في جميع الحالات من أهل العلم والورع والصلاح ما يقارنه ويباشره، فالمرء يتحلى بحلية قرينه من صلاح أو غيره، وليبعد عن مجلسه في جميع حالاته أهل الفجور والفسق والمجون، فإن الأمر جد, والقصد أن يرضى خالقه,
ويتخلق بأخلاق آبائه عليهم السلام، وهذه سننهم.
---

(1/42)


وليصمم في الأمور تصميم المجد، فإن الدين لا لعب فيه, وهو مسئول عن دقيق أموره وجليلها، وقد صار إمامه يعتذر إلى خالقه به عند السؤال, وليكن باطن أمره فيما ذكرناه من طاعة الله كظاهره بل أبلغ، فإن السريرة المحمودة التي بين المرء وربه يجازى عليها فاعلها بالتأييد من خالقه, والثبات والتوفيق. فنسأل الله تعالى أن يرزقنا ذلك.
وعليه أن يترك في كل بلد من الحكام من قد وليناه ذلك, ويشعره بإنفاذ ما قد أُمر به، ويجعل معه من يشد أزره, ويمتثل أمره, ويعينه على ما صعب من أحواله, ليكون المصالح جارية على ما أمر الله تعالى به، وأن يوقر أهل الدين ويلطف بهم، ويعظم حقهم, تقربا إلى الله تعالى، فإنهم أولياؤه, ويصغَّر أعداء الله المعروفين بالمعاصي، فإن ذلك حكم الله وسنته, ? ولن تجد لسنة الله تبديلا ?.
ومن جنى جناية على غيره لم يتعرض بالشدة عليه فيما فعل, حتى يستنصف منه المجني عليه بما يقتضيه الحكم، ثم بعد ذلك إن كان يستحق عقوبة أستأمر إمامه وعمل بحسب ما يأمره, وإن كان لا يستحقها فقد خرج من حق صاحبه طوعا أو كرها.
ومن فعل ما يوجب الحد، واستحق ذلك بقول الإمام, أو قول حاكم البلد المنصوب فيها, المتحري المتثبَّت، أمضيت ذلك عليه, من غير معاداة بمال ولا غيره, ولا محاباة في دين الله، فإن الذي انتهكه من معصية الله أعظم من كل عظيم، والنظر في الاستحقاق, وطلب الإسقاط بالشُّبَه ودرئها بما يقتضي ذلك إلى الإمام أو الحاكم، وعليك الإنفاذ عند الأمر بذلك من غير تأخر، وعليك أن تمنع الناس من إثارة الحروب فيما بينهم والتطالم، وتظهر عليهم الشدة في ذلك، وتأخذ على أيديهم، فإن النهي عن المنكر يقتضي ذلك، والنظر في المصالح يشهد بما ذكرنا.
---

(1/43)


وقدَّر عند نفسك وصوَّر عندها أن هذا العمل الذي توليته أمانة في عنقك, وليس بطعمة لك ولا مال، إنما هو مال الله وأمانته، فاحمله بما حملت به الأمانة، واعمل به بما عمل به ذوو الخشية على نفوسهم من سخط الله، فالدنيا ليست بباقية ولا دائمة، وعقاب الله دائم, وسخطه مهلك، فنعوذ بالله من شرور أنفسنا، فإنها أمارة بالسوء، و ? هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } , ومن فعل خلاف ما أمرته, أو مالت به نقيصته عما ذكرته له، فأنا بريء من فعله عند الله أشهد ربي بذلك، وهذه البراءة فيما لم أعلمه وما علمته، فأنا من دون ذلك بالشدة والتغيير والإنكار قولا وفعلا، وأسأله المسامحة وهو ولي التوفيق والإعانة. والحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلامه. تم ذلك.
---

(1/44)


رسالة جواب على الشيخ عطية النجراني
وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلامه، كانت وردت المطالعة من حضرة الشيخ الأجل الفاضل خصه الله بالسلام التام, فصدرنا جواب المكاتبة على وجه العجلة, متضمنا للوعد بما يأتي من الجواب عما سأل عنه من المسائل، وإنما قدمنا ذلك الجواب مخافة التفريط في أمر إن كان، لأنا كنا في أشغال ملمة, واهتمام بأمور مما يصلح أمر الأمة، نسأل الله تعالى أن يعيننا على صلاح أنفسنا خاصة، وصلاح الأمة عامة، وأن يجعلنا في الآخرة من أهل الفوز والنجاة، كما جعلنا أبناء الأئمة الهداة، وأن يأجرنا بأعظم الأجر, لما تحملنا في ذاته من مكروه الأمر، فلا مفزع لنا إلا إليه، ولا توكل منا إلا عليه، ولا ثقة إلا به، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله الذي أيدنا بالتوفيق في ما ندبره, وتغمدنا بالإصابة فيما نورده ونصدره، وهدانا إلى الصلاح فيما نحل ونعقد، وأسعدنا بالمعونة فيما نزرع ونحصد، حتى لا يغلب الهوى على رأينا، ولا نستشعر إلا الأصلح في كل أعبائنا، وله الشكر على ذلك كثيرا, بكرة وأصيلا.
وبعد ذلك فقد تحققنا ما ذكرته ـ أبقاك الله ـ في عنوان كتابك,من مناصحتك وحسن قصدك, وصلاح نيتك، وقديم مودتك, وما ذكرته في أثناء كتابك من مخافتك من الله عز وجل في مودتنا وكثرة التعمق في محبتنا، لما التبس عليك من أمرنا, وأشكل عليك من غوامض أحكامنا, وما جرت عليه سيرتنا، وقد كنت عندنا بعيدا من التقصير, غنيا عن التنبيه والتبصير، ولم نكن نظن أنه يشكل عليك من الأمر ما أشكل,

(1/45)


ولا أنه يلتبس على مثلك ما التبس، وذلك لما نعرفه من حسن رؤيتك, وحدة نظرك, وكثرة نصيحتك ومعونتك، وقد عجبنا من أمرك!! وكيف خفي عليك ما كنا نظن أنك أعرف به من غيرك؟! حتى أدى إلى إفساد ما ذكرت من مودتك لنا ومحبتك، وقد ميزتُ بين حقك علينا وجفائك لنا، فرجح عندنا حقك, بعواطف الرعاية لمثلك، وتذكُّر قديم المعاونة منك, والمحبة التي كانت لنا لديك، فرأينا إنصافك وإتحافك، وأن نطرح المكافأة على كل جفاء, ونعمل لله تعالى بالوفاء، ولم نعتب شيئا من النصائح الجارية من المسلمين، وإنما عتبنا ما يقع من المبادرة بالقطع على غير يقين، وقد جعل الله تعالى واسطة بين أن يقطع المرء في أخيه على الإيمان، أو على الفسق والعدوان، وهي التوقف والتحري، فهو أولى من القطع على التفسيق والتبري.
والآن نجيبك فيما ذكرت, ونسامحك في كثير مما صدَّرت، ولسنا ممن إذا قيل ل‍ه: اتق الله أخذته العزة بالإثم، ولكنا نجيب أهل الفضل والعلم، ونتردى برداء الكرم والحلم.
---

(1/46)


أما ما ذكرته ـ أيدك الله ـ من حوادث نجران، وما جرى فيها من قتل الأسير, والإجهاز على الجريح، والقتل على الذمة، فلسنا نعتذر في قتل الأسير والإجهاز على الجريح، فإن ذلك هو حكم الكتاب والسنة، وبمثل ذلك يُتقرب إلى الله قال تعالى: { فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } وما قتلنا أسيرا قد فاء إلى أمر الله عز وجل ولا رجع إلى طاعته، ولا قتلنا إلا من له فئة يرجع إليها، ولا كان أحد من أولئك الأعراب الجفاة براجع إلى ذلك ولا معتمد عليه, ولا قاتلونا على بصيرة, ولا قاتل أكثرهم على شبهة لَحِقَتْه، وإنما قاتلوا على الجهل والحمية حمية الجاهلية، والتصميم على الظلم الظاهر، فبينهم وبين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله تفرقة ظاهرة, إن كان أشكل عليك ترك عليّ عليه السلام لبعض أسرى أهل البغي، ومسامحته له في القتل، وقد أمر علي عليه السلام بقتل ابن اليثربي بعد أن أسره عمار رضي الله عنه، وما قتله بقصاص، لأن ولي القصاص غيره عليه السلام، وغيره قاتله، وإنما قتله لمجرد بغيه، فقال بعض العلماء ذلك لأن الفئة كانت باقية، والحرب قائمة, ونحن فعلنا كمثل ذلك، فإن حربهم ما كانت بمنقضية لو قدروا على أمر من الأمور، وأيضا فإنا ما قتلنا إلا من خشينا منه الفساد والمكر، وقتلُ المفسد جائز بحكم الكتاب، قال تعالى: { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين إينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقيلا } وقد نص الإمام صلوات الله عليه على جواز قتل المفسد لغير الإمام، وكذلك حكم السيد أبو طالب عليه السلام, والقوم الذين لقيناهم في تلك الحرب هم كانوا من شياطين الإنس, وفراعنة العرب, ودهاة القبائل, من خولان ومذحج وهمدان، وكان مكرهم شديدا, وفسادهم عظيما، ولو استولوا على الأمر في تلك الفتنة لأهلكوا الحرث والنسل، ولا يعرف هذا إلا من له خبرة ---

(1/47)


بهذا الأمر، والتدفيف على الجريح هو فعل علي عليه السلام في مولى بني أمية وغيره، وآيات القرآن الكريم عمت بالقتل ولم تخص أسيرا ولا جريحا, ولولا ورود التخصيصات في بعض المواضع لكانت على العموم، ولنا أن نفعل ما فعله الإمام السابق, إلا ما خصه الدلالة, من إقامة الحدود، وصلاة الجمعة، وأخذ الزكاة كرها, لأجل عمومات القرءان، وتحريم التخصيصات إلا فيما ذكرنا، والظن ظننا لا ظن غيرنا، وإلا فما الفائدة في انتصابنا متى حكمنا عن غيرنا؟!
ولو قتلنا من جاز قتله في الظاهر, وإن كان بخلاف ذلك في الباطن، فالعوض فيه له على الله عز وجل، لأنا فعلناه بأمره, وقد عم الله تعالى في العتاب في الأمم الماضية الصغار مع الكبار, ولا ذنب، ولكنه تعالى تحمَّل بالعوض لهم, وفي شريعتنا أمر الله بأخذ الصغار, وتملُّكهم ولا ذنب لهم، وأمر بإقامة الحد على التائب ولا ذنب له، وهذه أمور شرعية يجب الإنقياد لها, وإن لم يظهر وجه الحكمة فيها, لكونها واردة من حكيم لا يتهم في حكمه, ولا يُستخان في شيء من أمره، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وآله الفداء من عمه العباس، وإن كان خرج مكرَها، وقال: (( ظاهرك مع القوم )). وأجرى أحكام المسلمين كلها على المنافقين الذين يعلم نفاقهم بإعلام الله تعالى له، ذلك لما أظهروا الإيمان, والأخذ بالظاهر ـ رحمك الله ـ هو الواجب في الإسلام والشريعة الشريفة حماها الله عز وجل.
ومن هاهنا يجب على مَن علم بظاهر أمرنا,وهو الدعاء إلى الله تعالى وإظهار القصد الصالح ,أن لا يجري علينا إلا أحكام الظاهر, ولا يتعسف بحكم الباطن، وتَعَرُّف ما لا يُعلم، فإن ذلك هو طريق النجاة لمن طلبها.
فأما القتل على الذمة، فما قتلنا أحدا أبدا، ولا علمنا ذلك من أحد من جندنا، ولا من أحد من أخدامنا، ونحن نبرأ إلى الله تعالى وإلى عباده من أن نفعل ذلك, أو ندين به أو نضمره أو نأمر به، ولا يفعل ذلك إلا مارق عن الدين، مائل عن الشريعة الشريفة.
---

(1/48)


فإن ُقتل أحد ولا نعلم ذلك بغير أن يعلم بالذمة، فعلى المدعي لذلك البينة، وعلى بيت المال ضمان ذلك، ولا يضيع الله تعالى على أيدينا حقا من الحقوق، ولا يلزمنا ما ينسب إلينا, ويُتجنى علينا, ولا يحل لمسلم أن يعتقد ذلك فينا، وكيف يعتقده ونحن نبرأ إلى الله منه؟!
وعليك البحث وعلينا الإنفاذ للأحكام الشرعية، وليس لك أن تصدق بكل ما تسمع فينا، ولا أن تجعل الأصل جنايتنا وعصياننا، بل تجعل الأصل ما جعله الله عز وجل وهو الإسلام في دار الإسلام، ودع عنك التعسف وقبول كل كلام، فإذا تحققت المعصية فعليك الإنكار بالتلطف والكلام اللين، قال تعالى لموسى وهارون وهما أفضل أهل زمانهما, حين أرسلهما إلى أخبث أهل زمانه، وأهل كل زمان: { فقولا له قولا لينا } , وقد علم تعالى أنه لا يقبل اللين ولا القاسي، وإنما ذلك للإعذار والتلطف في الأمر كله، والتأديب لعباده، ولا تطلب بهذه النصيحة إلا ما يختصك لنجاتك وخلاصك, بينك وبين الله عز وجل لا لأمر يرجع إلينا، فما ذلك بضآرٍ لنا, ولا مخل علينا، نحن لا نعتصم إلا بالله، ولا نرجع إلا إليه، ولا نعتمد إلا عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ولو أعاننا الناس بنفوسهم, لسهلت علينا الأمور وعليهم، ولسلموا من الذنوب، ولكنهم أطاعوا الهوى وأساءوا الظنون، وتحملوا من الأمر ما لم يأمر به الله عز وجل, مع سماعهم لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن أثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعض أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه } , فالله تعالى نهى عن ظن السوء, وزجر عن الغيبة وشبَّهها بالميتة.
---

(1/49)


وقد علمت رحمك الله أن آكلها فاسق، ومستحلها كافر، فينبغي أن يكون التحري في الإقدام على الظنون والأوهام، والاغتياب أعظم من التجري والتشكك في الترك، فالخطأ في الترك أخف من الخطأ في الفعل في الأكثر، فليس لك رحمك الله أن تأخذ بقول مغتاب عتاب، قد خلص إلى حزب الشيطان، وخرج من حزب الرحمن، يقول بما لا يعلم, ويعتمد على ما يجهل، حتى قال فلان عقد وأرذم, ونقض العهد والذمم، فإن الأمر عظيم, والخطر في ذلك جسيم. قال علي عليه السلام: (( أيها الناس من عرف من أخيه وثيقة دين, وسداد طريق، فلا يسمعن فيه أقاويل الناس، أما أنه قد يرمي الرامي وتخطئ السهام )).
واعلم أيدك الله أنه لا يحل لمسلم أن يرمي مسلما بأنه نقض العهود والذمم, من غير أن يتحقق ولا يعلم، ولقد كان ينبغي لو علم ذلك وتحققه, أن يستر على أخيه ويرحمه, ويحمد الله تعالى على معافاته من مثل ذنبه، ويشكره عز وجل على ستره عليه في ذنوبه، وأنه كتم عليه تعالى ما كان يكره أن يظهر على غيره، فما من أحد إلا وله ذنب، فكيف يعيب أخاه بذنب لم يتحققه, وينسى ستر الله عز وجل عليه في ذنوبه، فلا يلحقنا غم ولا حزن والحمد لله إلا مخافة أن تُهلك الأمة أنفسها فينا بظنون السوء، وقبول الغيبة والكذب, مع طلبنا لصلاحها, وتحرينا بجهدنا لسدادها، فنسأل الله تعالى أن يعظم لنا الأجر، ويحملنا على مطايا الصبر, حتى لا نهلك فيمن هلك, ولا نعطب فيمن عطب.
---

(1/50)


فأما قولك ـ أيدك الله ـ وصدر الكل من المجلس والحسبة غير ثابتة، بل هي موقوفة على المراجعة، فما الحسبة ـ رحمك الله ـ تثبت بتثبيت أحد من الخلق, ولا تحتاج إلى أهل الحل والعقد، قال الله تعالى: { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } , فأمر تعالى عباده الصالحين بالدعاء إلى الدين, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأوجب لهم الطاعة من غير عقد، وقال تعالى: { ومن أحسن قولا ممن دعاء إلى الله وعمل صالحا وقال أنني من المسلمين } , وقال تعالى: { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم } , ولو كان إجماع الخلق شرطا في ثبوت الولاية لأولياء الأمر، لما صحت ولاية سيد المرسلين صلوات الله عليه وعلى آله الطيبين، ولا ثبتت إمامة الأئمة الهادين، لأن الخلق كلهم لا يجتمعون على ذلك أبدا، ولا يدينون به أصلا، وقد ورد بذلك نص القرآن، وحكم بأن الأكثر هم أهل العصيان، وقد شك الناس في رسول الله صلى الله صلى الله عليه وآله، فما انهدمت بذلك نبوته,ولا زالت بالشك فيه ولايته، وقضت طائفة بهلاك أمير المؤمنين, عليه سلام رب العالمين، فما صار بذلك من الهالكين، وإنما الصلاح راجع إلى موافقة رضاء الله تعالى، والفساد راجع إلى انتهاك معاصيه عز وجل، ونحن نسأل الله تعالى أن يصلح لنا سرائرنا, وأن يطهر لنا ضمائرنا، وأن يصقل قلوبنا بهدايته، وأن يشغل جوارحنا بطاعته، وأن يحول بيننا وبين معصيته, بحقه العظيم، واسمه الكريم, إنه قريب مجيب، ويصلى على محمد وآله.
---

(1/51)


وأما مال ابن زيدان وما وقع فيه من الاستهلاك بالأخذ والخراب، فنحن ـ أيدك الله ـ أعلم بابن زيدان منك، فقد تحققنا منه الكفر الصريح, الذي لا تصح معه منه قربة, ولا يتقبل معه منه حسنة، وولده وأصحابه كلهم تابعون لأمره, موالون له على فعله, و ? لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم... } الآية. هذا مع ما كان عليه من الظلم الظاهر، والعدوان المبين، والمكر الكبير، والفساد الذي أجمع عليه المخالف مع الموالف, ولنا أن نحكم بما علمنا, ونعمل بما عرفنا, ولا أقل أن يكون حالنا كحال الحاكم في ذلك، فالأمر إلينا والظن ظننا بحكم الله تعالى، والانقياد علينا وبأيدينا.
---

(1/52)


وإذا كان كافرا مرتدا وأصحابه مثله بحكم القرآن، كان بمنزلة من لا وارث ل‍ه, فمصرف ماله بيت مال المسلمين، ولنا أن نقبضه لبيت المال، ولنا أن نخرب عليه ما رأينا صلاحا من الديار والعمران، وإن كان لو ترك لكان لبيت المال، فإن عليا عليه السلام حرق مال المحتكر, وكان بقاؤه لبيت المال أصلح, وأخذ نصفا وأهلك نصفا، وكان الكل لبيت المال أربح، وعاقب بعضا بالمال، وبعضا بالإحراق، وبعضا بالقتل والطرح، وعفا تارة وأخذ أخرى، وكل ذلك شريعة النبي المصطفى, صلى الله عليه وعلى آله النجباء، وليس ذلك شيئا يختص الأئمة، ولا يجد القائل أبدا بذلك علة، ولو صح مثلا ملك ولده فلنا أن نعاقب ولده بأخذ ماله، فهوعلى مناج أبيه وخاله، وقد عاقب علي عليه السلام بأخذ المال، وورد ذلك عن النبي المختار, صلى الله عليه وعلى آله الأطهار، وإلا فاسأل هُدِيتَ عن قصة الصائد في الحرم، وهو مأثور عن سيد العرب والعجم، ومن وجد بحكم النبي على مانع الصدقة, فقد نجحا من تبعة وصدَّقه، حكم بأخذ النصف من ماله, من غير توقف في حاله، وإن شئت فقل أخذناها تضمينا، وإن شئت فعقوبة، وإن أحببت فميراثا لبيت مال المسلمين، فهذه كلها وجوه صحيحة، ووجه واحد فاسد، وهو أن يكون أخذناها ظلما وعدوانا، وأنت قد علمت أنه يجب على المسلم أن يطلب لفعل أخيه وجها حسنا ليحمله عليه, ولو كان بعيدا متعسفا، فكيف إذا كان لا يجد فيه من القبح إلا وجها واحدا؟! ويجد فيه من الحسن وجوها كبيرة؟! ومع ذلك إن بعض الخراب وبعض ما جرى في البستان لم نكن علمنا به، ولا أمرنا به، فما جرمنا فيما لم نعلم، وماذا علينا فيما لم نفعل، { ولا تزر وازرة وزر أخرى. } , ولا يجب إنكار المنكر بعد فراغه، ولا مطعن علينا في تركه.
---

(1/53)


ونحن ـ حفظ الله ـ قد ابتلينا بأهل زماننا حاشى الشيخ الفاضل، فإنهم يتطلبون العثرات، ويسترون الحسنات، ويتبعون الأهواء، ويواصلون الأعداء، ويعادون الأولياء، وما أكثرهم ينكر منكرا لكونه منكرا!! ولا يهتم إلا بما يخشى على دنياه فيه ضررا، وإنهم ليطلبون علينا أمرا لو قد وقعوا على حقيقته لعرفوا أنه هلاكهم ودمارهم, وذلهم وصغارهم، فنحن الدافعون عنهم وهم اللائمون، ونحن الحماة عن دينهم وهم الخاذلون، ونحن الرافعون لمن اتضع منهم وهم لنا واضعون, وإن أعراضنا عليهم كالميتة المحرمة، فليستقل رجل من أكلها أو ليستكثر، فما هو برابح ولا ضائر لنا، وما يهلك إلا نفسه, والله له بالمرصاد.
وظني ـ رحمك الله ـ أيها الشيخ أنك أنت وكثير من أعوانك العُدد لنا, والجُنن علينا, والبطانة التي يتقى بها, ويعول عليها، فأحذرك وإياهم أن يخلف الظن فيكم، أو تخيب المخيلة عندكم، وأعينوني بنصيحة جلية من الغش، سليمة من الريب، فأنا لكم أعظم معين في دينكم ودنياكم، فلا تستصغروا أمرنا، ولا تنسوا مواقفنا, وحمايتنا على مذاهبكم وأديانكم، والله تعالى أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعا لمرضاته بحق محمد وآله.
وأما قولك إنا أخذنا مَن ضمن لنا بمال العقوبة التي على ابن زيدان، فلك العلم ولغيرك الجهل. أما علمت أن العقوبة بالمال جائز، وأن الضمانة بها صحيحة، وأن الضامن غارم، فأَين أنت عن هذه المعالم, إنك بنيت الأمر على أن الآخذ ظالم، وإنه في فعله غير سالم، ولو بنيت على أساس, لما دخل معك التباس.
وكذلك جوابنا في قولك: إني سلطتهم عليه.
---

(1/54)


وأما قسمك أنك تحب خلاصنا عند الله عز وجل، فنِعْمَ ما فعلت, وأنت مجازى على ما أضمرت، ونحن نصدق قسمك, ونعرف بقديم نصيحتك، ونقسم لك بالله تعالى أنا نحب خلاصك أيضا، وخصوصا مما يتعلق منك بنا من الظنون, وقبول الأقوال وغير ذلك، وذلك بأن لا تحملنا على أقبح الوجوه، ولا تقبل فينا الكلام، ولا تتطلب العثرات، بل تفرح بما يستتر عنك منا، ولا تحمَّلنا أيضا ذنوب غيرنا من ولاتنا وخدمنا متى وقع ذلك بغير علمنا، ولا تطلب بهذا إلا خلاصك لأجل التقريع لك, ولا التوهين لأمرك, ولا السخط عليك، فأنت عندنا بالمنزلة الرفيعة, والدرجة العالية، ولا أحب إلينا من مُناصحنا في ديننا, والمعين لنا في طاعة ربنا عز وجل.
فأما قولك: إنه ما حصل لنا منهم برأ تعني الضامنين بالعقوبة, فهو خوف وحياء، فذلك مما نعتبه عليك، لأنا نعلم أنك لا تعلم باطن ضمائرهم, ولا تتحقق ما تكنه جوانحهم، ولا ينبغي لك أن تأخذ مما تحدسه وتظنه، ولا أن تعتمد على ما لا تعلمه، فبعض الظن إثم، فَحَكَّم على الجهل العلم، واستعمل الورع والحلم، فليس أحد فوق أن يؤمر بتقوى، فإن الكل عبيده وأهل خدمته، فلا حرج عليهم فيما يؤمرون به من طاعته, مع أن الحال في الضمانة ما ذكرناه أولا.
---

(1/55)


فأما ما ذكرته من جهة الكتاب الواصل من الإخوان, وما جرى من نبذه وترك جوابه، والكلام على الفقيه أحمد بن مسعود, فما ذلك ـ أبقاك الله ـ بمستنكر لمن هو في مثل مقامنا ولا أكثر منه، ونحن منتصبون لتأديب المسلم, ورد الشارد، ورد الناسي والغافل، وذلك يكون تارة بطرح الرقع ومرة بترك الجواب، وحينا بالشدة بالكلام، وقد كان علي عليه السلام يؤدب بالدرة، وكذلك عمر بن الخطاب بمحضر الصحابة، ويؤدبون بالجلد وبالحبس وبالكلام، وهذا من الظاهر بين الأنام، والرجلي يعمل مثل ذلك بولده وهو من أهل مؤدبه، ولا يدل ذلك على عداوته وبغضته, ولسنا بدون الشيخين أبي بكر وعمر، ولا أحمد بن مسعود يبلغ منزلة سعد بن أبي وقاص، وأنت تعرف (( الحديث في ذلك )).
فأما حديث الصاعنين وأهل العرضى، فذلك مما لا نرجع إلى الشيخ ولا إلى سواه فيه، لأنه مما يرجع إلى نظرنا ومعرفتنا، ونحن أسكناهم الجهة, وجعلنا لهم خمس ما يحصل في زرائع الرعية, وعليهم حفظهم والجهاد أيضا والخدمة، ولو تركناهم لَلَحِقَهم ما لحق أهل بيت أكلب، وأهل المحظور في هذه الأيام، أما من طلب ظاهر الإنكار بغير بصيرة، فذلك مما لا يلتفت إليه.
فأما ما ذكرت ـ أيدك الله ـ من قبل الأمر بالخيل إلى الغز، وقولك: إن ذلك لا يجوز خصوصا في وقت الهدنة، وأن الإمام سلام الله عليه ما كان يفعل ذلك إلا لأجل الضعف في الإسلام، وما أشبه هذا الكلام.
فنحن نُعرَّفك أسعدك الله من ذلك ما لم تعرفه، وهو أنا ما أمرنا بشيء من الخيل إلا لمصالح عائدة على الإسلام، لكافينا الكفرة الطغام ، فنتحت هذه الأفعال التي يراها وجوه حسنة يخفى عليه وعلى أجناسه، ويجب الحمل فيها على السلامة، ولو جعل الدين والورع, لكان أسلم له وأوسع، وليس من رأى الزراع يطرحون البذر في التراب يصلح أن يعدهم من أهل التبذير، وإذا قطع الحكيم اليد المأكولة يُعد من أهل التعزير, والتقصير.
---

(1/56)


وعلى الجملة { ففوق كل ذلك علم عليم } , وإنما يحرم بيع الكراع والسلاح من الكفار لما فيه من التقوية لهم والتمكين، فأما إذا كان ذلك لمصالح المسلمين, ولما يقع من التخذيل للمفسدين, والتوهين لأعداء رب العالمين، فذلك من عظيم الواجبات عند رب العالمين، لأن ما لا يتم الواجب إلا به يكون واجبا كوجوبه، والأمر فيه ظاهر.
وأما ما ذكرت من إجماع أهل البيت عليهم السلام أن ذلك لا يجوز، فليس ذلك على الإطلاق، وإنما لا يجوز متى لم يكن على الوجه الذي ذكرناه وما يجانسه.
وأما ما ذكرت ـ أيدك الله ـ من موالاتك لنا, وأن محبتك لنا لا تتم إلا بعد التخلص مما يجب التخلص منه، أو بأن نبين لك وجها يكون عذرا لك عند الله تعالى، فقد كشفنا لك وجوه الأعذار، وبينا ما فيه كفاية لأولى الأبصار، ولا نميل أيضا عن الخلاص للنفس فيما يجب علينا, ونتحقق وجوبه لدينا، ولو كان ينجينا عند الله عز وجل أن نقول: إنا عصيناه فيما توهمتَ فيه المعصية، ويكون ذلك سترا لنا من النار لفعلنا، ولكنها حكمة سبقت من أمير المؤمنين عليه صلوات رب العالمين: (( لا يحسن الإقرار بالذنب إلا من ذي الذنب )) ، وإلا فما كان ضر ابن أبي طالب عليه السلام أن يقول: إنه كفر, إذا كان بمثل ذلك يجتمع له الأمر ويظهر، لولا أنه لا يجوز الإيهام على النفس والتوهين لأمر الدين، والتصغير بأهل المنزلة من المؤمنين.
وأما ما ذكرته من الولاة، وأنه لا يجوز أن نولي إلا أهل الكفاية والتقوى، وأنه لا يجوز أن يولي رجل وفي المسلمين من هو أصلح لذلك منه، وشرحه وفصله، فنحن نختصر الكلام فيه, مع بيان معانيه.
---

(1/57)


أما اشتراط الكفاية والدين في الوالي فهو كذلك، وبه نطق القرآن الكريم، ولا نولي أحدا إن شاء الله إلا وظاهره الدين والكفاية عندنا، ولنا الظاهر ولله سبحانه الباطن، وقد ولى رسول الله صلى الله عليه وآله ولاة وعمالا وقعت منهم الجنايات والمعاصي، وقال: (( اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد )) وقد قتل قتلا كثيرا، ولم يمنعه ذلك من أن ولاه ثانيا عقيب رجوعه وتوبته. وولى صلى الله عليه وآله أقواما نطق القرآن بفسقهم ونفاقهم، وإن كان ظاهرهم الإسلام والكفاية، فالأخذ إنما هو بالظاهر، وليس يلزمنا معصية الوالي متى أظهرها عند الناس ولم تظهر لنا، ولا يكلفنا الله تعالى إلا بحسب علمنا, ومتى علمنا ذلك وكان مما يستحق فيه العقوبة عاقبناه, تارة بالحبس وتارة بالمال وتارة بالأدب، وأجناس ذلك, فلا يصح ما ذكره الشيخ من أن الصواب أن لا يُعاقب بالمال، لأنا قد بينا أن العقوبة بالمال مما ورد به الشرع الشريف، فلا معنى للتخفيف في غير موضع التخفيف.
---

(1/58)


وقوله بأنه يعود يأخذ العقوبة من أموال العشائر لا يلزمنا، لأنا إن علمنا ذلك منه عاقبناه ثانيا بوجوه التنكيل التي تجوز في حقه، وربما أدى ذلك إلى اجتياح ماله كما فعله علي عليه السلام، وعلى حسب الصلاح للإسلام والمسلمين يفعل، وبحسب ما أوجبه علينا رب العالمين نفعل، وقد تقع المعصية منه ونعلمها ولا نعاقبه عليها، بل نقبل توبته, وذلك يختلف بحسب الأفعال التي تعد معاصي لله عز وجل، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله أمر بالعقوبة تارة, وتارة قبل توبة الوالي بغير عقوبة، وهي أمور شرعية ينبغي مراعاتها, ولا يجب التسوية بينها ولا التفريط في إجرائها وإنفاذها، وقد يكون في الناس من هو وكيل على قبض الشيء المأخوذ المعين، لأنه يكون إليه شيء من الأمر غير مجرد القبض، لما قد عُرف وعُيَّن، فلا تكون منزلته منزلة الوالي الذي له يد على غيره، لأن توكيل الفاسق جائز في مَالّه التصرف فيه، وكذلك الكافر, فبين الأمرين فرق، وولاتنا الذين لهم التصرف على غيرهم بما يرونه صلاحا وبما يرجعون في كثير منه إلينا، وسائره بولايتنا, كلهم ظاهره الدين والكفاية، ولا نعلم منه خيانة ولا جناية في الظاهر، وليس لنا إلا ذلك.
فأما وكلاء القبض الذين ذكرناهم، فلو كان بعضهم عاصيا فلا يلزمنا حكمه, ولا يرجع إلينا أمره، وإنما أمره إلى ربه يفعل به ما يشاء، ولو قدرنا أن يكون جميع الخلق مؤمنين, لما فرطنا في ذلك بشهادة رب العالمين، ولكن فقد قال وهو أحكم الحاكمين { وما أكثر الناس ولو حرص بمؤمنين } ,وقال لنبيه عليه السلام: { لعلك ياخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين } , فالعذر في ذلك قد وقع لنا من رب العالمين.
---

(1/59)


وأما أنه لا يجوز تولية والٍ في المسلمين من هو خير منه، فذلك لا يصح ولا ينبغي إطلاقه، ولا يقول به أحد أبدا، وقد ولى رسول الله صلى الله عليه وآله قوما كثيرا وفي أصحابه من هو أفضل منهم في الورع والكفاية، وإلا لزم أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام وَالِيَه في جميع الأمصار وجميع الغزوات، كتوليته صلى الله عليه وآله لعمرو بن العاص على جُلّة المهاجرين والأنصار، وسوى ذلك مما يطول تفصيله، وكذلك غيره من كبار الصحابة رضي الله عنهم وهو محال، فالإطلاق لذلك لا يصح ولا يصلح، والخبر الذي رواه وهو قول النبي صلى الله عليه وآله: (( من استعمل عاملا وهو يعلم أن في المسلمين من هو أولى بذلك منه، وأعلم بكتاب الله وسنة نبيه، فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين )) فهو محمول على أن المراد بقوله: (( أولى بذلك منه وأعلم )) من قِبَل أنه جاهل بكتاب الله وسنة نبيه، وأنه ممن لا يكتفى به, ولا هو بأمين فيما وُلي فيه، وذكره بلفظ أَفْعَل مجازا واتساعا في الكلام، وإلا فعلي عليه السلام أعلم بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وآله من ساير ولاة رسول الله صلى الله عليه وآله، وأعظم كفاية وأمانة، وإن كان قد قدم غيره في كثير من الولايات، ولا بد من حمله على ما ذكرنا.
وأما ما صوبه من تهذيب بالولاة وتأديبهم وإصلاحهم وإرشادهم، والتأكيد عليهم والوصية لهم بما يجب، وأجناس ذلك مما ذكره, فتلك هدية منه يجب قبولها والعلم عليها، ونحن إن شاء الله عاملون بها وعليها، بحسب قدرتنا واستطاعتنا، وليس نُكلف إلا ذلك وبالله التوفيق.
---

(1/60)


وأما قولك ـ أيدك الله ـ وقد تركت الإنكار على بعض الولاة خوفا أن لا يُقبل، فعليك ـ أبقاك الله ـ أن لا تتوانى في أمر الله عز وجل، فإن قُبِلَ فقد حصل الغرض، وإن لم يُقبل أنهيت الأمر إلى أمير البلد، فإن فعل ما طلبت من رضى الله عز وجل فقد أصاب، وإن أبا أنهيت إلينا ومنا المعونة لكافة المسلمين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد سلطناهم على الغواة والطغاة, كانوا من الأباعد أوالولاة، وجعلنا ذلك لهم وهو من الله تعالى حكم جاري، فله الحمد كثيرا.
وأما قولك ـ أيدك الله ـ إن الصواب أن نجعل العلماء, كما قد جعلهم العلي الأعلى, حكاما على العمال إلى غير ذلك مما ذكرته من الكلام، فنحن والحمد لله تعالى أعرف الناس بحق العلماء، وأقوم الناس بأمرهم، ولا تطمئن قلوبنا إلا إليهم، ولا نثق في كثير من الأمور إلا بهم، ولا نأنس إلا بقربهم، وعليهم لنا من الحق مثل ما لهم علينا، ولهم إن شاء الله تعالى الحكم على ولاتنا وخدامنا ومن تحويه دولتنا، وعليهم الالتزام بمناصحتنا وموالاتنا، لكوننا من عترة الرسول, وذرية البتول, ودعاة الحق, والنصحاء للخلق، فلا يحل الميل عنا، ولا الغيبة لنا، ولا المعاونة لعدونا, وعدو الله علينا، ولا الملاحاة لنا في أمرنا، فإن الخصم في ذلك هو جدنا المصطفى عليه السلام، والشهود على ذلك الملائكة الكرام، والحكم العدل هو الله تعالى.
---

(1/61)


وأما ما ذكرت ـ أيدك الله ـ تعالى من أخذ المعاون، وقولك: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:(( كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله )) . وقوله عليه السلام: (( حرمة مال المسلم كحرمة دمه... )) إلى غير ذلك من الأقوال المحرَّمة لأمور المسلمين. فاعلم ـ أبقاك الله ـ أنا وددنا من المسلمين أن يتحرموا أموالهم بينهم ونفوسهم وأعراضهم, إلا ما أحل الله سبحانه من ذلك، ولو عمل الناس بذلك ما احتيج إلى مُقوَّم يثبت عوجهم, ويصلح أودهم، ولاستغنى الخلق عن الإمام, في أكثر الأحكام، وها نحن والحمد لله لا نقول افتخارا آمرون بالمعروف ناهون عن المنكر، كافون لأيدي الناس, قامعون لضرهم، فما انتهى الخلق عن ذلك إلا بالشاق من الأعمال، ثم أقبلوا مع سعينا في صلاحهم على استهلاك أعراضنا، ونحن نعلم أنه لو لا وقاية من الله تعالى ومعونة لاستهلكوا الأرواح والأموال، وليس الخبران بجاريين - حفظك الله - على عمومهما، بل يجوز استهلاك بعض من أموال المسلمين مع إسلامهم وصلاحهم، نحو ما أوجب الله تعالى من الحقوق المعينة من الزكوات، والفطر والأخماس والكفارات، وكذلك من الحقوق التي ليست بمعيَّنة المقدار, نحو المعاون في الجهاد ونفقة الزوجات والأقارب، وأجناس ذلك, فالخبران مخصوصان بالأدلة الدالة على لزوم هذه الحقوق في المال، قال الله تعالى في المعاون في الجهاد: { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } , فإذا كان لا يمكن التعاون على الجهاد إلا بأخذ المال، كان أخذه واجبا بحكم الكتاب، وقال تعالى في قصة ذي القرنين وطلبه المعونة من الناس: { أعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما أتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدقين } , ? قال انفخوا حتى إذا جعله نار قال أتوني أفرغ عليه قطرا } , فألزمهم المعونة بالحديد والصَّفر والاشتغال بالأعمال الشاقة، حتى جعل على الأرض جبلا حاجزا، وذلك لا يحصل إلا بمال كثير، وذلك يدل على أنه ---

(1/62)


يجوز أخذ المعونة من قوم لدفع الضرر عنهم، وعن قوم آخرين إذا كان المدفوع هو ضرر الدين، وقال تعالى: { جاهدوا بأموالكم وأنفسكم } ووصف المؤمنين بأنهم يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، ولم يقل أحد أنه أراد أنهم يجاهدون بزكواتهم وأعشارهم.
والصحابة رضي الله عنهم عملت بهذه الوظيفة من المعونة، قاسمت الأنصار والمهاجرين في أموالهم ودورهم, وخيَّروهم بين القسمين، وأعطوهم الأصلح من النصيبين، وكان مع أبي بكر ثمانون ألفا أنفقها في الجهاد, وما بقي معه إلا عباة كان إذا ركب حلَّها, وإذا نزل أبعد حلالها. وعثمان جهز جيش العسرة بتسعمائة بعير وخمسين بعيرا، وتمم الألف بخمسين فرسا. كل ذلك من صميم ماله. ولما أقبل العسكر وقد مستهم الحاجة وعظمت بهم الفاقة لقاهم مائة ناقة محملة مخطومة خروها وأكلوا أحمالها, والقوم ما بذلوا هذه الأموال إلا لطاعة الرحمن، ومعرفتهم بما في القرآن.
والنبي صلى الله عليه وآله قصد إلى أن يصالح بثلث ثمار أهل المدينة على أن يسلمه إلى الكفار, بغير مراضاة أحد من الأخيار.
وقال النبي صلى الله لعيه وآله وسلم: (( اجعل مالك دون دمك, فإن تجاوز بك البلاء فاجعل مالك ودمك دون دينك )) . الدفع الذي يقع بالجهاد قد يكون الدفع عن النفوس والأموال، وهذا لا بد أن يكون المدفوع به دون المدفوع، وقد يكون الدفع عن الأديان, وهذا لا يعتبر فيه مثل هذا الشأن، لأنه ليس شيء أعلا من الدين, ولا أعظم منه عند رب العالمين، فالأخبار الواردة على مثال الخبرين اللذين ذكرهما مخصوصة بمثل هذه الأمور وأجناسها.
---

(1/63)


وأما ما ذكره الشيخ الفاضل من تحريم أخذ المعونة, لأجل الهبة للمداحين، أو لأجل المجاباة أو المباهاة، فهو كما قال, ونحن إن شاء الله لا نأخذ المعونة لذلك، وما يأخذ أحد شيئا لذلك إلا وهو ظالم، وإذا وهبنا فإنا إنما نهب من صميم أموالنا، إلا ما يكون في معونة الدين, وصلاح الإسلام والمسلمين، لأنه مال مأخوذ لصلاح الإسلام والمسلمين، ونريد بالصلاح الدفع عن الدين, لا لأجل الزيادة فيه بعد كمال ما يجب منه.
وما ذكره من أنه لا يجوز أن يوهب لبعض الجند أكثر من بعض لأجل كبر منزلته، فإن كان لكبير منزلته تأثير في الدفع عن أديان المسلمين، جازت الهبة لذلك, وفعلناه تقربا إلى الله تعالى, بعلة أنه مال مأخوذ للدفع عن الدين، فجاز أن يتزايد العطاء فيه بتزايد ما به يقع الدفع, دليله ما يخرج من مال اليتيم لأجرة الأجراء القائمين عليه، فإنه يتزايد بتزايد المنفعة، وإن اشتركت الإجراء في القوة وكونهم أجراء.
وأما قولك _ أيدك الله_ وأنت في هذا موكول إلى رأيك فهو كما ذكرت، وذلك لأنه إذا ورد القرآن بوجوب المعونة وأخذها, ولم يحد فيها حدا لم يبق إلا أن ذلك راجع إلى ظنه، لأن ما لا يمكن فيه العلم يُرجع فيه إلى الظن، كنفقة الأقارب والمرضع والزوجة، فإن الحاكم إنما يرجع إلى غالب ظنه.
---

(1/64)


فأما ما ذكره الشيخ الفاضل _أيده الله عز وجل_ من الخروج إلى البلاد التي يرام استفتاحها، فقد كان وقع فيه إشكال،ثم وقع في الخاطر أنه يجوز لغير الإمام, كما هو مذهب الطائفة الكثيرة من أهل البيت عليهم السلام وغيرهم، بل أجازوا ذلك مع أمراء الجور وولاة الباطل، ويدل على جواز ذلك مع المحقين ظاهر آيات القرآن نحو, قوله: { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم } ,ونحو قوله تعالى: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين } ونحو قوله: { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } , ونحو قوله تعالى: { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم } , وغير ذلك من عمومات القرآن في قتال الفاسقين والظالمين, من غير ذكر تخصيص بإمام دون غيره، وليس هنالك دلالة تدل على أنه لا بد من إمام.
فأما ما يذكره الإمامان الهادي والمنصور عليهما السلام من أنه لا يخرج إلى دار الحرب إلا بإمام، فيحتمل أنهما أرادا بذلك الدار الأصلية دون دار الإسلام التي يحدث فيها الكفر والارتداد، فإنه لا خلاف أنه يجوز فيها حرب الظالمين للدفع عن المسلمين، فيكف لا يجوز فيها حرب الكافرين والمرتدين؟! واليمن كله كان دار إسلام، فيجب تطهيره من الكفر الحادث, كما يجب تطهير المسجد الحرام بالإجماع من الأنجاس والنجاسات لعموم الآيات، والله الموفق للصواب.
---

(1/65)


فأما الخروج إليها بالمعاون فلا يجوز إلا أن يكون لصلاح يعود على المسلمين بالدفع عن ديارهم جاز، لأنه مال مأخوذ للدفع عن المسلمين، فجاز على أي وجه وقع الدفع، ويمكن أن يقال أيضا: يجوز الأخذ من المعاون للخروج إلى ديار الكافرين في اليمن كله، لأنها دار إسلام ظهر عليها الكفر، فوجب إزالته على وجه الدفع للكفر عن دار الإسلام، كما يجوز الدفع بأموال المعاون عن الدار التي فيها الإسلام, لاشتراكهما في كونهما داري إسلام في الأصل، فإذا جاز الدفع عن هذه الدار لئلا يدخلها الكفرة، فأولى وأحرى أن يجب الدفع عما قد دخله الكفر!! والله الموفق للصواب.
فأما القول بأن ما يُستفتح من بلاد الكفار يكون فيأ للمسلمين كافة كأموال الخراج, فذلك لا يصح، لأنه إذا ملكها الخارجون عليها من أهل الإسلام كانت ملكا لهم, وعليهم فيها الخمس، لقوله تعالى: { وخذوهم } , وقوله تعالى: { وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم } , وقوله تعالى: { واعلموا إنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه } , فجعل المأخوذ غنيمة للآخذين, وعليهم فيه الخمس، وإنما يكون أمره إلى الإمام في زمان الإمام فقط, لقوله تعالى: { قل الأنفال لله والرسول } ,ولا خلاف أن الإمام قائم مقام الرسول، فأما أن يكون ذلك مصروفا إلى بيت المال، فلا يصح إلا بأن يتركها الغانمون بغير قسمة, على وجه لا يمكن بعد ذلك معرفة نصيب كل واحد من الغانمين، فإنه يكون بيتَ مال من حيث صار مالا لا مالك له معين، وما هذه حاله فمصرفه بيت مال المسلمين.
---

(1/66)


فأما قولك _أيدك الله تعالى_ إنه لم يقع تخفيف على الرعية، فما يمنع بشهادة الله عز وجل من التخفيف على الرعية إلا ضرورة الحال, من قِبَل كثرة أعداء الحق، وطلبهم لإهلاك دار الإسلام، فإنه صار في وجوهنا_ وفقك الله_ جند العجم والعرب، وهما فريقان قويان، وقد كانت العرب كافية في الإضرار بالدين, فزادت قوة العجم وهي أعظم وأكثر، ولم يمكن الجهاد إلا بالجند, ولا انتظم لنا الجند إلا بالمال، ولم نحصل المال إلا من أربابه، والدين دين الله عز وجل، والأموال أملاكه، والكل منا عبيده، وقد أمر تعالى بالتصرف في حماية دينه ببعض أملاك عبيده, وما لا يتم الواجب إلا به يكون واجبا كوجوبه، وَرَجْوَنا إن شاء الله تعالى أن يعز الله الدين, ويقع التخفيف عن المسلمين.
وقد عرف الشيخ الفاضل أنا في هذه الحرب التي فرغنا منها ما أمكننا أن نكافي الكافرين والمارقين، وما ذلك إلا لقلة الأموال، فكيف يظن ظان أنا قد أخذنا من الأموال ما يكفي في الدفع عن أديان المسلمين؟! مع أنه لم يُمكنَّا الذب عن بلادهم، وقد زادت البلوى وعظمت من أجل أن الدين أتي من وسطه، فتقَّوت بذلك شوكة الكافرين. فنسأل الله تعالى النصر والتأييد, والإعانة والتسديد, بحقه العظيم.
وأما قوله _أيده الله _يجب أن يكون ما يدفع أكثر مما يُؤخذ، وقد علمنا أنه قد انتهى الحال بكثير من الرعية إلى الانتقال من ماله ومنزله، فما الضرر المدفوع عنهم؟! فإنا نقول: إن الضرر المدفوع عنهم هو أعظم من أخذ المال المأخوذ, ولو استوعب جميع المال وأدى إلى الانتقال، لأن ذلك الضرر هو زوال الدين وانهدام الإسلام، وظهور الكفر والعدوان، وهلاك المال كله لأجل سلامته من أعظم البر عند رب العالمين، لأن الله تعالى أمر بالجهاد بالمال كله والنفس معه، فكيف بالمال وحده؟!
---

(1/67)


وأما ما ذكره الشيخ الفاضل من قِبَل الأخذ من واحد من الناس دون واحد، وأخذ المعونة من واحد أكثر مما يؤخذ من واحد، وإن من يتعلق بالدولة لا يؤخذ منه ذلك, فلا إشكال في أن الواجب المساواة بين الناس في المعاون، لأن الدين لا يخص أحدا دون أحد، فالدفع عن الجميع واحد، ولكنه قد يؤخذ من بعضهم مال، وقد يؤخذ منه منفعة للإسلام تقاوم المال, قد كانت لا تحصل إلا بشيء من أموال المعاون، وقد يكون حضور بعض الناس في المجلس قائما في الدفع عن الدين مقام عشرة دراهم وأصلح، وهذه أمور تجب مراعاتها والنظر فيها، والتحري فيها عسير جدا، وقد خفف الله تعالى الأمر على صاحبه, بأنه يجوز له أن يعمل في ذلك على غالب ظنه، وما يقع في خاطره من تحري المصلحة، وقد يكون أخذ المعونة من بعض الناس يؤدي إلى فساد عظيم ضار في الدين فيترك، لأن ما أدى إلى الفساد فهو قبيح، والقائم بهذا للأمر لم ينتصب إلا لكسب المصالح الدينية دون المفاسد، والله المعين والمسدد.
وأما قولك: فكيف يجوز أن يدفع بمالِ واحدٍ عن آخر؟! لأنه يؤخذ من واحد دون واحد، ومال المعاون بمنزلة مال اليتيم، فكيف يجوز أن يدفع بمال اليتيم عن غيره؟!
---

(1/68)


فإنا نقول: إن الدفع _أيدك الله ووفقك _عن الدين لا عن المال، وإذا وقع في زماننا هذا عن المال فعلى وجه التبع, والدين لا يختص بواحد دون واحد، بل هو مع الجميع على سواء، فهو شيء مستقل بنفسه, فلا يمكن أن يقال بأنه يدفع بمالِ واحدٍ عن دين آخر, لأن دينه الذي يقع الدفع عنه هو دين الآخر، فإنا لا نعني بدينه هو أعماله الصالحة، وإنما نريد بذلك لئلا يدخل الكفر والطغيان في ديار الإسلام, التي نفع إسلامها عام للمسلمين لا يختص به القريب على البعيد، فلا يدفع بمالِ واحدٍ إلا عن دينه أبدا، فاعرف ذلك!! فإن هذه الزبدة هي أصل جواز أخذ المعونة، وإلا فلو كان الدين المدفوع أمرا يختص به كل واحد من أهل المعونة, لوجب أن لا يجوز الخلط للمعاون، وألا يستهلك ما أخذ من أحدهم في الدفع عن دينه وحده، وذلك يعود على آيات الجهاد بالنقض والإبطال, وذلك محال، وكانت هذه المسألة تستدعي تطويلا كثيرا , إلا أنا حذفناه لكثرة الأشغال.
فأما ما ذكره _ أيده الله _ من أن أموال بعض الرعايا قد صارت في أيدي أهل الدولة, ولم ينقص منهم شيء بحسب ما خرج من أيديهم فذلك صحيح، وقد ألزمنا أنفسنا الاجتهاد في تقسيط ذلك على الوجه الشرعي إن شاء الله تعالى.
فأما ما ذكره الشيخ الفاضل _ أيده الله عز وجل _ من أن الجور قد عم البلاد وأهلكها ودمرها, وأدى إلى انتقال أهلها, وأجناس ذلك !!
فاعلم _ أيدك الله _ أن العدل على الحقيقة هو الذي عم بلادنا، وما وقع منا جور, ولا نعتذر إن وقع من وكلاء القبض بغير أمرنا ولا علمنا، وما علمناه غيَّرناه إن شاء الله تعالى, ولا نرضى بالجور ولا بالفساد، ولا الحال إلا أصلح.
---

(1/69)


ونحن نقبل قوله في التحري والاحتياط، ولا نألوا جهدا في طلب الصلاح بقوتنا وقدرتنا, ولا نرد نصيحة إن شاء الله عز وجل فيما نصحنا، ولا نعد ذلك جُرما منه فيما أمرنا ودعا إليه، ورجوانا أن يعيننا الله تعالى لما قد علم من شدة خوفنا وكثرة حذرنا وشدة فزعنا من عقابه لمن عصاه، وإياه نسأل التوفيق والعصمة والتأييد, وهو حسبنا ونعم الوكيل.
---

(1/70)


جواب سؤال
ومن جواب له عليه السلام قد سقط أوله: وصعده الجوف والمغرب إلا أمثل من وجدت من أصحابي، وأمرتهم أن يولوا مَن تحتهم أمثل من يجدون، وما انتهى إلي علمه مما لا يجوز أَزَلْتُه، فإن علمتم أحدا أمثل منهم فأعلموني لأوليه إن شاء الله، فإن لم أفعل كان حينئذ بعرف الغرض، وأنا أعتقد أن هذا فرضي, وحسابهم على ربي.
الفصل الثالث: وهو في الرعية وما يختص بها،
والأصل في ذلك أني أعتقد أنه يجب علي ويجوز لي أن أدفع ببعض أموالهم عن بعضها، وبأموالهم كلها عن أرواحهم، وبأرواحهم وأموالهم عن أديانهم، وهو نص كتاب الله تعالى, وسنة رسوله صلى الله عليه وآله.
فأما المساواة بينهم فقد أمرت بذلك, ووقع العمل بحسبه، إلا أن يكون كبير قرية يَصلُح أمرهم بصلاحه، ونعطيه حاله فعندي أن ذلك يصح.
وأما الفروق فقد أمرت أيضا بإحصائها, ودفع كل إنسان على ما في يده, صاحبُ الدولة وسواه.
وأما الحركة بهم إلى البلاد فهو يجوز لي أن أخرج بهم إلى بلاد الصلح، وإلى مواضع الجهاد.
وأما قول حضرته أنه لا يقع عنهم تخفيف, ولا يصل إليهم منه شيء، فهذا أيضا من قلة الخبرة والمعرفة، لأن الوجهين كليهما واقعان.
أما المحصول فأقل ما يصير إلى الواحد منهم في الشهر الخمسة الدنانير إلى العشرين دينارا كل إنسان على منزلته ونفعه من الخطط والشحاذات والهبات، ولا يجب علينا أن نعرَّفهم به.
وأما التخفيف فمن أين انعمرت الحصون وشحنت؟! وإلا فكان يقع من الخلل على الإسلام والمسلمين مالا ينجبر، لأن الحال توجب المطالبة لهم. فأما ضعف

(1/71)


البلاد من قلة الأمطار فلسوء نياتهم, ومعرفة الباري تعالى بمصلحتهم, ووقعت الضرورة إلى قبض ما أمكن منهم على هذه الحالة، فإن وقع الإجماع من المسلمين فنحن نفعله إن شاء الله تعالى، والله قَسماً ما نقول ذلك استهزاء بل صدقا.
فأما الإعطاء من هذه الأموال والمنع في الكثرة والقلة، فلا شك أن أحوال الناس تختلف، فمنهم من يعلم أنه يسد مسد اثنين أو ثلاثة أو أربعة, بشرط أنه يعطى ما يأخذ اثنان أو ثلاثة أو أربعة، فأعطيناه هذا القدر وساغ لنا وهو مدين في أخذه، ومن علمنا أيضا من حاله أنه أن لم يعط القدر الذي نعطيه _مال _على المسلمين، وكان ضرره عليهم أكثر من ضرره في القدر الذي نعطيه.
فأما أفعال أهل البيت عليهم السلام في التزهد فليست توجب التحريم, مع أنا قد فعلنا أبلغ مما فعله المؤيد رضي الله عنه، لأنه أعطى ولده شيئا من بيت المال، ولم نعط أحدا من أولادنا قليلا ولا كثيرا، وهو الذي يمكننا التحكم فيه، ولو أمكننا أن المسلمين يجاهدون عن هذا الدين بغير دينار ولا درهم، ويحفظون هذه المعاقل التي للإسلام والمسلمين لما أخذنا دينارا ولا درهما، والله تعالى يعلم الصدق في ذلك والنية.
ثم بيان ذلك أن كل أمر أشكل على حضرته, أو ادعاه أحد من المسلمين، فيدعونا إلى حكم الله تعالى, فما وجب علينا بالشريعة النبوية أمضيناه والتزمنا به. فأما أنا نفعل في نفوسنا شيئا لم يدَّعِه علينا مدَّعٍ ولا اعتقدنا وجوبه، فهذا مما لا يعقل.
---

(1/72)


وأما قول حضرته في أنه صح عنده أن إنسانا من الرعية فعل فيه كذا وكذا، وحرص عليه أكثر من ماله, فهو يعلم أن القياس في ذلك لا يصح في جميع الرعية، وإنما إذا صح عند حضرته شيء فليقل: صح عندي في أمر فلان بن فلان ما هو كذا وكذا، وينبغي أن يُفعل في حقه كذا وكذا. فحينئذ يجب علينا أن نفعل ذلك بمقتضىحكمه, فهو يعلم أنه لا يلزم أن نأمر برفع الحروص كلها لأجل ما وقع على ذلك الرجل, وهو يعلم أن تحصيل الظن بالمسلمين هو من الأصول الواجبة، ويعلم _أبقاه الله _ أن هذا الأمر الذي نحن فيه ما نريد فيه بطرا ولا تجبرا ولا ذكرا لدنيا، بل نريد به سلامة الأديان وحماية لأهل هذا البيت الشريف، والدفع عن المسلمين بكل وجه, بأنفسنا وأموالنا وأهلنا ومن يتعلق بنا، لأنا نعلم أنه لا ينبغي أن نقدم أرواح المسلمين ونؤخر أرواحنا, ولا أن نقدم أموالهم ونؤخر أموالنا، ولنا بذلك الفوز والنجاة إن شاء الله تعالى، ? وما أبري نفسي أن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي وإن ربي غفور رحيم } .
وحضرته يعلم أنه لاتعدم الهفوة منا, ثم ممن دوننا إلى منتهاه، لأن العصمة مخصوصة بمن تعرف، فعند معرفتها لا يتركها لا منا ولا ممن دوننا بحمد الله تعالى وفضله, وما يستر سبحانه أكثر, وما يعفو عنه سبحانه أبلغ, ولو عددنا ما في السَّيَر من وقت رسول الله صلى الله عليه وآله إلى اليوم لطال الشرح في ذلك، ونحن نسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق لنا والهداية إلى طريق النجاة.
وعجبنا من قول حضرته أيضا في الأيام الماضية إنه لم يكن حرب ولا وقع تخفيف عن الرعية، ولم ندر كيف تَصوَّر ذلك _ أبقاه الله تعالى _إذا كان الجند والديوان معدين بالجرية كل شهر لشهره, والحصون ومن فيها كذلك, وعماراتها وشحنها لم تنقطع, غير ما استئونف منها لحادث إن حدث مثل ما قد رأت حضرته.
---

(1/73)


ونحن نجيب في هذا بمثل جوابنا الأول, إذا وقع الإجماع على أنا نفسح للجند والديوان ولأهل الحصون أو للبعض، ثم يكون عند أن يبدو بادي من العدو, نطلب من الناس الأموال ونستخدم بها فلا بأس، هذا إذا أمكن منهم تسليم في ذلك, ولا بد من تفصيل ما ذكرناه مجملا، لأن يكون هو وكافة المسلمين من أمورهم على معلوم إن شاء الله تعالى، وهو المسؤل أن يصلحنا ويوفقنا ويثبتنا، ويصلي على محمد وآله والسلام.
جواب مسائل ابن معرف
وقال الإمام أحمد بن الحسين عليه السلام في جواب مسائل ابن معرِّف ما لفظه: المسألة الثانية في باب الخلاص الذي يطلبه الناس عما لزمهم من المظالم، وما تفاوت من الزكوات والأعشار، وهذه المسألة مسألة كبيرة, وتفتقر إلى بسط وتفصيل، والذي يصح من الخلاص ونعتمده فيما فعلناه مع الناس في ذلك أحد وجوه ثلاثة:
إما أن يكون الطالب لذلك ممن يُقصد تأليفه, لمنفعة تعود على الإسلام, أو دفع مضرة عنه، فيفعل له ذلك قبضا وردا، لأنه يجوز لنا أن نتألفه للدين بما في أيدينا، فكيف بما في يده؟!
والوجه الثاني: أن يكون في يد الطالب مال فيطلب الخلاص فيما ذكره، فنعلم أو يغلب في ظنوننا أن قبض هذا المال ورده عليه وكونه في يده, أنفع للإسلام وأهله من أن يكون فقيرا، فيفعل له ذلك, ونتحرى في ذلك الأمارات التي يُعمل عليها في الاجتهاديات.
الوجه الثالث: أن يتفضل الإمام بشيء مما يملكه على هذا الطالب، فيملَّكه إياه, ويصرفه عنه بوكالته في مصرف هذه الحقوق، فهذا هو كيفية ما نحن نعتمده في تخليص الناس. الشيخ عطية النجراني
عطية بن محيي الدين محمد بن أحمد النجراني , الصعدي , من كبار علماء الزيدية , مفسر , فقيه , ولد سنة 603هـ وعاش بمدينة صعدة , وعاصر الإمام المهدي لدين الله أحمد بن الحسين , واعترض عليه في بعض الأمور , منها أخذه المعونة في الحرب , ولما دخلت جيوش الإمام المهدي فر بنفسه , وفاته في جمادى الأولى سنة 665ه بصعدة , وقال ابن أبي

(1/74)


الرجال: علاّمة , متضلع بحَّاث و مطلع , ل‍ه في الفقه مقالات مشهورة , ولأهل بيته عدة كتب مصنفة في الإسلام نافعة .
ومن مؤلفاته:
1- البيان في التفسير .
2- المذاكرة في الفروع .
3- الجامع لقواعد دين الإسلام .
4- تنبيه المتدرسين في فقه الأئمة الراشدين شرح منظومة ددر القلائد ونكت الفرائد لصالح بن منصور الكوفي .
(1/71)

(1/75)