الكتاب : متن الكافل |
متن الكافل (1/1)
... تأليف
... العلامة محمد بن يحيى بهران
... رحمه الله
... ضبط وتصحيح
... مركز النور للدراسات والبحوث
الطبعة الثانية
1418 هـ ـ 1997م
حقوق الطبع محفوظة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
وَبِهِ نَسْتَعِيْن
هُوَ عِلْمٌ بِأصُولٍ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى اسْتِنْبَاطِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الفَرْعِيَّةِ عَنْ أَدِلَّتهَا التَّفْصيْليَّةِ وَيَنْحَصِرُ في عَشَرَةِ أَبْوَابٍ.
البَابُ الأَوَّلُ
فِي الأحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَتَوابِعِهَا
وَهي: الوُجُوبُ، وَالحُرمَةُ، وَالنَّدْبُ، وَ الكَرَاهَةُ، وَ الإِبَاحَةُ، وَتُعْرَفُ بمُتَعَلَّقَاتِهَا.
فَالْوَاجِبُ مَا يُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ بِفِعْلِهِ، وَالعِقَابُ بِتَرْكِهِ، وَالحَرَامُ بِالعَكْسِ، وَالمَنْدُوبُ مَا يُسْتَحَقُّ الثوَابُ بِفِعْلِهِ، وَلا عِقَابَ في ترْكِهِ. وَالمَكْرُوهُ بِالعَكْسِ. وَالمُبَاحُ مَالاَ ثوَابَ وَلاَ عِقَابَ فِي فِعْلِهِ وَلاَ تَرْكِهِ.
وَالْفَرْضُ والوَاجِبُ مُتَرَادِفَانِ؛ خِلافاً لِلْحَنَفيَّةِ.
وَيَنْقَسِمُ الوَاجِبُ إِلَى فَرْضِ عَيْنٍ، وَفَرْضِ كِفَايَةٍ. وإِلَى مُعَيَّنٍ، وَمُخَيَّرٍ وَإِلَى مُطْلَقٍ، وَمُؤَقَّتٍ. وَالمُؤَقَّتُ إِلَى مُضَيَّقٍ، وَمُوَسَّعٍ.
وَ الْمَنْدُوبُ وَالمُسْتَحَبُّ مُتَرَادِفَانِ، وَالمَسْنُونُ أَخَصُّ مِنْهُمَا.
وَالصَّحِيْحُ: مَا وَافَقَ أَمْرَ الشَّارِعِ. وَالبَاطِلُ نَقِيْضُهُ.
وَالْفَاسِدُ هُوَ الْمَشْرُوْعُ بِأَصْلِهِ، الْمَمْنُوعُ بِوَصْفِهِ، وَقِيْلَ: مُرَادِفُ الْبَاطِلِ.
وَالْجَائِزُ يُطْلَقُ عَلَى الْمُبَاحِ، وَعَلى الْمُمْكِنِ عَقْلاً أَوْ شَرْعاً وَعَلَى مَا اسْتَوى فِعْلُهٌ وَتَرْكُهُ، وَعَلى الْمَشكُوكِ فِيهِ.
وَالأدَاءُ مَا فُعِلَ فِي وَقْتِهِ المُقَدَّرِ لَهُ أَوْلاً شَرْعاً، وَالقَضَاءُ مَا فُعِلَ بَعْدَ وَقْتِ الأَدَاءِ اسْتِدْرَاكاً لِمَا سَبَقَ لَهُ وُجوُبٌ مُطْلَقاً. وَالإِعَادَةُ مَافُعِلَ في وَقْتِ الأَدَاءِ ثَانِياً لِخَلَلٍ فِي الأَوَّلِ. (1/2)
وَالرُّخْصَةُ مَا شُرِعَ لِعُذْرٍ مَعَ بَقَاءِ مُقْتَضَى التَّحْرِيم. وَ الْعَزِيْمَةُ بِخِلاَفِهَا.
الْبَابُ الثَّانِي فِي الأَدِلَّةِ
الدَّلِيْلُ: مَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِصَحِيْحِ النَّظَرِ فِيهِ إِلَى الْعِلْمِ بِالغَيْرِ، وأَمَّا مَا يَحْصلُ عِنْدَهُ الظَّنٌّ فَهُوَ أَمَارَةٌ، وَقَدْ يُسَمَّى دَلِيلاً تَوَسُّعاً.
وَالعِلْمُ هُوَ: المَعْنَى المُقْتَضى لِسُكُونِ النَّفسِ إِلَى أَنَّ مُتَعَلَّقَهُ كَمَا اعْتَقَدَهُ. وَهُو نَوعَانِ: ضَرُورِيٌّ وَاستِدْلاَلِيٌّ، فَالضَّرُورِيُّ مَالاَ يَنْتَفِي بِشَكٍّ وَلاَ شُبْهَةٍ. وَالإِسْتِدْلاَلِيُّ مُقَابِلُهُ.
وَالظَّنُّ: تَجْويزٌ رَاجِحٌ. وَالوَهْمُ: تَجْويزٌ مَرْجُوحٌ. وَالشَّكُّ: تَعَادُلُ التَّجْوِيزَيْنِ.
وَالإِعْتِقَادُ هُوَ: الْجَزْمُ بِالشَّيءِ مِنْ دُونِ سُكونِ النَّفْسِ، فَإِنْ طَابَقَ فَصَحِيْحٌ وَإِلاَّ فَفَاسِدٌ، وَهُوَ الجَهْلُ، وَقَدْ يُطْلقُ عَلَى عَدمِ العِلمِ.
فَصْلٌ: والأَدِلَّةُ الشَّرعِيَّةُ
هِيَ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَالإِجْمَاعُ. وَالقِيَاسُ.
فَالْكِتَابُ هُوَ: القُرآنُ المُنَزَّلُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلًّمَ لِلإِعْجَازِ بِسُورَةٍ مِنْهُ. وَشَرطُهُ: التَّوَاتُرُ، فَمَا نُقِلَ آحَاداً فَليْسَ بقرْآنٍ؛ لِلقَطْعِ بِأَنَّ العَادَةَ تَقْضِيْ بِالتَّواتُرِ فِي تَفَاصِيلِ مِثْلِهِ، وَتَحْرُمُ القِرَاءَةُ بِالشَّوَاذِّ، وَهِيَ: مَا عَدَا القِرَاءَآتِ السَّبْعِ، وَهِيَ كَأَخبَارِ الآحَادِ فِي وُجُوبِ العَمَلِ بِهَا. وَالبَسْمَلَةُ آيَةٌ مِنْ أوِّلِ كلِّ سُورَةٍ عَلَى الصَّحيحِ. (1/3)
وَالمُحْكَمُ: مَا اتَّضَحَ مَعْنَاهُ. وَالمُتَشَابِهُ: مُقَابِلُهُ، وَلَيْسَ فِي القُرآنِ مَالاَ مَعْنَى لَهُ، خِلاَفاً لِلحَشْوِيَّةِ، وَلاَ مَا الْمُرَادُ مِنهُ خِلاَفَ ظَاهِرِهِ مِنْ دُونِ دَلِيْلٍ، خِلافاً لِبَعْضِ المُرْجِئَةِ.
وَالسُّنَّةُ: قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ وَفِعْلُهُ وَتَقريرُهُ.
فَالقَوْل ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَقْوَاهَا.
وأَمَّا الفِعْلُ، فَالمخْتَارُ وُجُوبُ التَأَسِّي بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَ سَلَّم فِي جمَيْعِ أَفْعَالِهِ إِلاَّ مَا وَضَحَ فِيْهِ أَمْرُ الجِبِلَّةِ، أَوْ عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهِ، كَالتَّهَجُّدِ وَالأُضْحِيَةِ.
وَالتَّأَسِّي: هُوَ إِيقَاعِ الفِعْلِ بِصُورَةِ فِعْلِ الغَيْرِ وَوَجْهِهِ اتِّبَاعاً لَهُ أَوْ تَزْكِيَتَهُ كَذَلِكَ، فَمَا عَلِمْنَا وُجُوبَهُ مِنْ أَفْعَالِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ فَظَاهِرٌ، وَمَا عَلِمْنَا حُسْنَهُ دُونَ وُجُوبِهِ فَنَدْبٌ، إِنْ ظَهَرَ فِيْهِ قَصْدُ القُرْبَةِ، وإلاَّ فَإِبَاحَةٌ، وَتَرْكَهُ لِمَا كَانَ أَمَرَ بِهِ، يَنْفِي الوُجُوبَ، وَفِعْلُهُ لِمَا نَهى عَنْهُ يَقْتَضِي الإِبَاحَةَ.
وَأَمَا التَّقْرْيرُ، فَإِذَا عَلِمَ صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ بِفِعْلٍ مِنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يُنكِرْهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إَنكَارِهِ، وَلَيْسَ كَمُضيِّ كَافِرٍ إَلَى كَنِيْسَةٍ، وَلاَ أَنكَرَهُ غَيرُهُ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى إِبَاحَتِهِ. (1/4)
وَلاَ تَعاَرُضَ فِي أَفْعَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَآلَهُ وَسَلَمَ، وَمَتَى تَعَارَضَ قَوْلاَنِ، أَوْ قَولٌ وَفِعْلٌ؛ فَالمُتَأخِّرُ نَاسِخٌ أَوْ مخَصِّصٌ، فَإِنْ جُهِلَ التَّأرِيْخُ فَالتَّرجِيْحُ.
وَطَرِيْقُنَا إِلَى العِلْمِ بِالسُّنَّةِ الأَخْبَارُ، وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ، وَآحَادٌ.
فَالمُتَوَاتِرُ: خَبَرُ جَمَاعَةٍ يُفيدُ بِنَفْسِهِ العِلْمَ بِصدْقِهِ، وَلاَ حَصْرَ لِعَدَدِهِ، بَلْ هُوَ مَا أَفَادَ العِلْمَ الضَّرُورِيَّ، وَيَحْصلُ بِخَبَرِ الفُسَّاقِ وَ الكُفَّارِ، وَقَدْ يَتَوَاتَرُ المَعْنى دُوْنَ اللَّفْظِ، كَمَا فِي شَجَاعَةِ عَليٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَجُودِ حَاتِمٍ.
وَالآحَادِيُّ: مُسْنَدٌ، وَمُرْسَلٌ، وَلاَ يُفِيْدُ إِلاَّ الظَّنَّ، وَيجبُ العَمَلُ بِهِ فِي الفُروعِ، إِذْ كَانَ صَلى اللَّهُ عَليهِ وَآلَهُ وَسَلمَ يَبعثُ الآحَادَ إِلَى النَّواحِي لِتَبْليغِ الأَحْكَامِ، وَلِعَمَلِ الصَّحَابَةِ رَضيَ اللَّهُ عَنهُمْ بِهِ.
وَلاَ يُؤخَذُ بِأَخْبَارِ الآحَادِ فِي الأُصُولِ، وَلاَ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ البَلوىَ عِلماً، وَ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ البَلْوَى عَمَلاً، كحَدِيثِ: مَسِّ الذَّكَرَ، خِلافٌ، وَشَرْطُ قَبُولِهَا العَدَالَةُ وَ الضَّبطُ، وَعَدمُ مُصَادَمَتِهَا دَليلاً قَاطِعاً، وَفَقْدُ اسْتِلزَامِ مُتَعَلَّقِهَا الشُّهْرَة.
وَتَثْبُتُ عَدَالَةُ الشَّخْصِ بِأَنْ يَحْكُمَ بِشَهادَتِهِ حَاكِمٌ يَشْتَرِطُ العَدَالَةَ، وَبِعَمَلِ العَالِم بِرِوَايَتِهِ، قِيْلَ: وَبِرِوَايَةِ العَدْلِ عَنْهُ.
وَيَكْفِي وَاحِدٌ فِي التَّعْدِيلِ وَالجرحِ، وَالجَارحُ أَوْلَى وَإِنْ كَثُرَ المعَدِّلُ، وَيَكْفِي الإِجْمَالُ فِيهِمَا مِنْ عَارِفٍ، وَيُقُبَلُ الخَبَرُ المُخَالِفُ لِلْقِيَاسِ فيُبْطِلُه، وَيُرَدُّ مَا خَالَفَ الأُصُولَ المُقَرَّرَة. (1/5)
وَتَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِالمَعْنَى مِنْ عَدْلٍ عَارفٍ ضَابطٍ، وَاخْتُلِفَ فِي قَبُولِ رِوَايَةِ فَاسِقِ التَّأْوِيلِ وَكَافِرِهِ.
وَالصَّحَابِيُّ مَنْ طَالَتْ مُجَالَسَتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ مُتَّبِعاً لِشَرْعِهِ وَكُلُّ الصَّحَابَةِ عُدُولٌ إِلاَّ مَنْ أَبَى عَلَى المخْتَارِ فِي جَمِيْعِ ذَلِكَ.
وَطُرُقُ الرِّوَايَةِ أَرْبَعُ: قِرَاءَةُ الشِّيْخِ، ثُمَّ قِرَاءَةُ التِّلْميذِ أَوْ غَيْرِهِ بِمَحْضَرِهِ، ثُمَّ المُنَاوَلَةُ، ثُمَّ الإِجَازَةُ.
وَمَنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ سَمِعَ جُمْلَةَ كِتَابٍ مُعَيَّنٍ جَازَتْ لَهُ رِوَايَتُهُ وَ العَمَلُ بِمَا فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ كُلَّ حَدِيثٍ بِعَيْنِهِ.
(( تَنْبِيْهٌ ))
الخَبَرُ هُوَ الْكَلامُ الَّذِي لِنِسْبَتِهِ خَارِجٌ، فَإِنْ تَطَابَقَا فَصِدْقٌ، وَإِلاَّ فَكَذِبٌ. وَيُسَمَّى الخَبَرُ: جُمْلَةً، وَقَضِيَّةً، وَإِذَا رُكِّبَتِ الْجُمْلَةُ فِي دَلِيْلٍ سُمِّيَتْ: مُقَدَّمَةً.
وَالتَّنَاقُضُ هُوَ: اخْتِلافُ الجُمْلَتَيْنِ بِالنَّفْيِ وَالإِثْبَاتِ، بِحَيْثُ يَسْتَلْزِمُ صِدْقُ كُلِّ وَاحِدةٍ مِنْهُمَا كَذِبَ الأُخْرَى.
وَالعَكسُ المُسْتَوِي: تَحْويلُ جُزْئَيِ الجُمْلَةِ عَلَى وَجْهٍ يَصْدُقُ. وَعَكسُ النَّقيضِ جَعْلُ نَقيضِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَكَانَ الآخَرِ.
فَصْلٌ: وَ الإِجْمَاعُ
هُوَ: اتِّفَاقُ المُجْتَهِدِيْنَ العُدُولِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ فِي عَصْرٍ عَلَى أَمْرٍ. وَالمُخْتَارُ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِهِ إِنْقِرَاضُ العَصْرِ، وَلاَ كَوْنُهُ لَمْ يَسْبِقْهُ خِلاَفٌ، وَ أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ مُسْتَنَدٍ، وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ إِليْنَا، وَأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهُ قِيَاساً أَوْ اجْتِهَاداً، وَ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ إِجمَاعٌ بَعْدَ الإِجْمَاعِ عَلَى خِلاَفِهِ، وَأَنَّهُ لاَ يَنْعَقِدُ بِالشَّيْخَيْنِ، وَلاَ بِالأَرْبَعَةِ الخُلَفَاءِ، وَلاَ بِأَهْلِ المَدِينَةِ وَحْدَهُمْ إِذْ هُمْ بَعْضُ الأُمَّةِ، قَالَ الأَكْثَرُ: وَلاَ بِأَهْلِ الْبَيتِ عَليْهُمُ السَّلاَمُ وَحْدَهُمْ كَذَلِكَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: جَمَاعَتُهُمْ مَعْصُومَةٌ بِدَلِيلِ: {لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ}الآيَةِ. <أَهْلُ بَيْتِي كَسَفِيْنَةِ نُوحٍ>. <إِنِّيْ تَارِكٌ فِيْكُمْ..> الخَبَرَيْن، وَنَحْوَهُمَا. (1/6)
وَإِذَا اخْتَلَفَتِ الأُمَّةُ عَلَى قَوْلَيْنِ جَازَ إِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ، مَا لَم يَرفَعِ الأَوَّلَيْنِ، وَكَذَلِكَ إِحْدَاثُ دَلِيلٍ، وَتَعْلِيلٍ، وَتأوِيلٍ ثَالثٍ.
وَطَرِيْقُنَا إِلَى الْعِلْمِ بِانْعِقَادِ الإِجمَاعِ: إِمَّا المُشَاهَدةُ، وَإِمَّا النَّقْلُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ المُجمِعِيْن أَوْ عَنْ بَعْضِهِمْ مَعَ نَقْلِ رِضَى السَّاكِتِيْنَ، وَيُعْرَفُ رِضَاهُمْ بِعَدَمِ الإِنْكَارِ مَعَ الإِشْتِهَارِ، وَعَدَمِ ظُهُورِ حَامِلٍ لَهُم عَلَى السُّكُوتِ، وَكَونِهِ مِمَّا الحَقُّ فِيْهِ مَعَ وَاحِدٍ، وَيُسمَّى: هَذا إِجْمَاعاً سُكوتِيّاً. وَهُوَ حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ وَإِنْ نُقِلَ تَوَاتُراً، وَكذَلِكَ الْقَوْليُّ إِنْ نُقِلَ آحَاداً، فَإِنْ تَوَاتَرَ فَحُجَّةٌ قَاطِعَةٌ، يَفْسُقُ مُخَالِفِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيْلِ المُؤْمِنِيْنَ}، {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}، وَلِقَوْلِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ <لَنْ تَجْتَمِعَ أُمَّتِي عَلَى ضَلالَةٍ>. وَنَحْوَهُ كَثِيْرٌ، فَفِيْهِ تَوَاتُرٌ مَعْنَوِيٌّ، وَلإِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَخْطِئَةِ مَنْ خَالَفَ الإِجْمَاعَ، وَمِثْلُهُم لاَ يُجْمِعُ عَلَى تَخْطِئَةِ أَحَدٍ فِيْ أَمْرٍ شَرْعِيٍّ إِلاَّ عَنْ دَلَيلٍ قَاطِعٍ. (1/7)
فَصْلٌ: وَالقِيَاسُ
حَملُ مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ بِإِجْراءِ حُكْمِهِ عَليهِ بِجَامعٍ. وَيَنْقَسِمُ إِلَى: جَلِيٍّ، وَخَفِيٍّ، وَإِلَى: قِيَاسِ عِلَّةٍ، وَقِيَاسِ دَلاَلَةٍ، وَإِلَى قِيَاسِ طَرْدٍ، وَقِيَاسِ عَكْسٍ، وَقَدْ شَذَّ المُخَالِفُ فِيْ كَوْنِهِ دَلِيلاً، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمْ، إِذْ كَانُوا بَيْنَ قَائِسٍ وَسَاكِتٍ سُكُوتَ رِضاً، وَ المسْأَلَةُ قَطْعِيَّةٌ.
وَلاَ يَجْرِي القِيَاسُ فِيْ جَمِيعِ الأَحْكَامِ إِذْ فِيْهَا مَالاَ يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، وَ القِيَاسُ فَرْعُ تَعَقُّل المَعْنَى، وَيَكْفِي إِثْبَاتُ حُكْمِ الأَصْلِ بِالدَّلِيْلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُجْمَعاً عَلَيْه، وَلاَ اتَّفَقَ عَلَيهِ الخَصْمَانِ عَلَى المُخْتَارِ. (1/8)
وَأَرْكَانُهُ أَرْبَعَةٌ: أَصْلٌ، وَفَرعٌ، وَحُكْمٌ، وَعِلَّةٌ.
فَشُرُوطُ الأَصْلِ: أَنْ لاَ يَكُوْنَ حُكمُه مَنْسُوخاً، وَلاَ معْدُولاً بِهِ عَنْ سُنَنِ القِيَاسِ، وَلاَ ثَابِتاً بِقِيَاسٍ.
وَشُرُوطُ الفَرْعِ مُسَاواةُ أَصْلهِ فِي عِلَّتِهِ وَحُكْمِهِ، وَفِيْ التَّغْلِيظِ وَالتَّخْفِيفِ، وَأَنْ لاَ يَتَقَدَّمَ حُكمُهِ عَلَى حُكْمِ الأَصْلِ، وَأَنْ لاَ يَرِدَ فِيهِ نَصٌّ.
وَشُرُوطُ الحُكْمِ هَنَا أَنْ يَكُونَ شَرْعِياَّ، لاَ عَقْلِياًّ، وَلاَ لُغَوِياًّ.
وَشُرُوطُ الْعِلَّةِ أَنْ لاَ تُصَادِمَ نَصاًّ وَلاَ إِجْمَاعاًّ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ فِيْ أَوْصَافِهَا مَالاَ تَأْثِيرَ لَهُ فِي الحُكْمِ، وَأَنْ لاَ تُخَالِفَهُ فِي التَّغْلِيظِ وَ التَّخْفِيفِ، وَ أَنْ لاَ تَكُونَ مُجَرَّدَ الإِسْمِ إِذْ لاَ تَأْثِيرَ لَهُ، وَأَنْ تَطَّرِدَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَأَنْ تَنْعَكِسَ عَلَى رَأيٍ، وَ يَصِحُ أَنْ تَكُونَ نَفْياً، وَأَنْ تَكوُنَ إِثْبَاتاً، وَمُفْرَدَةً، وَمُرَكَّبَةً، وَقَدْ تَكُوْنُ خَلْقاً فِي مَحَلِّ الحُكْمِ، وَقَدْ تَكُونُ حُكْماً شَرْعِياًّ، وَقَدْ يَجِيءُ عَنْ عِلَّةٍ حُكْمَانِ، وَيَصِحُّ تَقَارْنُ العِلَلِ وَتَعَاقُبُهَا، وَمَتَى تَعَارَضَتْ فَالتَّرْجِيحُ.
وَطُرقُ العِلَّةِ أرْبعٌ عَلَى المخُتَارِ:
أَوَّلُهَا الإِجْمَاعُ، وَذَلِكَ أَن يَنْعَقِدَ عَلَى تَعْلِيلِ الحُكْمِ بِعِلَّةٍ مُعَيَّنَةٍ.
وَثَانِيهَا النَّصُّ، وَهُوَ: صَرِيحٌ وَغَيْرُ صَرِيحٍ. فَالصَّريحُ مَا أُتِيَ فِيهِ بِأَحَدِ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ، مِثْل: لِعِلَّةِ كَذَا أَوْ لأَجْلِ كَذَا، أَوْ لأَنَّهُ، أَوْ فَأَنَّهُ، أَوْ بِأَنَّهُ، أَوْ نَحو ذَلِكَ. وَغَيْرُ الصَّريحِ مَا فُهِمَ التَّعلِيلُ لاَ عَلَى وَجْهِ التَّصْريحِ، وَيُسمَّى: تَنبيهَ النَّصِّ، مِثلُ: <أَعْتِقْ رَقَبَةً> جَوَاباً لِمَنْ قَالَ: جَامَعتُ أَهْلي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ. وَقَريبٌ مِنْهُ: <أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيْكِ دَينٌ>، الخَبَرَ. وَمِثلُ: <لِلرَّاجلِ سَهْمٌ وَلِلفَارِسِ سَهْمَانِ>. وَمثلُ: <لاَ يَقْضِ القَاضِي وَهُوَ غَضْبَانٌ>، وَغَيرُ ذَلِكَ. (1/9)
وَثَالِثُهَا: السَّبْرُ وَالتَّقسيْمُ، وَيُسمَّى: حُجَّةَ الإِجْمَاعِ، وَهُوَ: حَصْرُ الأَوْصَافِ فِي الأَصْلِ، ثُمَّ إِبْطالُ التَّعْلِيلِ بِهَا إِلاَّ وَاحِداً، فَيَتعيَّنُ، وَإِبْطَالُ مَا عَدَاهُ إِمَّا بِبَيَانِ ثُبوتِ الحُكْمِ مِنْ دُونِهِ، أَوْ بِبَيانِ كَوْنِهِ وَصفاً طَرْدِياًّ، أَوْ بِعَدَمِ ظُهُورِ مُنَاسَبَتِهِ، وَشَرطُ هَذَا الطَّرِيقِ وَمَا بَعْدَهُ الإِجْمَاعُ عَلَى تَعْلِيلِ الحُكْمِ فِي الجُمْلةِ مِن دُونِ تَعْيينِ عِلَّةٍ.
وَرَابِعُهَا الْمُنَاسَبةُ، وَتُسَمَّى: الإِخَالَةَ، وَتَخْريجَ المنَاطِ، وَهِيَ تَعْيينُ العِلَّةِ بِمُجَرَّدِ إِبْتِدَاءِ مُنَاسَبَةٍ ذَاتِيَّةٍ، كَالإِسْكَارِ فِي تَحْرِيمِ الخَمْرِ، وَكَالجِنَايَةِ العَمْدِ العدْوانِ فِي القِصَاصِ، وَ تَنخَرِمُ المُنَاسَبةُ بِلُزومِ مَفْسَدَةٍ رَاجِحةٍ أَوْ مُسَاوِيَة، وَ المُنَاسبُ وَصَفٌ ظَاهِرٌ مُنْضَبِطٌ، يَقْضِي العَقْلُ بأنَّهُ البَاعِثُ عَلَى الحُكْمِ، فَإِنْ كَانَ خَفِياًّ أَوْ غَيرَ مُنْضَبِطٍ أُعْتُبِرَ مُلاَزِمُهُ وَ مَظِنَّتُه كَالسَّفَرِ لِلمَشَقَّةِ.
وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: مُؤثِّرٌ، وَمُلاَئِمٌ، وَغَرِيبٌ، وَمُرْسَلٌ. (1/10)
فَالمُؤثِّرُ: مَا ثَبَتَ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ اعْتِبَارُ عَينهِ فِي عَينِ الحُكْمِ، كَتَعْلِيلِ وِلاَيَةِ المَالِ بِالصِّغَرِ الثَّابِتِ بِالإِجْمَاعِ، وَكَتَعْلِيلِ وُجُوبِ الوُضُوءِ بِالحَدَثِ الخَارِجِ مِنْ السَّبَيلينِ الثَّابتِ بِالنَّصِّ.
وَالمُلاَئِمُ: مَا ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ بِتَرَتُّبِ الحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ فَقَطْ، لَكِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِنَصٍّ أّوْ إِجْمَاعٍ اعْتِبَارُ عَينِهِ فِي جِنْسِ الحُكْمِ، كَمَا ثَبَتَ لِلأَبِ نِكَاحُ ابْنَتِهِ الصَّغيرَةِ، قِيَاساً عَلَى وَلاَيَة الْمَالِ بِجَامِعِ الصِّغَرِ فِي جِنْسِ الوَلاَيَةِ، فَقَد اعْتُبِرَ عَيْنُ الصِّغَرِ فِي جِنْسِ الوَلاَيَةِ، أَوْثَبَتَ اعْتِبَارُ جِنْسِهِ فِي عَينِ الحُكْمِ، كَجَوَازِ الجَمْعِ فِي الحَظَرِ لِلمَطَرِ، قِيَاساً عَلَى السَّفَر، بِجَامِعِ الحَرَجِ، فَقَد أُعْتُبِرَ جِنسُ الحَرَجِ فِي عَيْنِ رُخْصَةِ الجَمْعِ، أَوْ إِعْتِبَارُ جِنْسِهِ فِي جِنْسِ الحُكْمِ، كَإِثبَاتِ القِصَاصِ بِالمُثَقَّلِ قِيَاساً عَلَى المَحدَّدِ بِجَامِع كَونِهمَا جِنَايَةً عَمداً عُدْوَاناً، فَقَدْ أُعْتُبِرَ جِنْسُ الجِنَايَةِ فِي جنسِ القِصَاصِ.
وَ الغَريبُ: مَا ثَبَتَ إِعتبَارُه بِمُجَرَّدِ تَرَتُّبِ الحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِنَصٍّ وَلاَ إِجْمَاعٍ إِعْتِبَارُ عَيْنِهِ وَلاَ جِنسِهِ فِي عَينِ الحُكْمِ وَلاَ جنسِهِ، كَتَعْلِيلِ تَحْرِيمِ النَّبِيذِ بِالإِسْكَارِ، قِيَاساً عَلَى الخَمْر عَلَى تَقدِيرِ عَدمِ وُرودِ النَّصِّ بِأَنَّهُ العِلَّةُ فِي تَحريْمِ الخَمْرِ.
وَالمُرسَلُ: مَا لَمْ يَثْبُتْ اعتبَارُهُ بِشيءٍ مِمَّا سَبَقَ وَهْوَ ثَلاثَةُ أَقْسَامٍ: مُلاَئِمٌ، وَغَرِيبٌ، وَمَلْغيٌّ، فَالمُلائِمُ المُرسَلُ: مَالَمْ يَشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ بِالإِعتِبارِ، لكِنَّهُ مُطابِقٌ لِبَعْضِ مَقاصِدِ الشَّرْعِ الجُمْلِيَّةِ، كَقَتْلِ المُسْلِمِينَ المُتَرَّسِ بِهِمْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَكَقَتْلِ الزِّنْدِيْقِ وَإِنْ أَظهَرَ التَّوبَةَ، وَكَقَولِنَا: يَحرُمُ عَلى العَاجِزِ عَنِ الوَطْءِ مَن تَعْصِى لِتَركِهِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، وَهَذَا النَّوعُ هُوَ المَعْروفُ المسَمَّى بِالمَصَالِحِ المُرسَلَةِ وَ المَذْهبُ اعْتَبَارُهُ. (1/11)
وَالغَريْبُ المُرسَلُ: مَا لاَ نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرعِ، لكِنَّ العَقْلَ يَستحسِنُ الحُكْمَ لأَجْلِهِ، كَأنْ يُقَالَ فِي البَاتِّ لِزوجَتِهِ فِي مَرضِهِ المخوفِ لئلاَّ تَرِثَ مِنْهُ: يُعامَلُ بِنُقيضِ قَصْدِهِ، فَتُوَرَّثُ قِياساً عَلَى القاتِلِ عَمْداً، حَيْثُ عُورِضَ بِنَقيضِ قَصْدِهِ فَلم يُؤَرَّثْ، بِجَامِع كونِهما فَعَلاَ فِعْلاً محَرَّماً لِغَرضٍ فَاسِدٍ، فإِنَّهُ لَمْ يَثْبتْ فِي الشَّرْعِ أَنَّهُ العِلَّةُ فِي القاتِلٍ وَلاَغَيرِهِ.
وَأمَّا المَلْغيُّ فَهُوَ مَا صَادَمَ النَّصَّ، وَ إِن كَانَ لِجِنْسِهِ نَظِيْرٌ فِي الشَّرْعِ، كَإِيجَابِ الصَّومِ ابْتِدَاءً عَلَى الْمُظَاهِرِ وَنَحْوِهِ، حِيثُ هُوَ مِمَّنْ يَسْهُلُ عَلَيهِ العِتْقُ زِيَادَةً فِي زَجرهِ، فإِنَّ جنْسَ الزَّجْرِ مَقصُودٌ فِي الشَّرْع، لَكِنَّ النَّصَّ مَنَعَ إعتِبَارَهُ هُنَا فأُلْغِيَ، وَهَذَانِ مُطْرُوحَانِ اتِّفَاقاً، قِيْلَ: وَمِنْ طُرِقِ العِلَّةِ الشَّبَهُ، وَهُوَ: أَنْ يُوهِمَ الوَصْفُ المنَاسَبَةَ بِأَن يَدُورَ مَعَهُ الحُكْمُ وُجوداً وَعَدماً، مَعَ إِلْتِفَاتِ الشَّارعِ إليهِ، كَالكَيلِ فِي تَحريمِ التَّفَاضُلِ عَلَى رَأيٍ، وَكَمَا يُقَالُ: فِي تَطْهِيْرِ النَّجسِ طَهَارةٌ تُرَادُ للصَّلاةِ فَيَتَعَيَّنُ لَهَا الماءُ كَطَهَارَةِ الحَدَثِ بِجَامِعِ كَونِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَهَارةً تُرَادُ للصَّلاةِ. (1/12)
اعترَاضَاتُ القِيَاسِ خَمْسَةٌ وَعِشْرٌوْنَ نَوعاً:
الإِسْتِفْسَارُ: وَهُوَ بَيَانُ مَعْنَى اللَّفظِ وَهُوَ نُوعٌ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا يُسْتَمَعُ إِذَا كَانَ فِي اللَّفظِ إِجْمَالٌ أَوْ غَرَابةٌ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ إِذَا اسْتُدِلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}، فَيُقَالُ مَا المُرَادُ بِالنِّكَاحُ هَلِ الوَطْءُ أَوِ العَقْدُ. وَجَوابُهُ ظَاهِرٌ فِي العَقْدِ شَرْعاً أَوْ لأَنَّهُ مُسْنَدٌ إِلَىَ المرأَةِ.
النَّوعُ الثَّانِي: فَسَادُ الإِعْتِبَارِ وَهُوَ مُخَالَفةُ القِيَاسِ لِلنَّصِّ مِثَالُهُ أَن يُقَالَ فِي ذَبحِ تَاركِ التَّسْميَةِ عَمْداً فِي مَحَلِّهِ كَذَبحِ نَاسِي التَّسْميَةِ فَيَقُولُ المعْتَرضُ هَذَا فَاسِدُ الإِعْتِبَارِ لِمُخَالَفَتِهِ قَولَهُ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}، فَيَقُولُ المُسْتَدلُ هَذَا مُؤَوَّلٌ بِذَبْحِ عَبَدةِ الأَوْثَانِ بدَلِيلِ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ: <ذِكْرُ اللَّهِ عَلَى قَلْبِ المُؤْمِنِ سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمِّ>، وَنَحوَ ذَلِكَ. (1/13)
النَّوْعُ الثَّالِثُ: فَسَادُ الْوَضْعِ وَحَاصِلُه إِبْطَالُ وَضْعِ الْقِيَاسِ الْمَخْصُوصِ بِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالوَصْفِ الجَامِعِ نَقَيْضُ ذَلِكَ الحُكْمِ، مِثَالُه: أَنْ يُقَالَ فِي التَيَمُّمِ مَسحٌ فَيُسَنُّ فِيْهِ التَّكرَارُ كَالإِسْتجْمَارِ فَيَقُولُ المُعْتَرِضُ المَسْحُ لاَيُنَاسِبُ التَّكْرَارَ لأَنَّه ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ فِي كَرَاهَةٍ فِي المَسْحِ عَلَى الخُفِّ فَيَقولُ المُستَدِلُّ إِنَّمَا كُرِهَ التَّكْرَارُ فِي المَسْحِ عَلَى الخُفِّ لِمَانِعٍ وَهُوَ التَّعْرِيضُ لِتَلَفهِ.
الرَّابعُ: مَنْعُ حُكمِ الأَصْلِ، مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ المَسْتَدِلُّ جِلدُ الخِنْزِيْرِ لاَ يَقْبَلُ الدِّبَاغَ لِنَجَاسَتِهِ المغَلَّظَةِ كَالْكَلْبِ فَيَقولُ المُعتَرِض لاَ نُسَلِّمُ أَنَّ جِلدَ الْكَلْبِ لاَ يَقْبَلُ الدِّبَاغَ وَجَوابُهُ بِإِقَامَةِ الدَّلِيْلِ.
الخَامِسُ: التَّقْسِيْمُ وَحَقِيْقَتُهُ أَنْ يَكُونَ اللَّفظُ مُتَردِّداً بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا مَمْنُوعٌ مِثَالُهُ: أَنْ يُقَالَ فِي الصَّحِيحِ الحَاضِرِ إِذَا فَقَدَ المَاءَ وُجِدَ سَبَبُ جَوَازِ التَّيَمُمِ وَهُوَ تَعَذُّرُ المَاءِ فَيَجُوزُ التَّيَمُمُ. فَيَقُولُ المُعْتَرضُ أَتُرِيْدُ أَنَّ تَعَذُّرَ المَاءُ مُطْلَقاً سَبَبٌ لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ أَوْ تَعَذُّرَهُ فِي السَّفَرِ أَوْ المَرَضِ فَالأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَجَوابُهُ مِثْلُهُ بِإِقَامَةِ الدَّلَيْلِ عَلَى الإِطْلاقِ. (1/14)
السَّادِسُ: مَنْعُ وُجُودِ المُدَّعى عِلَّةً فِي الأَصلِ مِثَالُه أَنْ يُقَالَ فِي الكَلْبِ حَيَوَانٌ يُغْسَلُ مِنْ وُلُوغِهِ سَبْعاً فَلاَ يَقْبَلُ جِلْدُه الدِّبَاغَ كَالخَنْزِيْرِ فَيَقُولُ المُعْتَرِضُ لاَ نُسَلِّمُ أَنَّ الخِنْزِيرَ يُغْسَلُ مِنْ وُلُوغِهِ سَبْعاً وَجَوَابُهُ بِإِثْبَاتِ ذَلِكَ فِي الخَنْزِيرِ.
السَّابِعُ: مَنْعُ كَوْنِ ذَلِكَ الوَصفِ عِلَّةً مِثَالُه أَنْ يُقَالَ فِي المِثَالِ السَّابِقِ لاَ نُسَلِّمُ أَنَّ كَونَ الخِنزيرِ يُغسَلُ مِنْ وُلوغِهِ سَبْعاً هُوَ العِلَّةُ فِي كَونِ جِلْدِه لاَيَقْبَلُ الدِّبَاغَ. وَجَوابُهُ بإِثْبَات العِلَّةِ بِإِحْدى الطَّرُقِ.
الثَّامِنُ: عَدَمُ التَّأْثِيْرِ وَهُوَ أَنْ يُبْدِيَ المُعْتَرِضُ فِي قِيَاسِ المُستَدِلِّ وَصْفاً لاَ تأثيرَ لَهُ فِي إِثْبَاتِ الْحُكْمِ وَمِنْ أَمْثِلَتهِ قَوْلُ الحَنفيَّةِ فِي المرْتَدِّينَ إِذَا أَتْلَفُوا أمْوالَنَا مُشْرِكُونَ أَتلَفُوا أَموَالاً فِي دَارِ الحَرْبِ فَلا ضَمَانَ عَلَيْهم كَسَائِر المُشْرِكِيْنَ. فَيَقُولُ المُعْتَرِضُ دَارُ الحَربِ لاَ تَأْثِيْرَ لَهَا فِي عَدمِ الضَّمَانِ عِنْدَكُمْ.
التَّاسِعُ: القَدْحُ فِي إِفْضَاءِ المُنَاسِبِ إِلَى المَصْلَحَةِ المَقْصُودَةِ مِثَالُهُ: أَنْ يُقَالَ فِي عِلَّةِ تَحْريْمِ مُصَاهَرةِ المَحَارِمِ عَلَى التَّأْبِيْدِ إِنَّهَا الحَاجَةُ إِلَى ارْتِفَاعِ الحِجَابِ وَوَجْهُ المُنَاسَبَةِ أَنَّ التَّحْرِيْمَ المُؤَبَّدَ يَقَطعُ الطَّمَعَ فِي الفُجُورِ. فَيَقُولُ المُعْتَرضُ لاَ نُسْلِّمُ ذَلِكَ بَلْ قَدْ يَكُونُ أَفضَى إِلَى الفُجُورِ لِسَدِّهِ بَابَ النِّكَاحِ. وَجَوَابُهُ بِأَنَّ رَفعَ الحِجَابِ عَلَى الدَّوَامِ مَعَ اعتقَادِ التَّحْرِيمِ لاَيَبْقَى مَعَهُ المَحَلُّ مُشْتَهاً طَبعاً كالأُمَّهَاتِ. (1/15)
العَاشِرُ: القَدْحُ فِي المُنَاسَبَةِ وَهُوَ إِبْدَاءُ مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ أَوْ مُسَاوِيَةٍ. وَجَوابُهُ: بِتَرجِيحِ المَصْلَحَةِ عَلَى المَفْسَدَةِ. وَمَنْ أَمْثِلَتِهِ أَنْ يُقَالَ التَخَلِّي لِلعبَادَةِ أَفضَلُ لِمَا فِيْهِ مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ. فَيَقُولُ المعتَرِضُ لكِنَّهُ يَفُوتُ أَضْعَافُ تِلْكَ المَصْلَحَةِ كَإِيْجَادِ الوَلَدِ وَكفِّ النَّظَرِ وَكَسْرِ الشَّهْوَةِ. وَجَوابُهُ: بَأَنَّ مَصْلَحَةُ العِبَادَةِ أَرجَحُ إِذْ هِيَ لِحِفْظِ الدِّيْنِ وَمَا ذَكَرْتُ لِحِفظِ النَّسْلِ.
الْحَادِي عَشَرَ: عَدَمُ ظُهُورِ الْوَصْفِ المُدَّعَى عِلَّةً كَالرِّضَى فِي العُقُودِ وَ الْقَصْدِ فِي الأَفْعَالِ. وَالجَوابُ ضَبْطُهُ بِصِفَةٍ ظَاهِرةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ عَادَةً كَصِيَغِ العُقُودِ عَلَى الرِّضَى وَاسْتِعمَالِ الجارِحِ فِي المَقْتَلِ عَلَى العَمْدِ.
الثَّانِي عَشَر: عَدمُ انْضِبَاطِ الوَصْفِ كَالتَّعْلِيلِ بِالحُكْمِ وَالمَصَالحِ مِثْلُ المَشَقَّةِ فَإِنَّهَا ذَوَاتُ مَرَاتِبَ غَيْرِ مَحصُورَةٍ وَلاَ مُتَمَيِّزَةٍ وَتَخْتَلِفُ بِالأَحْوَالِ وَالأَشْخَاصِ وَالأَزْمِنَةِ وَالأَمْكِنَةِ فَلاَ يُمْكِنُ تَعْيِيْنُ القَدْرِ المَقْصُودِ مِنْهَا فِي جَوازِ الإِفطَارِ وَالقَصْرِ مَثلاً وَكَالزَّجْرِ فِي شَرْعِ الكَفَّارَاتِ وَالحُدودِ. وَجَوابُهُ بانضِبَاطِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَظِنَّتِهِ كَالسَّفَرِ. (1/16)
الثَّالِثُ عَشَرَ: النَّقْضُ وَهُوَ عِبَارةٌ عَنْ ثُبُوتِ الوَصْفِ فِي صُورَةٍ مَعَ عَدمِ الحُكْمِ فِيهَا. وَجَوَابُهُ بِمَنْعِ وُجُودِ الوَصْفِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ أَوْ بِمَنْعِ عَدَمِ الحُكْمِ فِيهَا وَذَلِكَ يَكوْنُ بِإِبْدَاءِ مَانِعٍ فِي مَحَلِّ النَّقْضِ اقْتَضَى نَقيضَ الحُكمِ كَمَا فِي العَرايَا إِذَا أُورِدَتْ فِي الرِّبَوِيَّاتِ لِعُمُومِ الحَاجَةِ إِلَى الرُّطَبِ وَقدْ لاَ يَكُونُ عِندَهُم ثَمَنٌ غَيْرُ التَّمْرِ فَالمَصْلَحَةُ فِي جَوَازِهَا أَرْجَحُ وَكَتَحْرِيْمِ أَكْلِ الميْتَةِ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهَا المُضْطَرُّ إِذْ مَفْسَدَةُ هَلاَكِ النَّفْسِ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ أَكْلِ المُسْتَقْذَرِ.
الرَّابِعُ عَشَرَ: الكَسْرُ وَحَاصِلُه وُجودُ الْحِكمَةِ المقصُودَةِ مِنْ الوَصْفِ فِي صُورَةٍ مَعَ عَدَمِ الحُكْمِ فِيهَا كَمَا لَوْ قِيْلَ أَنَّ التَّرخيصَ فِي الإِفْطَارِ فِي السَّفَرِ لِحِكْمَةِ المُشَقَّةِ فَيُكْسَرُ بِصَنْعَةٍ شَاقَّةٍ فِي الحَضَرِ. وَجَوابُهُ بِمَنعِ وُجُودِ قَدْرِ الحِكْمَةِ لِعُسْرِ ضَبْطِ المَشَقَّةِ وَحِيْنَئِذٍ فَالْكَسرُ كَالنَّقْضِ فِي أَنَّ جَوابَهُ بِمَنْعِ وُجُودِ الحِكْمَةِ أَوْ مَنْعِ عَدَمِ الحُكْمِ أَوْ لِشَرْعِيَّةِ حِكْمَةٍ أَرْجَحَ كَعَدَمِ قَطْعِ يَدِ القَّاتِلِ لِثُبُوتِ القَتْلِ.
الخَامِسُ عَشَر: المعَارَضَةُ فِي الأَصْلِ كَمَا إِذَا عَلَّلَ المُستَدِلُّ حُرْمَةَ الرِّبَى بِالطَّعْمِ فَيُعَارِضُهُ المُعْتَرضُ بِالكَيْلِ فَيَقُولُ المُستَدِلُّ لاَ نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَكِيْلٌ لأَن العِبْرَةَ بِعَادَةِ زَمَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَآلَهُ وَسَلَمَ وَلَم يَكُنْ مَكَيلاً يَومَئِذٍ أَو يَقُولُ وَلِمَ قُلتَ أَنَّ الكَيلَ مُؤَثِّرٌ وَهَذَا الجَوَابُ هُوَ المُسَمَّى بِالمُطَالَبَةِ وَإِنَّمَا يُسمَعُ حَيثُ كَانَ ثُبُوتُ الْعِلِّيَّةِ بِالْمُنَاسَبَةِ لاَ بِالسَّبْرِ فَلاَ تُسْمَعُ وَلِلْمُعَارَضَةِ جَوابٌ آخَرُ. (1/17)
السَّادِسُ عَشَرَ: مَنْعُ وُجُودِ الوَصْفِ فِي الفَرْعِ مِثَالُهُ: أَنْ يُقَالَ فِي أَمَانِ العَبْدِ أَمَانٌ صَدَرَ مِنْ أَهلِهِ كَالعَبْدِ المَأْذُونِ فِي القِتَالِ. فَيَقُولُ المُعْتَرِضُ لاَ نُسَلِّمُ أَنَّ العَبْدَ أَهلٌ لِلأَمَانِ. وَجَوابُهُ بِبَيَانِ مَعْنَى الأَهلِيَّةِ بِأَنْ تَقُولَ أُرِيدَ أَنَّهُ مَظَنَّةٌ لِرِعَايَةِ المَصْلَحَةِ لإِسْلاَمِهِ وَعَقْلِهِ.
السَّابِعُ عَشَرَ: المَعَارَضَةُ فِي الفَرعِ بِمَا يَقْتَضِى نَقِيْضَ حُكْمِ الأَصْلِ بِأَن يَقُولَ مَا ذَكَرتَهُ مِنْ الوَصْف وَإِنْ اقتَضَى ثُبُوتَ الحُكْمِ فِي الفَرعِ فَعِندِي وَصفٌ آخَرٌ يَقْتَضِيْ نَقِيْضَهُ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعنَى بِالمُعَارَضَةِ عِندَ الإِطلاقِ. وَجَوابُ هَذِه المعَارَضَةِ بِجَمِيْعِ مَا مرَّ مِنَ الإِعتراضَاتِ مِن قَبيلِ المعْتَرِضِ عَلَى المُسْتَدَلِّ.
الثَّامِنُ عَشَرَ: الفَرْقُ وَهُو إِبْدَاءُ خُصُوصِيَّةٍ فِي الأَصْلِ هِي شَرطٌ أَوْ إِبْدَاءُ خُصُوصِيَّةْ فِي الفَرعِ هِيَ مَانِعٌ وَمرجِعُ هَذَا إِلَى المُعَارَضَةِ فِي الأَصْلِ وَقَدْ مَرَّ.
التَّاسِعُ عَشَرَ: اخْتِلافُ الضَّابِطِ فِي الأَصْلِ وَالفَرْعِ وَهُوَ الوَصْفُ المُشْتَمِلُ عَلَى الحِكْمَةِ المَقْصُودَةِ. مِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ المستَدِلُّ فِي شُهُودِ الزُّورِ عَلَى القَتْلِ إِذَا قُتِلَ بِشَهَادَتِهِم تَسَبَّبُوا لِلْقَتْلِ فَيَجِبُ القِصَاصُ كَالمُكْرَهِ فَيَقولُ المُعْتَرضُ الضَّابِطُ مُخْتَلِفٌ فإِنَّهُ فِي الأَصْلِ الإِكْرَاهُ وَفِي الفَرعِ الَّشَّهَادَةُ وَلَمْ يُعْتَبَرْ تَسَاوِيْهِمَا فِي الْمَصْلَحَةِ فَقَدْ يَعتَبِرُ الشَّارِعُ أَحَدَهُمَا دُونَ الآخَرِ. وَجَوابُهُ بِأَنَّ الضَّابِطَ هُوَ القَدْرُ المُشتَركُ وَهُوَ التَّسَبُّبُ أَوْ بِأَنَّ إِفضَاءَهُ فِي الفَرْعِ مِثْلُ إِفْضَائِهِ فِي الأَصْلِ أَوْ أَرجَحُ وَنَحْوَ ذَلِكَ. (1/18)
العِشْرُونَ: إِخْتِلافُ جِنْسِ المَصْلَحةِ فِي الأَصْلِ وَالفَرعِ مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ المُستَدِلُّ يُحَدُّ بِاللِّواطِ كَمَا يُحَدُّ بِالزِّنَا لأَنَّهُ إِيْلاجُ فَرجٍ فِي فَرجٍ مُشْتَهاً طَبْعاً، مُحَرَّمٌ شَرْعاً. فَيَقُولُ المُعتَرضُ اخْتَلَفَتِ المَصْلَحَةُ فِي تَحْرِيْمِهِمَا فَفِي الزِّنَا مَنْعُ اخْتِلاَطِ النَّسَبِ وَفِي اللِّواطِ دَفع رَذِيلَتِهِ وَقَدْ يَتَفَاوَتَانِ فِي نَظَر الشَّارِعِ. وَجَوَابُهُ بِبَيَانِ اسْتِقْلالِ الوَصْفِ بِالعِلِّيَّةِ مِنْ دُون تَفَاوتٍ.
الحَادِي وَالعِشْرُون: دَعْوَى المُخَالَفَةِ بَيْنَ حُكْمِ الأَصْلِ وَحُكْمِ الفَرْعِ مِثَالُه أَن يُقَاسَ النِّكَاحُ عَلَى البَيْعِ أَوِ البَيعُ عَلَى النِّكَاحِ بِجَامِعٍ فِي صُورةٍ فَيَقولُ المُعترضُ الحُكْمُ مُخْتَلَفٌ فَإِنَّ مَعْنَى عَدَمِ الصِّحَّةِ فِي البَيْعِ حُرمَةُ الإِنْتِفَاعِ بِالمَبَيعِ وَفِي النِّكَاحِ حُرمَةُ المُبَاشَرةِ وَهُمَا مُخْتَلفَانِ وَالجَوَابُ أَنَّ البُطْلاَنَ شَيءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ عَدمُ تَرتُّبِ المقصُودِ مِنْ العَقدِ عَلَيْهِ. (1/19)
الثَّاني وَالعِشْرُونَ: القَلبُ وَحَاصْلُه دَعوَى المُعْتَرضِ أَنَّ وُجُودَ الجَامِعِ فِي الفَرعِ يَسْتَلزِمُ حُكماً مُخالِفاً لِحُكْمِهِ الذَّي يُثْبِتُهُ المستَدِلُّ نَحوَ أَنْ يَقُولَ الحَنَفِيُّ الإِعْتِكَافُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الصَّومُ لأَنَّهُ لُبْثٌ فَلاَ يَكُونُ بِمُجَرَّدِهِ قُرْبَةً كَالوُقُوفِ بِعَرفَةَ فَيَقُولُ الشَّافِعيُّ فَلاَ يُشتَرطُ فِيهِ الصَّومُ كَالوُقُوفِ بِعَرَفةَ. وَهُوَ أَقْسَامٌ وَكُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى المَعَارَضَةِ.
الثَّالِثُ وَالعِشْرُوْنَ: القَولُ بِالمُوجَبِ وَحَاصِلُهُ تَسْلِيْمُ مَدْلُول الدَّلَيلِ مَعَ بَقَاءِ النِّزَاعِ وَمِنْ أَمثِلَتِهِ أَنْ يَقوُلَ الشَّافِعِيُّ فِي القَتْلِ بِالمُثَقَّلِ قَتْلٌ بِمَا يَقتُلُ غَالِباً فلاَ يُنَافِي القِصَاصَ كَالقَتْلِ بِالخَارِقِ فَيَردُّ القَولُ بِالمُوجَبِ فَيَقُولُ المُعتَرِضُ سَلَّمْنَا عَدَمَ المنَافَاةِ بَيْنَ القَتلِ بِالمُثَقَّلِ وَبَينَ القِصَاصِ وَلَكنَّهُ لَيسَ مَحَلَّ النِّزَاعِ لأَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ هُوَ وُجُوبُ القِصَاصِ لاَعَدَمُ المُنَافَاةِ لِلقِصَاصِ وَنَحوَ ذَلِكَ.
الرَّابِعُ وَالعِشْرُون: سُؤَالُ التَّرْكِيبِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ شَرْطَ حُكْمِ الأَصْلِ أَلاَّ يَكُونَ ذَا قِيَاسٍ مُرَكَّبٍ.
الخَامِسُ وَالعِشْرون: سُؤَالُ التَّعْدِيَةِ وَذَكرُوا فِي مِثَالِهِ أَنْ يَقُولَ المُسْتَدلُّ فِي البِكْرِ البَالِغَةِ بِكْرٌ فَتُخَيَّرُ كَالصَّغِيرَةِ فَيَقُولُ المُعتَرِضُ هَذَا مُعَارضٌ بِالصِّغَرِ وَمَا ذَكَرْتَهُ وَإِنْ تَعَدَّى بِهِ الحُكْمُ إِلَى البِكْرِ البَالِغَةِ فَمَا ذَكَرتُهُ أَنَا قَدْ تَعَدَّى بِهِ الحُكْمُ إِلَىَ الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ، هَذَانِ الإِعْتِرَاضَانِ يَعُدُّهُمَا الجَدَلِيُّونَ فِي الإِعْتِرَاضَاتِ وَلَيْسَ أَيُّهُمَا اعْتِرَاضاً بِرأْسِهِ بَلْ رَاجِعَانِ إِلَى بَعضِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الإِعْتِراضَاتِ فَالأَوَّلُ رَاجِعٌ إِلَى المَنْعِ وَالثَّانِي إِلَى المُعَارَضَةِ فِي الأَصْل وَقَد تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ. (1/20)
[ الأدلة المختلف فيها]
فَصْلٌ: وَبَعْضُ العُلَمَاءِ يَذكُرُ دَلِيْلاً خَامِساً وَهُوَ: الإِسْتِدْلاَلُ، قَالُوا: وَهُوَ مَالَيسَ بِنَصٍّ وَلاَ إِجْمَاعٍ وَلاَ قِيَاسِ عِلَّةٍ، وَهُوَ ثَلاثَةُ أَنْواعٍ.
الأَوَّلُ: تَلاَزمٌ بَيْنَ حُكْمَينِ مِنْ دُونِ تَعْيينِ عِلَّةٍ، مِثْلُ: مَنْ صَحَّ ظَهَارُهُ صَحَّ طَلاَقُهُ.
الثَّانِي: الإِسْتِصحَابُ وَهُو: ثُبُوتُ الحُكْمِ فِي وَقْتٍ لِثُبُوتِهِ قَبلَهُ لِفُقدَانِ مَا يَصْلُحُ لِلتَّغْيِير، وَكَقَولِ بَعضِ الشَّافِعيَّةِ فِي المُتَيَمِّمِ يَرَى المَاءَ فِي صَلاَتِهِ: يَسْتَمِرُّ فِيهَا اسْتِصْحَاباً لِلحَالِ؛ لأَنَّهُ قَدْ كَانَ عَلَيهِ المُضِيُّ فِيهَا قَبْلَ رْؤيَةِ المَاءِ.
الثَّالِثُ: شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَالمُخْتَارُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وآلَهُ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ البِعْثَةِ مُتَعَبَّداً بِشَرعٍ، وَأَنَّهُ بَعْدَهَا مُتَعَبَّدٌ بِمَا لَمْ يُنْسَخْ مِنْ الشَّرَائِعِ، فَيَجِبُ عَلَيْنَا الأَخْذُ بِذَلِكَ عِندَ عَدمِ الدَّلِيلِ فِي شَريعَتِنَا، قِيْلَ: وَمِنْهُ الإِسْتِحسَانُ، وَهُوَ: عِبَارَةٌ عَنْ دَلِيلٍ يُقَابِلُ القِيَاسَ الجَلِيَّ، وَقَد يَكُونُ ثُبُوتُه بِالأَثَرِ وَ بِالإِجْمَاعِ وَبِالضَّرُورَةِ وَبِالقِيَاسِ الْخَفِيِّ، وَلاَ يَتَحَقَّقُ إِسْتِحْسَانٌ مُخْتلَفٌ فِيهِ، وَأَمَّا مَذْهبُ الصَّحَابِيِّ فَالأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ لَيسَ بِحُجَّةٍ، وَقَولُهُ صَلَى اللَّهُ عَليهِ وآلَهُ وَسَلَّمَ: <أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيُّهُمُ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُم>. وَنَحْوَهُ فَالمُرَادُ بِهِ المُقْلِّدُونَ. (1/21)
خَاتِمَةٌ: إِذَا عَدِمَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ عُمِلَ بِدَلِيلِ العَقْلِ، وَالمُخْتَارُ أَنَّ كُلَّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ عَاجِلٍ وَلاَ آجِلٍ فَحُكْمُهُ الإِبَاحَةُ عَقْلاً وَقِيْلَ بَلِ الحَظْرُ، وَبعْضُهُم تَوَقَّفَ، وَالحُجَّةُ لَنَا أَنَّا نَعْلَمُ حُسْنَ مَا ذَلِكَ حَالُهُ، كَعِلْمِنَا بِحُسْنِ الإِنْصَافِ وَقُبْحِ الظُّلْمِ، وَاللَّه أَعْلَم.
البَابُ الثَّالِثُ
فِي المَنْطُوقِ وَالمَفْهُومِ
المَنْطُوقُ: مَا دَلَّ عَلَيهِ اللَّفْظُ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، فَإِذَا أَفَادَ مَعْنَى لاَ يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ: فَنَصٌّ، وَدَلالَتُهُ قَطْعِيَّةٌ، وَإِلاَّ فَظَاهِرٌ، وَدَلالَتُه ظَنِّيَّةٌ، قِيلَ: وَمِنهُ العَامُّ.
ثُمَّ النَّصُّ: إِمَّا صَرِيحٌ، وَهُوَ: مَا وُضِعَ لَهُ اللَّفْظُ بِخُصُوصِهِ، وَإِمَّا غَيرُ صَرِيْحٍ، وَهُوَ: مَا يَلزَمُ عَنْهُ.
فَإِنْ قُصِدَ وَتَوقَّفَ الصِّدْقُ أَوِ الصَّحَّةُ العَقْلِيَّةِ أَوِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَيْهِ، فَدَلالةُ الإِقْتِضَاءِ، مِثْلُ: <رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ>. {وَاسْأَلِ القَريَةَ}. <وأَعتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي عَلَى أَلْفٍ>، وَ إِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ وَاقتَرَنَ بِحُكْمٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِتَعلِيلِهِ لَكَانَ بَعِيْداً فَتَنبِيهُ نَصٍّ وَإِيْمَاءٍ، نَحْوَ: <عَلَيْكَ الكَفَّارَةُ> جَوَاباً لِمَنْ قَالَ: جَامَعتُ أَهْلِي فِيْ نَهَارِ رَمَضَانِ. <إنَّهَا لَيْسَتْ بِسَبُعٍ> <أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ>. (1/22)
وَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ فَدلالَةُ إِشَارَةٍ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلَهُ وَسَلَّمَ: <النِّسَاءُ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِيْنٍ>، قِيْلَ: وَمَا نُقْصَانُ دِيْنِهِنَّ؟ قَالَ: <تَمْكُثُ شَطْرَ دَهرِهَا لاَتُصَلِّيْ>. فَإِنَّه لَمْ يُقْصَدْ بَيَانُ أَكثَرِ الحَيضِ وَلاَ أَقَلِّ الطُّهرِ، وَلَكِنَّ المُبَالَغَةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ.
فَصْلٌ: وَالمَفْهُومُ
مَا دَلَّ عَلَيهِ اللَّفْظُ لاَ فِي مَحلِّ النُّطْقِ، وَهُوَ نَوعَانِ:
الأَولُ مُتَّفَقٌ عَلَيه وَيُسَمَّى بِمَفْهُومِ المُوَافَقَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ المَسْكُوتُ عَنْهُ موَافقاً لِلمَنْطُوقِ بِهِ فِي الحُكْمِ، فَإِنْ كَانَ فِيْهِ مَعْنَى الأَوْلَى فَهُوَ فَحوى الخِطَابِ، نَحْو: {فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَتَنْهَرْهُمَا}، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيْمِ الضَّرْبِ بِطَرِيقِ الأَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيْهِ مَعْنَى الأَوْلَى فَهُوَ لَحنُ الخِطَابِ، نَحوَ قَولِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ مَنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ ثَبَاتِ الوَاحِدِ لِلعَشَرَةِ لاَ بِطَريقِ الأَوْلَى.
وَ الثَّانِي مُخْتلَفٌ فِيهِ، وَيُسَمَّى: مَفهُومَ المُخَالَفَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ المسكُوتُ عَنهُ مُخَالِفاً لِلمَنْطُوقِ بِهِ فِي الحُكْمِ، وَيُسَمَّى: دَلِيلَ الخِطَابِ، وَهُوَ أَقْسَامٌ: مَفهُومُ اللَّقَبِ، وَهُوَ أَضْعَفُهَا وَ الأَخْذُ بِهِ قَلِيلٌ. وَمَفهُومُ الصِّفَةِ، وَهُوَ أَقْوَى وَ الأَخْذُ بِهِ أَكْثَرُ. ومَفهُومُ الشَّرطِ، وَهُوَ فَوقَهُمَا وَالأَخْذُ بِهِ أَكْثَرُ. وَمَفهُومُ الغَايَةِ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْهَا. وَمَفهُومُ العَدَدِ. وَمَفهُومُ إِنَّمَا. وَمَفْهُومُ الإِسْتِثْنَاءِ وَقِيلَ: هُمَا مَنْطُوقَانِ وَشَرْطُ الأَخْذِ بِمَفهُومِ المُخَالَفَةِ عَلَى الْقَولِ بِهِ أَنْ لاَ يَخْرُجَ الكَلاَمُ مَخْرَجَ الأَغْلَبِ، وَلاَ لِسُؤَالٍ أَو حَادِثَةٍ مُتَجِدِّدَةٍ، أَوْ تَقْدِيْرِ جَهَالَةٍ، أَو غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقتَضِي تَخْصِيصَ المَذْكُورِ بِالذِّكْرِ. (1/23)
البَابُ الرَّابِعُ في الحَقِيْقَةِ وَالْمَجَازِ
الحَقِيْقَةُ: هِيَ الكَلِمَةُ المسْتَعْمَلَةُ فِيمَا وُضِعَتْ لَهُ فِي اصْطَلاحِ التَّخَاطُبِ، وَهِيَ: لُغَويَّةٌ، وَعُرفِيَّةٌ عَامَّةُ، وَاصْطلاحِيَّةٌ، وَشَرعِيَّةٌ، وَدِينيَّةٌ.
ثُمَّ إِنْ تَعَدَّدَتْ لَفظاً وَمَعْنَى فَمُتَبَانِيةٌ، وَإِن اتَّحَدَتْ لَفْظاً وَمَعْنَى فَمُنْفَرِدَةٌ، وَإِنْ تَعدَّدَتْ لَفْظاً وَاتَّحَدَتْ مَعْنَى فَمُتَرَادِفَةٌ، وإِنْ تَعَدَّدَتْ مَعنَى وَاتَّحَدَتْ لَفْظاً؛ فَإِن وُضِعَ اللَّفظُ لِتِلْكَ المَعَانِي بِاعْتِبَارِ أَمرٍ اشْتَركَتْ فِيهِ فَمُشَكِّكٌ، إِنْ تَفَاوَتَتْ، كَالمَوجُودِ لِلقَدِيْمِ وَالمُحْدَثِ، وَإِنْ لَمْ تَتَفَاوَتْ فَمُتَوَاطِئٌ، وَحينئذٍ فَإِنْ اخْتَلَفَتْ حَقَائِقُ تِلْكَ المَعَانِي فَهُوَ الجِنْسُ، كَحَيَوانٍ، وَإِلاَّ فَهُوَ النَّوْعُ كَإِنْسَانٍ، وَبَعْضُهُمْ يَعكِسُ.
وَإِنْ وُضِعَ اللَّفظُ الوَاحِدُ لِلمَعَانِي المُتَعَدِّدَةِ لاَ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ اشْتَركَتْ فِيهِ فَهُوَ: المُشْتَركُ اللَّفْظِيُّ، كَعَيْنٍ لِلجَارِحَةِ وَالجَاريَةِ. (1/24)
فَصْلٌ: وَالمَجَازُ هُوَ الكَلِمَةُ المُسْتَعْمَلَةُ فِي غَيرِ مَا وُضِعَت لَهُ فِي اصْطِلاحِ التَّخَاطُبِ، لِعَلاَقَةٍ مَعَ قَرينَةٍ، وَهُوَ نَوعَانِ:
مُرسَلٌ كَاليَدِ لِلْنِّعْمَةِ، وَالعَينِ للرَّبيئَةِ.
وَاسْتِعَارةٌ كَالأَسَدِ لِلرَّجُلِ الشُّجَاعِ، وَقَدْ يَكُونُ مُرَكَّباً كَمَا يُقَالُ لِلمُترَدِّدِ فِي أَمرٍ: أَرَاكَ تُقَدِّمُ رِجْلاً وَتُؤَخِّرُ أُخْرَىْ.
وَقَدْ يَقَعُ فِي الإِسْنَادِ مِثلُ: جَدَّ جَدُّهُ، وَلإِستِيفَاءِ الكَلامِ فِي ذَلِكَ فَنٌّ آخَرُ.
وَإِذَا تَردَّدَ الكَلامُ بَينَ المَجَازِ وَ الإِشْتِرَاكِ حُمِلَ عَلَى المَجَازِ، وَيَتَمَيَّزُ المَجَازُ مِنَ الحَقِيقَةِ بِعَدَمِ اطِّرَادِهِ وَصِدقِ نَفيِهِ وَغَيرِ ذَلِكَ.
البَابُ الخَامِسُ فِي الأَمرِ وَالنَّهِيِ
الأَمْرُ: قَولُ القَائِلِ لِغَيرِهِ: إِفْعَلْ: أَوْ نَحوهِ، عَلَى جِهَةِ الإِسْتِعْلاَءِ مُرِيداً لِمَا تَنَاوَلَهُ، وَالمُخْتَارُ أَنَّهُ لِلوُجُوبِ لُغَةً وَشَرْعاً؛ لِمُبَادَرَةِ العُقَلاءِ إِلَى ذَمِّ عَبْدٍ لَمْ يَمتَثِلْ أَمْرَ سَيِّدِهِ، وَلإِسْتِدْلاَلِ السَّلَفِ بِظَوَاهِرِ الأَوَامِرِ عَلَى الوُجُوبِ، وَقَدْ تَرِدُ صِيْغَتُهُ لِلنَّدْبِ، وَالإِبَاحَةِ، وَالتَّهْدِيدِ، وَغَيرِهَا مَجَازاً.
وَالمُخْتَارُ أَنَّهُ لاَ يَدُلُّ عَلَى المَرَّةِ، وَلاَ عَلَى التَّكرَارِ، وَلاَ عَلَى الفَوْرِ، وَلاَ التَّرَاخِي، وَإِنَّمَا يُرجَعُ فِي ذَلِكَ إِلَى القَرَائِنِ، وَأَنَّهُ لاَ يَستَلزِمُ القَضَاءَ، وَإِنَّمَا يُعلَمُ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَتَكرُّرُهُ بِحَرفِ العَطفِ تَقتَضِي تِكْرَارَ المَأْمُورِ بِهِ اتِّفَاقاً، وَكَذَا بِغَيْرِ عَطفٍ عَلَى المُخْتَارِ، إِلاَّ لِقَرينةٍ مِنْ تَعْرِيْفٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِذَا وَرَدَ الأَمرُ مُطلَقاً غَيرَ مَشْروطٍ وَجَبَ تَحصيلُ المأْمُورِ بِهِ وَتَحْصِيلُ مَالاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِهِ، حَيثُ كَانَ مَقدُوراً لِلمَأْمُورِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الأَمرَ بِالشَّيءِ لَيْسَ نَهْياً عَنْ ضِدِّهِ، وَلاَ العَكْسَ. (1/25)
فَصْلٌ: وَالنَّهِيُ: قَوْلُ القَائِلِ لِغَيرِهِ: لاَتَفْعَلْ. أَوْ نَحْوِهِ، عَلَى جَهَةِ الإِستِعْلاَءِ كَارِهاً لِمَا تَنَاوَلَه النَّهيُ، وَيقْتَضِي مُطلَقُه الدَّوَامَ، لا مُقَيَّدُهُ، وَيَدُلُّ عَلَى قُبْحِ المَنْهِيِّ عَنْهُ، لاَ فَسَادِهِ عَلَى المُخْتَارِ.
البَابُ السَّادسُ فِي العُمُومِ. وَالخُصُوصِ. وَالإِطْلاَقِ. وَالتَّقْيِيدِ
العَامُّ هُوَ: اللَّفظُ المُسْتَغرِقُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْ دُونِ تَعْيينِ مَدْلُولِهِ وَلاَ عَدَدِهِ، وَالخَاصُّ بِخِلافِهِ.
وَالتَّخصِيصُ إِخْرَاجُ بَعضِ مَا تَنَاولَهُ العَامُّ.
وَأَلْفَاظُ العُمُومِ: كُلُّ، وَجَمِيْعُ، وَأَسْمَاءُ الإِسْتِفْهَامِ، وَالشَّرطِ، وَ النَّكِرَةُ المَنْفِيَّةُ، وَالجَمْعُ المُضَافُ، وَالمَوصُولُ الجِنْسِيُّ، وَالمُعَرَّفُ بِلاَمِ الجِنْسِ مُفْرَداً أَوْ جَمْعاً.
وَالمُخْتَارُ أَن المُتَكَلِّمِ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ خِطَابِهِ، وَأَنَّ مَجِيْءَ العَامِّ لِلمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ لاَ يُبْطِلُ عُمُومَهُ، وَأَنَّ نَحْو: لاَ أكَلْتُ؛ عَامٌّ فِي المَأْكُولاتِ فَيَصِحُّ تَخْصِيْصُهُ، وَأَنَّهُ يَحرُمُ العَمَلُ بِالعَامِّ قَبلَ البَحْثِ عَنْ مُخصِّصِهِ، وَيَكفِي المُطَّلعَ ظَنُّ عَدَمِهِ، وَإِنَّ مِثْلَ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ}، لاَ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ سَيُوجَدُ، إِلاَّ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَأَنَّ دُخولَ النِّسَاءِ فِي عُمُومِ الَّذيْنَ آمَنوا أَو نَحوَهُ بِنَقلِ الشَّرعِ أَوْ بِالتَّغْلِيبِ، وَأَنَّ ذِكْرَ حُكمٍ لِجُملَةٍ لاَ يُخَصِّصُهُ ذِكرُه لِبَعْضِهَا، وَكَذَا عَودُ الضَّمِيرِ إِلَى بَعْضِ العَامِّ إِذْ لاَ تَنَافِي بَينَ ذَلِكَ فِي الصُّورَتَينِ. (1/26)
وَالمَخْصِّصِ: مُتَّصِلٌ، وَمُنْفَصِلٌ، فَالمُتَّصِلُ: الإِسْتِثنَاءُ، وَالشَّرْطُ، وَالصِّفَةُ، وَالغَايَةُ، وَبَدَلُ البَعضِ.
وَالمُخْتَارُ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ تَرَاخِي الإِسْتثنَاءِ إِلاَّ قَدْرَ تَنَفُّسٍ أَوْ بَلعِ رِيقٍ، وَأَنَّهُ يَصِحُّ إِسْتِثنَاءُ الأَكْثرِ.
وَأَنَّهُ مِنَ النَّفْيِ إِثبَاتٌ وَالعَكسُ، وَأَنَّهُ بَعْدَ الجُمَلِ المُتَعَاطِفَةِ يَعُودُ إِلَى جَمِيْعِهَا فَيُحْمَلُ إِلاَّ لِقَرينَةٍ، وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ إِلَى جَميْعِهَا إِلاَّ لِقَريْنَةٍ.
وَأَمَّا المُنْفَصِلُ فَهُوَ: الكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالإِجْمَاعُ، وَالقِيَاسُ، وَالعَقْلُ، وَالمَفْهُومُ عَلَى الْقَولِ بِهِ.
وَالمُخْتَارُ أَنَّهُ يَصِحُّ تَخْصِيصُ كُلٍّ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِمِثْلِهِ، وَبِسَائِرِهَا، وَالمُتَواتِرُ بِالآحَادِيِّ.
وَالمُخْتَارُ أَنَّهُ لاَ يُقصَرُ العُمومُ عَلَى سَبَبِهِ، وَأَنَّهُ لاَ يُخَصَّصُ العَامُّ بِمَذْهَبِ رَاوِيْهِ، وَلاَ بِالعَادَةِ، وَلاَ بِتَقْدِيرِ مَا أُضْمِرَ فِي المَعْطُوفِ مَعَ العَامِّ المَعطُوفِ عَلَيهِ، وَأَنَّ العَامَّ بَعدَ تَخْصِيصِهِ لاَ يَصِيرُ مَجَازاً فِيمَا بَقِيَ، بَلْ حَقِيقَةً، وَأَنَّهُ يَصِحُّ تَخصِيصُ الخَبَرِ، وَأَنَّهُ لاَ يَصِحُّ تَعَارُضُ عَمومَينِ فِي قَطْعِيٍّ، وَيَصِحُّ فِي العَامِّ وَالخَاصِّ، فَيُعْمَلُ بِالمُتَأَخِّرِ مِنْهُمَا، فَإِنْ جُهِلَ التَّأْرِيخُ اطُّرِحَا. وَقَالَ الشَّافِعيُّ: يُعمَلُ بِالخَاصِّ فِيمَا تَنَاوَلَهُ وَبِالعِامِّ فِيمَا عَدَاهُ، تَقَدَّمَ الخَاصُّ أَمْ تَأَخَّرَ أَمْ جُهِلَ التَّأرِيخُ لِتَحصِيلِ العَمَلِ بِهِ. (1/27)
فَصْلٌ: وَالمُطْلَقُ: مَادَلَّ عَلَى شَائِعٍ فِي جِنْسِهِ.
وَالمُقَيَّدُ بِخِلاَفِهِ، وَهُمَا كَالعَامِّ وَالخَاصِّ، وَإِذَا وَرَدَا فِي حُكمٍ وَاحِدٍ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ حُكِمَ بِالتَّقْييدِ إِجْمَاعاً، لاَ فِي حُكْمَيْنِ مُختَلِفَيِنِ مِنْ جِنْسَينِ اتِّفَاقاً إِلاَّ قِيَاساً وَلاَ حَيثُ اخْتَلَفَ السَّبَبُ وَاتَّحَدَ الجِنْسُ عَلَى المُخْتَارِ.
البَابُ السَّابِعُ فِيْ المُجْمَلِ. وَالمُبَيَّنِ. وَالظَّاهِرِ. وَالمُؤَوَّلِ
المُجْمَلُ مَالاَ يُفْهَمُ المُرَادُ بِهِ تَفْصِيلاً. وَالمُبَيَّنُ مُقَابِلُهُ، وَالبَيَانُ هُنَا مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ المُرَادُ بِالخِطَابِ المُجْمَلِ، وَيَصِحُّ البَيَانُ بِكُلٍّ مِنَ الأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَلاَ يَلزمُ شُهْرَةُ البَيَانِ كَشُهْرَةِ المُبَيَّنِ وَيَصِحُّ التَّعْلِيقُ فِي حُسْنِ الشَّيءِ بِالمَدْحِ إِذْ هُوَ كَالحَثِّ وَفِي قُبْحِهِ بَالذَّمِ إِذْ هُوَ آكَدُ مِنَ النَّهْيِ، وَالمُخْتَارُ أَنَّهُ لاَ إِجْمَالَ فِي الجَمْعِ المُنَكَّرِ إِذْ يُحْمَلُ عَلَى الأَقَلِّ، وَلاَ فِي تَحرِيمِ الأَعْيَانِ إِذْ يُحمَلُ عَلَى المُعْتَادِ، وَلاَ فِي العَامِّ المَخْصُوصِ، وَلاَ فِي نَحوِ <لاَ صَلاةَ إِلاَّ بِطَهُورٍ> وَ <الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ> وَ <رُفِعَ عَن أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ>. وَأَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ التَّبْلِيغِ إِذِ القَصْدُ المَصْلَحَةُ وَلاَ يَجُوزُ تَأخِيرُ البَيَانِ وَلاَ التَّخصِيصِ عَنْ وَقْتِ الحَاجَةِ إِجْمَاعاً إِذْ يَلزَمُ التَّكْلِيفُ بِمَا لاَ يُعْلَمُ فَأَمَّا تَأْخِيرُ ذَلِكَ عَنْ وَقْتِ الخِطَابِ فَالمُخْتَارُ جَوَازُ ذَلِكَ فِي الأَمْرِ وَالنَّهِيِ، وَعَلَى السَّامِعِ البَحْثُ وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الأَخْبَارِ. (1/28)
فَصْلٌ: وَالظَّاهِرُ قَد يُطلَقُ عَلَى مَا يُقَابِلُ النَّصَّ وَعَلَى مَا يُقَابِلُ المُجْمَلَ وَقَد تَقدَّمَا. وَالمُؤَوَّلُ مَا يُرَادُ بِهِ خِلاَفَ ظَاهِرِهِ. وَالتَّأوِيلُ. صَرفُ اللَّفْظِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَى مَجَازِهِ أَو قَصْرُه عَلَى بَعضِ مَدْ لُولاَتِهِ لِقَرِيْنَةٍ اقْتَضَتهُمَا وَقَد يَكُونُ قَريباً فَيَكفِي فِيهِ أدْنَى مُرجِّحٍ، وَبَعيداً فَيَحْتَاجُ إِلَى أَقْوَى، وَمُتعسَّفاً فَلاَ يُقْبَلُ.
الْبَابُ الثَّامِنُ فِي النَّسْخِ
النَّسخُ: هُوَ إِزَالَةُ مِثْلِ الحُكْمِ الشَّرعيِّ بِطَريقٍ شَرعِيٍّ مَعَ تَرَاخٍ بَينَهُمَا. (1/29)
وَالمُخْتَارُ جَوَازُهُ، وَإِنْ لَم يَقَعِ الإِشعَارُ بِهِ أَوَّلاً، وَنسخِ مَا قُيِّدَ بِالتَّأْبِيدِ وَإِلَى غَيرِ بَدلٍ، وَالأَخَفِّ بِالأَشَقِّ كَالْعَكْسِ، وَ التِّلاوَةِ وَالحُكْمِ جَمِيعاً، وَأَحدِهِمَا دُونَ الآخَرِ، وَمَفهُومِ المُوافَقَةِ مَعَ أَصلِهِ، وَأَصلِهِ دُونَهُ، وَكَذَا العَكسُ إِنْ لَم يَكنْ فَحْوَى.
وَلاَ يَجُوزُ نَسخُ الشَّيْءِ قَبلَ إِمكَانِ فِعْلِهِ. وَالزِّيَادَةُ عَلَى العِبَادَةِ نَسخٌ لَهَا إِنْ لَمْ يَجُزِ المَزيدُ عَلَيهِ مِنْ دُونِهَا، وَالنَّقصُ مِنهَا نَسخٌ لِلسَاقِطِ اتِّفَاقاً، لاَ لِلْجَميعِ عَلَى المُخْتَارِ.
وَلاَ يَصِحُّ نَسخُ الإِجْمَاعِ وَلاَ القِيَاسِ إِجْمَاعاً، وَلاَ النَّسْخُ بِهِمَا عَلَى المُخْتَارِ، وَلاَ مُتَوَاتِرٍ بِآحَادِيٍّ.
وَطَريقُنا إِلَى العِلمِ بِالنَّسخِ إِمَّا النَّصُّ مِن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَآلَهُ وَسَلَمَ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الإِجْمَاعِ صَريحاً أَوْ غَيرَ صَريحٍ، وَإِمَّا أَمَارَةٌ قَوِيَّةٌ، كَتَعَارضِ الخَبَرَينِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَعَ مَعرِفَةِ المُتَأَخِّرِ بِنَقْلٍ أَو قَرينَةٍ قَوِيَّةٍ، كَغَزَاةٍ أَو حَالَةٍ فَيُعمَلُ بِذَلِكَ فِي المَظْنُونِ فَقَطْ عَلَى المُخْتَارِ.
البَابُ التَّاسِعُ فِيْ الإِجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ
الإِجْتِهَادُ: إِسْتِفرَاغُ الفَقَيهِ الوسعَ فِي تَحصيلِ ظَنٍّ بِحُكمٍ شَرعِيٍّ.
وَالفَقِيهُ: مَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ إِسْتِنْبَاطِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ مَنْ حَصَّلَ مَا يَحتَاجُ إِلَيهِ فِيهِ مِنْ عُلُومِ العَرَبِيَّةِ وَالأَصُولِ وَالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَسَائِلِ الإِجمَاعِ.
وَالمُخْتَارُ جَوَازُ تَعبُّدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ بِالإِجْتِهَادِ عَقْلاً، وَأَنَّهُ لاَ قَطْعَ بِوُقُوعِ ذَلِكَ وَلاَ انْتِفَائِهِ، وَأَنَّهُ قَد وَقعَ مِمَّنْ عَاصَرَهُ فِي غَيْبَتِهِ وَحَضْرَتِهِ، وَأَنَّ الحَقَّ فِي القَطعِيَّاتِ مَعَ وَاحِدٍ، وَالمُخَالِفُ مُخْطِيءٌ آثِمٌ. (1/30)
وَأَمَّا الظَّنِّيَّةُ العَمَلِيَّةُ فَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَأَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ المُجْتَهِدَ تَكريرُ النَّظَرِ لِتِكْرَارِ الحَادِثَةِ، وَأَنَّهُ يَجبُ عَليهِ البَحْثُ عَن النَّاسِخِ وَالمُخَصِّصِ حَتَّى يَعْلَمَ أَوْ يَظُنُّ عَدَمَهُمَا، وَأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ غَيرِهِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الإِجْتِهَادِ، وَلَو أَعْلَمَ مِنْهُ وَلَوْ صَحَابِياًّ، وَلَو فِيمَا يَخُصُّهُ، وَيَحْرُمُ بَعدَ أَنِ اجْتَهَدَ اتِّفَاقاً.
وَإِذَا تَعَارَضَتْ عَليهِ الأَمَارَاتُ رَجَعَ إِلَى التَّرجيحِ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ رُجْحَانٌ، فَقِيلَ: يُخَيَّرُ، وَقِيلَ: يُقلِّدُ أَعْلَمَ مِنْهُ، وَقِيلَ يَرجِعُ إِلَى حُكمِ العَقْلِ، وَلاَ يَصِحُّ لِمُجْتَهِدٍ قَوْلاَنِ مُتنَاقِضَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَمَا يُحكَى عَن الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فمُتَأَوَّلٌ، وَيُعرَفُ مَذهَبُ المُجْتَهِدِ بِنَصِّهِ الصَّرِيحِ، وَبِالعُمومِ الشَّامِلِ مِنْ كَلامِهِ، وَبِمُمَاثَلةِ مَا نَصَّ عَلَيهِ، وبِتَعْلَيلهِ بِعِلَّةٍ تُوجَدُ فِي غَيرِ مَا نَصَّ عَلَيهِ، وَإِنْ كَانَ يَرَى جَوَازَ تَخْصِيصِ العلَّةِ. وَإِذَا رَجَعَ عَنْ اجْتِهَادٍ وَجَبَ عَلَيهِ إِيذَانُ مُقَلِّدِهِ، وَفِي جَوَازِ تَجَزُّءِ الإِجْتِهَادِ خِلاَفٌ.
فَصْلٌ: وَالتَّقْلِيْدُ: اتِّبَاعُ قَولِ الغَيرِ مِنْ دُون حُجَّةٍ وَ لاَ شُبْهَةٍ، وَلاَ يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي الأُصُولِ وَلاَ فِي العِلْمِيَّاتِ، وَلاَ فِيمَا يَتَرتَّبُ عَلَيهَا، وَيَجِبُ فِي العَمَلِيَّةِ الْمَحْظَةِ الظَّنِّيَّةِ وَالقَطْعِيَّةِ، عَلَى غَيْرِ المُجْتَهِدِ. (1/31)
وَعَلَى المُقَلِّدِ البَحثُ عَنْ كَمَالِ مَنْ يُقَلِّدُهُ فِي عَمَلِهِ وَعَدَالَتِهِ، وَيَكفِيهِ انتصَابُهُ لِلفُتْيَا فِي بَلَدِ مُحِقٍّ لاَ يُجِيزُ تَقْلِيْدَ كَافِرِ التَّأْوِيلِ وَفَاسِقهِ، وَيَتَحَرَّى الأَكمَلَ إِن أَمْكَنَهُ، وَالحَيُّ أَوْلَى مِنَ المِيِّتِ، وَالأَعْلَمُ مِنَ الأَوْرعِ، وَالأَئِمَّةُ المَشْهُورُنَ أَولَى مِنْ غَيْرِهِم، وَالْتِزَامُ مَذْهَبِ إِمَامٍ مُعَيَّنٍ أَوْلَى إِتِّفَاقاً، وَفِي وُجُوبِهِ خِلاَفٌ، وَبَعدَ إِلْتِزَامُ مَذهَبِ مُجْتَهِدٍ جُملَةً، وَفِي حُكمٍ مُعِيَّنٍ يَحرُمُ الإِنتِقَالُ بِحَسَبِ ذَلِكَ عَلَى المُخْتَار،ِ إِلاَّ إِلَى تَرجِيحِ نَفسِهِ إِنْ كَانَ أَهْلاً لِلتَّرجيحِ.
وَيَصِيرُ مُلتَزِماً بِالنِّيَّةِ، وَقِيلَ: مَعَ لَفظٍ أَو عَمَلٍ، وَقِيلَ: بِالعَمَلِ وَحدَهُ. وَقِيلَ: بِالشُّروعِ فِي العَمَلِ. وَقِيلَ: باعْتِقَادِ صِحَّةِ قَولِهِ. وَقِيلَ: بِمُجَرَّدِ سُؤالِهِ.
واختُلِفَ فِي جَوازِ تَقْلِيدِ إِمَامَينِ فَصَاعِداً، وَلا يَجْمَعُ بَينَ قَوْلَينِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَقُولُ بِهِ أَيُّ القَائِلَيْنَ، وَيَجُوزُ لِغَيرِ المُجْتَهِدِ أَنْ يُفِتِيَ بِمَذْهَبِ مُجتَهدٍ حِكَايَةً مُطلَقاً وَتَخريجاً، إِذَا كَانَ مُطَّلِعاً عَلَى المَأْخَذِ أَهلاً لِلنَّظَر.
وَإِذَا اخْتلفَ المُفتُونَ عَلَى المُسْتَفْتِي غَيرِ المُلْتَزِم؛ فَقِيْلَ: يَأْخُذُ بِأَوَّلِ فُتْيَا. وَقِيلَ: بِمَاظَنَّهُ الأَصَحُّ. وَقِيْلَ: يُخَيَّرُ. وَقِيلَ: يَأْخُذُ بِالأَخَفِّ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى، وَبِالأَشَدِ فِي حَقِّ العِبَادِ. وَقِيلَ: يُخَيَّرُ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى، وَفِي حَقِّ العِبَادِ بِحُكْمِ الحَاكِمِ. (1/32)
وَمَنْ لاَ يَعقِلُ مَعنَى التَّقْلِيدِ لِفَرْطِ عَامِّيتِهِ؛ فَالأَقْرَبُ صِحَّةُ مَا فَعَلَهُ مُعتَقِداً لِجَوازِهِ، مَالَم يَخْرِقِ الإِجْمَاعَ، وَيُعَامَلُ فِيمَا عَدَى ذَلِكَ بِمَذْهَبِ عُلَمَاءِ جَهَتِهِ، ثُمَّ أَقْرَبِ جِهَةٍ إِلِيهَا.
البَابُ العَاشِرِ: فِيْ التَّرْجِيْحِ
وَهُوَ: اقْتِرَانُ الأَمَارَةِ بَمَا تَقَوَى بِهِ عَلَى مُعَارَضَتِهَا، فَيَجبُ تَقدِيمُهَا لِلْقَطعِ عَنِ السَّلَفِ تَأثِيراً لِلأَرجَحِ، وَلا تَعَارُضَ إِلاَّ بَينَ ظَنِّيَّيْنِ نَقْلِيَّيْنِ، أَوْ عَقْلِيَّيْنِ أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ.
فَيُرجَّحُ أَحَدُ الخَبَرَيْنِ عَلَى الآخَرِ: لِكَثْرَةِ رُواتِهِ، وَبِكَونِهِ أَعْلَمَ بِمَا يَرويْهِ، وَبثِقَتِهِ وَضَبْطِهِ، وَكَونِهِ المُبَاشِرَ، أَوْ صَاحِبَ القِصَّةِ، أَوْ مُشَافِهاً، أَوْ أَقْرَبَ مَكاناً، أَوْ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ، أَو مُتَقِدِّمَ الإِسلامِ، أَوْ مَشهُورَ النَّسَبِ، أَوْ غَيرَ مُلتَبِسٍ بِمُضَعَّفٍ، وَبِتَحَمُّلِهِ بَالِغاً، وَبِكَثْرةِ المُزَكِّيْنَ أَوْعَدْلِيِّتْهِم، وَبِكَونِهِ عُرِفَ أَنَّهُ لاَ يُرسِلُ إِلاَّ عَنْ عَدْلٍ فِي المُرسَلَيْن.
وَيُرجَّحُ الخَبَرُ الصَّرِيحُ عَلَى الحُكْمِ، وَالحُكْمُ عَلَى العَمَلِ، قِيلَ: وَالمسْنَدُ عَلَى المُرسَلِ. وَقِيلَ: العَكْسُ. وَقِيلَ: سَواءٌ.
وَيُرجَّحُ المَشْهُورُ وَمُرسَلُ التَّابِعِيِّ، وَمثلُ البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَلَى غَيرِهِمَا. وَيُرَجَّحُ النَّهِيُ عَلَى الأَمْرِ، وَالأَمرُ عَلَى الإِبَاحَةِ، وَالأَقَلُّ إِحْتِمَالاً عَلَى الأَكثَرِ، وَالحَقِيْقَةُ عَلَى المَجَازِ، وَالمَجَازُ عَلَى المُشْتَرَكِ، وَالأَقْربُ مِنَ المَجَازَينِ عَلَى الأَبْعَدِ. (1/33)
وَالنَّصُّ الصَّريحُ عَلَى غَيْرِ الصَّريحِ، وَالخَاصُّ عَلَى العَامِّ، وَتَخصِيصُ العَامِّ عَلَى تَأْوِيْلِ الْخَاصِّ، وَالعَامُّ الَّذِي لَمْ يُخَصَّصْ عَلى الَّذِي خُصِّصَ، وَالعَامُّ الشَّرطيُّ عَلى النَّكِرَةِ المَنْفِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَمَا وَمَنْ وَالجَمْعُ المُعَرَّفُ بِلامِ الجِنسِ عَلَى الجِنسِ المُعَرَّفِ بِهِ، وَيُرَجَّحُ الوُجُوبُ عَلَى النَّدْبِ، وَالإِثْبَاتُ عَلَى النَّفِيِ، وَالدَّارِئُ للحَدِّ عَلَى المُوجِبِ لَهُ، وَالمُوجِبُ لِلطَّلاقِ وَالعِتقِ عَلَى الآخَرِ.
وَيُرجَّحُ الخَبَرُ أَيضاً لِمُوَافَقَتِهِ لِدَليلٍ آخَرَ، أَوْ لأَهْلِ المَدِيْنَةِ، أَوْ لِلخُلَفَاءِ، أَوْ لِلأَعْلَمِ، وَبِتَفسِيرِ رَاوِيهِ وَبِقَرِيْنَةِ تَأَخُّرِهِ، وَبِمُوَافَقَتِهِ لِلقِيَاسِ.
وَيُرَجَّحُ أَحَدُ القِيَاسَينِ عَلَى الآخَرِ، بِكَونِ حُكْمِ أَصْلِهِ قَطْعِياًّ أَوْ دَليلِهِ أَقْوَى، أَو لَمْ يُنسَخْ بِاتِّفَاقٍ بِكُونِ عِلَّتِهِ أَقْوَى، لِقَوَّةِ طَريقِ وُجودِهَا فِي الأَصْلِ، أَوْ طَريقِ كَونِهَا عِلَّةً، أَوْ بِأَنْ يَصْحَبَهَا عِلَّةٌ أُخْرَى تُقَوِّيهَا، أَوْ بِكَونِ حُكمِهَا حَظْراً أَوْ وُجُوباً دُونَ مُعَارِضَتِهَا، أَوْ بِأَنْ تَشْهَدَ لَهَا الأَصُولُ، أَوْ تَكُونَ أَكْثَرَ اطَّرَاداً، أَوْ مُنتَزَعَةً مِنْ أُصُولٍ كَثِيرةٍ، أَو يُعَلِّلُ بِهَا الصَّحَابِيُّ أَوْ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ.
وَيُرَجَّحُ الوَصْفُ الحَقِيقِيُّ عَلَى غَيرِهِ، وَالوَصْفُ الثُّبُوتِيُّ عَلَى العَدَميِّ، وَالبَاعِثةُ علَى الأَمَارَةِ، وَالمطَّرِدَةُ وَالمُنْعَكِسَةُ عَلَى خِلافِهَا، وَالمُطَّرِدَةُ فَقَط عَلَى المُنْعَكِسَةِ فَقَطْ، وَالسَّبْرُ عَلَى المُنَاسَبَة، وَالمُنَاسَبَةُ عَلَى الشُّبْهَةِ. (1/34)
وَيُرجَّحُ بِالقَطْعِ لِوُجودِ العِلَّةِ فِي الفَرْعِ، وَبِكَونِ حُكْمِ الفَرْعِ ثَابِتاً بِالنَّصِّ فِيْ الجُمْلَةِ، وَبِمُشَارَكَتِهِ فِي عَينِ الحُكْمِ وَعَيْنِ الْعِلَّةِ عَلَى الثَّلاثةِ الأُخَرِ، وَفِي عَيْنِ أَحَدِهِمَا، وَجِنسِ الآخَرِ فِيْ الجِنْسَيْنِ، وَفِيْ عَيْنِ الْعِلَّةِ مَعَ جِنسِ الحُكْمِ عَلَى العَكسِ.
وَوُجُوهُ التَّرْجِيحِ لاَ تَنحَصِرُ وَلَن يَخُفَى اعْتِبَارُهَا مَعَ تَوفِيْقٍ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
تَمَّ بِحَمْدِ اللَّهِ.