الكتاب : مجالس الطبري المؤلف : أحمد بن موسى الطبري |
مجالس الطبري
أعد هذا الكتاب إلكترونيا
قطب الدين بن محمَّد الشَرْوَني الجعفري
للتواصل
viva_intifada@hotmail.com
ترجمة المؤلف
من كتاب أعلام المؤلفين الزيدية للعلامة عبد السلام الوجيه
أحمد بن موسى الطبري، أبو الحسين: علامة، مجتهد، حافظ، مسند، من الطبريين القادمين إلى اليمن للجهاد مع الإمام الهادي يحيى بن الحسين عليه السلام مولده تقريباً سنة 268هـ نشأ وتعلم في بلده ثم هاجر إلى اليمن بعد دعوة الهادي يحيى بن الحسين عليه السلام، وجاهد معه ووهب نفسه بعد موت الهادي لنشر العلم ونزل صنعاء وجاور إبن الضحاك ودعى إلى مذهب أهل البيت عليهم السلام، وبقي واعظاً آمراً بالمعروف ناهٍ عن المنكر حتى زمن الإمام الناصر بن الهادي عليه السلام نحو سنة 325هـ. قال في الطبقات: روى عن محمد بن يحيى عن أبيه الهادي في أصول الدين، وعنه علي بن أبي الفوارس. قدر الأديب أحمد الشامي بعد كلام حول حياته أنه من مواليد سنة 268هـ. قال: ولعله عاش إلى أن جاور ابن الضحاك ولم يمت إلا بعد عام 340هـ أو حواليها بعد أن جاوز السبعين.
ومن مؤلفاته:
- الأنوار في معرفة اللّه ورسوله وصحة ما جاء به. (على مذهب الهادي عليه السلام) منه نسخه خطت سنة 1340هـ برقم 615 بالجامعة العربية الأوقاف من ص 1 ـ 73 ويسمى (المنير)، أخرى خطت سنة 1054هـ في 54 ورقة بمكتبة السيد محمد بن محمد المنصور. مصورة بمكتبة السيد محمد عبدالعظيم الهادي أخرى مصورة بنفس المكتبة ـ خ ـ سنة 1054هـ، أخرى ضمن مجموعة 198 ص53 ـ 102 المكتبة الغربية جامع صنعاء.أخرى مصورة بمكتبة السيد العلامة يحي راوية رحمه الله .
- المجالس والمناظرات. (في أصول الدين على مذهب الهادي) ـ خ، قال الحبشي: ضمن مجموعة من ورقة 125 ـ 147، امبروزيانا 205g، أخرى جامع 79 مجاميع، أخرى مصورة ضمن مجموع بمكتبة السيد محمد عبدالعظيم الهادي، أخرى مصورة بمكتبة العلامة عبدالرحمن شايم هجرة (فلله)، أخرى (مخطوط) أصلي بمكتبة السيد محمد بن يحيى الذاري صنعاء.
المصادر:
مطلع البدور ـ خ ـ 1/191، المستطاب ـ خ، تاريخ مسلم اللحجي ـ خ، مصادر الحبشي 94، تاريخ اليمن الفكري في العصر العباسي 1/159 ـ 166 ترجمة مطولة، فهرس المكتبة الغربية 802، الجواهر المضيئة ـ خ ـ ص21، مؤلفات الزيدية 1/169، 174، 2/421.
بسم الله الرحمن الرحيم
(1) مجلس [في تحديد مكان الوقف في قوله تعالى: لايعلم تأويله إلا اللّه والراسخون في العلم]
قال أحمد بن موسى الطبري رحمة اللّه عليه: جرى بيني وبين رجل من أهل صنعاء كلامٌ، وهو: رجل مقرئ يقال له: (ميمون)، فقلت له: ما تقول يا ميمون، قال اللّه عز وجل: {لا يعلم تأويله إلا اللّه والراسخون في العلم}؟
فقال: يا أبا الحسين، ليست هكذا القراءة، إنما قال: {ما يعلم تأويله إلا الله} [آل عمران: 7] هاهنا الوقف.
قال: فغفلت عنه ـ حتى نسي الكلام ـ ساعة، ثم قلت له: يا ميمون، ما معنى قول اللّه عز وجل: {واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها} [يوسف: 82] قال: ليس القرية تسأل لإنها جماد، وكذلك العير لا تتكلم، وإنما يتكلم أهلها.
قال: فقلت له: يا ميمون، هذا من التنزيل أو من التأويل؟
فقال: بل هو من التأويل.
قلت له: أليس قلتَ لي آنفاً: إنّ الوقف: {ما يعلم تأويله إلا اللّه} فمتى نزل عليك هذا التأويل؟
قال: فتحير وبرم، وضحك قوم كانوا بالحضرة.
فقال: ثم إني قلت له: في كلامنا بقية يا ميمون، قوله عز وجل: {والراسخون في العلم يقولون آمنا به} [آل عمران: 7] إن كانوا آمنوا بما جهلوا فليس معهم إيمان، وإن كانوا آمنوا بما علموا فإيمانهم صحيح.
(2)مجلس [في معنى الهدى والضلال]
قال: وجرى بيني وبين رجل من كبراء أهل صنعاء كلامٌ، فقلت له: ما تقول، على كم الهدى من وجه عندكم؟
فقال لي: يا أبا الحسين، الهدى على وجه واحد، والضلال على وجه واحد.
قلت: فبين لي/3 / كيف؟
قال: نحن نقول: من هداه اللّه تعالى فليس له إلى الضلال سبيلٌ، ومن أضله فليس له إلى الهدى سبيل.
قال: قلت: وهذا قولكم.
قال: نعم.
قال: قلت له: فأخبرني عن أبينا آدم عليه السلام، أهو عندك ممن هداه اللّه؟
قال: نعم.
قلت: فقال اللّه تعالى ـ بقراءة الخاص والعام ـ : {وعصى آدم ربه فغوى} [طه: 121] كيف غوى؟ وقد هداه اللّه تعالى؟!
قال: فتحير ثم انقطع.
(3)مجلس [في الهدى والضلال]
قال: وجرى بيني وبين إبراهيم الحداقي وكان من فقهاء أهل صنعاء كلامٌ، فقلت له: يا إبراهيم، بيني وبينك خلاف في حرف من كتاب اللّه عز وجل.
قال: يا أبا الحسين، وما هو؟
قلت: قول اللّه تعالى: {الركتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم} [إبراهيم: 1].
قال: وكيف ذلك؟
قلت: لإنك تقول: إن اللّه أخرج قوماً من الظلمات إلى النور، وأدخل قوماً في الظلمات وأخرجهم من النور.
قال: لست أقول هكذا.
قلت: أليس أنت تقول: {يضل من يشاء ويهدي من يشاء} [النحل: 93] [فاطر: 8] على وجه الجبر؟
قال: بلى.
قلت: فكان الذين أضلهم أخرجهم من النور إلى الظلمات، والذين هداهم أدخلهم في النور وأخرجهم من الظلمات.
قال: أمّا هكذا فنعم.
قلت: فعد بِنا إلى كتاب اللّه عزّ وجلّ، فأنا وأنت نعد له.
قال: إفعل.
قلت: أفتكلم لي ولك.
قال: نعم.
قلت: قال اللّه عز وجل:{الله وليّ الذين آمنوا يخرجهم/4/من الظلمات إلى النور والذين كفروا أوليآؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون} [البقر: 57]، إنسب يا إبراهيم، إلى اللّه عز وجل ما نسب إلى نفسه، وانسب إلى الطاغوت ما نسب اللّه إليه.
(4)مجلس [حول الجبر والإختيار]
قال: وجرى بيني وبين رجل من الأشراف حسيني بـ(عدن) كلامٌ، وكان يقول بالجبر. فقلت له: ما تقول أيها الشريف في جدك علي بن أبي طالب عليه السلام، هل قتله عبد الرحمن بن ملجم باختيار أو باضطرار؟ قل ما شئت.
قال: ـ وكان رجلا حاضر الذهن ـ ففهم ما أردت به، فقال لي: يا أبا الحسين، أنت تلجئني إلى الوَعَر، إن قلت: إن عبد الرحمن بن ملجم قتل جدي علياً عليه السلام باضطرار أهدرت دم جدي علي؛ لإنه لا يكون على عبد الرحمن في قتله شئ؛ لقول اللّه تعالى: {إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام: 119]، وإن قلت: إنه قتله باختيار خرجت من مذهبي، وإلى مذهبك أعود.
قلت: لا تستكبر، ليس المذهب مذهبي، هو مذهب آبائك وأجدادك الطاهرين، قلت: فعلى ما أذهب منك.
قال: تنظرني حتى ألقاك يا أبا الحسين.
قال: قلت: اللهم، أشهد على عبدك، وابن نبيك أني قد بلغت إليه الحق الذي جاء به جده عليه السلام /5/.
(5)مجلس [الفرق بين الموحّد والملحد]
قال: وسألني بعض إخواني، فقال لي: يا أبا الحسين، ما يكون الفرق بين الملحد والموحد؟
فقلت له: إعلم أكرمك اللّه أنه أجمع الملحد والموحد [على] أن اللّه تبارك وتعالى لو أراد ما عُصِي، ثم قال الموحد: اللّه عز وجل مع هذا ما رضي بفعل العصاة، لقوله سبحانه: {إن تكفروا فإن اللّه غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر} [الزمر: 7]. وقال الملحد: لما كان اللّه قادراً على أن يَنْتَقِم الكافرين،فأخر النَّقمة عنهم علمنا أنه قد رضي بفعلهم، فهذا الفرق بين الملحد والموحد، فاعلم ذلك.
(6)مجلس [مع رجل من الإمامية في علم الإمام]
قال: ولقيت رجلاً من الحسينيين بـ(عدن)، وكان يقول بمذهب الإماميه قال: فقعدت معه على ساحل البحر في مسجد بناه رجل غريب.فقلت له: ما تقول يا شريف، أنت مجمع معي على أن يد النبي صلى اللّه عليه وعلى آله فوق أيدي الأئمه الطاهرين، من علي إلى المهدي عليهم السلام.
قال: نعم.
قلت: فضائل النبي صلى اللّه عليه، فوق فضائل الأئمة وأعلا منها.
قال: نعم.
ثم قلت: تزعم أن إمامك يعلم ما في قعر هذا البحر؟
قال: نعم.
قلت: و اللّه عز وجل يقول لرسوله صلى اللّه عليه: {ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم} [التوبة: 101].
قال: فتحير وسكت.
(7)مجلس [مع إمامي في ما تستحق به الإمامة]
قال: وجرى بيني وبين رجلٍ /6/ حسيني كلامٌ، فقلت له: يا شريف، الإمامة في أولاد الجوهرتين الحسن والحسين عليهما السلام بالاستحقاق؟
قال: لسنا نقول بهذا يا أبا الحسين.
قلت: فكيف قولكم؟
قال: نحن نقول: بالنص.
قلت: وما النص؟
قال: ينص الأول على الآخر، يقول الإمام الذي هو اليوم للناس: هذا إمامكم من بعدي.
قلت له: فلست أشطُ عليك بما لا تقوى عليه، قد أجمعت الأمة بأسرها على أن رسول اللّه صلى اللّه عليه نَصَّ علياً يوم الغدير ونوّه باسمه، وعرّف بإمامته، فلست أسألك مثل تلك الجماعة، ولكني أسألك شاهدين عدلين من غير أهل مذهبك، يشهدان أن علياً عليه السلام، نَصَّ الحسن كما نَصَّه الرسول صلى اللّه عليه، فإذا أتيت لي بهذا ـ ولست تقدر على ذلك ـ سألتكم شاهدين عدلين من غير أهل مذهبك، يشهدان أن الحسن نَصَّ الحسين كما نَصَّه علي عليه السلام، ثم بيِّن لي أيّ إمام نَصَّ على الذي يكون من بعده إلى الطرف؟ فلم يجد جواباً وانقطع.
(8)مجلس [في صوم يوم الشك والخلاف في ميراث الجد والقتال بين المؤمنين]
قال: وكان بيني وبين أبي يعقوب المقرئ بـ (عدن) كلامٌ، في مجلس ابن رياح، فقال لي أبو يعقوب: متى صمت يا أبا الحسين؟
قلت: صمتُ أمس يا أبا يعقوب.
قال: فصام/7/ الناس اليوم، وصمت أمس، لإيّ علّة؟
قلت: للخبر المروي عن عليٍ عليه السلام.
قال: وما هو؟
قلت: قوله: ((لأن أصوم يوماً من شعبان أحبّ إليّ من أن أفطر يوماً من رمضان)).
قال: يا أبا الحسين، فأنت تقول بالشك؟
قلت: أما في اللّه وملائكته وكتبه ورسله فمعاذ اللّه، وأما في نهار أمس فقد شككت. فما تقول في نهار أمس كان من شعبان أو من رمضان؟
قال: لاأدري. قلت: فقد استوينا في الشك في نهار أمس، ولكنك أمنت على نفسك فأقدمتَ، وخفتُ على نفسي فاستحطتُ.
ثم قال: يا أبا الحسين، بلغنا عنك أنك تقول: ليس بين العلماء اختلاف.
قلت: نعم، هذا قولي واعتقادي.
قال: أفليس عندك خبر أبي بكر وعليٍ واختلافهما في الجَدِّ؟
قال: قلت: يا أبا يعقوب، إنّا في طلب هذا الأمر، فعرفني كيف كان اختلافهما؟
قال: نعم، اختلفا في ميراث الجد، فقال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه: الجد يقاسم الإخوة إذا كانوا مجتمعين، ويقاسم الإخوة إذا كانوا منفردين، ولا يقاسم الأخوات إذا كنّ وحدهُّن، ولا يبرح يقاسم الإخوة ما كانت المقاسمة خيراً له، فإذا خشي على سُدُسِه الضرر قبضه، وخلّى أهل الفريضة وفريضتهم. وقال أبو بكر: الجد بمنزلة الأب/8/يحجب ما حجب الأب، ويرث ما ورث.
قال: قلت: يا أبا يعقوب، قد وطئت الكتب، ولقيت العلماء، ودخلت البلدان، فهل رأيت أحداً، أو قرأت في كتاب أن أحداً من الأمة يخرج من حكم علي هذا في الجد؟
قال: لا.
قلت: فهل قرأت في الكتب، أو سمعت أحداً من الأمة يدخل في حكم أبي بكر؟
قال: لا.
قلت: يا أبا يعقوب، فإذا كنت أنت وأصحابك وجميع أهل مقالتك تقولون بإمامة أبي بكر، وأنتم وجميع أهل الإسلام خارجون من حكمه فكيف منزلته عندكم؟ ولربما أعملت الفكر في أمركم، فإن أصدّق كلامكم على الرجل وقد غاب عني شخصه فأنا متحير في كلامكم، وإن أقل: إنكم اتخذتمم إلى الرجل ما لم يقل فبالحرا.
ثم قال: يا أبا الحسين، بلغنا أنك تقول: ليس بين المؤمنين قتال.
قلت: نعم، هذا قول واعتقادي.
قال: أفليس عائشة قاتلت علياً؟
فقلت له: عائشة لم تؤمر بالقتال، إنما أمرها اللّه عز وجل بأن تقرّ في بيتها، فعصت ربها ونبيها.
قال: فتحير، ثم قلت للجماعة الذين كانوا حضورًا معنا: إنما القتال بين المؤمنين والكافرين.
ثم قلت: هل منكم أحد يشك في إيمان أمير المؤمنين علي عليه السلام؟
قالوا: معاذ الله!
قلت: فأحد منكم يشك في كفر/9/ذي الثّدية.
قالوا: لا.
قلت: فجميع من حارب أمير المؤمنين علياً عليه السلام، فهو كافر بالله.
قال: فانقطع أبو يعقوب وأمسك.
ثم ألتف إبراهيم بن رياح إليّ. فقال لي: يا أبا الحسين، أنت مقلد.
قلت له: إني أبرأ إلى اللّه من فريقين.
قال: ومن هما؟
قلت: من الذين قال اللّه سبحانه فيهم: {وكذبوا واتبعوا أهوآئهم} [القمر: 3]، ومن الذين قالوا: { إنَّا وجدنا آبائنا على أمةٍ وإنَّا على ءاثارهم مقتدون}.
قال: فممّن أنت؟
قلت: من الذين قال اللّه عز وجل فيهم: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} [النساء: 65].
قال: يا أبا الحسين، وفيمن هذه الآية؟
قلت: هي في النبي صلى اللّه عليه، وفيمن يقوم مقام النبي صلى اللّه عليه، من أهل بيت النبي في أمة النبي.
قال: لا يا أبا الحسين، إنما هذه الآية خآصةٌ في النبي، والنبي فقد غاب.
قلت: فأحسن اللّه جزاك يا أبا إسحاق.
قال: فيم تشكرني؟
قلت: عندما رفعت عنّا العبادة.
قال: كيف ؟
قلتُ: لإنك قلتَ: إنها خاصة في النبي وليست لإحد بعده، فإذا غاب عنا المعلم ولم يبق من يقوم مقامه فقد ارتفعت العبادة.
قال: أنا استغفر اللّه يا أبا الحسين، بل الآية كما قلت خاصة في النبي وعامة/10/فيمن يقوم مقام النبي، من أهل بيت النبي، في أمة النبي عليه وعليهم السلام.
ثم قال إبراهيم لجميع من حضر: دعوا الكلام لأبي الحسين.
(9)مجلس [في أن العلماء لا يختلفون]
وقال لي البحيرمي ـ إنسان كان بـ(عدن) وكان يتعلم مني ـ :يا أبا الحسين، قال لي هؤلاء المخالفون لنا: أليس صاحبك أبو الحسين يقول: ليس العلماء يختلفون، وقد اختلف موسى والخضر.
قلت له: فما قلت لهم؟
قال: جئت أسألك ما أقول لهم.
قلت له: قل لهم: كيف أنتم تزعمون أنهما اختلفا، والله عز وجل يقول في كتابه أن موسى قال للخضر: {إن سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً} [الكهف: 76]، فإنا نراه يعتذر، وليس المعتذر بمخالف.
(10)مجلس [في معنى قوله تعالى:إن كان اللّه يريد أن يغويكم هو ربكم]
قال:وقال لي البحيرمي مرةً: أليس أنت تقول: إن اللّه تعالى لا يغوي أحداً من خلقه؟
قلت: بلى، هذا قولي واعتقادي.
قال: فقال قوم من مخالفينا: ألا ترى أن نوحاً صلى اللّه عليه، قال لقومه: {إن كان اللّه يريد أن يغويكم هو ربكم} [هود: 34].
قلت له: فما قلت لهم؟
قال: تعرفني يا أبا الحسين ما أقول لهم.
قلت:للهادي عليه السلام كلامٌ في هذا المعنى، وللقاسم أيضاً فيه كلامٌ، فالمعنى في كلامهما واحدٌ، واللفظ مختلف، قال القاسم عليه السلام: صدق اللّه الذي لا إله إلا هو وبلغت رسله، قال نوح عليه السلام،/11/لقومه: {إن كان اللّه يريد أن يغويكم} [هود: 34] قوله: إن هو حرف استفهام، فليس ينفعكم نصحي إن كان قد حال بينكم وبين الطاعه. وقال الهادي عليه السلام: إن كان اللّه يريد أن يغويكم، معنى يغويكم: يعذبكم بما اجترمتم فليس ينفعكم نصحي، إذا حل بكم العذاب بما استوجبتم، قال اللّه عز وجل: {فسوف يلقون غياً} [مريم: 59] يعني عذاباً.
(11)مجلس
قال: وجرى بيني وبين رجلٍ من الطالبيين كلامٌ، فقال لي: يا أبا الحسين، أنا رجلٌ معي ضيق صدر ومعي بنات، وتحت يدي خويدمات، وأنا أرى أن ماتا حاجزت ولست أقدر على الضيق، فلا أدري ما تشر عليّ؟
قلت له: إسمع يا شريف، لا يضق صدرك، ولا يغم قلبك، فما سلمنا أن يحدث بالمحدث بأس فحالنا جميل، وأنا وأنت ـ نعلم والحمدلله ـ أنه لا يحدث به بأس، وقد قال اللّه عز وجل في كتابه المنزل على لسان نبيه المرسل: {ومن يتق اللّه يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} [الطلاق: 2،3]فتوكل على اللّه واعمل بطاعته تنج من جهد الدنيا وعذاب الآخرة.
قال: وبينما نحن في مجلسنا ذلك إذ نظر إليَّ رجل من جند السلطان،وذلك الجندي شيخ كبير أحمر الرأس واللحيه وهو يمرغ فرساً له وينصص له ويلاعبه.
فقال لي الشريف: يا أبا الحسين،/12/ألا تنظر إلى قلة عقل هذا على هذه السن وحمقه.
فقلت له: قد بقي من هو أقل من هذا عقلاً وأحمق منه، لإن هذا عارف بنفسه وأنه مخط، ولعله يحدث نفسه بتوبة مما هو عليه، لكن أشد منه جهلاً من قد جمع الكتب التي فيها إدحاض ما جاء به النبي عليه السلام، وليس هو يحدّث نفسه بالتوبة من ذلك إلى يوم القيامة، هذاك أجهل من هذا.
قال، فقال: صدقت يا أبا الحسين، والقول على ما قلت.
(12)مجلس [هذا هو المجلس الأول مع زياده]
قال: وكنت التقيت برجل من فقهاء صنعاء مقرئ، يقال له: (ميمون) فتحدثنا إلى أن قلت له: قال اللّه عز وجل: {ما يعلم تأويله إلا اللّه والراسخون في العلم} [آل عمران: 7] فقال لي: يا أبا الحسين، لا يقرأ هكذا، فإن القراءة ووقف القُرَّاء: {ما يعلم تأويله إلا الله} هاهنا الوقف. قال: فغفلت عنه ساعة حتى نسي حديثنا، ثم قلت له: مامعنى قول اللّه عز وجل:{واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها} [يوسف: 82] قال: اسأل أهل القرية وأهل العير. قلت: وقوله: {لتنذر أم القرى ومن حولها} [الأنعام: 92] قال: أم القرى مكة وحولها الشرق والغرب. قال: فقلت له: هذا تنزيل أم تأويل؟ قال: بل تأويل. قلت: فقد قلتَ: إن الوقف: {ما يعلم تأويله إلا الله} فتحير، وبرم فأمسكت.
ثم قلت: يا ميمون، في/13/كلامنا بقية، قوله عز وجل: {والراسخون في العلم يقولون آمنا به} إن كانوا آمنوا بما علموا فإيمانهم صحيح، وإن كانوا آمنوا بما جهلوا فليس معهم إيمان.
قال: ثم قلت له: ما تقول لإحد عنك مشيّة أوأمر.
قال: لا.
قلت: لا للذكر ولا للأنثى.
قال: نعم.
قلت له: فاعلم أني قد وجدت لك كتاباً قد كتبته بخطك لمرأة على زوجها: إذا شاءت فلانة سألت فلاناً حقها هذا، وسأله إياه لها سائلها بأمرها. فأخبرني هل كتبت لها ما لا يحل لها؟ أم خدعتها عند ما قصدت إليك بكتابها؟
قال: فتحير ولم يرد جواباً.
(13)مجلس [هذا المجلس الثاني]
قال: ولقيت رجلاً من فقهاء أهل صنعاء. فقلت له: ما تقول على كم الهدى عندكم من وجه؟
قال: هو عندنا على وجه واحد، والضلال على وجه واحد.
قلت: فبيَّن لي فيهما حالاً أعمل بحسبه.
قال: يا أبا الحسين، أنا أبيِّن لك القول ببيان واضح، إعلم أن قولنا وعندنا أن من هداه اللّه عز وجل فليس له إلى المعصية سبيل، وكذلك من أضله فليس له إلى الطاعة سبيل، وهذا القول يكفيك عن غيره.
قال: فقلت له: فأخبرني آدم عندك وعند أصحابك ممّن هداه اللّه؟
قال: نعم.
قلت: قال اللّه عز وجل من قائل: {وعصى آدم ربه فغوى} [طه: 121]يقرى بهذا في جميع الدنيا، وقلت: إن عندكم من هداه اللّه فليس له إلى المعصية سبيل/14/.
قال: فتحير وبرم ولم يجب.
(14)مجلس [إن اللّه لا يأمر بمالا يريد]
وقال لي يوماً رجل غريب بـ(عدن): يا أبا الحسين، أليس أنت تقول: إن اللّه لا يأمر بما لا يريد.
قلت له: نعم، هذا قولي واعتقادي، وقول جميع أهل الإسلام.
قال: فهذا إبراهيم عليه السلام أمره اللّه بذبح ابنه وهو لا يريد منه أن يذبحه.
قال: قلت له: ليس القول كما قلت، إنما أراد اللّه عز وجل من إبراهيم أن يجري السكين على حلق ابنه ففعل إبراهيم ما أراد اللّه عز وجل منه وأمره به، وتصديق ذلك قول اللّه عز وجل له: {يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا} [الصافات: 104، 105].
(15)مجلس
قال: وقال لي يحيى القطان بـ(عثر): يا أبا الحسين، إنما مثل أبي بكر مع علي بن أبي طالب عليه السلام، مثل نبي بني إسرائيل، مع طالوت عليهما السلام.
قال: فقلت له: يا يحيى، أليس اجتمعت بنو إسرائيل إلى نبيهم وتوسلوا به إلى خالقهم أن يبعث لهم ملكاً يقاتل في سبيل الله؟ فدعا لهم فاستجاب اللّه عز وجل دعاء نبيه عليه السلام، فبعث لهم طالوت، فهمت بنو إسرائيل بمكابرته، وقالوا: {أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعةً من المال}، فعرّفهم نبي اللّه أن الملك خلاف ما ذهبوا إليه بقوله: إنه فضل طالوت {وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم} [البقرة: 247]، فهل معك يا يحيى،/15/بيان أو برهان أن أمة محمد صلىالله عليه، اجتمعوا إلى علي بن أبي طالب كاجتماع بني إسرائيل إلى نبيهم، وسألوه أن يبعث لهم أبا بكر؟
قال: فتحير، وقال: ليس معي في هذا جواب.
قال له: فينبغي للمسلم يحصل كلامه ويصل قوله بقولٍ لا يفيد، وإلا فليس معه قول ولا عمل.
(16)مجلس [في الشفاعة]
قال أبو الحسين: وقعدت يوماً بـ(منكث) في جماعة من إخواني وجرى بيني وبينهم كلام، فقال لي رجل: ما تقول يا أبا الحسين، في الشفاعة من النبي صلى اللّه عليه وآله، هل تكون للمحسن أم للمسيء؟
فقلت: لا، بل للمحسن دون المسيء.
فقام إليَّ رجل كان من خدام أسعد، فقال: يا أبا الحسين، ليس يحتاج المحسن إلى الشفاعة، قال اللّه عز وجل: {ما على المحسنين من سبيل}.
قال: فقلت له: أقعد. فقعد، ثم قلت له: يا هذا، أخبرني عن نبينا محمد صلى اللّه عليه في كمال عقله ومعرفته بربه إذا كان يوم القيامه، فقال لربه: إلهي وسيدي، قد كنتَ أنزلت عليَّ كتاباً في دار الدنيا، تأمرني فيه أن أعلم جميع خلقك من الجن والأنس وآمرهم بطاعتك، وأعدهم عليها بثوابك، وأنهاهم عن معصيتك، وأتوعدهم عليها بعقابك، فأنا اليوم أسألك أن تبطل ذلك الوعد والوعيد وتصير المسيء مع المحسن، والمسلم مع المجرم، وهو مع ذلك يتلو قوله تعالى: { لايشفعون إلا لمن ارتضى/16/وهم من خشيته مشفقون} [الأنبياء: 28]، والله يقول: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين} [القلم: 35]، ويقول تعالى: {إن رحمت اللّه قريب من المحسنين} [الأعراف: 56]، فهل ترى أن يجوز لرسول اللّه صلى اللّه عليه مثل هذا من القول؟
قال: فتحير.
ثم قال لي: أنتم يآ معشر الشيعة تقعون في أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه.
فقلت له: أنت تعرفني وأنا أعرف منذ دهركثير، فهل سمعتني أقع في أحد من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه؟
قال: أما أنت فلا، وأما أصحابك فنعم.
قلت له: يا هذا، أنا غير أصحابي وأصحابي غيري.
قال: إنما هم يقعون فيمن قد رضي الله عنه، ثم ذهب يعدُّ العشرة فلم يحسن.
فقلت له: تحب أن أحسبهم لك؟
قال: نعم.
قلت هم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف.ثم قلت له: ما تقول هؤلاء العشرة؟
قال: هؤلاء الذين قال اللّه فيهم عز وجل: { لقد رضي اللّه عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم...الآية} [الفتح: 18].
قلت له: يا شيخ، مثلك على هذه السن وهذه الشيبة يطعن على أصحاب النبي صلى اللّه عليه، ويقع فيهم.
قال: كيف ذلك؟!
قلت: إذا كان عندك أن اللّه سبحانه لم يرض إلا على هؤلاء العشرة، فكأنه قد سخط على الباقين من أصحاب النبي صلى اللّه/17/عليه، ليس عندي أن مسلماً يتكلم بمثل هذا، أين ذو الشهادتين؟ وأين التيهان؟ أين المهاجرون والأنصار؟
ثم قلت له: يا شيخ، أنت تروي أنت وأصحابك أنه لا يجتمع القاتل والمقتول في موضع واحد.
قال: نعم.
قلت له: أليس قولكم إن القاتل خلع عن المقتول ذنوبه كما يخلع الإنسان لحافه؟
قال: نعم.
قلت: فأخبرني عن عثمان بن عفان أين قُتِل؟
قال: بالمدينة.
قلت: وعلي بن أبي طالب حاضر.
قال: نعم.
قلت: بلغك أنه نهنه عنه بيدٍ أوبلسان.
قال: لا.
قلت: فأخبرني عن طلحة بن عبيد اللّه في مصاف من قُتِل؟
قال: في مصاف علي عليه السلام.
قلت: فإلى من أُتي برأس الزبير بن العوام؟
قال: إلى علي.
قلت: فهؤلاء يجتمعون في مكان واحد؟!
قال: فتجبر.
ثم قلت له: يا شيخ، كلامكم ينقض بعضه بعضاً.
(17)مجلس [في قوم غرقوا في البحر]
قال: وسألني يوماً أهلُ عدن ونحن في الجبَّانة في يوم عيد، وقد كان قوم من أهل عدن ومن الغرباء ركبوا في البحر إلى بعض تلك البلدان، ثم جاءهم خبر أن المركب باق وأنهم غرقوا. قال: فأغتمّ لذلك أهل عدن وبكوا عليهم. وقالوا لي: يا أبا الحسين، ما تقول في هؤلاء؟ نحن نرجو أن يجعل اللّه تعالى عوضهم في رحمته.
قلت لهم: إن اللّه تعالى قد عرفنا بخلاف ما قلتم.
قالوا: وما ذلك؟
قلت: قال تعالى: {فيغرقكم بما كفرتم} [الإسراء: 69]، وقال: {فكلاً أخذنا بذنبه [إلى قوله] ومنهم من أغرقنا} [العنكبوت: 40]، وقال سبحانه: {مما خطيئآتهم أغرقوا/18/ فأدخلوا ناراً} [نوح: 25]، ففي كل هذا يخبر أنه لا يغرق مسلماً، فمن هذه الجهة قلت لكم هذا القول.
(18)مجلس [في صفة الراجي لرحمة ربه]
قال: وكنت قد كتبت لمحمد بن هيثم، إلى عدن كتاباً بالغاً في معرفة اللّه تعالى، ومعرفة رسوله وأهل بيته عليهم السلام، فبينا أنا ذات يوم بصنعاء إذ ذكرت محمد بن هيثم، فقال لي بعضهم: يا أبا الحسين، صديقك ابن الهيثم هاهنا اليوم يريد الحج. قال: فنهضت إليه، فوجدته في منزل ابن خلف، فسلمت عليه وفرح بمجيئي إليه.
ثم قلت: يا أبا عبدالله، ما حاجتك إلى هذه البلد؟ قال: أريد إلى مكة.
قلت: ما تعمل؟
قال: أحج.
قلت: تريد تغالب ربك ليغفر لك شاء أو أبى.
قال: فضحك.
ثم قال لي: يا أبا الحسين، تقف عندي حتى يأتي رفيق لي هاهنا، فوقفت وسألته عن رفيقه، فقال: هو: عبدالله بن المحاي، فلما جاء عرّفه بي، وقال: يا أبا محمد، هذا صديقي أبو الحسين الذي كنت أذكره لك. قال: فسلم عليَّ وأبتشّ بي وهمّ أن يقعد بين يدي، فقلت:ليس كل هذا إن تركتمونا نقعد معكم وإلا قمنا، ثم إن محمد بن الهيثم التفت إليه، وقال: يا سيدي، يا أبا محمد، تدري ما قال لي أبوالحسين؟ قال: وما قال لك؟ قال: قال: ما جاء بك إلى هذه البلد؟ فقلت له: أحج. فقال: أنت تريد تغالب ربك ليغفر لك شاء أو أبى.
قال: فقال المحاي لي: يا أبا الحسين نحن نرجو رحمة الله/19/.
قال: قلت: يا أبا محمد، إذا كنت ممن يرجو رحمة اللّه فطنت، وقد عرّفنا اللّه بأهل الرجاء لرحمته. فقال تبارك وتعالى: {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه أولئك يرجون رحمة الله} [البقرة: 218]، وروي أيضاً عن النبي صلى اللّه عليه، أنه لما انصرف من جهاد بدر، قال: ((إنصرفنا من الجهاد الأصغر، إلى الجهاد الأكبر)) قالوا: يا رسول اللّه، أليس قد قَتلنا وقُتلنا وجَرحنا وجُرحنا. فقال عليه السلام: ((جهاد المرء لنفسه أشد من جهاده لعدوه)).
قال: وجاء رجل أعرابي إلى النبي صلى اللّه عليه، فقال: يا نبي اللّه، إليك الهجرة فإذا مت انقطعت الهجرة. فقال صلى اللّه عليه: ((يا أعرابي، إذا هَجَرتَ الخطايا والذنوب فأنت مهاجر ولو مِتَّ بالحضرة))، وروي عن النبي صلى اللّه عليه وعلى أهله، أنه قال: ((الأيمان قولٌ مقول، وعملٌ معمول، وعرفان بالعقول))، فقد بينت لكم الجهاد، والهجرة عن النبي صلى اللّه عليه، والأيمان أيضاً. فهؤلاء أهل الرجاء لرحمة اللّه، فإن كنتم هؤلاء فهذا حسن، وإن كنتم من غيرهم فالقول ما شئتم. قال: فلم يجيروا جواباً.
(19)مجلس [في الجبر والشفاعة]
قال: وقلت يوماً لإهل صنعاء ـ بعد أن دخل ابن وردان صنعاء بعساكره وخرج منها، وقد قعدت مع نفر منهم في السرار فقلت لهم: أضرّ بكم هذا السلطان وعساكره. قالوا: نعم.
قلت: وفقهاؤكم وعلماؤكم، يقولون:/20/ليس لكم منهم نَصَفَة لا في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك أنهم اعتقدوا أن عيث هذا العسكر وعبثه كان بقضاء اللّه وقدره، فليس لكم أن ترغبوا إلى اللّه عز وجل وتسألوه أن ينصفكم من قضاءه وقدره، فتقولون: اللهم، انصفنا من قضائك وقدرك. والثانيه: أن علماءكم أيضاً رووا لكم أن النبي صلى اللّه عليه، قال: ((ادَّخَرْتُ شفاعتي لإهل الكبائر من أمتي))، فإذا كان رسول اللّه صلى اللّه عليه يشفع لهؤلاء، فما الذي تقع في أيديكم؟ ثم قلت لهم: أما نحن والحمدلله فنرجو لنصفه فيما يصيبنا من أعداء اللّه في الدنيا والآخرة، لأنَّا نعهد أن اللّه سبحانه لا يرضى بفعل العصاة، ولا يقضي بشيء منه، لقوله تعالى: {يقضي الحق} [غافر: 20]، وكذلك قولنا واعتقادنا في الرسول أنه لا يشفع لإحد من العصاة، لقول اللّه سبحانه فيه وفي إخوانه النبيين جميعاً: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} [الأنبياء: 28].
(20)مجلس [في الفرق بين الخروج عن أمر اللّه والخروج عن علمه]
قال: وجرى بيني وبين رجلٍ من كبار أهل صنعاء كلام، فقلت له: يا هذا، إن حجة اللّه عليك كمثل حجته على أبيك، وقد كان أبوك رحمه الله، يقول بعدل اللّه وتوحيده، وتصديق وعده ووعيده، وأنت تقدر أن تعمل مثل عمله لنفسك ما دمت في أوان المهلة.
قال: يا أبا الحسين، هو كما قلت، ولكن معي ها هنا شئ قد ضاق منه/21/صدري، وعيل منه صبري.
قلت: وما هو؟
قال: أخبرني أليس قد علم اللّه عز وجل أن فرعون لعنه اللّه يعصي، وأنه لا يطيع إذا أرسل إليه موسى، فهل كان قادراً أن يخرج من ذلك العلم؟
قلت: استمع، واعلم أن اللّه عز وجل علم أنه سيخلق موسى صلى اللّه عليه فخلقه، وعلم أنه يأمره فيختار الطاعة، فخلقه وأمره واختار الطاعة، وعَلِمَ أنه سيخلق فرعون الملعون، وأنه يأمره فيختار المعصية، فخلقه واختار المعصية. فما لك في هذا من حجه؟
قال: لم تبين لي بعد.
قلت: أنه يتبين لك في المتبوع ما لا يتبين لك في التابع، ما تقول في إبليس الملعون، هل لعنه اللّه تبارك وتعالى وتوعده بعذابه، وأمر خلقه بلعنته إلى يوم الدين، علىخروجه من أمره، أو على خروجه من علمه؟
قال: فتحير وابتهر ولم يرد جواباً.
قال: ثم قلت: قد بينت لك الحق، فارجع إليه، واعلم أن اللّه عزّ وجل إنما لعن إبليس على خروجه من أمره، لا على خروجه من علمه، لأنه لا يقدر أحدٌ من الخلق يخرج من علم اللّه أصلاً، فارجع إلى الحق وتعلق بكلمة الصدق، يكن ذلك خيراً لك في الدنيا والآخرة.
(21)مجلس [عن مكان الجنة]
قال: وقال لي أيضاً رجل من أهل (صنعاء): يا أبا الحسين، قد كنت حدثتنا مرةً بحديث طيب. وقلت لنا: إن الجنة تكون في الأرض، وأنَّا لا ننتقل من هذه إلى سماء ولا غيرها.
قلت له: يا هذا، ليس كلامي عليك ولا على غيرك حجة، وإنما الحجة علينا كتاب اللّه تبارك وتعالى، حيث قال وأخبر أن أهل الجنة يقولون: {الحمدلله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبؤا من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين} [الزمر: 74].
(22)مجلس [في معنى قوله تعالى: ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والأنس]
قال: ودخلت مرةً على أبي عبدالله محمد بن هارون الصيني، فقال لي: يا أبا الحسين، ما قول أصحابك في تفسير قول اللّه عز وجل: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والأنس} [الأعراف: 179]؟ قلت: يا أبا عبدالله، قولهم فيه كقولكم، ـ أعني الهادي إلى الحق، وآبائه الطاهرين عليهم السلام ـ.
قال: فما قولهم؟
قلت: معناه عندهم، كمثل قول اللّه عز وجل: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً} [القصص: 8]، لما علم اللّه سبحانه أن آخر أمر موسى يكون لآل فرعون عدواً وحزناَ عرَّفنا به، وهم لم يأخذوه إلا ليسرهم؟
قال:لم يتبين لي.
قلت: يا أبا عبدالله، الذروذروانذرء الإبتداء وذرء الإعادة.
قال: لم يتبين لي.
قلت: يا أبا عبدالله، معنى قوله عز وجل: {ولقد ذرأنا لجهنم} أي سيذرأ أولياؤه إلى ثوابه ويذرأ أعداءه إلى عقابه. قال: يا أبا الحسين، قوله عز وجل: {ذرأنا} فعل ماض. وقولك سنذرأ: فعل مستقبل، وهذا يخالف العربيه، ليس الفعل الماضي يرجع مستقبلاً/23/.
قال: حجتي يا أبا عبدالله، من كتاب الله، قال اللّه سبحانه: {ونادى أصحابُ النار أصحابَ الجنة} [الأعراف: 50] {ونادى أصحابُ الجنة أصحابَ النار} [الأعراف: 44] فما تقول؟ قد نادوا يا أبا عبدالله، قال: لا، ولكن معناه سينادون.
قال: قلت: وكذلك أراد أنه سيذرأ أولياءه إلى ثوابه وأعداؤه إلى عقابه. قال: ما أحسن ما جئت به في هذا المعنى.
(23)مجلس
قال: ولقيني يوماً علي بن القاسم العلوي، فعرّفني أنها ذهبت خيل لإبي القاسم بن خلف، وأن أبا القاسم استعان بأبي جعفر بن الضحاك وبهمدان وبني الحرث على المرهبيين، كي يردوها. قال: فقلت له: يا شريف، فعهدي بإبي القاسم يقول بالقضاء والقدر، فعلى معنى قوله: إن هذه الخيل أُخذت بقضاء من اللّه وقدرٍ، فكان يصبر للقضاء والقدر ولا يستعين بأحد، إن قضى أن يردوها إليه ردوها.
قال: فقال لي الشريف: فتمضي بنا إليه؟ فمضينا إليه، فلما قعدنا عنده، عرّفه الشريف بما كان من كلامي من جهة القضاء والقدر.
قال: فضجر والتفت إليّ، وقال: أنتم تقعون في أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه، ثم تخاطب هو والشريف وأنا ممسك، ثم قال لي: فأنت مالك لا تتكلم وأول الكلام منك؟
قال: قلت: يا هذا، لست بكرياً، ولا عمرياً، ولا عثمانياً، ولا علوياً، فازداد ضجره.
فقلت: يا هذا، إنَّا لم نأتك لخصام، هل عندك شيء حلوٌ تطعمنا؟
قال:/24/فصاح أبو القاسم بأخيه أبي عيسى، وكلمه بينه وبينه بما لا أدري، ومضى أبو عيسى فأتى بخوانٍ عليه شئ من الحلوى.
قال: فقال أبو القاسم: صيحوا لنا بالضياع الذين في أسفل الدار. قال: فأتي بهم، وهم: ابن نبات، وإبراهيم بن عاصم المؤذن.
قال: فلما دخلا وضعنا نأكل. قلت لإبراهيم بن عاصم: يا إبراهيم، إعلم أني سمعتك وأنت تقول: حي على الصلاة فأجبتك، وحييتك وقمت، ثم لا أدري لأي الصلوات دعوتني في ذلك الحين لصلاة العشاء أم للعتمة، أم للصبح، أم للظهر، أم للعصر؟
قال لي: كنت مغبون إذا صليت في ذلك الوقت.
فقال له صاحبه ابن نبات: يا أبا إسحاق، ليس هذا جواب الرجل.
قال: فضجر، وقال: قد نحن في العصبية، وجاء يقوم، فقال أبو القاسم: أمسكوه وهو يضحك منه. ثم قلت له: اسمع يا إبراهيم، روي عن زيد بن علي عليه السلام، أنه قال: ((من أذن قبل طلوع الفجر فقد أحل ما حرم اللّه وحرم ما أحل الله)).
(24)مجلس [في خلق القرآن]
قال: وقال لي رجل من أهل صنعاء مرة ونحن في جماعه: ما تقول يا أبا الحسين، اللّه عز وجل خلق (الرحمن)؟ فقلت: اللّه تبارك وتعالى عندي وعندك وعند جميع المسلمين واحد لا ثاني معه.
قال: نعم.
قلت: والرحمن (ال ر ح م ن) فالله عز وجل خلق هذه الأحرف السته. قال: فتحير وبرم وانصرف.
(25)مجلس [في أطفال اليهود والنصارى]
قال: وقال لي رجل من بعض المخالفين: بلغني عنك يا أبا الحسين، لو أنك تركت وأولاد اليهود والنصارى لغسلتهم وكفنتهم وقبرتهم في مقابر المسلمين.
قال: قلت: نعم، هذا قولي واعتقادي.
قال: فإذا كان هذا قولك فورث بعضاً من بعض.
قال: قلت: ليس كذلك، ولكن قد بين اللّه سبحانه لنا ما نأتي وما نذر، فقال لنبيه صلى اللّه عليه: {وصلّ عليهم إنّ صلاتك سكن لهم}، ثم قال سبحانه في موضع آخر: {ولا تصلّ على أحدٍ منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} [التوبة: 84]، فهذا الطفل عندك كفر بالله وبرسوله ومات وهو فاسق، قل ما شئت. قال: فتحير وسكت.
(26)مجلس [حول حديث معاذ]
قال: وكنت قد مررت في بعض هذه الأيام بمنزل محمد بن أبي روح الصنعاني، فصادفته على باب داره، فقام إليّ فسلم عليّ فإذا في يده دفتر، فقلت له: يا أبا عبدالله، ما في دفترك؟
قال: يا أبا الحسين، فيه شئ من مذاهب أهل الكوفة.
قلت: يا محمد، تركت من أمرك اللّه بإتباعه: محمداً وأهل بيته عليهم السلام، وأنت تطلب مذاهب أهل الكوفة وغيرهم.
قال: يا أبا الحسين، مذهبهم من أقرب المذاهب إلى الحق.
قال: قلت: يا أبا عبدالله، تركت مذهب الحق عياناً، وأنت تطلب أقرب المذاهب إليه.
فقال: يا أبا الحسين، إنما على الإنسان أن يجتهد رأيه، يا أبا الحسين أليس عندك خبر معاذ بن جبل عندما وجهه/26/رسول اللّه صلى اللّه عليه إلى اليمن. فقال له: ((يا معاذ، بما تحكم؟)) قال: بكتاب الله. قال: ((فإن لم)) قال: فبسنتك يا رسول الله. قال: ((فإن لم)) قال: أجتهد برأيي. قال: فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: ((الحمدلله الذي وفق رسول رسوله صلى اللّه عليه)).
قال: قلت: يا محمد، إن صحت الروايه فكأن رسول اللّه صلى اللّه عليه، قال: الحمدلله الذي وفق رسول رسوله فحمد الله حين فضل معاذاً عليه.
قال: وكيف ذلك؟
قلت: لإن اللّه عز وجل قال في كتابه لرسوله صلى اللّه عليه: {وأن احكم بينهم بما أنزل اللّه ولا تتبع أهوائهم}، وقال عز وجل: {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44]، {وأولئك هم الظلمون} [المائدة: 45]، {وأولئك هم الفاسقون} [المائدة: 47].
(27)مجلس [مع إمامي في موضع الإمامة]
قال: وقعدت أنا وأبو بكر بن مفصل الأبناوي، وكان معه أحمد بن دينار، رجل من تلامذته، وكان معي عبد الرحمن بن إبراهيم البشاري، وكنت أنا وأبو بكر في حديث، وعبد الرحمن وابن دينار في حديث، فسمعت أحمد بن دينار يقول: يا عبد الرحمن، حجتنا يا معشر الإمامية أقوى من حجتكم يا معشر الزيدية. فقال عبد الرحمن: وكيف؟ قال: لأنَّا نقول إن النبوة كانت في خليل اللّه إبراهيم ثم أفضت عنه إلى ابنه إسماعيل، وأفضت من إسماعيل إلى إسحاق أخيه، ثم درجت في ولد/27/ إسحاق عليهم السلام، وكذلك أفضت الإمامة من النبي عليه السلام، إلى الوصي رضي اللّه عنه، وكذلك أفضت من عليٍ إلى الحسن، وأفضت من الحسن إلى الحسين، ثم درجت في ولد الحسين عليهم السلام، فابتهر عبد الرحمن ولم يدر كيف يجيبه.
قال: فقلت: يا عبد الرحمن، سل أحمد بن دينار: أمحمد صلى اللّه عليه من ولد إسماعيل، أم ولد إسحاق؟
قال: فوثب أبو بكر، فقال: جاء من بعد الناطقين يا أبا الحسين، موسى وعيسى عليهما السلام.
قلت: فليكن من بعد عشرة نطقاً، أليس قد رجعت النبوة من ولد إسحاق إلى ولد إسماعيل يوماً ما؟
قال: نعم.
قلت: وكذلك ترجع الإمامة من ولد الحسين إلى ولد الحسن.
(28)مجلس [جواب عمّن فضّل الحسين على الحسن]
قال: وقعدت يوماً في حانوت لرجل يقال له: (ابن عيلان) في دار البز بصنعاء في جماعة، ونحن نتحدث إذْ دخل علينا رجل كان من خدم أهل جبل مسور، يقال له: (ابن السيرافي) فسلم علينا، وقعد، ثم قال: نعم، إنما الإمامة في أولاد الحسين دون أولاد الحسن، لأن الحسن باع دين اللّه من معاوية فليس لأولاده في الإمامة نصيب، والحسين جاهد في سبيل اللّه حتى قتل.
قال: فتركته حتى فرغ من كلامه، ثم قلت له: أبو من؟ قال: أبو الحسن. فأنت أبو من؟ قلت: أبو الحسين.
ثم قلت له: يا أبا الحسن، إعلم أني متحير في أمرٍ ها هنا، وأنا أريد /28/مشورتك فيه.
قال: وما هو يا أبا الحسين؟
قلت: إعلم أني خرجت من بلدي من طبرستان، فما وصلت إلى بلد من البلدان إلا وأنا ألقى به العلماء والمتكلمين، وكل منهم مجمع على أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله، شهد لابنه الحسن بالجنة، ثم أسمعك تشهد له بالنار، فأشر عليّ بأي القولين آخذ بقول رسول اللّه صلى اللّه عليه، في ابنه، أوبقولك؟
قال: بل بقول رسول اللّه وما يساوي قولي معه يا أبا الحسين، وتغير وجهه.
قلت: فأنت تدري ما أنت تقول، وكلامك هذا إلى ما يؤول؟ إنك أردت أن تمدح الحسين بذم الحسن، فذممتهما جميعاً، ولم تَدَبَّر قول اللّه عز وجل: {أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا}[القصص: 54] وقوله عز وجل {وفضل اللّه المجاهدين على القاعدين} [النساء: 95]، فالحسن صابر، والحسين مجاهد عليهما السلام، وأنت يا هذا فليس معك بيانٌ ولا برهانٌ أن الحسن وجد أعواناً وقعد وقام بهم الحسين؛ لأنك تعلم أن الأمة بأسرها يشهدون أن الحسن لما لزم منزله وأقبل على طاعة خالقه من جهة عدم الأعوان، قعد معه أخوه الحسين بقعوده، وقعودهما كقعود أبيهما مع الثلاثة الذين سلفوا من جهة عدم الأعوان.
قال، فقال: يا أبا الحسين، إني من أهل المحبة لأهل بيت النبي صلى اللّه عليه وعليهم.
قلت: فإذا كان هذا كلام المحب فكيف/29/يكون كلام المبغض؟
قال: فانكسر وسكت، ثم قلت له: يا عبد الله، اتق اللّه واستغفر لذنبك، واحذر العودة لمثل هذا الكلام، فإن اللّه عند لسان كل قائل.
(29)مجلس
قال: وكنت قعدت بدار البزّ بصنعاء على حانوت أبي المقدم، ومعي محمد بن أبي كثير، فنحن نتحدث إذ نظر محمد بن أبي كثير إلى رجل كان أيضاً من أهل صنعاء، يقال له: (ابن العرز) وقد قام يريد الرواح إلى منزله، فأقبل يلعنه ويتكلم في ابن العرز هذا.
قال أبو الحسين: فقلت له: يا محمد، لا تغرق في نزعك كل هذا، فإنك والرجل قريب من قريب.
فقال محمد لأبي المقدم: انصفني من أبي الحسين، يشبهني بهذا المجبر المشبه.
قال: قلت: يا أبا عبدالله،كما أنت، ما تقول في قول اللّه عز وجل: {أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدِّي ألا أن يهدى}، فما قولك واعتقادك ومذهبك أن اليد اليسرى تكون فوق اليد اليمنى؟
قال: فالتفت إليه أبو المقدم، فقال له: قل ما شئت، فتحير وسكت.
(30)مجلس
قال: وكنت عند أبي ميمون بن الصلت، أسْمُر فأنا وهو نتحدث إذ تذاكرنا محمد بن أبي كثير. فقلت له: لست أعلم في هذه المدينة أحداً أحرص على إدحاض ما جاء به النبي صلى اللّه عليه من محمد بن أبي كثير.
فقال لي أبو ميمون: لا تفعل. قلت له: قد فعلت، ولكن قل لي: لا تعّد. قال: فبتنا تلك الليله، فلما أصبح غدا عليّ محمد بن أبي كثير يصحبني وكان لي صديقاً. قال: فلما دخل إلينا صَبَّحنا وقعد/30/ وقعد أبو ميمون، فلما قعد. قلت: يا محمد، قد ذكرناك البارحة. فقلت لأبي ميمون: لست أعلم في هذه المدينة أحداً أحرص منك على إدحاض ما جاء به الرسول عليه السلام. فأَقبَلَ عليَّ وتبسم، وقال: استغفر الله. فقال له أبو ميمون: مما تستغفر اللّه، قد ظننتُ أنها كانت غيبة، ولم أكن لأذكرها لك على كل حال، فاسأل الرجل من أين قال لك ذلك؟
قال: فمن أين ذلك يا أبا الحسين؟
قلت: يا أبا عبدالله، ما تقول فيمن كذَّبَ بآية من كتاب اللّه، أليس يكون كمن كذَّب بالقرآن كله؟
قال: نعم.
قلت: ما تقول في قول اللّه تبارك وتعالى: {وإن كانت واحدةً فلها النصف} [النساء: 11].
قال: يا أبا الحسين، قال أبو بكر: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه، يقول: ((نحن معاشر الأنبياء لا نُوَرِّث، ما خلفنا فهو صدقة على كآفة المسلمين)).
قلت: فَتُحَكِّم كلام أبي بكر على كتاب الله، ثم قلت: يا أبا عبدالله، فمن كذَّب بحديث من أحاديث رسول اللّه صلى اللّه عليه، المجمع عليها عن النبي فهو كمن كذَّب بجميع ما جاء به الرسول؟
قال: نعم.
قلت: فما قولك في يوم الغدير، وما كان فيه من كلام النبي صلى اللّه عليه، لجمع من حضره؟ قال: ((من كنت مولاه فعليٌ مولاه، اللهم والِِمن والاه، وعاد من عاداه، واخذل من خذله، وانصر من نصره، ثم قال: ليبلغ الشاهد الغائب)) /31/.
قال: يا أبا الحسين، إنما قالوا: كان يوم الغدير من جهة زيد بن حارثة.
قال: قلت: يا ميمون، خذ إليك.
قال لي أبو ميمون: أما البارحة فقد كنت في شك، وأما الآن فقد استبان لي الأمر في الرجل.
(31)مجلس
قال: وكنت في يوم من الأيام بـ(حَمْدَة) في (البون) وكنت في المسجد، فدخل عليَّ رجلان: إباضي وإمامي، وقد كانا تناظرا، فقال لي الإمامي: يا أبا الحسين، إنما أنا وأنت نشرعان في مَشْرَعٍ واحد، وهذا الإباضي فهو عدوٌ لي ولك.
قال: قلت: ما أنت وهو عندي إلا في منزلة واحدة في تكذيب الرسول صلى اللّه عليه.
قال: كيف؟
قلت له:أنت مجمع معي على ما قال اللّه عز وجل في كتابه: {ولكن رسول اللّه وخاتم النبيين} [الأحزاب: 40]، قال: إذا أقررت معك بهذا أبطلت الوحي إلى الأئمة وإلى المهدي.
قال: ثم قلت للأباضي: فأنت مجمع معي على قول رسول اللّه صلى اللّه عليه، في يوم الغدير في علي عليه السلام.
قال: إذا أجمعت في هذا فضلت علياً على أبي بكر.
قال: قلت: فهذا تكذيبكما كما كتاب اللّه ورسوله صلى اللّه عليه، لم نجئ بعد نحن وأنتما إلى علي، وكيف يكون التكذيب؟
(32)مجلس
قال: وكنت في منزل حمزة بن محمد العلوي، بصنعاء أيام دخل (ابن وردان) صنعاء يوم الأثنين ومعي يومئذ محمد بن أبي كثير، فدخل عليّ عبد الرحمن/32/بن إبراهيم البشاري، وكان ممن علمته، وكان من جند ابن وردان. فلما سلم عليّ وقعد. قلت له: يا عبد الرحمن، تكلم مع هذا الشيخ في خطاب هو ظالم.
قال: قال ابن أبي كثير: نعم.
قال عبد الرحمن: فالله عز وجل يريد هلاك الظالمين.
قال محمد: نعم.
قال عبد الرحمن: فكأنَّا يا شيخ نحن وابن وردان سعينا في إرادة اللّه عز وجل.
قال: فهابه محمد ولم يرد أن يجيبه حين رآه من أهل السلاح.
قال: قلت له:يا أبا محمد، تكلم مع الرجل ولا تخف، فإنه من أصحاب الكلام.
قال: فقاله له محمد: يا عبد الرحمن، ما تقول في سعيكم هذا وافق إرادة الله؟ قال: فتحير عبد الرحمن.
فقلت له: أجب الرجل. قال: بما أجيب يا أبا الحسين، ما وافق سعينا وسعي ابن وردان إرادة اللّه قط.
(33)مجلس
قال: وجرت بيني وبين رجل من كبار أهل صنعاء المناظرة. فقال لي: يا أبا الحسين، قال علي بن أبي طالب: خير خلق اللّه بعد رسول اللّه، أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان. قال: فقال له بعض من حضر كلامه: فأنت يا أبا الحسين، قال: (إنَّا أهل البيت لا يقاس بنا أحد). قلت له: فتقول: إن علياً أفضل منهم. قال: نعم. قلت: وتقول بإمامته، وإمامة ابنيه الحسن والحسين، وإمامة الهادي، وإمامة ابنه محمد بن الهادي. قال: قال/33/:نعم. فقلت: ليس بيني وبينك اختلاف، إذا كنت تقول بإمامة هؤلاء الأشراف. قال: نعم، إلا أني أقول أيضاً بإمامة هؤلاء الثلاثة: أبي بكر، وعمر، وعثمان.قال: قلت له: وتقول إن علياً بايعهم. قال: نعم. قلت: فقولك هذا يخرج علياً من الإسلام. قال: كيف؟
قلت: لإنك تقول: إنه بايعهم، ثم نكث بيعتهم وخذلهم، فالناكث والخاذل في النار، لإنك تعلم أن المهاجرين قالوا لعثمان: اعتزل وإلا قتلناك، فكره الاعتزال فحاصروه في داره أربعين يوماً، فلما أبى أن يعتزل قتلوه وطرحوه على مزبلة، فجعل الصبيان يجرونه ويقولون:
أبا عمرٍ، أبا عمرٍ. رماك اللّه بالجمرِ
فما ينفعك المال .إذا دليت في القبر
وعليٌّ يومئذ حاضر المدينة لم يقتله ولم ينصره، فوقوفه عن نصره يدل على أنه لم يبايعه؛ لأنه عليه السلام قد كان يقرأ هذه الآية من كتاب اللّه عز وجل حيث يقول: {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر} [الأنفال: 72]، ويقول: {فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما} [القصص: 19]، ألا ترى أن موسى عليه السلام، نصر ذلك الرجل الإسرائيلي على القبطي إذ كان عدوهما وعدو اللّه واحداً، كما قال تعالى لإم موسى: {يأخذه عدوٌ لي وعدوٌ له} [طه: 39]، فلو/34/ أن عدو علي بن أبي طالب عليه السلام وعدو عثمان أو عدو قاتله واحد لَنَصَرهُ أو إيَّاهم، فلما اعتزل عن الفريقين صحَّ أن القاتل والمقتول غير مصيبين بل هم ظالمون لإنفسهم، إذْ أدبروا عمّ أوجب اللّه طاعته عليهم؛ لإنه من خرج من طاعة أولي الأمر فقد خرج من طاعة خالقه.
قال: وقد قال علي عليه السلام، لما بلغه قتل عثمان: ما سآني. قلت: فقولك هذا مما يدحض حجتك ويدل أنه لم يبايعه. قال: ثم قلت: وهذا عمر بن الخطاب قتله أبو لؤلؤة، فلم يطلبه عليٌ بدمه كما طلب عبيدالله بن عمر بدم الهرمزان الفارسي حتى هرب منه إلى معاوية، فلم يزل علي يطلبه حتى قتله بصفين في عسكر معاوية.
ثم أنت تعلم أن الأمة مجمعة على قول النبي صلى اللّه عليه: (إن اللّه يغضب لغضب فاطمة) وأنها ماتت وهي غضبى على أبي بكر وعلى من عاونه على قطع ميراثها من أبيها وانتزاع فدك من يدها، ليس أحد يشك في ذلك من أمة محمد صلى اللّه عليه، والحديث المشهور عن العلماء أن عثمان حج ذات سنة بالناس، فلما صار إلى منى أذن المؤذن للظهر فلم يظهر عثمان، فقال الناس لعلي: يا أبا الحسن، صل بنا. فقال لهم علي عليه السلام: (إن أحببتم صليت بكم صلاة رسول اللّه صلى اللّه عليه)، فأبوا عليه فتركهم، فهذا/35/ يدل على أنه لم يبايعهم ولم يعتقد بصلاتهم، ثم أنتم تزعمون أن الشيعة يسبون أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه، والذي يسبهم أنتم؛ لأنكم تقولون في تفسير هذا الآية، حيث يقول تعالى: {لقد رضي اللّه عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} [الفتح: 18]، إنه تعالى لم يرض إلا عن عشره منهم، وأن العشرة هم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وأبو عبيدة، وعبد الرحمن، فإذا قلتم: إن اللّه سبحانه لم يرض إلا عن هؤلاء العشرة، فقد زعمتم أنه سخط على الباقين من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، فليس الشيعة تقول أبداً بمثل هذه المقالة؛ لأن الآية تدل على خلاف ما قلتم، إذ يقول اللّه سبحانه: {لقد رضي اللّه عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} إلى قوله {لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً} [الفتح: 25]، وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه خرج بالمهاجرين والأنصار وبمن معه من سائر العرب يريد مكة، فلما صار إلى الحديبية لقيه أبو سفيان بن حرب،
وسهيل بن عمرو بمشركي قريش ومن تابعهم من العرب، فقالوا: يا محمد، لا ندعك تدخل بلدنا. فلما سمع أصحابه صلى اللّه عليه، قولهم جددوا له البيعة تحت الشجرة، فلما رأت قريش ما معه من القوة سألوه الهدنة والرجوع/36/ من ذلك الموضع إلى المدينة على أنه يعود من السنة القابلة، ويدخل مكة بغير قتال، ويقيم ثلاثة أيام، وعلى أنه من فرّ إليه مسلماً ردَّه عليهم، ومن فرَّ إليهم من المسلمين مرتداً ردَّوه عليه، وأمره جبريل بأمر اللّه عز وجل أن يقبل منهم ذلك لقول اللّه سبحانه: {ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطأوهم} [الفتح: 25]، فكان هؤلاء المؤمنون محصورين لم يمكنهم أن يخرجوا من مكة، فكان مع النبي صلى اللّه عليه الهدي فنحره في ذلك المكان ورجع إلى المدينة، فأتبعه أبو جندل بن سهيل فردَّه صلى اللّه عليه على أبيه، ثم نقض المشركون العهد الذي كان بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه، فأمره اللّه سبحانه بقتلهم وقتالهم، فقال: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5]، وقال: {لا إكراه في الدين} [البقرة: 256]، أمره أن لا يكره أحداً على دين قريش كما أكره أبا جندل بن سهيل، فإنه قد تبيَّن الرشد من الغي، ثم رجع عليه السلام، ففتح مكة، ورايته في يد سعد بن عبادة الأنصاري، وهو يقول: اليوم يوم الهمهمة اليوم يوم الدمدمة، اليوم يذل اللّه قريش فلا يعزها أبداً. فقال النبي صلى اللّه عليه: ((اليوم يوم المرحمة، اليوم يعز اللّه قريشاً فلا يذلها أبداً))، فلما أخذهم عليه السلام/37/ السيف بعد أن كانوا أخرجوه من قريته، كما قال اللّه تعالى:
{وكأيّن من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك} [محمد: 13]، فقال النبي صلى اللّه عليه: ((اللهم، إن قريشاً أخرجتني من أحب البلاد إليّ فسكني أحب البلاد)). فأسكنه اللّه عز وجل المدينة، فبأهل المدينة أخذ قريشاً وأقام الدين، كما قال تعالى: {والذين ءاووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً} [الأنفال: 74]، أبطلتم أنتم جميع المهاجرين والأنصار الذين مدحهم اللّه في كتابه على لسان نبيه، فزعمتم أن هؤلاء العشرة الذين رضي اللّه عنهم ورسوله، وإنما هذه حيلة من قريش أجازوها عليكم فجازت، ودليل ذلك أنهم لم يدخلوا في هؤلاء العشرة رجلاً من الأنصار بل جميعهم من قبائل قريش، ثم زادوا فموّهوا عليكم بقولهم: إن النبي صلى اللّه عليه، قال: ((الأئمة من قريش، والناس تبع قريش مسلمهم لمسلمهم، وكافرهم لكافرهم)). وإنما قال عليه السلام: ((عليكم بأهل بيتي، فإنهم لن يخرجوكم من باب هدى، ولن يدخلوكم في باب ردى)). مع كلامٍ كثير يحض أمته على طاعة أهل بيته، فأدبرتم أنتم عن أهل بيته وعبتم على الشيعة حيث اتبعوا الرسول في جميع أمره، عملاً بقوله تعالى: {ما أتاكم الرسول فخذوه/38/ وما نهاكم عنه فانتهوا } [الحشر: 7]، فقلتم أنتم تكذيب الرسول؛ لأنه واحداً أهون عليكم من تكفير من أدبر عن وصي النبي صلى اللّه عليه، ثم رووا لكم أحاديث ألقوها من عند أنفسهم، ثم نسبوها إلى الرسول في هؤلاء العشرة، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه، قال: ((ما نفعني إلا مال أبي بكر، وأن اللّه أعز الأسلام بعمر، وأن طلحة والزبير حواريا رسول اللّه صلى اللّه عليه، وأن معاوية كاتب الوحي))،
وسميتم أبا بكر: الصديق، وعمر: الفاروق، وعثمان: ذا النورين، فجعلتم الأسماء التي سمى اللّه بها رسوله صلى اللّه عليه ووصيه عليه السلام، لغيرهم وحولتموها إلى قوم آخرين. وقد بيَّن اللّه سبحانه في رسوله ووصي رسوله والمصدقين إلى آخر أيام الدنيا: {والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون} [الزمر: 33]؛ لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه صدق جبريل وما جاء به من عند خالقه، وكذلك الوصي، إنما هؤلاء الثلاثه هم أمناء اللّه على وحيه: جبريل، ومحمد، وعلي. أقاموا ثلاثاً وعشرين سنة حتى بلغوا رسالة ربهم إلى خلقه، فكان جبريل عليه السلام، يلقّن محمداً صلى اللّه عليه آيات القرآن، ويملي محمدٌ علياً ما يلقنه جبريل، فيكتب علي بخطه حتى يلقنه القرآن كله بخطه بإملاء الرسول، فعليٌ عليه السلام صَدَّق محمداً قبل/39/ التكذيب، والباقون الذين صدّقوه صدقوا صلى اللّه عليه بعد التكذيب، كما قال الله: {فمن أظلم ممن كذب على اللّه وكذّب بالصدق إذ جاءه} [الزمر: 32]، لأنهم عبدوا الأصنام ثم ادعوا أنهم يعبدونها تقربا إلى اللّه، وكذبوا بالصدق عند ما جائهم ثم صدقوه بعدما أدبروا عن اللّه وعن رسوله صلى اللّه عليه، فقبلهم اللّه وتاب عليهم، غير أنه لا يستوي كما قال بعض الحكماء:
هل كافر بصنم كمؤمن بصنم. أو ثابت في الوغى كالهارب المنهوم.وتصديق ذلك قول اللّه عز وجل حين يحكي عن خليله إبراهيم الأواه الحليم عليه السلام، إذ يقول سبحانه: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيراً من الناس... الآية} [إبراهيم: 35]، فمن عبد صنماً أو شيطاناً فقد خرج من ملة إبراهيم، وزالت عنه النبوة والإمامة، كما قال اللّه سبحانه لإبيهم إبراهيم حين يقول: {لاينال عهدي الظالمين} [البقرة: 124]، فمن هذه الجهة استوجب محمد صلى اللّه عليه النبوة، وعلي الوصية، والحسن والحسين الإمامة، والأئمة الطاهرين من آل محمد خاتم النبيين صلى اللّه عليه وعليهم أجمعين، ما لم يستوجب غيرهم من الذين خرجوا من ملة أبيهم إبراهيم عليه السلام/40/.
وأما قولكم إن أبا بكر أنفق على النبي صلى اللّه عليه ماله، وأن اللّه عز وجل قال فيه: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الدين أنفقوا...الآية} [الحديد: 1]، فالأمة مجمعةأن أبا بكر، وعمر، وعثمان، لم يقتلوا أحداً قط بين يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه، وفي إجماع الأمة تكذيب لقولكم أيضاً في عمر أنه جرّد السيف يوم أسلم، لأن إسلامه كان بمكة والنبي عليه السلام لم يؤمر بمكة بتجريد السيوف، فكيف عمر! فقولكم هذا طعن على عمر؛ لأنكم زعمتم أنه جاء بأمر لم يؤمر به، ثم قلتم: إن النبي صلى اللّه عليه، قال: ((اللهم انصر الإسلام بعمر بن الخطاب، أو بأبي جهل بن هشام)). فسبقت الدعوة ـ زعمتم ـ لعمر، فلو كان الأمر كما قلتم لم يحتج إلى مطعم بن عدي بعد موت عمه أبي طالب ليجيره من أبي جهل وغيره، فبطل قولكم في عمر كما بطل في أبي بكر؛ لأن النبي صلى اللّه عليه ، كان في حجر عمه أبي طالب حتى زوَّجه خديجة، فكان في مالها ما تحمل الرسول صلى اللّه عليه، ثم مات أبو طالب وخديجة بعد النبوة بسبع سنين، فصار النبي صلى اللّه عليه إلى مطعم بن عدي، فأقام في جواره أربع سنين، ثم خرج إلى يثرب ومعه أبو بكر فأغاثهما ربهما بلبن شاة أم معبد، فلو كان مع أبي بكر شئ لم يحتاجا إلى لبن الشاة، ثم جرد عليه السلام/41/ السيف فأغنى كل من قال به، كما قال اللّه سبحانه: {وما نقموا إلا أن أغناهم اللّه ورسوله من فضله} [التوبة: 70]، فقول اللّه عز وجل: {لايستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل...الآية} [الحديد: 10]،في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
عليه السلام.
وأما قولك: إن معاوية كاتب الوحي فهذا باطل، لأن معاوية أسلم يوم فتح مكة، والنبي صلى اللّه عليه لم يلبث بعد الفتح إلا ثلاث سنين، وبإجماع الأمة أن معاوية عدو للّه فكيف يأمنه اللّه على وحيه!، وإنما استأمن اللّه على وحيه رسوليه صلى اللّه عليهما: جبريل، ومحمداً، ووليه علياً، كما قال اللّه سبحانه في كتابه: {إنما وليكم اللّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول اللّه ورسوله والذين آمنوا فإن حزب اللّه هم الغالبون} [المائدة: 55،56]، اللّه عز وجل أولى يخلقه من أنفسهم، ثم رسوله صلى اللّه عليه، ثم وليه هذا المؤمن المزكي في ركوعه، وهو عليٌ بإجماع الأمة عن الرسول صلى اللّه عليه، فمن والى اللّه ورسوله وهذا المؤمن فهو حزب اللّه وحزب اللّه هم الغالبون، وحزب إبليس هم الخاسرون، ثم أنتم تعلمون أن الرسول صلى اللّه عليه، قال يوم الغدير بإجماع الأمة لجميع المسلمين: ((ألست أولى بكم من أنفسكم)). قالوا: بلى، يا رسول الله، إتباعاً لقوله تعالى: {النبي أولى/42/بالمؤمنين من أنفسهم} [الأحزاب: 6]، فقال الرسول صلى اللّه عليه: (اللهم، اشهد، ثم قال: اللهم، اشهد، فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره،واخذل من خذله)) والخلق مجتمعون يسمعون كلام رسول اللّه صلى اللّه عليه، وهو رافع بيد علي حتى أبصر بياض أباطهما، وهو ينادي بهذا القول، ثم قال: ((فليبلغ منك الشاهد الغائب)).
ثم قال عليه السلام: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من الباب)).
ثم قال: ((أنا وعلي كهاتين)) ضمد عليه السلام المسبحتين، يريد بقوله: إن علياً عليه السلام يحكم فيكم بحكمي، ويسير فيكم بسيرتي كهاتين، وكذلك أراد بقوله: ((من كنت مولاه فعلي مولاه))، أي أن الولاء الذين كان لي عليكم فهو لعلي من بعدي، وكذلك أراد بقوله في المدينة: ((فليأتها من بابها))، إن الذي جاء به الرسول عليه السلام من معرفة الكتاب والسنة، فهو موجود عند باب المدينة ومعدوم عند غيره، وقال: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما))، فبين عليه السلام، بقوله هذا أن سبطيه أولى بمقامه بعد أبيهما في أمته، لأن أهل الجنة قد وصفهم اللّه سبحانه بالخشية والعلم، فقال سبحانه: {إنما يخشى اللّه من عباده العلماء} [فاطر: 28]،فليس يسودهم/43/ إلا أعلمهم بكتاب اللّه وسنة رسوله صلى اللّه عليه، ثم قال النبي صلى اللّه عليه: ((مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق وهوى))، فقرن عليه السلام، القائم من أهل بيته في أمته بعده بنوح عليه السلام، قال سبحانه تبارك وتعالى بأنه سفينة نوح عليه السلام على لسان رسوله محمد عليه السلام، التي جعلها آيةً للعالمين في ولد رسوله محمد صلى اللّه عليهم إلى آخر الدنيا، ثم أكد رسوله بقوله بأمر ربه حين قال لإمته: ((أيها الناس، إني مسائلكم غداً، فمجحفٌ بكم في السوأل عن كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم به من بعدي لن تضلوا أبداً، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عَلَيَّ الحوض))، وأنتم تعلمون أنه كما لا يجوز ترك التمسك بالكتاب، فكذلك لا يجوز ترك التمسك
بالعترة؛ لأن الكتاب يدل على العترة والعترة تدل على الكتاب، ولا يقوم واحد منهما إلا بصاحبه، لقول النبي صلى اللّه عليه: ((إنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)).
ثم اعلموا أن اللّه عز وجل ختم أنبياؤه صلوات اللّه عليهم بمحمد نبيه صلى اللّه عليه وسلم، ثم أقام أولاده الطاهرين في أمة جدهم من بعده مقام رسله في الأمم الخالية، إذ كانت عبادته تبارك وتعالى على الأولين والآخرين/44/واحدة؛ لإنه سبحانه تعبد الخلق بمعقول ومسموع، فالمعقول: ما أدرك بالعقل. والمسموع ما أدرك بالسمع، ولايدرك المسموع إلا بمسمع، والمسمع فلا يكون إلاَّ نبياً مرسلاً أو ملكاً مقرباً، أو إماماً مهدياً، فالأئمة الهادون شهداء على أمة جدهم، وجدهم شهيد عليهم، كما قال اللّه سبحانه من قبل: {وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس...الآية} [الحج: 78]، وقال تعالى: {واعتصموابحبل اللّه جميعاً ولاتفرقوا} [آل عمران: 103]، فحبل الأئمة الهادين موصول بحبل جدهم، وحبل جدهم موصول بحبل خالقه: {لئلا يكون للناس على اللّه حجة بعد الرسل} [النساء: 165]، {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم} [الأنفال: 42]، فالشيعه وصفوا أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه بأفعالهم. قال اللّه عز وجل: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجهم أمهاتهم} [الأحزاب: 6].
والذي نازع علي بن أبي طالب عليهم السلام الأمر، وادعى أنه أولى بالمقام منه، هم ثمانيه: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، وعائشة، والزبير، ومعاوية، وذو الثدية، وتاسعهم المرادي، فأنكرعلي عليه السلام، على جميعهم بقدر طاقته، على بعضهم بيده، وعلى بعضهم بيده ولسانه، وأمهات المسلمين اللواتي خلف النبي عليه السلام بعده تسع نسوة/45/،والأجداد ثلاثه نازع علياً عليه السلام في مقامه: أبو بكر، وعمر، وأمسك أبوسفيان.
والأخوال أربعة: حاربه معاوية، وعبيدالله بن عمر، ونصره محمد بن أبي بكر، وخذله عبدالله بن عمر.
ومن الأمهات حاربته عائشة بنت أبي بكر، فلعلم اللّه أنها تحارب وصي رسوله صلى اللّه عليه، قال في كتابه وأمر رسوله أن يقول لهنَّ: {وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} [الأحزاب:33].
قال أبو الحسين: ثم قلت لمن حضر المجلس وكانوا جماعة كثيرة: أليس قول الشيعة هذا في أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه تصحيح؟ فقالوا بأجمعهم: بلى.قال: قلت: فليقع عندكم أن هذا آخرموقف بيني وبينكم، واعلموا أن لنا موقفاً بين يدي اللّه عز وجل، يحضره رسوله صلى اللّه عليه، لقوله تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامه عند ربكم تختصمون} [الزمر: 30،31].
ثم قلت: وأنتم كلكم مقرون معي بأمامة إمامي المرتضى لدين اللّه محمد بن الهادي إلى الحق، وإلا فما تقولون فيه. قالوا: نحن نُقِرُّكلنا بأمامته، ونقول بها. قلت: فجميع ما احتججت به عليكم من الآيات والروايات فهو احتجاجه.
واعلم أعزك اللّه أن مخالفينا عابوا علينا عندما وصفنا خالقنا بما وصف به نفسه من العدل والتوحيد وصدق الوعد والوعيد، ثم وصفنا رسوله صلى اللّه عليه بتبليغ الرسالة وأداء الأمانة إلى أمته صلى اللّه عليه/46/وعلى آله، ثم وصفنا وصيه بقيامه في أمته بعده مقامه ووصفنا أصحابه بأفعالهم سواء سواء، مخافة من بعض [بياض في الأصل]. إذ يقول: {إن الذين يؤذون اللّه ورسوله لعنهم اللّه في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً} [الأحزاب: 57،58].
(34)مجلس
وقال أبو الحسين، رحمه اللّه لجماعة حضروه: ذكر اللّه سبحانه في كتابه أن إبليس الملعون لما أدبر عن أمر ربه، استكبر عن السجود لله، من أجل ما أظهر في آدم من الآيات، خاف الملعون من ربه المعاجلة فقال: {أنظرني إلي يوم يبعثون} فقال تعالى: {إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم}، ثم قال: فما تقولون أنتم في هذا الخطاب كيف اتصل من اللّه عز وجل إلى إبليس؟ قال: فتحيرت تلك الجماعة الحاضرة. ثم قالوا: يا أبا الحسين، أفدنا أكرمك الله، وكيف كان وصول الخطاب من الله عز وجل إلى إبليس، قال لهم: نعم، وصل ذلك الخطاب على لسان آدم صلى اللّه عليه، لأنه قد كان بين محمد صلى اللّه عليه وبين فراعنة قريش من العداوة ما علمتم فلم يمنعه ذلك من إقامة الحجة عليهم، ولم ينظر في عداوتهم، وذلك حجة اللّه عز وجل في وقت مخاطبة/47/إبليس آدم صلى اللّه عليه، فلم يمنعه ما كان بينه وبين إبليس من العداوة أن يبلغه ما أمره اللّه عز وجل بإبلاغه.
(35)مجلس
قال: وكان قد جرى بيني وبين رجل من القرامطة كلام خاطبنى في إبطال الرسل عليهم السلام، فقال: يا أبا الحسين، جبريل هو: روحٌ، والروح شيء خفي ليس يرى. قلت: جبريل ملك من الملائكة، والملائكة أولوا أجنحة، والجناح جسم والجسم يرى، وقد قال اللّه عز وجل فيه عليه السلام:{فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً} [مريم: 17]، وقال سبحانه: {وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين} [الشعراء: 192،193،194]، وقال سبحانه: {إنما المسيح عيسى بن مريم رسول اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النساء: 171]، وقال سبحانه في أبي البشر آدم عليه السلام: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي} [الحجر: 29].
فقال: لهذه تأويل وسكت. ثم قال لي: كيف كان محمد يأخذ الوحي من جبريل؟ قلت له: مشافهة، يقول له: أمرك ربك بكذا وكذا، نهاك عن كذا وكذا. قال : فجبريل كيف كان يأخذ؟ قلت: على هذا المعنى من ميكائيل عليهما السلام. قال: فميكائيل؟ قلت: وميكائيل من الملك الأعلى على هذا الوجه. قال: فالملك الأعلى؟ قلت: يقذف اللّه في قلبه جميع ما تعبد به خلقه من الأمر والنهي والحلال/48/ والحرام، ويقرره في صدره، ثم يأمر بتنفيذ ذلك من ملك إلى ملك، ثم تهبط به رسل الملائكة بما أعطاهم الملك الأعلى إلى رسل الإنس، ويبلغ ذلك رسل الإنس إلى أممهم من الجن والإنس. قال: فكذلك يقذف اللّه في قلب محمد صلى اللّه عليه.
قلت: لا، لأنه سبحانه قال: {علمه شديد القوى}، وقال: {إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين} [التكوين: 19،20،21]،قال: فسكت ساعة، ثم قال: الزيديون يقولون: إن الإمام يخرج من بطن أمه عالماً وطبعه العلم. قلت: هذا قول الإمامية، والزيدي هو: الذي ينكر عليهم هذا القول، ويحتج عليهم بقول اللّه عز وجل حين يقول: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً} [النحل: 78]، فالإمام هو داخل في هذا الآية، ويحتجون أيضا بقول النبي عليه السلام: ((أنا عبد مخلوق مربوب لم أكن نبيا فتنبيت، ولم أكن رسولاً فأرسلت، ولم أكن عالماً فعلمت، فلا تقولوا فيّ فوق طولي)). وقال اللّه عز وجل: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} [الشورى: 52]، وقال سبحانه: {ووجدك ضآلا فهدى} يقول: جاهلاً بشرائع النبوة فهداك الله.
فقال: أليس عيسى قال: {إني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبيا} [مريم: 30]،/49/عندما خرج من بطن أمه.
قلت: لكلام عيسى معنيان، أحدهما: أن قوماً رموا أمه بالزور والبهتان، فأعلمهم اللّه عز وجل على لسان عيسى عليه السلام، أنها بريئة من الدَّنس. والثاني: أنه سبحانه أراهم قدرته إذ نطق طفلاً في المهد بكلام الأنبياء، ليعتبر من سمع كلامه، ويزدجر عن الكلام الفاحش في أمه الطاهرة البرة التقية. وأما قوله: {وجعلني نبيا}، فالمعنى فيه أنه سيجعلني نبياً، كقول اللّه سبحانه في أهل الجنة: {ونادى أصحابُ الجنة أصحابَ النار} [الأعراف: 50]، {ونادى أصحابُ الأعرافِ رجالاً يعرفونهم بسيماهم} [الأعراف: 48]، المعنى أنهم سينادون؛ لأنه لو كان نبياً عند كلامه هذا لهدى الناس إلى طاعة اللّه وأمرهم ونهاهم كما فعل بعد الأربعين سنة، كما قال اللّه سبحانه: {يا عيسى بن مريم أذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والأنجيل وإذ تخلق من الطين كهئية الطيربإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بأذني وإذ تخرج الموتى بأذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي...إلى آخر السورة} [المائدة: 11،111]،/50/ ألا ترى أنه لما بلغ عليه السلام، إلى قوله: {والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا}[مريم: 33]، وقف فلم يقدر على الكلام ثم أفصح بعد ذلك بكلام الأطفال لا بكلام النبوة، لأن كلام النبوة عزيز لا يحتمله إلاّ عقل، وحلم وافر، ولسان فصيح طلق ذلق، والطفل يعدم ذلك، ولذلك رفع عنه
خالقه العبادة عز وجل، ولم يتعبد أحداً إلا بعد أن أكمل عقله، وبعث رسولاً إلى خلقه إلا بعد بلوغ سنه، وهي أربعون سنة لقوله سبحانه وتعالى في صفيه نوح عليه السلام: {فلبث فيهم ألف سنة لإلا خمسين عاماً} وقوله سبحانه في صدِّيقه يوسف: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض} [يوسف: 21]، ويروي في الحديث أنه اجتمع هو وأبوه يعقوب بعد ثلاث وثلاثين سنة، وقوله لكليمه موسى عليه السلام: {ثم جئت على قدر يا موسى واصطنعتك لنفسي إذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنأيا في ذكري} [طه:40،41،42]، مع إجماع الأمَّة أن محمداً صلى اللّه عليه، أقام في نبوته ثلاثاً وعشرين سنة، ثلاث عشرة بمكة وعشراً بالمدينة، ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة، فعيسى كواحد من رسل الله، كما قال اللّه تعالى: {إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل} [الزخرف:52]، صلى اللّه عليهم أجمعين.
ثم قلت له:ألستم/51/ تقولون: إن بعد محمد من أئمتكم من يوحى إليه غير وحي محمد؟
قال: نعم.
قلت: فالوحي عندكم كله على نحو ما ذكرت في محمد أنه يقذف في قلب إمامكم، كما قذف في قلب محمد صلى اللّه عليه، ففي قولكم هذا إبطال كتاب اللّه إذ يقول تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس}[الحج: 75] ، فإذا أبطلتم رسل اللّه من الملائكة فأنتم إلى إبطال رسل اللّه من الأنس أسرع، ولذلك قال النبي صلى اللّه عليه وعلى آله لأمته:((أنه سيخرج من بعدي ثلاثون كذاباً يدعون النبوة، ألا إنه لا نبي بعدي)). والله عز وجل ختم الأنبياء بمحمد صلى اللّه عليه، ولا كتاب بعد كتاب محمد صلى اللّه عليه، والوحي الذي جاء به جبريل من عند خالقه إلى محمد صلى اللّه عليه، ثابت في أمته يقوم به عترته في أمة جدهم كقيامه في أصحابه سواءً سواءً، ثم أنتم تزيدون لها في إمامكم عيوناً حتى تجعلوه فوق محمد صلى اللّه عليه، لأنكم تقولون: إنه يعلم ما وراء الباب فمحمد لم يعلم ذلك، كما قال اللّه عز وجل: {ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم} [التوبة: 101]، وكذلك تقولون في إبطال رسالة رسل اللّه عز وجل: إن الأنسان يدرك بعقله توحيد الله/52/ وعدله، فما باله لا يدرك شرائع الدين بعقله، فالعدل والتوحيد أصل فروض اللّه تعالى التي تَعَبَّد بها خلقه، تريدون بذلك إبطال الرسل والكتب ولستم تقدرون على هدم بنيان خالقكم، فبنيانكم أولى وأقرب إلى الهدم من بنيان خالقكم سبحانه، كما قال تعالى: {أفمن أسس بنيانه على تقوى من اللّه ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في
قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم} [التوبة: 109،110]، وبنيان ربكم لا ينهدم ولا يُقْدَر عليه؛ لأنه بنيان العزيز العليم ، كما قال سبحانه:{ذلك تقدير العزيز العليم} [يس: 38].
ثم قال: إن جميع ما تعبَّد اللّه به خلقه من المعرفه بالله ورسله وما جاءت به لا يدرك إلا بالعقول، وذلك أن الرسل تأتي بجميع ذلك إلى أصل العقول ليس إلا الأطفال والمجانين، فبالعقول قبل من قبل قول الرسول، حتى استوجب من خالقه الحفظ والحياطة في دنياه وآخرته، كما استوجبت الرسل سواء سواء، قال اللّه سبحانه وتعالى في الرسل ومن تبعهم من المؤمنين: {ومساكن طيبة في جنات عدنٍ ذلك الفوز العظيم وآخرى تحبونها نصرٌ من اللّه وفتح قريب} [الصف:12،13]، في دنياهم غيرأن اللّه عز وجل هو أعلم/53/بخلقه منهم بأنفسهم وأرحم بهم، جعل لرسالته قوماً من ملائكته وإنسه علم أنهم سيبلغونها خلقه كما يأمرهم ولا يخونونه في خلقه،كما قال سبحانه: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام: 124]، وقال عز وجل:{ولقد اخترناهم على علم على العالمين} [الدخان: 32]، أعطاهم على علم منه أنه أهل لما أعطاهم، ولذلك قلدهم بأذنه أمانته إلى عباده: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} [الأنبياء: 23]، إذ ليس في فعله عيب ولا في تقديره فساد، ولا في تدبيره تفاوت، كما قال سبحانه: {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} [الملك: 3]، ثم قال سبحانه: {وهم يسألون عن أفعالهم}، إذ هم ينسبون إلى خالقهم ما لا يليق من الجبر والتشبيه وإبطال الوعد والوعيد، وتكذيب الرسل، والذي جاء به الرسل من شرائع الدين إلى أهل العقول بعقولهم
دون معرفة العدل والتوحيد كالذي جاء به العالم إلى كليم اللّه عليه السلام، بعدل اللّه من معرفة السفينة والغلام والجدار، لأن موسى بعدل اللّه وتوحيده أنبل من هذا العالم، ولعلمه بعدل اللّه وتوحيده اصطفاه ربه، كما قال تعالى: ((يا موسى أتدري لم اصطفيتك على الناس برسالتي وكلمتك تكليما )). قال:لم يارب؟ قال: ((لأني اطلعت في قلوب عبادي فلم أجد فيهم أشد تواضعا لي منك)). فبمعرفة عدل اللّه وتوحيده أرتفعت/54/منزلة موسىعند خالقه، ليس بالذي قالت المشبهة: أنه يسأل ربه أنه يراه جهرة فـ{فسبحان اللّه عما يصفون وسلام على المرسلين والحمدلله رب العالمين} [الصافآت: 159،160،161].
(36)مجلس
قال: ودخلت يوما على ميمون اليماني. فقال لي: ما تقول يا أبا الحسين، في عذاب القبر؟
قال: قلت: ليس أهل بيت النبي صلىالله عليه وعليهم، يقولون به.
قال: فما حجتهم في ذلك؟
قلت: قول اللّه عز وجل حيث يحكى عن أهل النار أنهم قالوا: {يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا} [يس: 52]، فتجيبهم الملائكة عليهم السلام: {هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} [يس: 52].
(37)مجلس
قال: وقال لي يوماً أبو عقيل بن أبي الحسين صاحب الجبل، يعني قرمطي مسور وكان يومئذ بقاعة في البون، وقد دخلت عليه وعنده جماعة من أهل البون وغيرهم، وعلى يمينه رجلان من دعاة القرامطة يقال لأحدهما: العنسي، وللثاني: الكافري، فلما دخلت سلمت عليه وقعدت في جانب من الناس، فإذا به قد التفت إلى الجماعة، فقال لهم: مذهب الزيديه ضعيف.
فقلت: يا أبا عقيل، ليس هو ضعيف، ولكنه قليل الأعوان، فزاد فأعاد قوله مرة ثانية، فأعدت الجواب،فعاد بعد. فقال: مثل قوله الأول. فقلت: يا أبا عقيل، قد بقي ما هو أضعف من مذهب الزيدية. قال: وأي مذهب/55/هو؟ قلت: مذهب من يقول بإمامة إمام يزعم أنه يوحى إليه لم يره وليس يراه إلى يوم القيامة. قال: فلم يقدر أن ينكر الوحي من جهة من كان في مجلسه ذلك من الدعاة.
فقال: يا أبا الحسين، أيهما أعظم منزله، عند اللّه الأمام أو النحل؟ قال: فقلت: بل الإمام. قال: فقال اللّه عز وجل: {وأوحى ربك إلى النحل} [النحل: 68].
فقلت: يا أبا عقيل، وحي اللّه إلى النحل وحي إلهام. فإن كان إمامك في هيئة النحل ليس له ثواب ولا عليه عقاب. فقل ما شئت.
قال: فتحير، وبان للجماعه تحيره.
ثم قال: يا أبا الحسين، أيهما عند اللّه عز وجل أرفع منزلة الإمام أو الحواريون.
قال: فقلت: بل الإمام. قال: فقال اللّه عز وجل: {وأوحيت إلى الحواريين} [المائدة: 111].
فقلت: يا أبا عقيل، أوحى إلى الحواريين على لسان عيسى عليه السلام،كما أوحى إلينا على لسان محمد صلى اللّه عليه، فما في مثل هذا لك من حجة.
قال: فالتفت إلى من كان عن يمينه وهو مغضب.
فقال: قال عز من قائل: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات} [الأنبياء: 73].
فقلت: يا أبا عقيل، إقرأ الآية من أولها،فإن المعنى علىخلاف ما أردت. المعنىفي هذا المكان إبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم السلام، ليس الذي عنيت.
قال: فتحير.
ثم قال لي: يا أبا الحسين، ما تقول الروح جسم أوعرض؟ قلت: /56/ الروح جسم. لقوله تعالى: {نزل به الروح الأمين على قلبك} [الشعراء: 193،194]، وقوله: {جاعل الملائكة رسلاً أولى أجنحة} [فاطر: 1]، والجناح لا يكون إلا على جسم. قال: فانقطع وبرم، وخرجت. فقال لي قوم: يا أبا الحسين، لو حضر هذا المجلس غيرك لنُزِّه هذا الرجل على جميع من حضر.
تمام مجالس الطبري باليمن
(38)مجلس
قال أبو الحسين الطبري رحمه الله: وجرى بيني وبين قوم من فقهاء أهل صنعاء كلام، فقالوا لي: ما تقول يا أبا الحسين في قول اللّه عز وجل: {أحصاهم وعدَّهم عداً} [مريم: 94]، أولاد الزنا ممن أحصى وعدَّ؟ فقلت لهم: لست أعرف للزنا ولداً. قالوا: يا أبا الحسين، نحن نعرف منك إنصافاً في المناظرة، وإنك لاتستحسن المكابرة فما هذا الكلام؟ فقلت لهم: ألستم تقرؤن معي أن اللّه عز وجل خلق خلقه من شيئين فخلق أبانا وأمنا آدم وحوىّ من الطين اللازب، وخلق جميع أولادهما من الماء الدافق، الذي يخرج من بين الصلب والترائب، فهذا الطين الذي ذكره اللّه وهذا الماء الدافق هما الزِّنا؟.
قالوا:لا.
قلت: فمن هذه الجهة قلت لكم: إني لست أعرف للزنا ولداً.
فقال بعض من سمع الكلام ممن حضر، ممن استعمل عقله: ليس على أبي الحسين لكم حجة؛ لأنه قد عقد/57/عليكم الكلام، قال لكم: الطين اللازب هو: الزنا. قلتم: لا. قال: فالماء الدافق هو: الزنا. قلتم:لا. وليس معكم سبب. فانقطعوا وتحيروا، فلما انصرفوا قلت لأصحابي: أرأيتم القوم إنما هم خصوم ولويطلب الفائدة لأفدتهم، ولم أستحمل أن أكتمها عنهم، ولو اهتدوا فقالوا لي: هذا صاحبك يحيى بن الحسين قد وَرَّثَ ولد النكاح، ولم يورث ولد السفاح. لقلت لهم: هذا الذي ذكرتم معناه كقول اللّه عز وجل: {بل مكر الليل والنهار} [سبأ: 33]، وليس لليل والنهار مكر، إنما المكر ممن فيهما، وكقوله: {وجاؤا على قميصه بدم كذب}[يوسف: 18]، والدم لا يكذب ولا يصدق، وإنما الكذب ممن جاء به، وجواب ما سألوا أن اللّه عز وجل [بياض في المخطوطة] خلق خلقه ليس من فعل الزانين.
فصل من أخباره رحمة اللّه عليه
سمعت من مشائخنا بوقش رحمهم اللّه فيما يعيدون من أخبار أبي الحسين أحمد بن موسى الطبري ويتواعظون به أنها أصابت الناس سنة شديدة، وكان لأبي الحسين رحمه الله قطعة أرض قد صارت/58/إليه يتبلغ بثمرها في الوقت بعد الوقت وكان بها زرع، وأحسبه كان يومئذ بصنعاء، فخرج هو ورجل شريف كان من خواص إخوانه في اللّه، إلى تلك الأرض لينظرا أهل قد فيهما شئ يتبلغ به، فوجد زرعها متأخر الحصاد فساء ذلك الشريف وغمه، وأبو الحسين صابر راضٍٍ شاكر لله، فلما رجعا لقيهما قبل أن يصلا رجل، فدفع إلى أبي الحسين عشرة دنانير لوجه الله لينفقها على نفسه، فقبلها وسارا، فبينا هما في الطريق إذ لقيهما رجل من أولياء اللّه وأوليائهما، فشكى إلى أبي الحسين الإعدام وضيق الحال وأن له امرأة تتزحر بولد، ولا يعلم لها مما يصلح شأنها مثقال حبة من خردل من متاع الدنيا، فَرَقَّ له أبوالحسين ورحمه فدفع إليه تلك الدنانير العشرة، فأخذها وانصرف مستريحاً، فأقبل الشريف على أبي الحسين، وقال: ألم تكن لتعطيه بعضها وتفرج علينا وعلى أولادنا ببعضها. قال: إني نظرت في أمره فإذا هو يحتاج إلى فراش بكذا، ويحتاج طعاماً بكذا، ودهناً بكذا، وذكر ما يصلح شأن القوم في تلك الحال، فإذا هو يستغرق الدنانير. قال: فلم أر بداً مما صنعت، ولكن اللّه لنا ومعنا فسكت الشريف وانصرف. فلما صارا إلى منازلهما أتى آت فقرع على أبي الحسين رحمه الله بابه فخرج إليه فسلم عليه، فقال له/59/الرجل: أنا المولى الذي مررت به بناحية الخشب في سنة كذا، وهو يرعى غنماً ويزمر ويغني
فنهيته ووعظته وتوبته، ونفع وعظك وتعليمك، وقد أعتقني من كنت مملوكاً له، وأجازني بشئ من ماله فأصلحته وبارك اللّه فيه، وقد جاءت هذه السنة فرأيت شدتها فذكرتك، فرأيت أن أعينك على أمرك بشئ وقد قدمت به. وإذا معه دابتان تحملان براً وكبشان يتبعانهما، فسلم ذلك إلى أبي الحسين، فحمد اللّه وأثنى عليه، وصرف إلى الشريف حمل دابة وكبشاً، وأخذ حمل دابة وكبشاً، وتقدم فذبح الكبش الذي صار إليه وأمر فطبخ وعمل من الطعام ما أكلوا وأطعموا ضيفهم.
فهذا من محاسن أخباره، ومما يتواعظ به الزيديه منها.
ومن أخباره رضي اللّه عنه
قالوا:كان الطبري رحمه الله،قد اجتمع له بصنعاء عيال من ولد وأهل وأصحاب فقراء من آل رسول اللّه صلى اللّه عليه، وغيرهم وكان ذا جاه يوصل ويرفد، فكان يعينهم ممايرزق ويواسيهم، ويؤثر على نفسه في كثيرمن الأمور، وكان له إخوان باليمن وأصدقاء يرون له حقاً عليهم، فخرج زائراً لهم ملتمساً من فضل اللّه ما يعين به من خلفه، فلبث في سفره حتىأصاب خيراًكثيراً، وراح/60/بشئ ينفعهم به ويفرحهم من كسوة وغيرهامن نقد وعرض، فلما صارعند طرف الحمراء وهو الجبل الذي يتصل بجبل نقم المطل على صنعاء مما يلي علب من أرض الأبناء ، فخرج عليه لصوص فأخذوا ما معه فلما حازوه. قال: يا إخوة العرب، هل لكم في شئ من المرؤة والكرم؟ قالوا: وما هو؟ قال: قد صرت في أيديكم وليس لي عليكم يد ، فيقال: خفتموني، وقد جئت بما ترون من بُعْدٍ، أهوي به إلى فقراء ومساكين خلفي، أعينهم إليه ممدودة، فهل لكم في خير؟ قالوا: وما هو؟ قال: تفوزون بشرف الذكر وبالشكر مني ما بقيت، وتقسمون لي معكم نصيباً من هذا، آتي به من خلفي، فلعل اللّه يثيبكم على ذلك، وتأخذون نصيبكم حلالاً ويشكركم الناس. فرقّوا لكلامه وأجابوه إلى ما طلب، فقسموا له نصف المتاع، وكانوا قد أبقوا عليه ثيابه إمّا حياء وتكرماً من أهل ذلك الزمان، أو لما رأوا عليه من سيما الدين والحياء ونحو ذلك، فلما فعلوا أخرج إليهم ما كان معه من دنانير، وقال: قد بقي نصيبكم من هذه الدنانير فأعجبهم ذلك، ثم بايعهم بنصيبه منها في نصيبهم من الثياب وتلك العروض التي ينتفع بها أولئك الذين يقول أكثر من نفع
الدنانير، فبقي عليه منها ثلاثون ديناراً. فقال: لو تبعني/61/ لها أحدكم إلى صنعاء ما كان عليه بأس ولشكر صحابتي، فقد لزمني لكم ولزمكم لي حق الصحابه، في نحو هذا من الكلام.
فقال أحدهم: ليس ما يأتيني من هذا الشيخ بعد هذا سوء فسار معه، وخلوه يتبعه فأتيا صنعاء فتلقاه إخوانه فسلموا عليه وأخبر بعضٌ بعضاً حتى اجتمع منهم من أغنيائهم، فسألهم تلك الدنانير الثلاثين ففعلوا، وعمد إلى كبش فأمر به فذبح وعمل طعاماً ودفع إلى الرجل الدنانير والطعام. وقال: أحمل هذا لأصحابك، فلا أشك أن عهدهم بالطعام بعيد في ذلك الجبل، فلما أتاهم الطعام والدنانير وأثنى الرجل على أبي الحسين خيراً رقّت قلوبهم، وخشعوا، وعلموا أنه الأيمان والصدق لله وفي اللّه، فأناب إلى اللّه تعالى منهم من أناب، وصار أولئك من أصحاب الطبري.
هذا من أخباره رضي اللّه عنه، وله أخبارٌ غير ذلك. وصلى اللّه على سيدنا محمد و آله وسلم.