الكتاب : لوامع الأنوار
المؤلف : السيد العلامة المجتهد مجدالدين المؤيدي

العناصر ـ صلوات الله عليهم ـ.
ولنجم آل الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم وعليهم ـ مسلسلات عن سائر مشائخ آل محمد (ع) منها: روايته عن عبدالله بن الحسن بن إبراهيم بن عبدالله بن الحسن بن الحسن، عن آبائه (ع)، وقد تقدم ذكرها في سند أمالي الإمام أحمد بن عيسى، وفي البساط للناصر للحق (ع)، وقد أخرج منها الإمام المنصور بالله (ع) في الشافي؛ وقال في أمالي الإمام أبي طالب: حدثنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني ـ وذكر سنده إلى القاسم بن إبراهيم ـ قال: حدثني عبدالله بن الحسن بن إبراهيم بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي (ع)، عن أبيه، عن جده، عن آبائه، عن علي (ع)، قال: خطبنا رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - بعد ما صلى العصر، فما ترك شيئاً هو كائن بين يدي الساعة إلا ذكره في مقامه ذلك، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، فقال في خطبته: ((أيها الناس، إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم، فناظر كيف تعملون؟ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، واتقوا الغضب، فإنه جمرة تتوقد في جوف ابن آدم؛ ألا ترون إلى انتفاخ أوداجه، وحمرة عينيه؟ فإذا أحسّ أحدكم بشيء من ذلك فليذكر الله سبحانه)).
ومسلسلات الإمام الناصر للحق الحسن بن علي، منها: عن أخيه الحسين بن علي، عن أبيه علي بن الحسن، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، في استكمال حقائق الإيمان...الخبر، وهو في البساط، وقد أوردته في التحف الفاطمية .
ومسلسلات الإمام المؤيد بالله، وأبي طالب، وأبي العباس الحسني (ع)، منها: عن السيد الإمام عماد الإسلام يحيى بن المرتضى لدين الله محمد، عن عمه الناصر لدين الله، عن أبيه الهادي إلى الحق، عن /121

(2/121)


آبائه ـ صلوات الله عليهم ـ.
فهذه لمعة من أنوار، ومجة من بحار، من مسلسلات العترة الأطهار، قد تضمنتها المجموعان، والأحكام، والبساط، والشرحان، والأماليات الخمس، وغيرها من الأسفار؛ وقد أسلفت منها في هذا الكتاب المبارك ـ إن شاء الله تعالى ـ ما فيه معتبر لذوي الاعتبار.
نعم، وقد سبق في المنقول من الشافي مسلسل الإمام الحجة المنصور بالله عبدالله بن حمزة، في إسناد مذهب آل محمد ـ صلوات الله عليهم ـ في العدل والتوحيد، وصدق الوعد والوعيد، والنبوة، والإمامة لعلي بن أبي طالب، ولولديه الحسن والحسين (ع) بالنص، وأن الإمامة بعدهما في مَنْ قام ودعا من أولادهما، وسار بسيرتهما؛ عن آبائه أباً فأباً إلى رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وقد سمع الشافي عليه الإمام الأوحد، المنصور بالله الحسن بن الأمير الداعي إلى الله بدر الدين محمد بن أحمد (ع)، وقد أوضحتُ في هذا ما منَّ الله ـ تعالى ـ به من الأسانيد المسلسلة بالعترة المطهرة (ع)، من لديّ إلى أعلام الأئمة، وكرام الأمة.
منها: إلى الإمام الأوحد، المنصور بالله الحسن بن محمد، وهو يروي عن الإمام الحجة المنصور بالله عبدالله بن حمزة.
ومنها: إلى أخيه الناصر للحق، حافظ العترة، الحسين بن محمد، وهو يروي عن أبيه الداعي إلى الله شيبة الحمد، بدر الدين محمد بن أحمد، وهو يروي عن الإمام المتوكل على الرحمن، أحمد بن سليمان، بأسانيدهم.
ومنها: إلى الإمام القوام، المتوكل على الله، المطهر بن يحيى المظلل بالغمام، وولده الإمام المهدي لدين الله، وولده الواثق برب الأنام، ومن ذلك ما قاله (ع):
أروي عن والدي محمد بن المطهر الصلاة بالركوع والسجود، وجميع /122

(2/122)


أركان الصلاة، وأراني كيفية ذلك، وإنها لأبلغ صلاة، وأتمها، وأوفاها، وأكملها.
وقال: أخبرني أبي، عن أبيه، عن جده، عن آبائه (ع)، عن علي (ع)، عن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ هذه الصلاة المذكورة المستوفاة الأركان، والأذكار، والأفعال، انتهى.
وإلى الإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى المرتضى، والإمام المتوكل على الله المطهر بن محمد، والإمام المؤتمن، الهادي إلى الحق عز الدين بن الحسن، والإمام المنصور بالله محمد بن علي السراجي، والإمام المتوكل على الله يحيى شرف الدين، والإمام المنصور بالله القاسم بن محمد (ع).
وإلى من تخللهم، ومن بيننا وبينهم، ومن قبلهم من نجوم الهدى، وأئمة الاقتداء.
فهذه ـ بحمد الله ـ من المسندات المسلسلة بآل رسول الله ـ صلوات الله عليهم ـ من عصرنا؛ ولاتزال ـ إن شاء الله ـ متصلة على مرور الأعصار، وقد تقدم وسيأتي ـ إن شاء الله ـ ما فيه بلاغ لأولي الأبصار.
[ترجيح مسلسل العترة]
هذا، وقد علم رجحان مسلسل السند بآل محمد ـ صلوات الله عليهم ـ بالإجماع عند أئمتنا (ع) وأشياعهم، وهو الصريح من مذهبهم، بل وعند غيرهم، كما سبق عن أحمد بن حنبل، والحاكم، بلا نزاع؛ وذلك لما فيه من العلو العلوي، والقرب النبوي.
ولذا قال الإمام الناصر للحق الحسن بن علي (ع):
وقولهم مسند عن قول جدّهم .... عن جبرئيل عن الباري إذا قالوا
وقال الإمام المنصور بالله: /123

(2/123)


كَمْ بين قولي عن أبي عن جده .... وأبو أبي فهو النبي الهادي
فعظمت العناية، واشتدت الرغبة من ذوي الولاية، في اتصال السند بآل محمد(ع)، كما قال السيد الإمام، حافظ اليمن، إبراهيم بن محمد الوزير (ع) في علوم الحديث، ما لفظه:
الأول: في إسناد العترة، وأنه أصح الأسانيد؛ وهذا أمر لا امتراء فيه عند أهل المذهب، ومسنداتهم المتصلة تسمى سلسلة الذهب، انتهى المراد.
نعم، فما كان الرواة فيه من آل محمد (ع) أكثر ـ وإن لم يتسلسل ـ فهو مقدم على ماليس فيه منهم أحد، أو كانوا فيه أقلّ، ولهذا ترى أعلام العترة، وعلماء الشيعة ـ رضي الله عنهم ـ يتبركون بأسانيد آل محمد (ع)، ويقول الواحد منهم: ليس بيني وبين من اتصل به السند إلا إمام سابق، أو مقتصد لاحق؛ ويعدون مَنْ في الإسناد من العصابة العلوية، والسلالة المحمدية؛ فالاتصال بهم أقوى سبب، والمرء مع من أحب.
وقد يسر الله تعالى في هذا المؤلف النافع ـ إن شاء الله ـ من المسلسلة بالسلالة الطاهرة، نجوم الدنيا وشفعاء الآخرة، مالم يكن في سواه ـ بفضل الله ـ والحمد لله حمداً يبلغ منتهى رضاه؛ رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه، وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين، والحمد لله رب العالمين.
[بطلان حكم الوزير والأمير على الأحكام بخلوه من المتسلسل]
هذا، وأما ما قاله في الإيثار، ونقله عنه الأمير في توضيح الأفكار، من أنه ليس في الأحكام حديث مسلسل بآبائه إلا حديثاً واحداً، فهو مما ينادي على مجانبتهما، وعدم حفظهما لعلوم سلفهما الأطهار، ولقد كنت أوثر جانب الإحترام، ولكن الحق لله، والله لا يستحي من الحق، وليس على قائل الصدق وإن شق ملام، لا سيما وهما لم يحترما مقام إمام الأئمة الأعلام، وهداة هذه الأمة من الأنام، ولم يسمحا بفضل النظر في كتابه جامع الأحكام، أو يصمتا والصمت أسلم عن الخطر، ويقتصرا ما عنيا به من البحث والحفظ في علم المخالفين لأهل بيت النبوة الكرام، وكل ذي لب يعرف مخرج هذا الكلام، وما راما به من التوهين في علوم العترة الهادين، كما قد اقتدى بهما طائفة من المنحرفين الطغام، واقتاد لهما بالزمام فريق من المقلدين الأغتام، فسأوضح بطلان /124

(2/124)


ذلك الكلام، واختلال ذلك المرام، بإعانة الملك العلام.
فأقول: إن أراد ليس فيه من المصرح بالتسلسل عن آبائه ـ صلوات الله عليهم ـ كما هو ظاهر عبارته التي شرط فيها ماليس بشرط في المسلسل، لتتم له دعواه؛ فبحمد الله تعالى لم يصب مرماه، فمما يردّ مدعاه ما قدمته عند تمام سند الأحكام، وهو الخبر النبوي:
قال (ع) في الأحكام: حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن آبائه (ع)، عن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أنه قال: ((الرفق يمن، والخُرْق شؤم)).
ومنه ما قاله في الأحكام: حدثنا أبي، عن أبيه، عن مشائخه وسلفه، عن آبائه، عن علي بن أبي طالب (ع)، قال: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((لدرهم ربا أشد عند الله من أربع وثلاثين زنية في الإسلام، أهونها إتيان الرجل أمه)).
والذي يقتضيه النظر أن مثل هذا لو كان في البخاري ومسلم لما خفي عليهما مكانه، ولاغبي عندهما شأنه؛ ففيه مع هذا الانتقاض أعظم دليل على الإعراض، وأقوى شاهد على الكروع من غير هذه الحياض، والرتوع في غير هذه الرياض، وإنما أشير في هذا إلى الأمير، وإن كان أصل الكلام للوزير، لما ظهر منه على هذا القول من النقل والتقرير، ولما علم من حاله وحال أمثاله، وقد أبنت بعض ما جرى منه في الفلق المنير، واستوفى في الكشف عنه الإمام الكبير، المنصور بالله محمد بن عبدالله الوزير (ع)، وإن عرض البحث فيه، أوضحت الحق في شأنه، كما أمر الله تعالى ببيانه.
هذا، وإن أراد أنه ليس فيه على الإطلاق، لا مصرحاً به، ولا غير مصرح، لا عن آبائه الكرام، ولا عن سائر سلفه الأعلام (ع)، كما هو الذي يقتضيه صنيعه في الإيهام، وإلا فأي فائدة في سياق ذلك الكلام، مع أنه غير ناقض لما هو المراد من التسلسل؛ إذ القصد ـ كما صرح به هو، وهو معلوم لذوي الأفهام ـ التسلسل بالعترة الأعلام، سواء في ذلك الآباء والأعمام، وغيرهم من سلالة سيد الأنام.
من تلقَ منهم تقل لاقيتُ سيّدهم .... مثل النجوم التي يسري بها الساري
وأيُّ حاجة إلى اشتراط مالم يشترطه أحد من علماء الإسلام، ولايترتب /125

(2/125)


عليه شيء من الأحكام؟
وعلى ذلك فقد اختل كلامه وبطل، وانتقض غرضه واضمحلّ.
فأقول وبالله أصول وأجول:
أما الأول: وهو نفي المصرح فيه، فقد أوضحت بطلانه، وأقمتُ برهانه.
وأما الثاني: وهو نفي مالم يصرح به، فهو من الرجم بالوهم، والرمي بالغيب، والحكم بلا أمارة ولا دليل؛ بل الأقرب والأصوب، الذي يشهد له أحوال إمام اليمن، محيي الفرائض والسنن ـ صلوات الله عليه ـ أن مالم يصرح فيه بالسند من البلاغات ونحوها، وأصول المسائل التي رواها عن أبيه الوصي، وجده النبي ـ عليهما وآلهما صلوات الملك العلي ـ وهي الكثير الطيب، والغزير الصيب، مسلسلة الرواة، بآبائه الهداة، وسائر العترة سفن النجاة؛ لوجوه صحيحة، ومرجحات صريحة، منها: تصريحه في الأحكام، وتوكيده التوصية لأهل بيت النبوة في أخذهم العلم عن سلفهم الكرام.
قال صلوات الله عليه، في باب القول في اختلاف آل محمد ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: قال يحيى بن الحسين: إن آل محمد ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لا يختلفون إلا من جهة التفريط؛ فمن فرط منهم في علم أهل بيته أباً فأباً حتى ينتهي إلى علي بن أبي طالب (ع)، والنبي - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - وشارك العامة في أقاويلها، واتبعها في شيء من تأويلها، لزمه الاختلاف؛ ولاسيما إذا لم يكن ذا نظر وتمييز، وردّ ما ورد عليه إلى الكتاب، وردّ كل متشابه إلى /126

(2/126)


المحكم.
فأما من كان منهم مقتبساً من آبائه أباً فأبا حتى ينتهي إلى الأصل، غير ناظر في قول غيرهم، ولا ملتفت إلى رأي سواهم، وكان مع ذلك فَهِماً مميزاً، حاملاً لما يأتيه على الكتاب والسنة المجمع عليها، والعقل الذي ركبه الله حجة فيه، وكان راجعاً في جميع أمره إلى الكتاب، وردّ المتشابه منه إلى المحكم، فذلك لايضل أبداً، ولا يخالف الحق أصلاً.
قلت: وهذا يدل على أن المراد بذلك أنهم لايختلفون في أصول الدين وقطعيات الشريعة التي لايجوز الاختلاف فيها؛ ولا يصحّ حمله على مسائل الاجتهاد، لوقوع الاختلاف بينهم قطعاً، حتى بينه وبين جده القاسم وأولاده (ع).
فبالله عليك أيها الناظر المنصف، لا المناظر المتعسف، أما يشهد كلام إمام الأئمة هذا شهادة بينة، ويدل دلالة قيمة، على أخذه لعلمه كما وصى به عن سلفه، وأهل بيته هداة الأمة، فهو تالله، أجلّ؛ وحاشا مقامه أن يوصيهم بالبر وينسى نفسه؛ أم وصاهم بما لا طريق إليه، ولاسبيل لهم عليه، أو حثهم ذلك الحث البليغ، على أخذ جميع علمهم عن سلفهم، والحال أنه يقلّ وجوده، كما زعم صاحب التنقيح وجنوده، بل ليس عنده في الأحكام إلا حديث واحد؟!
فأنت أيها المطلع موكول في مثل هذا إلى علمك، وفهمك ودينك.
ومنها: أنه معتمد في الأعمّ الأغلب، بل لايشذ عن ذلك ماتفرد في المذهب، على الإسناد والاستناد فيه، بلفظ: حدثني أبي، عن أبيه؛ وأبوه هو الحافظ، وجده هو نجم آل الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وإمام أسباط الوصي والبتول ـ صلوات الله عليهم ـ، أيكون نجم أهل بيت النبوة، وكذا من بعده من آبائه لم يأخذ كل واحد منهم عن أبيه إلا حديثاً، أو حديثين يرويه، وفي مذهبه يقتفيه؟‍! مع أن كل واحد منهم أدرك أباه، وهذّبه ورباه، ومن معين العلوم /127

(2/127)


سقاه؛ كلا، لعمرك إن هذا مما لاتقبله ولاترتضيه.
وقال بعض علماء العصابة المرضية: والمختار عند أئمتنا (ع) تقديم ما ثبت عن أئمة العترة، مسنداً، أو مرسلاً، وتقديم رواية القرابة، على غيرهم من سائر الصحابة.
قال: وقد ذكر الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين ـ قدس الله روحه في الجنة ـ أنه ما يقول إلا ما يقول آباؤه، ولايقولون إلا ما يروونه عن أجداده، حتى يتصل بأبيه علي (ع)، ثم بجده محمد ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
قلت: وهذا محمول على أصول التوحيد والعدل، والمهمات من الشريعة، لايصح حمله على غير ذلك قطعاً.
وروي عن الهادي (ع) أنه إذا أطلق الحديث، فهو لقوته؛ إذْ رواته عدول؛ إذْ لا تطلق الرواية إلا عمن كملت فيه تلك الشروط؛ فكان ما في مجموع القاسم والأحكام للهادي (ع)، وسائر كتبهما، هو نفس قول النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ إلا ما أشار إلى أنه عن اجتهاد... إلى آخر كلامه.
وقد نقله بتمامه، القاضي شمس الدين، أحمد بن يحيى حابس ـ رضي الله عنه ـ في المقصد الحسن.
[إسناد أئمة العترة أصول مذهبهم إلى الهادي]
ومنها: أن أئمة العترة المحمدية ـ صلوات الله عليهم ـ ومن تبعهم من أعلام العصابة الزيدية ـ رضوان الله عليهم ـ أسندوا فقههم ومذاهبهم ـ أي أصولها وجملها ـ إلى إمام اليمن، محيي الفرائض والسنن، بسند آبائه عليهم الصلوات والتسليم.
وممن صرح بذلك منهم: الإمام المتوكل على الله يحيى شرف الدين (ع)، حيث قال: لنا سند في الفقه عجيب، وسبب ممتد صليب، يتصل بخاتم المرسلين ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ عن رب العالمين؛ نرجو به الفوز الأسنى عنده، ونسأله أن يوزعنا عليه وعلى سائر النعم شكره وحمده.
ثم /128

(2/128)


ساقه بالقراءة متصل السند إلى الإمام المؤيد بالله (ع)، قراءة على أبي العباس الحسني، قراءة على يحيى بن محمد المرتضى، قراءة على عمه أحمد بن يحيى، قراءة على أبيه الهادي يحيى بن الحسين، قراءة على أبيه الحسين، قراءة على أبيه القاسم، قراءة على أبيه إبراهيم، قراءة على أبيه إسماعيل، قراءة على أبيه إبراهيم، قراءة على أبيه الحسن، قراءة على أبيه الحسن السبط، قراءة على أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، أخذه عن رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين ـ.
وكذا الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد (ع)، قال: فأنا أروي مذهبي عن السيد العلامة صارم الدين إبراهيم بن المهدي الجحافي القاسمي قراءة، وعن السيد العلامة أمير الدين بن عبدالله من آل المطهر بن يحيى إجازة، وعن غيرهما إجازة وقراءة.
ثم ساق السند مسلسلاً بآل محمد من طريقة الإمام شرف الدين إلى الإمام المتوكل على الله المطهر بن يحيى؛ ثم بسنده إلى الإمام المرتضى لدين الله، عن آبائه، إلى رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وقال في آخره: فهذا هو مذهبنا؛ وقد تقدم.
وكذا سند الواثق بالله، المسلسل بآبائه إلى رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
وكذا غيرهم من السلف والخلف.
وقد سبق في اتصال أسانيدنا إليهم، وأسانيدهم إلى سلفهم، في الفصل الرابع، وغيره، ما يكفي ويشفي.
نعم، والذي تقدم التصريح فيه، والنقض به عليه، هو المسلسل في الأحكام بآبائه الكرام؛ وأما فيما كان عن سائر سلفه الأعلام، فقد صرّح الإمام في الأحكام، بمسلسلات سادات الأنام (ع)، ففيه الكثير النافع، والغزير الواسع، عن الإمام الأعظم، وعن أخيه الباقر، وولده الصادق، وابن /129

(2/129)


عمهم عبدالله بن الحسن الكامل، بسند آبائهم ـ صلوات الله عليهم ـ وقد تقدم منها عند تمام سند الأحكام؛ والوامض اليسير، يدل على النوّ المطير؛ ألا ترى أنه في المسائل التي كثر الاختلاف فيها، وتعارضت الروايات عن أهل البيت (ع) في شأنها، نحو مسألة الطلاق المثلث، كيف أورد الإمام ـ صلوات الله عليه ـ أسانيده عن نجوم آل محمد صلوات الله عليهم، فقال (ع): حدثني أبي، وعمّاي، محمد، والحسن، بنو القاسم بن إبراهيم، عن أبيهم القاسم بن إبراهيم ـ رضوان الله عليهم ـ.
ثم أسند أقوال جده نجم آل الرسول، والإمام أحمد بن عيسى بن الإمام الأعظم، والإمام موسى بن عبدالله بن الحسن ـ صلوات الله عليهم ـ إليهم...إلى قوله: وحدثوني عن أبيهم القاسم بن إبراهيم، عن رجل يثق به، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن علي (ع)، أنه كان يقول فيمن طلق ثلاثاً في كلمة واحدة: إنه يلزمه تطليقة واحدة، ويكون له على زوجته الرجعة، مالم تنقضِ العدة.
قال أبو محمد القاسم بن إبراهيم ـ رضي الله عنه ـ: وهو قول بين القولين، قول من أبطل أن يقع بذلك شيء من الطلاق، وبين قول من قال: إنه يقع بذلك الثلاث كلها؛ وهذا قولي.
وقد روي ذلك عن زيد بن علي، وعن جعفر بن محمد ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ من جهات كثيرة، أن من طلق ثلاثاً معاً في كلمة واحدة، فهي واحدة، انتهى.
قلت: والروايات في هذا مختلفة، بأسانيد صحيحة، كما في مجموع الإمام الأعظم، عن آبائه، عن علي (ع)، وفي أمالي الإمام أحمد بن عيسى (ع)، مما يفيد بصريحه وقوع الثلاث.
والذي أراه أن أحسن ما يجمع /130

(2/130)


شمل الأخبار، العمل على نيّة المطلق، فإن نوى ثلاثاً كانت ثلاثاً، سواء في كلمة واحدة أم في ثلاث، وإن لم يقصد إلا واحدة فهي واحدة.
والدليل على ذلك ما رواه الإمام زيد بن علي، عن آبائه، عن علي (ع)، في الخلية، والبرية، والبتلة، والبتة، والبائن، والحرام: نوقفه فنقول: ما نويت؟
فإن قال: نويتُ واحدة؛ كانت واحدة بائناً، وهي أملك بنفسها، وإن قال: نويت ثلاثاً؛ كانت حراماً حتى تنكح زوجاً غيره...إلى آخره.
ورواه عنه غيره؛ ويدل على ذلك الأخبار ((إنما الأعمال بالنيات، ولا قول ولا عمل إلا بنية، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بإصابة السنة))، وحديث ركانة.
وهو كلام أهل المذهب في العامي، أن ما أوقعه معقتداً لوقوعه ووافق أحد المجتهدين، وقع؛ ففتواه بعدم وقوع الثلاث مع هذا خلاف المذهب.
وأما خبر ((ثلاث...إلخ))، فالهزل لا ينافي النية، ويمكن أن يحمل ((وهزلهن جد)) أنه إن ادعى عند المنازعة الهزل فلا يدين؛ لأن الظاهر خلافه؛ أما مع عدم المنازعة، وفيما بينه وبين الله ـ سبحانه ـ فله نيته، جمعاً بين الأدلة؛ فتدبر هذا.
[قطوف من المنتخب]
ولقد قال إمام الأئمة، وهادي هداة الأمة، إمام اليمن، محيي الفرائض والسنن، الهادي إلى الحق، يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم ـ عليهم الصلاة والتسليم ـ في الجامع المنتخب، ما حكاه إمام الشيعة على الإطلاق، المهاجر إلى إمام اليمن من العراق، العالم الولي، محمد بن سليمان الكوفي ـ رضي الله عنه ـ لما قال: قلت: فإني قد فهمت ما أجبتني به في التوحيد، وإثبات النبوة، والإمامة، وأنا أريد أن أسألك عن أصول الحلال والحرام، في جميع الفقه؛ فإني قد وطئت علوم العامة، وعلوم عامة الخاصة، فوجدتهم مختلفين، كما ذكرتُ لك.
فقال لي: إذا كنت قد قدمت النية في طلب العلم، وفرغت قلبك للمسائل عن الحلال /131

(2/131)


والحرام، فافهم ما أقدمه لك من الشرط فيما تسألني عنه.
قلت: نعم ـ إن شاء الله ـ أنا أجمع همّي في ذلك.
قال: فلا تقبل مني جواب مسالة أنبئك عنها أو أجيبك فيها بتقليد، ولا اتكال على ما تعرفه، مما قد خصني به في العلم ربي، دون أن تسألني عن الحجة، وحجة الحجة، حتى ينتهي بك ذلك إلى أصول المعرفة، التي لايجوز لأحد أن يجاوزها.
قلت: وما أصول المعرفة، التي لايجوز لأحد أن يجاوزها عند بلوغها؟
فقال: هي المعاني، التي من طلب مجاوزتها خرج إلى حد المكابرة والبلادة، وإلى طلب جواز ما أوقفه الله عليه، ومنعه من التجاوز له.
إلى قول الإمام: هي الثلاثة الأصول، التي جعلها الله حجة على خلقه، لاينفك الحق منها، ولايخرج أبداً عنها، وهي: كتابه الناطق، والإجماع عن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ فيما جاء به عن الله ـ عز وجل ـ وحجة العقل، التي ركبها الله في صدور العالمين؛ لتدلهم على رب العالمين، وتهديهم إلى فرائض الدين، وتثبت ما اختار الله لهم من الحق واليقين.
إلى قوله: وإذا سألت عن شيء من الحلال والحرام، فاجعل ذلك لله ـ تبارك وتعالى ـ خالصاً.
إلى قوله: فإن ذلك أجزل لثوابك، وأكثر لتفجّر ينابيع الحكمة من قلبك؛ واستقصِ في مسائلك كما أطلقت لك وأمرتك، وإلى ذلك ندبتك، فإني مجيبك عما تسأل عنه؛ فسل عما بدا لك ـ إن شاء الله تعالى ـ.
انتهى المراد.
وما أحق المقام بإيراد كلام السيد الحافظ، محمد بن إبراهيم الوزير، في شأنهم(ع)، لما لم يكن في مقام الجدال، وهو ما لفظه: فإذا عرفتَ هذا، فلا يعزب عنك معرفة خصيصتين:
الخصيصة الأولى: أن أهل البيت (ع) اختصوا من هذه الفضائل بأشرف أقسامها، وأطول أعلامها.
إلى قوله في كلامه السابق: فانظر بعين الإنصاف، إلى أئمة العترة الطاهرة، ونجوم /132

(2/132)


العلم الزاهرة، كيف سلمت علومهم من كل شين، وخلصت من كل عيب؟.إلخ.
قال الإمام محمد بن عبدالله الوزير (ع): أقول: قد أفاد وأجاد، فيما وصف أهله (ع)، فهم كذلك؛ وما يمنعهم، وقد وضعهم الله ـ سبحانه ـ في الموضع الأرفع، وأعلا درجاتهم ورفع.
إلى قوله: فإن الإمام الكبير، الهادي إلى الحق (ع)، له من الكتب ما يزيد على خمسين مؤلفاً؛ وقد روي عنه أنه قال: خرجت إلى اليمن بعلم كالجمل، فلم ألقَ له حملة، فوضعت منه أذنيه، أو نحو ذلك.
إلى قوله: كذلك جده نجم الآل، القاسم بن إبراهيم ـ عادت بركاته ـ كذلك الناصر، كذلك المرتضى محمد بن الهادي، وأخوه الناصر (ع)، وأمثالهم ـ وهم أهل النصوص ـ قد وضعوا ما فيه الكفاية؛ بل أوسعوا، مع اشتغالهم، غير أنهم لايرتضون روايات غيرهم، إلا نادراً، مع وثوقهم بمن رووا عنه؛ لقطع حجة الخصم.
وقد أجاب المرتضى (ع) على من سأله: كيف لم تدخلوا أحاديث العامة؟
فأجاب بنحو هذا.
إلى قوله: وانظر حيث احتاج ـ أي الهادي (ع) ـ إلى رواية العامة، في باب الأوقات، فذكر من رواياتهم كثيراً؛ فهل ترى أنه (ع) لم يعرف من روايات العامة إلا ما في ذلك الباب؟
وكم له ولجده القاسم بن إبراهيم (ع) في أثناء كتبهم من ألفاظ، دالة على أنهما قد عرفا روايات العامة؛ فابحث على مجموع القاسم، والهادي، تجد الشفاء؛ ولقد رد على الفرق الكفرية مثل: النصارى؛ وذكر معرفة أناجيلهم، ونقل منها كثيراً.
وكذلك الناصر (ع)، فإنه ذَكَر أنه قرأ ثلاثة عشر كتاباً من كتب الله، المنزلة على الأنبياء؛ فما ظنك بهؤلاء؟ أيعرفون الكتب المنزلة، ولا يعرفون ما ورد من أبيهم رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ؟!
بلى والله؛ ولكن جعلوا أصل دينهم ما حفظوه وتلقوه عن آبائهم /133

(2/133)


فعلاً وقولاً، واعتقاداً وعملاً؛ ثم إذا استظهروا برواية شيء من غيرهم، فإنما هو استظهار فقط، أو قطع للخصم، فتأمل، انتهى المراد.
[من أقوال السيد محمد بن إبراهيم الدالة على أن آخر أمره كان السداد]
قلت: واعلم أيها المطلع ـ ثبتنا الله تعالى وإياك والمؤمنين، على الحق القويم، والصراط المستقيم ـ أن هذا السيد العالم العظيم، محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله تعالى ـ وإن خالف سلفه الهادين في بعض مقامات المعارضات، ومثارات المجادلات، وكان سبباً في زيغ كثير من المعاندين والمقلّدين، فله من النصوص الصرائح، بالحق الواضح، ما يقطع تلك المقاطعات، ويمنع تلك المعارضات، ويرد كيد الكائدين، ويفلّ حدّ الجاحدين، ويرغم أنوف المعتدين.
وكان آخر أمره السداد، ومراجعة منهاج الرشاد، فتداركه الله ـ إن شاء الله ـ ببركة أسرار البيت النبوي، ونفحات أنوار الهدى العلوي؛ والأعمال بخواتمها؛ ونرجو الله ـ تعالى ـ أنه لم يتمكن من إصلاح الهفوات، المضمنة تلك المؤلفات، للانتشار، أو نحوه من الأعذار، التي يعلمها العليم بذات الصدور؛ وإلى الله ترجع الأمور.
نعم، ومن أقواله في هذا الباب، الدالة على اقتفاء منهج الصواب، والمشي في سنن قرناء الكتاب، وحجج الله ـ تعالى ـ على أولي الألباب، ما قاله في سياق كلام الإمام المنصور بالله، والإمام يحيى (ع)، ما لفظه: لأن أقل أحوالهما أن يكونا قد عرفا أن ذلك مذهب إمام الأئمة، وأفضل الأمة، وأنه الحجة في الهدى، والعصمة من الردى؛ فقد صحّ عنه (ع) أمور كثيرة، في الأصول والفروع، منها: تجرمه وتظلمه من يوم السقيفة؛ ولا قوة إلا بالله، والله المستعان.
[لمع من كلام السيد محمد بن إبراهيم في حجية إجماع العترة]
وقال في العواصم: إن أهل البيت في زمان حدوث الفسق في المذاهب، لم يكونوا إلا علياً وولديه الحسنين (ع)، وإجماعهم حجة، ومعرفتهم متيسرة متسهلة؛ لاتحادهم واشتهارهم.
وفي الفرائد: قال العضد، والشريف /134

(2/134)


الجرجاني، في شرح المواقف: إن جميع الفرق منسوبون إلى علي (ع)؛ وابن عباس ـ رضي الله عنه ـ تلميذه.
وقال الوالد العلامة، محمد بن إبراهيم، في العواصم: لانعلم بعد النبيين والمرسلين أعلم من علي ـ أو كما قال ـ.
وفيه: أن المعلوم لمن له أدنى أنس بمذهب أهل البيت (ع)، وصفوة شيعتهم من الزيدية ـ رضي الله عنهم ـ يعلم أنهم مجمعون على تخطئة من تقدم على علي(ع).
وقال محمد بن إبراهيم في الكلام السابق: فأما حرب علي (ع)، فهو فسق بغير شك، وله الولاية العظمى، التي هي عمدة في الدين.
وقال: وقد أجمع أئمة العترة (ع) وشيعتهم أنه لايجوز خلو عصر من الأعصار إلى يوم القيامة، من عالم مجتهد من أهل البيت (ع).
وقال في سياق كلام في شأن آل محمد ـ صلوات الله عليهم ـ: لأن إجماعهم(ع) المعلوم عندنا حجة، وقولهم إلى الحق أوضح محجة.
إلى قوله: فإنا نردّ من ردوا، ونجرح من جرحوا.
إلى قوله: ولم أزل ـ بحمد الله ـ متمسكاً بأهل البيت، سراً وجهراً، مفتياً بإظهار عقيدتي نظماً ونثراً.
ومن أشعاره في هذا المعنى ما تقدم؛ وقال:
كفاني قول أهل البيـ .... ـت معقولاً ومنقولاً
فأما غير ما قالوا .... فلا أرضى به قولاً
وقال:
إذا شئت منهاجاً إلى الحق واضحاً .... مسالكه عند اختلاف المآخذ
فلا تعد عن نهجي كتابٍ وسنةٍ .... وعض على مافيهما بالنواجذ
ولا تعد عن منهاج آل محمد .... سفينة نوح ملتجى كل عائذ
فهم نصف مظلوم وحتف لظالم .... وهم غيث محتاج وهم غوث لائذ
/135

(2/135)


والله ولي التوفيق وحسن الختام.
[السند إلى مؤلفات السيد الهادي بن إبراهيم الوزير ـ وترجمته]
هذا، وأروي نظم الخلاصة، وكتاب نهاية التنويه في إزهاق التمويه، لأخيه السيد الإمام، بحر العلوم الزاخرة، وبدر الهداية الزاهرة، ونجم العترة الطاهرة، العلم المنير، والعالم الكبير، الهادي بن إبراهيم بن علي بن المرتضى بن المفضل الوزير، بالسند السابق إلى الإمام شرف الدين؛ عن السيد الإمام، صارم الدين، إبراهيم بن محمد بن عبدالله، عن أبيه، عن جده عبدالله بن الهادي، عن أبيه السيد الإمام الهادي بن إبراهيم؛ أعاد الله من بركاتهم، وأولاهم التحيات والتسليم.
ويروي ذلك السيد صارم الدين أيضاً، عن السيد الإمام أبي العطايا عبدالله بن يحيى، عن المؤلف.
فتسلسل السند بآل محمد (ع) ـ ولله الحمد ـ وقد سبق ذكره في سيرة الإمام علي بن المؤيد (ع) من التحف الفاطمية .
قال السيد الإمام ـ رضي الله عنه ـ: كان السيد الهادي.
إلى قوله: الإمام المعتمد، ذا الفضائل والآثار، والذي لم يسمع بوجود مثله في الأعصار، الركن الأشم في أولاد الإمام الهادي، والمربي على أقرانه في الحواضر والبوادي، جامع أشتات العلوم، وساطرها في المنثور والمنظوم؛ له المصنفات العديدة، منها: كفاية القانع في معرفة الصانع، نظم الخلاصة، وشرحها، وكتاب الطرازين المعلمين في المفاخرة بين الحرمين، والتفصيل في التفضيل، وكتاب الرد على ابن العربي، وهداية الراغبين إلى مذهب أهل البيت الطاهرين، وكتاب الرد على الفقيه ابن سليمان في المعارضة والمناقضة، وكاشفة الغمة عن حسن سيرة الأئمة، وكريمة العناصر في الذب عن سيرة الإمام الناصر، وكتاب السيوف المرهفات على من ألحد في الصفات.
وعلمه زاخر، وفضله ظاهر؛ وكان كبير الكلمة منتشر /136

(2/136)


الذكر، عند جميع الأكابر والعلماء، في جميع البلاد القريبة والبعيدة، حتى ديار مصر.
وقال: وقرأ على الإمام الواثق بالله، المطهر بن محمد بن المطهر، في كتب الأئمة وشيعتهم، وغيرها؛ وأخذ عنه أنساب أهل البيت (ع)؛ وسمع أيضاً كتب أهل البيت مثل: الشفاء، وأصول الأحكام، وغيرهما، على خاله صلاح بن محمد بن الحسن بن المهدي بن أحمد؛ وأخذ عنه أيضاً في سائر العلوم، وكذلك نهج البلاغة، وشروحه قراءة.
وأفاد أنه قرأ بصعدة مدة طويلة في علوم العربية: نحو، وتصريف، ومعانٍ، وبيان؛ وكذا تفسير القرآن على الشيخ إسماعيل بن إبراهيم بن عطية النجراني؛ وقرأ على الفقيه محمد بن ناجي في علوم الآداب أيضاً، واللغة.
إلى قوله: وقرأ في الأصولين والفروع على القاضي العلامة عبدالله بن حسن الدواري، وعلى عمه المرتضى بن علي، وعمه أحمد بن علي؛ وسمع الحديث على العلامة أحمد بن سليمان الأوزري.
إلى قوله: وله إجازات عديدة، وطرق مفيدة؛ وأخذ عنه صنوه محمد بن إبراهيم، والسيد أبو العطايا عبدالله بن يحيى، والسيد عز الدين محمد بن الناصر، والسيد عبدالله بن الهادي بن الإمام يحيى بن حمزة.
إلى قوله: وكان بينه وبين علماء اليمن الأسفل مراجعات، ومراسلات ومشاعرات، كالخياط، وإسماعيل المقري؛ وكذا بينه وبين علماء المخاليف، ومثل العلماء الأشراف، وجميع السادة والقضاة في المخلاف السليماني، وأهل مكة، وينبع، والحجاز.
إلى قوله: وذكره الحافظ ابن حجر في تاريخه، وأثنى عليه؛ ولما حج أكرمه الأمير حسن، وكل من بمكة من الأشراف والقضاة.
قلت: وفي مطلع البدور ما معناه، أنه لما وقف عند بعض المشائخ في الحرم لسماع الحديث، قال للشيخ يستقبل القبلة كما هي العادة.
فقال /137

(2/137)


الشيخ: النظر إلى أبناء الخليل أفضل من النظر إلى بناء الخليل.
ولما أراد دخول الكعبة، وتوصل إلى صاحب السدانة، تمثل بقول الشاعر:
ونبئت ليلى أرسلت بشفاعة .... إليّ فهلا نفس ليلى شفيعها
أأكرم من ليلى علي فتبتغي .... به الجاه أم كنت امرءاً لا أطيعها؟
وقد تقدمت الأبيات، التي خاطب بها علماء الطوائف في شأن المقامات؛ ولله درّ العِلْم ما أعظم شأنه، وأقوم برهانه، وأوضح حجته، وأفصح كلمته، وأجل منزلته عند الأولياء، وأهيبها في قلوب الأعداء ـ لاسيما إذا صادف حملته ـ! هذا فيما بين العباد في الدنيا، فكيف بما عند العلي الأعلى في الأخرى.
نعم، قال السيد الإمام: ثم رحل إلى صنعاء، ثم إلى ذمار، وبها توفي، بحمام السعيدي، آخر نهار تاسع عشر ذا الحجة الحرام، صائماً، سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة.
قلت: وقد سبق في التحف الفاطمية .
قال: وعمره ثلاث وستون سنة؛ ورثاه عدة من الناس من أهله، وغيرهم، انتهى.
وفي مطلع البدور، بعد أن بسط في ترجمته، ما لفظه: وكان موته رائعاً للمسلمين، وفلاً عظيماً في عضد أهل الدين، ونقصاً في أهل البيت المطهرين، ومنع ـ لسبب بلوغ خبره ـ ما يعتاد فعله في الأعياد، مع الأئمة، وأهل الأموال، في المدائن والأمصار؛ وكانت روعة عظيمة في أمصار الزيدية، في ذمار، وصنعاء، وصعدة، ومنع جميع الزيدية في المدارس.
قال: وقبره بموضع يقال له: جربة صنبر، وإلى هذا الموضع أشار من قال:
إن الفصاحة والرجاحة والعلا .... في تربة الهادي بجربة صنبرِ
/138

(2/138)


شرفت بأَعْظُمِهِ فطاب صعيدُها .... فترابها كالمسك أو كالعنبرِ
....إلى قوله:
أَكْرِمْ بها من تربة يمنية .... نسبت إلى ترب بطيبة والغري
قلت: وقد عارض بالبيت الأول البيت الذي يستشهد به أهل البيان في الكناية.
وساق من أخباره الحسان، ما تقر به الأعيان؛ عليهم التحيات والرضوان.
[قصيدة للهادي بن إبراهيم(ع) يندد فيها بالطغاة وظالمي أهل البيت(ع)]
نعم، وكتابه نهاية التنويه شرح على قصيدته البالغة الفاخرة، في الرد على مناصبي العترة الطاهرة (ع)، وهي:
أقاويل غي في الزمان نواجم .... وأوهام جهل بالضلال هواجمُ
ومسترق سمعاً لآل محمد .... فأين كرام بالنجوم رواجمُ؟
ومستوقد ناراً لحرب علومهم .... فأين البحار الزاخرات الخضارمُ؟
ومعترض فيهم بمخراق لاعب .... فأين السيوف الباترات الصوارمُ؟
ومجتهد في ذم قوم أكارم .... فأين الأباة السابقون الأكارم؟
ومنتهش لحماً لهم وهو ثعلب .... فأين الأسود الخادرات الضراغم؟
عسى نخوة تحمي على آل أحمد .... فقد ظهرت بغياً عليهم سخائم
عسى غاضب لله فيهم بحكمه .... يحكم فيه الحق فالحق حاكمُ
عسى ناظر فيهم بعين بصيرة .... وحاكٍ لما نصت عليه الملاحم
عسى ناقم ثاراً لهم من عدوهم .... فذاك عدوٌ بالمناقم ناقم
عسى عارف ما قال فيهم أبوهم .... فقد جهلت تلك النصوص العظائم
عسى سالم فيهم عداوة ناصب .... فقد فاز منها سالم ومسالم
عسى عادم حقداً عليهم بقلبه .... فقد قل منه اليوم من هو عادم
عسى صائم من لحم أولاد حيدر .... فما سائم في لحمهم هو صائم
/139

(2/139)


إلى الله أشكو ذنب إبليس إنه .... أهاب بقوم ذنبه المتقادم
دعاهم إليه فاستجابوا لصوته .... ولَمَّا يرعهم حُوْبه المتعاظم
وطار بهم في قلب كل معاند .... فها هم خوافي ريشه والقوادم
حناق صدور من فضائل حيدر .... مكالمهم فيها كليم مكالم
إذا ذكر الفاروق أمست صدورهم .... مفطرة مما تكن السخائم
على أنه خير البرية عن يد .... وإن ورمت منهم أنوف رواغم
يقولون: لافضل له فوق غيره .... وهذا ضلال منهم متراكم
وهل بلغت فضل السنام مناسم؟ .... وهل أدركت شأو البحار الكظائم؟
وإن ذكروا يوم الغدير تأولوا .... ولايته تأويل من هو ظالم
وتأويلهم نص الكتاب تعاميا .... على ما يداني حقدهم ويلائم
وهم أنكروا حصر الإمامة في بني الـ .... ـبتول وقالوا: الغير فيها مساهم
ولم يجعلوا إلا اختياراً طريقها .... وبالعقد قالوا: أمرها متعالم
وهم أبطلوا الإجماع من آل أحمد .... دليلاً وآي السمع في ذاك قائم
وهم أنكروا فضل البتول وفضلوا .... عليها وهذا لاتراه الفواطم
إلى قوله:
وحرب علي منه كالشمس ظاهر .... وهل لطلوع الشمس في ذاك كاتم؟
وحسبك منه مقتل ابن سميةٍ .... وتأويله للنص فيه مصادم
...إلى قوله:
وقالوا: يزيد مستحق توقفاً .... ورأس حسين عنده والغلاصم
وهم جهَّلوا الرسي وهو منزه .... عن الجهل بحر الحكمة المتلاطم
وهم أنكروا إسناد يحيى وقاسم .... ومالهما في العالمين مقاسم
/140

(2/140)


وقالوا: بأن المذهب الحق مذهب .... يكون من الأتباع فيه عوالم
وما كثرة الأتباع في الحق آية .... إذاً ذهبت بالفلج فيه الأعاجم
إلى قوله:
وهم ظلموا المختار أجراً أتى به الـ .... ـكتاب ومن هذا تكون الجرائم
إذا ظلموا آل الرسول مودة .... فلا بد يوماً تستقص المظالم
وإن ينبحوا سادات آل محمد .... فهل قمر من نبحة الكلب واجم؟!
وليس يضر البحر وهو غطمطم .... إذا ما رماه بالحجارة راجم
فيا راكباً هوجاء من نسل شدْقم .... تأخر عنها اليعملات الشداقم
أنخها على باب الإمام محمد .... إمام هدى طالت به الناس هاشم
ـ قلت: يعني إمام عصره، الإمام الناصر لدين الله، صلاح الدين، محمد بن الإمام المهدي علي بن محمد (ع)، و(هاشم) فاعل طالت، و(الناس) مفعوله، من باب المغالبة، فهو من باب قوله:
إن الفرزدق صخرة عادية .... طالت فليس تنالها الأوعالا
قال:ـ
أقول له ما قاله في جدوده .... أخو مِقةٍ للمدح في الآل ناظمُ
فجودكم في الناس للرزق قاسم .... وسيفكم في الناس للكفر قاصمُ
وما الناس إلا أنتم دون غيركم .... وسائر أملاك الزمان بهائم
وقل لي له من بعد تقبيل كفه .... ولثم له حتى كأني لاثم:
أَيُنْكر مولانا علي مكانه .... وعلمك زخّار وسيفك صارم؟
فماذا ترى والأمر أمرك في الورى .... أتنكر هذا أم على الغيظ كاتم؟
وماذا يقول السابقون إلى الهدى .... ومن بهم في الحق تقوى العزائم؟
ألا يالزيد دعوة علوية .... لصاحبها التوفيق واليمن خادم/141

(2/141)


وهل قائم منكم له بفريضة؟ .... فإن ابتداعات الأعادي قوائم
وهل عامل لله لاشيء غيره .... ومجتهد؟ فالأمر والله لازم
إذا لم يكن فيكم ظهور حمية .... على مذهب الهادي وإنْ لام لائم
فلا نشرت للعلم منكم دفاتر .... ولا لويت للفضل فيكم عمائمُ
... انتهت.
وقد تركتُ مالم يتوقف عليه شيء من المعاني.
ولله هذا السيد الإمام (ع)‍! إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحراً.
---
[ذكر القصيدة التي أوردها فقيه، الخارقة وقصيدة الهادي بن إبراهيم في الجواب عليه]
ومن فرائد قصائده، جوابه على الأبيات، التي أوردها فقيه الخارقة، وذكرها الإمام المنصور بالله (ع) في الشافي، وردّ على جميعها بالبرهان الكافي، وهي:
علي بايع الصديق حقاً .... وناداه ليغزو فاستجابا
وللفاروق بايع بعد هذا .... وزوجه ابنةً طابت وطابا
وبايع لابن عفان ووالى .... وما عنه صواب الرأي غابا
تولى ذا وهذا بعد هذا .... فهل في دينه والحق حابا؟
أجيبوني على هذا بصدق .... أأخطأ في الطريقة أم أصابا؟
فإن أنكرتموا ما كان هذا .... لعنا فيه أكذبنا جوابا
فقال السيد الإمام الهادي (ع):
علي خالف الخلفاء فيما .... زعمتم أنه فيه أجابا
ولو كان الذي فعلوه حقاً .... لما حضروا سقيفتهم وغابا
إلى قوله:
وما سبب التقاعد عن عتيق .... إذا كانت خلافته صوابا؟
ومنها:
أجيبونا على هذا بصدق .... أأخطأ في التقاعد أم أصابا؟
/142

(2/142)


فإن أنكرتم ما كان هذا .... لعنا فيه أكذبنا جوابا
إلى قوله:
إليك مقالة مني أجبها .... فقد عارضت بالوشل العبابا
ومنها:
إذا رضي الوصي لهم فعالا .... ولم يك عندكم سكت ارتيابا
فلم غضب الوصي غداة جاؤا .... إليه؟ ولم أنالهم عتابا؟
ولم هدرت شقاشقه عليهم .... وكاد يفض مقوله الصلابا؟
ومنها:
ولم هجر السقيفة حين كانت .... بها الأصوات تصطخب اصطخابا؟
وقلتم في الوصي لنا مقالاً .... ولم تخشوا من الله العقابا:
وبايع لابن عفان ـ زعمتم ـ .... وتابعه ولان له الجنابا
فلم في قتل عثمان تأنى .... وأغدف يوم مقتله النقابا؟
ولم قتلته أقوام وكانوا .... لحيدرة وعترته صحابا؟
ولم ردّ القطائع من يديه .... وكان لسافكي دمه مآبا؟
ومنها:
فكيف جواب ما قلناه؟ هاتوا .... لنا عن بعض ما قلنا جوابا
ومنها:
إذا والى بزعمكم عتيقاً .... ولم يرَ في خلافته اضطرابا
ووالى صاحبيه كما زعمتم .... وما في دينه والحق حابا
فلم دفن البتول الطهر ليلاً .... ولم يحثوا بحفرتها ترابا؟
ولم غضبت على الأقوام حتى .... غدت فيهم مجرعة مصابا؟
ولم أخذوا عطيتها عليها؟ .... وسوف يرون في غدٍ الحسابا
ولم طلبوا عيادتها فقالت: .... أبينوا القوم حسبهم احتقابا؟ /143

(2/143)


ولم لعقائل الأنصار قالت .... وقد جاءت تسائلها خطابا:
لقد أصبحت عائفة وإني .... لمن لم يُرض فيَّ أُبِيَّ آبا
ولم ماتت بغصتها ترى في .... أكف القوم نحلتها نهابا؟
وماتت وهي غاضبة روته .... غطارفة بها شرفوا انتسابا
همُ غضبوا لفاطمة وإن الـ .... ـملائك في السماء لها غضابا
فكيف يقال: والاهم علي .... وهم سَقّوا أبا الحسنين صابا؟!
ومنها:
فمن زعم الوصي لهم موالٍ .... فقد عظمت خطيئته ارتكابا
ومنها:
ولكن تابع الأقوام كرهاً .... وصاحب بالمهادنة الصحابا
مخافة أن يرى في الدين ثلماً .... ويصبح ربعهُ العالي خرابا
ومنها:
ولايته من الرحمن وهو الـ .... إمام فما أتى إلا صوابا
أليس الله سمّاه ولياً .... وأنزل في ولايته كتابا؟
وأي القوم كان أشدّ بأساً .... وأعظم منه صبراً واحتسابا؟
ومنها:
وأي القوم واخاه الرسول الـ .... أمين وكان أشرفهم جنابا؟
وأي القوم قدّم في المغازي .... وموج الموت يضطرب اضطرابا؟
وأي القوم زوّجه بتولاً .... وألبسه عمامته السحابا؟
وأي القوم أقدمهم جهاداً .... وأعظم في سوابقه اكتسابا؟
ومنها:
وأي القوم معصوم سواه؟ .... وأي القوم أطهرهم شبابا؟
/144

(2/144)


ومنها:
وأي القوم ردّ الله شمس النـ .... ـهار له وقد لبست حجابا؟
ومنها:
وأي القوم روح القدس كان الـ .... ـثناء عليه منه مستطابا؟
ومنها:
ومن عهد النبي إليه ألا .... يجهزه سواه إذا أنابا؟
ومن مولاهم بغدير خمٍ؟ .... ومن زكى بخاتمه النصابا؟
ومن سما إله العرش نفساً؟ .... ومن في داره أهوى شهابا؟
ومن أردى سواد الكفر حتى .... غدا للسيف هامهم قرابا؟
ومنها:
ومن ببراءة أضحى رسولاً .... وكان على تحملها مثابا؟
ومن كان الفداء لخير روحٍ .... ولم يخف المناصل والحرابا؟
ومن أعطاه رايته اختياراً .... بخيبر إذ دحى للفتح بابا؟
ومنها:
ومن يكن اللواء غداً لديه؟ .... ومن يسقي من الحوض الشرابا؟
ومن خصّ النبي بفتح باب؟ .... ومن سد النبي عليه بابا؟
ومن كانت خلافته معيناً؟ .... ومن كانت خلافته سرابا؟
ومن كانت إمامته بوحيٍ؟ .... ومن كانت إمامته اغتصابا؟
علي خير من ركب المطايا .... وأفضل من علا الجرد العرابا
هو النبأ العظيم وفلك نوحٍ .... إمام الحق أشمخهم قبابا
وإن يتقدموه بلا دليلٍ .... فهاكم في تقدمهم جوابا
همُ أخذوا خلافته برأي .... وكان الخبط للأقوام دابا
/145

(2/145)


وهل للرأي فيها من مجالٍ؟ .... رأينا رأيهم نسخ الكتابا
أقال لهم نبيهمُ بهذا .... أم اتخذوا خواطرهم كتابا؟
وهل للعقد فيها من مجال؟ .... فلم يوم الغدير بهم أهابا؟
ولم قالوا له بخٍّ وبخٍّ .... إذا كان اختيارهمُ صوابا؟
ولم أوصى النبي إلى علي .... ولم يجعل لهم معه انتصابا؟
فقل للشافعية حيث كانت: .... تحول في تعصبها العصابا
وتصدع بالحقيقة في علي .... فإن الحق أجدر أن يجابا
فقد ظهرت فضائله ولكن .... لمن لم يتخذ عنها حجابا
ومنها:
ومن يك ذا فمٍ مُرٍ مريض .... يجد مراً به العسل الرضابا
وهذا ختامها، وبه انتهى نظامها؛ وقد ساقها بتمامها المولى العلامة، نجم العترة، الحسن بن الحسين الحوثي ـ أيده الله ـ في تخريج الشافي.
قال: انتهى ولله قائلها! فلقد أفاد؛ جزاه الله عن آل محمد وشيعتهم أفضل ما جزى به النافين عن الإسلام كيد الكائدين، وتحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وصلى الله وسلم على محمد وآله الطاهرين.
[ترجمة الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى]
نعم، وسبقت الأسانيد في طرق المجموع، وغيره، إلى مؤلفات الإمام المجتبى، المهدي لدين الله أحمد بن يحيى المرتضى (ع).
وقد استوفيت في التحف الفاطمية ما لاغنى لأهل العلم عن الاطلاع عليه في شأن الأئمة الكرام، وغيرهم من الأعلام؛ وأتيت في هذا المؤلف النافع ـ إن شاء الله تعالى ـ بما لم يسبق هنالك، أو كان على وجه أكمل من ذلك، كما تقدمت الإشارة إليه، في ابتداء الكلام؛ ليقف المطلع على الكتابين على منتهى المرام.
وقد اعتمدت في /146

(2/146)


الكتابين المباركين ـ بمنّ الله تعالى ـ: التحف، وهذا المؤلف لوامع الأنوار الإيرادَ للمهم، الذي يحصل به النفع في أبواب العلم، ولا يُنَالُ، ملخصاً على هذا المنوال، في غيرهما من الأسفار، والمؤلفات الكبار؛ وأضربت عن ذكر القصص والأخبار، التي لاتعلق لها بهذه المقاصد في إيراد ولا إصدار، إلا مالا يحسن بأهل العلم جهله من الآثار، فقد وقعت الإشارة إليه على طريقة الاختصار.
فأقول: قد ساق السيد الإمام صاحب طبقات الزيدية، من أخبار الإمام (ع)، خلاصة ما ذكره مؤلف سيرته، كما هي العادة في أحوال سائر الأعلام، من جميع ما اشتملت عليه مؤلفات السابقين الكرام؛ فلهذا جعلت كتابه في هذا الباب عمدة المنقول، مع مراجعة الأصول، إلا فيما لم يكن مرسوماً فيه، أو كان في غيره أتم منه؛ وقد أوضحت ذلك ببيان ما أخذ من كل مؤلف في جميع الفصول، إلا فيما تداولته عبارات السلف والخلف، مع صحته.
وعادة السيد الإمام ـ في الأغلب ـ إضافة كل قول إلى قائله، وعزو كل نقل إلى ناقله، وخالف ذلك في بعض المواضع، كمثل هذا المقام، وكأنه لطول المقال، واتساع المجال؛ فقال ـ رضي الله عنه ـ: الإمام المهدي لدين الله، نشأ على ما نشأ عليه آباؤه الأئمة؛ فإنه لما ختم القرآن، أدخله والده وصنوه يقرأ في علم العربية، فقرأ في النحو، والصرف، والمعاني، والبيان، قدر سبع سنين، فانتهى في هذه العلوم إلى غاية، وصنّف الكوكب الزاهر.
قلت: ويدل على رسوخ قدمه، وطول باعه، وسعة اطلاعه، أن مؤلفاته في غاية الإتقان والصحة، لايوجد فيها أي مخالفة للقواعد العربية؛ وعلى هذا المنهاج مؤلفات أعلام الملة الحنيفية؛ وما وقع من المؤاخذات في شيء منها، فهو /147

(2/147)


من تغيير أهل النسخ، وعدم التصحيح؛ ومتى بحث في الموجود من الأصول المصونة ينكشف التصحيف والتحريف للصحيح، بخلاف من لايد له في هذه الفنون من المؤلفين، فالاختلال فيها واضح للناظرين.
قال: ثم أخذ في علم الكلام على أخيه الهادي بن يحيى، وتممه على شيخه العلامة محمد بن يحيى المدحجي.
قلت: وقد سبق ذكرهما في سند المجموع، وغيره، وبيّض في الطبقات لوفاة محمد بن يحيى.
قال: فسمع الخلاصة، ونقل الغياصة غيباً؛ ثم قرأ شرح الأصول، وألقى عليه شيخه الغرر والحجول.
قلت: قال مؤلف السيرة ـ وهو ولده الحسن بن الإمام (ع) ـ: الذي صنفه ـ أي الغرر والحجول ـ القاسم بن أحمد بن حميد.
قال السيد الإمام: ثم انتقل إلى علم اللطيف، فقرأ تذكرة ابن متويه على شيخه المذكور، والمحيط أيضاً؛ ثم انتقل إلى أصول الفقه، فسمع عليه الجوهرة وحققها، ثم نقلها في منظومة.
قلت: قال ولده: سماها فائقة الفصول.
قال: وفي خلال ذلك أخذ في قراءة المعتمد في أصول الفقه.
قال ولده: لأبي الحسين البصري.
قلت: وقد وقفت على المعتمد هذا في نسخة عليها رسم الإمام الحجة المنصور بالله عبدالله بن حمزة (ع) بقلمه الشريف، وخط يده المباركة.
قال: ثم انتقل إلى منتهى السؤول، فقرأه على شيخه.
إلى قوله: وغير ذلك مما يطول شرحه.
ثم قال: ثم أخذ في سماع الكشاف على الفقيه المقريء أحمد بن محمد البحيري. /148

(2/148)


وأما علم الفروع فجعل يسمع على أخيه بالليل ما قد جمعه على مشائخه، ثم يختصر ما ألقى عليه صنوه، من الكتب التي يقريه فيها، حتى ألّف كتاباً، مجلداً، مبسوطاً، مستوفياً للخلاف، ولكلام السادة والمذاكرين.
[ترجمة صاحب الزحيف]
إلى قوله: قال في مآثر الأبرار للزحيف: ـ قلت: هو الفاضل العلامة، شارح البسامة، محمد بن علي؛ ترجم له السيد الإمام، ولم يذكر وفاته ـ إن الإمام (ع) يروي من طرق الأئمة وغيرها من العلوم، معقولها ومنقولها، بحق ما معه من أخيه الهادي، وشيخه محمد بن يحيى؛ وهما يرويان ذلك عن حي الفقيه قاسم بن أحمد بن حميد المحلي بحق روايته لذلك، عن أبيه أحمد بن حميد بحق روايته، عن والده الشهيد حميد بن أحمد؛ وهو يروي ذلك عن الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة؛ وهو يروي طرق كتابه الشافي وما حواه من العلوم معقولها ومنقولها إلى مشائخه.
قلت: وقد تكررت هذه الطرقات في كتابنا هذا، والغرض في ذلك زيادة التحقيق، وتوقيف المطلع على واضح الطريق، والله ولي التوفيق.
[ترجمة الحسن بن علي العدوي]
قال: وروى طرق كتب الإمام يحيى بن حمزة، عن العلامة الحسن بن علي العدوي.
قلت: قال السيد الإمام في ترجمته: الحسن بن علي بن صالح العدوي (بكسر العين مهملة، وسكون الدال مهملة).
إلى قوله: كان عالماً كبيراً خطيراً، فقيهاً نبيلاً، ألّف العباب، وهو أحد مشائخ الإمام المهدي أحمد بن يحيى، انتهى.
ولم يذكر وفاته.
قال: عن الفقيه حسن بن محمد النحوي، عن الإمام يحيى بن حمزة./149

(2/149)


قلت: وهذه طريق لنا إليها، مع ماسبق.
قال: ويروي كتب الأئمة، وشيعتهم أيضاً، وغيرها، عن السيد العلامة محمد بن سليمان الحمزي، عن الإمام الواثق بالله المطهر بن محمد بن المطهر، عن أبيه، عن جده، عن الأمير الحسين وغيره.
قلت: قد سبق ذكر السيد الإمام محمد بن سليمان الحمزي، وهو والد الإمام المتوكل على الله المطهر بن محمد بن سليمان (ع)، وسيأتي له مزيد تحقيق في ذكره ـ إن شاء الله تعالى ـ.
قال في كتاب الإيضاح للسيد العلامة الحسين بن علي بن صلاح العياني: إن الإمام المهدي أخذ عن الإمام صلاح الدين محمد بن علي، ووالده الإمام علي بن محمد، ومَنْ في عصره من السادة آل الوزير، وآل يحيى بن يحيى.
إلى قول السيد الإمام: وتلامذة الإمام كثير، أجلهم الإمام المطهر بن محمد بن سليمان، والفقيه يحيى بن أحمد مرغم، وعلي النجري، والفقيه زيد الذماري ـ وهو الواسطة بينه وبين ابن مفتاح صاحب الشرح المعروف بتعليق ابن مفتاح ـ ويحيى بن أحمد مظفر، وغيرهم.
[بيان لما جرى بعد موت الإمام صلاح الدين فيمن يقوم بالإمامة]
قال: ولما مات الإمام صلاح الدين محمد بن علي ـ والإمام المهدي (ع) في صنعاء ـ ووصل القاضي عبدالله الدواري، ومن معه من العلماء من صعدة، ونصبوا ولد الإمام صلاح الدين.
قلت: أي علي بن صلاح.
قال: فانزعج لذلك جماعة من الفضلاء، وأشاروا إلى الثلاثة، وهم: السيد الناصر بن أحمد بن المطهر بن يحيى، والسيد علي بن أبي الفضائل، والإمام المهدي أحمد بن يحيى؛ فاستحضر بقية العلماء هؤلاء الثلاثة في مسجد جمال الدين، واختاروا الإمام المهدي أحمد بن يحيى، وبايعه هؤلاء وغيرهم./150

(2/150)


قلت: قال في السيرة: وكان بعد موته ـ يعني الإمام الناصر صلاح الدين محمد بن الإمام المهدي علي بن محمد (ع) ـ انضرب الناس في القائم بالأمر؛ وكان الناصر قد أشار إلى حي السيد الفاضل، علي بن أبي الفضائل، وأنه وليّ الأمر بعده؛ لمحله في الفضل.
إلى قوله: فطلبه الوزير، فطلبوا منه القيام بالأمر، فأجابهم: إن هذا الأمر يحتاج صاحبه إلى البصيرة الواقعة، والمقصود به وجه الله تعالى، وفينا من هو أوقع مني بصيرة ـ يشير إلى الإمام المهدي (ع) ـ.
فلما فهموا من السيد ترجيح جانب المهدي توقفوا، وكانوا غير طامعين في أن أحداً يجيبهم إلى قيام أي أولاد الإمام؛ لظهور قصورهم عن هذا الأمر، فوصلهم كتب من حي القاضي عبدالله بن حسن الدواري وغيره.
قال: وأوهم القاضي في كتابه، أنهم يريدون إقامة ولد الإمام، فمالت قلوب الوزراء إلى ذلك؛ فلما وصلوا، كان الكلام في ذلك منوطاً بالقاضي، فجعل يروض ذوي البصائر في صنعاء؛ للمساعدة إلى تقويم ولد الإمام، فأحضرهم، وأخذ رأيهم، فأظهروا الامتناع، فلما أيس منهم توقف؛ فلما علم بذلك السادة النبلاء، والفقهاء الفضلاء ـ أي علموا بما أراد القاضي، والوزراء ـ من إقامة ابن الإمام، انزعجوا أشد الانزعاج، وفزعوا إلى مَنْ يصلح من فضلاء أهل البيت.
ثم حكى معنى ما تقدم.
قال: فاجتمع العلماء، واستحضروا هؤلاء الثلاثة، وذكروا للناس ما قد اجتمع له أولئك الجماعة، من نصب علي بن صلاح.
[نموذج من ورع العترة عن تحمل أعباء الخلافة]
قال: وكان مولانا ـ يعني الإمام المهدي ـ أصغرهم سناً، كما بقل الشعر في وجهه ـ قلت: المروي أنه كان في ثمانية عشر عاماً ـ فأجاب السيد الأفضل الأورع، علي بن أبي الفضائل ـ وكان أكبرهم سناً ـ: أما أنا فمبتلى بالشك في الطهارة والصلاة، كما ترون.
إلى قوله: ومن كان على هذه/151

(2/151)


الصفة لايصلح لهذا الأمر؛ لاحتياجه إلى النظر في أمر الأمة، وافتقاد الأمور، وهذا عذر واضح.
وقال السيد الناصر: هذا أمر، المقصود به رضوان الله، والقيام بالأحكام، كما يقتضيه الكتاب والسنة، أصولاً وفروعاً؛ وذلك لايتأتى إلا ممن قد اشتغل بعلوم الاجتهاد.
إلى قوله: وعندي أني قاصر عن هذه المرتبة.
ثم انتظروا ما يجيب به مولانا؛ فأجاب: بأني صغير السن، كما ترون، وهذا أمر لايصلح إلا ممن قد جرب الأمور، وساس الجمهور، وخاض في تدبير الدنيا وعلاجها، ورَدّ حيناً ورُدَّ عليه، فرَجَع إلى غيره ورُجِع إليه؛ وأنا لم يمض عليّ من السن ما يتسع لذلك.
إلى أن قال: فلست أصلح لذلك في هذه الحال.
فلم يقبلوا منه، وأجابوا عليه: بأنك ما تحتاج إليه من هذه الأمور، فنحن عندك.
إلى قولهم: ونحن لانفارقك ـ إن شاء الله تعالى ـ في شدة ولا رخاء.
قلت: انظر إلى كلام الهداة السابقين، القاصدين لرضاء الله ومطابقة أمره، وتقديم حقه، وطلب الدار الآخرة، والإعراض عن الأغراض والهوى، والتجافي عن زخرف الحياة الدنيا ومتاع الغرور، وتأثير الملك الخطير الباقي، على الملك الحقير الفاني، في هذا المقام، الذي صرعت عنده العقول، واستلبت فيه النفوس؛ فهذا منهاج أئمة الدين، وخلفاء سيد المرسلين، لايقوم القائم منهم إلا لتحتم الفرض، وتضيق الأمر، وتعين الحجة، عند ألاَّ يجد له مندوحة، ولاعنه معذرة؛ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لايريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين.
نعم، وحكى صاحب السيرة: أن السيد الإمام علي بن أبي الفضائل قال /152

(2/152)


للإمام (ع): إن أردت مني خدمة فرسك، أو سياسة جملك، لم تأنف نفسي عن القيام بذلك، طاعة لله، ولمن أوجب طاعته.
إلى آخر محاوراتهم، أعاد الله من بركاتهم.
قال: فلما أجمع رأيهم على إقامته، وحصلت منه الإجابة، بايعه السيدان المذكوران، ثم العلماء.
إلى قوله: فلما علم الوزراء باتفاق الفضلاء، أزمعوا إلى تعجيل البيعة لولد الإمام.
قلت: وهذا يدل على تقدم بيعة الإمام، وكلام السيد الإمام يدل على خلافه؛ وقد جمع صاحب مآثر الأبرار، أنهما لما وقعتا في يوم وليلة، تسومح في حكاية الترتيب.
قلت: وهذا لايفيد صحة الروايتين، ولكن لاثمرة للسبق إلا مع الكمال، هذا وقد حكى ذلك في البسامة حيث قال:
وكان بعد صلاح من حوادثها .... بحر اختلاف عظيم هائل خطرِ
قام الإمام علي بعد والده .... وأحمد بعد والهادي على الأثرِ
قال بعض شراحه: ومراده أنه إمام من جهة اللغة أو من جهة الجهاد.
قلت: والمراد بالهادي الإمام الهادي لدين الله علي بن المؤيد (ع).
قال:
وذاد عن مذهب الهادي أبو حسن .... وسعي أحمد فيه سعي معتبرِ
هذا إمام جهاد لا امتراء به .... وذا إمام اجتهاد ثاقب النظرِ
وكلهم سادة غرّ غطارفة .... بيض بَهَالِيْلُ فرَّاجون للعكر
والله يصفح عمن قد أتى زللاً .... فمن ترى في البرايا غير مفتقرِ
وكل عبد إلى مولاه مفتقر .... عند الفريقين أهل العدل والقدرِ
[مصنفات الإمام المهدي أحمد بن يحيى]
قال السيد الإمام ـ رضي الله عنه ـ: ومصنفاته واسعة، منها في أصول الدين /153

(2/153)


ثمانية.
قلت: قد أفاد مؤلف سيرته بتعدادها على الترتيب هذا، وهو: الأول: نكت الفرائد، الثاني: شرحها، الثالث: كتاب القلائد ـ وبيّض للرابع، ولعله أراد الغايات، ولكنه في الحقيقة جامع لجميع شروح كتبه ـ الخامس: كتاب الملل والنحل، السادس: كتاب المنية والأمل، السابع: كتاب رياضة الأفهام، في لطيف الكلام، الثامن: كتاب دامغ الأوهام، في شرح رياضة الأفهام، وهو جزآن.
وفي أصول الفقه ثلاثة:
الأول: كتاب فائقة الفصول، في ضبط معاني جوهرة الأصول، الثاني: كتاب معيار العقول، في علم الأصول، الثالث: كتاب منهاج الأصول، شرح معيار العقول.
وفي علم العربية خمسة:
الأول: كتاب الكوكب الزاهر، شرح مقدمة ابن طاهر، الثاني: كتاب الشافية شرح معاني الكافية، الثالث: المكلل شرح المفصل، الرابع: تاج علوم الأدب، الخامس: كتاب إكليل التاج وجوهرة الوهاج.
وفي الفقه خمسة:
الأول: كتاب الأزهار في فقه الأئمة الأطهار، وصنّفه في الحبس، ولم يوضع بكاغد مدة سنين، وإنما حفظه السيد علي بن الهادي، ومولانا (ع) يملي عليه ما صححه لمذهب الهادي؛ الثاني: كتاب الغيث المدرار المفتح لكمائم الأزهار، الثالث: كتاب الأحكام المتضمن لفقه أئمة الإسلام.
قلت: وقد صار المشهور بالبحر الزخار، وفي الأصل هذا الاسم له، /154

(2/154)


ولمقدماته المذكورة.
الرابع: كتاب الانتقاد للآيات المعتبرة في الاجتهاد.
وفي السنة: كتاب الأنوار الناصة على مسائل الأزهار ، والقمر النوار في الرد على المرخصين في الملاهي والمزمار.
وفي علم الطريقة: كتاب تكملة الأحكام، وكتاب حياة القلوب في عبادة علام الغيوب.
وفي الفرائض: كتاب الفائض، وكتاب القاموس.
وفي المنطق: القسطاس.
وفي التاريخ: الجواهر والدرر في سيرة سيد البشر، وشرحها يواقيت السير، وكتاب تزيين المجالس في قصص الصالحين، وكتاب مكنون العرائس.
وفي طبقات السيد الإمام ـ رضي الله عنه ـ ما نصه: كان فضله وعلمه الواسع، وانتفاع المسلمين به النفع البالغ، ليس لأحد من المسلمين مثله في العناية الإلهية، في بركة علمه ومصنفاته، التي هي كالطراز المُذْهب، وعليها اعتماد المذهب، على طريقة أهل الحقيقة والمجاز، التي هي بالمرتبة الثانية من حدّ الإعجاز، وكتاب الأزهار شاهد؛ فإنه على صغر حجمه سبعة وعشرون ألف مسألة منطوقها ومفهومها، انتهى المراد.
[افتتاح كتاب غايات الأفكار]
قال الإمام (ع) في مبتدأ شروحه، وهو غايات الأفكار:
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم إن أجلّ الثناء يقصر عن وصف جلالك، وأعظم الخضوع يقل عن إجلالك، وأوفر الشكر لايفي بعشير معشار إحسانك، كيف لا؟ وقد أكرمتنا /155

(2/155)


بفضيلة عرفانك، وأوضحتَ لنا من الحق فلقه، وكشفتَ عنا من بهيم الباطل غسقه، وأثرت لنا من مثار السعادة معدناً، ورفعت لنا من يفاع السيادة موطناً، وشيّدت لنا في أعالي العلياء غرفاً، وأغدقت علينا من تكرمتك جلالاً وشرفاً، حيث جعلت نهار الدلالة آية، وليل الجهالة عماية، وميزتها لنا بعقول نيرة؛ فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة.
إلى قوله: هذا ولما منّ الله ـ جل جلاله ـ بكمال ما أردنا من تأليف كتاب لطيف، يتضمن الإحاطة بعلوم الاسلام جميعها، أصولها وفروعها، واستقصاء مسائل الخلاف، بين فرق الأمة، وأكابر الأئمة.
إلى قوله: استخرنا الله سبحانه، وحاولنا إظهار محاسنه، وتنقيح معادنه، بشرح يعتمد من أراد التحقيق عليه، ويرد ما شذ من الغرائب إليه، نستقصي فيه حجج الخصوم، ونوضح ما به روح الحق يقوم.
وقال فيه عند ذكر طبقات أهل العلم: فمعدنه ومركزه أهل البيت (ع)، إذ أخذوا علمهم عن أب وجد، حتى انتهى إلى علي (ع)، وهو باب مدينة العلم، فهم الذين أتوا المدينة من بابها دون غيرهم، ممن عُرِف بالعلم، الذي طريقه غير باب مدينته.
ولله المنصور بالله حيث يقول!:
ما بين قولي عن أبي عن جده .... وأبو أبي فهو النبي الهادي
وفتى يقول حكى لنا أشياخنا .... ما ذلك الإسناد من إسنادي
ومن ثَمّ حكمنا بأنهم أصل علوم الدين النبوي؛ لأنهم الذين أتوه من بابه.
إلى قوله: ولم يكثر أتباعهم كما كثر أتباع الفقهاء الأربعة، لما اجتهد الخلفاء الأموية والعباسية في إطفاء نورهم، وإماتة كلمتهم، وهم الذين ظهرت /156

(2/156)


بسطتهم في الأرض، فأخافوا كل من تشهّر بمذهب سوى المذاهب الأربعة؛ أمر بذلك المأمون بن هارون، وجعل لكل مذهب من الأربعة مقاماً معروفاً عند البيت العتيق، ولم يجعل لأهل البيت مقاماً؛ ليموت ذكرهم، وينطمس نورهم؛ ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
وقال في وصف علم آل محمد (ع): فبارك الله عليه كما بارك على إبراهيم، حتى كاد يملأ الخافقين سناها، وينطح الفرقدين نماها؛ ولعمري، إن علمهم هو المأخوذ عن عيون صافية، نبعت من صدور زاكية، مجراها باب مدينة علوم الإسلام، ومنبعها من أخذ عن جبريل (ع)؛ ومن ثمة وصفهم جدهم بأنهم سفينة النجاة من العذاب، وجعلهم في كونهم الحجة قسيم الكتاب؛ فنسأل الله أن يهدينا بهديهم، وأن يستعملنا في حميد سعيهم، الذي ينالون به من رضاه حبوراً، وينخرطون في سلك من يقال له: إن هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكوراً؛ وصلاته على سيد البشر، المشفع في المحشر، محمد المخصوص باللواء والكوثر، وعلى آله....إلخ.
[إجماع العترة على أن إمامة علي قطعية وواجبة المعرفة على الأعيان]
نعم، وقد ذكر الإمام (ع) في سياق أوصاف عمر بن عبد العزيز، أنه أول من ردّ فدك والعوالي إلى آل فاطمة، وهذا يقتضي خلاف القول بتصويب حكم أبي بكر؛ إذْ لا يصح أن يكون من الممادح نقض الحكم الصواب.
قلت: وقد سبق الكلام في رجوع الإمام يحيى عن التصويب، وما يفيده كلام الإمام المهدي (ع) في ذلك عن قريب.
هذا، واعلم أنها قد جرت عادة الكثير من الناظرين، بعدم التدبر لمقالات /157

(2/157)


العلماء من موافقين ومخالفين، فتسبب عن ذلك الإفراط والتفريط، والخبط والتخليط، فترى البعض يشنّع فيما ليس الخلاف فيه إلا في التعبير، والبعض يصوّب في الأمر الخطير، ويتمحل للخصم بما لايرتضيه؛ بل لو اطلع عليه لأظهر غاية النكير، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم؛ والمحجة الوسطى، والطريقة المثلى، الوقوف على الحقائق، والكشف عن مرام المخالف والموافق، والتثبت في جميع المداحض والمزالق، حتى يورد ويصدر عن نظر متين، وعلم مبين؛ وملاك الأمر كله خلوص المقاصد، وسلوك جادة الحق في المصادر والموارد؛ فإن الأمر شديد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد؛ والمسؤول منه ـ عز وجل ـ التثبيت والتسديد، إنه هو الرؤوف الرحيم، العليم الحكيم، ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم.
[بحث عظيم في صفات رب العالمين، والإجماع على تنزيهه عن المعاني]
نعم، واعلم أن من أعظم ما دار فيه الخلاف، وتباينت فيه الأقوال، بين أهل التوحيد وبين غيرهم من فرق الضلال، مسائلَ صفات رب العالمين، ذي العظمة والجلال، وقد اتفق أهل التوحيد والعدل قاطبة من العترة (ع) والمعتزلة ومن وافقهم، على الشهادة له بما شهد به لنفسه، وشهد به ملائكة قدسه، وأولوا العلم من جنه وإنسه؛ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم؛ وعلى وصفه ـ جل وعلا ـ بما وصف /158

(2/158)


به نفسه تعالى، من أنه القدير العليم الحي؛ اللطيف الخبير، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير؛ وأنه المختص بصفات الكمال، المضافة إلى الذات المقدس والأفعال، العدل الحكيم.
وعلى تنزيه الله ـ سبحانه وتعالى ـ عن المعاني الحقيقية، المقتضية للتعدد والمشاركة للقديم ـ جلّ وعلا ـ في الأزلية، التي هي في الشاهدِ الممكنِ القدرةُ، والعلم، والحياة، والوجود، وغيرها من المعاني الزائدات على الذات، وليست هذه المذكورة بالصفات، ولا الأحوال ولا المزايا ولا التعلقات، على اختلاف المصطلحات، التي تقول بها المعتزلة، كما يتوهمه من لا اطلاع له؛ وإنما هي عندهم مثلاً: القادرية، والعالمية؛ أي: كونه قادراً وعالماً ونحوهما؛ وجمهور أئمة العترة لايقولون بشيء من ذلك، كما هو معلوم، ومن صرائح نصوصهم مرسوم.
قال إمام المحققين الأعلام، الحسين بن القاسم بن محمد (ع)، في بحث النسخ من شرح الغاية: قلنا: لانسلم ثبوت العالمية، فإن ثبوتها فرع ثبوت الأحوال، والحال هو الواسطة بين الموجود والمعدوم، وهو عند الجماهير من أئمة أهل البيت (ع) وغيرهم باطل؛ لما علم بالضرورة من أن الموجود ماله تحقق، والمعدوم ماليس كذلك، ولا واسطة بين النفي والإثبات؛ ولذا قال بعض أئمة أهل البيت (ع) في وصف اعتقادات آبائه الصحيحة، من قصيدة طويلة:
لم يثبتوا صفة للذات زائدة .... ولا قضوا باقتضا حال لأحوال
/159

(2/159)


انتهى المراد؛ وهذا البيت من الأبيات الفخرية، وقد تقدم.
هذا، ولهم في تقسيمها وكيفية استحقاقها كلام طويل، مبسوط في محلّه من الأصول، والخطب عند التحقيق في خلافهم يسير؛ فإن هذه الصفات الزائدات، التي يثبتونها، ليست عندهم بأشياء، ولا ذوات، ولامعلومات على الانفراد؛ وإنما الخلاف الخطير الكبير، بين أهل العدل وغيرهم كالأشعرية، المثبتين للمعاني القديمة الحقيقية.
والحق الذي عليه قدماء آل الرسول ـ صلوات الله عليهم ـ ومن وافقهم من علماء الأصول، وقضت به حجج المعقول والمنقول، أن صفات الله ـ جل جلاله ـ ذاته، والمعنى أنه ليس لله ـ سبحانه وتعالى ـ باعتبار هذه الصفات سواه، لامعنى ولا أمر ولا حال، ولاشيء غير ذي الجلال، بل الذات المقدس يوصف ـ عز وجل ـ من حيث انكشاف جميع المعلومات له وتعلق علمه بها عالماً، ومن حيث اقتداره على جميع المقدورات، وعدم امتناع شيء منها عليه قادراً؛ إلى آخرها.
[الكلام على الذات الواجب الوجود ـ وأن صفاته هي الذات]
فلما ترتب على الذات الواجب الوجود ـ جل وعلا ـ ما يترتب على الذوات والصفات في الشاهد؛ لكون ذوات غيره ـ سبحانه وتعالى ـ غير كافية في ثبوت الصفات؛ بل تحتاج إلى معنى يقوم بها، قالوا: صفاته ذاته ـ عز وجل ـ.
وليس المراد أن هناك ذاتاً وصفة حقيقة، كما يتوهمه مَنْ لم يرسخ علمه في هذه الطريقة؛ بل الذات المقدس وصفاته ـ عز وجل ـ عبارة عن شيء واحد بالحقيقة؛ والتغاير إنما هو باعتبار المفهوم؛ فعالم باعتبار تعلق الذات بالمعلومات من حيث كونها معلومات، وقادر كذلك من حيث كونها مقدورات، وهكذا سائرها، فالتعدد حقيقة في متعلق الصفات لافي الصفات، فليست إلا عبارة عن الذات، ومرجع الكلام عند التحقيق إلى إثبات مدلولات الصفات وثمراتها وآثارها بالذات/160

(2/160)


المقدس العلي ـ عز وجل ـ لابمعنى ولا أمر ولا مزيّة.
وليس هذا القول كقول أبي الحسين، فإنه يقول: الصفات أمور اعتبارية، وهي التعلق.
وقدماء الآل (ع) يقولون: هي الذات من حيث التعلق، لاالتعلق نفسه، وبينهما فرق واضح.
وعلى هذا فالمضاف هو المضاف إليه في قدرة الله وعلمه وجميع صفاته، كما في وجهه ونفسه وذاته، ونحو ذلك؛ فلا معنى لاعتراض بعض الأئمة المتأخرين على إمام الأئمة الهادي إلى الحق المبين (ع)، وقد ردّ عليه السيد الإمام، المحقق المفتي، صاحب البدر الساري ـ رضي الله عنه ـ وغيره؛ ولو حقق النظر، لما سطر ما سطر، ولكن لكل جواد كبوة، ولكل صارم نبوة.
[كلام أمير المؤمنين في صفات الله تعالى]
هذا، وإنما وقع فضل العناية بتحقيق الكلام، في هذا المقام؛ لاشتباهه على كثير من الأفهام، ولعظم محلّ هذا الأصل في معرفة الملك العلام، وكثرة النزاع في شأنه بين فرق الأنام.
وقد تحصلت المذاهب في صفات ذي الجلال، إلى عشرة أقوال، كما لخصها علماء الكلام:
القول الأول: أن صفاته ـ جل جلاله ـ ذاته على ما حققناه، وهو الواجب بجلال التوحيد، وجناب التمجيد، للرب المجيد، والذي قامت عليه البراهين.
وقد أبان ذلك إمام الموحدين، وسيد المتكلمين، وباب مدينة علم الرسول الأمين، صلوات الله عليهما وعلى آلهما الأكرمين.
قال ـ صلوات الله عليه ـ: أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه؛ لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة؛ فمن وصف الله فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله.
إلى قوله: ومن قال: فيم؟ فقد ضمّنه؛ ومن قال: علام؟ فقد أخلى عنه؛ كائن لا عن /161

(2/161)


حدث، موجود لا عن عدم...إلخ الخطبة الشريفة.
وقال ـ كرم الله وجهه ـ: مباين لجميع ما جرى من الصفات، وممتنع عن الإدراك بما ابتدع من تصريف الأدوات، وخارج بالكبرياء والعظمة من جميع تصرم الحالات.
وقال ـ سلام الله عليه ـ: فليست له صفة تُنال، ولا حد يُضْرَبُ له فيه الأمثال.
وقال ـ صلوات الله عليه ـ: كان إلاهاً حياً بلا حياة، وملكاً قبل أن ينشيء شيئاً، ومالكاً بعد إنشائه، وليس يكون له كيف ولا أين، ولا له حدّ يعرف، ولا شيء يشبهه؛ ولكن سميع بلا سمع، وبصير بلا بصر.
وقال ـ صلوات الله عليه ـ: ما وحده من كيَّفه، ولا حقيقتَه أصاب من مثَّله، ولا إياه عنى من شبَّهه، ولاصمده من أشار إليه وتوهمه؛ كل معروف بنفسه مصنوع، وكل قائم في سواه معلول.
إلى قوله ـ صلوات الله عليه ـ: وخرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره؛ الذي لايحول ولا يزول، ولايجوز عليه الأفول.
إلى قوله ـ رضوان الله عليه ـ: ولا يوصف بشيء من الأجزاء؛ يقول ولا يلفظ، ويحفظ ولايتحفظ، ويريد ولايضمر؛ يحب ويرضى من غير رقّة، ويبغض ويغضب من غير مشقّة، يقول لما أراد كونه: كن؛ فيكون، لابصوت يقرع، ولا بنداء يسمع؛ وإنما كلامه ـ سبحانه ـ فعل منه أنشأه ومثله، ولم يكن من قبل ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً.
وقال ـ صلوات الله عليه ـ: الذي ابتدع الخلق على غير مثال امتثله، ولا مقدار احتذى عليه من خالق قبله؛ بل أرانا من ملكوت قدرته، وعجائب ما نطقت به آثار حكمته، واعتراف الحاجة من الخلق إلى أن يقيمهم بمساك قوته، ما دلنا باضطرار قيام الحجة له علينا على معرفته.
ومن خطبة له أخرى: ولم تحط به الصفات، فيكون /162

(2/162)


بإدراكها إياه متناهياً؛ هو الله الذي ليس كمثله شيء، عن صفة المخلوقين متعالياً، وجل عن أن تناله الأبصار فيكون بالعيان موصوفاً، وارتفع عن أن تحوي كنه عظمته فهاهات رُويَّات المفكرين، وليس له مثل فيكون بالخلق مشبهاً، وما زال عند أهل المعرفة عن الأشباه والأنداد منزهاً.
إلى قوله ـ سلام الله عليه ـ: وكيف لما لايقدر قدره مقدار في رويَّات الأوهام؟؛ لأنه أجل من أن تحده ألباب البشر بتفكير، وهو أعلى من أن يكون له كفؤ فيشبه بنظير، فسبحانه وتعالى عن جهل المخلوقين، فسبحانه وتعالى عن إفك الجاهلين؛ فأين يتاه بأحدكم؟ وأين يدرِك ما لا يُدْرَك؟ والله المستعان.
وقال ـ رضوان الله عليه ـ: مَنْ وَصَفَه فقد شَبَّهَهُ، ومن لم يصفه فقد نفاه؛ وصفته أنه سميع، ولا صفة لسمعه.
وقال ـ رضوان الله عليه ـ: باينهم بصفته رباً، كما باينوه بحدوثهم خلقاً.
إلى غير ذلك من كلام سيد الوصيين؛ فهو مفجر علوم الدين، والمبين للأمة ما اختلفوا فيه بعد أخيه سيد النبيين؛ وفي كلامه هذا أعظم بيان، وأقوم برهان.
[من خطب أمير المؤمنين (ع)]
ولنورد هذا الفصل الأعظم، الذي هو شرح لمعنى قوله ـ عز وجل ـ: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ } [الأنعام:59].
من خطبته الكبرى، التي أقام فيها دلائل توحيد الله ـ تعالى ـ وآيات جلاله، وبينات برهانه، النيرات العظمى.
قال ـ صلوات الله عليه ـ: عالم السر من ضمائر المضمرين، ونجوى المتخافتين، وخواطر رجم الظنون، وعقد عزيمات اليقين، ومسارق إيماض الجفون، وما ضمته أكنان القلوب، وغيابات الغيوب، وما أصغت لاستراقه مصائخ الأسماع، ومصائف الذر، ومشاتي الهوام، ورجع الحنين من المولهات، وهمس الأقدام، ومنفتح الثمرة من ولائج غلف الأكمام، /163

(2/163)


ومنقمع الوحوش من غيران الجبال وأوديتها، ومختبأ البعوض بين سوق الأشجار وألحيتها، ومغرز الأوراق من الأفنان، ومحطّ الأمشاج من مسارب الأصلاب، وناشئة الغيوم ومتلاحمها، ودرر قطر السحاب في متراكمها، وما تسفي الأعاصير بذيولها، وتعفر الأمطار بسيولها، وعرم نبات الأرض في كثبان الرمال، ومستقر ذوات الأجنحة في شناخيب الجبال، وتغريد ذوات المنطق في دياجير الأوكار، وما أوعبته الأصداف، وحضنت عليه أمواج البحار، وما غشيته سدفة ليل، أو ذر عليه شارق نهار، وما اعتقبت عليه أطباق الدياجير، وسبحات النور، وأثر كل خطوة، وحسّ كل حركة، ورجع كل كلمة، وتحريك كل شفة، ومستقر كل نسمة، ومثقال كل ذرة، وهماهم كل نفس هامة، وما عليها من ثمر شجرة، أو ساقط ورقة، أو قرار نطفة، أو نقاعة دم ومضغة، أو ناشئة خلق وسلالة؛ لم يلحقه في ذلك كُلْفَةٌ، ولا اعترضته في حفظ ما ابتدعه من خلقه عارضة، ولا اعتورته في تنفيذ الأمور وتدابير المخلوقين ملالة ولا فترة؛ بل نفذ فيهم علمه، وأحصاهم عده، ووسعهم عدله، وغمرهم فضله؛ مع تقصيرهم عن كنه ما هو أهله...إلخ.
وقبل هذا الكلام، في وصف ملكوت ذي الجلال والإكرام، الذي يجب أن يكون إليه قصد الناظرين، وتوجيه فكر المفكرين، ومنتهى اعتبار المعتبرين، وقد سقنا الفصلين لما فيهما من الموافقة للمقام، عند أولي الأفهام من الأنام.
قال ـ رضوان الله عليه ـ في وصف ملائكة الله المقربين ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ: ثم خلق سبحانه لإسكان سماواته، وعمارة الصفيح الأعلى من ملكوته، خلقاً بديعاً من ملائكته، ملأبهم فروج فجاجها، وحشى بهم فتوق أجوائها؛ وبين فجوات تلك الفروج زَجَل المسبحين منهم في حضائر /164

(2/164)


القدس، وسترات الحجب، وسرادقات المجد؛ ووراء ذلك الرجيج، الزلزلة والاضطراب، الذي تستك منه الأسماع، سبحات نورٍ تردع الأبصار عن بلوغها، فتقف خاسئة على حدودها؛ أنشأهم على صور مختلفات، وأقدار متفاوتات، أولي أجنحة تسبح جلال عزته، لاينتحلون ما ظهر في الخلق من صنعته، ولا يدَّعون أنهم يخلقون شيئاً مما انفرد به؛ بل عباد مكرمون، لايسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون؛ جعلهم الله فيما هنالك، أهل الأمانة على وحيه، وحمّلهم إلى المرسلين ودائع أمره ونهيه، وعصمهم من ريب الشبهات، فما منهم زائغ عن سبيل مرضاته، وأمدهم بفوائد المعونة، وأشعر قلوبهم تواضح إخبات السكينة، وفتح لهم أبواباً ذللاً إلى تماجيده، ونصب لهم مناراً واضحاً على أعلام توحيده؛ لم تثقلهم موصرات الآثام، ولم تحلهم عقب الليالي والأيام، ولم ترم الشكوك بنوازعها عزيمة إيمانهم، ولم تعترك الظنون على معاقد يقينهم.
إلى قوله، في وصفهم ـ صلوات الله عليهم ـ: ومنهم: مَنْ هو في خلق الغمام الدُّلَّح، وفي عظم الجبال الشمخ، وفي قترة الظلام الأبهم؛ ومنهم: من قد خرقت أقدامهم تخوم الأرض السفلى، فهي كرايات بيض قد نفذت في مخارق الهواء، وتحتها ريح هفافة تحبسها، حيث انتهت من الحدود المتناهية.
إلى قوله ـ رضوان الله عليه ـ: فهم أسراء إيمان، لم يفكهم من ربقته زيغ ولا عدول، ولا ونى ولافتور، وليس في أطباق السماء موضع إهاب، إلا وعليه ملك ساجد، أو ساعٍ حافد، يزدادون على طول الطاعة بربهم علماً، وتزداد عزة ربهم في قلوبهم عظماً.
إلى آخر ذلك الكلام الفائق، الذي لايحسن في وصفه إلا ماقاله الأعلام: هو فوق كلام المخلوق، ودون كلام الخالق.
وقد سقتُ هذا القدر منه لمحله في هذا الباب، ولاتخفى مواضع الحجة فيه على الناظر من أولي الألباب. /165

(2/165)


[كلام أئمة العترة في الصفات]
هذا، وقد سلك منهاجه المبين، نجوم الأئمة الهادين، من عترته الطاهرين (ع).
قال سبطه سيد العابدين، علي بن الحسين بن علي أمير المؤمنين (ع)، في توحيده: فأسماؤه تعبير، وأفعاله تفهيم، وذاته حقيقة، وكنهه تفريق بينه وبين غيره.
وقال (ع): أول عبادة الله معرفته، وأصل معرفته توحيده، ونظام توحيده نفي جميع صفات التشبيه عنه؛ بشهادة العقول أن كل صفة وموصوف مخلوق، وشهادة كل مخلوق أن له خالقاً.
إلى قوله (ع): وشهادة كل صفة وموصوف بالاقتران، وشهادة الاقتران بالحدث، وشهادة الحدث بالامتناع من الأزل، الممتنع من الحدث...إلخ كلامه.
وقال نجم آل الرسول، وصفوة أسباط الوصي والبتول، القاسم بن إبراهيم ـ عليهم الصلاة والتسليم ـ في كتاب التوحيد: وهو الواحد لا من عدد، ولافيه عدد، وليس شيء يقال: إنه واحد في الحقيقة، غير الله تعالى.
وقال في مجموعه: فأوّليته ـ سبحانه ـ آخريّته، وباطنيته ظاهريته؛ لايختلف في ذلك ما وُصف به، كما لايختلف ـ سبحانه ـ في نفسه، وكذلك أسماؤه كلها الحسنى، وأمثاله كلها العلى.
إلى قوله: كما قال ـ سبحانه ـ: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} [مريم]، ولن يوجد له سمي؛ إذْ لا تجد له كفياً.
وقال في جواب الطبريين: فهذه صفته ـ تبارك وتعالى ـ ليست فيه ـ جل ثناؤه ـ بمختلفة، ولاذات أشتات؛ ولو كانت فيه مختلفة لكان اثنين أو أكثر في العدد، وإنما صفته ـ سبحانه ـ هو.
فهذا صريح كلامه، يرد على من ادعى عليه أنه يقول/166

(2/166)


بمذهب البهاشمة، في الصفة الأخص.
وقد فسر القول الذي أخذوا له منه ذلك تفسيراً صريحاً لايحتمل خلافه، فقال في كتاب الدليل الكبير: وهذا الباب من خلافه ـ سبحانه ـ لأجزاء الأشياء كلها.
إلى قوله: وهي الصفة التي لايشاركه ـ سبحانه ـ فيها مشارك، ولايملكها عليه ـ سبحانه ـ مالك.
إلى قوله: وهذه الصفة هي قوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى:11]، وليس شيء سوى الله يوصف بأنه شيء لا كالأشياء.
وله صرائح غير هذا يطلع عليها من حقق النظر في كتبه (ع).
وقال صفوته، الإمام العالم، محمد بن القاسم (ع)، في كتاب الوصية: الحمد لله، الحي القيوم، ذي العظمة والجلال، الذي لم يزل، ولاشيء غيره.
وقال في حقيقة الإيمان به: إنه الذي هو خلاف الأشياء كلها.
وقال: حقيقة اليقين به، والمعرفة له، أنه لايدرك بحلية، ولاتحديد، ولاتمثيل، ولاصفة؛ وكيف يوصف ما لاتدركه العقول، ولا الفكر، ولا الحواس؟!
إلى قوله: وقد روي عن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أنه قال: ((تفكروا في المخلوق، ولاتفكروا في الخالق)) فاجعل فكرك في صنعته، تستدل به على عجيب فعله وعظيم قدرته، في كل مُحْدَث؛ ولاتفكر فيه، فإنك تتيه، وتهلك نفسك؛ فاستعمل العقل وتابع السمع، واستدل باليسير على الكثير تسلم.
وقال سبطه، إمام الأئمة، وهادي الأمة، يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم ـ عليهم الرضوان والتسليم ـ في كتاب الديانة: ليس قدرته وعلمه سواه؛ لم يزل عالماً قادراً، ليس لقدرته غاية، ولا لعلمه نهاية، وليس علمه وقدرته سواه، /167

(2/167)


ومن قال: علم الله، فهو الله، وقدرة الله: هي الله، وسمع الله: هو الله، وبصر الله: هو الله، فقد قال في ذلك بالصواب.
قال الإمام المهدي: وهذا قول أبي الهذيل.
وقال الإمام الهادي إلى الحق (ع): ومن زعم أن قدرته وسمعه وبصره صفات له.
إلى قوله (ع): وتلك الصفات ـ زعم ـ لا يقال: هي الله ولا هي غيره، فقد قال منكراً من القول وزوراً.
قلت: وهذا عين مذهبهم.
وقال في كتاب الرد على أهل الزيغ: فلما صحّ عند ذوي العقول والبيان، أن الحواس المخلوقة، والألباب المجعولة، لاتقع إلا على مثلها، ولاتلحق إلا شكلها، ولاتحد إلا نظيرها، صحت له لما عجزت عن درك تحقيقه الوحدانية، وثبتت للممتنع عليها من ذلك الربوبية؛ لأنه ـ سبحانه ـ مخالف لها في كل معانيها، بائن عنها في كل أسبابها؛ ولو شاركها في سبب من الأسباب، لوقع عليه ما وقع عليها من درك الألباب؛ فلما تباينت ذاته ـ سبحانه ـ وذاتها، وكانت هي فعله وكان هو فاعلها، بانت بأحق الحقائق صفاته ـ سبحانه ـ وصفاتها، فكان درك الأوهام والعقول لها بالتبعيض والتحديد، وكان درك معرفته ـ سبحانه ـ بأفعاله، وبما أظهر من آياته، ودلّ به على نفسه من دلالته.
إلخ كلامه (ع).
وقال إمام الجيل والديلم، الناصر للحق الأقوم، في كتاب البساط: وتمام توحيده نفي الصفات عنه، والتشبيه لخلقه؛ بشهادة كل عقل سليم من الرين بما كسب، والإفك فيما يقول ويرتكب، واتباع الأهواء والرؤساء؛ أن كل صفة وموصوف مصنوع، وشهادة كل مصنوع بأن له صانعاً مؤلفاً، وشهادة كل مؤلف أن مؤلفه لايشبهه، وشهادة كل صفة وموصوف مؤلف بالاقتران /168

(2/168)


والحدث، وشهادة الحدث بالامتناع من الأزل؛ فلم يَعْرِف الله ـ سبحانه ـ مَنْ وصف ذاته بغير ما وصف به نفسه، ولا إياه عبد من شبهه بأفعاله، ولاحقيقته أصاب من مثله بأجعاله، ولا صمده من أشار إليه؛ إذْ كل معروف بنفسه مصنوع، وكل قائم في غيره معلول؛ فبصنع الله وآياته يستدل به عليه، فيقال: إنه هو الأحد، لا أن له ثانياً في الحساب والعدد؛ وبالعقول السليمة يعرف ويعتقد، أنه باريء الأشياء، وإليه تأله العقول وتصمد؛ قال الله جل ذكره: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} [طه].
[انتقاد الإمام الناصر للحق على المعتزلة]
وقال (ع) منكراً على المعتزلة: ثم انصدعت من هذه الملة طائفة، تحلّت باسم الاعتزال.
إلى قوله: حتى خاضوا في صفات ذاته ـ سبحانه ـ وضربوا له الأمثال؛ وقد نهى الله عن ذلك، بقوله تعالى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ } [النحل:74]، وقال: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)} [البقرة]، وبالغوا في خلاف ذلك، ولم يرضوا، حتى تعدوا إلى الكلام في كل ما لايعلمون ولايدركون، خلافاً لله ـ تعالى ـ ولرسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وابتداعاً وتخرصاً وميناً، ورمياً بعقولهم وحواسهم من وراء غاياتها؛ وتكلموا من دقيق الكلام بما لم يكلفوا، وبما لعل حواسهم خُلقت مقصورة عن إدراك حقيقتها، وعاجزة عن قصد السبيل فيها.
وقال في ذلك:
قد غيّر الناس حتى أحدثوا بدعاً .... في الدين بالرأي لم تبعث به الرسل
وكلام أئمة الهدى السابقين على هذا المنهج، من غير اختلاف ولا عوج.
ومن العجب نسبة القول بالصفة الأخص إلى نجم آل الرسول (ع)، كما عزاه بعضهم! أو إليه وإلى حفيده الهادي إلى الحق كما زعم البعض /169

(2/169)


الآخر! مع صرائح أقوالهم هذه وغيرها، الدالة على خلافه، ومع نصوصهم على عدم الاشتراك في الذوات.
والقول بزيادة الصفات، مبني على ذلك كما هو معلوم؛ وأعجب من ذلك قول الجنداري المحكي عنه في حاشية شرح الغاية! حيث قال: إن أريد قدماء أهل البيت فلم يُسْمَع عنهم في ذلك نفي ولا إثبات.
إلى آخر كلامه ـ على قول صاحب الغاية ـ ولذا قال بعض أئمة أهل البيت (ع)، الكلام المتقدم.
فهذا كلام القدماء، النجوم العظماء، الذين مقدمهم إمام الموحدين، وسيد علماء الدين، أمير المؤمنين، وصنو سيد المرسلين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
[قصيدة الإمام الواثق بالله في عقائد أهل البيت (ع)]
قال الإمام الواثق بالله، في حكايته لأقوال الأئمة الهداة، من آل محمد ـ صلوات الله عليهم ـ:
لم يثبتوا صفة للذات زائدة .... ولا قضوا باقتضا حال لأحوالِ
ولا قضوا بثبات الذات في أزل.... وليس لله إلا صنعة الحالِ
دانوا بأن إله العرش ذوتها.... بلا احتذاءٍ على حذوٍ وتمثالِ
لو كانت الذات ذاتاً قبل يوجدها.... لكان كل محل سابق تالي
ما كان يخطر هذا من ركاكته .... للمصطفى صفوة الباري على بال
ولا علي ولا ابنيه وزوجته .... فقولهم من أباطيل الهوى خال
انظر بإنسان عين الفكر في خُطَبٍ .... لهم ومنثور لفظ سلسل حالي
قد لحبوا طرقاً للسالكين بها .... وبيّنوها بتفصيل وإجمال
ثم اقتفى إثرهم زيد ووالده .... وصنوه وابنه والحال كالحال
كذلك القاسم الرسي قال كما .... قالوا وفجّر ينبوع الهدى الحالي
فناظر الفلسفي حتى أَقَرّ له .... وتاب من دسّ تعليلٍ وإيغال
وصفوة القاسم الرسي محمدٌ الـ .... ـجدير منّا بإعظام وإجلال
/170

(2/170)


والهادي الهادي الخلق الذي خضعت .... له الملوك بتصغير وإذلال
كذلك الناصر الأطروش من ألفت .... يمناه طعن العدى والبذل للمال
والناصر الناصر الأديان مذ خَلِقَت .... وصنوه المرتضى والأيمن الفال
والقاسم بن علي والحسين ومن .... يحكيه في حسن أقوال وأعمال
وأحمد بن سليمان الذي قصمت .... سيوفه كل ذي كفرٍ وإضلال
ثم الخليفة عبدالله فهو على .... منوال آل علي خير منوال
وأحمد بن الحسين المَلْكِ إنّ له .... عقيدة عزلت في عكسها الوالي
ثم الإمام الأغرّ المنتقى حسن .... فقد قفاهم بأقوال وأفعال
ـ يعني: الإمام الحسن بن بدر الدين (ع) صاحب أنوار اليقين ـ.
كذا المطهر شيخ الآل قال كما .... قالوا فقدس روحاً خير قوالِ
كذاك قول ابنه المهدي خير فتى .... قوّام ليلٍ وصوّامٍ وصوّالِ
فافهم مسائلهم واتبع مقالتهم .... ولا تبع منفق التحقيق بالكالي
أما حميدان من شاد المنار فقد .... أحيا بهمته قولاً لهم بالي
وإن يحيى بن منصور جلاّ لهم .... أقوالهم حبذا المجلو والجالي
والمرتضى قال والمهدي كقولهم .... صلى الإله عليهم كل آصال
تبدي مقالتهم فحوى عقائدهم .... فدن بها تنج من غي وإخلال
وقد اخترت إيرادها بتمامها؛ لما فيها من الإفادة والإجادة، وقد سبق /171

(2/171)


صدرها، سلام الله على ناظم عقودها، وناسج برودها، ورحمته ورضوانه.
نعم، فهذا القول الأول، وهو قول أهل البيت (ع) السابقين، وأبي الهذيل والملاحمية.
وأما القول بأنها عبارة عما لايعلم كنهه ـ وقد نسب إلى زين العابدين (ع)، واختاره الحسن الجلال ـ فلا منافاة بينه وبين الأول؛ فالذات المقدس لايعلم كنهه، فهي عبارة عنه، وهو قول الآل.
[عودة إلى الأقوال في معنى صفات الله]
الثاني: أنها لعدم صفة النقص؛ فعالم لكونه غير جاهل، وقادر لكونه غير عاجز...إلخ.
قالوا: ربما أوهمه كلام نجم آل الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ ورواه الهادي بن إبراهيم عن جماعة أهل البيت (ع).
الثالث: أنها مزايا اعتبارية فقط، في غير صفة الوجود، فهي نفس الموجود، وهو قول أبي الحسين البصري وأتباعه.
الرابع: أنها أمور زائدة على الذات، لاهي الموصوف ولا غيره، ولاشيء ولا لاشيء؛ وقد استشكل عليهم قولهم فيها: الصفات لاتوصف؛ مع وصفهم لها بأنها ثابتة في الأزل، وذاتية، وواجبة، ومقتضاة؛ وأجيب بأنهم يريدون أنها لاتوصف بصفات وجودية زائدة عليها؛ للزوم التسلسل؛ وأما هذه الصفات التي وصفوها بها فهي اعتبارية لاوجود لها في الخارج.
هذا، وهي مقتضاة عن الذات، عند أبي علي وأتباعه، وعن الصفة الأخص، عند أبي هاشم وأتباعه.
الخامس: أنه ـ تعالى ـ يستحقها لمعان زائدة أزلية، وهو قول الكلابية.
قال الإمام عز الدين بن الحسن (ع): الأزلي هو القديم، إلا أن ابن كلاب لم يتجاسر على إطلاق القول بقدمها؛ للإجماع على أنه لاقديم مع الله - تعالى - وتجاسر الأشعري على ذلك لوقاحته، إ هـ. /172

(2/172)


السادس: أنه ـ تعالى ـ يستحقها لمعان قديمة قائمة بذات الباري ـ سبحانه وتعالى ـ وهو قول الأشعرية.
وقد اتفق النقل عنهم على إثباتهم للمعاني القديمة؛ ثم اختلف بعد ذلك في أنها نفس الصفات، أو أن الصفات مستحقة للمعاني القديمة عندهم.
والتحقيق ما أفاده الإمام عز الدين (ع) في المعراج؛ قال فيه: قال الإمام يحيى: وأما الأشعرية، فاتفقوا على إثبات المعاني القديمة، ثم اختلفوا، فنفاة الأحوال منهم يقولون: العلم هو نفس العالمية، والقدرة هي نفس القادرية.
ثم هذه الصفة عندهم معلومة بنفسها، موجودة في ذاتها؛ وهو مذهب الأشعري، وابن كلاب، وهو قول المتأخرين من محققيهم.
وأما مثبتوا الأحوال منهم، فعندهم أن القادرية، والعالمية، والحيية، صفات مضافة إلى المعاني، والله ـ تعالى ـ كما هو موصوف بهذه الصفات هو موصوف بالمعاني...إلخ.
وقالوا: لا هي الله، ولا هي غيره، ولا بعضها هو البعض الآخر، ولا غيره.
السابع: أنه تعالى يستحقها لمعان قديمة أغيار لله ـ تعالى ـ أعراض، حالّة في ذاته ـ سبحانه وتعالى ـ وهو قول الكرامية.
الثامن: أنه ـ تعالى ـ يستحقها لمعان لاتوصف بقدم ولا غيره، وهو قول الصفاتية؛ وأفاد الإمام عز الدين بن الحسن (ع) أنهم سليمان بن جرير الإمامي، وبعض أصحابه؛ وليس هذا القولُ قولَ الكرامية كما نسبه إليهم بعضهم.
التاسع: أنها غير الله ـ تعالى ـ وأنها محدثة بِعِلْمٍ محدث؛ وهو قول هشام بن الحكم، ومن معه من الرافضة، وجهم بن صفوان، ومن معه من المجبرة.
العاشر: قول الباطنية ـ أقماهم الله تعالى ـ وهو في التحقيق خارج عن أقوال المنتمين إلى الإسلام، وهو أنهم لايصفونه ـ جل وعلا ـ بنفي ولا إثبات؛ فلا/173

(2/173)


يوصف عندهم بوجود ولا عدم.
قالوا: الوجود تشبيه، والعدم نفي، فلا هو موجود ولا معدوم، ولا معلوم ولا مجهول، ولا موصوف ولا غير موصوف.
وقالوا: جميع الأسامي منتفية عنه.
هكذا حقق مذهبهم الأئمة الأعلام؛ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً؛ ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه.
وفيما سبق كفاية لذوي العقول، وقد بُسِطت النقول، وأقيمت البراهين من المعقول والمنقول، على القول الحق، وإبطال ما سواه من الأقوال في كتب الأصول، على أن أكثرها في نفس حكايته غُنْيَة عن إبطاله؛ سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
[السند إلى كتاب صلة الإخوان]
وسبقت الأسانيد في طرق المجموع وغيره، إلى السيد الإمام، عماد الإسلام، عماد العترة الكرام، وعابد الأسرة الأعلام، العالم الرباني، الولي بن الولي، يحيى بن المهدي، الزيدي نسباً ومذهباً، وقد مرّ ذكره مع ولده فخر آل محمد، وحافظ علومهم الأوحد، السباق المجتهد على الإطلاق، الذي بشّر به بعض أولياء الله ـ تعالى ـ في الحرم الشريف والدَه ـ رضي الله عنهم ـ أبا العطايا عبدالله بن يحيى بن المهدي ـ رضوان الله وسلامه عليهم ـ في التحف الفاطمية .
فأروي بذلك السند المسلسل النبوي، إلى السيد الإمام يحيى بن المهدي الزيدي جميع مروياته، ومؤلفاته، منها: الوسائل العظمى، ومنها: كتاب صلة الإخوان في سيرة صاحبه عابد اليمن، ولي الله الماشي على أقوم سنن، صاحب الآيات، والكرامات البينات، إمام أهل التقوى، مخلص /174

(2/174)


الولاية والمودة لذوي القربى، إبراهيم بن أحمد الكينعي ـ رضوان الله عليه ـ وهو كذلك قد مرّ في التحف الفاطمية .
وفي كتاب الصلة، جلاء القلوب، ودواء الكروب، بعرفان أولياء الله العارفين، وأصفيائه المتقين الموقنين، الفائزين بروح اليقين، ودرجات السابقين.
فقد ضمن ذلك الكتاب ما يبهر الألباب، من أحوالهم، ومناجاتهم وكراماتهم ـ رضي الله عنهم، وأعاد علينا من نفحات بركاتهم، آمين رب العالمين ـ.
ونورد هنا الحزب المبين ـ وقد سبق السند، وكيفية تلقين الذكر العظيم، في ذكر علي بن عبدالله بن أبي الخير، في سياق مشائخ محمد بن إبراهيم الوزير ـ.
وقد ساق هذا الحزب الكريم في طبقات الزيدية؛ وهو من الذخائر التي يحق أن يحرزها أولوا البصائر، متقرّبين بها إلى رب البرية، وقد اخترتُ نقله من كتاب صلة الإخوان.
قال فيه ـ قدس الله روحه في عليين، ورزقنا مرافقته ومرافقة آبائه السابقين في دار المتقين، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ـ بعد ما أورد السند، ما لفظه: ثم إن الفقيه الإمام، جمال الإسلام، وبركة الأنام، علي بن عبدالله بن أبي الخير ـ أيده الله تعالى ـ لقن سيدي إبراهيم بن أحمد الكينعي، الذكر العظيم، والسر الكريم، كما ذكر، وكذا الحزب المبين؛ ثم إن سيدي إبراهيم لقنني الذكر العظيم والحزب المبين، وألبسني الخرقة المباركة تبركاً بفعلهم، واقتباساً لأنوار مَنْ ذكر وأسراره.
وكتب الشريف تعريفاً، الفقير إلى الله، اللاجي إلى مولاه، يحيى بن المهدي بن قاسم بن مطهر الحسيني، أمده الله بالألطاف، وآمنه مما يخاف.
إلى قوله: فمن أراد الخير كله، والأنوار والأسرار، ويدخل الحصن الحصين، فليقرأه بعد كل صلاة وسننها، وهو على وضوء، جالساً، متربعاً، مستقبل القبلة، واضعاً راحتيه على فخذيه؛ وإن كانوا جماعة احتلقوا حلقة ذكر، فيقرأ الفاتحة عشر مرات، ويقرؤا /175

(2/175)


هذا الحزب المبارك، فيقول:
[الحزب المبارك]
سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فضلاً من الله ونعمة، شكراً من الله ورحمة؛ الحمد لله على التوفيق، ونستغفر الله من كل تقصير، غفرانك ربنا وإليك المصير.
سبحان الله العلي الأعلى الوهاب؛ سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، سبحانك ما عرفناك حق معرفتك، سبحانك ما قدرناك حق قدرك.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لايموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير (ثلاث مرات)، وإليه المصير.
لا إله إلا الله الملك الحق المبين، لا إله إلا الله الملك الحق اليقين، لا إله إلا الله أرحم الراحمين، لا إله إلا الله أكرم الأكرمين، لا إله إلا الله حبيب التوابين، لا إله إلا الله غياث المستغيثين، لا إله إلا الله الملك الجبار، لا إله إلا الله الواحد القهار، لا إله إلا الله الحليم الستّار، لا إله إلا الله العزيز الغفّار، لا إله إلا الله أبداً، حقاً حقاً، لا إله إلا الله إيماناً وصدقاً، لا إله إلا الله تلطفاً ورفقاً، لا إله إلا الله تعبداً ورقاً، لا إله إلا الله قبل كل شيء، لا إله إلا الله بعد كل شيء، لا إله إلا الله يبقى ربنا ويفنى كل شيء، لا إله إلا الله المعبود بكل مكان، لا إله إلا الله المذكور بكل لسان، لا إله إلا الله المعروف بالإحسان، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، ولاشيء بعده؛ لا إله إلا الله له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، /176

(2/176)


هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير؛ حسبنا الله ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير.
فإذا فرغ من الحزب كرر قول: لا إله إلا الله ـ يشدّد بالقوة على لفظ الإثبات (إلاَّ الله) ـ من مائة، إلى مائتين، إلى ثلاثمائة، إلى أربعمائة، إلى خمسمائة، إلى الألف، إلى أكثر؛ فإنه يرى العجائب والأنوار، والأسرار والأفكار ـ إن شاء الله ـ؛ لأن قول ((لا إله إلا الله)) ترفع الحجب.
وأوصى إبراهيم الكينعي ـ رحمه الله تعالى ـ أن يجعل هذا الحزب وسنده في كفنه مع ختمة القرآن.
قلت: اشتمل هذا الذكر المبارك العظيم، على الشهادة، وأربعة وعشرين تهليلة، وخمس تسبيحات، وحمدلتين، وله الحمد، وتكبيرة، وحوقلة.
ومن أسماء الله تعالى، على الجلالة والعلي (مرتين)، والعظيم، والرب والأعلى، والوهاب، والحي، والقدير، والملك (ثلاث مرات)، والحق (مرتين)، والمبين، واليقين، وأرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، وحبيب التوابين، وغياث المستغيثين، والجبار، والواحد، والقهار، والحليم، والستار، والعزيز، والغفار، والمعبود، والمذكور، والمعروف بالإحسان، والأول، والآخر، والظاهر، والباطن، والعليم، والسميع، والبصير، والوكيل، والمولى، والنصير (ستة وثلاثين، بغير التكرير)، وقد حررت هذا للتحقيق، فليتأمل والله ولي التوفيق.
ولاينبغي الإهمال لأمثال هذا الحزب الكريم، والذخر العظيم، لمن يرغب في الدرجة العلية، والسعادة الأبدية، من رب البرية، وإن لم يتمكن من ورده كما ذكر، فما لايدرك كله لايترك كله، وإن لم يكن وابل فطل، وهذه توصية لنفسي، ولذريتي، ولصالحي إخواني.
أسأل الله ـ تعالى ـ بجلاله، أن يصلي على رسوله وآله، وأن ييسر لي ولهم طريق الأسباب، إلى الفوز /177

(2/177)


بالزلفى وحسن المآب، إنه كريم منعم وهاب.
[من صلة الإخوان في عبادة إبراهيم الكينعي]
ونتبرك بإيراد المختار، مما ضمنه من آثار أولئك الأبرار، على سبيل الاختصار؛ لما فيها من التذكرة والاعتبار.
قال (ع) في صفة عابد اليمن، وعالم الكتاب والسنن، الشيخ الكريم الولي، إبراهيم بن أحمد الكينعي، ـ قدس الله روحه، وأحله دار المقامة، وألبسه حلل الكرامة ـ ما لفظه في الفصل الأول:
أما صفته وحليته، فهي معنى ما قاله باب مدينة علم الله، وحامل وحي الله، وأسد الله في الأرض، وحجته على الخلق، أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ حيث قال لهمَّام ـ رحمه الله تعالى ـ في صفة المتقين.
إلى قوله: والمدينة لاتدخل إلا من بابها؛ لأنه إمام أهل هذه الطريقة، ومفتاح علوم أهل الحقيقة.
وهذه هي الغرة المباركة: روى جعفر الصادق ابن محمد الباقر ابن زين العابدين علي بن الحسين، عن أبيه الحسين: أن رجلاً من أصحاب أمير المؤمنين (ع) قام إليه يقال له: همَّام، وكان عابداً مجتهداً، فقال: يا أمير المؤمنين صف لي المتقين كأني أنظر إليهم.
فتثاقل عن جوابه، وقال: يا همام، اتق الله وأحسن؛ فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
قلت: وقد حمل العلامة شارح النهج تثاقل أمير المؤمنين عن الجواب، على أوجه لاحاجة إليها؛ والأولى أن يقال: قد أوضح الجواب عن ذلك الوصي ـ صلوات الله عليه ـ في قوله: أما والله، لقد كنتُ أخافها عليه...إلخ، وليس البيان على /178

(2/178)


هذا الوجه بواجب، حتى يوصف بعدم جواز التأخير عن وقت الحاجة على الصحيح، والله أعلم.
(رجع) فقال همَّام: يا أمير المؤمنين، سألتك بالذي أكرمك بما خصك به، وفضّلك بما آتاك وأعطاك، لما وصفتهم لي.
فقام (ع)، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ثم قال: أما بعد، فإن الله خلق الخلق، وكان غنياً عن طاعتهم، لاتضره معصية من عصاه، ولاتنفعه طاعة من أطاعه، وقسم بينهم معائشهم، ووضعهم مواضعهم؛ فالمتقون فيها هم أهل الفضائل، منطقهم الصواب.
ثم ساق الخطبة الشريفة...إلى قوله: فلما انتهى إلى آخر كلامه (ع)، شهق همام شهقة كانت فيها نفسه؛ فقال أمير المؤمنين: هكذا العظة البليغة في أهلها.
قلت: في النهج: هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها.
قال السيد الولي يحيى بن المهدي (ع): سبحان المعطي من يشاء بغير حساب؛ ما أشبه الليلة بالبارحة!.
ثم أورد أبيات المتوكل على الرحمن أحمد بن سليمان (ع) من قصيدته المشهورة، منها:
فقد مات همّام لوعظ إمامه .... وصادف قلباً للمواعظ واعياً
ثم ساق في أوصافه؛ وأنا أورد منها، ومن أحوال أولئك الأعلام الأبدال ـ رضوان الله وسلامه عليهم ـ على اختصار، زبداً شافية، ونكتاً وافية.
قال (ع): هو رجل شمّر تشمير اللبيب، واستعمل عقله الذي هو حجة الله عليه، وتبصر ما يصير إليه، استصبح بكتاب الله، واستنار بسنة محمد بن عبدالله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وخاض في لججهما مدة من الزمان، فاستخرج منهما اللؤلؤ والمرجان، فاعتدلت فطرته، وصفت طبيعته، وسمت همته؛ نظر بعينه /179

(2/179)


الصحيحة لنفسه، ومهّد لغده ورمسه؛ إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور؛ قد أيقن بالخلف فجاد بالعطية، بذل نفسه، وجاهد عدوّه، ودله الله فاستدل، ولطف به فالتطف، وخاطبه ففهم، وعلّمه فعلم؛ استهان بالعاجلة فآثر العاقبة، ومهّد لطول المنقلب إلى عيشة راضية، في جنة عالية، قطوفها دانية، كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية؛ ترك فضول النظر فوفق للخشوع، ترك فضول الكلام فوفق للحكمة، ترك فضول الطعام فوفق لحلاوة الفكر والذكر والعبادة، ترك تخييلات الظنون فوفق للبهاء والهيبة، ترك عيوب الناس فوفق لإصلاح عيوب نفسه؛ لزم الخلوة والفكر فوفق للعلم بالله النافع، لزم القناعة فأعطي مفاتيح كنوز المنافع.
...إلى قوله: كثير علمه، عظيم حلمه، وثيق عزمه؛ إذا صمم على شيء فيه لله رضى لم يلوه شيء من الدنيا؛ يحب في الله بفقه وعلم، ويقطع في الله بحزم وعزم؛ مذكر للغافل، مقرب للجاهل، بلطف العبارة؛ ناصر للدين، محام عن المسلمين، باذل نفسه في جهاد الملحدين، مع أئمة الحق المبين، معترف بحق أهل البيت الصغير منهم والكبير، مقدم لهم في الصلوات وغيرها من القربات، معتقد أن ما نال الخير إلا ببركتهم؛ أب لليتامى والمساكين، كافل لإخوانه المودين؛ بنفسي من ساهم الملائكة والأنبياء في أفعالهم.
...إلى قوله: وأما صفة ذاته الزكية، المقدسة بالرحمة والتحية، فهو من أحسن الناس وجهاً، وأتمهم خلقة، أقرب إلى الاصفرار والرقة، ليس بالطويل ولا القصير، كأن بنانه الأقلام، ترعف بالبركة لمن قصده من /180

(2/180)


الأنام، بوجه أبيض قد غشاه نور الإيمان، وسيماء الصالحين قد أحاط به من كل مكان.
...إلى قوله: إذا خرج نهاراً ازدحم الناس على تقبيل يده، والتشبث بأهدابه، والتبرك برؤية وجهه، وهو يكره ذلك، وينفر عنه؛ يغضب إذا مُدح، ويقول: يا فلان، دعْ هذا لمن يفرح به؛ ويُسَرّ إذا نُصح؛ من رآه بديهة هابه، وانفتح له قلبه محبة، ويقول الرائي: من هذا الذي ملأ قلوبنا نوراً، ووجوهنا حبوراً؟
فيقال: هذا إبراهيم الكينعي.
فيقول الرائي: سبحان من يصطفي ويعطي.
من قَبّل يده المباركة، وجد لها حلاوة وعليها طلاوة، ويود تقبيلها على الدوام؛ ما وضع يده على قلب قاس إلا رق وانشرح، ولا على أليم إلا سُرِّي عنه ولعينيه فتح؛ إذا تلا الكتاب العزيز، سمعت في جوفه الأزيز، إذا رآه العلماء تواضعوا لرؤيته، وعكفوا على اقتطاف ثمرات حكمته، وإذا رآه أبناء الدنيا عافوها.
...إلى قوله: وإذا رآه أهل المعاصي والفسوق أعجمهم القلق، ورشحت أجسادهم بالعرق، وارتعدت أوصالهم بالفرق، واستحيوا من الله عند رؤيته، وأضمروا التوبة؛ وسأذكر من تاب على يديه في موضعه ـ إن شاء الله تعالى ـ.
...إلى قوله في الفصل الرابع في رياضاته: لما عرف بعين التحقيق، وفكرة التوفيق، عدوّه الملازم، وهي النفس الأمارة، ثاغرها جهاراً، وسلّ عليها سيف العزم ليلاً ونهاراً، وإعلاناً وإسراراً، ومنعها فضلات الطعام، والشرب والمنام، وقلل مخالطة الأنام، مدة من الزمان؛ حتى خرجت من النفوس الأمارة بالسوء، إلى النفوس اللوامة.
...إلى قوله: كنت أسمعه يحاسبها، فأظن معه رجالاً يخاصمونه، حتى أشرف عليه، وليس معه أحد مدة من الزمان؛ حتى خرجت من النفوس اللوامة إلى النفوس المطمئنة، فتروحت واطمأنت، وانشرحت مدة من الزمان، فتعلقت بالمولى، ومحبته وخدمته، حتى رضيت وقنعت.
قال لي يوماً: لو أعطيت /181

(2/181)


الدنيا بجوانبها، ومفاتيح الجنة كلها، لما اخترت إلا وقوفي بين يدي الله ساعة أناجيه.
ولاتخرج النفس الأمارة إلى النفس اللوامة إلى النفس المطمئنة إلا بعد الرياضة التامة، والمثاغرة القوية، والمحاسبة العظيمة، والحرب خدعة، وهي التي قال الله تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(27)ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً(28)فَادْخُلِي فِي عِبَادِي(29)وَادْخُلِي جَنَّتِي(30)} [الفجر].
أما رياضته في المطعم: فاعتمد على الصيام الأبد إلا في العيدين، وأيام التشريق.
...إلى قوله: شاهدته يوماً يقع من قامته من غلبة النوم، فجاهدها بقلّة الإدام مدة.
...إلى قوله: حتى انقادت له بأنها لاتناول الطعام إلا في السحر، فاعتدل على ذلك، وديدن عليه واستقام، وانشرح حتى الموت.
سمعته يقول: كم من ليلة أسابق الفجر على عشائي، فتارة أسبقه وتارة يسبقني.
...إلى قوله: وقف على هذه الصفة من الصيام والقيام، زهاء ثلاثين سنة، حتى بلغ من الضعف غاياته، ومن السقم نهاياته، حتى رق جلده، ويرى بياض في غالب عظمه من رقة جلده.
...إلى قوله: ومع هذا كان صليباً في الصلاة، وقوياً على القيام، والصيام، والسير إذا أحب، المرحلة أو المرحلتين أو الثلاث، ما أفتره فيما أحب هذا الضعف عن صيام ولا قيام؛ صدق ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ حيث يقول: ((صوموا تصحّ أجسامكم من الآلام، وقلوبكم من الأسقام))، ما علمت أنه مرض في المدة هذه إلا يسيراً عارضاً، إلا مرة ضعف ضعفاً عظيماً، حتى يظنه الرائي خرقة ملقاة، وقعد ثلاثة أيام ملقى على قفاه، فقال له أخوه سعيد بن منصور الحجي ـ رحمه الله تعالى ـ: إبراهيم، اذكر ربك؛ فقام منزعجاً بأعلى صوته: ياسعيد، لم أنسه فأذكره، ياسعيد، لم أنسه فأذكره؛ ثلاثاً أو أربعاً، ثم استلقى وبكى.
...إلى قوله في وصفه إذلال نفسه: كان لايعد نفسه إلا من أعظم /182

(2/182)


الأعداء.
...إلى قوله: ولا افتخر بشيء مما على الدنيا؛ زاره الإمام الناصر أمير المؤمنين محمد بن علي بن محمد بمدينة ذمار، وكان ـ رحمه الله ـ في دهليز لبعض إخوانه، فسلّم عليه، وقبل يده في الظلام.
وقال للإمام: إن علم الله مني محبة لوصولك إليّ لم يكن لي جزاء إلا النار.
وزاره رجل فاضل، فقال: أتينا من أرض بعيدة لزيارتك، فقال: أمثلي يزار؟ أمثلي يؤتى؟ وبكى حتى أبكى، وغشي عليه طويلاً؛ فسقط ما في يد ذلك الرجل، وظن أن قد فارق الحياة، وتلك غشية تصيبه الفينة بعد الفينة.
...إلى قوله: وكان إذا خالط الإخوان فقلبه مع الله، وجسده بينهم؛ وإن سكت فلسانه يتقلب بذكر الله، تارة يقول: يا الله يا الله، وتارة يقول: الله الله؛ وإن تكلّم بكلمة شخص بعدها ببصره إلى السماء للمراقبة.
...إلى قوله: كانت نيته في كل صباح محدودة، أن كل قول، وعمل، وترك، ومخالطة، وعزلة، وفكر، وذكر، وإيناس مسلم، وتذكير غافل، وإيثار، وابتداء سلام لكل وجه حسن، يقرب إلى الله للوجه الذي يريده على الوجه الذي يريده؛ وكان يحث إخوانه على هذه النية؛ ومن كان له مال أمره بالزيادة على هذه، أن كل ما خرج من يده لايرجع إليه، ولاعوضه، من صغير وكبير، ومثقال ذرة من حق وجب يعلمه الله عليه إن كان، وإلا فقربة وصدقة، وعلى كل وجه حسن يريده؛ وكان يحب الوقوف في المساجد إذا كان معه من يدافع عنه الناس؛ لأنه لا يُكَلَّم في المسجد، ولا يَتَكَلَّم فيه؛ وإذا وصله غريب أخذ بيده وخرجا عن المسجد، وكالمه وفاكهه، وقضى حاجته؛ وكانت أخلاقه كأخلاق الأنبياء (ع).
...إلى قوله: الفصل الخامس في أوراده، وعباداته، وأفكاره، وإخلاصها تعظيماً /183

(2/183)


لجلال الله، وكبريائه، لما عرف الله حق معرفته، وراضَ نفسه رياضة جذبته إلى خدمته، وخافه مخافة لو قسمت على أهل دهره لكفتهم، وشكره شكر ملائكته وأنبيائه الذين عصمهم، ورجاه رجاء أهل المحبة الذين قربهم، وبكأس مودته أرواهم، وبرضاهم عنه أرضاهم، وبتبجيله حباهم، وبمناجاته أصفاهم؛ فوظف ـ رحمه الله ـ أيامه ولياليه، وجميع ساعاته، أوراد الصالحين من الذكر، والفكر، والصلوات والتلاوات، بحيث لو فاته شيء قضاه ولو شقّ، مع أن اشتغاله عن ذلك ليس إلا في خير.
...إلى قوله: وما كان مأثوراً في الوضوء وبعده، ومن الصلوات، فهو يفعله ويلاحظ عليه، ويسأل عنه علماء الحديث، ويباحثهم عن سندهم.
ثم بسط القول في أنواع عبادته، سفراً وحضراً، بما يتعسر، ولايكاد يتيسر، إلا لمن يسره الله تعالى عليه فهو يسير، والله على كل شيءٍ قدير.
قال: وكنا نسمع ونروي في كتب العبادات عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) أن أوراده الصالحة في اليوم والليلة ألف ركعة غير الأذكار وإملاء الحكمة؛ وكذا عن زين العابدين علي بن الحسين، كان له خمسمائة، نخلة يصلي عند كل نخلة ركعتين كل يوم، غير التلاوة والأوراد، ونشر العلوم؛ وكذا عن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب صلى الفجر بوضوء العشاء ستين سنة، فإذا كان آخر الليل، قال: إلهي لم أعبدك حق عبادتك.
قلت: وكذا ابن أخيه علي بن الحسن، والد الإمام الحسين صاحب فخ؛ ما كانوا يعرفون الأوقات في السجن إلا بأوراده.
وإمام الأئمة الهادي إلى الحق، كان يقطع الليل ركوعاً وسجوداً ونشيجاً، حتى يسمع وقع دموعه يتقاطر على /184

(2/184)


الحصير من خلف مكانه.
والإمام الحجة المنصور بالله عبدالله بن حمزة، صام، وقام، خمس عشرة سنة متصلة.
وغيرهم من أئمة الهدى؛ مع ما هم فيه من الجهاد والاجتهاد، والاهتمام بهداية العباد ـ صلوات الله عليهم وسلامه ـ ولو فتحنا الكلام في هذا الباب، لأدخلنا إلى ماليس في حساب.
قال: فإن قلتَ: أنى يتهيأ هذا العمل الكثير في هذا الوقت اليسير لهذا الرجل، ولهؤلاء السادة؟
قلت: إن ذلك يسير على من يَسَّره الله عليه؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)} [محمد]، ولقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } [البقرة:261]، ((والخير عادة)) ـ قاله صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
وروي: أن رجلاً صالحاً من أهل صنعاء في زمان الهادي إلى الحق (ع) رأى النبي الخضر في جامع صنعاء، فقال له: أنت النبي الخضر؟
قال له: نعم.
قال: ادع الله لي.
فقال له: يسر الله عليك طاعته.
فقال له: زدني.
فقال: ما أجد زيادة.
[في تفكر الكينعي]
...إلى قوله: ومن أوراده الصالحة التفكر في آلاء الله، ومخلوقاته، وفي زوال الدنيا، وأحوال الآخرة؛ كان له ورد بالتفكر بالنهار، وورد بالليل؛ دخلتُ عليه يوماً وهو مغشي عليه، فرفعت رأسه إلى حجري، وفاتحته الكلام، فانتعش وقال: هاك هذا القرطاس اقرأه؛ فأخذته من يده المباركة، وقبلتها، فإذا /185

(2/185)


فيه ما نسخته بخطه:
حسبي ربي، نقل من التصفية للديلمي عن بلال أنه قال: أَذَّنْتُ أيام رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لصلاة العتمة، وانتظرت خروج رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ فلم يخرج من الدار، فدخلت إليه فوجدته ساجداً، ويسيل من دمعه نهر، فقلت: يارسول الله، الصلاة؛ فرفع رأسه من السجود، فقلت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله، أشرّ أصابك؟
فقال: ((نزل جبريل، وقال لي: يامحمد، إن صلاتك، وصومك، وحجك حسن؛ ولكن انظر بعين العبرة إلى القدرة إلى السماء مع طوله وعرضه، وغلظه وتأليفه، وهو معلق بلا علاق ولا عمد، فانظر بعين العبرة إلى قدرتي؛ فتفكر ساعة أحبّ إليّ من عبادة ألف سنة)).
قلت: وقد روي بنحو هذا في تفسير قوله عز وجل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)} [آل عمران]، وذكره في الكشاف.
قال: وفتح يوماً كتاب التصفية للديلمي ـ رحمه الله ـ وقد علمه بخيط من صوف، قال فيها: (فائدة شافية كافية) التفكر على خمسة أوجه:
الأول: في صنع الله، وعظمته، وقدرته؛ فمنه تتولد المعرفة.
الثاني: في نعمائه، وإحسانه؛ فمنه تتولد المحبة.
الثالث: في وعده ووعيده، وشدة انتقامه؛ فمنه يتولد الخوف، والزهد، والورع، وترك الاشتغال.
الرابع: في ألطافه، وحسن صفاته، وإرادته لصلاحك، وإرشادك؛ فمنه يتولد الرجاء، والرغبة، والمواظبة على ما يقرب إليه. /186

(2/186)


الخامس: التفكر في سوء نفسه، وهتك حرمات ربه، وقبح معاملته إياه؛ فمنه يتولد الحياء، وذلة النفس.
فقال: اكتب في الحاشية: يالها من كلمة شافية موقظة.
وسرتُ معه إلى خبان مدحج لزيارة الإخوان ثمة، فانتهينا إلى فوق هجرة الأخشبي ببني قيس تحت عِرفةٍ شاهقة، فاستقام مبهوتاً، فبهتنا حذراً عليه من التردي في ذلك الشاهق، فوثبت عليه أنا وأخ لنا أمسكناه، فقال: تقولون مم خلق الله هذه الجبال، والصخرات الصم؟
ثم ارتعش ملياً وغشي عليه، ثم أفاق، وقال: سبحان من خلق هذه الجبال، من عدم على غير مثال.
ثم قال: قُتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه.
ثم قال: الذي خلقها سوداء وغبراء يجعلها جوهراً شفافاً، كما روي أن حصباء الجنة من درّ وياقوت؛ فسبحان من أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، ولم يعجل على من عصى، وستر على من غفل وجهل بالمولى.
...إلى قوله: ثم قال: والحوت الذي أقسم الله به: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)} [القلم]، لو أدرجت السماوات السبع، والأرضون السبع، في أحد منخريه ما تبرم بهنّ.
...إلى قوله: الذي خلق هذه الجبال من عدم، قادر أن يجعل فيها روحاً.
ثم قال: إن هذا الجبل من مكة إلى عدن يسمى في العراق جزيرة اليمن؛ لأن البحر من جميع جوانب هذه الجزيرة، من عدن إلى مكة، إلى الشحر إلى تهامة؛ ويحكى أن بحر عدن، وبحر هرموز ـ كذا في الأصل ـ كالكمين للقميص، وبحر الهند كالقميص، والله أعلم.
ثم قال: قيل: إن الأرضين السبع بجنب سماء الدنيا كحبة خردل، ثم السماء الدنيا تحت الثانية كريشة في فلاة، /187

(2/187)


والأرضون السبع، والسماوات السبع، بجنب العرش العظيم، كخاتم في أرض فلاة.
قال: وذكر الثعلبي في قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)} [الحاقة:17]، قال: على صورة الوعول، ما بين ظلفه إلى ركبته خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام.
فما قمنا من ذلك المقام إلا وقد تقطعت أوصاله من تململ أعضائه، وما سرنا إلا ورجلان يمسكان بيده.
وقال يوماً في معنى قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات]: يا ابن آدم، سافرت المشارق والمغارب لتعرفنا، فلو سافرت في نفسك لوجدتنا في أول قدم، درت البلاد تطلبنا، ونحن أقرب إليك من حبل الوريد، ونحن معكم أين ما كنتم.
...إلى قوله: وأفكاره ـ رحمه الله ـ عجيبة، ونتائجه غريبة، وعلومه باهرة، وحكمه ظاهرة.
قال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من أخلص لله أربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه))، فكيف من أخلص لله عمره، وهو خمسون أو ستون سنة؟!‍!
قال: قال له بعض إخوانه: أما أنا، فإن الصوم يشق بي.
فقال ـ رحمه الله ـ: وأنا الإفطار يشقّ بي، سبحان الله، الذي أنت تأكله بالنهار تأكله في الليل، وتنال درجة الصائم الذي ليس له جزاء إلا الجنة، كما في الخبر.
وإن لربي صفوة من عبيده .... قلوبهم في روض حكمته تجري
...الأبيات.
إلى قوله: وجدتُ بخط يده المباركة ما نسخته: حسبي ربي /188

(2/188)


قال شقيق بن إبراهيم البلخي ـ رحمه الله تعالى ـ: حصن العمل ثلاثة أشياء:
الأول: أن يرى العبد أن القوة على العمل من لطف الله وتوفيقه؛ ليكسر به العجب.
الثاني: أن يبتدي العمل بالإخلاص؛ ليكسر به هوى النفس والشيطان.
الثالث: أن يبتغي ثواب العمل من الله؛ ليكسر به الطمع من الناس.
ولا يحكم ذلك إلا بشيئين:
أحدهما: أن يعرف قطعاً أن أهل السماوات والأرض، لو أرادوا أن يزيدوا في رزقه حبة خردل، أو ينقصوا، أو يقدموه قبل وقته، أو يؤخروه، لم يقدروا على ذلك أبداً.
الثاني: لو اجتمعوا على أن ينزلوا به مكروهاً لم يرده الله به ـ قلت: أي لم يمكنهم الله تعالى منه، فالمعنى لم يرد تمكينهم منه، بل دفعهم، قال:ـ لم يقدروا على ذلك؛ أو يدفعوا منه مكروهاً أراده الله ـ تعالى ـ به لم يقدروا على ذلك.
قال: ووجدت بخطه: قال الوافد للعالم من أهل البيت (ع).
قلت: المشهور أن الوافد قاموس آل محمد، محمد بن القاسم؛ والعالم والده نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم ـ صلوات الله عليهم ـ وهو كتاب من جوامع العلم، وسواطع الحكم، كله سؤال من الوافد، وجواب من العالم، /189

(2/189)


وقصدهما ـ صلوات الله عليهما ـ إلقاء الحكمة؛ فهو من باب قوله:
نحن أدرى ـ وقد سألنا ـ بنجدٍ .... أقصير طريقه أم طويلُ؟
وكثير من السؤال اشتياق .... وكثير من رده تعليلُ
وقوله:
في كل يوم أستفيد تجارباً .... كم عالم بالشيء وهو يسائلُ
(رجع): صف لي الإخلاص.
قال العالم: الإخلاص مثل نور الشمس، أدنى غيم أو غبار يكدر من ضوئها قدر ذلك الغبار؛ إن كان رياءً محضاً أظلمت، وإن كان مشوباً بغرض دنيوي، أو تعجيل منفعة، كان ذلك على قدر ذلك؛ فافهم، فمن كان لله أخوف فهو به أعرف.
ومن هاهنا أفرغ القلم؛ فهذا ما انتهى إلي من جواهر حكمته في هذا الفصل؛ أسأل الله بذاته العظمى، وأسمائه الحسنى، أن ينفعنا بما علمنا وعرفنا، ولاجعله حجة علينا.
في بعض كتب الحكمة: إذا كان يوم القيامة، قامت كلمة الحكمة بين يدي الله ـ تعالى ـ وتقول: يارب، أنصفني من هذا، وقف عليّ، ولم يعمل بي.
اللهم احملنا على عفوك، ولاتحملنا على عدلك.
قلت: وأنا أقول حامداً لله ـ تعالى ـ على جلاله، ومصلياً ومسلماً على محمد وآله، متوسلاً إليه ـ تعالى ـ بما توسل، سائلاً له ـ جل وعلا ـ ما سأل.
أرباه أرجوكَ فيما رجا .... إلهي فحقق رجا سائليك
[من مكارم أخلاقه]
قال في الفصل السادس، في مكارم أخلاقه، وتحمله لمشاق إخوانه: ومنها: أنه جدد العزم والنية، وارتحل إلى مكة والحجاز، في تحمل مشقة السفر العظيم، في سبب دَيْن علق في ذمة بعض خواص إخوانه، فشمر لله - تعالى - /190

(2/190)


وصِلَة لرسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، ولأخيه السيد الهادي بن علي بن حمزة، وهو زهاء مائة وخمسين قفلة؛ فوصل إلى مكة المشرفة، وجمعها من حيث أراده الله، وسار بها بنفسه إلى الصفراء، وينبع؛ وسلم دين أخيه، واستبرأ من ورثة عدة، وكتب إلى أخيه: بأني قد قبلت لك، وقضيت عنك، وسلمت ما عليك إلى أرباب الدين، وحصلت لك البراءة التامة، وعليها حكم الحاكم، وشهادة الشهود.
جعل الله هذه الصلة من أثقل ما يجد في ميزانه، وأعاد من بركاته على كافة إخوانه.
قال: ومن مكارم أخلاقه المبرورة، وسجاياه المشكورة، أنه كتب إلى بعض موِدّيه من مكة المشرفة.
قلت: المكتوب إليه المؤلف السيد الإمام الرباني، يحيى بن المهدي (ع)، وانظر إلى تواضع أولياء الله لآل رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ مع أن إبراهيم شيخه، ومربيه ـ رضوان الله عليهم ـ.
قال: نسخته: حسبي ربي وكفى، ونعم الوكيل؛ وصلّ يارب على محمد وآله وسلم يا إلهي؛ أفقر الفقراء إلى الملك الأعلى، محبة بلسانه وجنانه، المؤمل أن يُقَبِّل تراب أخمص نعليه، وما ذاك على ربي بعزيز ـ إبراهيم بن أحمد ـ أما بعد: فإني أحمد الله، الذي لا إله إلا هو، حمداً كثيراً مباركاً فيه؛ وصلني كتابك فشفاني، وسكن اشتغالي بك، فليس في قلبي أقدم منك كما يعلم ربي؛ وكذا من رحمة الله تزوره آناء الليل وأطراف النهار، أخونا وحبيبنا، سعيد بن منصور الحجي؛ فلقد أوحش علي اليمن بعده، ومَضَّني فراقه، وسرني هذه الوفاة التي حصلت له على الإقبال إلى الآخرة، كان من الأفاضل المقربين، ومن خيرة الأولياء والصالحين، جمع الله ـ تعالى ـ بيننا وبينه حيث لا افتراق بعده.
تعلم أن أحوالي جميلة، غاية ما يكون من أمور الدنيا /191

(2/191)


والآخرة، ما أعتقد يحصل لي خير إلا من دعائك ودعاء أختي مريم، كان خاطرها معي، فرحم الله مريم، وأصلح أمورنا الجميع، بمحمد وآله.
قلت: هي أخت عابد اليمن، الفاضلة العابدة، مريم بنت أحمد الكينعي ـ رضوان الله عليهم ـ.
قال: وتعلم أن لي في مكة المشرفة أربعة مواضع، كلها أشاهد فيها البيت العتيق؛ ومن ألطاف الله الجميلة معرفتي بهذا السيد العالم، محمد بن علي التجيبي الحسيني ـ حسن الله تعالى به حال دنياي وآخرتي ـ وكنت في جنب علمه في علم المعاملة، كمثل أهل شعوب في جنب عالم حاز علم الشريعة، وعلم الحقيقة؛ شاب حدث، تأتيه الفتوح من البلاد، وما عليه إلا مرقعة للحر والبرد، وله تصانيف في علم الشريعة، وعلم الطريقة، وله فضائل جمة؛ وقد كتب إليك وواخيته لك، وصدر لك بسجادة ومسبحة، وهو رجل زادني به الله هدىً ونوراً، وبهجةً وحبوراً؛ والفقيه علي بن أبي القاسم الشقيف ناظم لأموري، معيناً لي؛ فجزاهم الله عني خيراً؛ والشريفة المفضلة والدتك.
قلت: هي الشريفة الطاهرة، جوهرة النبوة الفاخرة، ابنة الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة، أم السيد الولي يحيى بن المهدي (ع).
قال: والسيد الولي صنوك.
قلت: هو السيد الإمام أحمد بن المهدي، أخو عماد الإسلام المؤلف.
قال: والسيد الحبيب ولدك عبدالله.
قلت: هو السيد الإمام، حافظ علوم العترة الكرام، أبو العطايا عبدالله بن يحيى بن المهدي (ع).
قال: وكافة الأحباب والأصحاب؛ الله يتحفهم بأشرف السلام، وأزكى التحية والإكرام.
[مودة الكينعي لأهل البيت(ع)]
قال السيد الإمام، عماد الإسلام (ع): واستخرت الله تعالى، /192

(2/192)


وذكرت لمعة شافية، وسحابة بالبركات هامية، في مودته لآل محمد جملة، وفي الإمامين الأكرمين، الذين أحيا الله بهما دينه، وأعلى رسمه، وطمس بحميد سعيهما رسوم الجاحدين، ومآثر الفاسقين، وسنن المجرمين، وعتاة الظالمين: المولى الإمام المهدي، لدين الله العلي، علي بن محمد بن علي بن الهادي لدين الله ابن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وولده الإمام الناصر لدين الله، أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، رحمة الله الشاملة على البلاد والعباد، ونقمته على الملاحدة الباطنية وذوي العناد، صلاح الأمة، وكاشف الغمة، محمد بن علي بن محمد؛ توّجهما الله تعالى بتاج الكرامة، وأحلهما دار الأمن والسلامة، مع النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، وجزاهما عن الإسلام خيراً، وعن المسلمين ثواباً جزيلاً، وأعاد من بركتهما على العارف والسامع والمبلغ، وصلى الله عليهما وعلى آبائهما، بأفضل الصلاة والسلام، وأزكى التحية والإكرام، وفي حلية إخوانه المذكورين، وفضلاء دهره من العلماء والصالحين؛ لنفوز بحبهم، ونتبرك بذكرهم ـ إن شاء الله تعالى ـ.
ثم ساق في فضل أهل البيت (ع)، وقد تقدم ما فيه الكفاية إن شاء الله تعالى.
قال: وكان إبراهيم الكينعي يحب أهل البيت محبة ظاهرة، لايتقدمهم في قول ولا عمل، ويقول: يهنيكم يا آل محمد الشرف العلي في الدنيا والآخرة.
وأروي عنه خبراً يسنده إلى رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((لاتزول قدمُ عبد على الصراط حتى يسأله الله عن أربع: شبابه فيم أبلاه؟ وعمره فيم أفناه؟ وماله من أين اكتسبه وفيم وضعه؟ وعن حبنا أهل البيت؟)) /193

(2/193)


- قلت: وقد تقدّم -.
وكان رحمه الله يستبرئ ممن عرف من أهل البيت، ويقول: لسنا نقوم لكم بحق يا آل محمد، فأحلوا علينا، مع أنه كان الحفي بآل محمد؛ ما علمت أنه دخل عليه شريف إلا يقف بين يديه وقفة العبد الذليل المطرق ـ جزاه الله عن آل محمد خيراً ـ وكان ينهى إخوانه عن الصلاة البتراء.
...إلى قوله: وكذا يصلي، ويهدي ثوابها إلى الأئمة السابقين، من علي (ع) إلى يومنا هذا في الأغلب، في كل يوم وليلة من الصلوات، وختم القرآن الكريم، ويقول ـ رحمه الله ـ: أفعل ذلك لعل الله ـ تعالى ـ يقبله مني ببركاتهم وأسرارهم.
قال: وأما فضل الإمام المهدي لدين الله، علي بن محمد بن علي بن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ومودته فيه، ففضله ظاهر كظهور الشمس، وفضائله ـ أعاد الله من بركاته ـ تروى من غير لبس، جمع (ع) علوم الاجتهاد في سنين يسيرة، وحاز خصال الإمامة من بلوغ درجة الاجتهاد في العلوم كلها، ومكارم الأخلاق، التي لم يسبقه إليها أحد، التي فاقت وراقت؛ والكرم الذي عمّ واشتهر، وحسن التدبير، والسكينة والوقار.
[من صلة الإخوان في الإمام يحيى بن حمزة (ع) وأولاده]
فلما توفي الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة بن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أكسفت شمس العلوم والبركات، على كافة المسلمين.
ثم ساق في فضل الإمام يحيى (ع).
قال: وكان زاهداً في الدنيا، كان تحته بساط خلق، فقيل له: لو اتخذت بساطاً جديداً؟
فقال: لو شئت أن يكون بساطي من ذهب وحرير لفعلت؛ ولكن لنا برسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أسوة، جهز ابنته سيدة نساء العالمين، ابنة سيد المرسلين، زوجة سيد الوصيين، بوسادة من أَدَم، حشوها ليف، /194

(2/194)


وإهاب كبش.
قال: وكان له ـ أي الإمام يحيى (ع) ـ سبعة أولاد علماء، حلماء، كرماء، عبّاد، زهاد، مجاهدون.
عبدالله الكبير، حاز شروط الإمامة كلها، وله وقعات، وملاحم في حرب الباطنية بصنعاء، وغيرها.
ومحمد عالم، فاضل، فائق الكرم، جامع لخصال الشرف، تحمّل مشقة هجرتهم حوث، وكان العلماء والدرسة في بيته إلى قدر الخمسين أو الستين، ومن الضيف إلى قدر ذلك وأكثر.
وإدريس كان عالماً، فصيحاً، شجاعاً، له ملاحم.
وحسين كان فاضلاً، حاز خصال الكمال برمتها، وله جهاد عظيم، وكان له كرامات، وبركات تروى.
وأحمد كان عالماً، فاضلاً، زاهداً، عابداً، متواضعاً، متحنناً على المسلمين.
والهادي كان عالماً، فاضلاً، خرج من ماله كله، ولبس الخشن من الصوف، وانتعل المخصوف، وللهادي عشرة أولاد علماء، حلماء، فضلاء، كرماء.
[في نبذة من الفضلاء حفُّوا بالإمام المهدي علي بن محمد (ع)]
والمهدي كان عالماً، فاضلاً، زاهداً، عابداً؛ سمعت حي الإمام الواثق بالله المطهر بن محمد بن المطهر (ع)، قال: أولاد الإمام يحيى بن حمزة سادات السادات، بهم إلى الله تستنزل البركات.
قال: فلما توفي الإمام المؤيد بالله أظلمت الأقطار، وارتاعت الأمصار، واجتمع علماء صعدة، وعلماء ظفار، وعلماء حوث، وعلماء مدحج، إلى قدر ثلاث مائة، أو يزيدون، وقعدوا يطلبون الإمام المهدي (ع) بالقيام شهرين كاملين، وشهدوا له أن القيام هو الواجب عليه، وكان يشار في ذلك الموقف إلى من قد جمع خصال الكمال، السيد /195

(2/195)


الإمام، محمد بن أبي القاسم، والسيد الإمام الهادي بن يحيى بن الحسين، والسيد الإمام داود بن يحيى بن الحسين، والسيد الإمام محمد بن علي بن وهاس، فعرفوا كماله، فأوجبوا عليه، وقام بالأمر لله قاصداً، ولأعدائه محارباً، وانتشر فضله، وعمّ نائله؛ وله كرامات مشهورة، وأوراد مسطورة، منها: أنه كان يقرئ في مسجد موسى بقطيع صنعاء، وحلقة قراءته نيف وعشرون، فجاء القاضي الشامي ويده عضباء قد يبست، فقال: يا مولانا، هذه يميني كما ترى.
فأمسكها الإمام (ع)، ونفث فيها، وتلا عليها، فامتدت أصابعه وكوعه، حتى بدت لحمة بيضاء في راحته، قد عَلَت على الأصابع؛ فكبر من حضر، واستعظم ما إليه نظر.
قلت: وقد أشرت إلى هذه الكرامة في التحف الفاطمية ، ولكن هنا زيادة تحقيق من المعاصر؛ وهذه الآيات، التي يمن الله ـ تعالى ـ بها لأوليائه، من أعلام الدين، ومؤيدات اليقين، والحمد لله رب العالمين.
قال: ومنها: ما روى لي إبراهيم الكينعي ـ رحمه الله تعالى ـ قال: مسح على مُقْعَد، أعرفه يسير على عود في يده؛ فشفي من حينه وساعته.
وفضائله مسطورة في سيرته؛ وكان أوراده المباركة، منها: إحياء الليل، وصيام أكثر الدهر، وحسن الخلق، وتحننه على المسلمين؛ وكان إذا عرف أن نفقته طحنت على مطحن الصدقة لم يأكل منه شيئاً.
قلت: واعتبر ذلك في عباد عصره، وعصر ولده الناصر، وأبدال دهرهما، وكذا أعصار الأئمة الهادين، وأعلام الأمة السابقين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ، فأئمة أهل كل عصر، وقادة أهل كل دهر، قدوة المهتدين بهديهم، وأسوة المقتدين بأثرهم، إلى ما رغبوا فيه، ومالوا إليه؛ وفي أمثال /196

(2/196)


العامة: (دين الرعية على دين الملك).
قال: قال لي ـ أي الإمام الولي المهدي (ع) ـ: تقف معنا في ذمار، هذا الشهر الكريم رمضان، ولاتفطر إلا معي.
فقلت: سمعاً وطاعةً لأمير المؤمنين.
فكنت أصلي معه المغرب، فيحيي ما بين العشائين بالصلاة والبكاء، والخضوع والخشوع، ما يزعج السامع؛ فإذا كان بعد تمام العشاء، وتمام أوراده المباركة، استقبل إخوانه بوجه لم أر مثله، كأنه القمر ليلة البدر؛ نوره قد علا، ولحيته تملأ صدره، كأنها قطنة مخلوجة؛ فيحضر الطعام، فيمد يده للدعاء، وهو يرتعش كالسنبلة، فتارةً يدعو، وتارة يصيبه ثمول فيسكت ساعة، وتارة تقع دموعه على الأرض؛ فإذا قرب الطعام أدارني في إخوانه العلماء الفضلاء، وأقعدني على طرف سجادته، ومدّ يده إلى سكرجة فيها عشاؤه، أكثر الأحيان آتي على أخيره، ويقول: يا ولدي هذا من نفقتي، هي أطيب لك؛ ربما في طعام إخواننا شيء من الصدقة.
بنفسي من شفيق ورفيق، ما أشبه أخلاقه بأخلاق رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في قوله ـ تبارك وتعالى ـ: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم].
قال: ومن فضله (ع) أن تولى أمور نهيه وأمره، وحله وعقده، وحضور مقاماته، العلماءُ الأفاضل، والسادات الأماثل، والعباد المجتهدون، والزهاد المشمرون، والقضاة المبرزون.
وعدد أسماءهم، وأنا أذكرهم بلفظه، مع سلوك الطريقة السابقة في التصرف اليسير بالاختصار، والتقديم والتأخير، وهم: الهادي بن يحيى بن الحسين وزيره، ووصيه؛ والسيد الإمام داود بن يحيى بن الحسين وزيره، ووصيه. /197

(2/197)


قلت: هما ابنا السيد الإمام يحيى بن الحسين اليحيوي، صاحب الياقوتة؛ وقد سبقوا (ع).
قال: والسيد الإمام، الحسين بن يحيى بن حمزة، كان أميراً له بصعدة؛ والسيد الإمام، قدوة أهل الإسلام، محمد بن أبي القاسم وزيره، كان معه في حرب ظفار فتوجع، وأذن له الإمام بالنقلة إلى حوث، فقال: أحب [أن] ألقى الله وأنا في طريق الجهاد، فتوفي ودفن بظفار، وقبره مشهور مزور؛ ثم ولده من بعده، السيد عماد الدين، يحيى بن محمد بن أبي القاسم؛ ثم السيد الإمام، شمس الملة والدين، أحمد بن الناصر، كان وزيره، والمتولي عن أمره في بلاد سنحان، وبكيل، والمغارب، والمشارق.
قال: ثم الفقيه شمس الدين، أحمد بن ساعد، كان أيضاً وزيره، وحاكمه بمدينة ذمار، وفيه من العلم والفضل، والورع والزهد، ما شهرته تغني عن ذكره؛ ثم الفقيه الإمام، أحمد بن عيسى الشجري، كان حاكماً متولياً؛ ثم القاضي العلامة، شمس الدين، أحمد بن محمد الشامي، كان وزيره، وتوليته بلاد مدحج؛ ثم الفقيه المجاهد، إسماعيل بن محمد، كان والياً للمغرب؛ ثم القاضي، آية الزمان، وبركة الأوان، الحسن بن سليمان، كان متولياً وجامعاً للأموال، وحاشداً للرجال، للجهاد في سبيل الله بين يدي الإمام المهدي (ع)؛ وقد قدمت في زهده وورعه فصلاً شافياً.
قلت: قال في الفصل الرابع: ويزور ـ أي إبراهيم ـ في كل عام شيخه في الدين، وقدوته في التقوى واليقين، إمام أهل السنة والكتاب، ولبابة أولي الألباب، زاهد اليمن والشام، والسيد الحصور القوام، المبرأ من مقارفة الآثام، ولي العترة الكرام، الباذل نفسه لهم من كافة الأنام، تاج أهل الإيمان؛ القاضي/198

(2/198)


حسن بن سليمان، توجه الله بتاج كرامته، وأزلفه بجواره، وأعاد من بركاته.
...إلى قوله: نشأ على الزهد والورع، والخوف والفزع، ما لايمكن شرحه؛ وحاز العلم والعمل، ما كان يوجد في وقته مثله من أحد، في علم الفقه، والأخبار النبوية، والتفاسير ـ سيما في فقه الناصر (ع) ـ كان لباسه شملتين من خشن الصوف الأغبر، وكوفية صوف، وكان يحيي الليل قياماً، والنهار ذكراً وفكراً، ودرساً للعلوم؛ وعمر مائة سنة ونيفاً وثلاثين سنة؛ وكان له كرامات تروى، وفضائل تحكى.
...إلى قوله: وروى لي سيدي إبراهيم بن أحمد، قال: زاره الخضر (ع) أربع مرات، يكالمه ويحادثه، ويعلّمه أدعية مجابة.
ومنها: روى لي السيد الفاضل العالم، أحمد بن عبدالله بن محمد بن أمير المؤمنين يحيى بن حمزة، عن ابن عمه، آية زمانه، وبركة أوانه، علي بن عبدالله بن محمد بن أمير المؤمنين يحيى بن حمزة، عن إبراهيم الكينعي ـ رحمه الله تعالى ـ قال: مات أخ من إخوان حسن بن سليمان، وكان صالحاً عابداً، فجاءه وهو مسجى ميت، فقال: السلام عليك يا فلان، ففتح عينيه ساعة، ثم أطبقهما.
قال: ولما فتح الله على الإمام المهدي لدين الله علي بن محمد، بذمار وبلاد مدحج، قال لي يوماً: لابد لي من إعانة هذا الإمام، وولده صلاح (ع)، لا سلبهم الله ما خوّلهم، وحفظ عليهم ما أعطاهم؛ لكن ياولدي، ما جئت وأنا أحسنه إلا أني أكون أخزن لهم التبن؛ لأن السَّوَس يخونون فيه ويبيعونه.
قلت: صانك الله عن ذلك.
ثم ساق في فضائله وبركاته ما يطول ـ رضي الله عنهم ـ.
ولنعد إلى تمام الكلام.
قال: والفقيه الإمام، الحسن بن محمد النحوي، كان وزيره، وحاكمه في /199

(2/199)


صنعاء اليمن؛ ثم الفقيه الفاضل الزاهد، سعيد بن الدعوس، كان والياً لبلاد عنس.
قلت: وقد تقدم قوله: كعبدالله بن الحسن الدواري، حاكمه بصعدة، ووزيره ووصيه؛ ولكن رتبت علماء الشيعة ـ رضي الله عنهم ـ على الحروف.
قال: هؤلاء فضلاء العصر، وأوتاد الدهر؛ وكانوا كحواري عيسى بن مريم (ع)، وكأصحاب محمد ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ما ترك واحد منهم ممكناً فيما عرف أنه يحسنه.
(رجع) إلى أحوال الإمام المهدي لدين الله علي بن محمد (ع).
قال: ثم اختار الله له ما لديه، ونقله إلى واسع رحمته، بعد إبلائه في الله، وجهاده في سبيل الله، ما يقر الله به عينه، ويزلفه عنده ـ إن شاء الله تعالى ـ أصابه خلط فالج، أزال عنه التكليف.
[الإمام الناصر محمد بن علي (ع)]
وولده الإمام الناصر (ع)، القائم بالأمر والنهي، وسداد الثغور، مدة سنة كاملة؛ ثم إن الإمام الناصر جمع العلماء من صعدة، وبلاد مدحج، وقال: هذا الإمام قد سقط عنه تكليف الإمامة، وكنت أصدر وأورد عن أمير المؤمنين، الذي أجمع على إمامته علماء المسلمين؛ فالآن ألقيتُ حبلها على غاربها، فانظروا لأنفسكم، وهذه عُهَدُ المسلمين وآلات الجهاد بأيديكم.
فحاروا في الأمر، وساروا إلى ظفار بأجمعهم، واتفق علماء الأمصار، إلى ألف وثلاثمائة من العلماء، وأهل البصائر المنورة؛ فنظروا لأنفسهم ولمذهبهم ولدينهم، فأجمع رأيهم على تقليده الإمامة، وتحميله الزعامة؛ فما ساعدهم.
قالوا: الواجب عليك القيام، وإن تركت فأنت مخلّ بواجب.
وراجعوه، فوجدوه كاملاً في العلوم؛ فبايعه العلماء، ومن حضر ذلك الجمع المبارك، منهم السيد الإمام /200

(2/200)


الواثق بالله، المطهر بن محمد بن المطهر؛ وقال: أشهد لله أن هذا إمام مفترض الطاعة؛ رضيت به إماماً لي وللمسلمين.
ثم قام السيد الإمام، عبدالله بن الإمام يحيى بن حمزة، ثم القاضي العلامة فخر الدين، عبدالله بن حسن، ثم الفقهاء العلماء بنو حنش، ثم الأول فالأول، حتى أتوا على آخرهم؛ فنور الله بصائرهم، ووفق أنظارهم، وجعل الله في ذلك خيراً كثيراً؛ وقام بالأمر ضليعاً، وجاهد أعداء الرحمن.
قال: ثم إن الناصر (ع) مدّ الله ظلّ عدله، ونشر من فضله ما لايمكن شرحه، من إحياء رسوم الدين، ورفع منار المسلمين، والإحسان الجم، والمعروف الذي عمّ.
وجرى قلمه المبارك، من حَلْي ابن يعقوب، إلى باب زبيد، إلى الشِّحْر بساحل البحر، إلى كور الجحافل بالمشرق، إلى جبلة اليمن، إلى بيشة؛ وأحيا الله به الدين، وأمات بسره وبركته وهيبته شوكة الكافرين والفاسقين؛ وكانت دولته المباركة، ودولة أبيه الإمام المهدي، نيفاً وأربعين سنة.
قلت: واستمر ولده المنصور علي بن صلاح في الخلافة أربعين سنة، وكانت ولايتهم المباركة النبوية، أكثر من جميع مدة الأموية؛ فسبحان الحي الدائم المالك القاهر للبرية؛ فما أصدق قول القائل!:
كل شيء سواه يفنى ويبلى .... وهو حي ـ سبحانه ـ لا يزولُ
قال: وكانت له هيبة في قلوب الكافرين والفاسقين، ما لايمكن وصفه، حتى أن الواحد منهم إذا كلمه دهش، وارتعدت فرائصه؛ وكان كثير التهيب في مجلسه(ع) بالسلاح، والعدد والآلات، وكانت له محبة ومودة في قلوب المسلمين، والعلماء والصالحين، كما مرّ.
رأيت يوم فتح حصن الباطنية، وكان في /201

(2/201)


حضرته علماء عصره، وأوتاد دهره؛ فساعة الفتح رأيتهم يقبلون أقدامه الشريفة، ويضعون رؤوسهم في حجره المبارك، ويقولون: الحمد لله الذي بلغنا هذا اليوم، وأدركنا دولتك.
سمعته وهو على المنبر بذمار، بعد قيامه بأمر الإمامة، يقول: يا معشر المسلمين ـ بعد أن حمد الله تعالى، وأثنى عليه، ووعظ الناس حتى ضج المسجد بمن فيه من البكاء والعويل، والخشوع الطويل ـ إني ما قمت بهذا الأمر إلا لله، ولإعزاز كلمة الدين، وزم أيدي المارقين، لا لغرض دنيوي؛ اللهم إن علمت مني خلاف ذلك، فلا وفقتني، ولا هديتني ولا رحمتني، ولا أجرتني من نارك وغضبك.
وأسبل دموعه شبه المطر، حتى تقاطرت على ثيابه وعلى منبره، وأنا شاهد بذلك.
[في وظائف الإمام الناصر محمد بن علي (ع)]
ثم ذكر أوراده الصالحة؛ وكان يحيي بين العشائين بالصلاة، ولا يتكلم بين الصلاتين؛ فإذا فرغ من ورده صلى العتمة، وبعدها ركعات؛ ثم يسجد سجدة طويلة، قدر قراءة جزء من القرآن، ثم يقبل على أهل حضرته، وهم العلماء الفضلاء العباد الصالحون، فيفطرون، ويخرجون من عنده؛ ويستقبل الليلة مطالعة للكتب، ونظراً في مصالح المسلمين، وسداد الثغور؛ وينام هنيهة، ثم يقوم في أول الثلث الآخر، فيحييه صلوات واستغفاراً، وخشوعاً ودعاء، حتى تطلع الشمس، ولا يتكلم قبل طلوعها ولو عراه مهم.
ثم ذكر من أوراده وأدعيته الشريفة ما تركته لإيثار الاختصار.
قال: وكان يصوم رجب، وشعبان، وشهر الله المحرم، والأيام البيض، وتسع الحجة، في السفر والحضر، لا يفطرها، فيما علمت وتيقنت؛ وكان على وجهه الكريم من الأنوار ما لا يستطاع إلحاح النظر في وجهه من النور والبهاء، والسيماء الأسنى. /202

(2/202)


قال: وأما مودة إبراهيم الكينعي، فكان يوده مودة لله خالصة.
قال يوماً: نستغفر الله من تقصيرنا في حق هذا الإمام.
وكان يزوره في كل عام إلى ذمار، وإن كان في صنعاء ففي الشهر، أو الشهرين زورة، ويقف عنده شطر الليل؛ وكان يذكر له أحوال الناس، ويسأله لإخوانه وللفقراء، فيقول له: وقّع ما تشاء، وسلمها إلى فلان ـ من خدمه ـ سهلت أو عسرت، جلّت أو دقّت.
وشايعه وبايعه وجاهد معه.
قال إبراهيم الكينعي ـ رحمه الله ـ: ما وجدت في علوم المعاملة، وعلوم أهل الحقيقة، ووظائف أهل الطريقة، ومكاشفات أهل الحقيقة، في وقتي هذا، أعرف من الإمام الناصر (ع).
قال: وكان إبراهيم الكينعي يشتاق إلى رؤية الإمام الناصر، ووعظه وحكمه؛ وكان يقسم ـ رحمه الله ـ إذا وافق الإمام ليقبل أخمص قدميه؛ فيقول الإمام: أنا أكفر عن يمينك.
فيقول: لابد لي أن أفعل.
ويحب الإمام أن لاينفره ويضيقه؛ وكان يأخذ يد الإمام، ويضعها على صدره، وإذا أكل معه أخذ لقمة، وأشار بها إلى الإمام أن ينفث فيها من ريقه، ويقرأ عليها شيئاً من القرآن.
ووجدتُ بخط يده بعد موته ـ رحمه الله ـ ما لفظه: يا هو، ياهو، صل على محمد وآله؛ لما كان في صفر ـ غالب ظني ـ سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، وأنا بمكة ـ شرفها الله تعالى ـ وأنا مشغول القلب بشخص أحبّه كثيراً، وأدعو له بأن الله يحفظه وينصره، ويرضى عنه؛ فأُجِبْتُ وأنا في اليقظة، بأنا قد حفظناه ونصرناه ورضينا عنه، وأمرت أن أكتبه لا أنساه، وكرر علي مراراً، وقيل لي: بشره بهذا فيطيب نفساً، ويقر عيناً، وهو الإمام الناصر محمد بن علي.
وكان يقول: لولا أني نهيت، لأخبرتكم عن الإمام صلاح من الكرامات/203

(2/203)


والتنويرات، ما يزيدكم فيه اليقين.
وجاء مرة إلى عند الإمام، فنزل الإمام عن جواده، وعانقه وصافحه، وهو في بزة بالية.
فقال بعض من يليه: من هذا الذي عانقه الإمام؟
فالتفت إليه الإمام، وقال: هذا مجهول في الأرض، معروف في السماء.
وقال: كنت مع الإمام الناصر بذمار، وكنت أحضر معهم في سماع كتاب الثعلبي في تفسير القرآن، فابتدأني الإمام، وقال: جاءتني ورقة من صعدة، بأن الفقيه إبراهيم وصل من مكة؛ وتوجع من حلي، إلى صعدة، وقد بلغ معه الضعف غاياته؛ يعلم الله ـ تعالى ـ أني سهرت هذه الليلة شغلاً عليه وخيفة.
ولما بلغه موت الفقيه ـ رحمة الله وبركاته عليه ـ سقط ما في يده، وقال: الآن ـ والعياذ بالله ـ وقع ما كنا نحاذر؛ فإنا بالله عائذون.
ووقف بعده الإمام أشهراً، ووقع عليه أمر الله؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون، نحمده على ما منح ووهب، وعلى ما استرجع وسلب، ونستغفره ونتوب إليه، ونسأله ونتضرع إليه، أن يوفقنا لكل ما يرضيه، من كل قول وعمل واعتقاد ونية، ويختم آجالنا بالخير والحسنى، ويثبتنا بالقول الثابت في الدنيا والآخرة، ويتقبل منا ولايتنا لأوليائه، ومحبتنا لمحمد وآله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
ثم ساق الكلام في سيرته، وذكر أولياء عصره.
[في كرامات الكينعي الظاهرة والباطنة]
إلى قوله:
الفصل الثامن:
في كراماته الظاهرة والباطنة، وما فتح الله له في مجاورته البيت العتيق، من الأسرار والكرامات، في اليقظة والمنام.
قلت: ونتبرك بذكر نبذة نافعة ـ إن شاء الله تعالى ـ وإنه ليغني في الدلالة على ماله عند الله تعالى من ارتفاع الدرجة، وعلوّ المنزلة، ما أكرمه الله تعالى به من الأنوار الساطعة، المشاهدة بالأبصار، على سبيل الاستمرار؛ وهو ظهور النور /204

(2/204)


المنير، الساطع الأخضر، من فوق ضريحه المقدس، إلى عنان السماء، لاشك فيه ولا لبس؛ وهذه الأنوار الإلهية مشاهدة بالأبصار، على ضرائح كثير من أولياء الله ـ تعالى ـ الأبرار، في عصرنا هذا وغيره من الأعصار؛ ولم تزل تشاهد على الفضلاء بالمقبرة المباركة المقدسة، بمدينة صعدة المحروسة، وغيرها، لايخفى منارها، ولاتطفأ أنوارها؛ وذلك من عاجل ما وهب لهم في دار البلى، فكيف بما أعدّ لهم وأخفى المليك الأعلى، في دار الكرامة والبقاء؟!، فالحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.
فمما ذكر من كراماته ـ رضي الله عنهما وأرضاهما ـ:
قال: ما روى أخص إخوانه عنده، السيد العالم، الفاضل الزاهد، الهادي بن علي، أنه حثّه على قراءة آية الكرسي؛ ورغّبه أنْ قال: إني قرأتها، فسمعت منادياً ينادي: يا إبراهيم.
وروى عنه شخص آخر، أنه قال عقيب قراءتها: يا إبراهيم قد قبلناك.
وروى عنه آخر، أنه سمع منادياً ينادي: يا إبراهيم ليهنك ما أعد الله لك.
الكرامة الرابعة: ما رواه الفقيه العلامة، الأكمل الأفضل، يحيى بن محمد العمراني، وكان وقف معه سنين الشتاء في مسجد الجميمة، ونفقته عند أحب إخوانه إليه.
قلت: لعله أحبهم في هذه المحلة، أو بالنظر إلى غير من هو عنده مثله، أو على طريقة قوله ـ تعالى ـ: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ ءَايَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } [الزخرف:48]؛ لئلا يعارض ما ذكر في غيره؛ وعلى الجملة، أوجه الحمل على الصحة /205

(2/205)


عند أولي المعرفة كثيرة.
قال: فيروي عنه كرامات، منها: أن بعض إخوان الفقيه عوّل عليه أن تكون نفقة إبراهيم معه، مدة يسيرة، فاستحيى منه، فاختلفت النفقة؛ فتغير حال إبراهيم، وأصابته وحشة عظيمة، وما ساغ له الطعام الذي يُؤْتى به؛ فوافق الفقيه يحيى وأخبره بالقصة وودّعه، ليرتحل، فشقّ ذلك عليه، وقال: إني استحييت من ذلك الصاحب، وأنا أعرفه كثير الصلاح، والعفة، والدين، والتحرز في إخراج الزكاة؛ فوقف، واستمرت نفقته من بيت الفقيه المذكور؛ فبحث الفقيه يحيى عن سبب عدم إساغة إبراهيم للطعام، ونفرته عنه، فتيقن أن الذي كان يحمل نفقته إلى هذا المسجد الخالي في القفر الموحش، ابن أخ لهذا الرجل يتيم؛ فعرف كرامة إبراهيم ـ أعاد الله من بركاته ـ.
ومنها: أنه قال صالح، وتلميذه علي بن أحمد بن همدان، قال: روى لي إبراهيم هذه الكرامة، ورواها السيد الهادي أيضاً، أن نفسه اشتهت شحماً ولحماً، وإذا بربعة مملؤة من الشحم واللحم النضيج، طرحت إليه من طاقة عالية في المسجد، وتركت بين يديه.
قلت: وذكر أنه معدوم في المغرب بالمرة.
قلت: ومثل هذه الآية وقعت لبعض من عرفته من مشائخ آل محمد (ع)، وهو سائر في طريق هجرة ضحيان ـ حماه الله تعالى ـ فاشتهى في نفسه ذلك، فوقعت بين يديه فلذة لحم عظيمة، واستكتم مَنْ أخبره أن يُعْلم به ـ رضي الله عنه ـ.
[كرامة للسيد الإمام محمد بن منصور والد المؤلف قبيل وفاته]
ولقد لبث والدنا ـ قدس الله روحه ـ في مرضه الذي توفاه الله - تعالى - فيه، نحو عشرين يوماً، لايأكل طعاماً أصلاً، ولم يقعد به ذلك عن قيام، ولاصلاة، ولا تلاوة، ولا ذكر، بل ازدادت أعماله في جميع ذلك؛ وكنا نعالجه بكثير من أنواع /206

(2/206)


المشتهيات، فلا يتناول شيئاً، ومتى أكثرنا عليه يقول: ((إن الله يطعمه ويسقيه))...الحديث؛ وأسعدنا في بعض الأيام بالإجابة إلى التين ـ وكان في ابتداء حدوثه ـ؛ فمشى بعض الإخوان مسافة للإتيان بما وجده، ورجع وقد تحصل له؛ فعرضناه عليه، فقال: لاحاجة لي فيه.
فلما أكثرنا مراجعته، قال ما معناه: قد أطعمني الله ـ تعالى ـ حتى شبعت، فأنا الآن شبعان ريّان، والحمد لله رب العالمين.
ثم دعا لنا وللرجل الذي جاء به، وأخبره بفضل مشيه لذلك.
ولقد كان يُقْسم لي بالله العظيم، أنه لايجد ألماً، ولايشتهي شراباً ولاطعاماً، في جميع مرضه.
ولم يزل ملازماً للأوراد لايفتر لسانه عن ذكر الله، إلا في حال خطاب بضروري، أو جواب، أو توصية لي ولمن حضر بتقوى الله وما يقرب إليه؛ ويتأذى كل التأذي بأيّ قاطع له عن الذكر، ويعتذر عن المحاورة بذلك، حتى لقي الله - تعالى - وقد غشي وجهه النور، والبهجة والسرور، بعد أن أكرمه الله - تعالى - بكرامات بينات؛ رضي الله عنه وأرضاه، وبل بوابل الرحمة ثراه.
[عودة إلى كرامات الكينعي رضي الله عنه]
هذا، قال: ومنها: مرضى شفوا ببركة دعائه، ووضْعِ يده عليهم عدة، وتتابع بركات وثمرات في وقوفه معهم في ذلك المسجد المبارك، لايمكن شرحه؛ لكثرته.
الكرامة الخامسة: ما رويت عنه ـ رحمه الله تعالى ـ أنه قال: كنت في حصن المصافرة، ببلاد مدحج؛ فجيء بعصيدة حسنة، بمحضر القاضي حسن بن سليمان، وعدة من الأفاضل الزاهدين؛ فعولوا علي في الإفطار، فساعدتهم رغبة لإدخال المسرة عليهم؛ فذكرنا اسم الله، ومدوا أيديهم إلى الطعام، وأردت أمد يدي لآكل معهم، فما امتدت أبداً، بل كأنها عود يابس؛ فقمتُ، وقلتُ: ترجح لي إتمام الصيام؛ وبحثت عن تلك العصيدة، فقيل: إن أصل عملها /207

(2/207)


لمتولي أمر كان معنا في الحضرة؛ وكانت تلك ابتداء هذا اللطف لي في كل شيء.
قال: وقد كنا إذا جيء له بطعام، ولم يتناول منه، عرفنا أن فيه ما فيه.
الكرامة السادسة: ما رواه تلميذه، وأقرب إخوانه إليه، علي بن أحمد بن همدان الصنعاني، وهو رجل، ابتداءُ هدايته على يد الفقيه إبراهيم الكينعي ـ رحمه الله تعالى ـ وأخذ من عوارفه وأسراره، فصار الآن صالحاً، مرشداً منوراً، قد انكشف له من أسرار أسماء الله الحسنى ما أنس به وتنور، ونال به المنى؛ قال: كنا مع سيدي إبراهيم الكينعي ـ رحمه الله تعالى ـ بشعب مروان، شرقي جبل نقم صنعاء، وقفنا معه في ذلك الشعب أشهراً، وشاهدنا من أسراره وعوارفه، وكراماته وبركاته، ما يصعب ذكره، لاتساعه.
قال لي: اشتغلت بنفقتكم وجوعكم، فشغلني ذلك وآلم قلبي، فسمعت هاتفاً يقول: يا إبراهيم، إن علمت أنا نتركهم أو نضيعهم، فيحق لك أن تشتغل بهم.
قال: فسكن ما بي والحمد لله.
قال لي: فقدتُ أخاً لي من إخواني يسمى منيفاً، وكان مختلياً في بريَّة في البادية على مرحلتين، فحكّ في قلبي رؤيته، فخرج علي شخص، فقلت: من أنت؟
فلم يجبني.
فقال شخص عن يميني: هذا منيف؛ فسررت برؤيته.
قال الراوي: وسمعت أن مُنيفاً قال: إنه حمل من مسجد، وَرُدّ إليه تلك الليلة.
إلى قوله:
الكرامة الثامنة: ما وجدت بخط يده المباركة، بعد موته، الذي أشهد أنه خطه شهادة لا لبس فيها: أنت أنت، وصل يارب على محمد وآله وسلم، حصل لي في مكة ـ شرفها الله تعالى ـ ثلاث ساعات: ساعة من باب المعرفة، هي أحب إلي من مائة عمرة؛ وساعة من باب الشوق، لست أعدل بها شيئاً؛ /208

(2/208)


وساعة من باب الأنس وغيره، هي أحب إليّ من ما مضى من عمري كله، من الأفعال والأقوال والأفكار.
...إلى قوله: ثم إنه حصل لي وقت ممتد من بعد صلاة الظهر إلى قبيل العصر، في النصف الأخير من شوال، من قبيل الفرح والسرور، فأنساني بما قبله؛ ولايمكنني أن أعدله بشيء مما في الدنيا، أو مما في الآخرة؛ لأنه حصل فيه فناء عن الكائن والمكونات، وعن جميع الشهوات، ورضيت النفس بها، وقرت وسكنت، وما تطلعت إلى شيء غير هذا، وحصل لي فيه لطف خفي زادني في المعرفة، ولم يداخلني مثقال ذرة أنه زادني قربة إلى الله ـ عز وجل ـ فلله الحمد كثيراً.
الكرامة التاسعة: ما وجدته بخط يده المباركة، بعد وصول كتبه وأثاثه من مكة، بعد موته ـ رحمه الله تعالى ـ ما لفظه: أنت أنت، وصل يارب على محمد وآله وسلم؛ لما كان يوم الجمعة، من النصف الأخير من شهر صفر، سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، وأنا أدعو لأخ من إخواني، وإذا بقائل يقول: قد أنجاه الله من النار، ورضي عليه؛ وكرر علي الكلام مراراً، وقال لي: وقع لاتنسى، وأضف الأمر إليك، واكتبه في قرطاس نقي، وبشره بهذا؛ وهو سعيد بن منصور ـ رحمه الله رحمة الأبرار ـ وأنه مجار من النار؛ كل هذا في اليقظة لا في المنام.
...إلى قوله: جاءني كتاب من مكة المشرفة، من السيد الإمام، الجامع لخصال الكمال، خيرة الخلق، وخلاصة أهل الشرف، محمد بن علي التجيبي الحسيني البخاري ـ أعاد الله من بركاته ـ وهو الذي حكى لي سيدي إبراهيم بن أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ في كتاب منه.
ثم ذكر ما تقدم في كتابه من وصفه...إلى قوله: وأما كتاب السيد الذي كتبه إلي، فهو بسيط حسن، يدل على غزارة علمه، منه أن قال: من الأخ الفقير، المعترف بالتقصير، محمد بن علي الحسيني التجيبي /209

(2/209)


البخاري، إلى السيد شريف، يحيى بن المهدي الحسيني، ألهمك الله ذكره، وأوزعك شكره.
واعلم سيدي، أنه ورد في الأخبار: ((يموت المرء على ما عاش عليه، ويحشر على مامات عليه))، نسأل الله التوفيق، والموت على الإسلام، لنا ولأحبابنا، وحسن الخاتمة.
ومنه: الحمد لله، الذي أشرق نوره في قلوب أوليائه، فاستنارت به سماوات أرواحهم، وأرض نفوسهم وأشباحهم؛ الله نور السماوات والأرض ومن فيهن، ألسنتُهم بذكره لَهِجة، وقلوبهم بنوره بهجة؛ إن نطقوا فعنه، وإن استمعوا فمنه.
...إلى قوله: فهم معادن برازخ الأنوار، ومعادن الأسرار.
ومنه: العلماء ورثة الأنبياء إلى العلم بالله؛ لأن العلم بالله يورث الخشية؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [فاطر:28]، ولم تزل سلسلة الصلاح تمتد من وقت نبينا ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ إلى وقتنا هذا، ولن تزال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
فالله ـ تعالى ـ يحقق نسبتنا من هذه الطائفة، وأن يتوفانا على محبتهم، وأن يزيدنا منهم وداً، ولايجعلنا ممن نقض له عهداً، بمنه ولطفه.
ومن لطف الله بنا، وعوارفه علينا، أن جمعنا وعرفنا بشيخ زمان قطب المكان.
...إلى قوله: العالم العامل، الكامل بتكميل الله، إبراهيم بن أحمد الكينعي اليمني، فخر يمن، ويد الزمن.
...إلى قوله: أخي يحيى ـ أكرمه الله بالأسرار الربانية، والمعارف الإلهية ـ إن سيدي إبراهيم حجة من آيات الله؛ فضله عظيم، وكرمه عند الله جسيم، /210

(2/210)


زواره ملائكة الله، ومؤنسوه كرام الحضرة الإلهية؛ يشاهد ذلك عياناً، في المكة والبيت العتيق، وطريق العمرة؛ ولقد حظر علي ما شاهدت، ولولا ذلك لأخبرتك بعجيب غريب؛ ولعل الله الكريم المنان يجمع البين، ويدني الديار، ونفوز بلذة الأخوة الصالحة في الله...إلخ.
...إلى قوله: ما روى تلميذه وزميله في الحضر، ورفيقه في السفر، حسن بن موسى بن حسن، وقد تقدم ذكره، وفضله، قال: كنت مع سيدي إبراهيم ـ رحمه الله تعالى ـ فقال: ياحسن، اعلم أن النوم ـ بحمد الله ـ قد ملكته بعد أن ملكني، إن شئت أن أنام نمت، وإن شئت ألا أنام ولو اضطجعت لم أنم، وإن شئت أن ينام جسدي وقلبي مع الله فعلت، وإن شئت ينام قلبي نام.
قلت: وليس في هذه الكرامات لأولياء الله - تعالى - حطّ ولا هضم ولا مقاربة، فضلاً عن المساواة، لدرجات أنبياء الله ـ تعالى ـ؛ لأن لهم ما هو أجل وأفضل، بل هذه دلالات نيرات، وآيات بينات، على تفضيلهم، وعظم محلهم، وشواهد ناطقة، وبراهين صادقة، على تأييد رسالاتهم، وتحقيق نبواتهم؛ لوقوعها لمتبع شرعهم، وملتزم دينهم؛ فهي كرامات لأولياء الله، ولاحقة بمعجزات رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم، وعلى جميع أنبياء الله ـ بل ولا تدل على فضل من وقعت له ممن ليس بإمام أو ليس من آل محمد، على الأئمة الهادين، والعترة الطاهرين؛ لكون هؤلاء الأفاضل الأكرمين من خُلّص أتباعهم، ولباب أشياعهم، المقرين بتفضيلهم، المتقربين إلى الله ـ تعالى ـ بمودتهم؛ بل هي دلالة على فضل آل محمد ـ صلوات الله عليهم ـ وبرهان على ما لهم عند الله ـ تعالى ـ من علو الشأن، وعظم المكان؛ ولا شك أن المتبوع أفضل، والمقتدى به، /211

(2/211)


المهتدى بهديه أجلّ، وكل له عند الله - تعالى - منزلة ومحل؛ وليست هذه الكرامات بمعجزات؛ إذ المعجز هو الواقع لمدعي النبوة، كما حقق ذلك في الأصول، والوقوع فرع الجواز عند ذوي العقول.
[التبكيت لمن يكذب بالكرامات]
وما يقع من الجهلة، الذين لا حظّ لهم في معرفة هذه المنزلة، من الردّ والتكذيب؛ وكذا ما قد يصدر ممن يتلبس بالعلم والمعرفة، من التشكيك والتردد، الدالين على بعدهم عن أهل هذه الصفة؛ فكل ذلك مدفوع بالبرهان، الذي ليس بعده بيان؛ إذْ منها ما هو ضروري بالمشاهدة، ومنها ما هو متواتر معلوم، ومنها ما هو ثابت الصحة بروايات الثقات العدول، كمثل ما في كتب أئمة الهدى، التي قدمنا أسانيدها، ومثل ما في هذا الكتاب، المتصل السند، ولعمر الله، إن المناكرة والجحد لهذا، لدليل على نكس القلوب، وأن صاحبها عن أنوار هذه الهداية محجوب.
[عودة إلى كرامات الكينعي وشيء من شعره]
هذا، وقد أورد في هذا البحث كثيراً عن بعض إخوانه، أنه قال له: هل تسرّنا بكرامة لك، تشرح صدورنا؟
فقال: إبراهيم ـ رضي الله عنهم ـ: إني إذا أردت أمراً أو سفراً، وسألت الله الخيرة، سمعت شخصاً يقول: افعل أو لاتفعل.
قال: ومما نقل من كلامه وخط يده، مما نحن بصدده: الحمد لله، الذي أسعدنا به عن غيره، وبه عن ذكره؛ لايعرف هذا ويصفه إلا من ذاقه، فمن لم يسلك الطريق، فلا يكن منه نكير على أهل التحقيق، فهي منح من الملك الجبار، يفيضها على من يشاء ويختار.
قال: ومما قاله إبراهيم ـ رحمه الله تعالى ـ:
ببابك عبدٌ واقفٌ متضرّعٌ .... مقِلّ فقيرٌ سائلٌ متطلعُ
حزينٌ كئيب من جلالك مطرق .... ذليلٌ عليل قلبه متقطّعُ
أنا الضارع المسكين ممدودة يدي .... إليك فما لي في سوائك مطمعُ /212

(2/212)


فؤادي محزون ونومي مُشَرَّد .... ودمعيَ مسفوح وقلبيْ مروّعُ
فلا تبلني بالبعد منك فإنه .... أشد بلاء الخائفين وأوجع
إذا رجع القصّاد منك بسؤلهم .... فيا ليت شعري كيف عبدك يرجع؟
[إخبار الهادي بن إبراهيم(ع) بمرض الكينعي ووفاته]
قال في الفصل الحادي عشر: وأما وقت وفاته، وموضع قبره، فإني لما علمت برجوعه إلى الله، ولقائه لمن يحب لقاه، أظلمت الأقطار، واسود النهار، وتزعزع الفؤاد، وانتزع العقل أو كاد، استرجعت واستغفرت، وحمدت الله تعالى على عظم المصيبة، وحلول الرزية، وقلت كما قال علي (ع):
ألا أيها الموت الذي ليس تاركي .... أرحْني فقد أفنيتَ كلّ خليل
أراك بصيراً بالذين أحبّهم .... كأنك تسعى نحوهم بدليل
وكتبت كتاباً إلى السيد الإمام، جمال الملة المحمدية، وتاج إكليل العصابة الزيدية، وشمس أندية العلوم الربانية، آية الزمان، وبركة هذا الأوان، جمال الدين، الهادي بن إبراهيم بن علي بن المرتضى بن المفضل ـ مد الله فضله، ونشر بره، وأعاد من بركاته ـ استعلمه من مرضه ـ رحمه الله تعالى ـ ووقت وفاته، وأخبره بوضعي لهذا الكتاب، ويحقق لي حال إبراهيم الكينعي، وما شاهد من كراماته، وموضع قبره؛ فوصلني جوابه الكر يم، المسلي لكل قلب مكلوم أليم، أوله:
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله على كل حال.
جواب من أسلمته ذنوبه، ولكن إلى رب كريم، وكتاب من أوبقته عيوبه، ولكن في سوح غفور رحيم.
إلى قوله /213

(2/213)


في وصف المؤلف ـ رضي الله عنهما ـ: وهداه بوهاج الزيادة، وعداه إلى منهاج العبادة، أخوه في الله، المحب له صدقاً ـ إن شاء الله تعالى ـ فيشتاق إليه شوق المطافيل إلى أولادها، ويحن إليه حنين العطافيل إلى أفلاذ أكبادها؛ علماً بأن في اجتلاء غرة الأخ الحبيب، المولع بكل عبد منيب، سلالة زين العابدين، يحيى بن المهدي بن زيد بن علي بن الحسين، جِلاء للقلوب، وبالنظر إليه انتفاء للكروب.
ولما وصلني كتابه، الذي فاقت أصوله، وراقت فصوله، كان فاتحاً للخيرات وصوله؛ أهلاً به من كتاب، طبق مفصل الثواب، وطابق مقصد السنة النبوية والكتاب.
ذكر سيدي ـ أيده الله ـ عنايته المرضية، بتأليف مختصر يحتوي حلية الصفوة الرضية، من هذه البرية، فاهتز القلب إلى ذلك نشاطاً، ومد الشوق إلى ما هنالك بساطاً.
...إلى قوله: ملك عُبَّادِ الملك الجليل، المتشبه بسميِّه إبراهيم الخليل، وما ذكر في مقام إلا فاحت نوافجه، وصعدت إلى الملأ الأعلى معارجه.
قلتَ ـ أيدك الله ـ: صف لي كراماته، وما انتهى إليّ من أحواله؛ فسبحان الله! أنى لي مِقْوَل يصوغ هذه الحلية الشريفة، أو قلم يحيك هذه البردة اللطيفة الظريفة؟ لساني عن بيان فضله كليل، وبراعتي لاتحسن صياغة هذا الإكليل؛ لكني أسلس قياد الطاعة، وأرتسم لما ذكره حسب الاستطاعة.
اعلم ـ وفقك الله ـ أنه لما وصل من جوار البيت العتيق، وقف فيه ثلاث سنين، ووصل إلى حَلْي، وابتدأه المرض فيه، ورفيقه العبد الصالح، التقي العابد، صبيح، مولى آل زيدان، وصل إلى ناحية جازان، شكى أهل الجهات تلك الجدب والعطش، فدعا لهم ولسائر أهل البلدان، فحصل ببركته ذلك المطر /214

(2/214)


العظيم، الذي عمّ البلدان كلها، يوم الأربعاء، في شهر ربيع الأول؛ فلما وصل قريباً من صعدة، قال لصبيح: إني رأيت لعشرة من إخواني الجنة، وأمرت أن أبشرهم ـ ثم رسم أسماءهم ـ قال: وأنت يا صبيح بن عبدالله.
ولما توفي ـ رحمه الله ـ خرج أهل صعدة كافة، السادة والعلماء، والفضلاء والأمراء، وأهل المدينة عن بكرة أبيهم إلا الشاذ؛ وكان ذلك اليوم بكرة نهار الأربعاء، ثامن وعشرين من شهر ربيع الأول، سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة.
قلت: وقد سبق في التحف الفاطمية ، ولكن ساق إليه الكلام.
قال: وفي يوم موته تقدم السيد الإمام، دواد بن يحيى بن الحسين، صلى عليه؛ وهو الذي أوصى حي الإمام المهدي علي بن محمد أنه يتولى الصلاة عليه، وكان هذا من تمام لطف الله وتوفيقه.
وأما مكان قبره، فهو بالبقعة المباركة، رأس الميدان، غربي مدينة صعدة، قد عمر عليه صبيح هذا مشهداً، وهو مشهور مزور؛ ووقف صبيح بعده أياماً، وتوفي ودفن بمشهد الفقيه ـ رحمة الله عليهم، وأعاد من بركاتهم ـ.
قال: ثم إني أنشأت أبياتاً في ضريحه:
يا زائر القبر فيه بهجة الزمن .... العابد الصدر نور الشام واليمن
ثم أورد القصيدة (البديعة) التي قالها فيه، صدرها:
شجر الكرامة والسعادة أينعي .... للقاء سيدنا الإمام الكينعي
وهي سبعة وستون، آخرها:
يا نفس إبراهيم أنت كريمة .... في داره بدعائه لما دعي
أنتِ المرادة عند ربكِ فاسمعي .... بالمطمئنة حين قال لك ارجعي
قلت: يحمل على إرادة الجنس ـ أي هي وما شاكلها من المطمئنات ـ /215

(2/215)


والرواية واردة أن المراد بذلك نفس سيد الشهداء أسد الله، وعمّ رسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ الحمزة بن عبد المطلب ـ رضوان الله وسلامه عليه ـ قال:
صلى عليك الله نفساً أُزْلِفَتْ .... بالخلد في غرف القصور الرفّعِ
قال السيد الإمام الهادي بن إبراهيم (ع): لكل مُثْنٍ عارفة جزاء، وعارفتي في هذه الأبيات على الله تعالى؛ انتهى كلامه.
وأنا أقول: لكل عامل جزاء، وجزائي في رسم فضائلهم، وما ينتفع به ـ إن شاء الله ـ في الدين، وجزاء من حصله من إخواني المؤمنين، والعلماء العاملين، على رب العالمين؛ وقدوتنا أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وأخو سيد المرسلين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ حيث يقول في آخر خطبته العظمى، التي سبق ذكرها: اللهم أنت أهل الوصف الجميل، والتعداد الكثير، إن تؤمل فخير مأمول، وإن تُرْجَ فأكرم مرجو.
إلى قوله ـ صلوات الله عليه ـ: ولكل مُثْنٍ على مَنْ أثنى عليه مثوبة؛ من جزاء، أو عارفة من عطاء؛ وقد رجوتك دليلاً على ذخائر الرحمة، وكنوز المغفرة، اللهم وهذا مقام من أفردك بالتوحيد الذي هو لك، ولم ير مستحقاً لهذه المحامد والممادح غيرك، وبي فاقة إليك لا يجبر مسكنتها إلا فضلك، ولا ينعش من خلتها إلا مَنُّك وجودك، فهب لنا في هذا المقام رضاك، وأغننا عن مدّ الأيدي إلى سواك؛ إنك على كل شيء قدير.
[في الكلام على السيد الهادي بن إبراهيم الوزير، وأبيه، وجده]
نعم، ثم ذكر في الصلة نكتة شافية في فضل الهادي بن إبراهيم، وأبيه، وجده علي بن المرتضى (ع)، فقال:
أما الهادي فكتابه الذي مرّ من عنوان فضله وعلمه وورعه وزهده.
أما /216

(2/216)


علمه، فهو رجل جامع للعلوم، له موضوعات في كل فن، أكمل أهل زمانه، يؤهل للإمامة، ويتوخى لتحمل أمر الخاصة والعامة، مع الخوف العظيم، للعدل الحكيم، والورع الشافي، ومكارم الأخلاق، التي شرف بها وفاق، يضرب بلطف شمائله المثل، ويقتدى به في كل قول صالح وعمل؛ إمام لأهل العبادة، قد زينه الله بالتقوى والزهادة، وكمّله بفصاحة اللسان، التي لاتوجد الآن في إنسان، من النظم والنثر، والتصانيف الرائقة، والحكم الفائقة.
ثم ذكر جواب الإمام الناصر لدين الله محمد بن علي بن محمد (ع) عليه؛ وفيه من درر الكلام ما يدل على فضله، وفضل الإمام (ع)، وهو ما لفظه:
وصل كتابه الجامع للمحاسن، الفارق بين العذب الزلال والآجن الآسن؛ فتعطر جيد الخلافة بدرره، وتثمر وجه الحال بغرره، متجلبباً بالعجب، جامعاً للأدب، قد ملأ الدلو إلى عقد الكرب، وضمنه ما هو أشهى من المن والضرب؛ ولعمري، لقد أصبح منشئه عميد الفصاحة وناموسها، ويافوخ البلاغة وقاموسها، وما هو إلا لطائم المسك الأذفر، وكرائم اليمّ الأخضر، كنوز الرموز، ورموز الكنوز، وأفكار الأبكار، وأبكار الأفكار، نبه ووعظ، وقرض وأيقظ؛ لله دره من منطيق! وما ذكره من كلام الشافعية فالغيرة من الإيمان، وينبغي الذب عن الحوزة الزيدية، والانتصار للأسرة النبوية، باليد واللسان، والسيف والسنان؛ فلا زالت تلك الروية تنبذ الجواهر الطريفة، وتقذف بالدرر الشريفة، والله يمد مدته، ويحرس كريم مهجته، ويعيد من /217

(2/217)


بركاته؛ والله يعلم أن القلب يأنس به، ويعتقد فضله وكرمه؛ ويأنس بأهل الدين، لايهضم لهم جانب، وهو في الحياة...إلخ كلامه المتين النبوي، والمعين العلوي، عليهم أفضل تحياته وسلامه.
قال: وكان إبراهيم الكينعي ـ رحمه الله ـ يعظمه تعظيماً عظيماً، ويكرمه.
سمعته يوماً يقول: هذا الهادي بن إبراهيم، إمام من أئمة أهل البيت؛ لأنه يافلان، أعلم الناس في علوم الشريعة، وأكملهم في معرفة علوم أهل الطريقة والحقيقة.
وقال له: أحبّ منك أبياتاً على وزن:
كسيحون محبته .... غدا قلبي به سمكا
فأنشأ ـ رضي الله عنه ـ:
صغير هواك عذّبني .... فكيف به إذا احتنكا؟
هواك عليك مقتصر .... وقلبي هام فيك لكا
ولي روح به شغف .... يروح إليك وهو لكا
ولي قلب أراك به .... إذا ما العين لم تركا
وإني فيك ذو وَلَهٍ .... فما أبقى وما تركا
ولي شوق إليك غدا .... عليه القلب مشتبكا
لقلبي باللقا ضحك .... ومن خوف الصدود بكى
فيا عجباه من دَنِف .... لدمع جفونه سفكا
ومنها:
ولو صبّت مدامعه .... غدت من مائه بِرَكا
كسيحون...البيت.
وهذا آخرها: /218

(2/218)


ومالي عنه من بدل .... ومن لسمائه سمكا
قال: وله (ع) كرامات تروى.
وذكر منها: واقعة قوم تعدوا عليه فسلط الله ـ تعالى ـ عليهم عاجلاً وانتهبوا، وأسر بعضهم، وقتل بعضهم، وشاهدهم بعينه؛ ثم تاب من بقي منهم وأناب؛ هذا حاصلها.
قال: وأما أبوه السيد الإمام إبراهيم، فكان عالماً فاضلاً، زاهداً عابداً، قد براه الخوف، وأنحلته العبادة، وكان يتلألأ نوراً، ويُرى نور وجهه من بعيد.
...إلى قوله: روى لي السيد الأفضل أحمد بن الهادي بن أمير المؤمنين يحيى بن حمزة (ع)، أن هذا إبراهيم كان يؤثر بطعامه، وطعام أهل بيته، الفقراء؛ ورب ليلة يضمرونها.
إلى قوله: وله كرامات ظاهرة، وفضائل باهرة.
قال: وأما أبوه علي بن المرتضى، فإنه الفاضل الكامل، الورع الزاهد، ذو الكرامات الباهرة، والفضائل الظاهرة، والتنويرات الربانية، والمكارم الفائقة، والسجايا الرائقة، والأوراد الصالحة، والانقطاع إلى الله بالمرة؛ سكن (ع) بهجرة الظهراوين بشظب، انقطعوا إلى الله بها، وهاجروا من فتن الدنيا، ووظفوا الوظائف الحسنة من العبادات، والتلاوة ودرس العلوم؛ ومشائخهم وشبابهم ونساؤهم، بهم ضرب المثل، ويتوسل إلى الله ـ عز وجل ـ.
...إلى قوله: وصل إلى حدة بني شهاب، لزيارة بنت أخته الشريفة الفاضلة، العالمة، الزاهدة، العابدة، سيدة نساء دهرها، وبركة أهل عصرها، حورية بنت محمد بن يحيى القاسمي؛ فعلمتُ به ثمة، فقصدتُه للزيارة، فصليتُ خلفه العصر؛ أعتقد أنها أفضل صلاة قد صليتها؛ لما رأيت فيها من الخوف والنحيب، والرجيف والوجيف، والحنين والأنين والسكون، والهدوء والطمأنينة، في الأركان كلها.
فلما فرغ من صلاته أخذ المصحف الكريم، ووضعه على رأسه، /219

(2/219)


وقال: إلهي ما لنا من عمل صالح نتوسل به إليك، إلا أني أتوسل إليك، وأبتهل بين يديك، وأسألك بجاه كتابك هذا الكريم أن تجيرنا من النار.
وقيل: هذا ديدنه بعد كل صلاة فريضة، وكان لايملك شيئاً من الدنيا سوى ثيابه التي يلبسها.
وأما كراماته: فهي جمة العدد، أذكر منها كرامة، وهي كافية، وهي: ما روى لي الثقة الأمين أحمد ابن خالي الهادي بن الإمام يحيى بن حمزة، أن رجلاً من أهل تلك الناحية، في جربة له حَجَرَة عظيمة، أعياه كسرها؛ فوقع في نفسه أن يتلطف للسيد الإمام علي بن المرتضى بن المفضل؛ ليصلي عليها، لعل الله ييسر ببركته كسرها؛ فساعده السيد الإمام وارتقى عليها، وتوجه وصلى؛ فلما بلغ الشهادة بالوحدانية، شهد بها من صميم فؤاده (ع)، فتفلقت الحجر من تحته، من عظم يقينه، ووقوع الشهادة على إرادة الله ـ تبارك وتعالى ـ فانزعج الناس من قعقعة الحجر، فوصلوا فوجدوها قد مرت قطعاً قطعاً.
وهذه ـ والله ـ كرامة عظيمة، وآية كبرى؛ أعاد الله من بركاته.
قلت: وقد ترجم للسيد الإمام المجتبى، علي بن المرتضى، في الطبقات، ذكر فيها: أن وفاته في شعبان، سنة أربع وثمانين وسبعمائة؛ ولولده إبراهيم، ووفاته سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة، قبل والده علي بن المرتضى (ع)، وذكر لهذه الكرامة ما يناسبها، أن بعض الفضلاء ذكر كلمة الإخلاص في مسجد الجامع، فتصاكت قناديل المسجد، حتى تكسرت بعضها في بعض، فانزعج إخوانه، فقال: إني معتقد أن السواري تصاك بعضها في بعض؛ ولقد عجبتم من القناديل.
لله أهل الأسرار والإخلاص، واليقين الخاص!
قال: وأروي عن السيد الإمام الواثق بالله المطهر ابن أمير المؤمنين محمد /220

(2/220)


بن المطهر، قال لي يوماً: يا ولدي، إن لي أخاً في الله ـ تعالى ـ يقال له: محمد بن يحيى القاسمي من شظب.
قلت: هو شارح أبيات الإمام الفخرية الذي تقدم، وكان يناسب ذكر هذا فيما سبق، ولكن قصدت أن يكون هذا البحث جامعاً لما يتيسر الإتيان به من كراماتهم؛ نفع الله ـ تعالى ـ ببركاتهم.
(رجع) وهو زوج كريمة السيد الإمام علي بن المرتضى ـ أعاد الله من بركاتهم الجميع ـ ولم أسمع ـ يا ولدي ـ ولا أرى بأفضل منه علماً، وخوفاً، وورعاً، وزهداً، وعبادة، وفقراً، وتوكلاً، وتفويضاً، ورضى بالله.
قلت: هي من الأمور النسبيات، والله الموفق.
قال: سمعته غير مرة يقول: توضأ أخي محمد في بركة في شظب، فوقع في نفسه من الخوف ما كاد يقبضه، فقال: إلهي وسيدي، إن علمت أن اعتقادي فيك وفي توحيدك على وفق إرادتك، فأسألك أن تريني كرامة أطمئن بها، وأزداد يقيناً، يقع عليّ مطر يسيل السيل ويدخل هذه البركة حتى تفيض.
قال السيد الواثق بالله (ع): فما قام من مقامه حتى وقع عليه المطر، وكان كثير التشكك في الطهارة، ودخل السيل، وامتلأت البركة، فوجده جذلاً فرحاً، وقد أردمه المطر والسيل.
هذه كرامة وبشارة لهم، ولمن يحبهم ـ إن شاء الله تعالى ـ.
---
[كرامة لإبراهيم بن أبي الفتوح]
وأروي قريباً من هذه الرواية، ما رواه لي حيّ إبراهيم بن أحمد الكينعي ـ رحمه الله تعالى ـ عن القاضي الفاضل محمد بن إبراهيم، ووجدتها معلقة معه؛ لأنه كان كلّما يقرب إلى الله ـ تعالى ـ يحب إظهاره ما لفظه:
أقول ـ وأنا العبد الفقير إلى الله تعالى، محمد بن إبراهيم بن أبي الفتوح /221

(2/221)


الزيدي ـ: كنت واقفاً أنا ووالدي إبراهيم ووالدتي، وامرأة لأبي أيضاً، في صرح دار، نحن فيها ساكنون، ببيت حاضر، من أعمال صنعاء، وفوق الصرح مخزان مغلق، وفوقه سقف آخر، والشمس حامية، ولاسحاب في السماء نراه، إذ نبع علينا ماء من وسط الخشبة، لا من حولها بل من نفسها، حتى سال من الخلوة إلى الحجرة، ومن الحجرة إلى الدرج؛ فارتعنا وحارت أفكارنا، فهمّت والدتي أن تصيح بالناس.
فقال والدي ـ رحمه الله ـ: اسكتوا، ما أحد يدري بهذا غيري.
فقلنا: أخبرنا.
ولازمناه مدة مديدة، نحواً من خمس أو ست سنين، حتى أتيت من شبام، من القراءة على حي الفقيه الإمام أحمد بن علي مرغم، فلقيني والدي إلى قريب من صنعاء، فوقفت معه تحت حجرة في بلاد سنحان، فسألته بالله ليخبرني عن ماء الخشبة، فقال: ياولدي إني ختمت القرآن في تلك الليلة، وسألت الله ـ تعالى ـ إن كان راضياً علي، وراضياً بفعلي واعتقاداتي، أن يريني آية باهرة، أزداد بها يقيناً، وتكون لي بشارة، فخرج الماء من الخشبة.
وأنا أشهد لكم بهذه الشهادة عن أبي، وعن مشاهدة الماء يخرج من نفس الخشبة.
قال: فقلت له: يا أبه، كيف اعتقاداتك أعتقد بها؟
فقال: ياولدي، كما قيل:
لو شُق قلبي للقي وسطه .... سطران قد خُطّا بلا كاتبِ
العدل والتوحيد في جانبٍ .... وحبّ أهل البيت في جانبِ
إن كنتُ فيما قلتُه كاذباً .... فلعنة الله على الكاذبِ
وكان هذا القاضي إبراهيم نفع الله ـ تعالى ـ به من علماء الكلام المبرزين فيه، وفي أصول الفقه، والفقه، والعبادة، وتلاوة الكتاب العزيز.
قلت: ترجم له في مطلع البدور، وافتتح به أول الكتاب؛ تيمناً /222

(2/222)


بالفتوح، ولم يذكر وفاته، وذكر كرامته هذه.
[ترجمة المهدي بن القاسم بن المطهر ـ والد مؤلف الصلة]
قال في صلة الإخوان: سمعت أبي المهدي بن قاسم يقول: كرامات أهل البيت أبلغ، وأكثر من غيرهم.
قلت: والده هو السيد الإمام، الصوام القوام، علم سادات الأنام، خليفة زين العابدين، المكرم بالكرامات من رب العالمين، المهدي بن القاسم بن المطهر (ع)؛ كان يُؤَهّل للإمامة، ويرجى للزعامة، وطولب للقيام بأمر الأمة، بعد وفاة الإمام يحيى بن حمزة (ع)، فامتنع، وكان الغاية في زمانه في العلم، والعمل، والزهد، والورع، وقد شوهد النور في مشهده يسطع، من قبره إلى عنان السماء؛ توفي بصنعاء اليمن، واتخذ عليه وليه وأخوه في الله، سعيد بن منصور الحجي، مشهداً، ودفن بجنبه شيخ إبراهيم الكينعي، وهو العالم العابد الزاهد، قرين الإمام يحيى بن حمزة (ع) في درس العلوم، إمام العباد، وسيد الزهاد، الولي الرباني، حاتم بن منصور الحملاني.
قال: روى لي سيدي إبراهيم بن أحمد الكينعي ـ رحمه الله ـ قال: صلى حاتم بن منصور زهاء أربعين سنة بالجماعة إماماً، ماترك صلاة واحدة بالجماعة يعلمها؛ ولا مدة الأربعين سجد لسهوه إلا ست مرات، وما يدع البكاء في الصلاة الجهرية والمخافتة، وما يترك صلاة التسبيح في اليوم في وقت الضحى، ولا في الليلة مرة، حتى لقي الله تعالى.
...إلى قوله: وكان لاتأخذه في الله لومة لائم؛ جاءه يوماً أمير صنعاء وملكها، معتذراً في حد سارق أخذ على أخ من إخوانه ثوباً في الليل، فسلم على الفقيه، وأراد تقبيل يده، فانزوى عنه الفقيه، وعن مسّ يده، كأنها ثعبان، فقال: ياسيدنا، قد فعلنا بهذا السارق وصنعنا.
فقال الفقيه ـ أعاد الله من بركاته ـ: ياعبد الله، هذا السارق يأخذ الناس /223

(2/223)


بالليل، وأنت تأخذهم بالنهار.
فبهت ذلك الأمير، وولى منكسر القلب...إلخ.
وقد سبق ذكرهم، وترجموا لهم في كتاب الصلة، وطبقات الزيدية، ومطلع البدور، وأفادوا ما حررته ـ رضي الله عنهم ـ.
[أفراد ممن اتصل بهم يحيى بن المهدي بالحرم الشريف]
قال السيد الإمام يحيى بن المهدي: من طلب الله صادقاً وجده؛ سافرت للحج إلى بيت الله مع سيدي إبراهيم بن أحمد، سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، في رفقة من إخواني وأحبائي، منهم: السيد الهادي بن علي بن حمزة العلوي، والسيد الأفضل، معدن الفخار، ودرة آل محمد المختار، محمد بن أحمد بن الناصر ابن أمير المؤمنين أحمد بن الحسين (ع)، والشيخ الصالح، الأواه المنيب، محمد بن علي بن الأسد؛ ومنهم: أخي وقرة عيني أحمد بن المهدي بن قاسم، وهو مبرز في العلوم، مشمّر في طاعة الحي القيوم، حج وهو ابن ست عشرة سنة؛ ومنهم: الفقيه الصالح يحيى بن أسعد اللوز؛ وشاهدنا في سفرنا من الكرامات والفتوحات، والحمايات والكفايات، في البر والبحر، ما لايمكن شرحه لسعته.
قال: فمن أفضل ما رأيت من المجاورين.
قلت: كذا في الصلة (ما رأيت) ولعله باعتبار صفتهم، كما في قوله ـ عز وجل ـ: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5)} [الشمس:5]..الآيات، وإلا فكان الأولى (مَن) لأنها لذوي العلم.
قال: ثلاثة نفر، منهم: رجل عالم فاضل، خائف مراقب، يقال له: شمس الدين المصري ـ وفقه الله تعالى ـ واخيته وأحبه قلبي، فرأيته يوماً في الحجر الكريم، فقال لي: ما أنت؟
فقلت: فقير مذنب.
قال: ما أريد هذا، أنت محمدي؟
فقلت: نعم.
فاستلقى على قفاه إلى جدران الحجر، وقال: بخٍ بخٍ لكم آل محمد، أهل الشرف والوفاء، والتحقيق والصفاء.
فلازمني في الصحبة.
قال: والثاني: شيخ من الهند، حنفي المذهب، يقال له: نجيب، كاسمه، /224

(2/224)


عمره قريب من المائة السنة، جاور في مكة ثلاثاً وعشرين سنة، يعتمر في كل يوم عمرة، ماشياً على قدميه.
قلت: يحمل على غير أيام الاشتغال بالحج، وأيام التشريق؛ كما لايخفى.
قال: قد رصدته مراراً يطوف، ويسعى في الصفا والمروة، وتحت الميزاب، يصلي على ملائكة الله وأنبيائه وأوليائه؛ ثم يقول: اللهم الطف بآل محمد، وتقبل منهم، وارفع عندك منزلتهم، وأكرم لديك جوارهم؛ اللهم اجعل دينهم قاهراً لجميع الأديان، اللهم أغن فقيرهم، وتجاوز عن مسيئهم، اللهم الطف بأهل الحرمين الشريفين والمجاورين.
ويدعو لهم بدعاء حسن، ثم يدعو للمسلمين والمسلمات؛ ما سمعته يدعو لنفسه قط.
أضافني ليلة، ونزل معي إلى باب بيته، فقلت له: إنك شيخ كبير، معذور مشكور.
فقال: والله يا سيدي لو قلعت عيني لتطأ عليها، ما أديت لكم حقاً ـ يا آل محمد ـ.
يقولون في مكة: السيف المسلول، الشيخ نجيب.
وسمعت من يقول في المسعى: وحق شيبة نجيب، أعاد الله من بركاته.
قال: الثالث منهم: الشيخ حسن بن محمود الشيرازي، رجل فاضل، طويل القامة، حسن الخَلق والخُلق، يلبس البياض، قميص وعمامة بيضاء يسدلها، كعمامة الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ نور الإيمان على وجهه، وسيماء الصالحين قد شمله؛ يسكن في رباط الزيدية بمكة، ووقع بيننا وبينه التعارف أولاً بالقلوب، ثم الأشخاص؛ فوجدناه صالحاً، له أسرار عجيبة، وتنويرات غريبة، لايزال تحت سارية في الحرم الشريف قاعداً، أكثر عبادته التفكر والذكر الخفي، مجاوراً للبيت العتيق، خمس عشرة سنة.
قال: وله كرامة عجيبة، من وقع في نفسه شيء ـ من أحبابه فقط ـ حاجة /225

(2/225)


من الله، أو ضمير يضمره؛ بيّت الحاجة، وأخبر الصبح بما سمع فيها.
قلت له: ياسيدي شرف الدين، سألت الله ـ تعالى ـ حاجة أحب أن تلازم الله ـ تعالى ـ في قضائها، وتخبرني بكرة غدٍ ـ إن شاء الله تعالى ـ.
فقال: بسم الله.
وارتسم بالسمع والطاعة؛ فبيّت لي، وكان بكرة في الحرم الشريف وجدني، فصافحني ولزم على يدي، وأخبرني، قال: هذه الليلة، رأيت في منامي، أني واقف تحت العرش العظيم، والملائكة صافون من حوله، فقلت: سيدي شريف يحيى بن مهدي يسأل الله حاجته.
فقالت الملائكة (ع): نعم، طلب ولداً صالحاً؛ يحصل ـ إن شاء الله تعالى ـ عن قريب؛ فإذا حصل سماه أبو العطايا.
وقال لي سيدي شريف: هذه حاجتك؟
فقلت: إي والله.
قلت: في الأصل: سماه أبو العطايا (بالواو)، فإما أن يكون أصل وضعه على حكاية الرفع ـ وهو في العربية كثير ـ وحكاه الشيخ على لسانه، فقد أفاد أنه أقرب إلى العجمة، وهو ظاهر في خطابه؛ أو من تغيير النساخ، وقد تصرفت في هذا النقل من كتاب الصلة في مواضع للاختصار ـ كما أشرت إليه ـ والاصلاح، والله الموفق.
ثم ذكر أنه سأله حاجة أخرى فأخبره.
قال: وكان يعظم أخي أحمد، ويقول: له شأن عظيم، وحال قوي.
قال: فحصل الولد المبارك عبدالله، وسميته: أبو العطايا ـ كذا في الأصل كما سبق، قال:ـ تبركاً بكلامه، بعد إيابنا من بيت الله العتيق؛ وشرح لي أنه يكون صالحاً، عالماً، ثقة، زاهداً.
قال: وهذا ولدي عبدالله أبو العطايا مجتهد في طلب العلم، قد نقل من المختصرات خمسة كتب غيباً، وعمره اثنتا عشرة سنة؛ وفي سنة خمس وتسعين /226

(2/226)


قد عزم على غيب القرآن الكريم، وكثيراً ما يلازمني في الحج إلى بيت الله الحرام، ويشتاق إليه؛ بلغ الله فيه أملي وأمل إخواني، وفقه الله لصالح القول والعمل، وعصمه عن الجهل والخطأ والزلل، بمحمد وآله وبملائكته أتوسل، أن يجعله ممن اهتدى وأناب، ومن أهل الحكمة وفصل الخطاب، آمين آمين، وصلى الله على محمد وآل محمد وسلم، والحمد لله رب العالمين.
قلت: وهذه خاتمة الكتاب، والحمد لله الملك الوهاب؛ اللهم وإياك نسأل، وبجلالك وأسمائك الحسنى وآياتك العظمى نتوسل، أن تصلي وتسلم على رسولك وآله، وأن تجعلنا ومن شاركنا في دعائنا من المؤمنين، من المهتدين بأنوارهم، والمقتدين بآثارهم، والمتبعين لهم بإيمان وإحسان، والمرافقين لهم في دار الرضوان، وأن تعيد علينا من بركاتهم، وتفيض علينا من نفحات كراماتهم، وتشركنا في صالح أعمالهم ودعواتهم، وتلحقنا بهم صالحين، وتلطف بنا وبالمؤمنين في الدارين، وتظهر كلمة الدين، وتنصر الحق والمحقين، وتحمي حوزة الإسلام والمسلمين، وتؤيد شريعة سيد المرسلين؛ بحقك يا إله الحق آمين.
[ترجمة للسيد أبي العطايا]
هذا، وقد بلّغه الله تعالى في ولده أمله، وحقق رجاءه، واستجاب له دعاءه؛ فصار السيد الإمام أبو العطايا عبدالله بن يحيى قدوة للمسلمين، وكعبة للطالبين، وإماماً للعلماء العاملين، ونجماً من نجوم العترة الهادين، وحافظاً لعلوم الآل الأكرمين.
قال السيد الإمام في الكلام فيه: وأجل تلامذته السيد صارم الدين إبراهيم بن محمد الوزير، والفقيه علي بن زيد /227

(2/227)


العنسي، والفقيه حسن بن مسعود المقرائي.
إلى قوله: ومحمد بن عبدالله، والد السيد صارم الدين، ويحيى بن أحمد مرغم.
قال تلميذه السيد صارم الدين: مولانا السيد الإمام، شيخ العترة الكرام في زمانه، ومفسرها، ومحدثها، ومفتيها، والمعتني بعلومها، صلاح الدين، بركة أهل البيت المطهرين، عبدالله بن يحيى بن المهدي الحسيني، الزيدي نسباً ومذهباً.
وقال القاضي ـ أي صاحب مطلع البدور، وهو المقصود كلما أُطلق هنا في هذا الكتاب كما سبق ـ: السيد الإمام الكبير، مُلْحِق الأصاغر بالأكابر، شيخ شيوخ العترة، ومفخر العصابة والأسرة.
إلى قوله: وحافظهم، متفق على جلالته؛ تخرّج عليه العلماء، وكان موئلاً للتحقيق؛ وبالجملة، فلا تفي عبارة بوصفه، له كرامات وفضائل.
قال السيد أحمد بن عبدالله: هو السيد العلامة، رباني العترة الكرام، إمام علوم الاجتهاد الإمامة الكبرى، بإجماع علماء عصره أجمعين.
وقال غيره: العالم الشهير، والفاضل الكبير، وكان مجتهد زمانه، وعالم أوانه.
قلت: في مطلع البدور: وأظن هذه الترجمة، أي قوله: العالم الشهير...إلخ، واضعها الإمام عز الدين بن الحسن (ع)، وأفاد أنه درس في العلوم ـ أي أقرأ ـ أربعة وخمسين عاماً.
قال السيد الإمام: يروي عن أبيه، عن الواثق بالله المطهر بن محمد بن المطهر، عن أبيه، عن جده.
قال: وبهذا الإسناد إلى الإمام محمد بن المطهر، عن الأمير المؤيد، عن /228

(2/228)


الأمير الحسين بن محمد بطرقه؛ ويروي عن أبيه، عن الإمام علي بن محمد (ع)...إلخ.
قلت: وفيما سبق وما يأتي من استناد العلوم إليه، ما يفي بتفصيل حاله؛ ولكن هذا على سبيل التأكيد، وقد كررت مثله في هذا الكتاب؛ ليكون الرجوع عند التباس الأمر في محلّ إلى آخر، والله ولي التسديد.
هذا، وقد بسطت القول في هذا البحث؛ لإرادة الاستبصار، وقصد الاعتبار، ولم تزل والحمد لله أنوار النبوة تشرق في جميع الأعصار، وأرواح عبيرها تعبق على الاستمرار، ورايات فضلها تخفق في الأقطار، على أهل البوادي والأمصار، ولن تزال على ذلك إلى اليوم الموعود، والحوض المورود، والمقام المشهود؛ وعد الله على لسان رسوله المختار ـ صلى الله عليه وعلى آله الأطهار ـ.
ولقد مَنّ الله ـ تعالى ـ علينا ـ وله المن ـ بإدراك جماعة، ومعاينة طائفة، من تلك العصابة الطاهرة، وأخبرونا تلقيناً ومشافهة، عن إدراكهم ومعاينتهم لجماعة وافرة، من النجوم الزاهرة، شموس الدنيا وشفعاء الآخرة؛ أجرى الله ـ جل جلاله ـ لهم الآيات البينات، والكرامات النيرات، من استجابة الدعوات، وكشف الكربات، وتظاهر البركات؛ ولو بسطت القول في ذلك لطال الكلام، ولكن يكون في كل محل ما يحتمله المقام؛ رضوان الله عليهم أجمعين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
[السند إلى جميع مؤلفات الإمام المتوكل على الله المطهر بن محمد بن سليمان الحمزي وترجمته]
هذا، وسبقت الأسانيد في طريق المجموع وغيره، إلى الإمام الأمجد، المتوكل على المنان، المطهر بن محمد بن سليمان الحمزي (ع). /229

(2/229)


فأروي بها جميع مروياته ومؤلفاته، منها: شرحه على أحكام إمام الأئمة، الهادي إلى الحق (ع)، وما جمعه من أحاديثه المفردة.
ومنها: تكميله لشرح البحر الزخار، من كتاب الصيد إلى آخره، تتمة لشرح مرغم؛ لأنه انتهى إليه.
وكتاب الإرشاد، وغيرها من الرسائل؛ وقد سبق في التحف الفاطمية ذكر ما لا غنية عنه من أحواله، ونشير هنا إلى إتمام ذلك.
قال السيد الإمام في ترجمته: الإمام المتوكل على الله، العالم ابن العالم، نشأ على ما نشأ عليه سلفه الصالح؛ لازم الإمام المهدي أحمد بن يحيى، فقرأ عليه جميع الفنون، من أصول وفروع وحديث، وغير ذلك؛ ومن ذلك جميع ما ألفه الإمام المهدي(ع) نظماً، ونثراً؛ ومن ذلك الشافي للإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة، والكشاف لجار الله، وكتب الأئمة، وشيعتهم، ومعقول العلوم ومعلومها، بين سماع وإجازة، ومناولة، وغير ذلك.
وقال (ع) في إجازته للإمام عز الدين بن الحسن (ع).
قلت: ساق السيد الإمام ما فيها، باختصار وتصرّف لايخل، وهي عادته ـ رضي الله عنه ـ في النقل، يأخذ خلاصة المقصود في الأغلب، والأصل موجود حال التحرير كغيره من الأصول ـ بحمد الله ـ.
(رجع) فمن المسموعات من كتب العربية: مقدمة طاهر وشرحها لابن هطيل، وشرحها لمصنفها، وشرحها للإمام يحيى بن حمزة المسمى بالحاصر.
ومنها: مقدمة ابن الحاجب، وشرحها لابن هطيل، وشرحها للمؤلف، وشرحها لركن الدين، وشرح اليمني، وشرح النجراني.
قلت: للشيخ إسماعيل بن عطية النجراني.
قال: وكتاب المفصل للزمخشري، وشرحه للإمام المهدي، وشرحه/230

(2/230)


لابن هطيل، وشرحه لابن الحاجب، وشرحه للأندلسي، وشرحه لابن يعيش.
[ترجمة ابن سابق الدين وابن هطيل]
قلت: في الأصل: وشرحه المعروف بالإقليد.
قلت: هو للعالم ابن العالم، الحسن بن محمد بن سابق الدين، من أعلام الشيعة الأكرمين، وفي العربية إمام اليمنيين، المعروف بمجد الدين؛ وهو جد العلامة مفتي الزيدية، الحسن بن محمد النحوي، أخذ عن الأمير الحسين بن بدر الدين، وعن والده، وعن الحسن بن البقاء.
أفاده السيد الإمام، وترجم له في مطلع البدور في موضعين: في الحسن، وفي الحسين ـ رضي الله عنهم ـ.
قال: ومنها: شرح الجمل، للشيخ طاهر، وتعليقه لابن هطيل.
قلت: هو الفقيه العلامة علي بن محمد بن هطيل، من علماء العصابة الزيدية، وفضلاء الشيعة المرضية؛ ترجم له السيد الإمام، وصاحب مطلع البدور، وأفاد أنه علامة النحاة، ومفخر اليمنيين؛ كان أشهر من شمس النهار في علومه وفضائله، سيبويه اليمن.
وترجم له بعض الشافعية، وأثنى عليه.
(رجع إلى كلام الإمام المطهر بن محمد المذكور في الطبقات).
قال: والتصريفية، وشرحها لمصنفها، وللسيد مجد الدين، وللسيد ركن الدين.
ومن كتب المعاني والبيان: التلخيص وشرحه، ومفتاح السكاكي وشرحه للقطب، وكتاب الموجز والإيجاز للرازي.
ومن التفاسير: الكشاف، وتفاسير السيد علي بن محمد بن أبي القاسم كلها، وتفسير الأعقم.
ومن كتب الكلام: الخلاصة، وشرحها الغياصة، وشرح الأصول، /231

(2/231)


وتلعيقه لابن حميد، وتعليقه لحي السيد الهادي بن يحيى بن المرتضى، وعمدة حميد، والنفحات وشرحها له، وشرح قاضي القضاة، وتذكرة ابن مُتَّويه، وكتاب الكيفية.
ومن كتب علم الكلام أيضاً: مصنفات حي الإمام المهدي أحمد بن يحيى (ع): مقدمة البحر في علم التوحيد والعدل، ورياضة الأفهام، وشرح ذلك كله الذي له(ع)، ونهاية السؤول للفخر الرازي، والتعليق الذي عليها، وكتاب القرشي.
ومن كتب أصول الفقه: كتاب الورقات للجويني، وكتاب لباب المحصول، وكتاب معيار العقول للإمام المهدي، وكتاب منتهى السؤول، وشروحه الرفو والأصبهاني، والعضد، وتعليق شرح العضد، وشرح قطب الدين البسيط، ورفع الحاجب، وشرح الحلي، وشرح الفقيه علي بن عبدالله بن أبي الخير.
ومنها: شرح العيون للحاكم، والحاصل والمحصول للفخر الرازي، والمستصفى للغزالي، والمعتمد للشيخ أبي الحسين، وكتاب القرشي، وجمع الجوامع، وشرحه.
ومن كتب الفقه: نكت الفوائد، وشرحها للقاضي جعفر، ومنظومة الكوفي، والمذاكرة، واللمع، وتعليقها للفقيه حسن، وتعليقها للفقيه يوسف بن أحمد، وكتاب الأحكام للهادي (ع)، وكتاب البحر للإمام المهدي (ع)، وكتاب شمس الشريعة، وكتاب الذريعة.
ومن كتب الحديث: كتاب الأربعين السيلقية، وشرحها للإمام المنصور بالله (ع)، وكتاب الشهاب، وكتاب النجم الثاقب، وكتاب مصابيح ابن داود، وكتاب البخاري إلى كتاب الحجاب، وكسنن أبي داود، /232

(2/232)


والشفاء، وأصول الأحكام؛ ولي إجازة في غير ذلك، وهي كتب عديدة الفنون.
ومن كتب اللغة: النظام، وكفاية المتحفظ، والمقامات، وثلاث أرباع الصحاح، وضياء الحلوم.
قلت: وقد سقتُ هنا، وفيما سبق الكتب المسموعات ـ لاسيما الجامعات ـ وإن دخل غير المقصود من التابعات؛ لما في ذلك من تصحيح الطرقات، وبيان مواضع البحث، واتصال السماع، والوقوف على ما لهم من قوة الباع، وسعة الاطلاع، فقد راضوا من العلوم أسفارها، وخاضوا غمارها، وقطعوا أنجادها وأغوارها، رضي الله عنهم وأرضى، وجزاهم عن الإسلام والمسلمين أفضل الجزاء.
قال السيد الإمام: وأجل تلامذته الإمام عز الدين بن الحسن، والسيد صلاح بن يوسف، ومحمد بن علي بن فند الزحيف مؤلف مآثر الأبرار، وغيرهم.
قال في مآثر الأبرار: دعا عقيب موت علي بن صلاح، وتعارض هو وصلاح بن علي بن محمد بن أبي القاسم.
قلت: أي الإمام المهدي لدين الله صلاح بن عالم آل محمد علي بن محمد (ع) صاحب التفسير، وشيخ محمد بن إبراهيم الوزير.
وقد تقدم تحقيق أحوال الجميع في التحف الفاطمية، وفي هذا المؤلف.
[ترجمة الإمام الناصر بن محمد بن الناصر بن أحمد بن المطهر بن يحيى]
قال: وعارضهما الناصر وهو أصغر منهما سناً، وأقل علماً؛ لكن أقبلت له الأيام. /233

(2/233)


قلت: اسمه الناصر، ولقبه المنصور ابن محمد بن الناصر بن أحمد ابن الإمام المتوكل على الله المطهر بن يحيى، وتمكن حتى ملك أكثر ما ملكه جده أبو أمه، علي بن الإمام الناصر صلاح الدين، وأسر كل واحد من الإمامين.
فأما الإمام المتوكل على الله المطهر بن محمد (ع) فسجنه في نواحي ذمار، وقال القصيدة الكبرى، في مدح جده المصطفى، صدرها:
ماذا أقول وما آتي وما أذر .... في مدح من ضُمّنت مدحاً له السورُ
ومنتهاها:
ومن توسل فيما رام من وَطر .... بهم إليك لك الحمد انقضى الوَطَرُ
وهي مائة وأربعة وثلاثون بيتاً؛ ولما سمعها بعض وزراء الناصر، قال: انظروا فإنكم تجدون الرجل قد خرج من الحصن ببركة هذا الشعر، فوجدوه صحيحاً.
وأما الإمام المهدي صلاح بن علي (ع)، فتوفي في سجن الناصر، ووقعت له كرامة عظيمة، وهو أنه أرسل له بلوح من صعدة إلى صنعاء، فلما رآه عبد للناصر كسره، فلم يمهله الله ـ تعالى ـ بل أخذه أخذ عزيز مقتدر، وعرف هذه الفضيلة للإمام أهلُ صنعاء وغيرها؛ أفاد ذلك في مآثر الأبرار.
قال: وهي متناقلة إلى آخر الدهر. /234

(2/234)


هذا، وانقلبت الأحوال بالناصر، فأسره الإمام المتوكل على الله المطهر بن محمد، ومات في سجنه؛ فسبحان المتصرف في خلقه بلا انتقال ولا زوال؛ وهذا خلاصة خبرهم.
قال السيد الإمام، ناقلاً لكلام مآثر الأبرار: وكان المطهر من أعيان أئمة الزيدية علماً، وفصاحة، وكثرة أتباع، نحارير، وسادة أكابر.
قلت: في المآثر: من وجوههم: السيد الصدر العلامة، الهادي بن المؤيد بن علي بن المؤيد، فإنه بايعه، وشايعه، وجاهد معه، وتوجه على رأيه في عسكر جرار، غازياً لطرف تهامة.
ثم أورد قصة الغزوة...إلى قوله: وقتلوا السيد الهادي في عصابة معه من أعيان المجاهدين؛ فضاق المسلمون لهذه الكائنة، وأنشأ الإمام (ع) هذه الترثية، وفيها مضمون ما جرى من بني عبس.
ـ ثم ساقها، وهي مائة بيت صدرها ـ:
على الأحبّة إنْ لم تَبْكِ أجفاني .... فما أقلّ الوفا مني وأجفاني
ومنها:
الهادي الهادي ابن ابن الإمام ومَنْ .... كان المرام إذا يوماً عنى عانِ
[ترجمة والد الإمام المطهر ـ محمد بن سليمان الحمزي]
وقد تقدم والده السيد الإمام، نجم الأعلام.
قال السيد الإمام في ترجمته: قال القاضي: هو السيد الإمام، مفزعُ الأئمة، ومرجع المحققين، سلطان العلماء، البحر الحبر المحقق، الحافظ الحجة، زين الملة، ورئيس المتكلمين، لسان المفتين، والد الإمام المطهر.
قال مصنف سيرة الإمام المطهر: وكان والده السيد الفاضل، العالم /235

(2/235)


العامل، الذي فاق أهل زمانه علماً، وإيضاحاً، وفضلاً؛ أوضحَ من العلوم كل مشكل، وسهل منها كل معضل، واعترف له بالكمال، ورمقته العيون من كل مكان.
ومن أخباره أنه لما عزم علىالحج، وحمل زاده، جاء إلى الإمام الناصر صلاح بن علي (ع) إلى ذمار؛ ليخبره بذلك ويستأذنه، فوقع مع الإمام موقعاً عظيماً؛ لغزارة علم هذا السيد، فما أذن له، بل قال: تحيي هذه الجهات بالعلم؛ ثم قال الإمام: إذا سافر للحج تعدى إلى الجهات الشامية أو غيرها، حيث يعلم بالعلم وطلبته؛ لشدة رغبته في إحياء العلم ونشره؛ ودخل مع الإمام ـ قلت: أي الناصر صلاح بن علي (ع) ـ إلى صعدة، وذبّ عن الإمام فيمن تعرض في شيء من السيرة، ثم عاد إلى صنعاء، وبها توفي في صفر، سنة أربع وثمانمائة، عن أربع وسبعين.
قلت: وذكر السيد الإمام الرواية عن العامري، أنه اختار الطريقة الأولى، من طرق رواية البخاري، وأنه قال: إنما اخترت هذه الطريق؛ لأن فيها اثنين من أهل البيت (ع).
قال السيد الإمام: قال الزريقي: فما ظنك بطريق سلسلها الأئمة الأعلام؟!.
هذا الإمام شرف الدين يروي عن الإمام المنصور بالله محمد بن علي، عن الإمام الهادي عز الدين بن الحسن، عن الإمام المتوكل المطهر بن محمد، عن الإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى، عن الإمام السيد العلامة محمد بن سليمان.
وللسيد محمد أيضاً طريق أخذ عن السيد الواثق المطهر بن محمد، عن الإمام المهدي محمد بن المطهر، عن والده الإمام المطهر بن يحيى، انتهى.
قلت: وقد تسلسلت بفضل الله ومنّه، من لدينا إليهم وإلى غيرهم من الأئمة الهداة، بأهل بيت النبوة سفن النجاة، والحمد لله. /236

(2/236)


[السند إلى مؤلفات الإمام عز الدين بن الحسن (ع) وترجمته]
وسبقت الأسانيد، إلى والدنا، الإمام المؤتمن، الهادي إلى الحق أبي الحسن، عز الدين بن الحسن (ع) في طريق المجموع وغيره.
فأروي بذلك السند المتصل بآل محمد، جميع مؤلفاته، شرح البحر الزخار إلى الحج، والمعراج، وكنز الرشاد، وفتاويه الجامعة، ورسائله الساطعة، ومسائله النافعة، وكل ماله من منثور ومنظوم، وجميع مروياته ومسنداته في أبواب العلوم، وقد تقدم ذكره في التحف الفاطمية ، مع سائر أئمة العترة النبوية (ع)، ونذكر هنا ما فيه زيادة إفادة في هذه المقاصد المرضية؛ وأنوار هؤلاء الأئمة الأطهار، أجلى من فلق النهار لذوي الأبصار؛ ولكن ذكرهم ذكر نعمان عند أولي الاختبار، وقد تضمنت سيرة الإمام (ع) أسفار علماء الملة الأبرار.
قال السيد الإمام في ترجمته (ع): الإمام الهادي إلى الحق؛ مولده لعشر بقين من شوال، سنة خمس وأربعين وثمانمائة، بأعلى فللة.
إلى قوله: لم يزل منذ عقل مولعاً بالعلم وتحصيله.
قلت: في مآثر الأبرار: نشأ هذا الإمام، نشوء آبائه الكرام، وقفى منهاج أسلافه الأعلام، فهو كما قال المنصور بالله (ع):
نشأته طاهرة إذْ نشا .... يقفو على نهج أبيه علي
قلت: وهذا من الأبيات المشروحة بمحاسن الأزهار.
قال السيد الإمام ـ رضي الله عنه ـ: ابتدأ طلب العلم بوطنه، ثم قصد /237

(2/237)


صعدة، فقرأ فيها على شيوخ عدة، وصنّف وما قد تم له عشرون.
إلى قوله: وله من الإمام المطهر بن محمد بن سليمان إجازة، قال ما لفظه:
أجزت السيد، المقام الأفضل، العالم الأعمل، نافلة أمير المؤمنين، عز الدين ابن السيد شرف الدين الحسن ابن أمير المؤمنين الهادي لدين الله علي بن المؤيد بن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أن يروي عني، على الشرط المعتبر في الرواية، مما هو لي سماع من كتب الهداية، وإجازة.
ثم ذكر مسموعاته، واشتملت على كتب العربية؛ وأشار إلى ما تضمنته من كتب الفنون، وقد تقدمت.
قال: وأجل تلامذته الإمام محمد بن علي السراجي، وله منه إجازة عامة.
قلت: وغلط الشيخ محمد الشوكاني في البدر الطالع، فعدّ الإمام عز الدين من تلامذته، وهو خلاف الواقع المعلوم.
وولده الإمام الناصر للحق، الحسن ابن الإمام عز الدين بن الحسن (ع).
قال: فلما قفل، وقد انتهى إلى غاية وطره، ولم يزل يترقى في العلوم، ويدمغ هامات الموهوم منها والمعلوم، حتى برع في كل فن، خصوصاً علم التوحيد والعدل؛ فإنه كان أوحد زمانه، مبرزاً فيه على أقرانه، وصنف فيه شرحاً على منهاج القرشي، وأكبّ على قراءته عليه، ونسخه وتحصيله، أعيانُ الزمان، وجاءه لسماعه جماعة من نحو جهران، وخبان، وذمار، وحدث بهذا المصنف الركبان، حتى بلغ الصفراء وينبع وتلك البلدان؛ وله مصنفات غيره في سائر الفنون.
وفي آخر مدته أخذ في جمع شرح على البحر الزخار، واستحضر عدة كتب في كل فن؛ ولكنه توفي وقد بلغ إلى كتاب الحج، وقد صار مجلدين.
وكان يوزّع أوقاته؛ ففي بعضها ينسخ الأسفار بخطه، ثم /238

(2/238)


يصححها سماعاً على شيخه؛ وكان له خط رائق.
قلت: قال في مآثر الأبرار، بعد إيراد هذا الكلام، إلا أن السيد الإمام ساقه على وجه الاختصار، ما لفظه: وكان له خط فائق، وضبط موافق، وبأمثاله لائق.
قلت: وقد منّ الله ـ تعالى ـ علينا من خزانته بكتب كثيرة، منها: نسخة البحر الزخار بقلمه الكريم، وهي الغاية في الإتقان والصحة؛ والإمام المرجوع إليه عند الاختلاف؛ وقد تم لنا ـ بحمد الله تعالى ـ فيها الدرس والتدريس، وتصحيح النسخ عليها عدة أشراف؛ جزاه الله ـ تعالى ـ أفضل الجزاء، عنا وعن المسلمين، وقدس روحه في عليين.
قال: وفي بعضها يقريء تلامذته، وفي بعضها ينقل شيئاً من القرآن غيباً، ويتهجد به.
قال: وأعجب ما رأيته بخطه في جنب مصحف: اتفق ـ والحمد لله ـ الفراغ من نقل القرآن الكريم، وتمام حفظه كله غيباً.
إلى قوله: فالمنة لله ـ سبحانه ـ، والحمد لله على ذلك، وعلى سائر نعمه؛ فنحن بعد ما يسره الله لنا من ذلك في أجلّ نعمة، وأبلغ قسمة؛ جعله الله لنا هادياً، وشافعاً، ونافعاً؛ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
قال: وكان إحرازه للعلوم في مقدار عشر سنين؛ إن هذا لهو الفضل المبين.
قلت: هذا كلام العالم الثبت، المعاصر للإمام (ع)، المطلع من أحواله على التمام؛ ذلك الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
قال: ولما قضى من طلب العلم حاجته، تفرغ للدرس والتدريس؛ فصار رُحلةً للقاصدين، ومنتجعاً للوافدين، تؤمه طلبة العلم من أكثر /239

(2/239)


الأمصار، والبوادي والحضار؛ فممن قرأ عليه مدة مديدة: حي السيد الوشلي محمد بن علي، في عصابة.
قلت: هو الإمام محمد بن علي السراجي، كما في الطبقات.
قال: وتوجهت إليه المسائل والرسائل، من كل جهة، ورمقته الأعين، ونطقت بفضله الألسن، وحظي من الإقبال عليه بما لم يحظ به غيره، وكثرت نذوره، وأشرق فيهم نوره؛ وكان الناس يتحدثون بأنه الصالح للإمامة، وأنشدت فيه الأشعار، قبل التلبس بدثارها؛ وأظهر قوم إمامته في حال السيادة؛ فَلِحَي الفقيه النبيه، المنطيق الفصيح، علي بن يحيى الهذلي الضمدي فيه شعر، منه:
وإنا لنرجوا عاجلاً أن يقيمه .... إله به قامت سماواته السبعُ
يعيد نصاب الملك في مستقرّه .... ويخلع عنه من يحق له الخلعُ
قال: فلما دعا، فرح الناس بدعوته، فكان أول من بايعه والده المبارك، شرف الدين، الحسن بن أمير المؤمنين، وسائر إخوته، وبني عمه.
قلت: وهذه منقبة له كبرى، لم يسبقه إليها من أهل بيت النبوة (ع) إلا الإمام المهدي لدين الله محمد بن عبدالله النفس الزكية، في قيامه أيام أبيه، شيخ آل محمد، عبدالله الكامل (ع)، ولم يلحقه أحد فيما أعلم.
قال: ثم من حضر من العلماء، ثم القبائل؛ قرئت عليهم دعوته الكبرى، العامة لكل الورى، وفيها من البلاغة الرائعة، والحجج القاطعة، والمواعظ الحسنة، والوصايا المستحسنة، والاعتذار من القيام.
إلى قوله: ما يشهد له بتقدمه.
[نفوذ دعوته واتساع نطاق مملكته]
قال: فلما وصلت دعوته إلى الجهات اليمنية، مثل: صنعاء ومشارقها /240

(2/240)


ومغاربها، ومثل: ذمار وما يليها يمناً وشرقاً وغرباً، ومثل: المغارب، حجة وبلادها، ومثل: شظب، وبلاد الأهنوم، والشرفين إلى حدود تهامة، ومثل: جازان، وضمد، ووساع، وحلي، وينبع، ومكة؛ وصلت الكتب بالطاعة، وأقاموا الجمعة والجماعة.
قال: وخرج إليه جميع أعيان علماء صنعاء وتلك النواحي، ولم يبق أحد ممن له يد في العلم، إلا وصله، فأوردوا عليه من الأسئلة في كل فن ما ملأ الطروس، وشافهوه بجميع ما يعرض في النفوس، فأجابهم بما يشفي الأوام، وجلى دياجير الظلام.
فلما وضحت لهم الحجة، ودلهم على المحجة، بايعوه وشايعوه.
إلى قوله: ويأبى الله إلا أن يتم نوره؛ وجمع الكلمة بهذا الإمام، وأطاعه العباد، ودانت له البلاد؛ ووقع لدعوته من القبول والإقبال، مالم يكن يخطر ببال، واعترف له الموالف والمخالف، بالعلم الغزير، وجودة التدبير، وبالكرم الجمّ، الذي يغطي على موجات اليمّ.
...إلى قوله: ثم إن هذا الإمام انفرد عن أكثر الأئمة بخصال، لم تجتمع إلا فيه، وهي: الخطابة، والبراعة في العلم، وعدم الكلال لذلك، ليلاً ونهاراً، وسحراً وسمراً، وسفراً وحضراً، حتى أنه منذ دعا إلى أن توفي إلى رحمة الله ورضوانه، لاحصر لكتبه، ولايفرق أحد بين تراكم أشغاله بالترسل، والكتابة بين أول دعوته وآخرها؛ وذلك مستمر، فلو جمع ما قد رقمه بيده مما يزري بالدر المنظوم، وزهر الربيع، لجاءت مجلدات، تزيد على ثلاثين مجلداً، فما أحقه بما قيل:
إنْ هزّ أقلامه يوماً ليعملها .... أنساك كلّ كمي هزّ عامله
وإن أقرّ على رقٍ أنامله .... أقرّ بالرق كتاب الأنام له
/241

(2/241)


وكان كتبه في أكثر الأحوال، تقوم مقام المخارج العظيمة.
ثم بسط في أحواله (ع).
[كرامته العظمى ومرثاته]
ثم ذكر من كراماته الكرامة العظمى، وهي سماع النعي له من صنعاء.
قلت: وقد تواترت الأخبار بوقوعه، وتكلم به العلماء في الخطب على المنابر، من ذلك العصر إلى هذه الغاية.
وقد ذكره الإمام المتوكل على الله، يحيى شرف الدين، في ترثيته، حيث قال:
نعاه إلينا قبل يوم وقوعه .... بسبع إله الخلق والسمع شاهده
تداعينه عمن سواه ومن يكن .... به الله أنبا فهو جمّ محامده
وهي قصيدة غراء، ضمنها فضائل الإمام المنيرة الكبرى، وقد ذكرتها، وذكرت النداء ذلك في الزلف والتحف؛ وإنما أضاف ذلك النداء الأئمة والعلماء إلى الله ـ تعالى ـ وبعضهم إلى الملائكة (ع)، لما أشار إليه الإمام (ع)، من وقوعه قبل الوفاة؛ وذلك مما لايعلم إلا من الله ـ سبحانه ـ إمّا بخلق الصوت، أو بوحي إلى ملائكة، كما هو المعلوم في طريق الأخبار السماوية.
قال في مآثر الأبرار: فقطعوا أن ذلك هاتف من الروحانية، أمره الباري يعلمهم بذلك؛ لعظم منزلة هذا الإمام، من الله ـ عز وجل ـ.
قال في وصف حال أهل مدينة صعدة، عند بلوغ خبر وفاة الإمام (ع): فمن تلك الساعة، ارتجت المدينة بالبكاء.
إلى قوله: من الرجال والنساء، في جميع نواحي المدينة، فخلنا السماء سقطت على الأرض، وبكت عليه المخدرات في البيوت، وأهل البوادي، ومن يعرفه، ومن لا يعرفه، وخرج الناس إلى فللة على أرجلهم، السادة والقضاة، والشيعة والأمراء، والخواص والعوام؛ /242

(2/242)


وكثر المعزون من شرق البلاد وغربها.
ثم ذكر ترثيته له:
منها:
أبعد إمام العصر يضحك ضاحك .... ويبسم ثغر بئس ذلك من ثغرِ
ومنها:
ومهما ذكرت الشمس في رونق الضحى .... ذكرت أفول الشمس من ذلك القصرِ
وحيث حكوا للأمر والنهي صورة .... ذكرت اختلال النهي بعدك والأمرِ
ومنها:
أبا حسن من للمنابر قارع .... يساقط وعظاً في المسامع كالدرِّ؟
أبا حسن من للبراعة مورد .... بكل مقام مورد البيض والسمرِ؟
أبا حسن من للفصاحة مفلق .... يجيد المعاني الغرّ في النظم والنثرِ؟
أبا حسن من للقضايا وفصلها .... يميّز محض العرف منها عن النكرِ؟
أبا حسن من للجيوش وبعثها .... يعود لها حسن السياسة بالنصرِ؟
أبا حسن من ذا نراه إذا احتبى .... بمجلسه في ذلك القصر كالبدرِ؟
...إلى قوله:
عليك سلام الله ما هبّت الصبا .... وما باتَ برق فوق مشهدكم يسري
[أولاد الإمام عز الدين، وشيء من شعره (ع)]
وقال في ذكر أولاده: فأول من ولد له (ع)، الإمام القمقام، علم الإسلام، وحجة الله على الأنام، شرف الدين، الحسن؛ ثم السيد الأفضل، طراز المجد الأول، شرف الدين، الحسين؛ ثم السيد الأوحد، الأفضل الأمجد، شمس الدين أحمد؛ ثم السيد الأجل، رفيع القدر والمحل، صلاح الدين المهدي، أبناء أمير المؤمنين.
قلت: وقد مرّ ذكرهم في التحف الفاطمية ؛ لكن لم يبين محلهم في /243

(2/243)


الفضل كما هنا.
قال: وأما شعره، ففائق رائق؛ حوى ديوانه منه ما اتفق على جودته أعيان الخلائق.
ثم ذكر من قصائده، كلمة موعظة، صدرها:
إذا كنتَ من قرع الحوادث شاكيا .... وأصبحتَ من خطب ينوبك باكياً
وهي على نهج قصيدتين:
الأولى: للإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان، مطلعها:
دعيني أطفي عبرتي ما بدا ليا
وهي التي عارضها نشوان الحميري بقصيدته، التي أولها:
ذكرت دياراً دارسات خواليا
ذكر فيها ملوك حمير، وشرحها صارم الدين الوزير.
والأخرى: للإمام المهدي، غرتها:
دعيني إذا شاهدتني اليوم باكياً
وذكر منها قصيدة الإمام (ع)، التي أولها:
أفقْ أينما وجهت صرت مفارقاً .... ولم تلقَ فيما بين حاليك فارقا
قلت: ومن غرر فرائد الإمام، التي يقلّ لها النظير في البلاغة والسلاسة والانسجام، قوله:
دعْ ذكر ما بالحمى والبان والطلل .... وعدّ عن معهد بالأبرقين خلي
ومنها:
له مقالات عذب ما بها لغز .... وخير قول وعاه السمع وهو جلي
أشفى وأشهى وأحلى في مذاقته .... من بارد الماء بل من خالص العسل
ومنها:
فارقت ما كنت قد لاقيت من كرب .... أصمت ولا قيت ما فارقت من جذلِ
/244

(2/244)


ومنها:
تلك البلاغة إما شئت معرفة .... لها فهاك بلا كثر ولا مللِ
وذلك السحر إلا أنه حسن .... ما فيه من حرج يخشى ولا زللِ
ومنها:
سلْ عنه أسمع به أنظر إليه تجد .... ملأ المسامع والأفواه والمقلِ
ومنها:
لا يأس من روح رب الروح إن له .... عطفاً على كل دَعَّاء ومبتهلِ
وقد دعوناه نرجوا من إجابته .... جمعاً لشمل شتيت غير متصلِ
يارب واجعل رجائي غير منعكس .... لديك يا منشيء الأمزان والسبل
وقد أوردها في مطلع البدور، قال فيه: ومن شعر الإمام الهادي لدين الله، عز الدين بن الحسن (ع)، إلى العلامة علي بن محمد البكري ـ رحمه الله ـ قبل دعوته(ع).
[من دعوته العامة]
قلت: وافتتح الدعوة العامة بقوله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، الذي جعل الإمامة قدوة للدين وسناماً، وصلاحاً لأمر العالم ونظاماً، وناط بها قواعد من الدين وأحكاماً، وجعلها للنبوة الهادية للخلق إلى الحق ختاماً، ولشرعة سيد الأنام الفاصلة بين الحلال والحرام تكملة وتماماً؛ والصلاة المستتبعة إكراماً وسلاماً، على أشرف البرية ومن كان للرسل إماماً، وعلى عترته الذين ما زالوا لشريعته حفاظاً وقياماً.
إلى قوله: إنه لما تعاظمت المحن، والتطمت أمواج الفتن، واختلطت الأمور، وانتثر نظام أمر الجمهور.
إلى قوله: وعُفَّت مرابع العدل وأنديته.
...إلى قوله: /245

(2/245)


وضاعت حقوق الله، ووضعت في غير ما ارتضاه، وظهرت غربة الدين، وقويت شوكة المفسدين؛ شخصت إلينا الأعيان، من جميع النواحي والبلدان، وامتدت الأعناق، من أداني الأرض وأقاصي الآفاق.
...إلى قوله: كرَ علينا الأنام، كرّة ما لها مدفع، وأقبلوا علينا إقبالةً لا يجدي فيها الاعتذار ولا ينفع.
...إلى قوله: ممن هممهم مقصورة على تقويم أمر الدين المريج، وليس لهم على جانب الدنيا تعويل ولا تعريج، بلزوم القيام لله، وتحتم الغضب لدين الله، وتلافيه قبل التلف بالكلية؛ وإنا إن فرطنا في ذلك أسخطنا الرحمن، وأرضينا الشيطان.
...إلى قوله: ونظرنا إلى أن الأمر بالمعروف الأكبر، والنهي عن الفحشاء والمنكر، معلومان بالوجوب بالضرورة من الدين، وأن الظنون لا تعارض اليقين؛ قال الله تبارك وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران]، وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } [النحل:125]؛ وقال رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، أو ليوشكن الله يبعث عليكم عقاباً، تدعونه فلا يستجيب لكم)).
...إلى قوله: وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أنه قعد على المنبر، وقال: ((أيها الناس، إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوني فلا أجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم)) فما زاد عليهن حتى نزل /246

(2/246)


؛ وقال: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر)).
...إلى قوله: وطمعنا في نيل ثواب الله الجزيل، ورضوانه الأكبر الجليل، بالتأهل لإرشاد عباده، إلى مطابقة مراده، ودعائهم إلى طاعته، والسيرة فيهم بمقتضى شريعته، نظراً إلى قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} [فصلت]، وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لاظل إلا ظله: إمام عادل...الخبر)) وقوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا))، وقوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((يوم من عادل خير من عبادة ستين سنة، وحدّ يقام في الأرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين صباحاً))، وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة، قيام ليلها وصيام نهارها))، وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((أفضل الناس منزلة عند الله تعالى يوم القيامة إمام عادل)).
..إلى آخرها.
وفيها من معين العلوم، ما يشفي أدواء الكُلوم.
وإنما اخترت إيراد هذا القدر منها؛ لما فيه من بيان محل الإمامة عند الإمام (ع)، وأنها ثانية النبوة، ومنوط بها من الدين أحكام الإسلام.
وفيه بطلان ما نقله الجنداري عنه في حواشي الثلاثين المسألة؛ ولعله لما اطلع على الأسئلة، التي أوردها الإمام فيها على الأعلام، وقد توهم ذلك غيره ممن لم يحقق مقاصد الإمام، وأورد ذلك بعضهم في عصره، ونسب إليه القول بأنها عنده ظنية؛ وأجاب عليه الإمام بأنه لم يصرح بما ذكره السائل، وأفاد نفيه عنه، وأنه إن كان أخذه له من تلك /247

(2/247)


السؤالات، فهو مأخذ غير صحيح؛ حقق ذلك الإمام (ع) في فتاويه، فخذه من ذلك المقام؛ وكم يحصل من التهافت في أمثال هذه النقولات لمن لم يتثبت ويحقق موارد الكلام؛ هذا، والله ولي التسديد والإنعام.
[نبذ من كتابه المعراج]
قال الإمام (ع) في المعراج:
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد حمد الله على نعمه، التي يجب شكرها، ولا يطاق حصرها، والثناء عليه بكماله، وصفات جلاله، التي يطيب نشرها، ولا يُقْدَّر قدرها، والصلاة والسلام على خاتم الرسل، وموضح السبل، وناسخ الملل، ودامغ الشرك حتى اضمحل وبطل، وعلى عترته شموس الإسلام، وقادة الأنام.
إلى آخر الكتاب.
وهو محيط بحقائق الأنظار، جامع لدقائق الأفكار، كاشف لدفائن الأسرار.
[بحث في نفي الذوات في العدم، وكلام الإمام عز الدين (ع) في ذلك]
ومما نصّ فيه الإمام على مخالفة جمهور المعتزلة، وموافقة قدماء أهله: مسألة ثبوت ذوات العالم.
قال بعد حكاية الخلاف: وذهب من أئمتنا إلى نفيها الإمام عماد الإسلام.
قلت: يعني الإمام يحيى بن حمزة (ع).
قال: وقال في التمهيد: ذهب المحققون من جماهير العلماء، إلى أن المعدوم ليس بشيء، ولا عين، ولا ذات، في حال عدمه؛ وإنما هو نفي محض، /248

(2/248)


والله ـ تعالى ـ هو الموجد للأشياء، والمحصل لذواتها، وحقائقها.
قال الإمام الهادي إلى الحق، عز الدين بن الحسن (ع)، بعد هذا الكلام: وهذا هو الحق الذي لاريب فيه؛ ولعمري، إن إثبات ذوات في العدم، لها صفات وأحكام، وتتعلق بها بعض المتعلقات، لاينبغي أن يكون معقولاً، وأنه أبعد في التعقل من الطبع والكسب، ونحوهما.
إلى قول صاحب المنهاج: وقال أبو القاسم: شيء، وليس بذات.
قال الإمام (ع): اعلم أنه لافرق بين قول أبي القاسم، وقول من نفى الذوات في حالة العدم؛ لأن مراده أن المعدوم شيء من جهة اللغة، ولاخلاف في ذلك.
إلى قوله: إذا عرفت ذلك، فاعلم أن هذه قاعدة ينبني على صحتها كثير من مذاهب البهشمية.
قال: وكثير من الذاهبين إلى النفي يشنعون في الإثبات، ويزعمون أنه في غاية الخطر؛ لأن فيه نفي تأثير الباري في الذوات، وكثير من الصفات، بل إثبات ذوات لانهاية لها معه في الأزل، حتى أن منهم من يقول: لافرق بين القول بإثبات الذوات في العدم، وإثبات المجبرة للمعاني القديمة، في شناعة القول وخطره، وظهور بطلانه.
ثم ساق استدلال الفريقين، واستوفى أعاريض الكلام، وقد أشرت إلى المسألة في التحف الفاطمية عند الكلام على الإمام المهدي (ع).
وقال (ع): بعد الكلام على مسائل الصفات، ما لفظه: ويلحق بما تقدم فائدة عظيمة النفع في التوحيد، وهي أنه يليق بكل ذي عقل وافر، وعلم راسخ، من أهل الدين المستبين، والمعرفة الحقيقية واليقين، عند أن يلقي إليه الشيطان ـ نعوذ بالله منه ـ الوسوسة، ويبعثه على التفكر في ذات الباري ـ جل /249

(2/249)


وعلا ـ.
إلى قوله: ألا يصغي إلى ذلك أُذناً، ولايصرف إليه قلباً، ولايشتغل بما يلقى إليه من ذلك؛ فإن هذا الوسواس أعظم ما يتوصل به الشيطان، إلى إضلال المكلف، وكفره وإلحاده.
ثم روى الخبر المشهور، وفيه: ((فيقول: آمنتُ بالله، وينظر في ملكوته ـ تعالى ـ ومصنوعاته)).
قال: وقد كان ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ على ما روي كثير التكرار، للإقرار بالله، ووحدانيته، وصفاته، والنظر في ملكوت الله ـ تعالى ـ الدالة على ذلك، وكان ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ كثيراً ما يأمر بالنظر فيها، وينهى عن النظر في ذاته ـ تعالى ـ فقد روي عنه أنه قال: ((تفكروا في الخلق، ولاتفكروا في الخالق، فإنكم لن تقدروا قدره)).
وقد سلك أمير المؤمنين ـ كرم الله وجهه ـ هذه المحجة في أقواله، فإن من كلامه: من تفكر في خلق الله وحد، ومن تفكر في الله ألحد.
ثم ساق من كلامه المعلوم في الأصول، وقد سبق منه طرف نافع.
قال: ومن كلامه (ع): أن الله ـ تعالى ـ لامن شيء، ولا في شيء، ولا على شيء.
ومن كلامه (ع): لم تحط به الأوهام، بل تجلى لها بها، وبها امتنع عنها، وإليها حاكَمَهَا.
والأوهام هنا: العقول، وقد تقدم تفسير كلامه هذا.
قلت: الذي تقدم ما لفظه: أي امتنع من العقول بمعرفة العقول، بعجزها عن إدراكه والإحاطة به.
وإليها حاكمها: أي جعلها محكمة في ذلك؛ لأنه نزلها منزلة الخصم المدعي، والخصم لايحكم إلا حيث تتضح الحجة، ويفتضح جاحدها، فلا يرضى لنفسه بدعوى ما يعلم كل عاقل كذبه فيها. /250

(2/250)


[من المعراج في التفكر]
قال: ومن كلام الإمام، ترجمان الدين، نجم آل الرسول، القاسم بن إبراهيم (ع): جعل الله في المكلفين شيئين، وهما: العقل والروح؛ وهما قوام الإنسان لدينه ودنياه، وقد حواهما جسمه، وهو يعجز عن صفتهما، وما هيتهما؛ فكيف يتعدى بجهله إلى عرفان ماهية الخالق الذي ليس كمثله شيء؟
ومن لم يعرف عَقْلَه وَرُوحَه والملائكةَ والجنَّ والنجومَ ـ وهذه مدركة أو في حكم المدركة ـ فكيف ترمي به نفسه المسكينة إلى عرفان القديم قبل كل موجود، والآخر بعد كل شيء، الذي لاتدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير؟!
ثم أورد قول أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ:
العجز عن درك الإدراك إدراك .... والبحث عن فحص كنه الذات إشراك
وقد قدم قول شارح النهج، العلامة ابن أبي الحديد:
والله ما موسى ولا .... عيسى المسيح ولا محمدْ
عرفوا ولا جبريل وهـ .... ـو إلى محل القدس يصعدْ
من كنه ذاتك غير أنـ .... ـك أوحديُّ الذات سرمدْ
عرفوا إضافات ونفياً .... والحقيقة ليس توجدْ
قلت: تمامها:
ورأوا وجوداً واجباً .... يفنى الزمان وليس ينفدْ
فليخسأ الحكماء عن .... حرم له الأفلاك سُجّدْ
من أنت يا رسطو ومن .... إفلاط قبلك يا مبلّدْ؟
ومن ابن سينا حين قر .... ر ما هذيت به وشيّدْ؟
هل أنتم إلا الفرا .... ش رأى السراج وقد توقّدْ
فدنا فأحرق نفسه .... ولو اهتدى رشداً لأبعدْ
/251

(2/251)


قال: وله أيضاً:
قد حار في الأنفس كل الورى .... والفكر فيه قد غدا ضائعا
من جَهِلَ الصنعة عجزاً فما .... أجدره أن يجهل الصانعا
ثم قال الإمام (ع): فهذه الفائدة تنطوي على كلام سيد البشر، وكلام وصيه الصديق الأكبر، وإمام التوحيد والعدل، وكلام غيرهما من أئمة الإسلام؛ فجدير بكل عاقل الاعتماد عليها، والرجوع في هذا الباب إليها؛ نسأل الله أن يمدنا بمواد التوفيق، ويهدينا إلى سواء الطريق.
[من المعراج: في حجية قول أمير المؤمنين]
ومن كلامه في حجية قول أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ مالفظه: لأن أمير المؤمنين حجة وأي حجة، وأقواله وأفعاله إلى الهدى أوضح محجة.
قلت: وقد سبق في صدر الكتاب ما يكفي ويشفي.
...إلى قوله (ع)، فيما يطعن به أهل الزيغ على أمير المؤمنين (ع):
قال صاحب المنهاج: اعلم أنه (ع) أجل قدراً، وأشهر فضلاً، من أن يطعن عليه.
قال الإمام (ع): يعني لما خصه الله به من العصمة، عن كل شين ووصمة، والفضائل الدثرة، والمكارم التي تفوت الوصف كثرة، بحيث إنه لايدرك أحد حصرها، ولايقدر الناظر فيها قدرها، وليس يجهل منصف أمرها.
...إلى قوله: واعلم أن فضائل أمير المؤمنين، وما نقل فيها وورد، لايتمكن من حصر ذلك أحد؛ وقد صنف فيها كتب كثيرة، من محاسنها: كتاب الدعامة للسيد أبي طالب.
وقيل: إن الأعمش كان يروي في فضائل أمير المؤمنين قدر عشرة /252

(2/252)


آلاف حديث.
قيل: وقد اشتملت الأمهات كالبخاري ومسلم منها على ستمائة حديث وخمسة وثمانين حديثاً.
وأما ما يرويه أهل البيت وشيعتهم في فضائل علي (ع) وأبنائه، فقد قيل: إنها ألف ألف حديث، أو ما يقارب ذلك.
قلت: وقد تقدم للإمام ما نقلناه في التحف الفاطمية ، من كلام الإمام المنصور بالله (ع) أن فصول ما تناولته هذه الكتب ـ أي كتب المحدثين ـ مما يختص بالعترة الطاهرة، خمسة وأربعون فصلاً، تشتمل على تسعمائة وعشرين حديثاً؛ ذكره الإمام (ع) في شرح قول صاحب المنهاج في الاحتجاج على إمامة الوصي ـ صلوات الله عليه ـ: لنا النص والوصاية، والتفضيل والعصمة، وإجماع أهل البيت (ع).
قال الإمام (ع): يعني: فهذه أنواع الأدلة، الدالة على إمامته (ع)، والنوع الأول منها ـ وهو النص ـ ينطوي على أدلة متعددة، من القرآن والأخبار.
إلى آخر البحث.
وقال فيه: اعلم أن الذي جرى لأمير المؤمنين، وسيد الوصيين، ومني به من عدوان هذه الأمة، وتعديها عليه، في حياته، وبعد موته، مما تحار فيه الأفكار؛ فإنه (ع) مع ارتقائه إلى أعلى درجات الفضل، وإحرازه لكل خصلة شريفة، ومنقبة سامية منيفة، جرى عليه وانتهى إليه، مالم يتفق لغيره.
...إلى قوله: وذلك دليل على أن هذه الدنيا الدنية، والدار الردية، مع أنها ممر إلى الآخرة، مقرّ للرذائل والأدناس، ومجال للمخازي وفضائح الناس، وأن أولياء الله فيها هدف للمصائب، وغرض لسهام النوائب، وعرضة لأذى الجهال، وعدوان أرباب الضلال.
* وفي خطوب الناس للناس أسىً */253

(2/253)


[من المعراج في معاوية]
وقال في كلام الأصم والحشوية، في شأن معاوية، ما نصه: ولقد صم الأصم عن استماع الحق، وظلم بما قاله وعقّ، وحشيت قلوب الحشوية جهالة، وركبوا متن الباطل والضلالة، وليس الأمر خفياً، لكنهم أتوا شيئاً فرياً.
...إلى قوله: قال سعد الدين التفتازاني، في شرحه على العضد: المشتهر عن السلف أن أول من بغى في الإسلام معاوية.
قال الإمام (ع): والقول بأن خطأه خطأ المجتهدين، هو الظاهر من مذهب أهل الحديث.
إلى قوله: حتى قال صاحب البهجة ـ قلت: هو يحيى بن أبي بكر العامري التهامي، وهو ممن أخذ عنه الإمام (ع) في الحديث ـ ما لفظه: نصيحة عرضت، وهي أن ثم من يقع في عمرو بن العاص ومعاوية وغيرهما من أجلاء الصحابة، أو من شمله اسم الصحبة، التي لا يوازنها عمل وإن جلّ، ويتشبثون إلى هنات صدرت منهم، مما تقدم إليهم النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بالكلام فيها، وأخبر بوقوعها منهم...إلخ.
[من المعراج جواباً على يحيى بن أبي بكر العامري في شأن معاوية وأضرابه]
قال الإمام (ع)، بعد روايته للخبر الذي أخرجه مسلم عن ابن عباس: ومنه دعوة الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ على معاوية الطاغية: ((لا أشبع الله بطنه)).
إلى قوله (ع): وما يدل عليه من سوء حظه واجترامه، القدوم على رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
إلى قوله: وكونه دعا عليه دعاء يقضي /254

(2/254)


بالسخط والتغيظ.
إلى قوله في الجواب على العامري: ليس معاوية وعمرو بن العاص من أجلاء الصحابة، بل من أدونهم حالاً، وأقلهم جلالاً؛ وعدواتهم للدين، وهدمهم لقواعده، وتلعبهم به، وعظيم جراءتهم على هتك أستاره، وإحداثهم الأحداث العظيمة فيه، لا تخفى على مميز؛ ولئن سُبُّوا ولُعِنُوا فغير مستنكر ذلك، فقد سَبُّوا ولعنوا ابن عمّ رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وسيد العرب، وأمير المؤمنين، وذا الفضل المبين؛ والله المستعان، كيف يثني عليهم، ويحسن الظن فيهم، ويذكر فضائلهم، وهم إلى الرذائل أقرب منهم إلى الفضائل؟‍‍!.
واعلم أن أكثر تعويل أهل الحديث، ومن يحسن الظن في معاوية على وجهين: أحدهما: ماله من الصحبة والكتابة، واعتقاد أن الذي كان منه من الأحداث صدر عن اجتهاد وظن الإصابة؛ ونحن نبين ما يقتضي عدم التعويل على ذلك.
أما الصحبة، فلا كلام أن له صحبة، وأن صحبة رسول الله شرف ورفعة؛ ولكن لم يثبت أنها تبيح المحرمات، ولا تكفر الذنوب الموبقات، بل العقل والنقل يقضيان بعكس ذلك.
ثم أورد الكلام السابق في الفصل الثاني...إلى قوله: فكيف تكون صحبة معاوية مع نوع من النفاق، بعد التمرد العظي‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍م وأبلغ الشقاق، سبباً في تجاوز ما كاد به الإسلام، وأحدثه من المصائب العظام، والحوادث الطوام؟‍!.
...إلى قوله: وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أنه قال لأصحابه: ((أنا فرطكم على الحوض، وليتعرفن إليّ رجال منكم، حتى إذا أهويت إليهم لأتناولهم اختُلجِوا دوني، فأقول: أي رب، أصحابي، فيقال: إنك لاتدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غير وبدل)).
وفي رواية أخرى لمسلم، فيها: ((فأقول: /255

(2/255)


يارب، أصحابي؛ فيجيبني ملك، فيقول: وهل تدري ما أحدثوا بعدك؟)).
إلى قوله: فانظر في أمر معاوية، هل أحد من أصحاب رسول الله أحدث في الإسلام مثل ما أحدث؟ فإنك لاتجده، فإنه الذي هدم أركانه.
...إلى قوله في الكتابة: فليست بقاضية لكل من نالها بالصلاح والفلاح؛ بل قد كان من بعض الكتاب للوحي ما كان، من ردّة وغيرها.
وأما الوجه الثاني: وهو تحسين الظن بمعاوية، واعتقاد أنه أقدم على البغي اجتهاداً منه، فلو ادعيت الضرورة في خلاف ذلك لم تُعدَّ مجازفة؛ فإن معاوية لم يكن من أهل البله والجهل بحال نفسه وحال غيره، بل من أهل الدهاء والنكر.
...إلى قوله: وحاشا لله، أن يعتقد في نفسه أنه أحق بالخلافة، وأصلح للمسلمين، وأنفع في أمر الدين، من أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، وأفضل أمة النبي الأمين؛ وأن يعتقد أن ما كان منه من البغي والعدوان، وإثارة الفتن المفضية إلى سفك الدماء الواسعة، وإتلاف الأموال في طلب الرئاسة، ومنازعة الأمر أهله، وما سنه في الدين من سنن الجبارين، وسلاطين الظلم، كان أصلح في باب الدين، وأعود نفعاً على المسلمين؛ وقد كان يظهر على لسانه، وفي فلتات كلامه، الاعتراف الصريح بحاله، وحال من عارضه، والإقرار بفضل أمير المؤمنين، ومحله.
...إلى قوله: وهذا ـ والله ـ كلام من رفع التعصب عن نفسه، ووفى النظر حقه، وقصد إلى السلوك في منهج الإنصاف، كما بنينا عليه كتابنا هذا من أوله إلى آخره.
...إلى قوله: قال ـ أي الفقيه حميد الشهيد ـ: والعجب من هؤلاء الجهلة، الذين لو سمعوا رجلاً يسب أبا بكر وعمر، وكذلك عثمان، على كثرة أحداثه، لما تمالكوا عن الحكم بتفسيقه، بل وربما يتعدى ذلك إلى قتله وقتاله؛ ولم يحتفلوا /256

(2/256)


بما فعله معاوية الضال، من حرب أمير المؤمنين وسبه، ولا فسقوا بذلك.
...إلى قول الإمام (ع)، في قوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - لعمار: ((ستقتلك الفئة الباغية)): هذا الحديث مما لاشك في صحته، وإطباق الأمة عليه، وهو في البخاري من رواية أبي سعيد، وقد ذكر بناء المسجد، قال: كنا نحمل لبنة لبنة، وعمار لبنتين، فرآه النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ فجعل ينفض التراب عنه، ويقول: ((ويح عمار، تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار))، فانظر إلى عدم إنصاف الفقهاء وأهل الحديث، مع موافقتهم على صحة هذا الخبر وروايتهم له.
...إلى قوله: ولأنه كان يقول بالجبر ويعتقده؛ بل لعله رأس أهل الجبر، وإمامهم فيه، ونقل أنه قال على المنبر: أنا خازن من خزان الله، أعطي من أعطاه الله، وأمنع من منعه الله؛ فقام أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ فقال: كذبت يا معاوية، إنك لتعطي من منعه الله، وتمنع من أعطاه الله.
فقال عبادة بن الصامت: صدق أبو ذر؛ وقال أبو الدرداء: صدق عبادة.
وروي عنه أنه قال: لو كره الله ما نحن فيه لغيّره.
قال في العمدة: فاعتقد أن الله لايكره شيئاً إلا ويغيره، مظهراً بذلك أن الله قد أراد ماهو عليه، من الأفعال القبيحة.
إلى قوله في خبر ((لايحبك إلا مؤمن ولايبغضك إلا منافق)): هو مما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن علي (ع)، أنه قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إنه لعهد النبي إليّ، أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق.
وهذا الحديث متمسك من ذهب إلى أن معاوية منافق؛ وكذلك ما روي عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((يا علي بحبك يعرف المؤمنون، وببغضك يعرف المنافقون))، ومن المعلوم ضرورة أن معاوية في نهاية البغض له (ع).
...إلى قوله (ع): /257

(2/257)


وأما معاوية فإنما سلك مسلك كسرى وقيصر، وفرّط في النظر للمسلمين وقصر، فاختار يزيد ابنه مع علمه بأنه لايصلح أن يتأمر، وأن استخلافه أمر منكر؛ فلا بورك فيهما من خلف وسلف، ولا شكر سعيهما في التعدي والسرف.
إلى قوله (ع) في الحسين بن علي ـ صلوات الله عليهما ـ: مما ورد فيه عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أنه قال: ((يُقْتل ابني الحسين بظهر الكوفة؛ الويل لقاتله وخاذله ومن ترك نصرته)).
وعن معاذ بن جبل قال: خرج علينا رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ متغيّر اللون، فقال: ((أنا محمد، أوتيت فواتح الكلم وخواتمه، فأطيعوني ما دمت بين أظهركم، فإذا ذهب بي، فعليكم بكتاب الله ـ عز وجل ـ أحلوا حلاله، وحرموا حرامه؛ أتتكم الموتة، أتاكم الروح والراحة، كتاب من الله سبق، أتتكم فتن كقطع الليل المظلم، كلما ذهب رَسَل جاء رَسَل، تناسخت النبوة، وصارت ملكاً، رحم الله من أخذها، وخرج منها كما دخلها، أمسك يا معاذ وأحص)).
فلما بلغت خمسة، قال: ((يزيد لا بارك الله في يزيد)) ثم ذرفت عيناه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، قال: ((نُعي إلي ولدي الحسين، وأُتيت بتربته، وأُخْبرت بقاتله؛ والذي نفسي بيده، لايقتل بين ظهراني قوم لا يمنعونه، إلا خالف الله بين قلوبهم، وسلّط عليهم شرارهم، وألبسهم شيعاً)).
ثم قال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((واهاً لفراخ آل محمد، من خليفة مستخلف، فاسق مترف، يقتل خلفي وخلف الخلف)).
قلت: قد أشار في الخبر بعدد الخمسة، إلى المتولين من غير أهل بيت النبوة، وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، ومعاوية، ويزيد؛ وجعلهم في سلك واحد.
وقد ذكر معنى /258

(2/258)


هذا الإمام المنصور بالله (ع) في الشافي عند روايته.
ثم ساق إلى قوله: والله ولي التوفيق، ومولى التحقيق، وهو حسبنا وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى؛ وهذا ختام الكتاب، والحمد لله الوهاب.
[السند إلى مؤلفات ومرويات السيد صارم الدين الوزير، وترجمته]
وأروي بالأسانيد المتكررة في سند المجموع وغيره، إلى السيد الإمام حافظ اليمن، وسيد بني الحسن، صارم الدين إبراهيم بن محمد بن عبدالله بن الهادي بن إبراهيم الوزير (ع) جميع مروياته، ومؤلفاته، منها: الفصول في أصول الفقه، وهداية الأفكار في فقه الأئمة الأطهار، وهي كالمستدرك على الأزهار، والبسامة في أخبار أئمة العترة (ع)، والفلك الدوار، ويسمى علوم الحديث، والتخليص على التلخيص في المعاني والبيان، وجميع ماله في فنون العلوم، من المنثور والمنظوم؛ وقد سبق ذكره في ترجمة الإمام محمد بن القاسم الزيدي (ع) من التحف الفاطمية .
وقد ترجم له الأعلام، منهم: السيد الإمام في طبقات الزيدية، والقاضي الحافظ في مطلع البدور؛ ونسوق من ذلك ما يحتمله المحل مما ذكراه في الكتابين، وما يختار إيراده مما يوفق الله له ويليق ـ إن شاء الله تعالى ـ بالمقام، فنقول:
هو السيد الحافظ، إمام المحققين، صارم الدين؛ مولده عام أربعة وثلاثين وثمانمائة، قرأ في صنعاء وصعدة في الأصولين، والعربية، والفروع الفقهية، والأخبار النبوية، والتفاسير، والسير، وجميع الفنون في سائر العلوم.
فمن شيوخه: السيد الإمام المبرز، جمال الدين، علي بن محمد بن /259

(2/259)


المرتضى بن المفضل، جد الإمام المهدي أحمد بن يحيى بن المرتضى ـ قلت: ولم يذكروا وفاته ـ ومنهم: السيد الإمام، فخر الإسلام، أبو العطايا عبدالله بن يحيى، ومنهم: الإمام المتوكل على الله المطهر بن محمد بن سليمان، ومنهم: والده السيد الإمام محمد بن عبدالله بن الهادي (ع)، والفقيه العلامة المحقق، أحد الأعلام، المطهر بن كثير الجمل.
[ترجمة القاضي المطهر بن كثير الجمل]
قلت: قال السيد الإمام في ترجمته: هو أحد تلامذة السيد العلامة، أحمد بن محمد بن إدريس بن الإمام يحيى بن حمزة، مؤلف جامع الخلاف؛ عاجله الأجل قبل إتمامه، فأتمه الفقيه المذكور.
وقال القاضي: هو العالم الكبير، والفاضل الشهير، متفنن في جميع العلوم، وذكر أن له كتاب الأصول.
قال: ولما وصل الدماميني الشافعي في رحلته إلى صنعاء، والفقيه مطهر يدرس، قال:
إني رأيت عجيبة في ذا الزمنْ .... شاهدتها في وسط صنعاء اليمنْ
إنْ تسألوني ما رأيتُ فإنه .... جمل بها يقري الورى في كلّ فنْ
...إلى قوله: وكان في زمن الإمام صلاح الدين، وهو ممن بايعه؛ وفاته في محرم، سنة ثلاث وستين وثمانمائة، انتهى.
[ترجمة القاضيين علي بن موسى الدواري ـ وإسماعيل بن أحمد النجراني]
هذا، ومنهم: خاتمة المحققين، علي بن موسى الدواري.
قلت: ترجم له السيد الإمام، وأفاد أنه من تلامذة السيد الإمام، عالم العترة الكرام، علي بن محمد بن أبي القاسم، وأنه ممن أخذ عنه الإمام الهادي عز الدين بن الحسن (ع).
وقال القاضي: هو العلامة، شيخ المحققين، إمام الأصول، جمال /260

(2/260)


الإسلام، كان عالماً مبرزاً في العلوم، محققاً في الأصول، مرجوعاً إليه؛ توفي في شهر صفر، سنة إحدى وثمانين وثمانمائة.
قال السيد الإمام: وقيل: كان حاكماً للإمام يحيى بن حمزة، انتهى.
ومنهم: الشيخ العلامة، إسماعيل بن أحمد بن عبدالله بن إبراهيم بن عطية النجراني المداني، هكذا نسبه على التحقيق، وفيه حذف في الطبقات والمطلع، عند ذكر شيوخ السيد صارم الدين، ولكن هو كما ذكرنا في ترجمته من الكتابين، وهو الصحيح، ولم يذكرا وفاته؛ وهو من تلامذة السيدين الإمامين: علي بن محمد بن أبي القاسم، وأبي العطايا؛ وأفادا أنه من الأعلام الكبار، في مكانة عمّ أبيه الشيخ إسماعيل بن إبراهيم بن عطية النجراني، وقد سبق.
ومنهم: الشيخ أحمد بن إبراهيم بن أحمد النجراني المستشهد غيلة في العشرين بعد الثمان المائة، وهم بيت بالعلم مشهور، وبالصالحات مذكور.
وله مشائخ غيرهم، لكن هؤلاء الذين اتفق عليهم السيد الإمام، والقاضي - رضي الله عنهم -.
قال السيد الإمام: وله مشائخ وطرق في علم الأسماء، وعلم الحرف، وإجازات في ذلك، وفي سائر ما يذكر من العلوم، من جميع أولئك المشائخ الذين مرّ ذكرهم.
...إلى قوله: كان السيد صارم الدين مبرزاً في علوم الاجتهاد جميعها، متألهاً، مشتغلاً بخويصة نفسه، حافظاً للإسناد، وإماماً للزهاد والعباد، مستدركاً على الأوائل، جامعاً لأشتات الفضائل، مطلعاً على أخبار الأوائل والأواخر، مربياً على نحارير العلماء؛ وله المصنفات المفيدة.
قلت: قد سبقت.
قال: وله أشعار جيدة، في ضبط قاعدة فروعية، أو أصولية، أو نحو ذلك؛ ولم يزل مشتغلاً /261

(2/261)


بالدرس والتدريس، والتأليف، والمواظبة على المساجد والطاعات، والمطالعة في جميع الأوقات، فرحمة الله عليه وسلامه، وفيه يقول شعراً.
ثم ذكر البيتين.
قلت: وهما في مطلع البدور بعد قوله: قال السيد الجليل أحمد بن عبدالله ـ رحمهم الله ـ ما لفظه: وأقول: أنى للإنسان لسان يفصح عن بعض فضائل هذا الإمام؟
إلى قوله: أربى على نحارير علماء الأوائل، وحقق دقائق الفنون تحقيقاً، يقال للمتطاول إليه: أين الثريا من يد المتناول؟
إلى قوله: فمن كتبه صَححَ الكتبَ مَنْ بعده، ومن مصابيح عنايته أنارت أرجاء المدارس.
وساق...إلى قوله:
وإلى الثمانين انتهاء سِنِيِّه .... قد كاد يبلغها تماماً أو قدِ
لم يُلْقَ إلا قارئاً أو مُقرِئاً .... أو كاتباً أو ساجداً في المسجدِ
...إلى قوله: قال: أخبره سيدي الهادي، أن والده كان لايفتر عن المطالعة لحظة ولا ساعة؛ ولقد كان مع كبر السن، وضعف البصر، لا يصبر عن المطالعة، حتى يؤتى بالسراج وقت المغرب، بل يقرب من باب المنزل فيقتبس ما بقي من ضوء الحجرة.
[شيء من ورع السيد صارم الدين الوزير]
وأخبرني ثقة من الشيعة أنه سمع في حياة سيدي إبراهيم، أنه لم يقبض درهماً مدة عمره، وبلغني من شحيح ورعه أنه كان في منزله دار يفد إليه الطلبة، وكان فيه بساطان من الصدقة، فكان لايمر حتى تطوى البساطان عن موضع مروره؛ لئلا يطأهما.
...إلى قوله: وله من الردود على أعداء أهل البيت نظماً ونثراً ما يشفي وحر الصدور؛ وكان الفضلاء في زمانه يعترفون بفضله، ويخضعون لشرفه ونبله.
...إلى قوله في حُسْنِ أخلاقه: ومن أعذب ما جرى منه في ذلك ما أجاب به الإمام الهادي عز الدين بن الحسن /262

(2/262)


ـ رحمه الله ونفع به ـ، وقد كتب الإمام إلى والده كتاباً، فتولى الجواب عن والده.
...إلى قوله: وقال ـ أي الحسن بن الإمام علي بن المؤيد (ع) ـ: وهذا الجواب للولد إبراهيم، ومن يشابه أباه فما ظلم.
فكان من الجواب هذان البيتان:
أَعزّ الهدى منا عليك تحية .... تخصّك ما هبّت صبا وجنوبُ
لئن بَعِدَت منّا ومنك منازل .... لما بَعِدَت منّا ومنك قلوبُ
قلت: وللإمام الهادي إلى الحق، عز الدين بن الحسن حال سيادته، إلى السيد صارم الدين (ع)، سؤال عظيم في حكم تعارض الأئمة، وأجابه بجواب مفيد، قد أتى بنبذ منه في المقصد الحسن، على غير استكمال، ولا بيان لمورد الجواب والسؤال، على عادته في كثير من مباحثه، وهو مستكمل في غيره.
قال: ولم يزل على ما وصفنا من أحواله، وشرحنا من جميل خلاله، مشتغلاً بالعلم والعمل، منقطعاً إلى الله ـ عز وجل ـ مجتمع الشمل بأولاده الكملة، الذين لم يوجد مثلُهم، قرير العين لما رأى من هديه وهديهم، وفضله وفضلهم؛ حتى كانت سنة عشر وتسعمائة، وطلع سلطان اليمن على صنعاء فملكها، ففرّق بينه وبين أولاده، وأراد إنزاله اليمن.
قال السيد يحيى بن عبدالله ـ رحمه الله ـ: فأجاب بأن أقسم بالله لا نزل، فتركه السلطان، وبرت قسمه، بعد علم السلطان بماله من المنزلة الرفيعة، والوجاهة عند الله؛ لأنه كان يأمر بتعمد بيته بالمدافع، فيصرف الله ضرها، لا بوجه يظهر؛ لأن داره بارزة، فعلم أن ذلك من دعائه ـ عادت بركته ـ.
وأنزل ولده الهادي إلى رداع، وأحمد إلى تعز، وبقي السيد صارم الدين إلى سنة أربع عشرة وتسعمائة، وأصعد الله روحه الطاهرة إلى معارج قدسه؛ وقبره في جربة الروض بصنعاء، عند قبور أهله رضي الله عنهم. /263

(2/263)


[ترجمة ولدي صارم الدين: محمد، والهادي الصغير]
قلت: وولده السيد العالم الشهيد، محمد بن إبراهيم ـ رضوان الله عليهما ـ قُتِل في حرب سلطان اليمن المذكور، وهو أصغر أولاده.
قال في مطلع البدور: قال السيد الهادي ـ رحمه الله ـ في تاريخ أهله.
قلت: هو أخوه، وهو الهادي الصغير.
وساق كلامه...إلى قوله: قرأ جميع الكتب المعروفة في الفنون، وصنف، ودرس، وله شعر جيد، واستشهد ـ رحمه الله ـ في يوم الاثنين ثاني القعدة، أصابه المدفع.
إلى أن قال: والمحطة حينئذ على صنعاء، محطة عامر بن عبد الوهاب؛ وسمعت سيدي يحيى بن عبدالله يقول: كنا مجتمعين نحن، والصنو محمد بن إبراهيم في بساتين شملة، إذْ سمع لغطاً، وأصواتاً عالية، تشعر أن بين الفريقين حرباً، فأخذ قوسه ونَبْلَه، وخرج إلى نوبة من نوب الدائر، واجتمع فيها هو والسيد عبدالله بن محمد بن معتق الحمزي، فلم نلبث أن سمعنا أصواتاً عالية، وضجة عظيمة، وظهور استبشار من أهل المحطة، فخرجت مبادراً، وفيَّ حينئذ حدة الشباب، فعلمت الخبر، وقد منعت الناس المدافع عن الوصول إلى الصنو محمد ـ رحمه الله ـ فلم أحفل بها، وتقدمت إلى النوبة فرأيته ميتاً.
...إلى قوله: وقد كان والده نفع الله به أضرب عن الشعر، فلما استشهد ولده هذا، وفرقه ولده الهادي وأحمد وأولادهما، استروح بالشعر إليهم، فمن ذلك: ما كتبه إلى ولده أحمد، وضمنه مرثاة سيدي محمد ـ رحمهم الله جميعاً ـ من أبيات:
وكفانا المخوف من شرّ حرب .... لقحت بعد فترة عن حيالِ
ومنها:
قتل ابني بها على غير جرم .... كان منه وقتله كان غالي
قلت: وهذا لضرورة الشعر، أو على زيادة كان، أو تكون شأنية، وهو خبر /264

(2/264)


مبتدأ محذوف، أو على لغة ربيعة في الوقف على المنصوب.
هذا، ومنها في حال نفسه:
ماله ملجأ سوى الله والصبـ .... ـر وفي الصبر حيلة المحتالِ
قائلاً في صباحه ومساه .... ووقت الضحى وفي الآصالِ
ربما تكره النفوس من الأمـ .... ـر له فرجة كحلّ العقالِ
....إلى آخرها.
قال: ومما رثى به ولده، وأراد بصاحبه: السيد عبدالله بن محمد بن معتق ـ رحمهم الله ـ:
أصاب ابني وصاحبه اعتداء .... فذاق ابني وصاحبه الحماما
بمدفع عامر شلّت يداه .... ولا بلغ المراد ولا المراما
ومنها:
وكان محمد فينا هلالاً .... فأكسف قبل ما بلغ التماما
فقل لمن ارتضى حرباً لقوم .... ومَنْ في حربهم حَسَر اللثاما
وهم قربى النبي بلا مراء .... وإن هو عن مودتهم تعامى
مخالف أمرهم لله عاص .... ومنكر حبّهم يلقى أثاما
وليس بمسلم من قد قلاهم .... وعاداهم وإن صلى وصاما
قال السيد الإمام: وأجل تلامذته ـ قلت: أي السيد صارم الدين، قال:ـ ولده الهادي بن إبراهيم، والإمام شرف الدين يحيى بن شمس الدين، وولده أحمد.
قلت: قال السيد الإمام في ترجمته: الهادي بن إبراهيم بن محمد بن عبدالله بن الهادي بن إبراهيم الحسني الهدوي اليمني، السيد العلامة؛ مولده في الثاني من شوال، سنة أربع وخمسين وثمانمائة، أخذ عن أبيه صارم الدين هديَهُ، /265

(2/265)


وجمع الكتب وتصحيحها، وإسماعها وسماعها.
[ترجمة السيد عبدالله بن القاسم العلوي]
وأجل تلامذته: الإمام شرف الدين يحيى بن شمس الدين (ع)، والسيد عبدالله بن القاسم العلوي.
قلت: هو من أعلام آل محمد.
قال السيد الإمام في ترجمته: قال تلميذه في الزهر الباسم: أما مولده فليلة عرفة، سنة تسع وثمانين وثمانمائة.
وبسط في مقروءاته ومشائخه.
إلى قوله: وأما علمه فلم أرَ أعلم منه، ولايرى مثل نفسه في الأصولين، والنحو، والتصريف، والمعاني والبيان.
وأما اللغة، والحديث، والفقه، واستحضار مسائله، فهو وإمامنا، أوحد ما رأيت من أصحابنا الزيدية.
وأما معرفته مقاصد مصنفي التصانيف الغامضة الدقيقة، فشيء وراء طور العقول، وأما مادة الاعتراضات التي اعتقد صوابها علماء عصره، فينقضها أحسن نقض وأوضحه، فشيء لايؤمن به إلا من شاهده من أولي البصيرة.
وأما حفظه: فلم أرَ أحفظ منه، يحفظ من الأمثال، والشواهد، والآداب، شعراً، ونثراً، ومثلاً، وتاريخاً، بحراً لاينزف، وجمعنا الشواهد والفوائد النحوية في مجلد أملاها علينا، ولم نجمع عُشْر ما سمعنا منه.
وأما ورعه: فكلمة إجماع، وعبادته: لايزال ذاكراً لله سراً وجهراً، كثير الدمعة في الخلوات، وإذا اشتغل بأبناء الزمان رأيته ضاحكاً مستبشراً، يقبل على كل أحد بكليته؛ فهو السيد المقام المجتهد، شيخ العترة الزكية، وغوث الملة المحمدية.
قال السيد الإمام: وذكر الإمام القاسم بن محمد أن السيد عبدالله يروي عن السيد صارم الدين إبراهيم بن محمد الوزير بغير واسطة؛ وأفاد السيد الإمام أن للسيد عبدالله من السيد الهادي بن إبراهيم، والإمام شرف الدين، /266

(2/266)


ومن السيد أحمد الأهنومي، إجازة في جميع مروياتهم عموماً.
قال القاضي: هو السيد العالم إمام التحقيق...إلخ، ولم يذكروا وفاته.
قلت: وصاحب الزهر الباسم، هو السيد أبو الحسن علي ابن الإمام شرف الدين وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ.
قال السيد الإمام: والسيد أحمد بن الهادي الأهنومي، والسيد محمد بن عبدالله بن محمد بن الهادي بن الإمام يحيى بن حمزة.
قال في تمام ترجمة الهادي بن إبراهيم (ع) نقلاً عن تاريخ آل الوزير: بَرَّز في المعقول والمنقول، فطرز بتحقيقاته وأنظاره الثاقبة مصنفات آل الرسول؛ فاضت عليه أنوار والده المشرقة النوارة، وهطلت سحائب علومه المغدقة الدرارة.
...إلى قوله: ولما نقل السلطان الأشراف، نقل سيدي الهادي إلى رداع، فسكن فيه، ووقف مع السلطان في حضره وسفره، ومع ذلك فهو وافر الجلالة، تؤخذ عليه الفتوى، ولم يعذره السلطان من العزم معه إلى تعز، فسار مكرهاً، فتألم أياماً، وقيل: إنه سمّ فمات في صباح يوم الجمعة، خامس عشر من محرم، سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة؛ وقبره بالأجيناد مع من هنالك من الأشراف، عند ضريح الإمام إبراهيم بن تاج الدين (ع).
[ترجمة السيد أحمد بن صارم الدين الوزير]
وقال السيد الإمام في ترجمة أخيه أحمد بن إبراهيم: مولده سنة اثنتين وستين وثمانمائة، سمع على أبيه في الفنون كلها جميعاً، وأخذ عنه ولده عبدالله؛ كان له معرفة تامة، وفصاحة ورجالة، وكفالة لأهله ووجاهة، وعلوّ منزلة، ومكاتبات حسنة، ومعرفة بالأساليب؛ وكان أول من لبى دعوة الإمام محمد بن علي السراجي، وجاهد معه، وجمع وحشد، وجدّ واجتهد، وكان عند الإمام وغيره، بالمحل المنيف، والمنزلة العالية.
...إلى قوله: /267

(2/267)


وكان السلطان ـ يعني عامر بن عبد الوهاب ـ ينحرف عنه، ولما نقل الأشراف من صنعاء، نقله إلى تعز، فتعاورته الآلام، وهو مع ذلك مقيم على الدرس في جامع تعز، وكان والده يرق له، وله إليه قصائد.
قلت: من ذلك قوله:
كلّما هبّ جنوب وصبا .... من تعز زاد قلبي وصبا
وتذكّرتُ أحيباباً بها .... لهمُ عام بهاتيك الربا
ومنها:
قد رضينا ما قضى الله لنا .... وبما قدر أو ما كتبا
ومنها:
برسول صادق أرسله .... وبنيه الأكرمين النجبا
نحن منه بضعة صالحة .... وهو لاينجب إلا طيبا
وكفانا شرفاً في قومنا .... أننا ندعوه جداً وأبا
من دعا منّا إليه يستجب .... وإذا يدعى إلى الغير أبى
/268

(2/268)


[أدلة كون أبناء الحسنين أبناء رسول الله (ص)]
قلت: يعني أن الله ـ عز وجل ـ سمّاهم بنص القرآن أبناءه، في قوله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ } [آل عمران:61]، وأجمعت الأمة أنه لم يَدْعُ من الأنفس إلا علياً، ولا من النساء إلا فاطمة، ولا من الأبناء إلا الحسنين ـ صلوات الله عليهم وسلامه ـ وما تواتر نقله، وعُلِم بالضرورة من دعائه للحسنين ابنيه، ودعائهما له ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أباهما، ونحو قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((كل ولد آدم فإن عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فأنا أبوهم وعصبتهم))، رواه إمام الأئمة الهادي إلى الحق، وأخرجه أحمد بن حنبل، والدار قطني، والطبراني، وعبد العزيز الأخضر، وابن السمان، عن عمر بن الخطاب، عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
وأخرجه الطبراني، والخطيب، وأبو يعلى عن فاطمة الزهراء ـ عليها السلام ـ.
وما رواه الإمام علي بن الحسين الشامي في نهج الرشاد، بسنده إلى الإمام المؤيد بالله، وأبي طالب، وأبي العباس الحسني، بسندهم إلى الإمام يحيى بن المرتضى، عن عمه الناصر أحمد بن يحيى بن الحسين، عن أبيه الهادي إلى الحق، عن أبيه الحسين، عن أبيه القاسم، عن أبيه إبراهيم، عن أبيه إسماعيل، عن أبيه إبراهيم، عن أبيه الحسن، عن أبيه الحسن، عن أبيه علي بن /269

(2/269)


أبي طالب، عن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أنه قال: ((كل بني أنثى ينتمون إلى أبيهم، إلا ابني فاطمة فأنا أبوهما وعصبتهما)).
وما رواه الإمام الأعظم في المجموع، بسند آبائه (ع): لاتجوز شهادة ولد لوالده، ولا والد لولده، إلا الحسن والحسين، فإن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ شهد لهما بالجنة.
وأخرج نحوه ابن عساكر، والحاكم، عن جابر، وعثمان بن أبي شيبة، عن فاطمة الزهراء ـ عليها السلام ـ، وعن جابر.
وأخرج ابن المغازلي، عن أبي أيوب، عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((إن الله جعل نسل كل نبي من صلبه، وجعل نسلي من صلبك يا علي)).
وروى الإمام الحجة، المنصور بالله عبدالله بن حمزة، في الشافي: ((إن الله جعل ذريتي في صلب علي بن أبي طالب)).
وأخرجه الطبراني، وابن عَدي، والكنجي، وابن المغازلي، عن جابر؛ والخطيب، وأبو الخير القزويني، والكنجي، عن ابن عباس؛ وصاحب كنوز المطالب، عن العباس.
وروى صاحب كنوز الأخبار علي بن محمد النوفلي، عن صالح بن علي بن عطية الأصم، بسنده إلى العباس، قال: كنت عند رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، فدخل علي بن أبي طالب؛ وساق إلى أن قال النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((وإن ذريتي بعدي من صلب هذا))، يعني علياً.
ذكره المسعودي في مروج الذهب، عن جابر من حديث طويل بعد فتح خيبر، قد تقدم.
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في خبر فتح خيبر الطويل المتقدم: ((وإن ولدك ولدي)).
وأخرج ابن عساكر، عن جابر، عن النبي - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: /270

(2/270)


((كل بني أنثى ينتمون إلى أبيهم، إلا ولد فاطمة فأنا وليهم وعصبتهم، وهم عترتي))، ذكره الإمام عبدالله بن الحسن في الأنموذج.
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((إن الله جعل ذرية كل نبي في صلبه، وجعل ذريتي في صلب علي)) أخرجه المرشد بالله (ع)، عن جابر.
وفي البخاري ومسلم خبر: ((إن جبريل (ع)، قال: كل نسب وسبب ينقطع، إلا نسبك وسببك)) قاله لرسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
وفي البخاري، عن أبي بكرة، قال: سمعت رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ والحسن إلى جنبه، وهو ينظر إليه يقول: ((إن ابني هذا سيد))...الخبر.
وأخرج أبو يعلى، عن علي (ع)، عنه - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((لأرضينّك، أنت أبو ولدي، تقاتل على سنتي))...الخبر.
وفي الأنموذج قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((أنت أخي، وأبو ولدي، تقاتل على سنتي))، أخرجه أحمد، وأبو يعلى من حديث علي (ع)، وأخرجه أحمد من حديث زيد بن حارثة، وأخرج الدار قطني بمعناه من حديث عامر بن واثلة، وعاصم بن ضمرة، وأخرج الترمذي من حديث أسامة، إلى قوله: فإذا حسن وحسين على وركيه، فقال: ((هذان ابناي)).
وأخرج أيضاً من حديث أنس بن مالك، قال: سُئِل رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، أي أهلك أحب إليك؟
قال: ((الحسن والحسين))، وكان يقول لفاطمة: ((ادعي لي ابنيَّ)).
وأخرج أحمد، والدولابي، عن يعلى بن مرة، قال: جاء الحسن والحسين إلى رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وساق...إلى قوله: ((اللهم إني أحبهما فأحبهما؛ أيها الناس الولد مجبنة))...الخبر. /271

(2/271)


وأخرج ابن السري، وصاحب الصفوة؛ عن عبدالله قال: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((هذان ابناي))، يعني الحسن والحسين.
إلى غير ذلك مما لايسعه المقام؛ وقد جمع ذلك المولى العلامة الحسن ـ أيده الله تعالى ـ في تخريج الشافي؛ وفيما تقدم كفاية، وقد أحاطت به مؤلفات العترة (ع) وسائر الأمة.
هذا، ويعني بقوله: وإذا يدعى إلى الغير أبى.
فذلك بنص القرآن الكريم، في قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } [الأحزاب:40]، لما كانوا يدعون زيد بن حارثة ابنه، على عادة العرب في التبني، وقد كرر الله تعالى الإنكار عليهم في ذلك.
وهذا عارض لايخلو ـ إن شاء الله ـ من إفادة، لمن ألقى السمع وهو شهيد.
(رجع) قال: كان وفاته ـ أي أحمد بن إبراهيم ـ في ربيع الأول، سنة ست عشرة وتسعمائة، وقبره بالأجيناد مع من هناك من الأشراف، انتهى.
قلت: وقد انتقم الله ـ تعالى ـ لهم من ذلك السلطان المريد، وأجاب دعاءهم؛ وأخذ بثأرهم الإمام المتوكل على الله شرف الدين، كما حققته في التحف الفاطمية ، والله الولي الحميد.
[نبذة من الفلك الدوار]
قال السيد الإمام حافظ اليمن، في علوم الحديث المسمى بالفلك الدوار:
الحمد لله، المختص بالقدم، وإخراج العالم من محض العدم.
إلى قوله:/272

(2/272)


والصلاة والسلام الأتمان الأكملان، على نبيه محمد المصطفى، الذي جعله للنبوة ختاماً، ورفع له في الدين ألويةً وأعلاماً، وجعله للنبيين سيداً وللمتقين إماماً.
إلى قوله: صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم، وعلى أخيه ووليه، وابن عمه وحبيبه ووصيه، أول من صدق به من المسلمين، وأفضل أمته أجمعين، وخليفته بلا فصل بالنص المستبين، سيفه المنتضى، علي المرتضى، وعلى ابنته فاطمة الزهراء، سيدة النساء، خامسة أهل المباهلة والكساء، التي خصها رب العالمين، بأن جعل منها نسل سيد المرسلين، وعلى ولديهما سيدي شباب أهل الجنة باليقين، المنصوص على إمامتهما بقول الصادق الأمين، المخصوصين بما ثبت من رواية الشيعة والمحدثين، من قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ((إنه أبوهما، وعصبتهما))، والعاقل عنهما، تفضيلاً لهما بتلك الخصاصة الشرعية على جميع الآدميين؛ ثم على السابقين والمقتصدين، من أسباطهم إلى يوم الدين، المخصوصين بالمناقب الدثرة، والفضائل التي لاتحصى كثرة، الذين نزلت فيهم آية المودة والاصطفاء والتطهير، والمباهلة والإطعام والسؤال من اللطيف الخبير، ووردت فيهم الأخبار الصحيحة، والآثار المستبينة، كحديث: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به))، وباب حطة، وخبري السفينة، المعصوم إجماعهم من الخطيئات، المشروع أن يصلى عليهم في تشهد الخمس الصلوات، معدن النبوة والوصية والخلافة، والواجب حبهم وبغض أعدائهم على الكافة.
ورضي الله عن أصحاب رسول الله الأخيار، السابقين الأبرار، الذين اتبعوه في ساعة العسرة من المهاجرين والأنصار، الذين أُخْرِجُوا من ديارهم وأموالهم ابتغاء الفضل والرضوان، والذين من قبلهم تبوءوا الدار والإيمان، كمن حضر العقبة الأولى، ثم العقبتين، وصلى القبلتين، وهاجر الهجرتين، وشهد بدراً وأحداً /273

(2/273)


وغيرهما من الغزوات، التي بلغت إلى سبع وعشرين غزوة عدداً.
وعن رجال البعوثات والسرايا، الذين رحضوا بالجهاد أدران الخطايا، وتعرضوا للفوز بالشهادة ولقاء المنايا، كمن استشهد بمؤتة، وعلم الله وفاته فيها وكتب موته، وبغيرها من رجال البعوثات والسرايا، التي بلغ عددها ثمانياً ـ وقيل: تسعاً ـ وثلاثين قضية، ما بين بعثة وسرية.
وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وعن أنصار أمير المؤمنين، في يوم الجمل والنهروان وصفين، وأعوان الحسن والحسين، ممن حضر كربلاء، وفاز بالشهادة بعد الإبلاء والبلاء، من سادات العترة الطاهرين، وأشياعهم الوافين، في البيعة الصادقين.
...إلى قوله: وعمن بعدهم من أئمة الهدى، وشموس الاهتداء، وبدور الدياجي وأعلام الاقتداء، من آل محمد المصطفى، وولاة أمر الله، وخزان علم الله، وورثة وحي الله، وعترة نبي الله، كالإمام الشهيد الولي، زيد بن علي بن الحسين بن علي.
صلى الإله على زيد وشيعته .... ومَنْ كزيد وزيد خيرة الخيرِ
قلت: هو في بسامته:
صلى الإله على زيد وصفوته .... يحيى وصلى على أشياعه الغررِ
السالكين إلى الأخرى مسالكها .... والمقبلين على أعمالها الأخرِ
ففي النهار جهاد طار عِثْيَره .... والليل ترجيع آي الذكر في السحرِ
وأشهد الله أن الحق دينهم .... وأنهم صفوة الباري من البشرِ
قال: وعلى من شايعهم، ووالاهم وبايعهم، وكثر سوادهم، وحضر جهادهم واجتهادهم، من أفاضل الشيعة، وفرسان الشريعة، وأعلام الملة، ورعاة الشمس والقمر، والأفياء والأظلة، المستمسكون /274

(2/274)


ـ قلت: كذا مرفوع على القطع، وهو في محله قال:ـ بحجزهم عن الوقوع في كل مهولة ومزلّة، والمستعصمون بهديهم عند ظهور مخوفات الفتن المضلة، الصابرين ـ قلت: عاد إلى الإتباع، ويحتمل النصب على المدح قال:ـ في محبتهم على البلوى وأنواع العذاب، واختلاف السياط والمقارع وسمل الأعين وضرب الرقاب.
...إلى قوله: وبعد:
فإن أفضل العلوم بعد معرفة الله، التي هي أفضل معقوله، معرفة كتاب الله، وسنة رسول الله صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم، الذين هما أشرف منقوله، وإليهما مرجع علم الأمة الأحمدية ومنبع فروعه وأصوله.
أما الكتاب العزيز، فإن الله ـ تبارك وتعالى ـ قد تكفل بحفظه وحراسته، وحمايته وكلايته، من الاختلاف والتحريف، والتبديل والتصحيف، كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّ كْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر:9].
لاجرم أن الملحدين في الدين، وغيرهم من أعداء المسلمين، وأصناف المبتدعين، لم يجدوا سبيلاً إلى تغييره، ولا التفت نحارير العلماء إلى ما اخترعوا من تأويله، وابتدعوا من تفسيره، فبقيت آياته المحكمات بينة واضحه، والأخر المتشابهات وجوه تأويلها للراسخين مكشوفة لائحة؛ ولذلك أمر النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أمته بالرجوع إليه، وأرشدهم في معرفة صدق الحديث أن يعرضوه عليه، كما سيأتي /275

(2/275)


ذكر ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.
قلت: هذا إشارة إلى خبر العرض، وقد تكلمت فيه بما وفق الله ـ تعالى ـ إليه في فصل الخطاب، وفي الحجج المنيرة.
[تعداد تفاسير الأئمة ـ وإشارة إلى ما طرأ على السنة من الدسِّ]
قال: وقد اعتنى علماء القرابة، والصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، بتفسيره وتأويله، وبيان محكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، وحلاله وحرامه، وسائر أحكامه؛ فمنهم المقصر والمطول، والمتوسط والمعتدل؛ وليس أحد من أئمتنا وعلمائنا إلا وله تفسير كامل، أو كلام على كثير من الآيات؛ فللقاسم (ع) تفسير، وللهادي (ع) تفسير سبعة أجزاء، وللناصر الكبير (ع) تفسير، وكذلك للمرتضى، وأخيه الناصر، ولعلي بن سليمان بن القاسم، وللحسين بن القاسم، وللناصر الديلمي، وللمنصور بالله (ع) تفسير الزهراوين، ولغيرهم من علماء أهل البيت (ع)، وشيعتهم كمحمد بن منصور من المتقدمين، وغيره ممن يطول ذيول الكلام بذكره من الأولين والمتأخرين.
ولقد حكى الذهبي في ترجمة الإمام العلامة محمد بن يوسف القزويني الزيدي مذهباً، أحد تلامذة القاضي عبد الجبار، أنه جمع تفسيراً كبيراً لم يسمع في التفاسير أكبر منه، ولا أجمع للفوائد، وهو سبعمائة مجلد كبار، وأنه فسر قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ }...الآية [البقرة:102]، في مجلد، والفاتحة سبعة أجزاء؛ وحكى الذهبي أيضاً: أنه دخل عليه الغزالي، فوقف بين يديه، وتتلمذ له. /276

(2/276)


وأما السنة النبوية، والأحاديث المصطفوية، والآثار الصحابية، المروية عن سادات السلف، وعيون قادات الخلف؛ فإن الملاحدة وغيرهم من المبتدعة، ممن شرد على الله، وافترى الكذب على رسوله، وأهل بيته وأصحابه، وخلفهم الصالح، من موارق الخوارج، وعتاة النواصب، وغلاة الروافض، وطغام الجبرية، والمشبهة، وهمج القصاص، والوعاظ، والحشوية، وأغتام الظاهرية، والكرامية، والخطابية، وغيرهم من أهل الاعتقادات الردية، والمقالات الفرية ـ استرسلوا في وضع الأحاديث والآثار، حتى طار ما اختلقوه كل مطار، وانتشر ذلك في الأنجاد والأغوار، وسار في ديار الإسلام ما لم يسر قمر حيث سار، وكاد يغلب في الكثرة ما يعتمد عليه من صحيح الأخبار، وجعله ذريعة إلى الباطل كثير من الأشرار، وسواد عظيم ممن ليس له معرفة بالحديث من الأخيار، من عوام المتفقهة، ونساك المتعبدين والمتصوفين، والذاهبين إلى قبول المجهولين؛ تصديقاً للحديث النبوي: ((إنه سيكذب عليَّ)).
ولقد قال شعبة: لم يفتش أحد على الحديث تفتيشي، فوجدت ثلثي ما فتشت منه كذباً.
...إلى قوله:
ولما أظهر الله دين نبيه على سائر الأديان، وأنجز ما وعده في محكم القرآن، وملكت أمته جميع ممالك الأمم، وحكمت فيهم بالسيف والقلم، واتسع نطاق دين الإسلام، وبلغت الدعوة المحمدية أقصى ممالك الشرق والغرب واليمن والشام، ووقع في الأصول والفروع، والمعقول من المعلومات والمسموع، وانتشرت المذاهب في الآفاق، وقامت حرب المناظرة والمناضلة على ساق، وتعصبت كل طائفة لمن تقدم من أسلافها، وتفرقت/277

(2/277)


الأمة إلى نيف وسبعين فرقة لسبب تباين العقائد واختلافها، وظهر الدَّغل في الأخبار، والدخل في الآثار ـ شمّر حفاظ الحديث من جميع الطوائف، شيعة وسنية، في انتقاده، والكشف عن رجال إسناده.
[ذكر أنواع الحديث]
وتكلموا فيه تعديلاً وتجريحاً، وتكذيباً وتصحيحاً، ووضعوا في ذلك الكتب البسيطة، والجوامع المحيطة، والمختصرات العديدة، المتقنة المفيدة، وعلقوا فوائده، وضبطوا شوارده، وحققوا صحيحه وحسنه، ومسنده ومرسله، وعاليه ونازله ومتصله، ومنقطعه ومعضله، ومعلومه ومشهوره، وغريبه ومعروفه، ومنكره وضعيفه، وآحاده ومتواتره، وشاذه ومعلّه، ومختلفه ومدرجه، وموضوعه، ورجال إسناده، تقوية وضعفاً، وأنساباً وتاريخاً ووصلاً، وتدليساً واعتباراً ومتابعة، وزيادة الثقات، وتفسير المبهمات؛ لوقوعها مفسِّرة في بعض الروايات، وما خولف فيه الأثبات، ومعرفة الصحابة وتابعيهم وسائر الطبقات، وغير ذلك من علومه المدونات.
...إلى قوله: وأما المعتنون بذلك من الشيعة، فجمّ غفير، وخلق كثير، سنتبرك بذكر جمع منهم يسير، من غير توسيع بذكر الأئمة الكرام، ومشاهير شيعتهم الأعلام، استغناء عن ذكرهم باشتهارهم.
قلت: وسأفرد في مؤلفنا هذا لوامع الأنوار - إن شاء الله تعالى - في ذلك فصلاً، يتضمن المختار، ممن عليهم المدار، على ترتيب الحروف؛ ليكون أيسر للباحث، مع ما سبق من أعلام العصابة، والله تعالى ولي الإعانة والتسديد للإصابة.
قال: وإن كانوا أعرف من القمر، وأشهر من ابن داره، عند من عرف الأخبار وكان له في العلم أثارة؛ وإنما خفي أمرهم على كثير من أهل/278

(2/278)


عصرنا، وعلماء قطرنا؛ لبعد زمانهم عن زماننا، وانتزاح ديارهم عن ديارنا، وقد كان معظم ظهور التشيع قديماً في العراق، لاسيما في الكوفة، فإنها بذلك معروفة موصوفة، حتى قال الذهبي:
إنها تغلي بالتشيع وتفور، والسني فيها طرفة، والخارجي طير غريب. انتهى كلام الذهبي.
وفي الأصل بعده: (قلت).
ولكن قد اخترت أن تكون هذه العبارة في هذا الكتاب المبارك ـ إن شاء الله تعالى ـ لما يقوله المفتقر إلى الله مجد الدين بن محمد المؤيدي - عفا الله عنهما - للتمييز لكثرة النقول، فليعتبر ذلك المطلع، وأجعل مكان ما في كتب المؤلفين من لفظ: (قلت): (قال)، والله والموفق.
[في فضل الكوفة]
قال: وإنما اختصت بهذه الخصيصة الشريفة؛ لبركة دعاء الأنبياء، وصلواتهم بمسجدها، وإقامة الوصي أيام خلافته بعقوتها، وموته ودفنه بتربتها.
...إلى قوله: ولذلك قال الصادق (ع):
قفْ إذا جئت الغريا .... وابك مولانا عَليا
وقال غيره:
مدينة الكوفة تيهاً على .... مدائن الأرض معاً تفخرُ
ولو أراد الله سوءاً بها .... ما كان مدفوناً بها حيدرُ
ولم تزل مستوطناً لبعض أهل البيت وأشياعهم، ودار إقامة لبعض، كالحسنين، وكزيد بن علي، وابنه يحيى، وأولاده، كالحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد ـ وكان عامة الزيدية بالكوفة على مذهبه ـ وأحمد بن عيسى بن زيد، وموسى بن جعفر، وكالقاسم بن إبراهيم، وأخيه محمد بن إبراهيم، /279

(2/279)


وأحمد بن عيسى بن عبدالله، وإدريس بن محمد بن عبدالله ، ويحيى بن عبدالله، وكثير من كبراء آل محمد، وكالحسن بن صالح، وأخيه علي بن صالح، ومحمد بن منصور بن يزيد المقري المرادي، وتلميذه محمد بن سليمان الكوفي جامع المنتخب، ومصنف كتاب المناقب، وغيرهم من الأعيان، ممن لا يحصرهم عدّ ولا ديوان.
[اختلاف النِّحل واشتهار أهل كل مصر من المسلمين بنحلته]
وأما البصرة، فالأغلب على فقهائها وعلمائها النصب، ورأي الخوارج؛ وذلك لأنه وليها من عمال بني أمية ثلاثة: عبدالله بن عامر، ثم زياد بن أبيه، ثم الحجاج بن يوسف؛ مع ما كان في قلوبهم على أمير المؤمنين (ع) من الضغن؛ لقتل أسلافهم يوم الجمل.
وأما مكة المشرفة، والمدينة المقدسة، فإن أمر التشيع كان فيهما ضعيفاً؛ لغلبة دهماء قريش والأنصار عليهما، مع انحراف سوادهم عن العترة، رغباً ورهباً، وأحقاداً تشتعل نارها لهباً، وعداوة موروثة أباً فأباً، تميز بها القلوب غيظاً وتتقد غضباً؛ حتى قال علي بن الحسين: ما بمكة والمدينة عشرون رجلاً يحبنا.
وقد كان بالمدينة النبوية جلّة أكابر العترة كالحسنين (ع)ـ وأكثر أولادهما كزين العابدين، والحسن بن الحسن، وأخيه زيد بن الحسن، والباقر محمد بن علي، وأخيه زيد بن علي، وجعفر بن محمد، وعبدالله بن الحسن، وأولاده: محمد، وإبراهيم، ويحيى، وإدريس، وموسى، /280

(2/280)


وعيسى، وأخويه إبراهيم بن الحسن، والحسن بن الحسن المثلث، وعيسى بن زيد، وموسى الكاظم، وعبدالله بن موسى، والحسين بن علي الفخي، والحسن بن محمد بن عبدالله، ومن لا يأتي عليه العدّ من سادات الآل.
وأما الشام، فإنها دار النصب التي انتصبت بعقوتها أصنامه، وعكف عليها جهاله وطغامه.
وأما الجزيرة وعمان، وديار ربيعة وسجستان، فديار الخوارج المارقين.
وأما سائر البلاد، والأمصار، فأخلاط، شيعة، وسنية، ونواصب، وخوارج.
[ذكر ما منَّ الله به على اليمن بإمامة الهادي إلى الحق (ع)]
ثم غلب التشيع بالمخلاف الأعلى من مخاليف اليمن الثلاثة، وهو: صنعاء وصعدة وذمار، وأعمال هذه المدن الكبار، إلى منكث وجيشان؛ وذلك ببركات إمام اليمن، الذي قال فيه النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((يخرج في هذا النهج رجل من ولدي، يحيي به الله الفرائض والسنن))، وتواترت بظهوره البشارات، عن أمير المؤمنين (ع)، وغيره من أكابر العترة الطاهرين؛ وهو الإمام الأعظم، وطود العترة الأشم، المشابه للوصي في خلقه وخلقه وشجاعته، ونصرته للإسلام وعلمه وبراعته، المخصوص بعلم الجفر وبذي الفقار، من بين سائر الأئمة الأطهار، عَلَم الأعلام والفواطم، الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم (ع).
وإلى ما ذكرنا من خصائصه أشار الداعي /281

(2/281)


الإمام، يحيى بن المحسن بن محفوظ في أرجوزته، حيث قال:
وأعلن القاسم بالبشارهْ .... بقائم فيه له أمارهْ
من الهدى والعلم والطهارهْ .... قد بثّ فيه المصطفى أخبارهْ
قلت: قد سبقت.
قال: وإلى الكتاب المذكور أشار أبو العلاء المعري بقوله:
لقد عجبوا لأهل البيت لما .... أتاهم علمهم في مسك جفرِ
وكان قدومه (ع) من الحجاز إلى اليمن، في عام ثمانين ومائتين.
قال الإمام المنصور بالله (ع): ودخل الإمام الهادي (ع) صنعاء، وكان أهلها جبرية، وفيهم سبعة آلاف عالم من علماء العامة، مبرزون في أنواع العلوم، وعلم الحديث بها حينئذ فتي الشباب، قشيب الثياب، ومن عيون حملته يومئذ جماعة من أصحاب المحدث الكبير، الإمام الشهير، عبد الرزاق، كإسحاق الدبري شيخ الإمام الشافعي، وإبراهيم بن سويد الشامي، وإبراهيم بن برة الصنعاني، والحسن بن عبدالأعلى البوسي، وغيرهم.
ومن أهل الفقه: كالقاضي يحيى بن عبدالله بن كليب النقوي.
وقصة اختيار علماء صنعاء للنقوي أن يراجع الإمام الهادي، ومراجعته له، وإفحام الإمام له في تسعة أحرف، كما حكاه الإمام المنصور بالله (ع) ـ مشهورة.
وقد أفردت في فضائله (ع) ومناقبه العلية، مصنفات جمة، من أحسنها: كتاب الفضائل اليحيوية.
وببركة دعوته وهدايته، وسعيه المشكور وحميد عنايته، وجهاده للقرامطة الملحدة، وبغاة الجفاتم ومن انضاف إليهم من المسودة، استقر المذهب الشريف باليمن، ودام سلطان أهل البيت إلى هذا الزمن؛ فمنته لأهل المذهب شاملة، وسحائب هدايته عليهم هاطلة. /282

(2/282)


قال الإمام المنصور بالله: ليس أحد من أهل مذهبنا إلا وللهادي عليه منَّة.
وكذا قال الديلمي في كتابه التحقيق، والفقيه حميد في الحدائق.
ولم يزل من بعده من أئمتنا من أولاده وغيرهم يهتدون بمناره، ويقتفون على آثاره.
[ما منَّ الله به على طبرستان وجيلان وديلمان ببركة أئمة العترة]
وكذا ظهر سلطان التشيع واتسع، وعزّ جانبه وامتنع، بناحية طبرستان، وبلاد جيلان وديلمان، ببركة الإمام الولي، الناصر للحق الحسن بن علي، الذي قوي به الإسلام وظهر، وأسلم على يديه ألف ألف من عبّاد الشجر والحجر، واعتصمت ببركته من الطوفان، جبال جيلان وديلمان.
وقال في ذلك لنوح (ع) لما سأله عن ذلك الشأن: إنها مهاجر الشيخ الأصم، من ذرية من ختمت به النبوة، وبأمته الأمم.
وبعظيم جهاده، وقويم اجتهاده، بعد الداعيين، والمقتصدين الأكرمين: الحسن بن زيد، وأخيه محمد بن زيد (ع)، ألقى الإسلامُ جرانه في تلك البلاد، واستمر مذهب أهل البيت فيها إلى يوم التناد.
واليحيوية، والناصرية، هما فريقا الزيدية، وخلاصة أتباع العترة الزكية.
[أمر أهل البيت (ع) ظاهر رغم شدة وطأة عدوِّهم]
...إلى قوله: ولم يزل أمر أهل البيت في كل زمان ظاهراً، وسلطانهم الديني لسلطان عدوهم الدنيوي قاهراً، مع شدة وطأة خلفاء الدولتين: الأموية والعباسية، وميل السواد الأعظم إليهم من الخاص والعام، واستيلائهم على جميع ممالك الإسلام.
إلى قوله: وكانوا جميعاً مجتمعين على عداوة العترة وشيعتهم، وعلى المبالغة فيها.
إلى قوله: وكان عمالهم في جميع الأمصار، يعرضون الناس على البراءة من علي/283

(2/283)


(ع) والسيوف مسلولة، والأنطاع ممدودة، لضرب أعناق من تخلّف عن البراءة؛ وكان جمهور الخلق لهم أتباعاً، ولا يستطيع أحد لأمرهم مخالفة ولا امتناعاً، وكان المؤمن التقي في تلك الأزمنة دينه التقيَّة، وهي الغالبة على من بقيت له فيه من الدين بقيَّة؛ ولقد كانت السنن في أيامهم باطنة خافية، والبدع ظاهرة فاشية، يسمونها سنناً، والسنن بدعاً؛ حتى أن عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله تعالى ـ لما أمر برفع اللعن في أيام خلافته، ونهى عنه في جميع مدائن الإسلام.
إلى قوله: فخطب أول جمعة، فقرأ مكانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ...} الآية [النحل:90].
قلت: وقد سبق إلى جعل هذه الآية الشريفة الجامعة خاتمة للخُطَب، الوصي ـ صلوات الله عليه ـ كما رواه الإمام الناطق بالحق أبو طالب (ع) في أماليه؛ فالعادل الأشج ـ أحسن الله مكافأته ـ متبع لأثره، ومهتد بنوره.
وقد اشتهر أن عمر بن عبد العزيز ـ تولى الله مكافأته ـ أول من وضعها، والأمر كما ذكرت لك؛ وإنما جدد سنة أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ بعد أن ضيعها من ضيعها، وأزال سنة أعداء الله وأعداء رسوله صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم.
قال في الكشاف: وحين أُسْقطت من الخطب لعنة الملاعين على أمير المؤمنين ـ رضوان الله عليه ـ أُقيمت هذه الآية مُقامها؛ ولعمري، إنها كانت فاحشة ومنكراً وبغياً؛ ضاعف الله لمن سنها غضباً ونكالاً وخزياً، إجابة /284

(2/284)


لدعوة نبيه: ((وعاد من عاداه)). انتهى.
[المخذول عمرو بن شعيب ـ ومصرع ابن أبي البغل]
قال صارم الدين (ع): فقام إليه عمرو بن شعيب بن محمد بن عبدالله بن عمرو بن العاص، فقال: السنة السنة يا أمير المؤمنين.
فقال له عمر: اسكت قبّحك الله، فتلك البدعة.
ومضى في خطبته.
قلت: هذا مأثور مشهور؛ وقد روى الإمام المرشد بالله (ع) في الأمالي، وقوع آية للذي أراد جمع حديث عمرو هذا، فيه عبرة للمعتبرين؛ فبعداً للقوم الظالمين.
قال صارم الدين (ع): قال الذهبي في التذكرة: قال سعيد بن عبد العزيز: كان الزهري يلعن من حدث بحديث: ((وكنت نهيتكم عن النبيذ فاشربوا))، فقيل له: يرويه عمرو بن شعيب، فقال: إياه نعني.
قلت: وهو مقدوح فيه عند أهل الحديث، كما ذكره في الميزان، ومن روى عنه من أئمتنا فللاستشهاد والاحتجاج على الخصم، كما تقدم؛ وإلا فليس بعد تصريحه بالفسوق تصريح، فكيف يركن عليه، أو يثق به بعد علمه بما صنعه على رؤوس الأشهاد، وافتضح به عند الله وعند العباد ـ مَنْ له دين صحيح؟
قال: ولما رفع إلى عامل صنعاء بكتاب عمر، فتركه، فقام إليه ابن أبي البغل الصنعاني، فقال: والله لأركبن بغلتي إلى الشام لمراجعة عمر في قطع السنة، فإن أعادها، وإلا أضرمت الشام عليه ناراً.
ثم ركب، وخرج مغاضباً، فلحقه أهل صنعاء إلى المنجل (الموضع المعروف من غربيها) فرجموه بالحجارة حتى غمروه وبغلته، وهو الموضع الذي يرجم هنالك إلى الآن، كما يرجم قبر أبي رغال؛ /285

(2/285)


والتشيع ـ بحمد الله ـ بصنعاء قديم وحديث، يدين به أشرارها وأبرارها؛ ولذلك قال السلطان عمر بن علي بن رسول: صنعاء زيدية حتى أحجارها.
ولاختصاص عمر بن عبد العزيز بهذه الفضيلة، وغيرها من أفعاله الجليلة الجميلة، كردّ فَدَك على أولاد السبطين بعد زمان، وتصديقه لدعوى الزهراء بلا طلب حجة ولا بيان.
قلت: والحجة على صحة قولها معلومة، واليد قد كانت لها، ولو لم يكن إلا إجماع العترة الأربعة ـ صلوات الله عليهم ـ، فكيف وهي معصومة، وقد غضبت، والله يغضب لغضبها، ومعها سيد الوصيين، وهو مع الحق، والحق معه والقرآن.
قال صارم الدين (ع): قال فيه الباقر (ع): إن نجيب بني أمية يبعث يوم القيامة أمة وحده.
وقد كان من سبقه من سلفه، ولحقه من خلفه، إلا من عصم الله، يقتلون من اسمه علي، فعدل كثير ممن يحب التبرك بهذا الاسم إلى التسمية بعُلَيّ مصغراً؛ وكان العلماء لايفصحون باسمه (ع) في الرواية، ويكنون ولايصرحون بمذهبه لسائل؛ وكان الحسن البصري إذا حدث عنه يقول: قال أبو زينب؛ وكان غيره يقول: قال الشيخ.
وعن عبد الرزاق أنه قال: لو أن بني العباس جاروا كل الجور ما بلغوا جور بني أمية.
ثم إن الله تعالى أزال ملكهم، وقدر على أيدي بني العباس دمارهم وهُلكهم، وانقطعت دولة آل حرب وبني مروان، لنحو من ألف شهر من الزمان، وصار الملك ثابت الأساس، في ولد أبي الأملاك، علي بن عبدالله بن /286

(2/286)


العباس.
...إلى قوله: حتى انقطع ملكهم عن ستة وثلاثين خليفة، بعد مضي مدة من الأيام، تنيف على ثلاثة وعشرين وخمسمائة عام، اتخذوا فيها مال الله دولاً، وعباده خَوَلاً.
قلت: وقد حَصَرْتُ الجميعَ في القصيدة المسماة عقود المرجان، صدرها:
عجباً لهذا الدهر من دهر .... ولأمّة مهتوكة السترِ
قال: فلما تفحش ظلمهم، وجار على العباد حكمهم، نابذهم أئمة أهل البيت (ع)، وأنكروا ما ارتكبوه من منكرات الأقوال والأفعال، وتفويضهم أمور المسلمين إلى جبابرة العمال؛ إذ كان من رأيهم الخروج على الظالمين، وعدم المداهنة في أمر الدين، سيَّما لمن فحش جوره، وعدى في الطغيان طوره، كأبي الدوانيق.
...إلى قوله: وتبعه في ذلك جميع أقاربه وعماله وأجناده، وكل من ولي الخلافة بعده من أبنائه وأحفاده وأهل سواده؛ فإنهم تَتَبعوهم قتلاً وأسراً وتطريداً، وعذبوهم في الحبوس المظلمة عذاباً شديداً؛ حتى كانوا لايعرفون أوقات الصلوات الخمس إلا بفراغ الأوراد، ونَكَؤُوهُم النكاية التامة، وصرفوا عنهم قلوب الخاصة والعامة، وأمروهم باتباع الفقهاء الأربعة، وبنوا لهم المدارس، وأجروا لهم الأموال وخلعوا عليهم الخلع النفائس، وغمروا ذوي المعارف منهم بالعوارف، وألقوا إليهم أزمة الأقضية والوظائف، وعظّموهم ورفعوا من قدرهم، واتخذوهم لهم بطانة في جميع أمورهم، وألبسوهم السواد الذي هو شعارهم، وجعلوا لهم مقامات يجتمعون فيها في الحرم الشريف، والجوامع الكبار، ويصلون فيها أربع جماعات بأربعة أئمة في وقت واحد، خاصة في صلاة المغرب، كما حكاه الدامغاني؛ فهي إلى الآن بدعة ثابتة، يفتخر بها أخيارهم /487

(2/287)


وأشرارهم؛ ونفروهم عن مذهب أهل البيت ومحبتهم، والاشتغال بعلومهم ومعرفة أقوالهم؛ فلا تجد لهم في كتبهم ذكراً، ولا تسمع لهم في مصنفاتهم خَبَراً ولا خُبْراً، وتراهم يذكرون مذاهب جميع من على وجه الأرض من سعيد وشقي، وعدوّ وولي، ويتركون ذكر ذرية النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وينسبونهم وأتباعهم إلى البدعة، ويسمونهم الرافضة، وينكرون على من قلّد غير الفقهاء الأربعة، ويعدون ذلك غاية الجهل والضعة؛ حتى قال الذهبي في تاريخه: إن الناس صاروا على خمسة مذاهب، خامسها مذهب الداودية؛ وللزيدية مذهب في الفروع بالحجاز واليمن؛ لكنه معدود في أقوال أهل البدع كالإمامية. انتهى كلامه.
[الإشارة إلى تقلص المذهب الشريف الزيدي وانقباضه]
ولو ذكرنا كثيراً من كلامهم، وما يصدر عنهم من الأقوال القبيحة في حق أهل البيت (ع) لطال في ذلك الشرح، ولنكأنا الجُرْح بالجرح؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون، والله المستعان على ما يصفون.
ولا شك أن للدول تأثيراً عظيماً، وضرراً ونفعاً جسيماً، في طي المذاهب ونشرها، وخِذلان أربابها ونصرها؛ وهذا أمر معلوم بالوجدان، لكل إنسان، جار في الألسنة مسموع في الآذان، مدرك بالعيان.
وبالجملة، فما قام لأهل البيت إمام، ولا استقر لمذهبم نظام، إلا بالسيف المسلول، والقتال لفريق النصب المخذول، بعد إبطال شبههم المضمحلة، والاستظهار عليهم بظواهر الحجج وقواطع الأدلة؛ وكفى دليلاً على ما أراد الله من تأييد دينه ببقائهم، والرجوع في متشابهات الكتاب والسنة إلى علمائهم؛ إذ هم أحد الثقلين، المأمور بالتمسك بهما.
...إلى قوله: ظهور علومهم، مع سعي خصومهم في طمسها وإخفائها، ونماء ذريتهم، مع اجتهاد عدوّهم في استئصالها وفنائها، وأن أضدادهم مع ملكهم /288

(2/288)


لأقطار البلاد، واستمالتهم ببذل الرغائب لقلوب العباد، لا يذكر لهم علم ولا أهل، ولا يعرف لهم بعد الموت أتباع ولا نسل؛ فيا عجبا من تمالي المسوِّد والمسُوْد، كأنهم خرجوا من وراء السد المسدود، كما قال قائلهم في المعنى المقصود:
لقد مال الأنام معاً علينا .... كأن خروجنا من خلف ردمِ
قلت: وهو من قصيدة للإمام الحجة، المنصور بالله عبدالله بن حمزة (ع)، وقبله:
فعدّ عن المنازل والتصابي .... وهات لنا حديث غدير خمِّ
فيا لك موقفاً ما كان أسنا .... ولكن مرّ في آذان صمِّ
...البيت، وبعده:
هدينا الناس كلهم جميعاً .... فكم بين المبيّن والمعمي
فكان جزاؤنا منهم قراعاً .... ببيض الهند في الرهج الأحمّ
هموا قتلوا أبا حسن علياً .... وغالوا سبطه حسناً بسمِّ
وهم حظروا الفرات على حسين .... وما صانوه من نصل وسهم
وزيد أوردوه ظبا المواضي .... فكم جرم أتوه بعد جرم
وأولاد الهمام الشيخ منّا .... هداة الناس من ظُلَم وظُلْم
ولم أر هالكاً كقتيل فخٍ .... فيا لك من وسيع الباع ضخم
أئمة أمة جهلت هداها .... بخدعة مارق وشقاق غتم
هموا قدحوا زناد النار فينا .... فقاموا عن خديج غير تمِّ
وكم متشيعٍ عادٍ علينا .... بآنس أو ديار بلاد قمّ
وجبري ينازعنا هدانا .... كذي خَطَل يعرفني بإسمي
أنخطي رشدنا وتصيب رشداً؟ .... كمن يقضي على علم بوهم /289

(2/289)


أطيعي مرشديك وشايعيهم .... فإن ساعدتني فَخَلاك ذمي
هموا جهلوا سبيل الرشد فينا .... فأعقبهم بها غماً بغم
ومنها:
أخي من كان يهديني لرشدي .... وليس أخي هو ابن أبي وأمي
ومنها:
تشابه أهل ملّتنا علينا .... فلم يدر الأخص من الأعم
ينازعني أناس أمر ديني .... وهَمُّهُمُوا لعمرك غير همِّي
وقد أرشدتهم وطلعت شمساً .... لهم في ليل خطبٍ مُدْلهمّ
...إلى آخرها.
قال: ولكم سعوا في خفض منارهم، وإطفاء معارفهم ومحو آثارهم، ومضى على ذلك منهم القرون، واستمر عليه الأولون والآخرون، وأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
ولم يزل العلماء الأعلام، من فضلاء أمة محمد - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - مقبلين على علمي الكتاب والسنة، ومعملين في نصرهما لسيوف الاحتجاج ومواضي الأسنة؛ والمتقون منهم البررة، معترفون في ذلك لعلماء العترة المطهرة، مغترفون من علومهم الزاخرة، مقتبسون من أنوار معارفهم الزاهرة، مقدّمون لهم في الدراية، ومستكثرون في النقل عنهم وصارفون إلى محفوظاتهم العناية.
ولقد حكي عن جابر الجعفي أنه كان يحفظ عن الباقر (ع) ثمانين ألف حديث.
وعن الحافظ ابن عقدة أنه كان يجيب في ثلاثمائة ألف حديث من حديث أهل البيت وبني هاشم.
إلى غير ذلك مما يطول الكلام بذكره.
[إشارة إجمالية إلى بعض مصنفات أئمة العترة واشتمالها على الكنز الثمين من السنة]
ثم بسط في بيان كتب الحديث.
...إلى قوله: /290

(2/290)


ومما صنف في ذلك لأهل مذهبنا: مجموع زيد بن علي، والسير للنفس الزكية ـ ومنها أخذ محمد بن الحسن الشيباني ـ وأحاديث كتب الإمام الأعظم القاسم بن إبراهيم وهي نحو العشرين، وقد اشتملت على أحاديث كثيرة، ومصنفات علامة الشيعة ومحدثهم، محمد بن منصور، وهي عديدة، من أجلها: كتاب علوم آل محمد بزياداته.
قلت: أما الزيادات فقد وقع فيها دسّ، كما وقع في زيادات الجامع الكافي، وقد سبق الكلام.
قال: ويعرف بأمالي أحمد بن عيسى.
إلى قوله، حاكياً لقول محمد بن إبراهيم الوزير: هو أساس علم الزيدية، ومنتقى كتبهم، ويذكر فيه الأسانيد.
ومصنفات الإمام الهادي (ع)، وهي ثمانية وأربعون كتاباً، منها: تفسير القرآن ستة أجزاء، ومعاني القرآن سبعة أجزاء، وكتاب السنة.
ومصنفات الإمام الناصر (ع) كالإبانة، والمغني وغيرهما، وقد اشتملت على غرر الأحاديث.
ومصنفات الإمامين: المرتضى وصنوه الناصر، وهي عديدة مشهورة بين الشيعة، نافعة ومفيدة.
ومصنفات الإمام القاسم بن علي العياني، وولده الحسين بن القاسم، وقد بلغت مصنفاته إلى السبعين؛ وكذا مصنفات غيرهم من الأئمة وأتباعهم.
...إلى قوله: ومن الشائع على الألسنة، أن يحيى(ع) كثيراً ما يوافق أبا حنيفة، والناصر (ع) كثيراً ما يوافق الشافعي؛ وممن ذكر ذلك الفخر الرازي في كتابه الشجرة، الذي صنفه في أنساب العترة المطهرة؛ وليس كذلك؛ وإنما الهادي (ع) يوافق قوله قول أهله الذين بالكوفة، ويعتمد على ما رووه، وأبو حنيفة كثيراً ما يوافقهم؛ لاتحاد البلد والسند، وقد عدّه قوم من جملة علماء /291

(2/291)


الزيدية.
...إلى قوله: وكان الشافعي يرجح أقوال أهل الحجاز على أقوال أهل العراق أخباراً ومذهباً، وغيره على عكس ذلك.
وروى السيد العلامة أحمد بن مير الحسني، القادم من جيلان بكتاب الجامع إلى اليمن، في زمان الإمام المهدي علي بن محمد (ع)، أن أبا الطاهر أحمد بن عيسى بن عبدالله كان يناظر علماء المدينة، ويقول بقول علماء الكوفة، فقال بعضهم: يا أبا الطاهر لا تفعل، فإن الوادي من هاهنا سال، فقال: أجل، من هاهنا سال؛ لكنه استنقع عند أولائك، وبقيتم أنتم بغير شيء ـ يعني بالوادي علياً (ع) ـ.
قال: ونظير هذا ما روي أن رجلاً من أهل الحجاز قال لابن شبرمة: من عندنا خرج العلم.
فقال: نعم، ثم لم يعد إليكم.
وكذلك كتب السادة الهارونيين: السيد الإمام أبي العباس أحمد بن إبراهيم، والسيدين الإمامين أبي الحسين المؤيد بالله أحمد بن الحسين، وصنوه الناطق بالحق أبي طالب يحيى بن الحسين؛ فقد أحاطت بالجملة أحاديث الأحكام، سيما التجريد وشرحه، والتحرير وشرحه، ومنه اختصر القاضي زيد بن محمد تعليقه المعروف بشرح القاضي زيد.
قلت: عندي نسخة منه، نسخت غرة الحجة، عام ثلاثة وأربعين وأربعمائة، فيكون لها إلى عصرنا هذا عام اثنين وسبعين وثلاثمائة وألف من الأعوام، تسعة وعشرون وتسعمائة عام، ألف سنة إلا واحداً وسبعين عاماً، وهي مع هذا أقوى من نسخة تنسخ في العصر بياضاً وكتابة؛ ونسخة التحرير من شعبان، سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، ونسخة الإفادة على مذهب الإمام المؤيد بالله (ع) أحسبها من ذلك العصر، إلا أن الكاتب لم يؤرخها. /292

(2/292)


ومن تهذيب الحاكم الجشمي - رضي الله عنه - في التفسير، نسخت في رجب، عام خمسة وثمانين وستمائة، ولايقدر أن يمكن تحصيل ما يقاربها في القوة، وإتقان الخط وحسنه، ولو اجتهد أن ينسخ في الزمان هذا على أبلغ الوجوه لم يعد بجنبها في شيء؛ والله أعلم إلى أي حين تبقى، فسبحان من لايفنى.
وبهذا يعلم فضيلة القلم على الطبع، الذي قد رغب فيه، ومال إليه، كثير من أهل هذه الأعصار، لقرب انتواله، واستغنوا به عن النسخ الخطية، بل صار بعضهم لا يلتفت إليها مهما وجد المطبوعة، ولم ينظر إلى سرعة ذهابها.
وقد وقعت العناية ـ بحمد الله ـ في تنسيخ كثير من مؤلفات آل محمد النافعة العزيزة، كشرح التجريد، والشافي، والاعتصام، وأنوار التمام؛ والمرجو من الله التيسير، وتحصيل الطيب الكثير.
وهذا لحث أولي العلم المحتسبين للأعمال المقبولة، والآثار المكتوبة ـ إن شاء الله تعالى ـ ولأمر ما تَمَدَّحَ العليم الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان مالم يعلم؛ والحمد لله على ما أنعم.
قال السيد صارم الدين (ع)، والكلام في شرح القاضي زيد: وأودعه محاسن الأخبار، وجواهر الآثار.
...إلى قوله: وكتاب أصول الأحكام، للإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان (ع)، وعليه يعتمد أهل المذهب الشريف، في أحاديث التحليل والتحريم بلا نزاع منهم، من زمانه (ع) إلى وقتنا؛ لتقدمه وشهرته، واستيفائه لحججنا وحجج المخالفين، والرد عليهم؛ وجملة أحاديثه ثلاثة آلاف حديث، وثلاثمائة واثنا عشر حديثاً.
[الرد على من انتقد الآل في الاستدلال]
قلت: ومن لا رسوخ لقدمه في مجال علوم الآل، ولا عرفان لحقائق قواعدهم، يكثر الانتقاد عليهم في الاستدلال، وذلك في نحو تقديمهم لتأويل الخاص، أو حمله على النسخ على بنائه على العام، ولم يفقه أن ليس ذلك إلا/293

(2/293)


لوجوه صحيحة؛ وهي إما أن يكون الخاص ضعيفاً عندهم، أو لم يثبت إلا من طريق الخصم، فيجارونه بذلك على فرض الثبوت؛ إذ هو أدعى إلى القبول من الرد، أو لقوة العام؛ إذ قد يكون من المنزل الرباني، والكلام القرءآني، أو المتواتر النبوي، والخاص بخلافه، أو روي بطريق أصح، ومذهبهم تقديمه كما صرح به في شرح التجريد في بحث الخضراوات، وفي الشفاء في الصلاة في الأوقات المكروهة، وغير ذلك.
أو لأنه لايبنى الخاص على العام مع جهل التاريخ؛ فهي مسألة مختلف فيها؛ والمختار البناء مع جهل التاريخ، ومع كونه من القرآن أو متواتر السنة في الفروع، خلاف ما كنت ذكرته في فصل الخطاب لما صح عندي.
وما أحسن قول السيد العلامة، عبدالله بن علي الوزير:
يُبنى العموم على الخصوص بأربع .... صور على القول الأجل فقل أجلْ
مع جهل تاريخ وعند تقارن .... وتفارق زمناً يضيق عن العملْ
وكذا بمتسع يكون خصوصه .... متقدماً والعكس نسخ لم يزلْ
وليس للخصم أن يلزمهم بمذهبه، والعمدة الدليل؛ وقد استوفيت الكلام على هذا بحججه في فصل الخطاب، والله الموفق للصواب.
أو يراهم يستدلون بالعام أو المطلق، على الخاص أو المقيد، وإنما ذلك اكتفاءاً منهم وإحالة على ما عرف من التخصيص والتقييد، المصرح به في غير ذلك المقام، فيقصدون أنه دلّ مع الخاص أو المقيد على ذلك.
وعلى الجملة، إن معظم الخبط والزلل من عدم التحقيق، وثبوت القدم، في علوم أئمة العلم والعمل.
وابن اللبون إذا ما لز في قَرَنٍ .... لم يستطع صولة البُزْل القناعيسِ
فكيف يحسب أن أولئك الأئمة الأعلام ـ نجوم الإسلام، وهداة الأنام، الذين خضع لعلومهم وتحقيقهم أرباب العقد والحل، ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أولوا الفضل ـ لا يعلمون ما وقف عليه في مختصرات الأصول، ومدارس الابتداء، وهم أولوا الحل والإبرام؟
وما أحق الجواب على هؤلاء /294

(2/294)


الأفدام بقوله:
فقل لمن يدّعي في العلم معرفةً .... حفظتَ شيئاً وغابت عنك أشياءُ
وهذا عارض لقصد النصح، وبيان الحق لذوي الأحلام، لا مجاراة الطغام، كما يعلم الملك الخبير، وهو حسبنا ونعم المولى ونعم النصير.
قال السيد صارم الدين (ع): وكتاب شمس الأخبار للشيخ العالم علي بن حميد بن أحمد القرشي، وهو كتاب نفيس؛ وكتاب شفاء الأوام للأمير الكبير، المكنى بأبي طالب الصغير، الحسين بن محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى ابن الهادي إلى الحق، وهو كتاب جليل محتو على ما في أصول الأحكام.
قلت: وما في غيره، وقد التزم تصحيح ما فيه، إلا أنه قد صرح بقبول المتأول؛ فمع حذف الأسانيد، فالتصحيح عند من لم يقبلهم لا يفيد إلا أنه قد جمع فأوعى، وأتى بالكثير الطيب من الأخبار والأقوال، المضافة إلى نجوم أئمة العترة وعيون علماء الشيعة، من كتبهم المعلومة؛ وفيه من إعمال الأدلة، والحجج القيمة ما يشفي العلة، وينقع الغلة.
قال صارم الدين (ع): وهو غاية ما يعتمده أهل الزمان من أهل المذهب.
قال مولانا عز الدين محمد بن إبراهيم: ولا شك في كفايته للمجتهد، وهو في كتب الزيدية مثل كتاب سنن البيهقي في كتب الشافعية، الذي قال في حقه الجويني: ما من شافعي إلا وللشافعي عليه منة إلا البيهقي، فإن المنة منه على الشافعي.
يعني بعنايته بأحاديث مذهبه، والكلام على أسانيدها وتصحيحها، وذِكْر شواهدها وتنقيحها، على طرائق المحدثين، لا على طرائق الفقهاء الخلص، كما فعل الجويني في كتابه النهاية، وتلميذه الغزالي في كتابه /295

(2/295)


الوجيز، والرافعي في شرحه المسمى بالفتح العزيز، وغيرهم من فقهاء المذاهب الذين لا عناية لهم بعلم الحديث؛ فإنهم يحتجون بالأحاديث الصحيحة والضعيفة، والمنكرة والموضوعة والواهية، التي لا يعرف لها أصل في كتب الحديث، حتى أن هؤلاء الفقهاء يضيفون الحديث إلى الصحيح، ويقولون: متفق على صحته، أو لايتطرق إليه التأويل، أو ينسبونه إلى البخاري أو مسلم، وليس منهما، ويغيرون ألفاظه، ثم يفسرونه بغير المراد.
قال المحدثون: وإنما أوقعهم في ذلك اطراح صناعة علم الحديث، التي يفتقر إليها كل فقيه وعالم، وقد وقع للجويني والغزالي وغيرهما من جميع فقهاء المذاهب ما يتعجب منه.
قال: والتحقيق أن لكل فن رجالاً يقدمون فيه على غيرهم، إلا لمانع، كمن عرف منهم بتعصب، أو غير ذلك، مما يمنع من قبول قوله، مثل: استناده إلى أصل مرفوض، كقبول من علم أنه فاسق تصريح، بناء منه على أنه عدل، أو مخطئ متأول؛ وهذه آفة قد أصيب بها كثير من الحشوية والنواصب.
[إقبال علماء الشيعة واشتغالهم بعلم العترة، والتقريع على من أهمل ذلك]
واعلم أنه كان لقدماء الشيعة اشتغال بعلوم العترة شديد، وإعراض عن علوم غيرهم، وعناية كلية بالحديث واستماعه وإسماعه، وتصحيح طرقه؛ ومن أحب ذلك طالع ما ذكرناه من الكتب المتقدم ذكرها، وغيرها.
وقد صنف الحافظ العلامة أبو جعفر محمد بن جرير بن رستم الشيعي كتاباً في الرواة عن أهل البيت.
وكان لهم أيضاً إقبال على مصنفات العترة، وحرص /296

(2/296)


على حفظها وجمعها، حتى لقد اجتمع منها كتب كثيرة، منها ما هو بخط الإمام المرتضى محمد بن يحيى (ع)، وكانت مرجع أهل ذلك العصر.
ثم إنه لم يزل الأمر يضعف، والدَّخَل يكثر، حتى ذهب أكثر تلك الكتب، واستغني عن مكنون علمها بمصنفات أحدثها المتأخرون؛ لكنهم كثروها بعلوم العامة، فجمعوا فيها بين الغث والسمين، والمخشلب والدر الثمين، واشتغل بها أهل هذه الأزمنة المتأخرة، وأعرضوا عن تلك الكتب النافعة بالكلية، وفيها من الزيف والدغل ما لا يخفى على صيارف الشيعة ونقادهم، فضعف بذلك أمرهم، وكثر الطعن عليهم من خصومهم، حين رأوهم أخذوا من علومهم وكتبهم، وأعرضوا عن المصنفات القديمة لأئمتهم، وعن حديثهم.
ولما انتشرت كتب المحدثين في الأقطار، وطارت في جميع الآفاق كل مطار، وأقبل عليها الناس من جميع المذاهب، اشتغل بقراءتها خلق كثير من أهل المذاهب، واعتمدوا عليها، وفيها حق شِيْبَ بباطل، كبعض أحاديث الفضائل، وشهد قد خُلِطَ بسمّ قاتل، كالأحاديث التي ظاهرها التشبيه والجبر.
...إلى قوله: حتى كاد يغرس في قلوب بعض من اعتمدها من أهل مذهبنا شجرات، يجتنى من باطلها ثمرات، والأمر في ذلك كما قيل في المثل: من يَسمع يَخَل.
وقل من اشتغل بعلم مخالف معاند، وشبه زائغ حائد، فسلم من اعتقاد فاسد؛ كما وقع ذلك لمن اشتغل بعلم الفلاسفة من المتشرعين، ولمن اقتصر على أخذ علم الحديث من كتب فقهاء المحدثين، وقصرت همته عن معرفة كتب أهل البيت المطهرين؛ ولقد وجدت ذلك من نفسي أيام قراءتي لكتب الحديث من كتبهم، مع شدة تمسكي بمذهب العترة (ع)، فلولا تثبيت الله لي لقد كدت أركن إلى بدعهم شيئاً قليلاً، وأميل عن طريقة /297

(2/297)


الشيعة التي هي أهدى سبيلاً، وهي الفطرة التي لا تجد لها من قلوب المؤمنين تحويلاً.
وقد كان بعض أئمتنا المتأخرين يكره لمن لا يثق من نفسه بالاستقامة أن يقرأ من الحديث ما فيه ظواهر تحمله على اعتقاد الجبر والتشبيه.
قال الإمام المهدي علي بن محمد (ع): ومن اقتعد في مساجد الزيدية يقريء في كتب خصومهم، ويفري أديم أقوال العترة وعلومهم، مُنع من ذلك، وقُمع أن يسلك تلك المسالك.
وحديث النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ واجب القبول والاتباع، وعلى كل مسلم أن يدين بلزوم الإسماع له والاستماع، وإنما كره ذلك لمن لا يعرف القبيح من الحسن، ويخشى الوقوع في الفتن، التي أودعها كثير من النواصب والحشوية في أثناء الآثار والسنن، وخلطوها بالحق المبين؛ لترويج باطلها على الجاهلين، وليتوصلوا بها إلى التشكيك على غير العلماء الراسخين.
...إلى قوله: وقال السيد الإمام جمال الدين، علي بن محمد بن أبي القاسم ـ رحمه الله تعالى ـ: الذي ذهب إليه علماؤنا، وتجري عليه أصولهم، أن في أخبار هذه الكتب الصحيح والمعلول، والمردود والمقبول.
والضابط في ذلك: أنما صححه أئمتنا من ذلك، فهو صحيح، وما ردوه أو طعنوا في روايته، فهو مردود؛ لصحة اعتقادهم، وسعة اطلاعهم، وتحريهم في انتقادهم.
....إلى قوله: ولنتكلم في ثلاثة أبحاث:
الأول: في إسناد العترة، وأنه أصح الأسانيد؛ وهذا أمر لا امتراء فيه عند أهل المذهب، /298

(2/298)


ومسنداتهم المتصلة تسمى سلسلة الذهب.
...إلى قوله: والمختار عند أئمتنا (ع) تقديم ما ثبت عن أئمة العترة مسنداً أو مرسلاً، وتقديم رواية القرابة، على غيرهم من سائر الصحابة.
البحث الثاني: في ذكر أسلافنا من أهل الحديث، المعتمد على رواياتهم في الزمن القديم والحديث، من غير أهل البيت (ع)؛ ليعرف ذلك المغربون، ويظهر كذب ما يزعمه الناصبون، وكتب الحديث برواياتهم مشحونة، وجواهر أخبارهم في طبقات الرواة مدونة مخزونة، وهم خلق كثير، وسواد عظيم، بالحجاز والعراق واليمن والشام، وكثير من بلاد الإسلام؛ ومن أحب تحقيق ذلك فليطالع كتب الرجال، وطبقات الحفاظ؛ وقد يخصهم بالذكر بعض علمائنا إذا انفردوا بقول في مسألة كالأمير الحسين، فإنه يقول في بعض المسائل: وهذا رأي محدثي أصحابنا.
وقد روى عنهم أصحاب الصحاح كالبخاري، ومسلم، وغيرهما، واعتمدوا على رواياتهم في أثناء الأحكام الشرعية في الحلال والحرام؛ فيالله من تعصب ذوي العقول والحلوم، على جحد المعلوم الثابت بشهادة الخصوم للخصوم.
...إلى قوله:
البحث الثالث: في ذكر جماعة من حفاظهم، وتسميتهم بأعيانهم، وتعريف طرف من أحوالهم؛ فأما الإحاطة بهم فهي متعذرة أو متعسرة، وغير ممكنة في حقنا ولا متيسرة.
[سلف العترة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم]
إلى قوله:
فأما سلفنا من الصحابة، فجميع بني هاشم، وبني المطلب، وكثير من المهاجرين والأنصار، وغيرهم من فضلاء الصحابة الأخيار، وإن اختلفت عاداتهم /299

(2/299)


وطرائقهم، لا سيما بعد استقرار الأمر لمن ابتزه، ولم يقع في موضعه ولا طبق محزه، فمنهم المسر ومنهم المعلن بمذهبه، وسواء منهم من أسر القول ومن جهر به، كجهر الاثني عشر النقباء، الذين صدعوا بالحق عند صرف الأمر عن أهله احتساباً لله وغضباً، وغيرهم ممن هو أشد إنكاراً، وأكثر عدداً وأظهر اشتهاراً؛ وقد دونهم العلماء الأخيار، ونقلوا منهم التجرم العظيم والاستنكار.
قلت: وما أحسن قوله في ذلك في البسامة:
فقلْ لمن رام للأسباب معرفة .... وربما تعرف الأسباب بالفطرِ
حبّ الرياسة أطغى الناس فافترقوا .... حرصاً عليها وهم منها على صدرِ
والحق أبلج والبرهان متضح .... وبيننا محكم التنزيل والسورِ
مات النبي أجلّ الخلق مرتبة .... محمد خاتم الأنباء والنذرِ
نبينا المصطفى الهادي الذي ظهرت .... آياته كظهور الشمس والقمرِ
هذا، والكلام ذو شجون، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال: فإليهم في نقل الحديث مستندنا، وعلى معتقدهم في التفضيل والخلافة معتقدنا، ولسنا نقتصر عليهم في قبول الرواية، بل نروي عن المخالفين المتأولين، كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
قلت: ولم يرد المحاربين لأمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ، فسيأتي له التصريح بأنهم غير متأولين؛ فتدبر.
قال: فأما سلفنا من التابعين، ومن بعدهم من حفاظ الأخبار، ونقلة علوم الآثار، ومعدلي حملة العلم النبوي، الذين يرجع إلى اجتهادهم في التوقيف والتضعيف، والتصحيح والتزييف، فهم خلف من تقدم من أهل مودة ذوي /300

(2/300)


القربى، الذين يرونها من أجلّ القرب، وأنفع ذخائر العقبى.
ثم ابتدأ في تعدادهم، وسيأتي البحث في ذلك مستكملاً ـ إن شاء الله تعالى ـ.
[سبب اعتناء صارم الدين بتأليف علوم الحديث]
قال: ثم إن المصنفين من أئمتنا وعلمائنا جمعوا في كتب الفروع، بين أقوال أهل البيت، وبين أقوال غيرهم من الصحابة والتابعين، والفقهاء الأربعة وأتباعهم وغيرهم؛ بخلاف أتباع الفقهاء، فإنهم لا يذكرون أقوال أهل البيت وأتباعهم، ولم يتعرض أحد منهم لجمع طرق الأحاديث في كتبنا وكتبهم، وإضافة كل حديث إلى من خرجه منا ومنهم، وانفرد به؛ وكان الاعتناء بذلك أولى من الجمع بين المذاهب؛ لثمانية وجوه:
الأول: أن مذاهب الجميع في الفروع مسندة إلى الأحاديث في الغالب، وصادرة عنها؛ فالاشتغال بتحقيقها ومعرفة رواتها ومن خرجها من الشيعة والسنية أقدم، والعناية بالكلام عليها لاستناد المجتهدين إليها أولى وأهم؛ إذ الاشتغال بالأصول أحق بالتقديم من الاشتغال بالفروع.
[جواز الجمع بين الصلاتين تقديماً وتأخيراً]
الثاني: أن تلك الأحاديث إذا اتفقت عليها الروايات، وتطابق على نقلها الأئمة الأثبات، سواء اتفقت أسانيدها أو اختلفت، ازدادت قوة، والتحق حسنها بالصحيح رتبة، وترجحت على معارضها الذي ليس كذلك.
وقد سلك هذه الطريقة الإمام الهادي (ع) في كتاب المنتخب، فاحتج على جواز الجمع بين الصلاتين العجماوين، والعشائين للمعذور، للأحاديث التي روتها العامة في كتبها من طريق عبد الرزاق، عن مشائخه كمعمر، وسفيان، وعمرو بن دينار، وإبراهيم بن محمد بن يزيد.
ثم قال: وإنما احتججنا برواية الثقات من رجال العامة؛ لئلا يحتجوا فيه بحجة، فقطعنا حججهم بروايات ثقاتهم. /301

(2/301)


قلت: قوله: (للمعذور) تقييد من المؤلف، فأما كلام إمام الأئمة (ع) في المنتخب، فلم يفصل؛ بل هو دال على الجواز مطلقاً للمعذور وغيره لاستدلاله (ع) بقوله عز وجل: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ }...الآية [الإسراء:78]، وقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ } [هود:114].
وقوله في خبر جبريل (ع): فروى القوم هذا الخبر مجملاً، ولم ينظروا فيه نظراً شافياً، حتى يتبين لهم فيه مواقيت الصلوات.
...إلى قوله: واعلم ـ وفقّك الله ـ أنه لما صح هذا الخبر عن رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - أنه صلى الظهر في أول يوم حين زالت الشمس، وصلى العصر وظل كل شيء مثله، ثم صلى من الغد الظهر وظل كل شيء مثله، وصلى العصر وظل كل شيء مثلاه، علمنا أنه قد صلى في أول يوم العصر في وقت الظهر التي صلاها من الغد، فأجاز ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بفعله هذا صلاة الظهر في وقت صلاة العصر، وصلاة العصر في وقت صلاة الظهر؛ لأنه صلى الظهر والعصر وظل كل شيء مثله، فوجب بفعله هذا أن وقت الظهر كله وقت للعصر، ووقت العصر كله وقت للظهر؛ لأنه من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله وقت واحد ممدود لا مرية فيه، وقد صلى رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في هذا الوقت الواحد الظهر والعصر عند زوال الشمس، فقد أدى الصلاتين في أوقاتهما؛ لأن أول الوقت كآخره، وآخر الوقت كأوله في تأدية صلاتهما غير متعد؛ لفعل رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وكذا من صلاهما في آخر/302

(2/302)


الوقت، فقد صلاهما في أوقاتهما.
...إلى قوله (ع): قد بينت لك فيما شرحت لك، وأوجبت أن وقت الظهر كله وقت للعصر، ووقت العصر كله وقت للظهر.
ثم ساق الأخبار..إلى قوله: فهذه أخبار صحيحة موافقة لكتاب الله، أن وقت الظهر والعصر من زوال الشمس إلى الليل، ووقت المغرب والعشاء إلى الفجر، وهو قول ثابت، وهو قول جدي القاسم بن إبراهيم ـ رحمة الله عليه ـ، وبه نأخذ.
والدليل على صحة هذا القول وثباته، أن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في المدينة من غير سفر، ولا خوف ولا مطر.
ثم ساق الروايات في ذلك.
قلت: وتفسير الجمع بتأخير الأولى، وتقديم الأخرى غير صحيح؛ لأن الجمع حقيقة شرعية في جمع صلاتين في وقت واحد، كما ذكره المؤيد بالله في شرح التجريد، وما ذكر جمع لغوي، والحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية؛ وكذا لا يضر احتمال الجمع للتقديم والتأخير، إذْ قد بطل بثبوته القولُ بعدم جواز الجمع، سواء كان جمعه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ تقديماً أو تأخيراً؛ فلم يبق إلا القول بجوازه.
والذي يتحرر على تحقيق النظر، ويدور عليه كلام نجم آل الرسول، وحفيده إمام الأئمة ـ سلام الله عليهما ـ في الجامعين: المنتخب والأحكام، ومن معهما في مسألة الجمع ـ هو القول الوسط، لا الإفراط ولا التفريط؛ فلا يقال بالوجوب البت، والحكم بلزوم كل صلاة في وقت، وترك التأسي بفعله وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في الترخيص، وإرادة رفع الحرج على أمته ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
ولا باتخاذ الجمع خُلقاً وعادة على الاستمرار، وإهمال /303

(2/303)


الأوقات التي لازمها رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وشرع الدعاء فيها بالنداء على التكرار، سيما أهل عمارة المساجد الذين لامندوحة لهم في ذلك ولا عذر من الأعذار.
وأما مع العذر أو السفر، فلا كلام في الجواز عند أئمة العترة والشيعة وغيرهم من علماء الأمة، وهذا القول هو الراجح على مقتضى الدليل؛ واستيفاء الكلام على أطرافه يحوج إلى التطويل، وهو مبسوط في محله؛ والمسألة نظرية، والتخطية والتأثيم فيها وفي غيرها من المسائل الاجتهادية، لا وجه لهما، مهما كان البناء على الإنصاف والنظر في الدليل؛ بل هي في جنبة المُخَطّي والله الهادي إلى خير سبيل.
(رجع) إلى كلام السيد صارم الدين (ع).
قال: وكذا الإمام المنصور بالله في كتاب الشافي روى أحاديث فضائل العترة من طريق أهل البيت (ع) وشيعتهم، ومن طريق المحدثين والفقهاء؛ قال: وإنما فعلنا ذلك من كلا الطريقين؛ ليقع التمييز بين الروايتين، وتلزم الحجة بإجماع النقلين، والحق عند أهل الإسلام لا يعدو هاتين الطائفتين، وكل يدعي ذلك لنفسه؛ فإذا اتفقوا على أمر واختلفوا في أمر آخر، كان ما اتفقوا عليه أولى بالاتباع مما اختلفوا فيه، فليس برد الحق ينتصر القاصر، ولا بدفع الأدلة ينتفع المكابر.
الثالث: سكون كل واحد من الشيعة والسنية برواية سلفه، وما يحصل بذلك من الاتفاق، والأمن من غوائل الاختلاف والافتراق، وعدم التعرض حينئذ للقدح في الرواية بحصول الاتفاق على المروي، والكروع نهلاً وعَلَلاً من عين ذلك المنهل الروي. /304

(2/304)


الرابع: أنه قد يكون في بعض الروايات زيادة يحصل بها تخصيص عام، أو تقييد مطلق، أو تبيين مجمل، أو بيان وهم راوٍ، والمخالفة لرواية من هو أوثق منه، ونحو ذلك من الفوائد التي تحصل بمعرفة الرواية.
الخامس: أن في ذلك إرغاماً لأنوف النواصب، وتكذيباً لما زوره لسان مفتريهم المناصب، بإيراد الأحاديث المروية من طريق أهل البيت (ع) وأتباعهم، من طريق المحدثين، فيكون دعوى تضعيفها منهم حينئذ مشتركة الإلزام، بينهم وبين العترة الكرام.
قلت: ويبطل ذلك الإلزام، بإجماع علماء الإسلام.
قال: السادس: السلامة من الاغترار بمطلق الترجيح والتضعيف، إذا اختلفت الأحاديث، واحتج كل طائفة بحديث منها، ورجحته بأحد المرجحات، وضعف معارضه بما يوهيه من المضعفات، وكثيراً ما يقع ذلك في الكتب المقصورة على ذكر أدلة الأحكام، وبيان ما يحتج به كل في الحلال والحرام، وتجول فيها خيول النصوص في ميادين التراجيح، وتوزن فيها أدلة العموم والخصوص بموازين النقاد المراجيح؛ فإنك تجدهم طالما يرجحون المفضول على الفاضل، ويجرحون بما يعده خصومهم من أعلى المراتب والفضائل، كالقدح بالتشيع؛ وتجد المتكلم منهم على أحاديث مذهبه يتغاضى عمن روى حجته وإن كان مجروحاً أو ضعيفاً، ويتطلب الجرح لمن روى ما يخالفها وإن كان ثقة عفيفاً؛ فيحتاج إلى معرفة ذلك في هذا المقام، فكم من حديث قد ضعفوه بذلك، ورجحوا عليه المرجوح، ونالوا من أعراض قوم لا تزال أرواحهم في الجنان تغدو وتروح.
السابع: أن المحدثين قد شابوا كتبهم بذكر أعداء أهل البيت ـ عليهم/305

(2/305)


السلام ـ وادعوا للذين قاتلوا علياً (ع) أنهم قاتلوه على وجه التأويل، وأنهم أخطأوا في الاجتهاد، وأنه خفي على من يضرب المثل بدهائه منهم كمعاوية وعمرو، كونهم مبطلين، وتعاموا عما يدل على خلاف ذلك مما رواه الثقات منهم، ووقروهم وعظموهم، ورضّوا عنهم؛ حتى تجاسر بعضهم على تعديل عمر بن سعد، قاتل الحسين (ع).
قال العجلي فيه: تابعي ثقة، روى عنه الناس.
وقال الذهبي في عبيد الله بن زياد: الشيعي لايرضى منا إلا بسب هذا وذويه، ونحن لا نسبه ولا نحبه.
[بيان: السنة والجماعة والرافضة]
واحتجوا على إمامة من تقدم على الوصي (ع) بأحاديث، لا تدل على مطلوبهم المخصوص، وبظواهر لاتقوى على دفع ما دلّ على إمامته من قواطع النصوص، ومَنْ خالفهم في ذلك فهو عندهم مبتدع رافضي؛ لرفضه لإمامة المشائخ الثلاثة، مردود الحديث، سيما إذا كان داعياً إلى مذهبه، وجزموا بأن اعتقاد ذلك أعلى مراتب الطاعة، وسمة يعرف بها أهل السنة والجماعة؛ فإذا وقف على ذلك الشيعي المغرب عن الآثار، هجر الحديث المودع في كتبهم، أو طرت عليه شبهة من شبههم؛ لقصوره عن حلّ الشبه، وعدم اطلاعه على ما ذكره علماؤنا في جوابها؛ وإذا جمع بين طرق الأحاديث، وذكر جواب شبههم في دعوى التأويل والتقديم، اندفع باطلهم بالحق اليقين، كما فعل أصحابنا في علم الكلام وغيره مع سائر المخالفين.
وقد أجاب الشيعة على تسميتهم لهم رافضة، بأن هذا الاسم إنما هو لمن رفض إمامة زيد بن علي (ع)، فمن لم يقل بإمامته فهو رافضي؛ وهذا هو المعروف في هذا الاسم، والسبب في إطلاقه، فهم حينئذ أولى به؛ لأنهم ممن رفض إمامته. /306

(2/306)


قلت: وقد تقدم ما يكفي.
وأجابوا عن تسميتهم أنفسهم بأهل السنة والجماعة، بأن تلك هي سنة معاوية وجماعته؛ لأن الحسن (ع) لما تخلى عن الأمر، وهو الإمام المعصوم، حقناً للدماء، وتسكيناً للدهماء، عام إحدى وأربعين من الهجرة، أخذ معاوية البيعة على الناس وسماه عام الجماعة، ومراده عام جماعته في الرضى بإمامته.
ولما أمر بلعن علي (ع) على المنابر في الجمع والأعياد، عام تسعة وأربعين، سماه عام السنة، وقال: والله لأجرينه سنة حتى إذا قُطِعَ، قيل: قُطِعَتْ السنة.
فصار أتباعه إلى يومنا هذا يسمون أنفسهم بأهل السنة والجماعة، ويوهمون أن المراد سنة النبي، وجماعة أصحابه، ويأبى عليهم ذلك ما علم مما ذكرنا، ومحبتهم لأعداء العترة، والمناضلة عن خصوم الأسرة.
قلت: وقد سبق ما فيه الكفاية.
قال: الثامن: وهو المهم الأعظم، والخطب الأطم، الذي هلك فيه أهل الزيغ الجاهلون، ولم ينج من الغرق في يمه إلا العلماء الراسخون، أن المحدثين قد أودعوا كتبهم من أحاديث الصفات وغيرها، مما ظاهره التشبيه والتجوير والتحديد، ما يحتاج إلى التأويل الشديد، والحمل على مقتضى قواعد العدل والتوحيد؛ فمن الناس من حملها على ظاهرها فشبه وجوّر، ومنهم من نفاها فعطل وكدر.
قلت: أما من نفى ما لايقبل التأويل، مما عارض حجج العقول، وصريح الكتاب والمتواتر عن الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، فقد أصاب الحق، ومقتضى الدليل القاطع المقبول؛ وما لم يكن كذلك فلا بأس بتأويله، مع صحة طريقه وتحقيق دليله؛ فعلى هذا ينبغي حمل كلام صارم الدين (ع)، والله/307

(2/307)


الهادي إلى سبيله.
قال: ومنهم من ردها إلى ما قضى به العقل ومحكم الكتاب والسنة، فسلم من ذلك كله؛ وهؤلاء هم العلماء الراسخون، الذين جمعوا بين علمي المعقول والمنقول، وعرفوا حقائق الإعجاز، وحققوا علم المعاني، ودققوا في فهم لطائف الحقيقة والكناية والمجاز، ومنحوا فهماً ثاقباً، وعلماً نافعاً واسعاً، وملكة في التعبير، وقدرة على الاهتداء إلى وجوه الحذف والتقدير، ورد المتشابه إلى المحكم المنير؛ فتجد هذه الأحاديث في أكثر كتب القوم عارية عن التأويل، أو محمولة على تأويل لايصح؛ وتجدهم يسمعونها العوام، والكبار والصغار في المساجد والجوامع، فيوقعون المستمعين في اعتقادات فاسدة، أو تأويلات لا تجري من الأصول المقررة على قاعدة.
ثم ساق فيما لا تعلق له بما نحن فيه، من التحسر على فوت هذا المطلب، والتأسف لموت أعيان الأعلام، وأمان الأنام، والانفراد عمن أدركهم من النجوم الكرام.
...إلى قوله:
ما في الزمان أخو وجد أطارحه .... حديث نجد ولا صب أجاريه
وأقول: ما أشبه الليلة بالبارحة، والقضية الغادية بالرائحة، وإلى الله سبحانه المشتكى، وحسبنا الله وكفى، وهو نعم المستعان على حوادث الأيام، والمسؤول لحسن الختام.
ولنعد إلى سياق المختار من كتابه، مع الكلام على ما لاغنية عنه في أثنائه، إلى آخر علوم الحديث، لشدة مناسبته للمقصود، وهو حقيق بإفراد فصل معقود. /308

(2/308)


الفصل السابع شيء من الفلك الدوار في علوم الحديث
قال (ع): ولنتكلم قبل الشروع في المقصود على مقدمتين وخاتمة لهما.
المقدمة الأولى: في تعيين الأمهات الموعود بالجمع بينها من كتب العترة والمحدثين، والطريق إلى كل منها.
أما طرق أهل البيت (ع) التي أستند إليها، وأعتمد في الرواية عليها، فطريقي في مجموع الإمام الأعظم زيد بن علي (ع)، وأمالي حفيده الأكرم أحمد بن عيسى بن زيد، التي اعتنى بجمعها علامة الشيعة ومحدثهم، محمد بن منصور بن يزيد المرادي الكوفي، وفي كتاب أصول الأحكام، لمولانا الإمام، الصوام القوام، المتوكل على رب الأنام، أحمد بن سليمان (ع)، وهي قراءتي لها على مولانا السيد الإمام، شيخ العترة الكرام في زمانه، ومفسرها ومحدثها ومفتيها، والمعتني بعلومها، الصلاحي صلاح الدين، بركة أهل البيت المطهرين، عبدالله بن يحيى بن المهدي بن قاسم الحسيني الزيدي نسباً ومذهباً، وطريقته في المجموع هي الطريقة الآتية بالسند الآتي في أصول الأحكام، إلى القاضي جعفر ـ رحمه الله تعالى ـ.
ولي فيه طريق أخرى إليه.
قال رحمه الله: وأنا أروي أصول الأحكام بقراءتي له على حي والدي السيد العالم المتألّه يحيى بن المهدي، بقراءته له على السيد الإمام، الواثق /311

(2/311)


بربّ الأنام، المطهر بن محمد، بقراءته له على والده الإمام، محدث العترة الكرام، المهدي لدين الله محمد بن المطهر، بقراءته له على والده الإمام الأعظم المتوكل على الله المطهر بن يحيى، بقراءته له، على الفقيه العلامة، المذاكر الفهّامة، محمد بن أحمد بن أبي الرجال، بقراءته على الإمام الشهيد، السعيد الحميد، أحمد بن الحسين (ع)، بقراءته له على الشيخ العلامة أحمد بن محمد بن القاسم الأكوع، بقراءته على الشيخ العلامة محيي الدين محمد بن أحمد بن الوليد القرشي، بقراءته له، على مصنّفه الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان (ع)؛ ولم يبقَ فيه لأحد سماع غيري فيما أعلم.
ثم أورد طريق الأمالي من طريق الشريف عمر بن إبراهيم العلوي، وطريق الجامع الكافي إلى الغزال، وطريق أمالي المرشد بالله، وطريق شفاء الأوام، وطريق أحاديث الإبانة وزوائدها، عن الفقيه العالم الواصل من جيلان، الملاّ إبراهيم.
قال: وهو يروي ذلك بالسند إلى مصنفها ـ رحمه الله ـ هذا لفظه: وطريق كتاب الوافي في أحاديث الفرائض، بقراءته على الشيخ العلامة إسماعيل بن أحمد النجراني.
قال: وهو يرويه بسنده إلى مصنفه العلامة الحسن بن أبي البقاء.
قلت: وقد سبق جميع ذلك مستوفى، والحمد لله.
قال: وطريقي في الذي أرويه من غير هذه الكتب من مصنفات علمائنا، الإجازة الصحيحة.
[طريق السيد صارم الدين إلى الأمهات الست المتضمن لها كتاب جامع الأصول]
وأما طريقي في كتب المحدثين من غير أهل البيت (ع)، فطريقي في الستة التي هي: الموطأ، والبخاري، ومسلم، وسنن النسائي، وأبي داود، /312

(2/312)


والترمذي، قراءتي لجميع كتاب جامع الأصول المشتمل على هذه الكتب؛ فأكثره على مولانا صلاح الدين عبدالله بن يحيى ـ رحمه الله تعالى ـ، واستجزت منه الباقي، وقرأت ذلك البعض على حي والدي، واستجزت منه أيضاً الباقي، فصح لي قراءة وإجازة كله.
ومولانا صلاح الدين يرويه بقراءته عن حي جدي السيد الإمام جمال الدين، الهادي بن إبراهيم، ووالدي يرويه عن حي صنوه محمد بن إبراهيم، فكل منهم يرويه بطريقه إلى مصنفه، كما ذلك مذكور على اتصاله في كتبهما، ومبيّن في إجازات العلماء لهما.
قلت: وقد اكتفيتُ عن إيراد إسناد الكتب الستة، وغيرها من كتب المحدثين، بما أوصلتُ من السند إلى شافي الإمام الحجة، المنصور بالله عبدالله بن حمزة (ع)، فأسانيدها فيه مفصلة، وكذا بإيصال السند إلى رواتها من أئمتنا (ع) في جميع مروياتهم، كوالدنا الإمام الهادي إلى الحق عز الدين بن الحسن، والمؤلف السيد صارم الدين، والإمام شرف الدين، والإمام القاسم بن محمد (ع)، وهم يروونها بطرقهم إلى مؤلفيها، وقد اشتملت على ذلك كتب الإجازات، وسنورد السند إليها فيما بعد ـ إن شاء الله تعالى ـ.
وجامع الأصول هذا مؤلفه: أبو السعادات، المبارك بن محمد بن محمد بن عبدالكريم الجزري الموصلي، المعروف بابن الأثير، المتوفى عام ستة وستمائة، افتتح جامع الأصول بقوله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، الذي أوضح لمعالم الإسلام سبيلاً، وجعل السنة على الأحكام /313

(2/313)


دليلاً، وبعث لمناهج الهداية رسولاً، مهد لمشارع الشرائع وصولاً...إلخ.
وهو صاحب النهاية؛ وكتاباه: الجامع والنهاية، معتمدان في النقل عند أهل الرواية، والعمدة على ما صحّ بالطريق على التحقيق عند أرباب الدراية.
وما أحسن كلام الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير حيث يقول:
فابن الأثير الوزير لايوازي يحيى بن الحسين الهادي، في علمه وورعه وتقواه وجهاده، ودعائه العباد إلى الله، وإن لم يكن له (ع) مصنف في غريب الحديث والأثر، مثل النهاية؛ لأنه اشتغل بما هو أهم من ذلك. انتهى كلامه.
قلت: أراد لم يكن له (ع) على سبيل الاستقلال المجرد في ذلك الفن؛ ولكن له في علمي المعقول والمنقول من الكتاب والسنن، ما أحيا الله ـ تعالى ـ به معالم الإسلام على أقوم سنن.
ولله المؤلف صارم الدين (ع) حيث يقول:
وفي إمام الهدى الهادي المتوّج بالـ .... ـعلياء أكرم داع من بني مضرِ
من خُصّ بالجفر من أبناء فاطمةٍ .... وذي الفقار ومن أروى ظما الفِقَرِ
وصاحب المذهب المذكور في اليمن الـ .... ـمشهور من غير لا إفك ولا نكرِ
وفي ابن فضل ومن لبّى لدعوته .... وفي مسوّدة تدعو إلى سقرِ
قضت بتسعين مع تسعين معركة .... غرّ كبدر وأوطاس وكالنهرِ
...الأبيات.
نعم، ثم أورد طائفة من مسموعاته في كتب الحديث؛ والأمر كما ذكرت لك من الاعتماد على ما سبق، ولنعد.
قال: المقدمة الثانية: فيما لايسع طالب الحديث جهله، من علومه واصطلاحات أهله، وبيان مذهبنا فيه، مع زيادات فوائد وقواعد، يحتاج إليها /314

(2/314)


الشيعي العدلي، ويناضل بها الخصوم في المقام الجدلي.
قلت: أما المعتمد عليه، فقد أحاطت به أصول الفقه بأدلته، وقد سبق طرف نافع من ذلك؛ وأما غيره مما لابرهان عليه، فأجل فائدة في معرفته الرد على مبتدعه، وتجنب طريقته كما أشار إليه.
[حقيقة علوم الحديث]
قال: وأنا أسال الله الإعانة والتوفيق، والسلامة من وعثاء هذه الطريق، فأقول: علوم الحديث هي: القواعد التي تعرف بها أحوال الحديث، وأحوال رواته، وما يتصل بذلك.
قلت: المراد بالحديث والخبر هنا: ما نقل عن الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ من السنة، الشاملة للقول، والفعل، والترك، والتقرير؛ ويطلق على ما نقل عن غيره ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أثر؛ وبعضهم يعمم، وبعضهم يفصل؛ فالحديث خاص بما هو عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ والخبر عام، إلى غير ذلك من الاختلاف؛ وكل ذلك مرجعه الاصطلاح، ولا حاجة هنا إلى الكلام على معناهما، وبيان أقسامهما، فله مقام آخر هو أخص به.
[المتواتر ومفاده]
قال: ثم إن الحديث، إما إن تعلم صحته بكثرة رواته كحديث الغدير والمنزلة، وقتل عمار، وإمامة الحسنين، فهو المتواتر.
قلت: وهو لغة: المتتابع من الأمور شيئاً بعد شيء بفترة لايتخلل زمان كثير فيكون منفصلاً، ولا قليل فيكون متصلاً، مأخوذ من الوتر.
واصطلاحاً: خبر عدد لا يكذب عادة.
قال: وهو ضروري عند أئمتنا والجمهور، خلافاً للبغدادية، والملاحمية، وبعض الأشعرية.
قلت: فعندهم أنه /315

(2/315)


معلوم استدلالاً، والحجة عليهم أنه لو كان استدلالياً لتوقف العلم به على نظر الدليل، ولما حصل لمن لم يكن من أهل النظر كالصبيان، والبُله، والعوام؛ والمعلوم خلافه؛ وإمكان ترتيب الدليل لايوجب الاحتياج إليه، فإن صورة الترتيب ممكنة في كل ضروري، نحو: الاستدلال على أن الأربعة زوج بما صورته الأربعة منقسمة بمتساويين، وكل منقسم بمتساويين زوج؛ وغير ذلك.
قال: وتوقف الموسوي، والآمدي.
ولاتنحصر تلك الكثرة في عدد مخصوص، وأقلها خمسة في الأصح.
قلت: قال المؤلف في الفصول: وضابطه ما حصل العلم عنده.
إلى قوله: الجمهور خمسة، وهو المختار، انتهى.
قال: أو بقرائن تنضم إليه كالإخبار لملك بموت ولد له مدنف مع صراخ، وانتهاك حريم، ونحو ذلك؛ فهو المعلوم بالقرائن، وأنكره الجمهور، ويعز وجوده في الشرع، وقيل: بل يعدم.
قلت: في الفصول، وشرحه، للسيد الإمام صلاح بن أحمد المؤيدي (ع) ما لفظه: المؤيد بالله، والمنصور بالله في رواية رواها عنه القاضي عبدالله، والإمام يحيى، وغيرهم من علمائنا، كالإمام محمد بن المطهر، والسيد محمد بن جعفر، والحفيد في تعليقه، وإليه ذهب إمامنا المنصور بالله ـ أي القاسم بن محمد ـ، وبعض الأشعرية كالرازي، والسبكي، والبيضاوي، وابن الحاجب، والآمدي: يحصل العلم بخبر العدل؛ لكن مع قرينة زائدة على ما لاينفك التعريف عنه.
إلى قول الشارح في حجتهم: بأنا نجد العلم بخبر الواحد مع القرينة من أنفسنا وجداناً ضرورياً لايتطرق إليه الشك، انتهى المراد.
[المتلقى بالقبول]
قال: أو بالنظر، وهو ما حكم بصحته المعصوم كالأمة، أو العترة، فهو /316

(2/316)


المتلقى بالقبول، ومختار أكثر أئمتنا، وبعض الأصوليين، والمحدثين، أنه معلوم كالمتواتر.
قلت: البعض من الأصوليين: أبو هاشم، والقاضي عبد الجبار، والغزالي؛ ومن المحدثين: ابن الصلاح، وغيره؛ والمراد بكونه كالمتواتر في القطع بصحته، وإن كان المتواتر ضرورياً، والمتلقى نظرياً.
قال في الفصول: فعلمُ صحته بالنظر.
قال الشارح: بأن يقال: لو لم يكن صدقاً بأن كان كذباً لكان استنادهم إليه خطأ، وهم معصومون؛ ولله درّ المؤلف حيث يقول:
وإن التلقي بالقبول على الذي .... به يستدل المرء خير دليلِ
وما أمّة المختار من آل هاشم .... تلقّى حديثاً كاذباً بقبولِ
قلت: وتفسيره هذا للمتلقى بالقبول أوضح من تفسير غيره.
وأما القسم الذي ذكره ابن الإمام (ع) في الغاية، بقوله: ومنه خبر الواحد إذا أجمع على العمل بمقتضاه للعصمة عن الخطأ، وقيل: مع الحكم بصحته، انتهى. فغير متضح؛ لأنه إن أراد العمل بمقتضاه مع الاستناد إليه، فهو هذا؛ إذ ليس المراد من الحكم إلا العلم بالاستناد إليه، وإن أراد من دون استناد إليه، فغير صحيح، لاحتمال أن يجمعوا على معناه مستندين إلى غيره، كما أشار إليه السيد الإمام المحقق في شرح الفصول؛ ولا يلزم ما ذكره ابن الإمام (ع) من لزوم تخطئتهم في الاستناد؛ لأن المفروض خلافه.
[انقسام الخبر إلى معلوم الصدق والكذب]
نعم، والأكمل في التقسيم ما ذكره المؤلف في الفصول بقوله:
(فصل) وينقسم الخبر إلى ما يعلم صدقه، وإلى ما يعلم كذبه، وإلى ما يحتملهما، /317

(2/317)


فالأول ضروري بنفس الخبر كالمتواتر لفظاً، أو معنى، أو بغيره كالموافق لضروري.
قال السيد الإمام، صلاح الإسلام: وهو الخبر عن البديهيات، نحو: الواحد نصف الاثنين.
إلى قوله: فلولا تقرره في عقولنا لما علمنا صدق من أخبر به.
قال المؤلف: واستدلالي عقلي، كخبره تعالى.
قال صلاح الإسلام: وهو عند أهل العدل أن الله عدل حكيم لايفعل القبيح.
قلت: لقبحه، وغناه تعالى عنه، وعلمه بهما؛ وفعله لو فرض مع ذلك خلاف الحكمة ضرورة، تعالى الله سبحانه عن ذلك.
قال: وقبح الكذب معلوم ضرورة.
قلت: مع عدم الحاجة إليه، والحكيم يتعالى عز وجل عنها؛ وإنما طوى هذا للعلم به.
قال المؤلف (ع): وخبر رسوله.
قال صلاح الإسلام: دليل صدقه عند أهل العدل أن الله تعالى أظهر المعجز عليه، تصديقاً له، ودليلاً على عصمته، والله تعالى لايصدق الكاذب؛ لأن ذلك قبيح، والله لايفعل القبيح.
قلت: والبرهان عليه ما تقدم.
وشرعي: كخبر الأمة والعترة، وكذا موافقهما.
قلت: ومن المعلوم صدقه ما ذكره بعد هذا البحث، في قوله:
(فصل) وما أخبر به واحد.
قال صلاح الإسلام: أو ما في حكمه إلى الأربعة، بل حاصله مالم يفد التواتر.
قال صارم الدين (ع): بحضرة خلق كثير.
قلت: ضابطه جماعة لايكذب مثلها. /318

(2/318)


قال: علم أنه لو كان كذباً لعلموه، ولا حامل لهم على السكوت، فهو صدق قطعاً للعادة؛ وكذا ما أخبر به بحضرة النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ مما يتعلق بشريعته أو معجزاته، أو نحو ذلك.
قال صلاح الإسلام: كأن يكون مما لايعلم إلا من جهته، كأخبار الآخرة؛ ولم ينكره.
قلت: والأحسن في تحقيقه ما ذكره ابن الإمام (ع) بقوله: ومنه في الأصح ما أخبر به بحضرته (ع) مع دعوى علمه به مطلقاً، أو عدمها، إن كان دينياً لم يعلم خلافه، أو علم ويجوز تغيره، أو دنيوياً لايخفى عليه، ولم ينكره، انتهى.
قال صارم الدين (ع): والثاني: ـ قلت: أي ما يعلم كذبه. قال:ـ نقيض ما علم صدقه.
والثالث: ـ قلت: أي ما يحتملهما. قال:ـ خبر الواحد.
قلت: أي الآحادي، سواء كان واحداً أو أكثر، مهما لم يقطع بصدقه؛ وكثيراً ما يطلقون خبر الواحد، والمراد ذلك، وهذا القسم محرر في علوم الحديث، فيرجع إليه.
[الكلام على الآحادي وأنواعه]
قال: وإن لم يعلم صدقه فهو الأحادي، وقد يظن صدقه كخبر العدل، أو كذبه كخبر الكذاب، أو يشك كالمجهول؛ والعمل به ـ قلت: أي بخبر العدل. قال: واجب لحسن العمل بالظن عقلاً.
قلت: ليس الدليل هذا على قبوله، وإلا لزم قبول خبر بعض الصبيان، وكافر التصريح وفاسقه، الذين يظن صدقهم؛ والعقل إنما يدل على حسن العمل بالظن في جزئيات، يكفي فيها أدنى منبّه، ولو خبر صبي أو كافر صريح، أو أي أمارة ضعيفة لخطر الإقدام، وعدم الضرر في الإحجام، كالإخبار بسمّ الطعام، وقد حققتُ المختار في ذلك بدليله، في الرسالة الموسومة بإيضاح الدلالة، بل المعتمد /319

(2/319)


في الدليل على القبول ما أوضحه بقوله: ولإجماع الصحابة المعلوم، ولإرساله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ الآحاد، وتقريره المسلمين على قبوله.
قلت: ومتى كان هذا الدليل على القبول، وهو المعلوم، فلا يقبل إلا من كان على صفة من أرسلهم ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، ووقع الإجماع على قبولهم، من أولي العدالة والثقة المحققة، لا ذوي الكفر أو الفسق لا الصريح ولا التأويل؛ لعدم الدليل، بل للدليل على المنع، نحو قوله ـ عز وجل ـ: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ]} [هود:113]، و {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } [الحجرات:6]، ولا يصلح ما ادعوه من الإجماع على قبول المتأول لتخصيص الآي ولا تأويلها؛ لعدم البرهان عليه، وإنما هي حكايات معارضة بحكايات مثلها في الرد.
ومما يبين أنها دعاوى مجردة، أنهم لم يأتوا بقضية واحدة عن أهل الإجماع الذي زعموا في الصدر الأول، تفيد قبول خصم لخبر خصمه أو شهادته؛ ولقد استرسلوا لتكثير الروايات، حتى قبلوا عن المصرح بالكفر أو الفسق المجمع على ردّ روايته، إلا من عصم الله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فالراجح البقاء على الأصل الأصيل، الذي هو مقتضى الدليل، وهو الأحوط في الدين؛ كيف، وهو عز وجل يقول: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [الإسراء:36]، {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)} [البقرة]؟ ولا وجه للتأويل، وإخراج العلم عن حقيقته، وهو عام لايخرج منه إلا ما خص بدليله، وإن كان قد كثر في هذا /320

(2/320)


التهويل، والقعقعة بنقل الأقاويل، فالمعتمد الدليل.
قال: ولأن من رده.
قلت: أي الأحادي.
قال: من الإمامية، والبغدادية، والظاهرية، والخوارج، تمسكوا في رده بالظن؛ وإنما فروا منه، ويعمل به في العملي مطلقاً.
قلت: لعله أراد بالإطلاق فيما تعمّ به البلوى وغيره كما ذكر في الأصول.
قال: لا في العلمي كالمسائل الإلهية، ولا في العملية العلمية كأصول الشرائع إلا مؤكِّداً.
قلت: والحجة على ذلك الأصل:
أولاً: أن المطلوب العلم؛ بدلالة نحو قوله ـ عز وجل ـ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [الإسراء:36]، {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)} [البقرة]، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [الحج:8]، وكم صدّر الحكيم، في الكتاب الكريم، الأمر باعلم واعلموا، مع ما كرر ـ عز وجل ـ من إبطال الظن، والذم لأهله: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } [يونس:36]، وإنما خصصت تلك العمومات بما تقدم من بعث الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ والإجماع، وليس ذلك مجمعاً عليه إلا في العمليات الفرعيات؛ فيقر حيث ورد.
ثانياً: أن الله ـ تعالى ـ نهى عن الاختلاف في الدين، وحرمه على العالمين، وتوعد عليه بنصوص الكتاب والسنة، فلا بد من نصب دلالات عليه قطعية؛ لقيام الحجة، وإلا لَعُذِر المخالف فيه، كما في المسائل الاجتهادية الفرعية؛ لخفاء /321

(2/321)


الأمارات الظنية، واختلاف الأنظار في المآخذ الاجتهادية، وهو خلاف النصوص القرآنية، ومعلوم السنة النبوية، وإجماع من يعتد به من الأمة المحمدية.
ثالثاً: أن هذه الأصول مما تتوفر الدواعي إلى نقلها، كما قرر في الأصول.
قال (ع): خلافاً لبعض المحدثين، والبكرية؛ وإن خالفهما، رُدّ، إلا أن يمكن تأويله؛ واتفقوا على وجوب العمل به في الفتوى والشهادة؛ فإن رواه فوق اثنين، فهو المشهور، والمستفيض، والاثنان فهو العزيز، أو الواحد فهو الغريب؛ فإن لم يوافقه غيره، فهو الفرد المطلق، كخبر مس الذكر، وإلا فهو الفرد النسبي؛ فإن وافقه غيره فهو المتابع، وإن وجد متن يشبهه فهو الشاهد؛ وتتبع الطرق لذلك هو الاعتبار.
قلت: ولهم في تفصيل هذه الأقسام ونحوها، وتحصيلها، كلام طويل، وحصول النفع بالاشتغال به والتكثير منه قليل، بعد معرفة ما سبق من المردود والمقبول، وما يفيد منها قوة أو ضعفاً، أو يحتاج إليه عند الترجيح، لا يخفى على ذي بصيرة كما هو محقق في الأصول؛ وهي في موضوعاتهم قريبة الانتوال، كثيرة الأمثال؛ وقد أصاب المؤلف ـ رضي الله عنه ـ في عدم توسيع الدائرة في ذلك، فلنعد إلى سياق ما هنالك.
[ذكر الصحيح والحسن]
قال (ع): ثم الصحيح من الآحادي عند من لايقبل المرسل: ما نقله مكلف، عدل، تام الضبط، متصل السند، غير معلّ بعلّة قادحة.
والصحيح عند قابله: ما نقله مكلف، عدل، غير مغفَّل، ولا قابل /322

(2/322)


لمجهول أو نحوه، بصيغة الجزم.
قلت: قوله: (مكلف) مستدرك لإغناء عدل عنه؛ ونحو المجهول: كثير الخطأ، والمجروح؛ ولابد في الأول بعد متصل السند من زيادة (بمثله) أو نحو ذلك، وصيغة الجزم نحو: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ؛ والمراد ما يدل على عدم التردد في الرواية.
قال: والظاهر في صيغتي التمريض والبلاغ ونحوهما الإرسال.
قلت: صيغة التمريض: نحو روي، وذُكِرَ مغير الصيغة، والبلاغ: نحو بلغنا ونحوهما: كنقل، وغير ذلك، مما يفيد عدم الاتصال.
قال: ويتفاوت الصحيح بتفاوت صفاته؛ ومن ثم قدم جمهور أصحابنا أحاديث الأمالي، والجامعين.
قلت: هما المنتخب، والأحكام، لإمام الأئمة (ع).
قال: فإن خف الضبط، وكان له من جنسه تابع أو شاهد، فهو الحسن، وأدلة قبول الآحاد تشمله، وإن انفرد عند أئمتنا والجمهور خلافاً للبخاري، وإن توبع.
قلت: هذا قول البخاري، وأما عمله في كتابه، فقد تقدم ما فيه كفاية.
هذا، والبخاري هو: أبو عبدالله، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة؛ كان المغيرة مجوسياً على دين قومه، أسلم على يد اليمان الجعفي ببخارى، فنسب إليه للولاء.
وأما ولده إبراهيم فلم يوقف على شيء من أخباره، هكذا أفاده ابن حجر؛ وقد تقدم ذكر وفاته، ووفاة مسلم، في سند أمالي الإمام أحمد بن عيسى، عند ذكر محمد بن منصور المرادي، في معرض كلام اقتضاه ذلك البحث.
نعم، فصاحب البيت أدرى بالذي فيه؛ فهل يغتر بصنيعهم إلا من ليس له لب أو أعمى البصيرة، أو أغلف القلب؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون؛ وسيعلم/323

(2/323)


الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
قوله: (وإن توبع) قد تقدمت الإشارة في كلامه إلى معنى المتابعة، والمشاهدة، والاعتبار؛ ولا بأس بزيادة إيضاح معانيها؛ لكونها طريقاً إلى الترجيح، ومسلكاً إلى التقوية والتضعيف، ولكثرة تداولها في عبارات أهل التأليف.
فالمتابعة: أن يشارك الراوي غيره في رواية الخبر عن شيخه، وهذه متابعة تامة.
فإن لم يوجد إلا من يشاركه عن شيخ شيخه، أو من فوقه إلى الصحابي، فمتابعة ناقصة؛ وقد تسمى شاهداً.
فإن لم يوجد من يرويه عن الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ إلا عن غير ذلك الصحابي الذي رواه عنه، فهي الشاهد؛ فإن كانت بلفظه، فشاهد باللفظ، أو بمعناه، فشاهد بالمعنى.
فإن لم يوجد متابع ولا شاهد، فالخبر من الأفراد، والنظر في وجود التابع أو الشاهد هو الاعتبار.
ونرجع إلى تمام كلام صارم الإسلام.
قال (ع): وبكثرة طرقه ـ قلت: يعني الحسن الذي تقدم قال:ـ يصح عند المجتهد.
قلت: اعلم أنهم اختلفوا في حقيقة الحسن، وفي ما حصلوه من كلام الترمذي على اضطرابه، وكلام غيره على اختلافه، فقال ابن الصلاح: وقد أمعنت النظر في ذلك البحث، جامعاً بين أطراف كلامهم، ملاحظاً مواقع استعمالهم، فتنقح لي واتضح، أن الحديث الحسن قسمان:
أحدهما: الحديث الذي لايخلو رجال إسناده من مستور.
قلت: فسروا المستور بتفاسير، قيل: من روى عنه أكثر من واحد، ولم /324

(2/324)


يوثق، وقيل: الذي لم تتحقق عدالته ولا جرحه، وقيل: من نقل فيه جرح وتعديل، ولم يترجح أحدهما.
قال ابن الصلاح في تمام الحد: لم تتحقق أهليته، غير أنه ليس مغفلاً كثير الخطأ فيما يرويه.
قلت: قال في الديباج المذْهب للحنفي، وهو شرح رسالة الشريف الجرجاني: ولعله لو اكتفى بمستور لكفى؛ لأنه لو كان مغفلاً ـ أي منسوباً إلى الغفلة ـ لم يكن مستوراً، بل مجروحاً بوجه.
قال ابن الصلاح: ولا هو متهم بالكذب في الحديث، ولا بسبب آخر مفسق، ويكون متن الحديث قد عرف، بأن روي مثله أو نحوه من وجه آخر أو أكثر.
قلت: أفاد في الديباج أن المثْل: يستعمل في الموافق في اللفظ والمعنى، والنحو: في الموافق في المعنى، فقط.
قال ابن الصلاح: حتى اعتضد بمتابعة من تابع راويه على مثله، أو بما له من شاهد، وهو ورود حديث آخر بنحوه؛ فيخرج بذلك عن أن يكون شاذاً أو منكراً، وكلام الترمذي على هذا القسم يتنزل.
قلت: قال في الديباج: أورد عليه الضعيف، والمنقطع، والمرسل مثلاً؛ تدبر.
قلت: وقد أجيب بأنه يلتزم دخول ذلك في الحسن، على مقتضى كلام الترمذي، بالشرط الذي ذكره من روايته من وجه آخر...إلخ.
وقد ساق في التنقيح كلام ابن الصلاح هذا، وفيه مخالفة يسيرة، وأنا أعتمد نقله من أصل كتابه.
قال في التوضيح: قال الحافظ ابن حجر: إن المعرف عند الترمذي هو حديث المستور.
قال الأمير: ولا يعده أهل الحديث من قبيل الحسن، وليس هو في التحقيق عند الترمذي مقصوراً على رواية المستور، بل يشترك فيه الضعيف؛ /325

(2/325)


بسبب سوء الحفظ، والموصوف بالخطأ والغلط، وحديث المختلط بعد اختلاطه، والمدلس إذا عنعن، وما في إسناده انقطاع خفيف؛ فكل ذلك عنده من قبيل الحسن بالشروط الثلاثة، وهي: أن لايكون فيهم من يتهم بالكذب، ولا يكون الإسناد شاذاً، وأن يروى ذلك الحديث أو نحوه من وجه آخر فصاعداً.
قلت: ليس عنده إلا شرطان فقط؛ إذ روايته من وجه آخر...إلخ، تخرجه عن كونه شاذاً، أو منكراً، كما تقدم.
قال ابن الصلاح: القسم الثاني: أن يكون راويه من المشهورين بالصدق والأمانة، غير أنه لم يبلغ درجة رجال الصحيح؛ لكونه يقصر عنهم في الحفظ والإتقان، وهو مع ذلك يرتفع عن حال من يعد ما ينفرد به من حديثه منكراً؛ ويعتبر في كل هذا مع سلامة الحديث من أن يكون شاذاً أو منكراً سلامة الحديث من أن يكون معللاً.
وعلى القسم الثاني يتنزل كلام الخطابي.
قال: وكأن الترمذي ذكر أحد نوعي الحسن، وذكر الخطابي النوع الآخر، مقتصراً كل واحد منهما على ما رأى أنه يشكل، معرضاً عما رأى أنه لايشكل، أو أنه غفل عن البعض وذهل. انتهى كلامه.
قلت: والأول يسمى عندهم الحسن لغيره، والثاني الحسن لذاته؛ وهذا القسم الثاني هو الذي عرفه ابن حجر.
قال الأمير: ومثله صنع المصنف في مختصره.
قلت: بل تعريفه هو تعريف السيد صارم الدين (ع)، وهو مخالف للجميع؛ لأنه اشترط مع خفة الضبط أن يكون له من جنسه تابع أو شاهد؛ فقد وافقهم في عدم الفرق بينه وبين الصحيح إلا بخفة الضبط، وخالفهم في الشرط هذا؛ فإنهم لم يشرطوا التابع أو الشاهد إلا في القسم الأول، /326

(2/326)


وهذا اصطلاح وبابه واسع؛ ولا يسلم للأمير ما أورده عليه من أنه بصدد اصطلاحهم.
نعم، قال الأمير في التوضيح: ورسم الحسن بأنه ما اتصل سنده برواية من خف ضبطه...إلى آخره؛ فقيد الضبط قد أخذ في الرسمين، أي: رسم الصحيح، ورسم الحسن؛ وإنما اختلفت صفة خفته وخلافها، فقد تغايرا تغاير الخاص والعام؛ فكل صحيح حسن وزيادة، كما أن كل إنسان حيوان وزيادة...إلخ كلامه.
قلت: هذا خبط عظيم، وسهو عجيب، لايخفى على لبيب، بل تباينا تباين الفرس والإنسان؛ لانفراد كل واحد بفصل مناف للآخر؛ لأن شرط الصحيح تمام الضبط، كما صرحوا وصرح به، وشرط الحسن خفته؛ فكيف يجتمعان، ويوصف شيء واحد من جهة واحدة بالتمام والنقصان؟ هذا خلف من القول؛ وفيه من جنس هذا كثير قد علقت على بعضه في التوضيح، والله ولي التوفيق.
قال ابن الصلاح: ومن أهل الحديث من لا يفرد نوع الحسن، ويجعله مندرجاً في أنواع الصحيح؛ لاندراجه في أنواع ما يحتج به.
قال: وهو الظاهر من تصرفات الحاكم.
قلت: ولا يخفى ما في هذه الرسوم من الانتقادات، والإحالات على المجهولات؛ ولا حاجة بنا إلى الإطناب، فهي لاتخفى على أولي الألباب.
قال السيد صارم الدين (ع): وما لم يجتمع فيه صفات أيهما.
قلت: أي الصحيح، والحسن.
قال: فهو الضعيف.
قلت: هكذا اتفقت عليه رسومهم؛ وقد أنهى أقسامه بعضهم إلى اثنين وأربعين، /327

(2/327)


وبعضهم إلى تسعة وأربعين قسماً، فصلها في التنقيح، وغيره.
[بحث في قول الترمذي: حسن صحيح]
قال صارم الدين (ع): فإن وصف الحديث بالصحة والحسن معاً، فقيل: باعتبار إسنادين.
قلت: وقد أورد عليه أن الترمذي يقول: هذا حديث حسن صحيح، لانعرفه إلا من هذا الوجه.
وأجيب: بأنه أراد لا نعرفه بذلك اللفظ، وقد ورد معناه بإسناد آخر؛ أو لانعرفه حسناً إلا من هذا الوجه، ومن غيره صحيحاً غريباً أو نحوه؛ أو يريد لا يعرف عن ذلك الصحابي، وله إسناد آخر عن صحابي آخر.
هذا حاصل ما ذكروه.
قال: وقيل باعتبار اللغة والعرف.
قلت: فيكون حسناً لغةً، وهو ما تميل النفس إليه، ويستحسن صحيحاً اصطلاحاً، ولا تنافي إلا أنه بعيد عن مقاصدهم؛ كذا أفادوه.
قال: وقيل: غير ذلك، منها: أنه صحيح في إسناده ومتنه، حسن في الاحتجاج به، ويكون هذا الحسن هو الحسن اللغوي؛ وهذا لمحمد بن إبراهيم الوزير.
قال في التنقيح: وهذا الجواب عندي أرجحها؛ لأنه لايرد عليه شيء من الإشكالات.
قلت: قد أورد عليه الأمير في التوضيح إيرادات ركيكة، منها: أن الحسن اللغوي ما تميل إليه النفس، ولا يأباه القلب، وهو صفة اللفظ، وليس من مدلولها الاحتجاج به.
قلت: وهذا غير صحيح، فإن الحسن اللغوي أعمّ من ذلك؛ فهو يطلق /328

(2/328)


على ما حسن من كل شيء، كما نص عليه أهل اللغة، فتستوي فيه الألفاظ والمعاني وغيرها قطعاً، فلا وجه لتخصيصه لغة ولا شرعاً؛ ومنع إطلاقه على الاحتجاج، غفلة أو لجاج؛ وبقية إيراداته على هذا المنهاج.
وأتى في الديباج بوجه آخر حاصله: أنه للاختلاف بين أهل الحديث في ناقله، فهو عند بعض ظاهر العدالة، تام الضبط؛ فهو على رأيه صحيح.
وعند بعض خفيف الضبط والعدالة، فهو عنده حسن؛ فأشار بذلك إلى المذهبين.
قلت: وهذا وجه حسن صحيح، ولا مانع، وكلها محتمل؛ والعمدة على ما عند صاحب الإطلاق في الواقع؛ وعلى كل حال، فلا مجال لصاحب الإطلاق من الإخلال، فما كان ينبغي له أن يستعمله مع ظهور التدافع من غير تبيين للمقصود؛ لما فيه من الإلغاز والإجمال.
نعم، قال السيد صارم الدين (ع): وإن وصف بالغرابة، والحسن، فباعتبار حال الإسناد؛ مثل: أن يسند الحديث غير واحد بإسناد حسن إلى آخر الحفاظ، لكن ذلك الحافظ، ومن فوقه تفرد به؛ فهو عنه إلى أسفل حسن غير غريب، ومنه إلى فوق حسن غريب.
قلت: قد تقدم له تعريف الغريب، والعزيز، والمشهور، والمتواتر، وهذه الأربعة أقسام الأخبار.
وأما المستفيض، فهو عنده وعند بعض أهل الحديث مرادف للمشهور، على ما سبق؛ وعند بعضهم فيه كلام آخر وسيأتي.
فالغريب والعزيز من الآحاد، والمشهور أعمّ، والثلاثة الأقسام تدخلها الثلاثة الأنواع: الصحة، والحسن، والضعف كما سيتضح ـ إن شاء الله ـ ولا بأس بزيادة الإيضاح؛ لبيان الاصطلاح. /329

(2/329)


[الكلام على الحديث الغريب]
فأقول والله ولي التوفيق:
القسم الأول: الغريب.
وهو: لغة: صفة مشبهة، مشتقة من الغرابة والغربة، ومعناهما: البعد والانفراد، فهو البعيد والمنفرد.
واصطلاحاً: ما انفرد بروايته كله أو بعضه واحد.
قال ابن الصلاح: وكذا الحديث الذي تفرد فيه بعضهم بأمر لا يذكر فيه غيره، إما في متنه، وإما في إسناده.
وقال الشريف الجرجاني: والغريب إما صحيح كالأفراد المخرجة في الصحيح.
وغير صحيح، وهو الأغلب.
والغريب أيضاً، إما غريب متناً وإسناداً، وهو: ما انفرد برواية متنه؛ أو إسناداً لامتناً، كحديث يعرف متنه عن جماعة من الصحابة، إذا انفرد واحد بروايته عن صحابي آخر، ومنه قول الترمذي: (غريب) من هذا الوجه؛ ولا يوجد ما هو غريب متناً لا إسناداً، إلا إذا اشتهر الحديث الفرد، فرواه عمن تفرد به جماعة كثيرة، فإنه يصير غريباً مشهوراً.
قلت: يكون غريباً باعتبار طرفه الأول، وهو رواية المتفرد به؛ ومشهوراً باعتبار طرفه الآخر، وهو رواية الجماعة عنه؛ وقد مثلوا لهذا بحديث: ((إنما الأعمال بالنيات))، رواه كل واحد من الستة: البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، بسنده إلى يحيى بن سعيد الأنصاري ـ وليس القطان، الذي تكلم في الصادق (ع) ـ عن محمد بن إبراهيم، عن علقمة، عن عمر بن الخطاب.
قلت: وقد صحّ معناه برواية أئمتنا (ع)، وقد تقدم، والكتاب العزيز يشهد له: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [البينة:5]، ولا يمكن /330

(2/330)


الإخلاص إلا بنية.
نعم، ويطلق على كتب هؤلاء (الصحاح)، قالوا: تغليباً، وإلا فلم يلتزم الصحة إلا البخاري، ومسلم؛ وبعضهم يجعل مكان ابن ماجه موطأ مالك، ويقال لهم: الستة والجماعة؛ وهذا عارض.
نعم، قال ابن الصلاح بعد إيراده، وسياقه لهذا الخبر وغيره ما لفظه: وكل هذه مخرجة في الصحيحين، مع أنه ليس لها إلا إسناد واحد.
إلى قوله: وفي غرائب الصحيح أشباه لذلك غير قليلة، وقد قال مسلم بن الحجاج: للزهري نحو تسعين حرفاً، يرويه عن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لا يشاركه فيها أحد.
قلت: وهكذا كلامهم جميعاً، وفيه رد على من قدح في رواية بعض أعلام الشيعة بالتفرد، مع وضوح العذر له، بما هو معلوم للأمة؛ وهذا صحيحهم، بل أصح كتبهم عند جمهورهم، كتاب البخاري غريب متفرد به، انتهت رواياتهم جميعاً له إلى الفربري، واعتذر بعذر يقرب من المستحيل عادة، وهذا معلوم، ولكن التعصب لا حيلة فيه.
هذا، ويطلق الغريب على ما في متون الأحاديث، من الألفاظ، التي معانيها خفية على من لا ممارسة لهم في اللغة، والبحث عنها في علم العربية؛ وقد صنف في غريب الحديث مصنفات مبسوطات.
[الكلام على الحديث العزيز]
القسم الثاني: العزيز.
وفعله عَزّ يعز (بالكسر) عزاً وعزة وعزازة: صار عزيزاً، وبمعنى: قوي، وبمعنى: قل. ويعز (بالفتح) إذا اشتد، وقياسه: أن تكون عين الماضي مكسورة كشرب؛ إذ ليس عينه أو لامه حلقياً كسأل ومنع، حتى يجوز فتح العين في /331

(2/331)


ماضيه ومضارعه؛ وما ورد على خلاف ذلك، فشاذ، كما ذكروا في الصرف.
وهو في الاصطلاح: ما رواه اثنان لا غير، على ما تقدم، وعند بعضهم: أو ثلاثة.
والمناسبة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي حاصلة، سواء كان بمعنى القوة؛ إذ قد تقوت رواية الواحد بالثاني، أو بمعنى القلة؛ إذ هي قليلة باعتبار ما فوقها.
[الكلام على الحديث المشهور]
والقسم الثالث: المشهور.
اسم مفعول، من الشهرة (بالضم)، وهي: الظهور، وفعله شهر، من باب منع.
وهو في الاصطلاح مما اختلف فيه كلامهم، فقيل: ما رواه فوق اثنين كما تقدم له، وقيل: ما رواه فوق الثلاثة، وقيل: هو الذي شاع عند أهل الحديث خاصة، وقيل: عندهم، وعند غيرهم، بأن رواه كثيرون.
ويرادفه المستفيض، اسم فاعل من مزيد الثلاثي، وزيادة السين والتاء فيه للمبالغة، يقال: فاض الماء يفيض فيضاً، إذا زاد حتى خرج من جوانب الإناء؛ أفاده في شمس العلوم؛ وفي القاموس: كثر حتى سال.
قال: والخبر شاع.
قلت: وقد يبلغ حد التواتر، وبعضهم يخص المستفيض بما رواه أكثر من ثلاثة.
هذا، والغرابة، والعزة، والشهرة، والاستفاضة لا تنافي الصحة، ولا الضعف، إذ ليست إلا باعتبار العدد، من غير نظر إلى العدالة والضبط.
قال السيد صارم الدين (ع): وزيادات رواة الصحيح والحسن مقبولة، ما لم تقع منافية لرواية من هو أوثق منه.
قلت: أما المنافاة، فالمراد منها الحقيقية، التي لا يمكن الجمع معها بتأويل، ولا تعميم وتخصيص، ولا إطلاق وتقييد، ولا نسخ، ونحوها من /332

(2/332)


وجوه الجمع الرافعة للمنافاة الظاهرة.
وعلى الجملة، إن الزيادة لها حكم الخبر المستقل، فيرد منها ما يرد منه، ويقبل ما قبل.
وأما العلة: فإن كانت العلة قادحة، فالرواية غير مقبولة.
وإن كانت غير قادحة، ككثير من العلل، التي يعلل بها أهل الحديث بموجب مصطلح لا برهان عليه، فلا تضر؛ وسيأتي البحث ـ إن شاء الله تعالى ـ فيه.
وقد قيد العلة في رسم الصحيح بكونها قادحة المؤلفُ كما سبق؛ ونقله محمد بن إبراهيم الوزير عن ابن الصلاح، وزين الدين العراقي في التنقيح؛ وقد اعترضه محمد بن إسماعيل الأمير في التوضيح، بأن التقييد للعلة بقادحة، ليس في كلام ابن الصلاح.
هذا معنى كلامه، وهو غير وارد؛ فإن ابن الصلاح صرح في تفصيل رسمه بالتقييد، حيث قال: وما فيه علة قادحة.
فلا انتقاد على الوزير؛ لكن لم يتأمل الأمير في رسم ابن الصلاح، كما نقله عنه.
نعم، والتقييد بذلك هو الواضح السبيل، على منهج الدليل؛ وبه يدخل في الصحيح ما أخرجه بعض أهل الحديث، وهو ما فيه علة غير قادحة، فليس بمانع على رأيهم؛ والعجب من الأمير، حيث قال في التوضيح ما لفظه: تقييده للعلة بالقادحة أخرج منه بعض أفراد الصحيح، وهو ما فيه علة غير قادحة، فإنه غير صحيح عند المحدثين كما عرفت.
فقوله: صحيح باتفاق المحدثين مسلم؛ لكنه غير جامع؛ لخروج بعض أفراد الصحيح عندهم، كما عرفت...إلخ كلامه.
قلت: في كلامه هذا خلل واضح، فأين الاتفاق من المحدثين مع التقييد؟ وهم يشترطون السلامة على الإطلاق، فهو غير صحيح عندهم أصلاً؛ لاشتراطهم عدم العلة مطلقاً، سواء كانت قادحة أم لا؛ فعلى أي وجه يصح التسليم، عند ذي نظر سليم.
فصواب الكلام غير مسلم؛ لأن هذا القيد أدخل في /333

(2/333)


الصحيح ما ليس بصحيح عندهم، وهو ما فيه علة غير قادحة، فيكون عندهم غير مانع؛ ولعله قصد أن هذا الرسم غير جامع لمسمى الصحيح على الرأيين: رأي أهل الفقه، ورأي أهل الحديث، لخروج الصحيح عنه على رأي المحدثين؛ بسبب التقييد للعلة بالقدح، وهم يعتبرون السلامة على الإطلاق، ولكن عبارته لا تؤدي هذا المعنى، ولا وجه لتسليم الاتفاق؛ وإنما المتفق على أنه صحيح ما صدق عليه رسم المحدثين، وهو ما ذكره ابن الصلاح بقوله: أما الحديث الصحيح، فهو: الحديث المسند، الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذاً، ولا معللاً.
قلت: فيقال: في هذا مسلّم أنه صحيح بالاتفاق، ولكنه غير جامع عند أهل الفقه؛ لخروج ما فيه علة مطلقاً، مع أن ما فيه علة غير قادحة ليس بخارج عندهم، بل هو صحيح؛ وأيضاً لخروج مرسل العدل، الذي لا يرسل إلا عن عدل، فيكون هذا الرسم غير صحيح عند أهل الفقه من الجهتين؛ فتدبر، والله ولي التوفيق.
هذا، والذي يظهر عند التحقيق، أن التقييد للعلة ليس للإخراج، بل هو للإيضاح، وأن كل علّة قادحة عند أهل الاصطلاح؛ وعلى هذا فالاختلاف راجع إلى ما يعلل به، لا إلى وصف العلة، فمن علل بشيء فهو عنده قادح، وهذا هو الوجه الصحيح الواضح؛ وما تقدم وارد على الأمير؛ لتصريحه بالتأثير، وبنائه للخلاف والوفاق، على التقييد والإطلاق.
نعم، قال صارم الدين (ع): والمختار وفاقاً للجمهور إمكان التصحيح في الأزمنة المتأخرة، لمن قويت معرفته؛ خلافاً لابن الصلاح.
قلت: وهذا من جنس مجازفات ابن الصلاح، التي ليس عليها أثارة من علم، ولا رائحة دليل، ولا يتابعه عليها من له مسكة؛ كقوله في أحاديث /334

(2/334)


البخاري ومسلم: إنها متلقاة بالقبول من الأمة، سوى أحرف يسيرة؛ كما سبق.
قال في التنقيح: ولا يجب الاقتصار إلا على رأي ابن الصلاح، وهو مردود.
قال صارم الدين (ع): فإن خولف الراوي في روايته مع القوة، فالراجح هو المحفوظ، والمرجوح هو الشاذ؛ ومع الضعف الراجح هو المعروف، ومقابله هو المنكر.
[الكلام على الشاذ]
قلت: الشاذ لغة: اسم فاعل، والفعل شذ يشذ (بضم الشين وكسرها) شذاً كضرب، وشذوذاً بزنة فعول (مضموم الفاء)، وهو الكثير في مصدر الثلاثي اللازم مفتوح العين؛ والشاذ هو النادر عن الجمهور على ما في القاموس؛ وفي الصحاح: المنفرد عن الجمهور.
واصطلاحاً: اختلف فيه، فنقلوا عن الشافعي ـ رضي الله عنه ـ كما في علوم ابن الصلاح، وتنقيح ابن الوزير، أنه قال: ليس الشاذ أن يروي الثقة ما لايرويه غيره؛ إنما الشاذ أن يروي الثقة حديثاً يخالف ما روى الناس.
قلت: وهذا هو معنى ما فسره به السيد صارم الدين ـ رضي الله عنه ـ إذ المراد بالقوة في كلامه: الثقة، وبالناس في المنقول عن الشافعي: الجنس لا العموم؛ وقد صح إطلاقه على الواحد مع ظهور المراد، كما في قوله ـ عز وجل ـ: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } [البقرة:199]، وفي قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ }...الآية، [آل عمران:173].
وعلى هذا يكون المراد مخالفة من هو أرجح منه؛ وإلا فلا وجه لنسبة الشذوذ إليه، فينطبق التفسيران، ويتفق القولان؛ وقد نقل معنى ما /335

(2/335)


ذكر عن الشافعي الشريف في الرسالة.
وهذا القول هو الأول، وهو الصحيح في تفسيره.
القول الثاني:
المنقول عن الحاكم، أن الشاذ هو: الذي ينفرد به ثقة، وليس له أصل يتابع ذلك الثقة، وأنه يغاير المعلل من حيث أن المعلل وقف على علته، الدالة على جهة الوهم فيه، والشاذ لم يوقف فيه على علة كذلك؛ هذا نقله عنه ابن الصلاح، ومحمد بن إبراهيم الوزير، بنقص يسير.
ونقل الأمير عن بعضهم، أن الحاكم قال: وينقدح في نفس الناقد أنه غلط، ولا يقدر على إقامة الدليل على ذلك، ويشير إلى هذا قوله: ويغاير المعلل، انتهى.
القول الثالث:
المنقول عن أبي يعلى الخليلي القزويني، أنه قال: الذي عليه حفاظ الحديث، أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد، يشذ بذلك شيخ، ثقة كان أو غير ثقة؛ فما كان عن غير ثقة فمتروك لا يقبل، وما كان عن ثقة يتوقف فيه، ولا يحتج به؛ نقله عنه الوزير، وابن الصلاح.
إذا عرفت هذا، فقد قيده المؤلف، والشافعي، بقيدين: الثقة، والمخالفة، ووافقهما الحاكم في القيد الأول، وهو: الثقة، وقيده بقيد آخر: لا يوقف عليه.
قال ابن حجر: وهو على هذا أدق من المعلل بكثير؛ فلا يتمكن من الحكم به إلا من مارس الفن غاية الممارسة...إلخ.
قلت: بل لا يتمكن من الحكم عليه أحد، وكيف يتمكن، والحكم متوقف على الوقوف على علته، وهو لم يوقف فيه على علة، ولا يقدر على إقامة الدليل على ذلك؟
وأما الانقداح في النفس، فإن كان لوجه، فقد وقف فيه على /336

(2/336)


علة، وإن لم يقدر على التعبير، فليس بشرط إلا للبيان، وإلزام الخصم؛ وإن لم، فهو من قبيل الوسواس، الذي لا اعتبار به في الشرع، وهو شبيه بما قيل في الاستحسان على أحد الأقوال؛ ولكنه هنالك قد وقف عليه، ولم يبق إلا التعبير، فالأمر يسير.
وأما هذا، فلم يوقف على بيان، فلم يبق إلا أن يستعاذ فيه بالله ـ تعالى ـ من الشيطان، ويطرحه ويمضي على منهج البرهان.
وأما القول الثالث: فلم يقيده بشيء، فهو أعم مطلقاً، وهو مشكل على القواعد غاية الإشكال، على جميع الأقوال.
أما على ما عند آل محمد (ع)، فمعلوم أنهم يقبلون خبر العدل الضابط، ولا يشترطون هذه الشرائط.
وأما عند أهل الحديث، فقد حكموا بالصحة على ما تفرد به الثقة الضابط، وكتبهم جميعاً كالبخاري ومسلم بذلك مشحونة؛ والصحة تنافي الشذوذ؛ إذ قد شرطوا في الصحيح عدم الشذوذ، كما سبق.
قال ابن الصلاح: أما ما حكم به الشافعي بالشذوذ، فلا إشكال أنه شاذ غير مقبول، وأما ما حكيناه عن غيره، فيشكل بما ينفرد به العدل الحافظ الضابط كحديث: ((إنما الأعمال بالنيات)).
ثم ساق في مثال ذلك...إلى قوله: فكل هذه مخرجة في الصحيحين، مع أنه ليس لها إلا إسناد واحد، تفرد به ثقة، وفي غرائب الصحيحين أشباه لذلك غير قليلة.
ثم حكى كلام مسلم في تفرد الزهري، وقد سبق كلامه.
قال: فهذا الذي ذكرناه، وغيره من مذاهب أئمة الحديث يبين لك أنه ليس الأمر في ذلك على الإطلاق، الذي أتى به الخليلي، والحاكم.
قلت: أما الخليلي، فنعم.
وأما الحاكم، فلم يطلق، لكنه قيده بقيد لا يوقف عليه، فليس إلا بينه وبين /337

(2/337)


نفسه؛ فالانتقاد على ابن الصلاح في خلط الرد عليهما، ونسبته الإطلاق إليهما، من هذه الجهة.
وأما قول الأمير: فهذا رد على الخليلي.
وأما الحاكم: فإنه ليس في كلامه أنه يقبل أو لايقبل، بل ذكر معناه، ولم يذكر حكمه، فما أدري ما وجه إيراد ابن الصلاح لذلك عليه، وتلقي الزين، ثم المصنف، لما أورده عليه، بالقبول؛ فليتأمل؛ فعجيب!.
ونقول: قد تأملنا، فوجدنا كلامك غير مصيب، فكلام الحاكم في بيان الشاذ، وقد حكم على ما ذكره بالشذوذ، والشاذ عنده وعندهم غير مقبول؛ وإنما الخلاف في تعريفه، ومتى ثبت فالحكم فيه عند الجميع معلوم غير مجهول؛ ولم أنتقد فيما لا ثمرة فيه، نحو: قوله في أول الباب في تعريف الشاذ: هو: لغة: الانفراد؛ فعرف اسم الفاعل بالمصدر، وحمله عليه، وهو لا يصح عند ذوي النظر؛ ومع هذا فالأفهام سهام، تخطئ وتصيب.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلّها؟ .... كفى المرء نبلاً أن تعد معائبه
ولم أورد ـ والحمد لله تعالى ـ شيئاً إلا ما فيه نفع في المقصود، وفائدة للمطلع لمقصد ـ بفضل الله تعالى ـ صالح، وغرض صحيح؛ ولم أبالغ رعاية لمنصب هذين العالمين، الذين جعلا أقصى مرامهما الانتقاد، حتى طرقا السبيل لمن جرى ذلك المجرى إلى هذه الغاية؛ والمعامل الله سبحانه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
[بيان أن التفرد غير قادح]
ونرجع إلى تمام كلام ابن الصلاح.
قال: بل الأمر في ذلك على تفصيل نبينه، فنقول: إذا انفرد الراوي بشيء، نظر فيه؛ فإن كان مخالفاً لما رواه من هو أحفظ منه لذلك وأضبط، كان ما تفرد /338

(2/338)


به شاذاً مردوداً.
وإن لم يكن فيه مخالفة لما رواه غيره، وإنما هو أمر رواه هو، ولم يروه غيره، فينظر في هذا الراوي المنفرد؛ فإن كان عدلاً ضابطاً موثوقاً بإتقانه وضبطه، قُبل ما انفرد به، ولم يقدح الانفراد فيه.
وإن لم يكن ممن يوثق بحفظه وإتقانه لذلك الذي انفرد به، فإن انفراده به خارماً له، مزحزحاً عن حيز الصحيح.
قلت: هكذا في كتابه بنصب خبر إن وهو شاذ، وقد استشهد له بورود شيء قليل، متأول في كتب النحو، وفي التنقيح نقلاً عنه: كان انفراده به...إلخ.
وعن مرتبة الصحيح، قال ابن الصلاح: وهو بعد ذلك دائر بين مراتب متفاوته، بحسب الحال فيه.
فإن كان المنفرد به غير بعيد من درجة الحافظ الضابط المقبول تفرده، استحسنّا حديثه ذلك، ولم نحطه إلى قبيل الحديث الضعيف.
وإن كان بعيداً من ذلك، رددنا ما انفرد به، وكان من قبيل الشاذ المنكر.
فخرج من ذلك أن الشاذ المردود قسمان:
أحدهما: الحديث الفرد المخالف.
والثاني: الفرد، الذي ليس في راويه من الثقة والضبط، ما يقع جابراً لما يوجبه التفرد والشذوذ، من النكارة والضعف؛ والله أعلم.
قلت: وقد أطال في تفصيله، ولم يزد في الشاذ على معنى كلام الشافعي السابق، وهو المخالف.
وأما غير المخالف:
فالأول منه: صحيح غريب.
والثاني: حسن لذاته غريب.
والثالث: ضعيف.
فإن وجد ما يقويه، فهو حسن لغيره، وقد أتى بمعنى هذا الأمير في التوضيح؛ وهو صحيح. /339

(2/339)


قال الوزير في التنقيح: أما من تفرد عن العالم الحريص على نشر ما عنده من الحديث وتدوينه، ولذلك العالم كتب معروفة، وقد قيد حديثه فيها؛ وتلاميذه حفاظ، حراص على ضبط حديثه وكتبه، حفظاً، وكتابة؛ فكلام المحدثين معقول ـ قلت: أي كلام الرادين بالتفرد.
قال:ـ لأن شذوذه ريبة، قد توجب زوال الظن، على حسب القرائن؛ وهو موضع اجتهاد.
وأما من شذ ـ قلت: أي الشذوذ اللغوي.
قال:ـ بحديث عمن ليس كذلك، فلا يلزم رده؛ وإن كان دون الحديث المشهور في القوة، وإلا لزم قول أبي علي الجبائي: إنه لا يقبل إلا اثنان؛ وكان يلزم أيضاً في الصحابي إذا انفرد عن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
وقول ابن الصلاح: إن التفصيل الذي أورده هو الأولى.
قلت: فيه تسامح، فلم يصرح بها اللفظ، لكنه يفهم من قوله، كما ذكر في التوضيح.
قال الوزير: فيه سؤال، وهو: أن يقال: تريد أن مذهبك هو الأولى، فذلك صحيح، وهو مذهب حسن؛ أو تريد أن ذلك مذهب أئمة الحديث، فيحتاج إلى نقل.
إلى قوله: والظاهر أن ابن الصلاح لا يخالف في صدور ذلك ـ قلت: أي قول الخليلي، قال:ـ عن كثير؛ ولهذا قال في نوع المنكر ما لفظه: وإطلاق الحكم على التفرد بالرد والنكارة والشذوذ، موجود في كلام كثير من أهل الحديث؛ والصواب أن فيه التفصيل الذي بيناه.
قلت: المختار ما ذكره صارم الدين (ع)؛ لأنه وإن كان العالم وكتبه وتلاميذه على ما ذكره، فليس بممتنع أن ينفرد عنه، ولا موجب لرد خبر الثقة /340

(2/340)


الحافظ، الذي ورد الشرع بقبول خبره؛ لمجرد الأوهام والشكوك.
وكان يلزمه في خبر الصحابي؛ لأن الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ حاله فوق جميع أحوال الخلق في النشر والإبلاغ، وحال الصحابة الملازمين له المتبعين لهديه أبلغ حال؛ وإن لم يكن لهم كتب في السنة، فحفظهم أعظم من كتب أولئك الرجال، فليس لما ذكره مساغ.
قال: فثبت بهذا أن قدح المحدثين في الحديث بالشذوذ والنكارة مشكل.
قلت: أي قدحهم بسبب التفرد كما تقدم، ويفيده السياق.
قال: وأكثره ضعيف، إلا ما تبين فيه سبب النكارة والشذوذ، وقد يقع منهم في موضعين:
أحدهما: القدح في الحديث نفسه.
وثانيهما: القدح في راوي الشواذ والمناكير.
[انتقاد على المحدثين]
فإذا ثبت بنقل الثقة عن الحافظ أنهم يعيبون تفرد الثقة بالحديث، وإن لم يخالف غيره، فقد زادوا على الجبائي؛ فإنه اشترط أن يكون الحديث مروياً عن اثنين، ولم يقدح في الثقة الواحد إذا روى، بل وقف في قبول حديثه، حتى يرويه معه آخر، وهذا غلو منكر؛ وقد جرحوا كثيراً من أهل العلم بذلك، وما على الحفاظ إن حفظوا، وينسى غيرهم.
قلت: الحمد لله على موافقة الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير على الحق والإنصاف، وإفصاحه بما عليه أغلبهم من الحيف والاعتساف؛ وذلك أنه لم يكن حال جدال وخصام، وإلا فهو لا يزال يذب عنهم ويرد بكل ممكن في مقامات المنازعة والإلزام؛ وهكذا الحق يحمل على التصريح به بالرغم، وإن /341

(2/341)


أبلغ صاحب الخلاف كل ممكن في الكتم، فلا بد من النطق به يوماً ما، وفي حال دون حال، ومقام دون مقام، فقد وضح الحق في خبطهم وجزافهم، وقلة إنصافهم، وسلوكهم غير الطريقة، وقدحهم بلا حجة ولا حقيقة؛ فأي وجه مع ذلك وغيره، يبقى في الاعتماد عليهم، في جرح من جرحوه، وتعديل من عدلوه، سواء أبانوا الوجه أم أجملوه؟
ومع هذا، فإنه جُرِح من جرح منهم بهذا، وهم له معتمدون، وعليه مكبون؛ فكتبهم بذلك مشحونة، كما أقروا بذلك وعلمه المطلعون، فهم في هذا وغيره يقولون ما لايفعلون.
لا تنه عن خلق وتأتي مثله .... عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
ولا تراهم يشنون الغارة، ويرمون بالقدح والنكارة، في أغلب الأحوال، إلا الرجال الثقات، من أولياء العترة الأثبات، المعدلين بنصوص السنة وصريح الآيات.
وقد تطرف ـ بل تصلف ـ منهم من تصلف؛ ليتخلص عن التشنيع عند نفسه، وعلى مقتضى حدسه، بتحيله في تأصيله، أن التفرد غير قادح في من هو بالغ للرتبة التي زعموها، وأوهموا أنهم علموها؛ كلمة حق يراد بها باطل، فإنهم جعلوا ذلك طريقاً إلى الفرق بين جرح من أحبوا، وتعديل من شاءوا؛ ثم نالوا بذلك جماعة الأولياء، وعصابة الأتقياء.
وهذه قطرة من مطرة من طرائقهم المفارقة للصواب، الذي لا يخفى على أولي الألباب، والله ـ تعالى ـ نعم الحكم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
هذا، ثم اعترض على ابن الصلاح في قوله: إن حديث: ((إنما الأعمال بالنيات)) من الأفراد الصحاح، وإنه تبع في ذلك غيره، وحكى أن ابن حجر رواه عن عدد كثير من الصحابة، لكن من طرق ضعيفة؛ وقد جمع بين /342

(2/342)


القولين بأنه من الأفراد باعتبار الطريق الصحيحة عندهم، ومروي بطرق من غيرها.
[الكلام على الحديث المنكر]
هذا، والمنكر: اسم مفعول فعله: أنكره، أي: جحده، أو لم يعرفه؛ قال في القاموس: والمنكر ضد المعروف، انتهى.
وهو مختلف فيه في الاصطلاح؛ فذهب إلى مرادفته للشاذ ابن الصلاح.
وذهب أهل النظر منهم إلى أنه قسمان:
القسم الأول: الذي انفرد بروايته الضعيف؛ لسوء حفظه أو جهالته، ولا متابع له، ولا شاهد.
قلت: هذا في التحقيق هو أحد قسمي الشاذ، على رأي ابن الصلاح، كما سبق.
والقسم الثاني: هو ذلك، بشرط المخالفة للأرجح؛ وهو الذي ذكره صارم الدين (ع)، وقد ردوا على ابن الصلاح في قوله بالمرادفة، وحكموا عليه بالغفلة عن التحقيق للمخالفة.
قال في التوضيح: قال الحافظ ابن حجر على قول ابن الصلاح: إنه ينقسم إلى ما ينقسم إليه الشاذ ـ ما لفظه: هما مشتركان في كون كل منهما على قسمين؛ وإنما اختلافهما في مراتب الرواة، فالضعيف إذا انفرد بشيء لا متابع له ولا شاهد، ولم يكن عنده من الضبط ما يشترط في حد الصحيح والحسن، فهذا أحد قسمي الشاذ.
قلت: وهو القسم الثاني من المنكر، كما يتضح من كلامهم؛ فردهم عليه بعدم الترادف فيه لا وجه له.
قال في التوضيح، تتميماً لكلام ابن حجر: فإن خولف في ما هذه صفته مع ذلك، كان أشد شذوذاً، وربما سماه بعضهم منكراً؛ /343

(2/343)


وإن بلغ تلك الرتبة في الضبط، لكنه خالف من هو أرجح منه في الثقة والضبط، فهذا القسم الثاني من الشاذ، وهو المعتمد في تسميته.
قلت: وهذا هو المخالف للمنكر، فلا بأس في الرد فيه على ابن الصلاح.
قال متمماً لذلك الكلام: وأما إذا انفرد المستور أو الموصوف بسوء الحفظ في بعض دون بعض، أو الضعف في بعض مشائخه، بشيء لا متابع له، ولا شاهد عليه، فهذا أحد قسمي المنكر.
إلى قوله: فإن خولف في ذلك، فهو القسم الثاني، وهو المعتمد على رأي الأكثرين؛ فبان بهذا فصل المنكر من الشاذ، وأن كلاً منهما قسمان يجمعهما مطلق التفرد، أو مع قيد المخالف، انتهى.
قلت: أما الأول: فلم يأت بما يفصله عن القسم الأول من الشاذ؛ فقد جمعهما الانفراد والضعف، وعدم المتابعة والشاهد، وعدم المخالفة، وذلك تمام تعريفهما.
وليس المراد بالمستور هنا إلا من لم تعرف عدالته ولا جرحه، كما يتضح في سياق كلامهم الآتي، فهو من معاني الضعيف.
وقال في النخبة، وشرحها، وشرح شرحها، بعد ذكر نحو ما ذكره هنا ما لفظه: وعرف بما ذكرناه من التقرير، الدال على الفرق بين الشاذ والمنكر، أن بينهما عموماً وخصوصاً من وجه.
قلت: أما في القسم الأول، فهما بمعنى واحد، ولا عموم، ولا خصوص، لا مطلق، ولا من وجه. /344

(2/344)


وأما الثاني: فبينهما تباين؛ لاشتراط الضعف في المنكر، وعدمه في الشاذ، وهما متباينان لا يجتمعان؛ وإنما غر ابن حجر وغيره اشتراكهما في المخالفة، ولكن ذلك لا يوجب العموم والخصوص الوجهي، وإنما يوجبه الاجتماع في مادة، مع انفراد كل واحد منهما بشيء؛ لكن لا يباين الآخر ويخالفه فيه، كالحيوان والأبيض، فإنهما يجتمعان في حيوان أبيض، وينفرد الحيوان بصدقه على حيوان أسود، وينفرد الأبيض بشيء أبيض غير حيوان كالحجر الأبيض مثلاً؛ فصدقا على شيء، وانفرد كل واحد منهما بشيء؛ واستقام ذلك، لما لم يشترط في أحدهما ما ينافي الآخر.
وبهذا يتضح لك أنهم لم يقفوا على التحقيق لمعنى العموم والخصوص الوجهي؛ وقد سكت على كلامه الأمير، وتأوله المحشي بما لايجدي، والصواب ما ذكرته لك.
ونسوق تمام كلامهم، ففيه زيادة إيضاح.
قال: وهو أنه يعتبر في كل منهما شيء لا يعتبر في الآخر، حيث اعتبر في كليهما مخالفة الأرجح.
قلت: وهذه المشاركة هي التي أوقعتهم في الغلط.
قال: وفي الشاذ مقبولية الراوي، وفي المنكر ضعفه.
قلت: وهذان الشرطان موجبان للمباينة؛ إذ هما متضادان، فلا يجتمعان، فكيف يصدقان على شيء واحد؟ كما هي قضية العموم، والخصوص الوجهي.
قال: لأن بينهما اجتماعاً في اشتراط المخالفة، وافتراقاً في أن الشاذ راويه ثقة أو صدوق، والمنكر راويه ضعيف، أي لسوء حفظه، أو جهالته، أو نحو ذلك، انتهى.
قلت: وبهذا يكونان كالإنسان والفرس مثلاً؛ إذ يجتمعان في الحيوانية، وينفرد الإنسان بالناطقية، والفرس بالصاهلية؛ وهذا واضح، /345

(2/345)


وإنما أطلت بنقل كلامهم؛ لبيان مصطلحهم في ذلك، فهذا البحث من أهم المسالك.
[المتن والسند لغة واصطلاحاً]
قال السيد صارم الدين (ع): فأما اضطراب المتن، فغير قادح، كحديث الصوم، المروي عن عبدالله بن عمر، فإنه مضطرب المتن لا السند.
قلت: سيأتي الكلام على المضطرب ـ إن شاء الله تعالى ـ.
والمتن لغة يطلق على معانٍ عينية: كما صلب وارتفع من الأرض، ومتني الظهر مكتنفي الصلب.
ومن السهم: ما بين الريش إلى وسطه، وغيرها.
ومعنوية: كالضرب، والذهاب في الأرض، والمد، والإقامة بالمكان، وضرب الخيام، وغيرها.
واصطلاحاً: المنقول بالرواية من قول أو فعل أو تقرير، فهو نفس الدليل المروي.
والسند لغة: المعتمد، والمقابل من الجبل العالي عن السفح، وضرب من البرود.
واصطلاحاً: طريق المتن، والإسناد مصدر أسنده أي: رفعه، فهو الإخبار عن طريق المتن، ويطلق عند المحدثين على السند، والأول أوجه.
قال صارم الدين (ع): ثم المقبول، إن سلم عن المعارضة، فهو المحكم، وغالبه نص جلي، وظاهر، ومفهوم.
قلت: النص لغة: الظهور، واصطلاحاً ينقسم إلى: جلي، وخفي، ولم يتعرض للخفي بعض أهل الأصول، واتفقوا على ذكر الجلي.
قال في الفصول: هو اللفظ الدال على معنى لا يحتمل غيره بضرورة الوضع، اسماً، أو فعلاً، أو حرفاً. /346

(2/346)


[الكلام على المنطوق والمفهوم]
قلت: محل البحث هذا علم الأصول، وأشير هنا إلى هذه الأقسام، على التحقيق بما يليق بالمقام، فأقول: مدلول القول المفهوم من الخطاب قسمان: منطوق، ومفهوم.
فالمنطوق: ما أفاده اللفظ من أحوال مذكور، والمراد بالأحوال: الأحكام؛ كذا في الغاية وشرحها، ومعناه في شرح العضد.
ولم يشمل التعريفُ المذكورَ الذي تعلقت به الحال، وهو منطوق، فيكون غير جامع.
وعرفه في الفصول، والمعيار، ومختصر المنتهى، بأنه ما دل عليه اللفظ في محل النطق، فتدخل الحال، وصاحبها، لكن فيه دور.
وقد أجيب عنه بما فيه بُعْد كما في الطبري؛ فالأولى أن يزاد في الأول مع المذكور، أو يقال: هو المذكور، وحاله المستفادة من الخطاب، وسواء ذكرت الحال أم لا؛ فالشرط في حصول المنطوق ذكر ما له الحال، فإن ذكرت الحال، فصريح، كأقم الصلاة، فالوجوب حال مذكورة، وحكم للصلاة المذكورة؛ وهذا مثال الحكم التكليفي.
ومثال الحكم الوضعي، قوله عز وجل: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } [الإسراء:78]، فإنه دال على سببية الدلوك المذكورة، التي هي من الأحكام الوضعية؛ للوجوب المذكور.
والمراد من ذكر الحال ذكر ما يدل عليها، كالأمر في (أقم) الدال على الوجوب، واللام في الدلوك، الدال على التوقيت بالدلوك، المفيد لسببيته للوجوب؛ وإن لم تذكر الحال، فغير صريح.
فالصريح هو: ما يدل عليه اللفظ مطابقة، بأن يكون تمام المعنى الموضوع له، كعشرة على الخمستين؛ أو تضمناً، بأن يكون جزء المعنى، كدلالتها على الخمسة.
وغير الصريح هو: ما يدل عليه اللفظ بالالتزام، بأن يكون لازماً للمعنى /347

(2/347)


الموضوع له؛ وهو ثلاثة أقسام:
القسم الأول: دلالة الاقتضاء؛ وهي ثلاثة أنواع:
النوع الأول: ما توقفت عليه الصحة العقلية، كقوله عز وجل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } [يوسف:82]، والذي توقفت عليه الصحة هو الأهل مثلاً؛ إذ لولا تقديره لم يصح عقلاً، فالأهل حال غير مذكورة لمذكور، وهو القرية.
النوع الثاني: ما توقف عليه الصدق، نحو قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان))، فلولا تقدير المؤاخذة أو نحوها، لكان كاذباً؛ لوجودهما، فالمؤاخذة مثلاً حال لم تذكر لمذكور، وهو الخطأ والنسيان.
النوع الثالث: ما تتوقف عليه الصحة الشرعية نحو: اعتق عبدك عني على ألف، فهو مستلزم للتمليك؛ لأن العتق عنه لا يصح شرعاً إلا بعد ملكه، ولا يملكه إلا بالتمليك له من المالك؛ فالتمليك حال لم تذكر لمذكور وهو العبد.
القسم الثاني: دلالة الإيماء، وتسمى تنبيهاً، وهي أن يقترن الحكم الملفوظ به بوصف لو لم يكن ذلك الوصف علة لذلك الحكم كان اقترانه به بعيداً، كقوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((اعتق رقبة)) المقترن بقول السائل: واقعت أهلي في نهار رمضان، فَعِلِّيَّةُ الوقاع حال لم تذكر لمذكور، وهو إيجاب العتق.
قالوا: والمدلول عليه في هذه الأقسام مقصود للمتكلم، ولا إشكال.
القسم الثالث: المسمى دلالة الإشارة اصطلاحاً.
وأما في اللغة: فالإشارة هي الإيماء، وكذا تخصيص الاقتضاء بالأنواع السابقة، وإلا فكل دليل مقتضى لمدلوله هذا، مثل الآيتين اللتين استدل بهما أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وهما: قوله عز وجل: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } [الأحقاف:65]، مع قوله عز وجل: {وَفِصَالُهُ فِي/348

(2/348)


عَامَيْنِ } [لقمان:14]، على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وليس الخطاب في الظاهر مسوقاً لذلك؛ بل هو في الأولى لبيان الوالدة، وفي الثانية لمدة أكثر الفصال، لكن لزم منه ذلك، فأقل مدة الحمل حال لم تذكر للحمل المذكور.
ومثل جواز الإصباح جنباً، فهو حال لم تذكر للصائم المذكور في قوله عز وجل: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187]، فإنه يلزم منه ذلك، وإن كان الخطاب في الظاهر لبيان حل المباشرة والأكل والشرب في الليل.
قالوا: والمدلول عليه في هذا غير مقصود للمتكلم، وفيه إشكال؛ إذ العليم الحكيم لا بد أن يقصد جميع ما يدل عليه خطابه صريحاً أو لزوماً، منطوقاً أو مفهوماً.
والجواب: أن مرادهم بكونه غير مقصود بالأصالة لكون الكلام غير مسوق له كما سبق، وهو مقصود بالتبعية، فلما كان كذلك نزل بمنزلة غير المقصود، هذا معنى ما ذكروه؛ وقد أشكل الفرق بين المنطوق غير الصريح، والمفهوم على كثير.
قال السعد التفتازاني في حاشيته: والفرق بينهما محل نظر، انتهى.
وأدخله بعضهم بأقسامه في المفهوم، والأول هو الصحيح، والفرق واضح؛ فإن المنطوق غير الصريح حال لأمر مذكور كما سبق، والمفهوم حال لأمر غير مذكور، كالتحريم فإنه حال للضرب المفهوم من قوله عز وجل: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } [الإسراء:23]، وليس بمذكور، وهذا في مفهوم الموافقة.
وكعدم وجوب الزكاة، فإنه حال للمعلوفة التي لم تذكر، وإنما هي مفهومة من ذكر السائمة، وهذا في مفهوم المخالفة. /349

(2/349)


نعم، وينقسم المنطوق أيضاً إلى نص وغير نص.
فالنص: لغة: الرفع، والظهور.
واصطلاحاً: المعنى المستفاد من الخطاب الذي لا يحتمل غيره، ويطلق النص أيضاً على مدلول الكتاب والسنة نصاً أو ظاهراً، فهو في مقابل الإجماع والقياس، وعلى ما يقابل التخريج، فهو قول إمام المذهب.
فإن احتمل معنى غيره، فمع الاستواء، وعدم إمكان الحمل على الجميع فمجمل، ومع عدم الاستواء، فإن حمل على المرجوح لقرائن عقلية أو نقلية صيرته راجحاً، وكذا مع الاستواء أيضاً، وقامت قرينة تعين المراد من معانيه، وتقصره عليه، فمؤول، وإن حمل على الراجح، فظاهر.
[الكلام على الظاهر]
قال في الفصول ـ وأخذه في شرح الغاية ـ ما لفظه: فالظاهر لغة: الواضح، واصطلاحاً: اللفظ السابق إلى الفهم منه معنى راجح مع احتماله لمعنى مرجوح لم يحمل عليه.
وهذا التعريف لا يشمل المشترك؛ وهو مبني على أنه مجمل ما لم تقم قرينة معينة لأحد المعاني، وهو مختار ابن الإمام (ع).
والصحيح من كلام أئمتنا (ع) أنه مع إمكان حمله على الجميع غير مجمل، وهو الذي دلّ عليه كلام المؤلف في مقدمة الفصول حيث قال في سياقه: أئمتنا، والشافعي، وجمهور المعتزلة: فيجب حمله عليها جميعاً، عند تجرده عن القرائن لظهوره فيها كالعام، فلا إجمال فيه، انتهى.
فالأولى على هذا أن يقال: هو اللفظ السابق إلى الفهم منه معان غير متنافية، ولا قرينة تقصره على بعض، أو متنافية مع القرينة المعينة للمراد، أو معنى راجح مع احتماله لمعنى مرجوح لم يحمل عليه. /350

(2/350)


[الجلي والخفي]
هذا، ولم يتعرض صاحب الغاية لقسمة النص إلى: جلي، وخفي، والذي ذكره هو الجلي، وقسمه في الفصول إلى: جلي، وخفي.
قال في تعريف الجلي: هو اللفظ الدال على معنى لا يحتمل غيره بضرورة الوضع، اسماً، أو فعلاً، أو حرفاً: كمحمد، وعشرة، وطلقت، وكي.
قلت: الأول: من أسماء الأعلام، والثاني: من أسماء الأعداد، والثالث: من الأفعال، والرابع: من الحروف.
قال: وخفي، وهو: اللفظ الدال على معنى لا يحتمل غيره بالنظر لا بضرورة الوضع.
قال صلاح الإسلام (ع) في شرح قوله: بالنظر: خرج النص الجلي، فمن هنا يعلم أن زيادة لا بضرورة الوضع إنما هي للإيضاح.
قال في الفصول وشرحه: وقصره ـ أي النص ـ الفقيه العلامة الحسين بن مسلم التهامي، وهو من تلامذة الشيخ الحسن، وله كتاب الإكليل على التحصيل للشيخ الحسن...إلى قوله: والغزالي، والطبري على الأول، وهو الجلي.
قال: ويطلقه ـ أي النص ـ الفقهاء على ما دل على معنى كيف كان؛ أي سواء كانت دلالته جلية أو خفية، قطعية أو ظنية، محتملة أو غير محتملة.
ثم ساق في الظاهر ما تقدم.
قال: ودلالته ـ أي الظاهر ـ على معناه الراجح ظنية في العمليات، وإنما كان كذلك؛ لأن حقيقة الظن التجويز الراجح، وهكذا هذا؛ بخلاف النص، فدلالته فيها قطعية إذ يحصل فيه حقيقة العلم، وهو الاعتقاد الجازم المطابق. /350

(2/351)


قال صلاح الإسلام (ع): وقوله: في العمليات، إشارة إلى أن دلالته في العلميات قطعية؛ لامتناع تأخير البيان عن وقت الخطاب فيها، وقد سبق تقرير ذلك في العموم والخصوص.
قلت: هكذا كلام أكثر المؤلفين في الأصول، أن دلالة الظواهر كلها في العمليات ظنية، وإن كانت باعتبار السند قطعية للاحتمال المرجوح.
وأقول، والله ولي التوفيق، إلى منهج التحقيق: إن كلامهم في ذلك غير متين ولا واضح، فإنه يقطع على إرادة الحكيم للمعنى الراجح فيما علم وروده، ولم يصدر منه دليل قطعي سنده على إرادة المعنى المرجوح، حتى يكون العدول إليه بحجة مقاومة للمعنى الراجح، وخلاف ذلك إلغاز وتعمية، يتعالى عنها الحكيم العليم.
وأما ما يحتجون به من الاحتمال، فلا نسلم بقاءه مع هذه الحال؛ وأيضاً ذلك الظني السند، وإن كان نصاً في الدلالة، فأوجه الاحتمال فيه أكثر؛ إذ يحتمل الكذب والخطأ من الراوي، والوهم، والنسخ، والمعارضة؛ ومع هذا، فقد يكون محتملاً في الدلالة، بل لعله لا يتحصل دليل مقطوع به على مقتضى ما ذكروه، فإن الأعلام، والعشرة، وهي أوضح ما مثلوا به للنصوص الجلية، قد ورد التجوز بها في غير ما وضعت له، كما أورده الجلال والرازي، فلا يبقى نصّ ولا قاطع على هذا للاحتمال.
قال في الورقات وشرحها: والنص ما لايحتمل إلا معنى واحداً كزيد في: رأيت زيداً.
قال في شرح جمع الجوامع: فإنه مفيد للذات المشخصة من غير احتمال لغيرها.
ولقائل أن يقول: إن أريد من غير احتمال لغيرها حقيقة، فالظاهر كذلك، /352

(2/352)


أو مجازاً، فهو ممنوع بناء على أن المجاز يدخل الأعلام، وقد سبق بيانه، انتهى.
وعلى الجملة، إن فتح باب الاحتمال يتسع معه المجال، ولكنها كلها احتمالات لا تضر، ولا تقدح في الدليل القرآني أو النبوي، المعلوم صدوره عن الله ورسوله صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم، ولو سلم على الفرض أن دلالته غير معلومة، فلا ريب أنه مما أنزل الله، وأنه على كل حال أصح وأرجح.
وقد بسطتُ الكلام في هذا البحث في فصل الخطاب، والله الموفق للصواب.
قال في الفصول: وهو ـ أي الظاهر ـ إما بالوضع لغة: كالأسد، أو شرعاً: كالصلاة، أو بالعرف: كالدابة.
قلت: الأول: حقيقة لغوية في الحيوان المفترس، والثاني: شرعية في العبادة المخصوصة، والثالث: عرفية عامة في ذوات الأربع.
قال: وقد يصير نصاً لعارض.
قال صلاح الإسلام: كما إذا اقترن بالحقيقة قرينة قطعية ناصة على إرادة المعنى الأصلي، فإنه يكون نصاً في ذلك الشيء بسبب القرينة، نحو: قولنا: رأيت أسداً يفترس بقرة بمخلبه.
قلت: وكما إذا خاطب الحكيم بالحقيقة، ولم ينصب على إرادة غيرها قرينة، وكذا إذا نصبت القرينة القطعية الصارفة عن الحقيقة، فإن إرادة المجاز تصير معلومة بتلك الطريقة.
قال في الفصول: ويسمى النص، والظاهر: محكماً، ومبيناً.
والمؤول، وهو: الظاهر المحمول على المعنى المرجوح لدليل قطعي، أو ظني يصيره راجحاً ـ ولذلك رد كثير من التأويلات ـ يسمى: متشابهاً.
قلت: فالمحكم مشترك بين النص، والظاهر؛ ومميز الظاهر الاحتمال، والنص عدمه.
والمتشابه مشترك بين المجمل، والمؤول؛ ويميز المجمل كون /353

(2/353)


دلالته غير واضحة، والمؤول بخلافه.
هذا، والمفهوم بخلاف المنطوق السابق، وذلك واضح، وتفصيل الأقسام والأحكام مشروح في كتب الأصول مستوفى الكلام، وإنما أشرت بما يحتمله المقام؛ لما في ذلك ـ إن شاء الله ـ من الفوائد الجسام.
وقد اتضح بهذا ما أشار إليه المؤلف (ع) من الأقسام، ولنعد إلى تمام الكلام.
[الكلام على المختلف والمردود]
قال (ع): وإن عورض، وأمكن الجمع، فهو مختلف الحديث، وتعرف كيفيته بأصول الفقه.
قلت: ومعظم مداره على أبواب العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والظاهر والمؤول، والناسخ والمنسوخ، ومسالك الترجيح، وغيرها مما لا يخفى على ذي النظر الصحيح.
قال (ع): وإن لم يمكن وعلم التاريخ، فهو الناسخ والمنسوخ، ولأئمتنا، وغيرهم، فيه مصنفات. قلت: ومن أجلّ مؤلفات أئمتنا فيه كتاب الناسخ والمنسوخ لصنو إمام الأئمة، وفخر أعلام هداة الأمة، العالم الكريم، عبدالله بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم ـ عليهم أفضل التحيات والتسليم ـ وغير ذلك مما قد سبق ذكره في هذا المجموع المبارك ـ إن شاء الله تعالى ـ.
قال: وإلا فالترجيح إن أمكن، وإلا فالوقف.
قلت: أي يطرح المتعارضان مع عدم إمكان الجمع بأي وجه، وعدم معرفة التاريخ، ويرجع في حكم ما وردا فيه إلى غيرهما، من شرع، أو عقل؛ كما علم في الأصول.
قال: والمردود قد يكون كذبه معلوماً عقلاً ضرورة؛ كمخالفة قضية العقل المبتوتة الضرورية، كقبح الظلم، وحسن شكر المنعم.
قلت: القضايا المبتوتة هي: المقطوعة، التي لا يمكن أن تتغير بحال، /354

(2/354)


وتسمى المطلقة، وهي عقلية اتفاقاً؛ وإن ورد الشرع بتقريرها، فهو مؤكد، ولا يقال لها شرعية.
ويقابلها المشروطة، وهي التي يمكن أن تتغير، ومعنى كونها مشروطة، أن العقل يحكم فيها بحكم مهما كانت على تلك الصفة، كذبح الحيوان مثلاً، فإن العقل حاكم بقبحه مهما كان عارياً عن نفع ودفع ضرر، راجحين على الألم، وعن استحقاق؛ لكونه على هذه الكيفية ظلماً، فلما ورد الشرع بجوازه علم أن له نفعاً بذلك راجحاً، فحسنه العقل.
فما غيره الشرع من هذا فهو شرعي اتفاقاً، وما لم يغيره، فإن كان مع زيادة شرط لايقضي به العقل، كتحريم ذي ناب من السباع، ومخلب من الطير، فكذلك؛ وإن لم يغيرها، ولا اعتبر في بقائها على الأصل ذلك الشرط، فمختلف فيه، قيل: عقلي، وقيل: شرعي.
والكلام مستوفى على الجميع في الأصول.
قال (ع): واستدلالاً.
قلت: هو عطف على قوله: ضرورة، أي يكون كذبه معلوماً عقلاً استدلالاً.
قال: كمخالفة قضية العقل المبتوتة الاستدلالية، كخبر قضى بتشبيه أو تجوير، ولم يقبل تأويلاً، وبذلك يعلم أنه من وضع الحشوية؛ وليس من ذلك بعض أحاديث الصفات، الثابتة بنقل الثقات؛ لإمكان تأويلها على الأصح.
قلت: أما ما هو كذلك، فحكمه حكم ما ورد في الآيات القرآنية، وهو منزل على مقتضى حكم العقل، أو محكم التنزيل، والمعاني القويمة العربية، الحقيقية، والمجازية؛ وجميع ذلك واضح المنهج، كما قال عز وجل: {قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } [الزمر:28].
هذا فيما له معنى مفهوم، وتوجه إلينا به خطاب معلوم. /355

(2/355)


لأن ما علم له في العربية استعمال بحقيقة أو مجاز، وأطلقه الحكيم، فلا بد من قصد أيهما، وحمله على أحدهما؛ ولو قصد به خلاف ما يفهم منهما لكان فيه غاية التعمية والإلغاز، والعليم الحكيم جل جلاله، لا يوقع فيما هذا حاله.
[المحكم والمتشابه]
وأما مالم يكن كذلك بأن لم يسبق له استعمال معلوم، ولا يتبادر منه معنى مفهوم، كما في أوائل السور، أو لم يقصد الاطلاع فيه على التفصيل، بل الحكمة في معرفته على الوجه الإجمالي، كعدد حملة العرش، وزبانية جهنم ـ أعاذنا الله تعالى منها ـ وتفصيل أحوال الآخرة، فليس علينا فيه تكليف إلا الإيمان به على ما أورده عليه الخبير اللطيف؛ وكلا القسمين يطلق عليه اسم المتشابه؛ لوجود المناسبة في المعنيين، وقد ترجم عنهما بالمتشابه، وفسر كل واحد منهما في بابه، قرناءُ التنزيل، وتراجمة المحكم والتأويل.
قال أمير المؤمنين، وباب مدينة علم الرسول الأمين ـ صلوات الله عليهما وعلى آلهما أهل الذكر المبين ـ: واعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب، الإقرارُ بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب؛ فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تأويل ما لم يحيطوا به علماً، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفوا البحث عن كنهه رسوخاً.
إلى آخر كلامه صلوات الله عليه وسلامه، وهو يناسب الوقف على الجلالة في قوله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ }...الآية [آل عمران:7]، ويكون المراد به القسم الثاني من المتشابه؛ وهو نحو ما في أوائل السور، وعدد الحملة والزبانية، وتفصيل أحوال الآخرة.
وقال إمام الأئمة، وهادي الأمة، الهادي إلى الحق القويم، يحيى /356

(2/356)


بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم ـ عليهم التحية والتسليم ـ في تفسيره: فالمحكمات، فهنّ الآيات اللواتي ظاهرهن كباطنهن، وتأويلهن كتنزيلهن، لا يحتملن معنيين، ولا يقال فيهن بقولين، مثل قوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى]، ومثل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)} [الإخلاص]، ومثل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا(111)} [الإسراء].
ومثل: سورة الحمد، ومثل قوله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }...الآية كلها [البقرة:255]، وغير ذلك؛ مما كان من الآيات المحكمات، اللاتي لا تدخلهن التأويلات، ولا تختلف فيهن القالات.
والأمهات: فهن اللواتي ترد إليهن المتشابهات، وأم كل شيء: فأصله، وأصله: فمحكمه.
إلى قوله: والمتشابهات فهن: ما حجب الله عن الخلق علمه من الآيات، اللواتي لا يعلم تأويلهن غير رب السماوات، كما قال الله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7].
فأخبر أنه لا يعلم تأويله إلا الله، وأن الراسخين في العلم إليه يردونه إذ لم يعلموه، وإذ حجب عنهم تأويله فلم يفهموه، مثل: يس، وحم، والمر، وطسم، وكهيعص، وألم، وألر، والمص، وص.
وما كان من المتشابه مما يحتاج الخلق إلى فهمه، /357

(2/357)


فقد أطلع الله العلماء الذين أمر بسؤالهم على علمه، وهو ما كان تأويله مخالفاً لتنزيله، مثل: قوله سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة:22،23]، ومثل قوله: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [الزمر:67]، مما يتعلق بتنزيله، وينسب فيه إلى الله شبه خلقه الجاهلون، فأبطلوا ما ذكر الله من الأمهات المحكمات، اللواتي جعلهن بالحق شاهدات، وعلى ظاهر المتشابه ناطقات. انتهى كلامه صلوات الله عليه وسلامه.
[انقسام المتشابه، وتكهن اليهود في مدة نبوة محمد (ص)]
قلت: فتحصل من كلام أمير المؤمنين، باب مدينة علم الرسول الأمين، وكلام الهادي إلى الحق المبين ـ عليهم صلوات رب العالمين ـ أن المتشابه قسمان:
القسم الأول: هو ما لايطلع الخلق على حقيقة معناه، ولا علم عندهم على تفصيل ما أراد به الحكيم، ولا وقوف على كنه ما عناه، وليس إلا نحو ما ذكر ـ عز وجل ـ في أوائل السور، وهو المقصود في الآية الكريمة بقوله سبحانه: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } كما أفاده كلام الوصي، ونجله الهادي، وغيرهما من أئمة الهدى ـ صلوات الله عليهم ـ وهو الموافق لما ورد في سبب النزول.
قال الحاكم في التهذيب ما نصه: النزول عن ابن عباس: أن رهطاً من اليهود منهم: حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف أتوا النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وقالوا: بلغنا أنه نزل عليك (ألم)؟ فقال: ((نعم))، فقالوا: إن كان ذلك حقاً، فملك أمتك إحدى وسبعون سنة، فهل نزل عليك غيرها؟ قال: ((نعم، المص)) قالوا: هذه أكثر هي إحدى وثلاثون ومائة سنة.
قلت: بناء على أن الصاد: ستون، كما ذكره في هامش الكتاب./358

(2/358)


(رجع إلى كلامهم) فهل غيرها؟ قال: ((نعم، ألر))، قالوا: هذه أكثر، هي مائتان، وإحدى وثلاثون سنة، فهل غيرها؟ قال: ((نعم، ألمر))، قالوا: هي أكثر، هي مائتان وإحدى وسبعون سنة، ولقد خلطت علينا يا محمد.
فأنزل الله هذه الآية...إلخ.
وذكر غير ذلك، ولكن هذا هو الراجح لموافقة ما سبق.
قلت: وهذه وإن سبق لها وضع في العربية لمعان مفهومة، وهي مسمياتها من الحروف المعلومة، إلا أنه قد علم بالنقل، وبكونه لا طائل في الدلالة عليها، أنها غير مقصودة، وأن الحكيم قد نقلها إلى معان استأثر بعلمها، واختص بأسرارها، وليس في ذلك ما يخل بالحكمة؛ إذ ليس لها ظاهر يوقع في شبهة يصير بها سامع الخطاب في لبسة؛ وما تكلفه صاحب الكشاف، وإن كان حسناً باعتبار بعض المناسبة، فهو على طريقة التخمين والتقدير.
القسم الثاني: وهو ماله معنى مفهوم، وموضوع مقصود للحكيم معلوم؛ وإنما يختلف الحمل فيه على الظاهر والتأويل، المدلول عليه بحجة العقل ومحكم التنزيل، وهو المشار إليه بقوله عز وجل: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } فإنه يفهم منه بمقتضى نصوص اللغة العربية قطعاً أن المحكمات أصل لغيرهن من الآيات، وليس ذلك إلا هذا القسم، سواء أطلق عليهن اسم المتشابهات أم لا، فهن على كل حال المتأولات.
والحاصل أن الآية الكريمة أفادت التقسيم إلى محكم، وهو الأم المرجوع إليه، وإلى متأول، وهو المختلف معناه، الذي يجب رده إلى أمه، سواء أطلق عليه اسم المتشابه أم لا؛ وإلى متشابه، وهو على التحقيق الذي استأثر الله تعالى بعلمه كما سبق.
وهذا التقسيم هو الذي يدل عليه الذكر الحكيم، والعقل القويم، والنقل المستقيم.
[لا معنى للنزاع في محل الوقف باعتبار المقصود من العلم بالتأويل وعدمه في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَهُ...}]
إذا عرفت هذا فاعلم أنه لا معنى للنزاع في محل الوقف باعتبار المقصود من العلم بالتأويل /359

(2/359)


وعدمه.
أما أولاً: فلكل واحد من الوقفين وجه قويم، ومنهج مستقيم؛ فإن وقف على الجلالة، فالمقصود من المتشابه ما استأثر الله بعلمه في نحو أوائل السور، والذي أشار إليه صاحب الكشاف، وغيره، من المناسبة فيها على وجه التخمين والتقدير، لاتقاوم السابق من النقل والتفسير، وإذا ورد الأثر، بطل النظر، ولا ينبئك مثل خبير.
هذا، ونحو ما قصد معرفته إجمالاً نحو: الأعداد المذكورة، وأحوال الآخرة مما لم يتضح على التفصيل، ولا وجه فيه للتأويل، وهذا لا مانع منه، لا عند العدلية، ولا غيرهم؛ ودعوى من ادعى أنه غير ذلك مما له معنى في العربية معلوم، ويسبق إلى الأفهام منه مقصود ومفهوم، وأنه لا يراد به ذلك المقرر المرسوم ـ مجرد هذيان، ليس عليها سلطان؛ بل هي مختلة الأساس، متهدمة الأركان، مردودة بصريح العقل، وصحيح النقل، وذلك أعظم برهان.
وإن وقف على العلم، فالمراد ماله ظاهر وتأويل، يحكم به العقل ومحكم التنزيل، فيرد إليه لقيام الدليل.
وأما ثانياً: فالأوقاف سماعية، وقد يكون الوقف والمعنى غير تام، بل هو مرتبط بما بعده من الكلام، كما هو معلوم لمن له بذلك إلمام، وفي هذا كفاية، والله ولي الهداية.
قال صارم الدين (ع): ولا ما تعم به البلوى، كمس الذكر.
قلت: أي ليس مما يعلم كذبه ما ورد بنقل الآحاد فيما تعم به البلوى عملاً، كخبر مس الذكر؛ لعموم الدليل على القبول في باب العمل، كما هو مفصل في الأصول، وإنما لم يقبل أئمتنا (ع) هذا الخبر؛ لعدم صحته، ولصحة خلافه أيضاً، وقد حمل على فرض ثبوته على النسخ، كما قرر في الفقه.
قال: خلافاً لبعض الحنفية؛ فأما مخالفة قضية العقل المشروطة كذبح البهائم، فمقبول، أو سمعاً ضرورة كمخالفة أصول الشرائع، أو استدلالاً /360

(2/360)


كمخالف الإجماعين.
جمهور المحدثين والظاهرية: ويرد ما سقط إسناده، أو بعض منه.
ثم الساقط إن كان واحداً من أوله، فهو المعلق.
قلت: تقدم الكلام على المعلق، وليس مقصوراً على ما ذكره صارم الدين (ع)، بل هو كما ذكروه أن يسقط من أول الإسناد راو، فأكثر، ويعزى الحديث إلى من فوق الساقط، ولو سقط الإسناد كله، فالصحيح عندهم أنه تعليق.
[تعليق على صحة كتابي البخاري ومسلم]
قال: وقبل أكثرهم تعاليق الصحيحين المجزومة.
قلت: يعني كتابي البخاري، ومسلم، على مصطلحهم.
وقبولهم لها، وردهم لغيرها، من التحكمات الواضحة، والتعصبات الفاضحة، التي ليس عليها برهان، ولا أنزل الله تعالى بها من سلطان؛ وكان يلزم قبولها ممن هو في درجتهما، أو فوق رتبتهما، وهذا على فرض صحة ما زعموه لهما، من المبالغة في الاحتياط، والتشدد في الاشتراط، والواقع بخلافه كما هو معلوم، بشهادة الخصوم، ولكن يأبى الحق إلا أن يكون واضحاً ناطقاً، والباطل بالرغم على أصحابه فاضحاً زاهقاً؛ وكم من مقام ينادي عليهم لمن عقل، ولكن كما قال عز وجل: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [الفرقان:44].
ولقد قال من جاراهم بغاية الإنصاف، ونهاية التسليم والاعتراف، على مقتضى ما ادعوه من السبق، وهو خلاف الحق: /361

(2/361)


يقولون: صححنا الحديث بجهدنا .... نعم صدقوا لولا التعصب فيهمُ
إذا نحن عارضنا حديثاً بمثله .... أبوا غير ما قال البخاري ومسلمُ
وأقول بموجب البرهان والتحقيق، وشهادة الخصم التي هي عليه أقوى بيان وتصديق:
يقولون: صححنا الحديث بجهدنا .... وما صحّ ذا والإفك عيب ومأثمُ
وكيف وما عابوه من صنع غيرهم .... أتوه عياناً؟ كيف يخفى ويكتمُ؟
فقد سلكوا كل الذي ينقمونه .... بحق وغير الحق والله يحكمُ
شذوذاً وإرسالاً وضعفاً وعلةً .... وجرحاً صريحاً والجهالة فيهمُ
أيفلح قومٌ من ثقات رواتهم .... معاوية عمرو ومروان منهمُ
كذا الأشعري والمغيرة والذي .... حكى فسقه نصُّ الكتاب المقدّم
وقاتل سبط المصطفى مِنْ عُدُولهم .... ومادح أشقاها ابن حطان مُكْرَم
أبى الله والإسلام والعلم والتقى .... وقربى رسول الله نقبل عنهم
فهل تهمة في الدين إن لم تكن بهم؟ .... وما الجرح إن كانوا عدولاً وهم همُ؟
قل الحق يا هذا وإن رغمت له .... أنوف لعمر الله لسنا نُسَلِّم
وقل للدعاوى الفارغات وأهلها .... هلم إلى البرهان فالحق أقومُ
وقد سبق في صدر الكتاب، ما فيه بلاغ لأولي الألباب.
[الحديث المرسل وأقسامه]
قال السيد صارم الدين (ع): وردها ـ أي تعاليق الكتابين ـ الأقلون.
أو من آخره، فهو المرسل، أو ما بينهما، فإن كان اثنين مع التوالي، فهو المعضل، وإلا فهو المنقطع. /362

(2/362)


قلت: سبق البحث في هذا.
قال في تنقيح الأنظار: المنقطع، والمعضل: اختلفوا في صورتيهما؛ قال زين الدين، وابن الصلاح: المشهور أن المنقطع ما سقط من رواته راوٍ واحد غير الصحابي، انتهى.
وحكى الحاكم وغيره: أنه ما سقط منه قبل الوصول إلى التابعي شخص واحد.
وإن كان أكثر من واحد في موضع واحد سمي معضلاً، وإلا يكن ـ أي الساقط ـ أكثر من واحد في موضع واحد بل كان واحداً في موضعين، قال: فمنقطع في موضعين، ويسمى المعضل أيضاً منقطعاً، فكل معضل منقطع، وليس كل منقطع معضلاً.
قال الزين: فقول الحاكم: قبل الوصول إلى التابعي، ليس بجيد، فإنه لو سقط التابعي؛ لكان منقطعاً.
وقال ابن عبد البر: المنقطع ما لم يتصل إسناده، والمرسل مخصوص بالتابعي؛ فالمنقطع أعمّ.
قال ابن الصلاح عن بعضهم: إن المنقطع مثل المرسل، وكلاهما شاملان لكل ما لم يتصل إسناده؛ وهذا المذهب أقرب المذاهب، وقد صار إليه طوائف من الفقهاء، وهو الذي حكاه الخطيب في كفايته.
قلت: وهو الذي عليه الطائفة المرضية، والعصابة الزيدية.
[بحث في تثنية خبر كلا وكلتا وإفراده]
نعم، وعبارة ابن الصلاح، وهي: وكلاهما شاملان، ثابتة في كتابه.
قال في التوضيح: وتثنية خبر كلاهما جائز، والأولى إفراده كما في قوله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ ءَاتَتْ أُكُلَهَا } [الكهف:33]، وقول الشاعر: /363

(2/363)


كلانا غني عن أخيه حياته .... ونحن إذا متنا أشد تغانيا
قلت: ذكر أهل العربية أن (كلا ـ وكلتا) مفردان لفظاً، مثنيان معنى، وأنه يفرد العائد إليهما مراعاة للفظ، ويثنى مراعاة للمعنى، وهو قليل، وقد اجتمعا في قوله:
كلاهما حين جد السير بينهما .... قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي
يصف فرسين تسابقا، فنظر للمعنى في قوله: (أقلعا) ـ أي أمسكا عن الجري ـ، وللفظ في (رابي) وهو المنتفخ من الجري؛ ومثلوا أيضاً لمراعاة اللفظ بالآية.
وأما البيت الذي ذكره، وهو: كلانا غني...إلخ، فهو مما يتعين في الإفراد نحو: كلاهما محب لصاحبه؛ لأن المعنى فيه واللفظ كلاهما مفرد، فالتمثيل به لما يصح فيه الوجهان غير صحيح.
هذا، والمعضَل، بفتح الضاد المعجمة: مشتق من الإعضال، وأعضل بمعنى استغلق واشتد، فهو لازم، وبمعنى أعياه الأمر، فهو متعدّ.
قال في التوضيح: فكأن المحدث أعضله أي: أعياه، فلم ينتفع به من يرويه عنه.
قلت: والتحقيق ما ذكره في الديباج شرح رسالة الشريف المحقق حيث قال: المعضل اسم مكان؛ وأنه في اصطلاحهم منقول عنه، لا عن اسم مفعول؛ لأنه لا اسم مفعول على تقدير كونه لازماً، وعلى تقدير كونه متعدياً، وإن جاز أن يكون اسم مفعول، لكنه لا يناسب هنا؛ بخلاف ما إذا كان اسم مكان، وبهذا /364

(2/364)


القدر تظهر المناسبة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي، ولا صعوبة فيه، وإن عده بعضهم صعباً، فتدبر. انتهى.
قال السيد صارم الدين (ع): ومَدْرك واضحه عدم التلاقي، ومعرفته ثمرة تاريخ الوفيات، ومدرك خفيه العنعنة من المدلس.
قلت: أي إذا قال المدلس: عن فلان، فهو يحتمل الانقطاع احتمالاً راجحاً؛ لأجل اعتياده للتدليس، إلا أنه غير محقق لاحتمال الاتصال، فهو خفي؛ بخلاف ما إذا قال المدلس العدل: سمعت فلاناً أو نحوه، فلا تردد في اتصاله.
قال (ع): ورواية المتعاصرين بعضهم عن بعض من غير لقاء.
قلت: وهو من الواضح كما سبق، فعدم اللقاء يكفي، سواء تعاصرا أم لا.
قال (ع): ولذلك اشترط البخاري تحقيق اللقيا ولو مرة، واكتفى مسلم بعدم العلم بانتفائه.
أئمتنا، والحنفية، والمالكية: بل يقبل مطلقاً.
قلت: وقد أوردتُ كلام الإمام الحجة المنصور بالله عبدالله بن حمزة (ع) في حكاية الكلام، وتقرير الاستدلال على صحة الإرسال، في بحث من التحف الفاطمية (ص215).
قال ابن الإمام (ع) في الغاية وشرحها: اختلف الناس في قبول المرسل، وهو ما سقط فيه راوٍ أو أكثر:
القول الأول: القبول له مطلقاً، وهو رأي جمهور أئمتنا (ع).
قلت: الصحيح أنه رأي جميعهم، كما ذكره السيد صارم الدين، ورواه /365

(2/365)


عنهم الإمام المنصور بالله في الشافي.
قال ابن الإمام (ع): والمعتزلة، والحنفية، والمالكية، وأحمد ـ في أشهر الروايتين عنه ـ والآمدي، وبعض أهل الحديث.
والثاني: عدمه مطلقاً، وهو رأي جمهور أهل الحديث.
والثالث: أو من غير الصحابي فقط، يعني أنه لا يقبل المرسل من غيرهم، ويقبل منهم، وهو قول الجمهور من المحدثين؛ وذلك لأن الجهالة بالصحابي غير قادحة بناء على القول بعدالتهم على الإطلاق.
إلى قوله:
والرابع: أو مع التابعين وأئمة النقل؛ معنى هذا القول: هو عدم قبول المرسل من غير الصحابة والتابعين وأئمة النقل، وأما مرسل هؤلاء فمقبول، وهو مذهب عيسى بن أبان؛ وفي رواية عنه أنه يقبل مرسل تابعي التابعين.
الخامس، قوله: والشافعي ـ رضي الله عنه ـ يقبل المرسل إذا تأكد بما يظن معه صدقه، وذلك بأمور، منها: أنه يقبل من الرواة من لا يرسل إلا عن عدل أو عضد بقول صحابي أو فعله، أو فعل الأكثر، أو أسنده، أو أرسله غيره مختلفي الشيوخ.
قلت: والقبول هو مذهب الأئمة الأعلام، من علماء الإسلام؛ لكن الصحيح من مذهب أئمتنا (ع) ومن وافقهم، أنه يقبل مرسل العدل، الذي لا يرسل إلا عن عدل، مع اتفاق المذهب في معنى العدالة؛ وينبغي أن يحمل إطلاق المحققين على هذا.
وإنما أطلقوا باعتبار القيود الآخرة، نحو: ما ذكره السيد صارم الإسلام بعد كلامه السابق، حيث قال: إذْ هو إرسال، وسواء سقط الإسناد، أو بعض منه في أي موضع. /366

(2/366)


[تفصيل في الترجيح بين المسند والمرسل]
قلت: والترجيح بين المسند والمرسل، اللذين هما على الصفة المعتبرة، مختلف فيه.
والمختار عندي أنه موضع اجتهاد، وأنه يختلف باختلاف أحوال الراوي والمروي له؛ فإن الراوي قد يكون من أئمة الدين المحتاطين، المطلعين على أحوال الراوين، والمروي له على خلاف ذلك، بحيث لو سمي له الرواة لم يعرف أحوالهم، أو يعرف معرفة غير راسخة؛ فلا شك أن الإرسال في هذه الصورة ممن لا يرسل إلا عن عدل أرجح، وفيه كفاية المؤنة بتحمل العهدة عن البحث، ونظر هذا الإمام على كل حال أقوى؛ وقد يكون الحال على العكس، فلا ريب مع ذلك أن الإسناد أولى وأحرى؛ لتلك المرجحات الأولى.
وعلى هذا الترجيح فيما بينهما من الدرجات، ومع استواء الحالين، فالإسناد أصح وأوضح؛ إذ يجوز أن يكون المرسل لم يطلع على موجب لجرح في الرواة، أو أحدهم، أو نحو ذلك؛ وبالاطلاع على الرجال يرتفع هذا الاحتمال.
وكذا من صح عنه أنه لا يروي إلا عن عدل سواء أسند أو أرسل؛ لتحمله العهدة على الإطلاق، وزيادة الاستفادة من إسناده؛ لمعرفة ثقات الرجال عنده، والوقوف على الأحوال، وبيان تعدد الطرق عند اختلاف الإسناد، وللترجيح بين الرواة مع التعارض، ولصحته بالإجماع، ونحو ذلك مما لا يخفى من مرجحات الإسناد على الإرسال.
ولم يعدل أئمة الهدى ـ صلوات الله عليهم ـ عنه في بعض الأحوال إلا لمقاصد راجحة، ومقتضيات واضحة، لاتخفى على ذوي الأنظار الصالحة، منها: قطع تشكيك المتمردين على السامعين؛ لتناول المخالفين بالطعن والجرح لثقات المرضيين، وصيانة الأعلام، من ألسن الجفاة الطغام.
ومنها: محبة التخفيف مع كثرة الاشتغال بأحوال المسلمين، وجهاد المضلين، والقيام /367

(2/367)


بمعالم الدين، وإحياء فرائض رب العالمين.
ومنها: الإحالة بالمراسيل في مقام على ما علم لهم من الأسانيد الصحيحة في غير ذلك المقام، وغير ذلك مما لا يذهب عن أفهام المطلعين الأعلام.
فهذا الذي ترجح لدي في هذا الباب، والله الموفق للصواب.
وما أحسن كلام نجم الأعلام الحسين بن الإمام (ع)‍! حيث قال: فمرسلات الأئمة المعروفين بالأمانة والحفظ، كالهادي (ع)، ومن في طبقته من أئمة أهل البيت (ع) وغيرهم، مقبولة؛ وذلك لأن من ظاهر أحواله الثقة والدين والأمانة، يبعد أن يروي الأخبار الواردة في العبادات والأحكام الشرعية، عمن لا يثق به، من دون أن ينبه على ذلك ويدل عليه؛ لأن الغرض من روايتها الرجوع إليها، والعمل بموجبها.
وأما المرسلات، التي تجدها في كتب المتأخرين من أصحابنا وغيرهم، فإنا إذا فتشنا عن أسانيدها، وجدنا المجروح فيها كثيراً، إلا أن يقال بقبول خبر المجهول، ولا قائل به على الإطلاق، انتهى.
قال صارم الدين (ع): وأدلة قبول الآحاد تشمله، ولحمل رواته على السلامة.
المنصور: ولمشاركته المسند في علة القبول وهي: العدالة، والضبط.
قلت: قد سبقت الإشارة إلى الحجة على قبول المرسل.
قال الإمام الحجة، المنصور بالله عبدالله بن حمزة: والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه أن الصحابة اتفقوا على العمل بالمراسيل اتفاقهم على العمل بالمسانيد.
وساق في الشافي كلاماً شافياً، وبياناً وافياً، وبرهاناً كافياً.
وقال الإمام المهدي (ع) في المعيار، بعد حكاية الخلاف: لنا إجماع الصحابة على قبوله كالمسند؛ قد أرسلوا، ولم ينكر، ومنه قول البراء: ليس كلما أحدثكم به سمعته من رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ إلا أنا لا نكذب؛ /368

(2/368)


وأرسل ابن عباس ((إنما الربا في النسية))، ولم ينكر، وقول النخعي: وإن سمعت من جماعة، قلت: قال ابن مسعود، انتهى.
قال في الغاية وشرحها: أطبق الصحابة والتابعون على القبول من غير نكير.
ثم ساق...إلى قوله: قلنا: ما ذكرتموه من الاحتجاج صحيح، ولكنه لا يفيد تعميماً وشمولاً لكل من وقع منه الإرسال، كما هو المدعى.
قلت: يعني لأهل الإطلاق.
قال: وذلك أن من عددتموه من الصحابة، ومن بعدهم من التابعين والأئمة، لا يرسلون إلا عمن ارتضوه في دينه وضبطه.
قلت: وهذا هو الحق، وهو أعدل الأقوال؛ وقد بسط الكلام على الرد والقبول في الأصول.
[بحث في الصدق والكذب]
قال صارم الدين (ع): وقد يرد الحديث للطعن فيه بكذب الراوي في غير ما روى بإقراره، أو بالقرائن عامداً، وهو الموضوع؛ وقد يطلق على غير العمد.
قلت: وإطلاق الكذب على غير العمد هو مختار الجمهور، في كونه مخالف الواقع مطلقاً؛ فإن كان عن عمد، فهو الافتراء، وإن لم فهو الخطأ.
وأما الإثم فليس إلا في العمد اتفاقاً، والأقوال وحججها مستوفاة في مباحثها.
والمختار تفصيلٌ حسن، وهو: أن الصدق، والكذب يوصف بهما /369

(2/369)


الخبر والمخبر.
فإن نظر إلى جانب الخبر، فالصحيح كلام الجمهور من أنه مخالف الواقع، سواء خالف الاعتقاد أم لا.
وإن نظر إلى جانب المخبر، فالصحيح كلام أهل المذهب والنظام من أنه مخالف الاعتقاد، ولا يطلق الكاذب إلا على المفتري، وهو المخبر بخلاف ما يعتقده؛ ويؤيده أنه اسم ذم، فلا ينبغي إطلاقه على المؤمن المخطيء، المخبر بما يعتقده صدقاً، كما أن الصادق اسم مدح، فلا يجوز إطلاقه على الكافر المخبر بخلاف ما يعتقده، وإن كان خبره المطابق للواقع حقاً.
فقول المؤمن مثلاً: (زيد في الدار) معتقداً لذلك؛ والحال أنه ليس فيها، كذب لمخالفة الواقع، وهو صادق باعتبار معتقده، والواقع عنده؛ ورسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ صادق في قوله: ((كل ذلك لم يكن)) وهو ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في جميع أخباره سيد الصادقين.
وقول المنافق مثلاً: (الإسلام حق) صدق، وهو كاذب كما هو ظاهر النص القرآني من غير تأويل، في قوله ـ عز وجل ـ: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)} [المنافقين]، باعتبار معتقدهم.
وإن فرض أن العربية تقتضي تسمية المخبر بخلاف الواقع كاذباً، والمخبر بموافقه صادقاً مطلقاً، فلا مانع أن يقضي بخلاف ذلك الشرع، فقد منع من أسماء كثيرة ورد بها الوضع، فبهذا يتم الجمع بين الأدلة؛ وقد أشار إلى معنى هذا بعض المحققين، ولا ريب أنه التحقيق، والله سبحانه ولي التوفيق.
[أسباب الوضع]
قال (ع): وأسبابه ـ أي الكذب ـ الإلحاد في الدين، أو تقرب إلى سلطان، أو انتصار لمذهب، أو ترغيب أو ترهيب، أو رواية بما يتوهم أنه /370

(2/370)


المعنى، ونحو ذلك.
قلت: ولأمير المؤمنين، وسيد الوصيين، وباب مدينة علم الرسول الأمين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ في أحوال الروايات والرواة، كلام متين مرشد للأمة إلى سبيل النجاة، صدره: إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعاماً وخاصاً، ومحكماً ومتشابهاً، وخطأ ووهماً؛ وقد كُذب على رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ على عهده، حتى قام خطيباً.
إلى أن قال: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)).
وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس: رجل منافق، مظهر للإيمان، متصنع بالإسلام لا يتأثم ولا يتحرج، يكذب على رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ متعمداً؛ فلو علم الناس أنه منافق كاذب، لم يقبلوا منه، ولم يصدقوا قوله؛ ولكنهم قالوا: صاحب رسول الله، رءاه وسمع منه، ولقف عنه، فيأخذون بقوله؛ وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك، ووصفهم بما وصفهم به لك.
ثم بقوا بعده (ع)، فتقربوا إلى أئمة الضلال، والدعاة إلى النار، بالزور والبهتان، فولوهم الأعمال، وجعلوهم على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا؛ وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله.
إلى آخره، وهو في نهج البلاغة، ومؤلفات أولاده، أئمتنا الهداة ـ صلوات الله عليهم ـ.
وكذا لولده باقر علم الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ كلام قويم، أوله: يا فلان، ما لقينا من ظلم قريش إيانا، وتظاهرهم علينا، وما لقي شيعتنا ومحبونا من الناس؛ إن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قبض، وقد أخبرنا أنّا أولى الناس بالناس، فتمالأت علينا قريش، حتى أخرجت الأمر من أيدينا، واحتجت على الأنصار بحقنا وحجتنا.
....إلى قوله (ع): ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً، فتقربوا به إلى أوليائهم، وقضاة السوء /371

(2/371)


في كل بلدة، فحدثوهم بالأحاديث المكذوبة الموضوعة.
...إلى قوله (ع): وحتى صار الرجل الذي يذكر بالخير ـ ولعله يكون ورعاً صدوقاً ـ يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة، من تعظيم بعض من قد سلف من الولاة؛ ولم يخلق الله شيئاً منها، ولا كانت، ولا وقعت، وهو يحسب أنها حق...إلخ.
قال السيد الإمام، إسحاق بن يوسف ابن الإمام المتوكل على الله (ع) في تفريج الكروب: هذا الأثر المنقول عن أبي جعفر، قد نقله أهل السير والتواريخ، وقد رواه ابن أبي الحديد في سياق الأحاديث الموضوعة.
وأقول: هذا الفصل من كلام الباقر قد اشتمل مع اختصاره على ملخص سيرة أهل البيت، وهو ـ بلا شك ـ كلامه، وهو أصح من أن يصحح؛ إذ هو وصف لما في مصادر الأيام مرقوم، وعلى ألسنة العالمين وفي قلوبهم منطوق ومفهوم؛ فلا يرتاب من له أدنى نظر في السير، أن كل فصل منه من أصح ما نقل في الأثر.
ويحسن أن ننقل هنا ما نقله المدائني، وهو كالشرح لكلام أبي جعفر.
روى أبو الحسن، علي بن محمد سيف المدائني، في كتاب الأحداث، قال: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته.
...إلى قوله: وكتب معاوية إلى جميع عماله في جميع الآفاق: ألا تجيزوا لأحد من شيعة علي، وأهل بيته شهادة.
وكتب إليهم: أن انظروا مَنْ قِبَلَكم من شيعة عثمان، ومحبيه وأهل ولايته، الذين يروون مناقبه وفضائله، فأدنوا مجالسهم، وقربوهم، وأكرموهم، واكتبوا إلي بكل ما يروي كل رجل منهم، واسمه واسم أبيه، واسم عشيرته.
ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه.
....إلى قوله: فلبثوا بذلك حيناً، ثم كتب إلى عماله أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في /372

(2/372)


كل مصر، وفي كل وجه وناحية؛ فإذا جاءكم كتابي هذا، فادعوا الناس إلى الرواية في فضل الصحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في فضل أبي تراب، إلا وأتوني بمناقض له في الصحابة، فإن هذا أحب إلي، وأقر لعيني، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته، وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله.
فقرئت كتبه على الناس؛ فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة، مفتعلة لا حقيقة لها، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى، حتى أشادوا بذكر ذلك.
...إلى قوله: فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع، حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن.
...إلى قوله: ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه.
وشفع ذلك نسخة أخرى: من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم، فنكلوا به، واهدموا داره.
فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق، ولا سيما بالكوفة.
...إلى قوله: فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء، والقضاة، والولاة؛ وكان أعظم الناس بلية في ذلك القرآء المراؤون، والمتصنعون، الذين يظهرون الخشوع والنسك، فيفتعلون الأحاديث؛ ليحظوا بذلك عند ولاتهم، ويقربوا مجالسهم، ويصيبوا بذلك الأموال، والضياع والمنازل، حتى انتقلت تلك الأخبار إلى أيدي الديانين، الذين لا يستحلون الكذب؛ فنقلوها ورووها...إلى آخر كلامه. /373

(2/373)


[ترجمة أبي الحسن المدائني]
قلت: أبو الحسن المدائني، ترجم له السيد الإمام (ع) في الطبقات، وعده الإمام الحجة، عبدالله بن حمزة (ع)، في رجال العدل والتوحيد.
وقال في تفريج الكروب، بعد سياق هذا: وقد رأيت أن أنقل هنا ترجمة المدائني؛ ليعلم أنه من الموثوق بهم.
وأما كتاب الأحداث، فنسبته إليه تواترية، كسائر المؤلفات المشهورة بالنسبة إلى أربابها.
ونقل ترجمته من ميزان الذهبي؛ وقد رجحت أن أنقل المقصود من ذلك الكتاب.
قال في الميزان: علي بن محمد المدائني الأخباري، صاحب التصانيف، ذكره ابن عدي في الكامل، فقال: علي بن محمد بن عبدالله بن أبي سيف المدائني، مولى عبدالرحمن بن سمرة؛ ليس بالقوي في الحديث، وهو صاحب الأخبار.
...إلى قوله: وروى عنه الزبير بن بكار، وأحمد بن زهير، والحارث بن أبي أسامة.
قال أحمد بن أبي خيثمة: كان أبي، وابن معين، ومصعب الزبيري، يجلسون على باب مصعب، فمر رجل على حمار فَارِهٍ، وبِزَّة حسنة، فسلم، وخص بمسائله يحيى.
إلى قوله: فلما ولَّى، قال يحيى: ثقة ثقة ثقة.
فسألت أبي: من هذا؟
فقال: هذا المدائني.
مات المدائني سنة أربع ـ أو خمس ـ وعشرين ومائتين، عن ثلاث وتسعين سنة، انتهى.
قال في تفريج الكروب: قال ابن عرفة، المعروف بنفطويه: وهو من أكابر أهل الحديث وأعلامهم، في تاريخه ما يؤيد هذا.
قال: إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية؛ تقرباً إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم، انتهى. /374

(2/374)


قلت: وقد أظهر الله ـ سبحانه ـ الحق، وأركس الباطل، وأرغم أهله؛ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، وقد خسروا الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
[بحث في معنى المعل]
قال صارم الدين (ع): وقد يرد الحديث؛ لتهمة الراوي، وهو المتروك، أو لفحش غلطه أو غفلته، وهو المنكر، على رأي.
قلت: تقدم الكلام فيه.
قال: أو لوَهْمه مع ثقته؛ فإن اطلع عليه بالقرائن وجمع الطرق، فهو المعل، وهو جنس يدخل تحته الشاذ، والمنكر، والمضطرب.
قلت: أما المعل، فهو اسم مفعول من الإعلال، فعله الماضي أعل.
وأما قول كثير من أهل الحديث: (معلل) كمكرم، فهو من التعليل، وماضيه علل، مضعف، ككرّم؛ ومعناه: ألهاه بالشيء وشغله، من تعليل الصبي بالطعام، فلا مناسبة فيه.
وقول بعضهم: (معلول) خلاف القياس؛ لأنه اسم مفعول الثلاثي المتعدي، الذي هو عل؛ ولم يرد إلا الرباعي أو الثلاثي اللازم.
قال في القاموس: والعلة (بالكسر) المرض، عَلَّ يعل، واعتل، وأعله الله، فهو معل، وعليل؛ ولا تقل: معلول، والمتكلمون يقولونها، ولست منه على ثلج، انتهى.
وقال في المحكم: لأن المعروف إنما هو أعله الله، فهو معل، اللهم إلا أن يكون على ما ذهب إليه سيبويه من قولهم: مجنون ومسلول: إنهما جاءا على جننته وسللته؛ ولم يستعملا في الكلام، واستغني عنهما بأفعلت، قال: وإذا /375

(2/375)


قالوا: جن، وسل، فإنما يقولون: جعل فيه الجنون والسل، انتهى.
قلت: هكذا كلامهم في عدم استعمال العرب لمعلول.
والصحيح أنه عربي مستعمل، فقد ورد في كلام سيد العَرب العَرباء، وإمام الفصحاء والبلغاء، أمير المؤمنين، وأخى خاتم النبيين ـ صلوات الله عليهم ـ قال: وكل قائم بغيره معلول.
وهؤلاء لم يحيطوا بالعربية، والمثبت أولى من النافي، ومن علم حجة على من لم يعلم.
وأما عله الثلاثي المتعدي، فالظاهر عدم وروده، والأمر كما ذكره أئمة العربية، أن القاعدة الأغلبية أن اسم المفعول والمغير الصيغة، إنما يكونان في المتعدي، فيكون جن ـ المغير الصيغة ـ ومجنون ومعلول، المستعملات في أفصح الكلام، مع عدم استعمال جنه، وعله، الثلاثي المتعدي المبني للفاعل، وإنما الوارد أجنه الله ـ تعالى ـ وأعله، مما خالف القاعدة، ولا يقدح ذلك في الفصاحة، كما هو مقرر؛ ولذلك نظائر، ولا بأس بالتأويل؛ لموافقة الأغلب، مع إمكانه، وإلا فلا يضر بعد صحته في الموثوق بعربيته؛ فاستعمال المتكلمين، والفقهاء والمحدثين، وأبي إسحاق الزجاج: لمعلول، صحيح مقبول؛ وردُّ ابنِ الصلاح، وزين الدين، ومن تبعهما كمحمد بن إبراهيم الوزير، ومحمد بن إسماعيل الأمير عليهم في ذلك، مردود.
وقول ابن الصلاح: إنه مرذول، غير مقبول؛ بل كلامه هو المرذول، كيف وقد صح من كلام مَنْ كلامه فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق؟
إذا عرفت ذلك، فالعلة عندهم على ما ذكره ابن الصلاح، وتبعه زين الدين، وأورد معناه في رسالة الشريف، وتنقيح الأنظار عبارة عن أسباب خفية، غامضة قادحة فيه ـ أي في الحديث ـ مع أن ظاهره السلامة.
قال ابن الصلاح: واعلم أن معرفة علل الحديث من أجل علوم /376

(2/376)


الحديث وأدقها وأشرفها؛ وإنما يضطلع بذلك أهل الحفظ والخبرة، والفهم الثاقب.
قال ابن حجر على كلام ابن الصلاح: هذا تحرير الحاكم في علوم الحديث؛ فإنه قال: وإنما يعلل الحديث من أوجه، ليس للجرح فيها مدخل؛ فإن حديث المجروح ساقط واهٍ، وعلة الحديث تكثر في أحاديث الثقات؛ إن تحدثوا بحديث له علة، فتخفى عليهم علته.
والحجة فيه عندنا العلم والفهم والمعرفة؛ فعلى هذا لا يسمى الحديث المنقطع معلولاً، ولا الحديث الذي في روايته مجهول أو مضعف معلول؛ وإنما يسمى معلولاً إذا آل أمره إلى شيء من ذلك؛ وفي هذا رد على من زعم أن المعلول يشمل كل مردود، انتهى.
قلت: وقد يطلق على ما فيه علل ظاهرة، وعلى ما في روايته جرح واضح، وعلى ما ليس بقادح؛ وسيأتي ـ إن شاء الله ـ.
قال ابن الصلاح: ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي، وبمخالفة غيره له، مع قرائن تنضم إلى ذلك، تُنبه العارف بهذا الشأن، على إرسال في الموصول.
قلت: بناء على عدم القبول.
قال: أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث، أو وهم واهم بغير ذلك، بحيث يغلب على ظنه ذلك فيحكم به، أو يتردد فيتوقف فيه؛ وكل ذلك مانع من الحكم بصحة ما وجد ذلك فيه.
وكثيراً ما يعللون الموصول بالمرسل، مثل: أن يجيء الحديث بإسناد موصول، ويجيء ـ أيضاً ـ بإسناد منقطع أقوى من إسناد الموصول.
قلت: الصحيح أن مثل هذا لا يقدح في الصحة، وأن الحكم للوصل؛ إذ هو زيادة ثقة، وهي مقبولة، وهكذا الحكم للرفع لذلك، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ.
قال: ولهذا اشتملت كتب علل الحديث على جمع طرقه.
قال الخطيب: السبيل إلى معرفة علة الحديث، أن تجمع بين طرقه، وتنظر في /377

(2/377)


اختلاف رواته؛ ويعتبر بمكانهم من الحفظ، ومنزلتهم في الإتقان والضبط.
وروي عن علي بن المديني، قال: الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطأه؛ ثم قد تقع العلة في إسناد الحديث، وهو الأكثر، وقد تقع في متنه.
ثم ما يقع في الإسناد قد يقدح في صحة الإسناد والمتن جميعاً، كما في التعليل بالإرسال والوقف؛ وقد يقدح في صحة الإسناد خاصة، من غير قدح في صحة المتن.
[ترجمة الطنافسي وعمرو بن دينار المكي]
فمن أمثلة ما وقعت العلة في إسناده من غير قدح في المتن: ما رواه الثقة، يعلى بن عبيد.
قلت: هو الطنافسي، ترجم له السيد الإمام في الطبقات، وأفاد أنه توفي سنة تسع ومائتين، وخرج له الإمام أبو طالب، والإمام المرشد بالله، ومحمد بن منصور، واحتج به الجماعة؛ وذكر أن يحيى بن معين قال فيه: ثقة إلا في الثوري، وعنه مطلقاً.
وقال أحمد: صحيح الحديث، صالح.
وقال أبو حاتم: صدوق.
قال ابن الصلاح: عن سفيان الثوري، عن عمرو بن دينار.
قلت: هو المكي، من ثقات محدثي الشيعة، ترجم له السيد الإمام ـ رضي الله عنه ـ وقد تقدم.
قال: عن ابن عمر، عن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، قال: ((البيعان بالخيار...)) الحديث.
فهذا إسناد متصل بنقل العدل عن العدل؛ وهو معلل غير صحيح، والمتن على كل حال صحيح.
والعلة في قوله: عن عمرو بن دينار؛ إنما هو عن عبدالله بن دينار؛ عن ابن عمر، هكذا رواه الأئمة من أصحاب سفيان، عنه؛ فوهم يعلى بن عبيد، وعدل عن عبدالله بن دينار إلى عمرو بن دينار، وكلاهما ثقة.
قلت: لامجال للحكم بالوهم على يعلى، فمن /378

(2/378)


الممكن أن يكون سفيان رواه له عن عبدالله، وللآخرين عن عمرو، ويكون في الواقع رواية الرجلين له، فلا وجه للإعلال بهذا؛ وقد أشار إلى ما ذكرته صاحب الديباج.
[الكلام على الجهر بالبسملة]
قال ابن الصلاح:
ومثال العلة في المتن ما انفرد مسلم بإخراجه في حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ من اللفظ المصرح بنفي قراءة بسم الله الرحمن الرحيم.
فعلل قوم رواية اللفظ المذكور لما رأو الأكثرين إنما قالوا فيه: وكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين، من غير تعرض لذكر البسملة؛ وهو الذي اتفق البخاري ومسلم على إخراجه في الصحيح.
ورأوا أن من رواه باللفظ المذكور، رواه بالمعنى الذي وقع له منهم من قوله: كانوا يستفتحون بالحمد، أنهم كانوا لا يبسملون، فرواه على ما فهم، وأخطأ؛ لأن معناه، أن السورة التي كانوا يفتتحون بها من السور هي الفاتحة؛ وليس فيها تعرض لذكر التسمية.
وانضم إلى ذلك أمور، منها: أنه ثبت عن أنس أنه سئل عن الافتتاح بالتسمية، فذكر أنه لا يحفظ فيه شيئاً عن رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - والله أعلم.
انتهى كلامه.
قلت: وما أحق هذا الإعلال، وأوفقه لحقيقة الحال؛ فقد علم إثباتها في القرآن الكريم، وفي الصلاة على التعميم، وعن وصي الرسول الأمين، وأولاده الأئمة الطاهرين ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ وعلم إجماع أهل بيت محمد ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ على الجهر بها في الصلاة الجهرية؛ وقد حفلت بالروايات الصحيحة في ذلك كتب أعلام الأئمة، بل وكتب غيرهم من علماء الأمة. /379

(2/379)


قال بعض العلماء: وأما كونه أقوى ـ أي الجهر بها في الجهرية ـ فلقوة أدلته وصحتها؛ فإنه روى جهر النبي - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - بالبسملة في الصلاة الجهرية بضع وعشرون صحابياً، كما ذكره الزين العراقي، عن الحافظ أبي أسامة؛ ذكره ابن حجر المكي.
وقال السيد صارم الدين (ع): رواية الجهر عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ رواها فوق عشرين صحابياً، ورواية الإخفاء لم يروها إلا ابن مغفل ـ وهي ضعيفة ـ وأنس ـ وهي معلة ـ رواه عنه السيد الإمام، صلاح الإسلام، في شرح الهداية.
وقال البيهقي: وأما أن علي بن أبي طالب كان يجهر بالتسمية، فقد ثبت بالتواتر؛ ومن اقتدى في دينه بمتابعة علي بن أبي طالب كان على الحق، والدليل عليه قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((اللهم أدر الحق مع علي أينما دار)).
وقال البيهقي: وأيضاً، فإن فيها تهمة أخرى، وهو أن علياً (ع) كان يبالغ في الجهر بالتسمية؛ فلما وصلت الدولة إلى بني أمية، بالغوا في المنع من الجهر؛ سعياً في إبطال سنة علي بن أبي طالب.
ثم قال: ولا شك أنه مهما وقع التعارض بين قول أنس وابن مغفل، وبين قول علي بن أبي طالب، الذي بقي عليه طول عمره، فإن الأخذ بقول علي أولى؛ فهذا جواب قاطع في المسألة.
ثم ساق في الاحتجاج إلى أن قال: ومن اتخذ علياً إماماً لدينه، فقد تمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه.
انتهى من الروض النضير.
ومثل ما نقله عن البيهقي من أول البحث، قاله الرازي بلفظه كله، في مفاتيح الغيب، وقفتُ عليه فيه.
وقال الرازي أيضاً بعد حكاية الجهر عن أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ: إن هذه الحجة قوية في نفسي، راسخة في عقلي، لا تزول /380

(2/380)


بسبب كلمات المخالفين، انتهى.
قلت: فهذا كلام المنصفين من المخالفين، والترجيح المعلوم الذي ذكره هو على فرض صحة الرواية عن أنس في النفي، وفيها ما سبق من الإعلال؛ وهي مع ذلك معارضة بروايات عنه، وفي مجموع ما روي عنه فيها اضطراب كثير.
وأما عبدالله بن المغفل: فقد رووا عنه عدم سماعه لها، والإثبات أولى من النفي، ومن علم حجة على من لا يعلم؛ لا سيما إذا كان الحجة من يدور الحق معه، باب مدينة العلم، المبين للأمة ما اختلفوا فيه بعد أخيه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
ومما يزيدك بياناً، ويفيدك برهاناً، على أن المخالفين في قراءتها والجهر بها في الجهرية رفضوا الروايات الصحيحة، وعدلوا عن أقوال علمائهم وأئمتهم، الذين يزعمون الاقتداء بهم، وأنهم ائتموا في ذلك بمعاوية، إمام الفئة الباغية، الداعية إلى النار، ما صح في ذلك عن حفاظهم، ومحققي مذهبهم.
قال السيد الإمام، علم الأعلام، صلاح الإسلام، صلاح بن أحمد بن المهدي بن محمد بن علي بن الحسين بن الإمام عز الدين بن الحسن (ع) في شرح قول السيد الإمام، صارم الإسلام، إبراهيم بن محمد الوزير (ع) في الهداية: (وحذفها بدعة) ـ ما لفظه: ولذلك أن معاوية لما صلى بالناس العتمة، فترك البسملة، فناداه منادٍ: أسرقت الصلاة أم نسيت؟ أين بسم الله الرحمن الرحيم؟
احتج به ابن دقيق العيد، وذكره الرازي في مفاتيح الغيب بلفظ: فلما قضى صلاته، ناداه المهاجرون والأنصار من كل ناحية.
وفيه: وأعاد معاوية /381

(2/381)


الصلاة، وقرأ بسم الله الرحمن الرحيم.
قال ابن دقيق العيد: فهذا دليل واضح على أنه قد كان يقرأ بالبسملة، وأنه أمر ظاهر؛ ولولا ذلك ما كان لنكيرهم معنى.
وقال الرازي: وهذا الخبر يدل على إجماع الصحابة على أنها من القرآن ومن الفاتحة، وعلى أن الأولى الجهر بها.
وهذا الخبر أخرجه الشافعي بلفظ: إن معاوية قدم المدينة، وصلى بهم، ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ولم يكبر عند الخفض إلى الركوع والسجود؛ فلما سلم، ناداه المهاجرون والأنصار: يا معاوية، سرقت من الصلاة، أين بسم الله الرحمن الرحيم؟ وأين التكبير عند الركوع والسجود؟ ثم إنه أعاد الصلاة، مع التسمية والتكبير.
وقال الشافعي: إن معاوية كان سلطاناً، عظيم القوة، شديد الشوكة؛ ولولا أن الجهر بالتسمية كان الأمر المتقرر عند كل الصحابة من المهاجرين والأنصار، لما قدروا على إظهار الإنكار عليه بسبب ترك التسمية.
وقال سعد الدين التفتازاني في التلويح: أما حديث الجهر بالتسمية، فهو عندهم من قبيل المشهور.
إلى قوله: إلا أنه ـ يعني أنساً ـ اضطربت رواياته فيه؛ بسبب أن علياً ـ رضي الله عنه ـ كان يبالغ في الجهر؛ وحاول معاوية وبنو أمية محو آثاره، فبالغوا على الترك، فخاف أنس.
وقال الرازي ـ بعد أن أطال الاستدلال ـ ما لفظه: إن الدلائل العقلية موافقة لنا، وعمل علي (ع) معنا؛ ومن اتخذ علياً إماماً لدينه، فقد تمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه.
انتهى ملخصاً من مفاتيح الغيب.
وفي أسفار نجوم الهدى ما ينفي كل شبهة وريب. /382

(2/382)


[تتمة لأسباب العلة]
قال ابن الصلاح ـ ومثله في رسالة الشريف ـ ما لفظه: ثم اعلم أنه قد يطلق اسم العلة على غير ما ذكرناه من باقي الأسباب، القادحة في الحديث، المخرجة له من حال الصحة إلى حال الضعف، المانعة من العمل به، على ما هو مقتضى لفظ العلة في الأصل؛ ولذلك تجد في كتب علل الحديث الكثير من الجرح، بالكذب، والغفلة، وسوء الحفظ، ونحو ذلك من أنواع الجرح.
وسمى الترمذي النسخ علّة من علل الحديث.
قلت: وقد قيل عليه: إنه إن أراد أن النسخ علة في العمل، فصحيح؛ وإن أراد أنه علة في الصحة، فغير صحيح.
قال ابن الصلاح: ثم إن بعضهم أطلق اسم العلة على ما ليس بقادح من وجود الخلاف، نحو: إرسال من أرسل الحديث، الذي أسنده الثقة الضابط.
حتى قال: من أقسام الصحيح: ما هو صحيح معلول، كما قال بعضهم: من الصحيح: ما هو صحيح شاذ؛ والله أعلم، انتهى.
قلت: فهذا تحقيق لكلامهم، الجامع لما تفرق في مؤلفاتهم، وأكثر إعلالهم عليل، كما سبق القول فيه والحق واضح لمتبع الدليل.
هذا، وأما الشاذ والمنكر، فقد سبق الكلام عليهما.
[الحديث المضطرب]
وأما المضطرب (بكسر الراء: اسم فاعل من الاضطراب افتعال، أبدلت التاء طاء مهملة؛ لاستثقال اجتماعها مع الضاد المعجمة، كما هي القاعدة الصرفية في مثله) فهو لغة المختل المختلف، الفاسد النظام، والكثير الحركة؛ ومنه: اضطراب الموج.
واصطلاحاً: ما اختلفت الرواية فيه، فيروى مرة على وجه، وأخرى على وجه مخالف؛ وقد يكون في المتن، وقد يكون في السند، وقد يكون في رواية /383

(2/383)


واحد، وقد يكون في رواية جماعة، وهو موجب لضعف الحديث؛ لإشعاره بعدم الضبط.
وإنما يسمى مضطرباً إذا تساوت الرواية المختلفة.
أما إذا كان بعضها راجحاً، فالحكم له، والمرجوح مطرح.
فهذا حاصل ما تكلم فيه أهل المصطلح؛ وقد ذكروا له أمثلة كثيرة، ومن وقف على حقيقة التحصيل، فهو مستغن عن التطويل.
ومن الأمثلة الواضحة لاضطراب المتن والسند: ما أورده نجم الأئمة الهداة، الإمام المؤيد بالله (ع) في شرح التجريد، حيث قال (ع) ـ بعد أن ساق السند في أخبار القلل ـ ما نصه: هذه الأخبار قد رويت؛ ولكن فيها وجوه من الكلام، منها: أن في سندها اضطراباً يدل على ضعفها.
إلى قوله (ع): فأما ضعف الإسناد، فلأن بعض الرواة قال: محمد بن عباد بن جعفر بن الزبير.
وبعضهم قال: محمد بن جعفر.
ومنهم من قال: عبدالله ـ قلت: أي بالتكبير ـ ومنهم من قال: عبيدالله بن عبدالله.
قلت: أي الأول بالتصغير، والثاني بالتكبير.
قال (ع): فدل على ضعف إسنادها، وأنه لم يضبط حق الضبط.
فإن قيل: لا يمتنع أن يكون خبر الواحد يرويه جماعة؛ فيكون هذا الخبر رواه محمد بن عباد بن جعفر، ومحمد بن جعفر، وعبدالله بن عبدالله ـ قلت: بتكبيرهما، قال(ع):ـ وعبيدالله بن عبدالله ـ قلت: بتصغير الأول، وتكبير الثاني. قال الإمام(ع):ـ فلا يجب أن يجعل ما ذكرتم طعناً فيه.
قيل له: نحن لم ندّع أن هذا الخبر ورد على وجه يستحيل أن يرد الخبر عليه؛ ولو كان كذلك، لقطعنا على أنه كذب وأسقطناه.
وإنما لم نقل ذلك، وقلنا: إنه يدل على /384

(2/384)


اضطراب سنده؛ للاحتمال الذي ذكرتموه.
ثم ساق (ع) السند الدال على اضطراب المتن...إلى قوله: عن عبدالله بن عمر، عن أبيه، أن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قال: ((إذا بلغ الماء قلتين أو ثلاثاً لم ينجسه شيء)).
وروي عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبدالله الأنصاري، قال: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((إذا كان الماء أربعين قلة لم يحمل الخبث)).
وروي في بعض الأخبار: ((إذا كان الماء قلة أو قلتين)).
فبان بما ذكرناه تعارض هذه الأخبار؛ لأن هذا القول عند المخالف خرج مخرج التحديد.
وكيف يجب أن يحد مرة بالقلة، ومرة بالقلتين، ومرة بثلاث قلال، ومرة بأربعين قلة؟
ألا ترى أن التحديد بكل واحد من ذلك ينافي التحديد الآخر؟
...إلى قوله (ع): لأن الاضطراب في المتن كالاضطراب في السند، في باب الدلالة على ضعف الخبر.
ثم ساق (ع) التأويل والمعارضة، وترجيح الأدلة، على مذهب إمام الأئمة، الهادي إلى الحق (ع)، بأوفى كلام، وأقوى نظام.
وأما ما أورده من الأمثلة، التي بسط أكثرها صاحب التنقيح والتوضيح وغيرهما، فمن تصفحها اتضح له في أغلبها عدم المطابقة لذلك المقام؛ والله - تعالى - ولي الإنعام.
[المدرج من الحديث]
قال السيد صارم الدين (ع): وقد يرد بالمخالفة؛ فإن كانت بتغيير السياق، مثل: أن يذكر رجلاً لم يذكر في الإسناد، في موضع رجل أسقطه من أهل الإسناد؛ إما لأنه عرض ذكر ذلك الرجل المذكور، بدلاً عن الساقط في طريق الحديث، أو في حديث اشترك جماعة في روايته بالجملة، وتفرد كل منهم بأمر؛ أو يكون /385

(2/385)


بينهم اختلاف فيمن روى عنه، أو نحو ذلك؛ فهو مدرج الإسناد.
أو بإدراج موقوف بمرفوع، فهو مدرج المتن.
قلت: المدرج (بضم الميم، وفتح الراء) يطلق على مجموع الخبر، الذي وقعت الزيادة فيه؛ فعلى هذا هو مدرج فيه، اسم مكان لا اسم مفعول.
وقد يطلق أيضاً على الزيادة الواقعة في الخبر، وعلى ذلك فهو اسم مفعول.
وقد مثلوا له بأمثلة كثيرة، منها: ما ذكره محمد بن إبراهيم الوزير، وابن الصلاح، وغيرهما، في خبر التشهد، المروي عن ابن مسعود؛ ولفظه في التنقيح:
الأول: ما أدرج في آخر الحديث من قول بعض رواته إما الصحابي، أو من بعده.
إلى قوله: كحديث ابن مسعود، وقوله بعد التشهد: ((فإذا فعلت ذلك، فقد تمت صلاتك)).
قلت: تمامه ـ كما رووه ـ: ((إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد)).
قال: هذا موقوف على الصحيح.
قلت: يعني من قوله: فإذا فعلت...إلخ من كلام ابن مسعود ـ كما ذكروه ـ.
قال: وقد أدرجه بعضهم في الحديث.
[ترجمة زهير بن معاوية بن حُديج، وعبد الملك بن جريج]
قلت: أخرجه ـ على ما ذكروه ـ أبو داود، من رواية زهير بن معاوية.
ترجم له السيد الإمام ـ رضي الله عنه ـ في الطبقة الثانية من الطبقات، فقال: زهير بن معاوية بن حديج (بضم المهملة الأولى مصغراً، وآخره جيم) الجعفي، أبو خيثمة.
قلت: في جامع الأصول: بفتح الخاء المعجمة، وسكون الياء، تحتها نقطتان.
قال السيد الإمام: الكوفي، حدث بالجزيرة.
وساق فيمن روى عنهم، ومن رووا عنه...إلى قوله: قال في الكاشف: حجة حافظ.
وقال ابن عيينة: ما بالكوفة مثله.
وقال أحمد بن زهير: ثبتٌ فيما روى عن المشائخ؛ بخٍ بخٍ.
وقال /386

(2/386)


النسائي: ثقة ثبت.
وقال الخطيب: حدث عنه ابن جريج، وعبد الغفار الحراني، وبين وفاتيهما بضع وستون سنة.
مولده سنة مائة، وتوفي سنة ثلاث وسبعين ومائة.
خرج له الجماعة، وأئمتنا الثلاثة السادة، انتهى باختصار.
قلت: ابن جريج المذكور، هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج.
روى عن عطاء ومجاهد وغيرهما.
وعنه محمد بن منصور المرادي، والسفيانان، والليث، وخلق.
توفي سنة خمسين ومائة، وقد جاوز المائة.
قال أبو زرعة: هو من الأئمة.
خرج له أئمتنا الأربعة والجماعة؛ أفاده السيد الإمام ـ رضي الله عنه ـ وغيره.
[ترجمة الحسن بن الحر والقاسم بن مخيمرة وعلقمة بن قيس]
(رجع) عن الحسن بن الحر.
قلت: قال السيد الإمام ـ رضي الله عنه ـ في الطبقة الثانية: الحسن بن الحر ـ ضد الرق ـ بن الحكم النخعي، عن أبي أمامة، وأبي الطفيل.
إلى قوله: وفي الكاشف: ثقة، نبيل؛ توفي سنة ثلاث ومائة.
خرج له أبو داود، والنسائي، ومحمد بن منصور المرادي.
(رجع) عن القاسم بن مخيمرة.
قلت: هو الهمداني، أبو عروة، المتوفى عام مائة؛ روى عن أبي سعيد، وعلقمة.
وعنه: الحكم، وسلمة بن كهيل، والأوزاعي، وغيرهم.
خرج له الأئمة: المؤيد بالله، وأبو طالب، والمرشد بالله (ع)، ومسلم، والأربعة.
ترجم له السيد الإمام ـ رضي الله عنه ـ في الطبقة الثانية، وأفاد هذا.
ومخيمرة بضم الميم، وفتح الخاء المعجمة، وسكون التحتية بعدها ميم، فراء، فتاء التأنيث. /387

(2/387)


(رجع) عن علقمة.
قلت: هو علقمة بن قيس بن عبدالله النخعي، أبو شبل الكوفي، المتوفى عام أحد وستين، الراوي عن الوصي، وسلمان، وابن مسعود ـ رضي الله عنهم ـ.
وعنه: الشعبي، والنخعي، وابن سيرين، وغيرهم.
معدود في ثقات محدثي الشيعة؛ أخرج له أئمتنا الأربعة، والجماعة.
(رجع) عن عبدالله بن مسعود، أن رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - علمه التشهد في الصلاة...الخبر.
قال الحاكم: قوله: ((فإذا فعلت)) هذا مدرج في الحديث من كلام عبدالله بن مسعود.
وكذا قال البيهقي في المعرفة، والخطيب في المدرج.
قال النواوي: اتفق الحفاظ على أنها مدرجة.
[ترجمة عبد الرحمن بن ثابت]
قال ابن الصلاح: والدليل عليه أن الثقة الزاهد عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان رواه عن رواية الحسن بن الحر كذلك.
قلت: عبد الرحمن بن ثابت، هذا هو الصواب، وفي بعض: ابن ثوبان، وهو: أبو عبدالله العنسي، عدلي المذهب.
توفي عام خمسة وستين ومائة.
ثم قال: مع اتفاق كل من روى التشهد عن علقمة، وعن غيره، عن ابن مسعود، على ذلك.
قلت: وذكروا أن بعض الرواة رواه عن أبي خيثمة، وفصله، وبين أنه من كلام ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ.
قال في التنقيح: فاحتجت به الحنفية على أن السلام لا يجب.
قلت: وقد تعقبه صاحب التوضيح بأن الطحاوي استدل لهم بحديث ابن عمر: ((إذا رفع المصلي رأسه وقضى تشهده، ثم أحدث، فقد تمت صلاته)). /388

(2/388)


قلت: وقد ذكر في الروض أن حديث ابن عمر ضعيف باتفاق الحفاظ؛ والكلام على ذلك مبسوط في محله.
نعم، فهذا الإدراج في آخر الخبر، وقد يكون في أوله، وفي وسطه؛ والثلاثة هي أنواع القسم الأول، وهو الإدراج في المتن، وقد أشار إليه المؤلف، وبقية أقسامه في السند.
والقسم الثاني: أن يجمع الراوي حديثاً بإسناد واحد؛ وفي الواقع أن طرفاً منه بإسناد وطرفاً بإسناد آخر.
القسم الثالث: أن يدرج بعض حديث في حديث مغاير له في السند.
القسم الرابع: أن يروى عن جماعة، وبينهم اختلاف في السند أو المتن، فيجمع المختلف فيه في إسناد واحد؛ وقد أشار إليه المؤلف (ع).
وزاد بعضهم على الأربعة الأقسام.
وقد ذكروا أمثلة الجميع، وكل ذلك واضح؛ ولا يجوز تعمد الإدراج مع الإيهام.
والطريق إلى معرفة ذلك، أوجه:
منها: استحالة إضافة ذلك إلى المروي عنه، إما الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، أو غيره.
ومنها: التصريح بالإدراج من صاحبه، أو ممن اطلع عليه من أهل الخبرة والعدالة، أو نحو ذلك.
وعلى الجملة، لا بد من طريق صحيحة فيه، وإلا فالأصل عدمه.
[الكلام على الحديث المقلوب]
قال صارم الدين (ع): أو بتقديم، أو بتأخير، فهو المقلوب.
قلت: هو اسم مفعول من القلب، وفعله: قلب يقلب قلباً، من باب /389

(2/389)


ضرب.
قال في القاموس: حوله عن وجهه، والشيء حوله ظهراً لبطن.
وهو في الاصطلاح على ثلاثة أقسام: في السند، والمتن، وفي كليهما.
فالذي في السند على وجهين: الوجه الأول: بالتقديم والتأخير؛ وهو الذي ذكره المؤلف، نحو: أن يكون عن زيد بن علي، فيقول الراوي: عن علي بن زيد.
الوجه الثاني: أن يكون الخبر مشهوراً عن راوٍ، مثلاً: عن الوصي (ع)، فيقلبه عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ.
والذي في المتن على وجهين أيضاً: الوجه الأول: بالتقديم والتأخير في بعض كلمات المتن، كما في خبر السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه؛ ففي رواية مسلم، من حديث أبي هريرة: ((ورجل تصدق بصدقة، فأخفاها، حتى لا تعلم يمينه ما أنفقت شماله))، وإنما هو: ((حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه))، كما رواه البخاري، ومسلم، وكما هي العادة في تولي الإنفاق وغيره باليمين.
الوجه الثاني: أن يجعل المتن كله على إسناد آخر، ويجعل إسناده على متن ذلك الإسناد الآخر؛ وهذا الوجه يصلح مثالاً للقسم الثالث، وهو ما كان القلب في المتن والإسناد كليهما، باعتبار وقوع القلب فيهما.
ولم يذكر المؤلف ـ رضي الله عنه ـ إلا التقديم والتأخير، وقد ذكر في تنقيح الأنظار، وفي كتاب ابن الصلاح وغيرهما، للمقلوب رسوماً.
منها: قول ابن الصلاح: إنه نحو: حديث مشهور عن سالم، جعل عن نافع؛ ليصير بذلك غريباً مرغوباً فيه.
ومثله كلام الوزير في التنقيح.
فقولهم: مشهور ليس بشرط؛ بل العمدة صحة أن الراوي جعله عن نافع، وأنه ليس عنه.
وقولهم: ليصير بذلك...إلخ، لا معنى لإدخاله في الرسم؛ وإنما هو يصلح أن يكون الحامل للراوي، وقد يكون غيره، /390

(2/390)


وقد يكون قلبه على وجه الخطأ، فلا يكون له قصد إلى هذه العلة ولا غيرها.
ولم يستوفوا أقسامه، فالذي تحصل هنا في رسمه وتقسيمه هو التحقيق، وبالله التوفيق.
[الكلام على الحديث المصحَّف والمحرَّف]
قال صارم الدين (ع): أو بزيادة راوٍ، فهو المزيد في متصل الإسناد، أو بتغيير حرف مع بقاء السياق، فهو المصحف والمحرف.
قلت: قد عدهما بعضهم نوعاً واحداً، كما قال المؤلف، وفرق بعضهم بينهما كما يأتي، فالمصحف والمحرف اسما مفعول من التصحيف، وهو الخطأ في الصحيفة والتحريف، وهو التغيير.
فإن وقع تغيير حرف أو أكثر مع بقاء صورة الخط، فلا يخلو إما أن يكون في النقط، فهو المصحف؛ أو في الشكل، فالمحرف.
ويكونان في اللفظ، ويكونان في المعنى، ويقعان بالبصر وبالسمع؛ وفي الإسناد، وفي المتن.
وقد مثلوا لما وقع في الإسناد، في حديث شعبة، عن العوام بن مراجم (بالراء المهملة والجيم) صحفه يحيى بن معين بالزاي المعجمة، والحاء المهملة.
ولما وقع في المتن بخبر: ((من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال)) صحفه بعضهم شيئاً من شوال (بالشين المعجمة، والمثناة التحتية).
ومثال تصحيف المعنى ما روي أن أبا موسى العنزي، قال يوماً: نحن قوم لنا شرف، نحن من عنزة، قد صلى النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ إلينا.
توهم أن المراد بالوارد في الخبر قبيلتهم؛ وإنما هو الحربة تنصب بين يديه.
وأمثلة هذا الباب كثيرة، والأمر /391

(2/391)


فيه واضح؛ وهو من أهم ما يتوجه الحزم فيه، والاحتراز عنه، فقد وقع فيه الكثير من الرواة لأسباب مختلفة، منها: عدم التدبر والانتباه في مواضع الاشتباه.
ومنها: الأخذ من الصحف من غير سماع على أرباب الاطلاع.
ومنها: قلة الفكرة، وكثرة الغفلة، وبعد الفهم؛ ومداره على عدم التحقيق، والله ولي التوفيق.
قال السيد صارم الدين (ع): فأما الرد بمجرد مخالفة الراوي في المذهب، فمردود، وهو في القدماء، ومقلدي المتأخرين، كثير؛ سيما فيما يخالف مذاهب أئمتهم.
قلت: اعلم ـ وفقنا الله وإياك للصواب، وثبتنا على منهج الحق والإنصاف ومحجة السنة والكتاب ـ أنه قد عظم الخطب في هذا الباب، بلا ارتياب، وصار معظم المدار في الجرح والتعديل، على المخالفة والموافقة في المذاهب والأقاويل، من غير اعتبار للدليل، مع التصريح من المرتكبين لذلك بأنه لا يقبل ما كان من هذا القبيل؛ والمعتمد أن كل مخالفة لا توجب القدح في الدين والتضليل، فالجرح بها غير مقبول، بل قد يكون من موجبات التعديل، كما لا يخفى على أولي التحصيل.
[الرواية بالمعنى]
قال صارم الدين (ع): وذكر الخبر كاملاً أولى؛ وحذف بعضهم لغير استهانة جائز، وفاقاً لمن أجاز الرواية بالمعنى؛ وقيل: ممتنع، إلا أن يرويه مرة أخرى بتمامه.
فإن تطرق إليه التهمة في اضطراب نقله، أو تعلق المحذوف بالمذكور تعلقاً يغير معناه، امتنع الحذف، كالاستثناء والغاية.
أئمتنا، والجمهور: تجوز الرواية بالمعنى، لمن يعرف مدلول الألفاظ /392

(2/392)


ومقاصدها، وما يخل بمعانيها، خلافاً لبعض السلف والمحدثين والظاهرية.
وقيل: يجوز لمن نسي اللفظ.
قلت: الحجة على جواز الرواية بالمعنى لما لم يكن متعبداً بلفظه، إجماع الصدر الأول ومن بعدهم قبل المخالف؛ ولأن المعنى هو المقصود فيما لم يدل الدليل على التعبد بلفظه.
ومما يدل عليه أيضاً: ما في الكتاب العزيز، من حكاية أقوال الأنبياء (ع) والأمم المختلفي اللغات بالعربية؛ وما فيه أيضاً من التعبير عن القضايا المتحدة بأساليب متنوعة، وعبارات متعددة.
هذا، والمسألة وتفصيل الأقوال فيها ومتمسكات أصحابها، مبسوطة في أصول الفقه.
وما كان كذلك، فإني أختصر فيه القول إحالة على ما هنالك؛ إلا أن يكون في الإشارة إليه هنا زيادة إفادة، من تقرير حجة، أو دفع شبهة، أو تحقيق بحث، والله ولي الإعانة.
[الكلام على مجهول العدالة والضبط]
قال (ع): ومتى خفي المعنى، احتيج إلى بيانه، ويسمى شرح الغريب، وبيان المشكل.
ومن أحسن موضوعاته: الفائق، والنهاية.
وقد يرد بجهالة الراوي، وهو إما مجهول العدالة، ورده أئمتنا.
قلت: المجهول اسم مفعول من الجهالة، خلاف المعرفة؛ وهي تتعلق باعتبار الراوي من جهات تتضح بمعرفة الأقسام.
فهو إما مجهول الاسم والنسب، وهو مقبول على الصحيح؛ لأن المعتبر العدالة والضبط، ومعرفتهما ممكنة، بدون معرفة الاسم والنسب.
وإما مجهول الضبط، وهو غير مقبول، كمجهول العدالة على الصحيح. /393

(2/393)


والحجة في ردهما واحدة.
وإما مجهول العدالة، وهو من لم تعرف عدالته، ولا عدمها، ويقال له: مجهول الوصف، عند المحدثين؛ والصحيح أنه غير مقبول؛ لأن الفسق وما ألحق به مما يخل بالعدالة مانع بالإجماع؛ فلا بد من تحقق عدمه شرعاً، كالكفر، وذلك لا يكون إلا بمعرفة الحال؛ ولأن قوله ـ عز وجل ـ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [الإسراء:36]، وقوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } [يونس:36]، دال على المنع من قبول الآحاد.
وخصص خبر المعروف بالعدالة بالإجماع، وبقي ما عداه على حكم العموم.
وقد استدل على عدم القبول بأن الأصل الفسق، كما قال عضد الدين: واعلم أن هذا مبني على أن الأصل الفسق، أو العدالة؛ والظاهر أنه الفسق؛ لأن العدالة طارئة، ولأنه أكثر.
قال سعد الدين: فهو أغلب على الظن وأرجح، وهو معنى الأصل؛ لكن في كون العدالة طارئة نظر، بل الأصل أن الصبي إذا بلغ، بلغ عدلاً، حتى تصدر منه معصية.
قلت: التحقيق أنه قبل البلوغ غير متصف بالعدالة ولا بضدها؛ وإذا بلغ اتصف بأحدهما، بعد تمكنه واختياره لما شاء منهما، فلا أصل هنا لواحد منهما؛ بل العدالة وعدمها خلاف الأصل، ولا يحكم له بشيء منهما، إلا بعد الخبرة والمعرفة بحصول أحدهما.
هذا، وأما كون الفسق ونحوه أكثر وأغلب، فلم يجب عنه السعد، وهو صحيح معلوم.
نعم، وما أوردوه من قبول الرسول - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - لخبر الأعرابي برؤية الهلال، فلا حجة فيه؛ لجواز معرفته لعدالته، ولأن الإسلام /394

(2/394)


يجب ما قبله، ولم يحدث بعده ما ينقض العدالة.
قال أبو الحسين في المعتمد ما لفظه: ولا شبهة أن في بعض الأزمان كزمن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قد كانت العدالة منوطة بالإسلام، وكان الظاهر من المسلم كونه عدلاً.
إلى قوله: فأما الأزمان التي كثرت فيها الخيانات ممن يعتقد الإسلام، فليس الظاهر من الإسلام كونه عدلاً؛ فلا بد من اختباره...إلخ.
والاستدلال بقوله: ((نحن نحكم بالظاهر)) غير صحيح؛ إذ لا ظاهر مع عدم الخبرة، بل الصدق والكذب من المجهول مستويان في الاحتمال.
هذا، وقد قُدح في الخبر؛ قال المزي، والذهبي: لا أصل له.
وكذا الاستدلال بقبول الخبر بكون اللحم مذكى، وبِرِقِّ الجارية ونحوهما، استدلال في غير محل النزاع؛ إذ الخبر في تلك الأشياء مقبول مع الفسق، وهذا يشترط فيه عدمه، على أن الرواية أعلى مرتبة من هذه الأمور الجزئية؛ لأنها تثبت شرعاً عاماً، فلا يلزم من القبول فيها القبول فيما نحن فيه، كما ذكروه.
وكذا قولهم: الفسق شرط وجوب التثبت، فإذا انتفى انتفى، غير مسلم؛ غايته أنه انتفى العلم به، ولا يلزم من عدم العلم بالشيء عدمه؛ والمطلوب العلم بانتفائه، ولا يحصل إلا بالخبرة به، أو بتزكية خبير به.
أفاد معناه في المعيار، والقسطاس، وشرح الفصول.
هذا، والقول بعدم قبول مجهول العدالة هو مختار أئمتنا (ع) والجمهور، كما حكاه المؤلف (ع).
[الخلاف في عدالة الصحابة]
قال: إلا مجهول الصحابة.
قلت: والقول هذا مبني على عدالتهم؛ إما على الإطلاق، أو إلا من ظهر فسقه، وكلا القولين باطل، لا سيما القول الأول؛ فبينه وبين الحق والتحقيق لمن حكم بمقتضى البراهين المعلومة من الكتاب والسنة المجمع عليها عند كل فريق /395

(2/395)


مراحل؛ وقد قدمت في ذلك ما يكفي ويشفي.
قال المؤلف (ع) في الفصول ما لفظه: أئمتنا، والمعتزلة: وهم عدول، إلا من ظهر فسقه، كمن قاتل الوصي (ع) ولم يتب.
قلت: في الحكاية عن أئمتنا (ع) نظر؛ ولقد أحسن ابن الإمام (ع) حيث قال في تعداد الأقوال:
ورابعها: ما اختاره بعض أئمتنا (ع) والمعتزلة، وهو قوله: وقيل: هم عدول، إلا من ظهر فسقه ولم يتب، كمن قاتل علياً (ع).
وقد ظهر أن المؤلف ومن تبعه اعتمدوا في كثير من الحكايات للأقوال في مباحث علوم الحديث، على كلام الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير؛ وهو كثير المجازفة، في هذه الأبحاث؛ لما هو عليه من المعارضة، كما سبق وسيأتي؛ وذلك معلوم لا يخفى على المطلع المنصف، ولا اعتبار بالجاهل ولا المتعسف، والله ولي التوفيق.
قال في الفصول، ما لفظه: جمهور الفقهاء والمحدثين: عدول ـ أي الصحابة ـ مطلقاً، وما شجر بينهم، فمبناه على الاجتهاد.
قلت: وهذا القول واضح البطلان؛ لمخالفته صرائح البرهان.
وقد أشار السيد الإمام صلاح الإسلام (ع) في شرحه، إلى الحجج المعلومة على رده، من الكتاب والسنة، بعد سياقه لما أوردوه من الاستدلال بنحو قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } [البقرة:143]، وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران:110]، وقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ }...الآية [الفتح:29]، ((وأصحابي /396

(2/396)


كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم))، وهو من الأحاديث الموضوعة، المجروح رواتها بالكذب؛ وقد أوضح محمد بن إبراهيم في التنقيح، والإمام القاسم بن محمد، وولده الحسين (ع)، في بطلانه ما يكفي.
وبما رووه في الثلاثة القرون، وهو ما رواه عمران بن الحصين، أن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قال: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)).
قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة؟.إلخ. أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي.
وفي رواية النسائي عنه: ((خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) فلا أدري أذكر مرتين بعده، أو ثلاثاً؟.إلخ.
وعن ابن مسعود: أن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، قال: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم...إلخ)) أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي؛ ذكر الجميع ابن الأثير في جامع الأصول.
وقد عورض بحديث: ((أمتي كالمطر، لا يدرى أوله خير أم آخره))، أخرجه الترمذي من حديث أنس، وصححه ابن حبان من حديث عمار، وله شواهد، وابن عساكر عن عمرو بن عثمان مرسلاً، بلفظ: ((أمتي مباركة لا يدرى أولها خير أو آخرها)).
وبحديث أبي ثعلبة الخشني لما سئل عن قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } [المائدة:105]، قال: أما والله، لقد سألت عنها رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، فقال: ((ائتمروا بالمعروف، وانتهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتم شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مُؤثَرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، ودع العوام؛ فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل /397

(2/397)


فيهن مثل أجر خمسين رجلاً، يعملون مثل عملكم))، أخرجه الترمذي، وأبو داود، وزاد: قيل: يارسول الله، أجر خمسين رجلاً منا، أو منهم؟ قال: ((بل أجر خمسين منكم)).
وأخرج البخاري في خلق الأفعال من حديث أبي جمعة، ما لفظه: كنا مع رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة، فقلنا: يارسول الله، هل أحد أعظم أجراً منا، آمنا بك، واتبعناك؟
قال: ((وما يمنعكم من ذلك، ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء؛ بل قوم يأتون من بعدكم، يأتيهم كتاب بين لوحين، فيقضون به، ويعملون بما فيه؛ أولئك أعظم منكم أجراً)).
وبحديث عمر يرفعه: ((أفضل الخلق إيماناً قوم في أصلاب الرجال، يؤمنون بي ولم يروني))، أخرجه الطيالسي.
قال الأمير: وهو وإن كان ضعيفاً، فإنه يشهد له ما أخرجه أحمد، والدارمي، والطبراني من حديث أبي جمعة، قال: قال أبو عبيدة: يارسول الله، أحد خير منا، أسلمنا معك، وجاهدنا معك؟ قال: ((قوم يكونون من بعدي، يؤمنون بي ولم يروني)) إسناده حسن، وقد صححه الحاكم.
وقد أوردت الاحتجاج في هذا والمعارضة من روايات القوم؛ لكون أصل الكلام معهم في هذا الباب، وإلا ففي مرويات العترة (ع) ما فيه تبصرة وذكرى لأولي الألباب؛ وقد تقدمت الإشارات إلى شيء من ذلك كما لا يخفى على ذوي العرفان بمواضع الخطاب.
هذا، وقد جمع بأن الخيرية مختلفة بالاعتبار.
فالأولون باعتبار شرف قرب العهد من أنوار النبوة، ومشاهدة أعلامها، ونحو ذلك.
والآخرون باعتبار الإيمان بالغيب، بعد انقضاء زمن الوحي، وظهور المعجزات؛ ولهذا كان أخيار /398

(2/398)


الصدر الأول أخيار الأخيار، وأشرارهم أشرار الأشرار؛ ونحو ذلك من أوجه الاعتبار.
وعلى كل حال فجميع ذلك لا يفيد تعديل أفراد الرجال؛ وإنما المراد به الخصوص لما ورد في صريح الكتاب ومتواتر السنة، من النصوص الدالة على جرح طوائف منهم غير محصورة، كالناكثين، والقاسطين، والمارقين؛ حتى إن في بعضها أنه لا يخلص منهم إلا كهمل النعم، كما في أخبار الحوض المتواترة؛ وعلى جرح أفراد منهم بأعيانهم، كرؤوس تلك الطوائف الخاسرة، وهذه الأدلة المعلومة أصرح مما يتمسكون به.
(عدنا إلى تمام كلام السيد الإمام صلاح الإسلام).
قال: وهذه وإن كان ظاهرها التعميم؛ فإن الخبر المشهور المتواتر بنص أهل الحديث، وهو قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لعمار: ((تقتلك الفئة الباغية))، وكذلك قوله لعلي: ((تقاتل الناكثين، والقاسطين، والمارقين))، ونحو ذلك مما يفيد العلم عند من له بحث في السير والآثار، مما يدل على بغي من حارب أمير المؤمنين وفسقه، يقتضي تخصيص محاربه ـ كرم الله وجهه ـ فإن البغي مناف للعدالة قطعاً.
ألا ترى كيف أمر ـ تعالى ـ بقتال الفئة الباغية، وقتلها؛ لخروجها عن أمره، حتى تفيء عن بغيها وغيها؟
وكل خارج عن أمره قد جعل حده القتل، فهو فاسق قطعاً؛ كيف وهو لا يُعلم مخالف في ذلك؟! بل لو خالف مخالف في ذلك، لم يعبأ بخلافه؛ فإن ذلك مكابرة وبَهْت.
...إلى قوله: والحق في هذه المسألة ـ وهو الإنصاف، والبعد عن جانب التعصب والاعتساف ـ، أنهم كغيرهم؛ لما قدمناه، مما إذا أعدته تحققت ما قلناه، ولقوله تعالى: {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ } [التوبة:101]، وقوله تعالى: /399

(2/399)


{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ } [آل عمران:152]، مع قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } [هود:15]، ولما ورد في الذين يردون الحوض، فيحلؤون عنه، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، وغير ذلك...إلى آخر كلامه.
[اعتراف محمد بن إبراهيم الوزير بضعف أصول أهل الحديث]
قلت: وقد اعترف السيد الحافظ، محمد بن إبراهيم الوزير، لما كان في مقام الإنصاف، بفساد أصول أصحاب الحديث، حيث قال في التنقيح: وأما المحاربون لأمير المؤمنين (ع) فإنهم لا يخالفون في قبح فعلهم، ولا في أنهم بغاة؛ ولكنهم يخالفون الشيعة في ثلاثة أصول:
أحدها: في أنهم متأولون غير مصرحين.
والثاني: في أن مسألة الإمامة ظنية.
والثالث: في أن المخالف في القطعيات غير آثم إذا اجتهد؛ ولم تكن القطعيات معلومة بالضرورة من الدين.
فهذه أصول الخلاف بينهم وبين الشيعة؛ وأضعف أصولهم الثلاثة، هذا الأصل الأول؛ لاعترافهم بتواتر حديث عمار، وأمثال ذلك.
قال في التوضيح: وهو قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((إنها تقتله الفئة الباغية))، خرجه أهل الصحاح، والسنن، والمسانيد، والتواريخ، وجميع أهل البيت (ع)، وأهل الحديث، والشيعة، وحكم علماء الحديث بتواتره، /400

(2/400)


منهم: الذهبي في النبلاء في ترجمة عمار؛ وهو مذهب أئمة الفقهاء، ومذهب أهل الحديث، كما نقله عنهم العلامة القرطبي، في آخر كتاب التذكرة، في التعريف بأحوال الآخرة.
...إلى قوله: وفي تخريج الزركشي على أحاديث الرافعي، ذكر ألفاظ هؤلاء المخرجين للحديث.
وقيل: عن أبي دحية أنه قال: كيف يكون فيه اختلاف، وقد رأينا معاوية نفسه لم يقدر على إنكاره، قال: إنما قتله من أخرجه؟ ولو كان حديثاً فيه شك لرده وأنكره؛ وقد أجاب علي ـ رضي الله عنه ـ عن قول معاوية، بأن قال: فرسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قتل حمزة حين أخرجه.
وهذا من علي إلزام لا جواب عنه، انتهى.
قال الزركشي: وقد صنف الحافظ ابن عبد البر جزءاً سماه الاستظهار في طريق حديث عمار، وقال: هذا الحديث من إخبار النبي - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - بالغيب، وأعلام نبوته.
..إلى قوله: وهذا الحديث احتج به الرافعي، لإطلاق العلماء بأن معاوية ومن كان معه كانوا باغين؛ ولا خلاف أن عماراً كان مع علي ـ رضي الله عنه ـ وقتله أصحاب معاوية.
وقال إمام الحرمين في الإرشاد: وعلي ـ كرم الله وجهه ـ كان إماماً حقاً في ولايته، ومقاتلوه كانوا بغاة.
وقال الأستاذ عبد القاهر البغدادي: أجمع فقهاء الحجاز والعراق ممن تكلم في الحديث والرأي، منهم: مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، والأوزاعي، والجمهور الأعظم من المتكلمين، أن علياً (ع) مصيب في قتاله لأهل صفين، كما أصاب في قتاله أهل الجمل؛ وأن الذين قاتلوه بغاة.
..إلى قوله: وأجمعوا على ذلك.
ونقل العبادي في طبقاته، قال محمد بن إسحاق: كل من نازع علي بن /401

(2/401)


أبي طالب، فهو باغ؛ على هذا عهدت مشائخنا، وهو قول ابن إدريس ـ يعني الشافعي ـ.
انتهى بلفظه من تخريج الزركشي.
قلت: فقد رأيتَ كلام الحافظ محمد بن إبراهيم في هذا المقام، في الاعتراف بضعف أصولهم، واختلال أساس مذاهبهم؛ ولا سيما هذا الأصل الكبير، الذي عليه مدار القبول، في أخبار سنة الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وهو ينافي ما ملأ به مؤلفاته في غير مقام، من الذب عنهم، والنصرة لهم، والمنابذة لمن أنكر عليهم من نجوم العترة، وسادات الأسرة.
وانظر إلى كلامه، لما كان في مقام التجميل عليهم، والرد عنهم، حيث قال ما لفظه: ومن مهمات هذا الباب: القول بعدالة الصحابة كلهم في الظاهر، إلا من قام الدليل على أنه فاسق تصريح؛ ولا بد من هذا الاستثناء على جميع المذاهب.
وأهل الحديث، وإن أطلقوا القول بعدالة الصحابة كلهم، فإنهم يستثنون من هذه صفته؛ وإنما لم يذكروه لندوره.
ثم ساق في الاستشهاد على ما ادعاه لهم، وكل ذلك تكلف من عنده؛ لئلا تلحقهم شناعة هذا المذهب الفاسد.
وما ذكره خلاف صرائح أقوالهم وأعمالهم، فإنهم لا يستثنون أحداً.
[نماذج من تمحلاته انتصاراً لهم ـ والرد عليه]
ولم يزل في عناء من هذا، تارة يقول: إنهم لديهم متأولون.
والجواب عليه: أن هذا خلاف الكتاب، والسنة المتواترة؛ وقد أقر هو بفساد ذلك، وصرح بالرد عليهم فيما هنالك.
ومرة بأنهم يستثنونهم ويصرحون بفسقهم، ويلفق له أقاويل صدرت على جهة الندرة من أفراد منهم، في بعض من هؤلاء الفسقة المتمردين.
وليس ذلك إلا من مناقضاتهم، وإخراج الله الحق على ألسنتهم؛ وكتب الجمهور الأغلب منهم: أهل الصحاح ـ الملتزمون لصحة ما رووه ـ وغيرهم، مشحونة برواياتهم، والتصريح بقبولهم وعدالتهم.
وأخرى يعتذر بأنهم إنما رووا عنهم /402

(2/402)


أحاديث يسيرة.
إلى غير ذلك من الأعذار، والتمحلات الباطلة.
واسمع إلى ما قاله في التنقيح، في شأن مروان الباغي بالنص النبوي الصريح، وهو من رجال البخاري في كتابه الصحيح، وقد تكلم على رواية، ما لفظه: فهي مردودة بمروان بن الحكم، فهو مجروح عند أهل البيت، وعند غيرهم؛ بل لا يعلم في ذلك خلاف؛ وإنما روى عنه المحدثون أحاديث يسيرة، لما رواها معه غيره من الثقات، كما بينت ذلك في العواصم، انتهى.
فيقال له: أما قولك: بل لا يعلم في ذلك خلاف، فيقال: بل خالف في ذلك أصحابك، الذين شمرت في تنزيههم بما لا يرتضونه، واعتمادهم له في صحاحهم، التي التزموا ألا يرووا فيها إلا الصحيح بروايات العدول، أكبر شاهد على ذلك.
وهذا التصريح من ابن حجر بتنزيه هذا الفاسق.
قال في الهدي الساري: مروان بن الحكم.
..إلى قوله: يقال: له رؤية؛ فإن ثبتت، فلا يعرج على من تكلم فيه.
..إلى قوله: فأما قتل طلحة، فكان متأولاً فيه، كما قرره الإسماعيلي وغيره.
..إلى قوله: وقد اعتمد مالك على حديثه ورأيه، والباقون، سوى مسلم، انتهى.
وأما قولك: أحاديث يسيرة؛ فليست بيسيرة، ولو سلم، فلا يجوز الاعتماد على أمثاله في يسيرة ولا كثيرة؛ فكل ذلك محرم وخيانة للسنة الشريفة.
وأما قولك: لما رواها معه غيره؛ فهو على فرض صحته غير مخلص، بعد تنصيص صاحب الكتاب، على أنه لم يدخل فيه إلا الصحيح، والتصريح بتعديل جميع رواته، حتى صاروا يعتمدون على رجاله، وإذا رووا عنهم يقولون: برجال الصحيح.
فلو سلم له عدم الاعتماد على ذلك، فقد وقع في التغرير والتلبيس على المسلمين؛ ويلزم ألا يوثق بتعديل أحد من رجاله، الذين يروي /403

(2/403)


حديثهم من غير طرقهم، وهو خلاف إجماعهم؛ بل لو لم يذكر الرواية عن غيرهم، فلا وثوق؛ لاحتمال أن عنده طريقاً لحديثهم، غير ما ذكره؛ ولا قائل بهذا منهم.
وهذا كله إنما هو مجاراة له على تكلفه وتعسفه للأعذار الفاسدة، التي هي عندهم غير مقبولة ولا مرضية؛ فإنهم مصرحون بالاعتماد على هذا المارد، وعلى أضرابه، وعلى التولي لهم، والترضي عنهم، بلا حِشمة، ولا تقية؛ وإن ندر من بعضهم فلتة في غير مقام الرواية، على سبيل المناقضة، مع إصرارهم على خلاف ذلك كما سبق، فليس بنافع، ولا موجب لتنزيه الجميع.
ولقد أحسن ابن حجر وغيره، في عدم التفاته إلى هذه التمعذرات الضئيلة، والتعللات العليلة، وتصريحه بما عندهم في شأنه؛ فرب عذر أقبح من الذنب، وقد كان أحق من صاحبنا بالانتصار لهم والذب؛ ولكن يأبى الله إلا أن يخرج على ألسنتهم ما كانوا كاتمين.
على أن هذه الفلتات التي صدرت من البعض في شأن مروان، إنما أوردوها في التشنيع عليه بقتل صاحبه طلحة بن عبيدالله، الخارج بغياً ونكثاً على أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ وقتاله للمشؤوم الباغي، المُلْحد في الحرم، التارك للصلاة على رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ إرغاماً لآل محمد ـ صلوات الله عليهم ـ أربعين جمعة، عبدالله بن الزبير ـ حسبه الله ـ وقتله للباغي، المتولي لرأس القاسطين، النعمان بن بشير الأنصاري.
قال الذهبي في الميزان في ترجمة طلحة: إنه الذي قتله، رماه بسهم على جهة الغدر؛ وهو من جملة أصحابه.
وقال: قتل طلحة ونجا، فليته ما نجا.
وقال ابن حزم: وهو أول من شق عصا المسلمين، بلا شبهة ولا تأويل، وقتل النعمان بن بشير؛ وذكر أنه خرج على ابن الزبير، بعد أن بايعه على الطاعة...إلى آخر كلامهم.
ولم يعرجوا على ما صدر منه على سيد الوصيين، وصنو الرسول /404

(2/404)


الأمين، الذي وردت فيه النصوص من رب العالمين، على لسان سيد المرسلين ـ صلوات الله عليهم ـ ولكن كفانا شهادة أصدق الصادقين؛ فإن ترضوا عنهم، فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين.
ومن اعتذاراته لهم قوله في العواصم ما لفظه: فإن قلت: فما الوجه في روايته عنهم؟ فالجواب:
...إلى قوله: إن الرواية لا تدل على التعديل، كما ذكره الإمام يحيى، وابن الصلاح.
ثم ذكر قول النووي في شرح مسلم: إنه قد روى مسلم في الصحيح عن جماعة من الضعفاء وغيرهم.
قلت: سبحان الله! وهذا بمكان من التخبطات الواضحة، والمغالطات الفاضحة.
فيقال: صحيح أن الرواية لا تدل على التعديل؛ ولكن ذلك في حق من لم يصرح بأنه لا يروي إلا عن عدل، ولم يلتزم أنه لا يدخل في كتابه إلا المختار من الصحيح.
فأما من صرح بذلك، فمعلوم أن روايته تصحيح، وأي تصحيح.
ولقد رام لهم بهذا الاعتذار، فعاد عليهم وعليه بالفساد والإهدار؛ فنقض ما أصّلوا، وحلّ ما أبرموا، وصير ما ملأوا به الأوراق، ووسعوا فيه النطاق، من الدعاوي الطويلة العريضة، بتصحيح ما اشتملت عليه كتب الصحاح، وتجاسروا عليه من دعوى الإجماع، على غير مبالاة بما وقعوا فيه من الافتضاح، عند أرباب الإطلاع، قولاً مهجوراً، وهباء منثوراً.
فإذا كانت رواياتهم في الصحاح لا تقتضي التعديل، فأي مزية بقيت لها؟ وأي معنى لما سبق له ولهم من التكثير والتطويل، والقال والقيل؟
وهكذا يتخبط في مساقط الأنظار، وميادين العثار، كل من يروم تقويم الباطل، وتعديل المائل.
وإلا فمثل هذا السيد الحافظ لا يخفى عليه ركاكة هذه التمحلات، وسخافة تلك التلونات؛ ولكن حبك للشيء يعمي ويصم.
ومع هذا فحاله أجمل، /405

(2/405)


وسبيله أعدل؛ إذ لم يحمله على سلوك هذا العوج، إلا علمه بعدم استقامة ما هم عليه من اضطراب المنهج؛ ولكن العجب من طائفة من المقلدين، يدعون المشي على منارهم، والاقتفاء لآثارهم، بقلوب غلف، وآذان صم، قد غطى الباطل على بصائرهم، وغشى التقليد على أبصارهم.
لقد أسمعتَ لو ناديتَ حياً .... ولكن لا حياة لمن تنادي
إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين، وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون؛ والحمد لله رب العالمين.
[بقية الأقوال في مجهول العدالة]
هذا، والذي قدمته في تعريف المجهول وأقسامه، هو قول أهل الأصول؛ وللقوم مصطلح آخر، يخالف ذلك في بعض أحكامه، فأورده هنا على سياق ما ذكره السيد الحافظ محمد بن إبراهيم؛ فقد استوفى ذلك، واعترف ببطلان ما ابتدعوه في بعض تلك المسالك.
قال في التنقيح: قال المحدثون: في قبول رواية المجهول خلاف؛ وهو على ثلاثة أقسام: مجهول العين، ومجهول الحال ظاهراً وباطناً، ومجهول الحال باطناً.
الأول: مجهول العين، وهو: من لم يرو عنه إلا راوٍ واحد؛ وفيه أقوال، الصحيح ـ الذي عليه أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم ـ أنه لا يقبل.
والثاني: أنه يقبل مطلقاً.
والثالث: إن كان المنفرد بالرواية عنه لا يروي إلا عن عدل، قُبِل، وإلا، لم يقبل. /406

(2/406)


والرابع: إن كان مشهوراً في غيرالعلم بالزهد أو النجدة، قُبِل، وإلا فلا؛ وهو قول ابن عبد البر.
والخامس: إنْ زكاه أحد من أئمة الجرح والتعديل مع رواية واحد عنه، قُبِل، وإلا فلا؛ وهو اختيار أبي الحسن بن القطان، في بيان الوهم والإيهام، كتاب له.
قال: والسادس: إن كان صحابياً، قُبِل؛ وهو مذهب الفقهاء، وبعض المحدثين، وشيوخ الاعتزال.
رواه عن المعتزلة ابن الحاجب في المنتهى، واختاره الشيخ أبو الحسين في المعتمد، والحاكم في شرح العيون.
وسوف يأتي بيان هذه المسألة على التفصيل عند ذكر الصحابة.
قال: وقد عرفت أن حكاية المحدثين لهذا الخلاف تدل على أن مذهب جمهورهم أن من روى عنه عدل، وعدّله آخر غير الراوي، فهو عندهم مجهول، بل هو عندهم مجهول العين؛ لأنهم في علوم الحديث حكوا قبول من هذه صفته، اختياراً لأبي الحسن القطان فقط، وهذا قول ضعيف.
ثم ساق في وجه تضعيفه؛ لكن كلامه في التنقيح مختل التركيب، وإن كان المقصود منه واضحاً.
وقد اعترضه الشارح، ونقل كلام المؤلف الوزير في المختصر، وهو ما لفظه: فإن سمي المجهول، وانفرد واحد عنه، فمجهول العين؛ والحق عند الأصوليين أنه إذا وثقه ثقة، الراوي أو غيره، قُبِل، خلافاً للمحدثين؛ والقول الصحيح قول الأصوليين، انتهى.
(رجعنا إلى تمام كلامه في التنقيح).
قال: لا معنى لتسميته مجهولاً؛ لأنهم لم يشترطوا العلم بعينه، وبعدالته، ويوجبوا أن يبلغ المخبرون بها عدد التواتر؛ ولو اشترطوا ذلك، لم تساعدهم الأدلة عليه؛ فإن أخبار الآحاد ظنية، واشتراط /407

(2/407)


مقدمات علمية في أمور ظنية غير مفيد؛ بل الذي تقتضيه الأدلة أنه لو وثقه واحد، ولم يرو عنه أحد، أو روى عنه واحد ووثقه هو بنفسه، لخرج عن حدّ الجهالة؛ فقد نصّ أهل الحديث أن التعديل يثبت بخبر الواحد.
هذا مع ما يعرض في التعديل من المصانعة والمحاباة، فكيف بالإخبار بالوجود؟!.
...إلى قوله: فإذا قبل واحد في توثيق الراوي وإسلامه، فهو بالقبول في وجوده أولى وأحرى.
وقد أشار ابن الصلاح إلى ما ذكرته، في أن ارتفاع الجهالة في التوثيق بالواحد تقتضي أن ترتفع جهالة العين بالواحد؛ ولم يردوا عليه ذلك بحجة، وإنما ردوا عليه بكون ذلك عرف المحدثين، وقد نص جماعة من كبار المحدثين على هذا العرف.
قلت: أي عرفهم المردود المضعف، في مجهول العين.
قال: منهم: الخطيب، ومحمد بن يحيى الذهلي؛ وحكاه الحاكم عن البخاري ومسلم.
قلت: وقد صح بإقرار أهل الحديث كون البخاري ومسلم خرَّجا عمن لم يرو عنه إلا واحد.
قال ابن الصلاح ـ بعد ذكره لجماعة منهم ـ ما لفظه: في أشياء كثيرة في كتابيهما على هذا النحو؛ وذلك دال على مصيرهما إلى أن الراوي قد يخرج عن كونه مجهولاً، مردوداً برواية واحد عنه.
قلت: بل هو قادح على مصطلح أهل الحديث في صحيحيهما بكل حال؛ لتصحيحهم القول الأول، وهو عدم القبول، كما سبق.
ومع ثبوت رواية الحاكم عنهما يكون أيضاً قدحاً عليهما؛ إذْ خالفا مذهبهما، وصححا ما ليس بصحيح عندهما؛ فلا محيص لهم عن هذا الإيراد، كما لا مخرج لهم عن غيره من الفساد، والله /408

(2/408)


ولي السداد.
قال السيد محمد بن إبراهيم: وذكر الذهبي ما يقتضي ذلك، فقال: زينب بنت كعب بن عجرة، مجهولة، لم يرو عنها غير واحد؛ فعلى هذا لا يكون قولهم في الراوي: (إنه مجهول) جرحاً صحيحاً عند مخالفيهم.
...إلى قوله: وقال الخطيب: المجهول عند أصحاب الحديث كل من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه، ولا عرفه العلماء به، ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راوٍ واحد.
وقال الخطيب: أقل ما ترتفع به الجهالة أن يروي عنه اثنان فصاعداً من المشهورين بالعلم؛ إلا أنه لا يثبت له حكم العدالة بروايتهما عنه.
قال محمد بن إبراهيم: فزاد الخطيب في التعريف لعرفهم أمرين، لا دليل عليهما:
أحدهما: اشتهار المجهول بطلب العلم، ومعرفة العلماء لذلك منه.
قلت: كذا (اشتهار المجهول) في نسختين، وسكت عليه الشارح، وهو سهو؛ والصواب عدمه، وهو واضح.
قال: والثاني: أن يكون الراويان عنه من المشهورين بالعلم، في أقل ما ترتفع به الجهالة؛ فهذا يزيدك بصيرة في عدم قبول حكمهم بجهالة الراوي.
قال الأمير: لأنهم تعنتوا في حقيقته، وأتوا بشرائط غير صحيحة؛ لعدم الدليل عليها.
قلت: وهم على هذا في أكثر قواعدهم القاعدة، ومصطلحاتهم الفاسدة، مائلون عن الدليل، عادلون عن السبيل، راكبون للعوج، ناكبون عن واضح المنهج؛ وما العجب إلا من متابعة مثل هذين العالمين لهم: الوزير والأمير، في كثير مما لا علم فيه ولا هدى ولا كتاب منير.
وعين الرضى عن كل عيب كليلة
ولكن عين السخط تبدي المساويا /409

(2/409)


وقد أنصفا في هذا الكلام؛ فلو سلكا هذا المسلك في الإنصاف والاعتراف بالحق في كل مقام.
ونعود إلى التمام، والله ولي الهداية والإنعام.
قال محمد بن إبراهيم: لأن العلم ـ على الصحيح ـ ليس من شروط الراوي؛ ولو كان شرطاً فيه لم يقبل كثير من الصحابة والأعراب، فلم تكن الصحبة بمجردها تفيد العلم.
وقد ثبت أن ذلك لا يشترط في الشهادة، وهي آكد من الرواية؛ فإذا لم تشترط في الراوي، فأولى ألا تشترط فيمن روى عنه.
[ذكر مجهول الحال في الظاهر والباطن]
القسم الثاني: مجهول الحال في الظاهر والباطن، مع كونه معروف العين؛ وفيه أقوال:
الأول: أنه لا يقبل؛ حكاه ابن الصلاح، وزين الدين عن الجماهير.
والثاني: يقبل مطلقاً، وإن لم يقبل مجهول العين.
والثالث: إن كان الراويان عنه لا يرويان إلا عن عدل، قُبِل، وإلا فلا.
قال الأمير في التوضيح: هكذا سرد هذه الأقوال ابن الصلاح، ونقلها عنه زين الدين؛ ولم يذكرا دليلاً عنهم، كما فعله المصنف.
قال الوزير في التنقيح: القسم الثالث: مجهول العدالة الباطنة، وهو عدل في الظاهر؛ فهذا يحتج به بعض من رد القسمين الأولين.
..إلى قوله: قال ابن الصلاح: يشبه أن يكون العمل على هذا الرأي في كثير من كتب الحديث المشهورة عن غير واحد من الرواة، الذين تقادم العهد بهم، وتعذرت الخبرة الباطنة بهم.
قلت: وهذا يدل على أن مقصدهم بمعرفة العدالة الباطنة هي الخبرة، وأقوال المزكين؛ لأن الباطنة يتعذر عليها الاطلاع إلا بنص أو إجماع، ويستوي حينئذ قديم العهد وحديثه.
وفي كلام ابن الصلاح هذا، الاعتراف بقبولهم مجهول العدالة، الذي لم تثبت له خبرة ولا تزكية؛ فسبحان الله! ما /410

(2/410)


أعجب شأن هؤلاء القوم! لا ينفكون عن التخبط والتخليط، ولا يبرحون بين إفراط وتفريط؛ تارة يتشددون فيقولون بما لا دليل عليه، وأخرى يخرجون عما اقتضاه الدليل؛ فنعوذ بالله من الخذلان، والله المستعان.
وقد نصّ بعضهم على أن المراد من العدالة الباطنة ما ذكرناه.
قال الزين: كلام الرافعي في الصوم، أن العدالة الباطنة هي: التي يرجع فيها إلى أقوال المزكين، نقله عنه في التنقيح.
قال فيه: وأطلق الشافعي كلامه في اختلاف الحديث أنه لا يقبل المجهول، وحكاه البيهقي عنه في المُدْخِل.
ونقل الروياني عن نص الشافعي في الأم: أنه لو حضر العقد رجلان مسلمان، ولا يعرف حالهما في الفسق والعدالة، انعقد النكاح بهما في الظاهر؛ لأن ظاهر المسلمين العدالة؛ ذكره في البحر.
نقل ذلك زين الدين.
[ذكر المستور]
ولما ذكر ابن الصلاح هذا القسم الأخير، قال: وهو المستور.
..إلى قوله: قال الزين: وهذ الذي نقل كلامه آخراً هو البغوي، وتبعه عليه الرافعي؛ وحكى الرافعي في الصوم وجهين في قبول رواية المستور من غير ترجيح.
وقال النووي في شرح المهذب: إن الأصح قبول روايته.
قال الوزير في التنقيح: ظاهر المذهب ـ أي مذهب الزيدية ـ قبول هذا، المسمى عندهم بالمستور.
قلت: بل الصريح المحقق للمذهب رده، كما سبق نقله الصحيح من مؤلفاتهم، وتحقيق الدليل عليه.
قال: بل قد نص على قبوله، وسماه بهذه التسمية الشيخ أحمد في الجوهرة؛ ولم أعلم أن أحداً من الشارحين اعترضه.
قلت: هذا على فرض الصحة ليس بحجة؛ وإنما هو مذهب صاحب الجوهرة، ومن قرره، ولا يفيد إضافة ذلك إلى مذهب أئمة العترة، ولا إلى غير القائل به /411

(2/411)


من طائفة الزيدية، مع أن صاحب الجوهرة لم يرد به المجهول، وقد سبق للمؤلف نقل كلامه، وتفسيره بغير هذا التفسير؛ وقد وقع بينهم اختلاف في معناه واضطراب كثير.
[تخريج حديث الأعرابيين في الإهلال، وترجمة ربعي بن حراش]
قال: والأدلة تناوله، سواء رجعنا إلى العقل، وهو الحكم بالراجح؛ لأن صدقه راجح.
قلت: وهذا غير صحيح؛ فإنه مع عدم معرفة الحال بخبرة أو تزكية، لا وجه للترجيح.
قال: أو إلى السمع، وهو قبول النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لمن هو كذلك، كالأعرابيين، بالشهادة بالفطر في رمضان.
قلت: قال المؤلف: رواه ابن كثير في إرشاده عن أبي عمير، عن أنس، عن عمومته من الأنصار، أن الناس اختلفوا في آخر يوم من رمضان؛ فقدم أعرابيان، فشهدا لأهلاَّ الهلال أمس عشية، فأمر النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ الناس أن يفطروا، وأن يغدوا إلى مصلاهم.
قلت: وأخرج خبر الأعرابيين، الإمام المؤيد بالله (ع) في شرح التجريد.
وأخرجه ابن أبي شيبة بلفظ: حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن أبي عمير، عن أنس: حدثني عمومتي من الأنصار، قالوا: أغمي علينا هلال شوال، فأصبحنا صياماً، فجاء ركب آخر النهار، فشهدوا عند رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - أنهم رأوا الهلال بالأمس؛ فأمر رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - أن يفطروا، ويخرجوا إلى عيدهم، من الغد.
وأخرجه البيهقي عن أبي عوانة، عن أبي بشر بتمام سنده، ومتنه.
وقال: رواه بمعناه شعبة، وهشيم بن بشير؛ وذكر لهما سنداً آخر.
أفاده /412

(2/412)


في الروض.
قال المؤلف: ورواه بنحوه أحمد، وابن ماجه، ورواه أحمد أيضاً، وأبو داود بهذا اللفظ المتقدم، وهو لفظ أبي داود من طريق أخرى، عن ربعي بن حراش، عن رجل من أصحاب النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
قلت: ربعي (بكسر الراء، وسكون الموحدة، فمهملة مكسورة) وحِراش (بمهملتين أولاهما مكسورة، فألف، فشين معجمة).
ترجم لربعي السيد الإمام في الطبقة الثانية، فقال: أبو مريم الكوفي، مخضرِم؛ عن علي (ع).
قال في الكاشف: قانت لله لم يكذب قط، وقال العجلي: من خيار الناس لم يكذب قط.
توفي سنة أربع ومائة.
خرج له الجماعة، وأبو الغنائم النرسي، انتهى.
قال: والأعرابي بالشهادة بالصوم في أوله.
قلت: قال المؤلف في بحث آخر من التنقيح: ومن ذلك ما روي عن ابن عباس، قال: جاء أعرابي إلى النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، فقال: إني رأيت الهلال ـ يعني رمضان ـ.
فقال: ((أتشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؟)).
قال: نعم.
قال: ((يا بلال، أذن في الناس أن يصوموا غداً))، رواه أهل السنن الأربع، وابن حبان صاحب الصحيح، والحاكم أبو عبدالله، وقال: هو حديث صحيح، واحتج به أبو الحسين المعتزلي في المعتمد، وذكره الحاكم أبو سعيد في شرح العيون، واحتج به الفقيه عبدالله بن زيد العنسي الزيدي في كتاب الدرر. /413

(2/413)


قلت: وقد ذكره الإمام المؤيد بالله (ع) في شرح التجريد، وأجاب على ما في ظاهره من الاكتفاء بشهادة واحد على الرؤية؛ وكذا غيره من أئمتنا (ع)، وله مقام آخر، ولا دلالة في جميع ذلك على قبول المجهول؛ وقد سبق الكلام عليه والجواب عنه قريباً بما يكفي.
ومن استدلالاته التي لا يزال يكررها في التنقيح، والروض الباسم، والعواصم، قوله فيها ما لفظه: وذلك أن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أرسل علياً، ومعاذاً إلى اليمن قاضيين، ومفتيين، ومعلمين، ولا شك أن القضاء مرتب على الشهادة، والشهادة مبنية على العدالة، وهما لا يعرفان أهل اليمن، ولا يخبران عدالتهم؛ وهم ـ بغير شك ـ لا يجدون شهوداً على ما يجري بينهم من الخصومات إلا منهم، فلولا أن الظاهر العدالة في أهل الإسلام في ذلك الزمان، لما كان إلى حكمهما بين أهل اليمن سبيل.
وقال قبل ذلك: وهو أثر صحيح ثابت في جميع دواوين الإسلام؛ بل متواتر النقل، معلوم بالضرورة، وهو عندي حجة قوية، صالحة للاعتماد عليها.
قلت: وهذا لا حجة فيه عند التحقيق، بل هو مختل بأول نظر لأرباب التوفيق، فلا يصح عليه الاعتماد؛ إذْ لا أصل له في المطلوب ولا عماد، وقد كنت علقت عليه قبل التأليف، ما لفظه: هذا غير لازم؛ لأنه ممكن أن يتعرفا أحوال أهل العدالة وغيرهم بالخبرة، في مدة قريبة، وأن تتواتر لهما الأخبار بعدالة كثير منهم وبضدها؛ ثم من أين له أن جميع أهل اليمن مجهولون عندهما؟ وقد وفد منهم إلى رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وافدون، وهاجر إلى المدينة المشرفة منهم كثيرون، فهذا الاستدلال في غاية الاختلال.
وأعجب من هذا أنه استدل بذلك في التنقيح على قبول المجهول من وجه /414

(2/414)


آخر، قال فيه ما لفظه: ومما يدل على ذلك إرساله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ رسله كمعاذ، وأبي موسى إلى اليمن، وهما عند أهل اليمن مستوران، وإن كانا عند من يخصهما في أرضهما مخبورين، انتهى.
فأقول، وبالله أحول: إن هذا من الاختلال، بمحل لا يحوج إلى الاستدلال.
أما أولاً: فمن صح أن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أرسله للقضاء بالأحكام، وتعليم معالم الإسلام، كيف يقول ذو معرفة بل ذو فكرة: إنه لديهم مستور بمعنى مجهول كما هو في كلامه أنه غير مخبور؟ وأي طريق إلى العرفان، عند جميع ذوي الإيمان، أقوى وأرفع، وأولى وأنفع، من إرسال سيد المرسلين ـ صلوات الله عليهم ـ من أرسله لهذا الشأن؟ وأي بيان فوق هذا البيان؟
وأما ثانياً: فإنه إن كان الاحتجاج بإرساله أمير المؤمنين، ومعاذاً، ونحوهما من أعيان الصحابة الراشدين ـ رضي الله عنهم ـ فهم بمحل من العرفان، لا يخفى على جميع أهل الإيمان؛ بل وغيرهم من أهل سائر الأديان.
وأما أبو موسى الأشعري ومن كان على شكله، فمن صح إرساله منهم، فهو على وجهين:
أحدهما: أنه ليس للقضاء، ولا الفتيا، ولا التعليم؛ وإنما هو من باب استعمال الفاسق ونحوه على معين مخصوص، لا يتمكن من الخيانة فيه على وجه الاستعانة؛ لضرب من الصلاح في الجهاد، وقد استعمل الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ عمرو بن العاص، وأبا سفيان بن حرب، وأشباههما، على مثل ذلك.
وثانيهما: أن يكون ذلك في حال الاستقامة والستر قبل ظهور العصيان، ووضوح الطغيان، ولا يمنع ذلك كون الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قد أوحي إليه بما يكون منهم في مستقبل الزمان؛ إذ المعاملة باعتبار الحالة التي يكون صاحبها عليها، لا بما سيكون منه، /415

(2/415)


ولا بما كان، كما هو معلوم؛ ولكن هذا الاحتمال لا يصح في مثل أبي موسى؛ لما ثبت من أصالة فساده ونفاقه، وتقادم عهد عناده وشقاقه؛ فيحمل على الوجه الأول.
[كلام على أبي موسى الأشعري ـ وترجمته]
قال في شرح النهج: ونحن نذكر نسب أبي موسى، وشيئاً من سيرته وحاله، نقلاً من كتاب الاستيعاب لابن عبد البر المحدث، ونتبع ذلك بما نقلناه من غير الكتاب المذكور.
قال ابن عبد البر: هو عبدالله بن قيس بن سليم ـ وأتم نسبه إلى قحطان ـ.
قال: واختلف هل هو من مهاجرة الحبشة أم لا؟ والصحيح أنه ليس منهم، ولكنه أسلم، ثم رجع إلى بلاد قومه؛ فلم يزل بها حتى قدم هو وناس من الأشعريين على رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ فوافق قدومهم قدوم أهل السفينتين جعفر بن أبي طالب، وأصحابه من أرض الحبشة.
...إلى قوله: فنزل أبو موسى الكوفة وسكنها؛ فلما كره أهل الكوفة سعيد بن العاص، ودفعوه عنها، ولوا أبا موسى، وكتبوا إلى عثمان يسألونه أن يوليه، فأقره على الكوفة؛ فلما قتل عثمان عزله علي (ع) عنها، فلم يزل واجداً لذلك على علي (ع) حتى جاء منه ما قال حذيفة فيه؛ فقد روى حذيفة فيه كلاماً كرهت ذكره.
قال الشارح: الكلام الذي أشار إليه أبو عمر بن عبد البر، ولم يذكره، قوله فيه ـ وقد ذكر عنده بالدين ـ: أما أنتم فتقولون ذلك، وأما أنا فأشهد أنه عدو لله ولرسوله، وحرب لهما في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد، يوم لا ينفع /416

(2/416)


الظالمين معذرتهم، ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.
وكان حذيفة عارفاً بالمنافقين، أسرّ إليه رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أمرهم، وأعلمه أسماءهم.
قلت: حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ توفي قبل حدوث قتال الناكثين، والقاسطين، والمارقين، كما سبق.
قال: وروي أن عماراً سُئِل عن أبي موسى، فقال: لقد سمعت فيه من حذيفة قولاً عظيماً، سمعته يقول: صاحب البرنس الأسود؛ ثم كلح كلوحاً علمت منه أنه كان ليلة العقبة بين ذلك الرهط.
قلت: وفي تفريج الكروب: قال حذيفة ـ وقد دخل عبدالله، وأبو موسى المسجد ـ: أحدهما منافق.
ثم قال: إن أشبه الناس هدياً، ودلاً، وسمتاً، برسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ عبدالله.
رواه الذهبي في النبلاء، عن الأعمش، عن شقيق، انتهى.
[ترجمة الأعمش وسويد بن غَفَلَة]
قلت: الأعمش من خيار الشيعة، وشقيق هو أبو وائل، من التابعين الأفاضل، وقد سبقا، وسيأتي لهما، ولمن هو على صفتهما ذكر ـ إن شاء الله تعالى ـ في محله.
قال الشارح: وروي عن سويد بن غفلة.
قلت: قال السيد الإمام في الطبقة الثانية: (بفتح المعجمة، والفاء، واللام) الجعفي الكوفي أبو أمية؛ أدرك الجاهلية، ولد عام الفيل.
..إلى قوله: سمع علي بن أبي طالب، وعبدالله بن مسعود.
..إلى قوله: وثقه ابن معين، وقال في الكاشف: ثقة إمام زاهد قوام.
توفي سنة إحدى ومائتين وله عشرون ومائة.
خرج له الجماعة، وأئمتنا الخمسة إلا الجرجاني.
قال: كنت مع /417

(2/417)


أبي موسى على شاطئ الفرات في خلافة عثمان، فروى لي خبراً عن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قال: سمعته يقول: ((إن بني إسرائيل اختلفوا، فلم يزل الاختلاف بينهم حتى بعثوا حكمين ضالين ضلا وأضلا من اتبعهما؛ ولا ينفك أمر أمتي حتى يبعثوا حكمين يَضِلان ويُضِلان من اتبعهما))، فقلت له: احذر يا أبا موسى أن تكون أحدهما.
قال: فخلع قميصه، وقال: أبرأ إلى الله من ذلك، كما أبرأ من قميصي هذا.
[أبو موسى الأشعري عند المعتزلة]
قال: فأما ما يعتقده المعتزلة فيه، فأنا أذكر ما قاله أبو محمد بن متويه في كتاب الكفاية.
قال ـ رحمه الله ـ: أما أبو موسى، فإنه عظم جرمه بما فعله، وأدى ذلك إلى الضرر، الذي لم يخف حاله؛ وكان علي (ع) يقنت عليه وعلى غيره.
وروي عنه (ع) أنه كان يقول في أبي موسى: صُبغ بالعلم صبغاً، وسُلخ منه سلخاً.
قال: وأبو موسى هو الذي روى عن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أنه قال: ((كان في بني إسرائيل حكمان ضالان، وسيكون في أمتي حكمان ضالان ضال من اتبعهما))، وأنه قيل له: لا يجوز أن تكون أحدهما.
فقال: لا ـ أو كلاماً هذا معناه ـ.
فلما بُلي به قيل فيه: البلاء موكل بالمنطق.
قلت: وأخرج الطبراني في الكبير، عن سويد بن غفلة، قال: سمعت أبا موسى الأشعري يقول: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((سيكون في هذه الأمة حكمان ضالان ضال من اتبعهما)).
فقلت: يا أبا موسى، انظر لا تكون أحدهما.
قال: فوالله ما مات حتى رأيته أحدهما.
انتهى من النصائح.
قال الشارح: ولم يثبت في توبته ما ثبت في توبة غيره؛ وإن كان الشيخ أبو علي قد ذكر في آخر كتاب الحكمين أنه جاء إلى أمير المؤمنين (ع) في مرض الحسن بن علي، فقال له: أجئتنا عائداً أم شامتاً؟
فقال: بل عائداً ـ /418

(2/418)


وحدث بحديث في فضل العيادة.
قال ابن متويه: وهذه أمارة ضعيفة في توبته، انتهى كلام ابن متويه.
وذكرته لك؛ لتعلم أنه عند المعتزلة من أرباب الكبائر، وحكمه حكم أمثاله ممن واقع كبيرة، ومات عليها.
قلت: فهذا حكمه عند المعتزلة.
[الأشعري عند العترة]
فأما العترة (ع) فحكمه عندهم، وحكم أمثاله، ما حكم به فيهم أبواهم: الرسول الأمين، وصنوه سيد الوصيين ـ صلوات الله عليهم وسلامه ـ.
وقد تقدم ما فيه بلاغ لقوم عابدين؛ وما المقصد بما ذكرت هنا في شأنه، إلا الاستشهاد بموضع الدلالة من ابتداء أمره إلى نهايته.
[ذبُّ الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير عن أبي موسى والرد عليه]
ولقد بلغ التعصب بالحافظ محمد بن إبراهيم الوزير كل مبلغ، حتى وقع منه الذبّ عنه في العواصم، والروض الباسم؛ ولكنه لم يستطع الإنكار، لما ورد فيه من الذم اللازم في صحيح الأخبار؛ لكونه قد رواه أهل سنتهم الكبار، فعدل إلى التحريف، والتأويل السخيف، المخرج للنصوص المتواترة النبوية، في نفاق باغض ولي المؤمنين وسيد البرية، عن معانيها المعلومة الجلية، بما لا يخفى بطلانه على ذي روية.
فمنها: أنه ما كان ذلك إلا لبعض الأسباب في أول الزمان، وهذه مكابرة لاحقة بالبهتان؛ لعمومها وإطلاقها في كل حال، ولأي سبب وفي كل أوان، على لسان سيد ولد عدنان، ولا مخصص ولا مقيد لسبب من الأسباب ولا لزمن من الأزمان، ونحو ذلك من المباهتة التي تمجها الأسماع، وتنفر عنها الطباع، وتنكرها قلوب ذوي العلم والإيمان.
ولو ساغ مثل هذا التأويل السخيف، لما امتنع كل تحريف، وأدى إلى المخرقة والتلعب بالدين الحنيف، ولأمكن أن يقال: وكذلك بغض رسول الله ـ صلى الله عليه /416

(2/419)


وآله وسلم ـ، وقتاله إنما كان كفراً؛ لقصد رد ما أتى به من عند الله ـ تعالى ـ.
أما إن كان لسبب غير ذلك ككونه من بني هاشم، أو نحو ذلك من الأحوال، المتسعة المجال، فلا.
ولولا تجنب الإكثار لأوردت من كلماته المتناقضة، وأقواله المتدافعة المتعارضة، ما فيه عبرة لأولي الأبصار؛ ونرجو الله صحة رجوعه عن هذه الأخطار، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد أقر بخبر حذيفة، الذي وقعت الإشارة إليه.
قال في الروض الباسم، ما لفظه: وروى فيه ـ أي الذهبي ـ في النبلاء، عن الشعبي، عن حذيفة أنه تكلم في أبي موسى بكلام يقتضي أنه منافق.
ثم قال: في الشعبي تشيع يسير، انتهى.
ثم قال في آخر البحث: وقد قصدت وجه الله في الذب عن هذا الصاحب، المعتمد في نقل كثير من الشريعة المطهرة، لما رأيت الحافظ الذهبي روى ذلك، ولم يقدح في إسناده بما ينفع.
قلت: فيا لله العجب! ما أبعد هذا القصد الذي به يتقرب! وما بقي إلا أن يقصد وجه الله ـ تعالى ـ في الذب عن إبليس؛ لكونه كان طاووس الملائكة، وأبي لهب؛ لكونه عم الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وكذلك امرأته حمالة الحطب.
وأنا أقول: قد قصدت وجه الله، في عداوة أعداء الله، والبراءة من المتعدين لحدود الله، ببيان أحوالهم لأولياء الله، امتثالاً لأمر الله، وإجلالاً لأمثال قول الله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ /420

(2/420)


اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(22)} [المجادلة:22]، وقوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } [الممتحنة:1]، وقوله جل وعلا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } [التوبة:71]، وقوله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ } [التوبة:67]، وقوله سبحانه: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } [النساء:107]، وقوله جل جلاله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } [التوبة:114].
وإجلالاً لقول رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)).
إلى ما لا يحصى من آيات تتلى، وأخبار تملى.
فإن ترضوا عنهم، فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين؛ رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين.
[نقل الحافظ عن الزيدية قبول المجهول ـ والرد عليه]
ولنعد إلى ما نحن فيه، والله الموفق لما يرضيه.
قال في تنقيح الأنظار: أو رجعنا إلى إجماع الصحابة، فقد حكى الشيخ أبوالحسين وغيره قبولهم لأحاديث الأعراب.
قلت: قد سبق القول في أن ليس في ذلك دلالة؛ لعدم تحقق الجهالة.
قال: أو رجعنا إلى أهل البيت (ع)، فقد روى المنصور بالله /421

(2/421)


ـ رضي الله عنه ـ، وأبو طالب، وأهل الحديث، عن علي (ع) أنه كان إذا اتهم الراوي استحلفه، فإذا حلف له قبله.
قلت: المروي عن الوصي ـ صلوات الله عليه ـ أنه كان يحلف الرواة على الإطلاق، حتى الشهود على رؤية الهلال، رواه في المجموع؛ وليس ذلك إلا للاحتياط لا للتهمة؛ إذ لو كانت لما قبلهم، وإن حلفوا؛ ولو كان ذلك يدل على جهالتهم، لكان جميع الرواة من الصحابة وغيرهم مجهولين لديه.
وعلى الجملة، ليس في هذا دلالة على قبول المجهول ولا شبهة، والتأكيد بكل ممكن حسن، في كل ما كان غير متيقن؛ بل وفي بعض المتيقن، فإن بعضه أقوى من بعض، كما هو معلوم عند أرباب الفطن.
قال: وهذا هو الغالب من مذاهب العترة والمعتزلة أهل الأصول.
قلت: بل المشهور خلافه، وكتبهم بذلك شاهدة.
قال: وذكر محمد بن منصور، صاحب كتاب علوم آل محمد، أنه يرى قبول المجاهيل؛ ذكر ذلك في كتابه المسمى بالعلوم.
قلت: قد سبق الكلام في سند الأمالي في ردّ ذلك، وقد وقع الإملاء لكتابه من أوله إلى آخره، في نسخ عديدة، مرة بعد مرة، فلم نجد فيه لفظة واحدة من ذلك، وسبق توجيه ما يقدّر أخذه له منه، وأنه مأخذ غير صحيح؛ فخذه من هنالك موفقاً ـ إن شاء الله تعالى ـ.
[مناقشة الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير لأصحاب الحديث المشترطين للعدالة الباطنة]
هذا، وقد ناقش محمد بن إبراهيم الوزير أصحاب الحديث المشترطين للعدالة الباطنة، مناقشة حسنة، وأورد عليهم فيها إيرادات مستحسنة، والذي يغلب أنه لو أوردها عليهم شيخه السيد الإمام علي بن محمد بن أبي القاسم (ع) لناقضها أبلغ المناقضة، وردها أبلغ الرد؛ لأنه فعل ذلك في جميع ما أورده عليهم مما هو أقوى وأضر، وأدهى وأمر.
لهوى النفوس سريرة لا تعلم .... كم حار فيها عالم متكلّم
فالمسؤول من الله ـ سبحانه ـ التوفيق والسداد، في كل إصدار وإيراد، ولا /422

(2/422)


حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فقال: وقول المحدثين: إنه لا بد من معرفة العدالة الباطنة مشكل، إما لفظاً فقط، أو لفظاً ومعنى؛ فإن أرادوا ما نص عليه الرافعي.
قلت: قد سبق كلامه، وأنه المراد.
قال: من أنهم عنوا بذلك من رُجع في عدالته إلى أقوال المزكين، أشكل عليهم ذلك لفظاً؛ لأن هذا المعنى صحيح، ونحن نقول به.
قلت: هذا عجيب؛ كيف يقول: ونحن نقول به، والقلم لم يجف في الاحتجاج على قبول المجهول، بكل غث وسمين، من المعقول والمنقول؟‍!.
قال: ولكن هذه العبارة ركيكة موهمة أنه لا بد من معرفة باطن الراوي؛ وتعديل المزكين لا يوصل إلى ذلك؛ لأن المزكي إنما عرف الظاهر، ثم أخبرنا به، فقلدناه فيه.
قلت: ليس قبول خبر المزكي من باب التقليد، وإنما هو أخذ بموجب الدليل، الدال على قبول أخبار الآحاد العدول في هذا وغيره؛ وقد سبق له التصريح بأنه ليس بتقليد في هذا الكتاب، وهو الصواب.
قال: فكيف لا نحكم بالعدالة الباطنة إذا عرفنا ما عرفه المزكي من غير واسطة خبرة وتقليده؟
قلت: هذا يفيد أنهم لا يعتدون بالخبرة، ولا يقبلون إلا قول أهل التزكية؛ والظاهر أنهم لا يقولون بذلك، ولا يذهب إليه عاقل؛ لأن الخبرة أقوى من التزكية قطعاً، وقد تقدم في كلام ابن الصلاح ما يدل على ذلك، حيث قال: وتعذرت الخبرة الباطنة بهم...إلخ.
قال: فإن قالوا: المراد بالعدالة الباطنة ما كان عن خبرة، وبالظاهرة ما كان بمجرد الإسلام.
قلنا: من لم يعرف بغير مجرد الإسلام، فقد تقدم في القسمين الأولين من أقسام المجاهيل، وهذا قسم ثالث قد ارتفع عنهما، ولا يرتفع عنهما إلا بخبرة.
فإن قالوا: العدالة الظاهرة ما تعرف بخبرة يسيرة توصل إلى مطلق الظن، والباطنة ما عرف بخبرة كثيرة توصل إلى الظن المقارب؛ وسموا الظن المقارب للعلم علماً دون مطلق الظن، تخصيصاً بما هو أولى به؛ فإن مطلق الظن قد يسمى علماً، فكيف بأقواه؟ /423

(2/423)


قلنا: الظن في القوة لا ينقسم إلى قسمين فقط، ولا يقف على مقدار، ولا يمكن التعبير عن جميع مراتبه بالعبارة؛ ومعرفة المزكي لكون ظنه مقارباً، أو مطلقاً، أو وسطاً بين المطلق والمقارب، دقيقة عويصة، وأكثر المزكين لا يعرف معاني هذه العبارات، بل ولا سمعها؛ وهي مولدة اصطلاحية؛ ولو كلف كل مزكٍ أن يزكي على هذا الوجه لم يفعل أو لم يعرف؛ ولم تزل التزكية مقبولة قبل حدوث هذه الاصطلاحات؛ والعدالة حكم منضبط تضطر إليها العامة في الشهادة في الحقوق والنكاح، ورواية الأخبار، وقبول الفتوى من المفتي، وصحة قضاء القاضي؛ فتعليقها بأمر خفي غير منضبط بغير نص يدل على ذلك، ولا عقل يحكم به غير مرضي، بل مطلق الخبرة المفيدة للظن كافية، وتزكية المزكي لا تفيد غير ذلك.
قال: وأما الوجه الثاني: وهو اختلال عباراتهم لفظاً ومعنى، فذلك إن أرادوا أنها على ظاهرها، ولم يتأولوها بالتجوز، وذلك أن يقولوا: العدالة الظاهرة هي ما عرف بالخبرة الموجبة للظن، والعدالة في الباطن والظاهر هي العدالة المعلومة بالقرائن الضرورية، مثل: عدالة المشاهير المتواترة عدالتهم، مثل العشرة من الصحابة.
قلت: هذه إشارة إلى ما رووه في العشرة من البشارة، وقد جمعهم المؤلف محمد بن إبراهيم في قوله:
للمصطفى خير صحب نصّ أنهم .... في جنة الخلد نصاً زادهم شرفا
هم طلحة وابن عوف والزبير كذا .... أبو عبيدة والسعدان والخلفا
وقال غيره:
علي والثلاثة وابن عوف .... وسعد منهم وكذا سعيد
كذاك أبو عبيدة فهو منهم .... وطلحة والزبير ولا مزيد
ولم يصححه آل محمد صلوات الله عليهم.
قال: وعمار بن ياسر، وسلمان الفارسي، وأبي ذر، وأمثالهم من أهل ذلك الصدر، ومثل زين العابدين، وسعيد بن المسيب من التابعين.
قلت: المسيب بضم الميم، وفتح المهملة، /424

(2/424)


وتشديد المثناة التحتية المفتوحة، ثم موحدة؛ أفاده السيد الإمام في الطبقة الثانية.
قال: ابن حزن، (بفتح الحاء المهملة، وسكون الزاي، وبالنون) بن أبي وهب القرشي، أبو محمد المخزومي، وذكر أنه ولد لسنتين من خلافة عمر، وأنه جمع بين الفقه، والحديث، والزهد، والعبادة، والورع، وأنه روى عن علي، وابن عباس، وأبي ذر، وجابر ـ رضي الله عنهم ـ وغيرهم، وعن أنس حديث الطير.
..إلى قوله: توفي سنة أربع وتسعين، عن تسع وسبعين.
خرج له الجماعة، وأئمتنا الخمسة، والسمان، انتهى.
قال: والحسن البصري، ومثل: إبراهيم بن أدهم من المتعبدين.
قلت: سيأتي ذكرهما في الفصل المستقل لذلك ـ إن شاء الله تعالى ـ.
قال: ومثل القاسم، والهادي من الأئمة الهادين.
فلهم أن يقولوا: عدالة هؤلاء معلومة ظاهراً وباطناً، وليس ذلك من قبيل علم الغيب، بل من قبيل العلم الصادر عن القرائن، مثل: الخبر بموت ولد رجل كبير مع بكاء ذلك الرجل بين الناس واستقامته لمن يعزيه، وبكاء النسوان في بيته، واجتماع الناس للتعزية إليه، وظهور الجنازة، ونحو ذلك.
وكبار الأئمة والعلماء قد أخبروا عن أنفسهم بالعدالة، وظهر عليهم من القرائن ما يوجب علم ذلك.
فالجواب عليهم: أن هذا يختل عليهم من وجهين:
أحدهما: أن الناس مختلفون في صحة هذا.
..إلى قوله:
وثانيهما: أن العدالة في الراوي تشتمل على أمرين:
أحدهما: في الديانة التي تفيد مجرد صدقه، وأنه لا يتعمد الكذب.
وثانيهما: في الحفظ؛ ولئن سلم لهم ذلك في الديانة، فلا يصح العلم الضروري بأن الراوي لم يخطيء في روايته عن غير عمد، ولا قائل بذلك؛ على أن البالغين إلى هذه المرتبة الشريفة هم الأقلون عدداً؛ ولو اشترط ذلك أهل الحديث لم تتفق لهم سلامة إسناد غالباً، وقد نص مسلم على أنا لا نجد الحديث الصحيح عند مثل: مالك، وشعبة، والثوري، فلا بد من النزول إلى /425

(2/425)


مثل: ليث بن أبي سليم، وعطاء بن السائب.
فكن على حذر من تضعيف من يرى رد أهل العدالة الظاهرة لكثير من الرواة، وتفطن لذلك في كتب الجرح والتعديل، والله أعلم. انتهى كلامه.
وبذلك تم البحث الذي ساقه في المجهول من التنقيح، إلا أنه أشار إليه في معرفة الصحابة، فقال: وأما القول بعدالة المجهول منهم ـ أي الصحابة ـ فهو إجماع أهل السنة، والمعتزلة، والزيدية؛ قال ابن عبد البر في التمهيد: إنه مما لا خلاف فيه.
قال: أما أهل السنة فظاهر.
قلت: لقولهم بعدالتهم على الإطلاق، وعدم تخصيصهم لأهل البغي والنكث والمروق والنفاق.
قال: وأما المعتزلة فذكره أبو الحسين، في كتابه المعتمد في أصول الفقه.
قلت: قد تقدم كلامه في ذلك، وهو لا يفيد مدعاه.
قال: بل زاد على المحدثين؛ ذهب إلى عدالة أهل ذلك العصر، وإن لم يروا النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
وذكر الحاكم المحسن بن كرامة المعتزلي مثل مذهب المحدثين، في كتابه شرح العيون.
قلت: قد ذكر نص كلامه في الروض الباسم، وهو ما لفظه: إن أحوال المسلمين كانت أيام رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ مستقيمة مستغنية عن اعتبارها، انتهى.
فهو مثل كلام أبي الحسين لا يفيد ما نسبه إليه، وإلى المعتزلة، وهو كثير التخريج على الأقوال بما لا تقتضيه؛ وقد سبقت روايته عن محمد بن منصور ـ رضي الله عنه ـ، وإضافتها إلى كتابه، ولم توجد فيه.
قال: وروى ذلك ابن الحاجب في مختصر المنتهى، عن المعتزلة.
قال: وأما الزيدية فإنهم يقبلون المجهول سواء في ذلك عندهم الصحابي وغيره.
قلت: هذا النقل عنهم غير صحيح، وكتبهم مصرحة بخلافه، فالرجوع إليها هو الحق؛ وقد تحقق اضطراب نقله في الأقوال، وأخذ كثير منها بمجرد التوهم والاستدلال.
ويدلك على ذلك أنه في هذا /426

(2/426)


المحل من الروض الباسم، قال ما لفظه: فقد ذهب أئمة الحنفية إلى قبول المجهول من أهل الإسلام، وذهب إلى ذلك كثير من المعتزلة والزيدية.، انتهى.
وقال فيما سبق: هو الغالب من مذاهب العترة والمعتزلة أهل الأصول...إلخ انتهى.
وقد نقضه في آخر هذا البحث بروايته عن المتأخرين لرده؛ وانظر إلى مستنده في رواية قبوله، فهو واضح الاختلال.
قال في التنقيح: ذكر ذلك الفقيه عبدالله بن زيد في الدرر المنظومة.
وفي هذا المحل من الروض الباسم، قال: ذكره في الدرر المنظومة بعبارة محتملة للرواية عن مذهب الزيدية كلهم.
فقطع هنا على العبارة المحتملة، وجعلها عمدة نقله.
قال في التنقيح: وهو أحد قولي المنصور بالله، ذكره في هداية المسترشدين.
وقال في موضع منه: وأما المنصور بالله، فله في ذلك كلمات مختلفة في أماكن من كتبه متفرقة؛ من ذلك: كلامه في كتاب هداية المسترشدين، واحتجاجه بتأمير النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لعتاب بن أسيد، ثاني يوم من إسلامه.
فتارة يجعله على القطع أحد قوليه، وتارة أنه ذكر ما يقتضيه، وهو من تخريجه الذي لا يسلم له فيه؛ ومرة أن له كلمات مختلفة في مواضع متفرقة، واعتمد على كلامه في هداية المسترشدين، وهو احتجاجه بتأمير النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ...إلخ.
ولا دلالة في ذلك بتصريح ولا اقتضاء:
أما أولاً: فقد تقدم الكلام في شأن الداخل في الإسلام، وأنه يجب ما قبله، ولم يحدث ما ينقض العدالة بعده، وأنه لا حجة فيه؛ لجواز معرفته بعدالته.
وأما ثانياً: فقد قال هو في ذلك البحث: وفي الاحتجاج على العدالة بالولاية نظر.
قال: لكن المنصور ذكر أنه ولاه على القضاء، فيما حكى لي بعض أهل العلم.
وعلى الجملة، فغرضنا /427

(2/427)


حاصل بكلام المنصور؛ فإن القصد الاستشهاد به على ذهاب المنصور بالله إلى عدالة مجهول الصحابة.
قلت: لكن لم يصح، فليس في كلام الإمام هذا دلالة على قبول المجهول بوجه؛ وإنما هو مجرد استخراج، واضح الاعوجاج، وهو مع ذلك كلام في صحابي واحد، وقد جعله في التنقيح عمدة الحكاية عنه في قبول المجهول على الإطلاق، صحابي وغيره؛ كما سبق.
وفي الروض خرج له من ذلك الاحتجاج حجة على عدالة جميع الصحابة، حيث قال: وفي هذا الاحتجاج ما يؤخذ منه عدالة الصحابة كلهم، على أنه قد ثبت في كلام غير واحد من الزيدية أنه يقبل المجهول من جميع المسلمين، الصحابة وغيرهم.
هذا نص كلامه؛ ولا يخفى ما في هذا كله من الخبط العظيم، والخلط الجسيم، والمأخذ السقيم، والتخريج الذي لا دلالة عليه بمنطوق ولا مفهوم، ولا خصوص ولا عموم.
قال في التنقيح: وهو أحد احتمالي أبي طالب في جوامع الأدلة، وأحد احتماليه في المجزي.
وقال في الروض الباسم: وهو الذي أشار إلى ترجيحه أبو طالب في كتاب جوامع الأدلة، وتوقف فيه في كتاب المجزي، وذكر أنه محل نظر، انتهى.
قال في التنقيح: وهذا المذهب مشهور عن الحنفية، والزيدية مطبقون على قبول مراسيل الحنفية؛ فقد دخل عليهم حديث المجهول على كل حال، وإن كان المختار عند متأخريهم رده، فذلك لا يغني مع قبولهم مراسيل من يقبله؛ والقصد بذكر هذه الأقوال أن لا يتوهم أن المحدثين شذوا بهذا المذهب.
قلت: وهذا مسلك من الاستدلال عجيب، لا يخفى ما فيه من الاختلال على ذي نظر مصيب؛ فأولاً: إن تقرير كونه مذهب الحنفية غير صحيح، مع أن المنقول عن أبي حنيفة ـ لا غير ـ قبول المجهول، وهو مختلف في تحقيقه، ومنقسم إلى أقسام عديدة؛ فالرواية عنه مجملة غير مفيدة، وقد أنكرها بعضهم.
وقال بعد كلام طويل ساقه: وبهذا تعلم أن ظاهر مذهب الحنفية عدم قبول رواية /428

(2/428)


المستور كغيرهم، وإنما جعله بعضهم قول أبي حنيفة إنما هو رواية عنه، على خلاف ظاهر المذهب...إلى آخر كلامه.
وقد قال سيد المحققين الأعلام، الحسين بن الإمام (ع) في شرح الغاية، في قبول خبر المجهول: ولا قائل به على الإطلاق؛ فإن أبا حنيفة لم يقل بقبوله مطلقاً، بل إلى تابع التابعين.
انتهى المراد منه وقد سبق.
ثانياً: إن دعوى إطباق الزيدية على قبول مراسيل الحنفية دعوى مجردة عن البرهان، واضحة التهافت والبطلان، والذي يروي عنهم للاحتجاج الإمام المؤيد بالله (ع) في شرح التجريد، روايات محررة الأسانيد؛ وإن روى راوٍ من أئمتنا (ع) عنهم، أو عن غيرهم للمتابعة والاستشهاد والتأييد، فذلك شأن علماء الأمة، لا يجهله من له أدنى مسكة؛ على أن علماء الحنفية ليسوا بمجروحين، ولا موسومين بما رماهم به من قبول المجهولين، عند أعلام الزيدية.
ولكن أهل بيت محمد ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أعلم بما أنزل الله تعالى في كتاب ربهم، وسنة نبيهم، من حنفية، وشافعية، ومالكية، وحنبلية، وسنية، وظاهرية، وحشوية، وجميع فرق البرية؛ وصاحب البيت أدرى بالذي فيه.
ولعمر الله، إنه لينقضي من هذا السيد العالم الحافظ العجب، ويذهب الفكر كل مذهب؛ ولقد كفى مؤنة الرد والنقض، بتناقض كلامه ومدافعة بعضه لبعض، فلا محوج مع ذلك لإيراد بيان، ولا إقامة برهان، بل الإنسان على نفسه بصيرة؛ فتارة يدعي على الزيدية الإجماع، وتارة يحكي عنهم الخلاف، ومرة يذكر القطع على الأقوال، ومرة ينقل التردد والاحتمال، وحالة ينسبها على جهة التصريح، وأخرى على وجه تخريج غير صحيح؛ ولم /429

(2/429)


يزل يكرر ذلك في كتبه، ولم يورد عن واحد من أئمة العترة نصاً يعتد به؛ وليس في يديه بإقراره إلا تلك الرواية عن القاضي عبدالله بن زيد المحتملة، وغايتها الحكاية لمذهبه.
ومما يزيدك أيها الناظر المنصف في البيان ـ وإن كان فيما سلف أوضح برهان ـ كلامه في هذا البحث الذي حكاه عنه ابن بهران.
قال ما لفظه: منقول من كتاب القواعد لسيدي العلامة عز الدين محمد بن إبراهيم.
..إلى قوله: اعلم أن أهل الحديث أجمعوا على أنه لابد من معرفة الراوي بالعدالة التامة، إما بالخبرة، وإما بخبر العدل المأمون؛ وذهبت الحنفية إلى قبول المجهول، وقالوا: لا يرد إلا من تحقق فسقه.
..إلى قوله: وذكر هذه المسألة أبو طالب في كتاب المجزي، وقال: يحتمل أنه يقبل، ويحتمل أنه لا يقبل، وهي مسألة نظر، ولم يقطع فيها بشيء.
...إلى قوله: وأما مذهب أصحابنا، فلم يتعرض هو ولا غيره لحكايته، إلا الفقيه العلامة عبدالله بن زيد صاحب الإرشاد، فإنه قال: مذهبنا قبوله؛ قال ذلك في كتاب الدرر المنظومة في أصول الفقه.
[تناقض كلام الحافظ في النقل عن الزيدية في المجهول]
وأما صاحب الجوهرة، فلم يورد لأهل المذهب شيئاً في ذلك، لكن روى عن شيوخه أن رواية المجهول لا تقبل.
قلت: انظر إلى هذا، وإلى ما سبق له من حكاية المذهب، ورواية النص عن صاحب الجوهرة.
قال: وقال المنصور بالله (ع): العدالة عندنا لا تشترط إلا في أربعة: في الإمام الأعظم، وإمام الصلاة، وفي القاضي، والشاهد؛ ذكره في كاشف الغمة، ولم يذكر اشتراطها في راوي الحديث.
قلت: يالله العجب من هذا الكلام! أما كان ينبغي له التحاشي عن نسبة الإمام إلى ما لم يقل به أحد من الأعلام؟ فإن الذاهب إلى قبول المجهول لم يقل: لا تشترط العدالة بالمرة، وإنما يقول: إنها الأصل في المسلمين، فلا يحتاج إلى الخبرة ولا نقل المزكين؛ وأما أنها لا تشترط أصلاً، فلم يعلم عن أحد من أهل العلم.
وعلى فرض صحة هذا الكلام عن الإمام (ع)، أما كان ينبغي له أن يخصص /430

(2/430)


هذا المفهوم، بما له في مؤلفاته من النص المعلوم، أو يلحق اشتراط عدالة الراوي بعدالة إمام الصلاة، فإنه من باب الأولى قطعاً؛ وهو يغني عن النص عليه، كما أغنى النص على التأفيف عن ذكر الضرب وغيره، فلو لم يكن له نص سواه لكفاه؛ فكيف ونصوصه ترد هذا التخريج الفاسد وتأباه؟! فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم قال في هذا الكتاب ـ أي القواعد ـ ما لفظه: ولم يحصل لنا في مذهب من تقدم من أهل المذهب طريقة صحيحة صريحة؛ لعدم لهجهم بهذا.
ثم ذكر الرواية المحتملة عن القاضي عبدالله...إلى آخر ما ذكره.
قلت: وهذا إقرار بأن روايته عنهم ليس لها أصل ولا قرار، وأن جميع ذلك بناء على أصل منهار؛ وهنا قد صرح بأنه لم يحصل له طريقة صحيحة صريحة إلى مذهب المتقدمين، وفيما سبق حكى الخلاف عن المتأخرين؛ فمن بقي له على الإجماع الذي يدعيه؟ وأي مسلك في ذلك يقتفيه؟
ولا يقال: يحمل على أنه قال هذا قبل أن يحصل له طريق، ثم قال ذلك بعد أن حصل له تحقيق؛ لأنه يقال: لا يتجه له هذا المنهج، ولا سبيل إلى تقويم ذلك العوج؛ فقد تكررت منه المناقضة، وتحققت له النقولات المتعارضة، في بحث واحد، ومقام منفرد، بما ينقض قوله الأول الآخر، مع بيان مستنده، وإيضاح معتمده، الذي لم يزل يكرره على تصريف التعبيرات، وتنويع التحريرات؛ ولئن فُرِض صحة الجمع في مقال، فلا يمكن في جميع الأقوال بحال، فهو من المحال؛ فهذا الذي طال فيه المجال، وتباعد عنه الانفصال، في مقام واحد من الأقوال.
[كون الشغب وحدة الجدال حملا الحافظ على الانتحال]
وكل ذلك من السيد الحافظ في مقابلة قول شيخه السيد الإمام علي بن محمد بن أبي القاسم ـ رضي الله عنهم ـ: معرفة الأخبار مبنية على معرفة عدالة الرواة...إلخ، كما هو مذكور في الروض الباسم؛ لأنه يبلغ في كل مادة جرى فيها بينهما الجدال، كل ممكن في الرد عليه والإبطال، ومحاولة النقض لكلامه بكل حال.
وقد علم الله ـ سبحانه، وهو بكل شيء عليم ـ أن ليس المقصود فيما سقته، ولا الغرض بما حققته، إلا بيان الحق للطالبين، والقيام بشهادة القسط التي أمر الله ـ تعالى ـ بها بقوله /431

(2/431)


ـ جل جلاله ـ في كتابه المبين: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } [النساء:135].
ولا سيما وهذا السيد العالم متبع الرسوم، ومقتص الأثر في العلوم.
وقد اغتر بالاعتماد على ما حرره، والاستناد إلى ما قرره، كثير من أرباب الفهوم، وإلا فقد أفضى الجميع إلى رب العالمين، ونحن في أثرهم من اللاحقين؛ فالله نسأل، وبجلاله نتوسل، أن يصلي على رسوله وآله، وأن يوفقنا لما يرضاه منا، وأن يلحقنا بالصالحين، آمين.
[عودة إلى كلام صارم الدين في أقسام المجهول]
ونعود إلى المقصود في هذا المحل، من ذكر ما لا غنية عن الاطلاع عليه من علوم الحديث، وتحقيق القول فيه حسب السياق الأول؛ ولا بأس بإعادة أصل البحث من حيث بلغ في الفلك الدوار، وإن كان قد سبق لترتب الكلام عليه وسوقه على ذلك الاختيار.
قال السيد الإمام صارم الإسلام (ع): وقد يرد بجهالة الراوي؛ وهو إما مجهول العدالة، ورده أئمتنا، لا مجهول العشيرة.
قلت: وقد أصاب في عدم متابعة صاحب تنقيح الأنظار، في روايته عن الأئمة الأطهار؛ وهذه هي الرواية الصحيحة، المقررة بالنصوص الصريحة، على التحقيق، لا المجازفة والتلفيق.
ثم ساق الكلام في حكاية الأقوال، وبعضه مبني على ما ذكره صاحب التنقيح، من إضافته إلى محمد بن منصور ـ رضي الله عنه ـ ونقل ذلك الاحتمال؛ وهكذا بنى غيره في كثير من هذه المقالات ـ كما أسلفت لك ـ على ما في تنقيح الأنظار؛ إلا فيما هو معلوم المخالفة، واضح المجازفة، لذوي البحث والاختبار؛ وقد مضى ما فيه تذكرة لأولي الأبصار.
قال صارم الدين (ع): ومبنى الخلاف على أن الأصل هو الفسق، أو العدالة، والظاهر أنه الفسق؛ لأنه أكثر، ولطرو العدالة.
وأما مجهول الضبط: فلا يقبل، وأما مجهول الاسم والنسب: فيقبلان /432

(2/432)


على الأصح.
وللمحدثين في الجهالة اصطلاح آخر.
قلت: قد سبق الكلام في ذلك مستوفىً، والحمد لله.
قال: وأسباب أخر يذكرونها، منها: أن تكثر نعوت الراوي، فيذكر ما اشتهر به لغرض، وصنفوا فيه الموضح.
قلت: هذه إشارة إلى أنواع يذكرونها في علوم الحديث، وقد أشير إلى المختار، على وجه الاختصار، على حسب ترتيبه، وإن كان على غير نظام؛ وقد يسر الله ـ تعالى ـ شرح المهم شرحه على التمام، والله ولي الإنعام.
وهذا القسم الذي ذكره هو معرفة من له تعريفات متعددة من الأسماء، وهي: الأعلام.
أو الكنى، وهي المبدوءة بأب أو أم.
والألقاب، وهي: ما أشعر بمدح أو ذم.
أو الأنساب.
فقد يذكر الراوي بمتعدد منها، في مقامات مختلفة، من راوٍ واحد، أو جماعة؛ فيظن من لا خبرة له أنها لشخصين فأكثر، حسبما يذكر، وقد يفعل ذلك لقصد إخفائه أو تدليسه بمشارك له في التعريف المذكور؛ والأولى أن يعرف بالأشهر ـ كما ذكره ـ إن كان له أشهر.
وقد صنف في هذا النوع الخطيب البغدادي كتاب الموضح لإيهام الجمع والتفريق، وعبد الغني المصري كتاب إيضاح الإشكال، ومثلوا له بما استعمله الخطيب في روايته تارة عن أبي القاسم التنوخي، وتارة عن علي بن الحسن، وأخرى عن علي بن أبي علي المعدل، وكلها لشخص واحد.
قال (ع): أو يكون مقلاً فلا يكثر الأخذ عنه، وفيه الوحدان.
قلت: هو جمع واحد، وقد عدوا جماعة من الصحابة والتابعين، ممن لم يرو عن كل واحد منهم إلا واحد، وصنف في ذلك مسلم كتاب المنفردات والوحدان، وعند المحدثين لمعرفته ثمرة في معرفة مجهول العين، كما سبق الكلام فيه.
[الكلام على المبهم]
قال: أولا يسمى اختصاراً، وفيه المبهمات.
قلت: المبهم: من ذُكِرَ على وجه لا يعرف به، إما في الإسناد، كأن يقال: عن رجل، أو امرأة، أو فلان، أو نحو ذلك؛ أو في غيره، كأن يقال: سائل سأل رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، أو نحوه؛ ويعرف المبهم بوروده مسمى في /433

(2/433)


مقام آخر، فالإبهام كثير الوقوع في كتب الحديث كلها؛ فلهذا صنفوا في معرفتها المبهمات، وممن ألف فيها عبد الغني، والخطيب؛ وأفرد ابن حجر في فتح الباري المبهمات الواقعة في البخاري، ولم ينسب إلى أحد ممن وقع الإبهام في سنده أنه يقبل المجهول؛ إذ لا دليل على كونه مجهولاً عنده، إلا ما وقع من السيد الحافظ محمد بن إبراهيم، ومن اغتر بنقله من نسبة ذلك إلى علامة العراق، وإمام الشيعة على الإطلاق، وولي آل محمد بالاتفاق، شيخ الإسلام، محمد بن منصور المرادي ـ رضي الله عنه ـ على فرض أنه أخذه له من هذا كما تقدم.
وقد قال محمد بن إبراهيم في التنقيح، ما لفظه: إن الإسناد إذا كان فيه عن رجل أو شيخ، فهو منقطع لا مرسل، في عرف المحدثين؛ قاله الحاكم، وابن القطان في بيان الوهم والإيهام.
قلت: وقد تعقب ابن حجر على رواية ذلك عن الحاكم، ونقل كلامه فيه، وهو يفيد أنه ليس بمنقطع عنده، إلا إذا لم يوقف على معرفته.
قال في التنقيح: وأما الجويني، فقال: وقول الراوي أخبرني رجل أو عدل موثوق، من المرسل أيضاً، وكذلك كتب النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ التي لم يسم حاملها؛ ذكره في البرهان.
قال زين الدين: وفي كلام غير واحد من أهل الحديث أنه متصل في إسناده مجهول، وحكاه الرشيد العطار في الغرر المجموعة عن الأكثر، واختاره شيخنا الحافظ أبو سعيد في كتاب جامع التحصيل، انتهى.
قال محمد بن إبراهيم: وهو الصحيح؛ لأن من قال: عن شيخ أو رجل، فقد أحال السامع إلى رواية مجهول، فلا يحل له العمل بالحديث، بخلاف المرسل الذي جزم برفع الحديث، انتهى.
قلت: فهذا كلامهم؛ وغايته أن المبهم مجهول عند السامع كما ذكره، ولا دلالة أنه مجهول عند الراوي، وإنما أبهمه على غيره؛ ثم لو فرض أنه مجهول عنده، فلا دلالة على أنه يقبله، مهما لم ينص على ما يفيده، والجميع لا يقدحون /434

(2/434)


بوجود المبهم من الرواة، وإنما يبحثون عما أبهموه؛ فإن وقفوا عليه، عرفوه؛ وإن لم، عمل كل ناظر بمذهبه، كما حققوه.
قال ابن الصلاح: وكثير منهم لم يوقف على أسمائهم، وهو على أقسام، منها ـ وهو من أبهمها ـ: ما قيل فيه: رجل أو امرأة، ومنها: ابن فلان، أو نحو ذلك، ومنها: العم، والعمة، ونحوهما؛ انتهى باختصار.
وقد أورد الأمثلة، وهي واضحة، وكثير منها لا إبهام فيها حقيقة؛ إذ قد صار ما يذكر به معرفاً كاسمه العلم؛ والقصد المهم معرفة الحال، التي هي العمدة في القبول أو الرد؛ وكثير من الأبحاث التي يذكرونها ليس فيها كثير فائدة، وإنما هي من فضلات علم الرجال.
قال صارم الدين (ع): ولا يقبلون التوثيق المبهم، ولو بلفظ التعديل، وهو مقتضى قول من منع المرسل.
قلت: نحو: أخبرني الثقة، أو العدل؛ فهو عندهم غير مقبول، والحق أنه إن كان كذلك من عالم بأسباب الجرح والتعديل موافق في المذهب، فلا مانع من القبول، كما عرف في الأصول.
قال: فإن سمي وانفرد عنه واحد، فمجهول العين، فلا يقبلونه؛ والمختار قبوله إذا وثق، وفاقاً للأصوليين؛ فإن روى عنه اثنان فصاعداً ولم يوثق، فمجهول الحال.
قلت: المراد أن مجرد الرواية لا تخرج عن الجهالة، لا أنها شرط فيها.
قال: وهو المستور.
قلت: قد سبق الكلام فيه، وهذا أحد معانيه.
ومن معانيه عند بعض أهل الأصول: العدل مطلقاً؛ وهو مراد صاحب الجوهرة.
والعجب من الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير كيف نقل معناه في كلامه إلى معنى المجهول، وليس معناه ذلك في استعماله، واستدل به بعد ذلك إلى قبول صاحب الجوهرة وغيره من الشارحين للمجهول، مع أنه قد نصّ في الجزء الأول من التنقيح على ذلك، حيث قال: وقد ورد المستور في عبارات أصحابنا، والمراد به العدل، كما استعمل ذلك أهل الحديث.
قال الشيخ أحمد /435

(2/435)


بن محمد الرصاص في الجوهرة في شروط الراوي: إنها أربعة: أحدها: أن يكون الراوي عدلاً مستوراً ـ هذا لفظه، انتهى.
فاجمع بين هذا، وبين ما ذكره عن صاحب الجوهرة فيما سبق.
وقد حكيناه؛ ليتبين لك العجب، إن كنت ذا تبصرة؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
[الكلام على عدم قبول رواية فاسق التصريح]
قال صارم الدين: وقد يرد المسلم بارتكاب الكبائر تصريحاً، وهو إجماع.
قلت: إطلاق المسلم عليه، إنما هو بالنظر إلى أحد معنييه، وهو المعنى العام، الذي هو قريب من المعنى اللغوي؛ وأما معناه الآخر الخاص الشرعي، فهو بمعنى المؤمن شرعاً؛ ولا يستحقهما ونحوهما من أسماء المدح والتبجيل، إلا القائم بما افترضه الله عليه مما يوجب على تركه النار، المجتنب لكبير ما نهاه الله عنه، كما قام على ذلك الدليل، وهو قول علماء آل الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ومن اتبعهم؛ وهو مشروح في محله من الأصول.
قال: وشذّ من قبل الصدوق منهم، بناء على أن الكبيرة مظنة تهمة، لا سلب أهلية.
قلت: وهذا ـ أي رد المصرح بالإجماع، وإن ظن صدقه بتحرزه وأنفته عن الكذب ـ مما يتضح به بطلان قبول فاسق التأويل؛ لوجود ما ذكروه من التعليل، وعدم الفارق في ذلك بين التصريح والتأويل، كما هو مقتضى الدليل.
وقد ضاقت بهم المسالك في ذلك، حتى عدل محمد بن إبراهيم الوزير لما أورد عليه السيد الإمام علي بن محمد بن أبي القاسم هذا الإلزام، إلى القول بتخصيص العلة.
قال في التنقيح: فإن قيل يلزم قبول من ظن صدقه من المصرحين.
..إلى قوله: قلنا هذا مخصوص، وتخصيص العلة جائز...إلخ كلامه.
والجواب: أنه غير مسلم كون العلة في القبول ما ذكروه من ظن الصدق؛ بل المناط العدالة المحققة مع الضبط، وهي التي قام الدليل على قبول صاحبها بالإجماع، وما عداه ففيه النزاع؛ فالتعليل والتعميم والتخصيص لم تثبت ببرهان واضح، وإنما هو مجرد دعاوٍ، وحكاية مذاهب، كما لا يخفى على ذي نظر راجح.
وقد أكثر محمد بن إبراهيم المحاولة لجعل قبول المتأول قولاً لجميع /436

(2/436)


الزيدية، تارة بالتخريج، وتارة بالتقدير، ومرة بالإلزام؛ وأطال في ذلك الاضطراب والكلام، على نحو ما مرّ في المجهول ولم يقف على طائل ولا مرام.
وكذلك أطنب في تقرير الإجماع المدعى من أهل الصدر الأول، وسرد حكايات القابلين لهم من أئمة أهل البيت (ع)، وغيرهم.
ونقول: إن كان المراد أنه قد روي فلا نزاع؛ ولكنها روايات أحادية، لاتوجب القطع في هذا المقام الكبير، الذي هو عمدة في الدين، وطريقة إلى شريعة سيد المرسلين ـ صلوات الله عليهم ـ ولم يذكر عن الحاكين للإجماع رواية واحدة، لا صحيحة ولا فاسدة، تتصل بالمدعى إجماعهم، أن أحداً منهم قبل خبراً أو فتيا عن مخالفيهم؛ وإنما هي دعاوٍ مجردة، توافقت عليها حكايات أهل هذه الأقوال؛ ولا يبعد أنها جميعاً مأخوذة عن ناقل واحد، تبع فيها الآخرُ الأولَ، كغيرها مما هو على هذا المنوال، مع أنها معارضة بروايات متصلة، عن المدعى إجماعهم، بالرد لأخبار مخالفيهم، هي أصح وأوضح.
فمن ذلك ما رواه الإمام الأعظم، بسند آبائه (ع)، في شأن الواقعة التي بعث معاوية قوماً يسألون عنها علياً، فقال ـ صلوات الله عليه ـ: لعن الله قوماً يرضون بحكمنا، ويستحلون قتالنا...إلى آخر ما في المجموع.
ففيه إنكار صحيح، بل لعن صريح، على الراضين بالحكم مع استحلال القتال، وأنهما متنافيان.
لا يقال: إنهم يستحقون اللعن لغير ذلك؛ لأنا نقول: نعم، ولكنه هنا رتبه على هذا الوصف، ولولا ذلك، لما كان لذكره فائدة، وطريقة الحكم والخبر واحدة.
ومنها: الرواية التي أخرجها مسلم عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وفيها: أنه أخبره كريب برؤية هلال رمضان بالشام، أنهم رأوه وصاموا.
ثم قال له: أو لا نكتفي برؤية معاوية وصيامه؟
فقال ابن عباس: لا، هكذا أمرنا رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
وأخرج البخاري ومسلم عن مجاهد، قال: جاء بشير العدوي إلى ابن عباس، فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
وجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه، ولا ينظر إليه.
فقال له بشير: مالي أراك لا /437

(2/437)


تسمع إلى حديثي؟ أحدثكم عن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ولا تسمع؟!
فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ابتدرته أبصارنا، وأصغينا أسماعنا؛ فلما ركب الناس الصعبة والذلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف.
ومما أجاب به أهل المنع: ما ذكره ابن الإمام (ع) في شرح الغاية، حيث قال: وذلك لأنه لم يثبت أن أحداً من هؤلاء المتأولين أقام شهادة، أو روى خبراً عند من يعتقد فسقه؛ وظهر ذلك ظهوراً يقتضي أن ينقل ما جرى فيه، من ردٍ أو قبول، فقولهم: لو رد شيء من ذلك لنقل غير صحيح؛ لأن وجوب نقله مترتب على وقوعه.
فما لم يقع، كيف يجب نقل رده أو قبوله؟
ولو سلم وقوعه، فلا نسلم أن رده لم ينقل؛ كيف، وقد روى مسلم في صدر صحيحه عن ابن سيرين، قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد؛ فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم؛ فينظر إلى أهل السنة، فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل الابتداع، فلا يؤخذ حديثهم...إلى آخر كلامه.
والمسألة مستوفاة في محلها من الأصول؛ وفي رسالتنا المسماة إيضاح الدلالة زيادة تحقيق، والله تعالى ولي التوفيق.
[دوران الكلام إلى الخوض في المجروحين من الصحابة ونحوهم]
واعلم أنها عظمت الفتنة، وجلت المحنة، من أجل هذا التأصيل، ولم يتوقف الكثير على ما زعموه من قبول أهل التأويل؛ بل تعدى الحال، وتجاوز المجال، إلى قبول أهل الفسوق الصريح، والفجور القبيح، والاختلال، ومن وردت النصوص النبوية، المتواترة الضرورية، بكونهم منافقين، ومارقين عن الدين، مع أنه متفق على رد المصرحين، بإجماع المسلمين.
وقد أسلفنا من الكلام على هذا ونحوه ما فيه بلاغ لقوم عابدين.
ولله الإمام المتوكل على الله يحيى شرف الدين، حيث قال في سياق كلام ما لفظه: اعلم أن كلاً من الفرق قد روى في مذهبه كثيراً الذي يصح عنده، ولا يصح عند غيره.
وساق في كلام المحدثين في النقد حتى في رجال الصحيحين، حتى قال: ولم يلجئ أول من عني بهذه الشبهة المضلّة، إلا كراهة أمير المؤمنين (ع)، وكراهة أهل بيته ـ عليهم /438

(2/438)


السلام ـ حين عرف أنه إن لم تتم لهم هذه الشبهة، لم يبقَ لهم أي طريق في عدم تفسيق من خالفه، وخالف أهل البيت، ولا أي ترخيص في الخروج عن سننهم القويم، وصراطهم المستقيم؛ فإنه لم يكن لهم طريق يدلون بها في هذه المذاهب الباطلة، إلا ما كان من رواية المجروحين من الصحابة، أو من اعتمد على أحاديثهم، وبنى على تعديلهم.
ثم قال (ع): فاعلم أنه لا يعتمد على شيء من الحديث.
قلت: أي من رواية المخالفين.
قال: إلا ما ثبت تواتره لفظاً أو معنى، أو ثبت تلقيه بالقبول من الأمة؛ لا سيما أهل الحل والعقد من أهل البيت (ع)، الذين هم قرناء الكتاب، والأمان لأهل الأرض.
ثم ذكر موجب ذلك، وأنهم حجة الإجماع، وذلك المذكور ـ يعني المتواتر، أو المتلقى بالقبول، أو الصحيح المقيدين بما ذكرنا ـ قليل جداً؛ وسائر الأحاديث إنما يذكرها من يذكرها، إما استظهاراً بها مع ظاهر قرآن أو سنة صحيحة، أو اشتهار بضم بعض إلى بعض من المحتملات، أو تقوية قياس ثبت به الحكم في المسألة، أو زيادة ترغيب في طاعة، أو ترهيب عن معصية، أو قطع حجاج خصم يقول بقبول مثل ذلك الحديث الذي لا يقول به المورد له والمحتج به، أو لبيان فساد مثل ذلك الحديث؛ لمخالفته القاطع من عقل أو نقل؛ أو صحيح من نقل، أو غير ذلك من الأغراض الصحيحة.
وحين تحقق هذه القواعد تعرف أن طرق أهل البيت (ع) في أمر الأحاديث أصحّ الطرق، وأحق التخاريج، من حيث سلامتها مما لحق غيرها، من فساد في الأصول والفروع، من حيث ما ورد فيهم من البراهين القاضية بتفضيلهم، مجتمعين ومفترقين؛ ولكون إجماعهم حجة قطعية، ومن أجل أنهم بيت النبوة، والأخصون بما لم يخص به غيرهم، وصاحب البيت أدرى بالذي فيه.
انتهى المراد من كلامه (ع) [يعني شرف الدين].
وقد اخترت إيراده؛ لجريه على منهج الحق والتحقيق، ولكونه من المعتمد عليهم في الأسانيد؛ فيقف المطلع على مختاره في هذه الطريق؛ وله كلام، /439

(2/439)


أبسط مما ذكرنا في هذا المقام.
وقد سبق لنا بحث في ردّ التأويل والاحتمال، المدعى لمخالفي البراهين القاطعة من أرباب الضلال؛ وهو الذي نطق به الكتاب والسنة، وصرح به نجوم الأئمة، وهداة الأمة.
[الكلام على عدم قبول رواية فاسق التأويل]
واعلم ـ وفقنا الله تعالى وإياك ـ أيها الثاقب الفهم، الثابت القدم، المطرح لهواه، المتحري لرضاء مولاه، أن الموجب لتكرار الكلام، في أبحاث هذا المقام، هو كونها عمدة في أحكام دين الإسلام، وعليها مدار وأي مدار، في تبليغ الأخبار، عن ربنا الملك العلام، على لسان رسوله سيد الأنام، عليه وآله أفضل الصلاة والسلام.
وكان معظم البحث في شأن المحاربين لإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، وأخي سيد النبيين ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ وإن كان الخلاف فيهم وفي غيرهم، من المبتدعين الضالين، المخالفين لقواعد العدل والتوحيد، ومسائل النبوة والإمامة والوعد والوعيد، وجميع قواطع الدين، التي لم يعذر الله فيها أحداً من المكلفين؛ لأنهم مصدر الفتنة، ومنهم معظم المحنة، في لبس الحق بالباطل، والصدق بالكذب، ودعوى كون الجميع سنة؛ ولكونهم أصل كل خلاف وفساد في الدين، كما هو معلوم للمطلعين، مسلّم عند العلماء العاملين.
فأقول وبالله أصول:
إن القابلين لمن هم بزعمهم من المتأولين، كالمحاربين لأمير المؤمنين، وأهل بيته المطهرين ـ عليهم الصلاة والسلام ـ طائفتان:
أما الطائفة الأولى: فهم موافقون في الحكم بما قضت به البراهين، على أولئك المحاربين، من الناكثين والقاسطين والمارقين، وغيرهم من المخالفين، في قواعد الدين، وحاكمون بضلالهم وفسقهم، بل وكفر بعضهم، وكونهم غير معذورين.
قالوا: ولكن من كان منهم مدلياً بشبهة، وهو المتأول، لم تبطل الثقة، وظن الصدق بخبره، ولكون ذلك الفسق والكفر مظنة تهمة، لا سلب أهلية؛ فمن ظن صدقه وجب قبوله، وهو المعتمد في القبول، كما هو مذكور في الأصول.
وهذا هو المسمى عندهم بفاسق التأويل، إنْ أقدم على ما يوجب الفسق، وكافره /440

(2/440)


إن أقدم على ما يوجب الكفر؛ ويسمونه أيضاً عدل الرواية لا الديانة؛ وإلى هذا ذهب من يقبلهم من العدلية.
ولكن أهل العرفان منهم والتحقيق، لم يقبلوا من تبين من أمره التمرد والعناد، والسعي في الأرض بالفساد، كما قدمنا عن الإمام المؤيد بالله، والأمير الحسين (ع)، وغيرهما من القابلين جرحهم لبعض من مال إلى جانب معاوية، فكيف بذلك المارد الطاغية؟!!.
وقد صرح الإمام المؤيد بالله في شرح التجريد برد روايته، وسقوط عدالته؛ وكيف لا، وهو إمام الفئة الباغية، الداعية إلى النار، في متواتر الأخبار؟
هذا، ونقول في الجواب عليهم: المقدمتان ممنوعتان:
أما الأولى: فكيف بقاء الثقة بمن وردت النصوص القاطعة عن الله - تعالى -، وعن رسوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - ببغيهم في دين الله - تعالى - وخروجهم عن أمر الله - تعالى -، ومروقهم ونفاقهم، وفسقهم وشقاقهم، وكونهم حرباً لله - تعالى - ولرسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
قد أوجب الله ـ تعالى ـ قتالهم، وأباح دماءهم وأموالهم؛ وهذا لا نزاع فيه بيننا وبينهم، وإن نازع فيه منازع، فإنه لما غمره من العناد أو الجهل؛ وقد قطعه البرهان القاطع.
فكيف لا تكون تلك البراهين المعلومة مبطلة للثقة، رافعة لظن الصدق؟!!.
وهلا جعل الجرح بالنصوص من الله ـ تعالى ـ ومن رسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بمثابة جرح أحد المعتمدين من شيوخه.
أمْ كيف يكون مُعْتَمَداً عليه، مركوناً إليه، صادقاً، مَنْ صار في حكم الله ـ تعالى ـ ناكثاً أو قاسطاً أو مارقاً، أو منافقاً كافراً أو فاسقاً؟
وأنى لكم بعدالة من كان مشاقاً لرب العالمين، ولرسوله الأمين، مبتدعاً في الدين، متبعاً لغير سبيل المؤمنين؟
فأين تذهبون، ما لكم كيف تحكمون؟
ولعمر الله، إنه ليظهر أنه ما حملهم على قبولهم إلا ضيق مجال الرواية، إن اعتبروا عدالة الديانة؛ ولكن الحق اتباع الحجة، وحكم الكتاب والسنة، وإن أدى إلى ما أدى إليه ذلك، من ضيق المسالك؛ وأَهْوِن بدين /441

(2/441)


وشريعة، لا يثبتان إلا من تلك الطرائق الشنيعة.
ولأجل هذا لم يوسع نطاق الرواية قدماء أئمة العترة (ع)، بل اقتصر كثير منهم على روايته عن أبيه عن جده.
نعم، وأما المقدمة الثانية: فعلى فرض حصول الظن بصدق من هذا حاله على بُعْدِه، فغير مسلّم وجوب قبوله؛ وهلم الدليل، وليس إليه من سبيل.
وقد مرّ الكلام على ذلك، وبسطت البحث فيه، في إيضاح الدلالة، وفي فصل الخطاب، وفي الحجج المنيرة، وفي التحف الفاطمية.
وسبق هذا النقض بفاسق التصريح وكافره، فإنه مجمع على ردهما، وإن فرض ظن صدقهما؛ وقد ضاق بذلك ذرعاً السيد الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير، وأجاب بما لا يخفى فساده، على ذي نظر سليم، وهو أقوى المنازعين باعاً، وأوسعهم اطلاعاً؛ وقد أقر هو بفسقهم على شدة محاماته، وكثرة تلوناته، كما قدمنا؛ حيث قال في العواصم:
فأما حرب علي (ع) فهو فسق بغير شك، وله الولاية العظمى، التي هي عمدة في الدين.
وقال أيضاً ما لفظه: مع القطع بأن الحق مع أمير المؤمنين (ع)، وأن محاربه باغ عليه، مباح الدم، خارج عن الطاعة والجماعة؛ وقد تقدم وسيأتي أن هذا إجماع الأمة، برواية أئمة السنة، دع عنك الشيعة...إلى آخره.
هذا، وأما الطائفة الثانية: فهم القائلون بأنهم اجتهدوا، فلا إثم عليهم، وإن حكموا بخطئهم وبغيهم.
وهذا قول النابتة الحشوية، الذين يسمون أنفسهم السنية، وإياهم عنى القائل:
قال النواصب: قد أخطا معاويةٌ .... في الاجتهاد وأخطا فيه صاحبهُ
قلنا: كذبتم فلم قال النبي لنا: .... في النار قاتل عمار وسالبهُ
وفيما بسطنا في الرد عليهم في أبحاث هذا الكتاب، من الآيات القرآنية، /442

(2/442)


والأخبار النبوية، التي أجمع على روايتها طوائف الأمة المحمدية ـ فيما سبق، وفيما يأتي ـ ما يقطع كل مخاصم عنيد، وينفع من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ولهم ترهات وروايات مفتريات، تفرد بها المبطلون، لا تقاوم عشر معشار ما يردها من القرآن والسنة الجامعة، التي أجمع على روايتها وتواترها الفريقان؛ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق، فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون؟
نعم، قال السيد صارم الدين (ع): وقد يُرَدّ بكون مساوئه أكثر من محاسنه، وإن اجتنب الكبائر.
قلت: لما تقرر في الأصول، من اختلال العدالة، بخصال الرذالة.
قال: وقد يرد بالبدعة الإمام الداعي، وهي إحداث ما لم يثبت بدليل عقلي أو شرعي.
قلت: المراد الإحداث في الدين. /443

(2/443)


الفصل الثامن [في تحقيق السنة والبدعة على ما تقتضيه نصوص الكتاب والسنة]
ضابط البدعة المحرمة: ما خالف الشريعة المطهرة.
وهي تقابل السنة التي هي: الطريقة المحمدية ـ صلوات الله وسلامه على صاحبها، وعلى آله الطاهرين ـ أعمّ من أن تثبت بدليل المعقول أو المنقول.
وقد قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((إن عند كل بدعة يكاد بها الإسلام ولياً من أهل بيتي موكلاً، يعلن الحق وينوره، ويرد كيد الكائدين، فاعتبروا يا أولي الأبصار وتوكلوا على الله))، رواه جعفر الصادق عن آبائه، عن علي ـ صلوات الله عليهم ـ.
وقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((في كل خلف من أهل بيتي عدول، ينفون عن هذا الدين تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين؛ ألا إن أئمتكم وفدكم إلى الله، فانظروا من تفدون)).
قال الإمام شرف الدين (ع): وأقول: قد روى هذا أحمد بن حنبل، والحاكم صاحب المستدرك، وغيرهما، مما ذكر في مجمع الزوائد وغيره، وأخرجه الملا في سيرته بلفظه؛ أفاده الإمام محمد بن عبدالله الوزير (ع)؛ وقد سبقت رواية الإمام المنصور بالله (ع) في الديباجة، ورواية جواهر العقدين، قال فيها: وأخرجه أحمد في المناقب، انتهى.
وهو في أمالي الإمام أبي طالب (ع)، ورواه في نهج الرشاد علي بن الحسين /447

(2/447)


الشامي، بسنده إلى المحب أحمد بن عبدالله الطبري، بسنده إلى الملا، بسنده إلى عبدالله.
وروى بسنده إلى الحاكم أبي سعيد مثله.
هذا، وموضوع أمثال هذه الكلمات النبوية، واضح في العربية، فالمقدم الاشتغال بمعانيها الشرعية؛ وهي مما حرّفها المحرفون، ووضعها على غير ما عنى الله ـ تعالى ـ بها ورسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ الواضعون؛ فمما وضعته الألسنة، في رسم السنة: ما حكاه عنهم صلاح الإسلام (ع) في شرح الهداية، وهو معلوم من أقوالهم لذوي الدراية.
قال: وذكروا في كتبهم أن من أصول السنة الإقرار بالقدرين، والصلاة خلف الإمامين، والركوب خلف الأميرين، والصلاة على الجنازتين، والمسح على الخفين، وتفضيل الشيخين.
قال: وذلك لأن العترة منعوا من الإقرار بالقدر، الذي هو الجبر على المعصية، وآمنوا بالقدر، الذي هو علم الله بما يكون قبل أن يكون، ومن الصلاة على الفاسق، ومن المسح على الخفين، ومن تفضيل الشيخين ـ أي على أمير المؤمنين ـ.
قال الإمام شرف الدين: ومن الركوب خلف الظالم؛ وانتهى ذلك إلى أن جعلوا بغض أهل البيت سنة.
قال: وجعلوا المخالف لما ابتدعوه، وصادموا فيه النصوص الشرعية واخترعوه، هو المبتدع، وجروا على ذلك، حتى كان منه قتل ولدي رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وأولادهما، وأشياعهم وأتباعهم، ومع رواياتهم لمثل: قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ للحسن والحسين: ((أنا سلم لمن سالمكما، حرب لمن حاربكما)) وأشباهه.
ومع ذلك لا يقطعون بفسق قاتليهم، بل يترضون عنهم ويوالونهم، ويوجبون أخذ الولاية منهم، والطاعة لهم، ويخطِّئون من أنكر عليهم مناكيرهم الظاهرة، وفواحشهم الشاهرة، ويقررون العمل على بدعهم الباطنة والظاهرة، الخارجة عن حدود الشريعة.
ولما أوقع الشيطان مراده من هؤلاء المخالفين، لم يزالوا يعالجون في إطفاء ما منح الله به أهل البيت، من إيداع نوره، الذي هو حجة الله على عباده فيهم، بعد أن كان ينقل في أصلاب الأنبياء /448

(2/448)


الطاهرين، حتى انتهى إلى خاتم النبيين ـ صلى الله عليهم أجمعين ـ وصار إلى سيدة نساء العالمين، بإجماع العلماء المخالفين والموالفين، واستقر في جماعة أهل الحل والعقد من أبنائها الطاهرين؛ لما سبق من الأدلة، مما رواه الموالف والمخالف.
فأجمع أعداؤهم على نسبة البدعة إليهم، والترضية على معاوية، وأضرابه، الذين هم أصل عداواتهم؛ وأرادوا الإهانة لهم، والإطفاء لنورهم، الذي أبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، انتهى المراد.
وقد سبق ما فيه كفاية، لأرباب الهداية.
[تشنيع الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير على مذاهب السنية]
ولقد قام السيد الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير في هذا المقام، بواجب الإنكار، في تسميتهم لبدعة الجبر سنة، حيث قال في الإيثار، ما لفظه: وتسموا بالسنية، واتسموا بحماتها من أهل البدعة؛ فسلموا لأعداء الإسلام نسبة كل قبيح مذموم إلى الله ـ تعالى ـ وأنه منه لا من غيره، وأن ذلك وجميع أفعاله صدرت منه لغير حكمة، ولا عاقبة حميدة، وأنه لا يعاقب العصاة لأجل المعصية، ولا يثيب المحسنين لأجل الإحسان؛ بل تصدر أفعاله عنه، كما تصدر المعلولات عن عللها الموجبة لها، والاتفاقيات الاختياريات من الصبيان والمجانين؛ وأنه قد وقع منه تكليف المحال، وأنه ليس هو أولى به من تكليف الممكن، وأمثال هذا، مما لم تكن الملاحدة تطمع أن يمضي لهم طرفة عين.
فقد صار ذلك من آكد عقائد هؤلاء الحماة عن السنة والإسلام، يوصون به في المختصرات عموم المسلمين، فيوهمون أن ذلك من أركان الإسلام؛ فلولا أن هذا قد وقع منهم، ما كان العاقل يصدق بوقوعه ممن هو دونهم؛ فنسأل الله تعالى العافية، انتهى.
وإنما سقت كلامه؛ لكونه من أعظم من يذب عنهم، ويتمحل لهم، ولكنه غلبه الحق، فصرح بالواقع، واتسع الخرق على الراقع.
وللإمام الشهير، المنصور بالله الأخير، محمد بن عبدالله الوزير (ع)، كلام في هذا المقام، جار على منهج الصواب، وسبيل السنة والكتاب؛ وقد سبق ما فيه ذكرى لأولي الألباب. /449

(2/449)


قال: ونقول: إن الأهم المقدم، معرفة ما هو سنة نبوية دل عليها محكم الكتاب، ومعلوم السنة الجامعة غير المفرقة، حتى يمكن معرفة البدعة؛ كما قال باب مدينة العلم (ع): إن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال يعرفون بالحق، فاعرف الحق تعرف أهله...إلخ.
هذا، وقد ذكر نجم الآل، القاسم بن إبراهيم (ع) أن الواجب معرفة الحق...إلخ.
وهذا هو المعلوم من معالم الدين ضرورة؛ إذ لو كان الحق يعرف بالرجال، لأدى إلى مفاسد جمة، وظلمات مدلهمة، وكل يدعي الحق، ولتناقض جوهر الدين الذي لا ينقسم، وتنافى معناه فلم يلتئم؛ وذلك محال شرعاً وعقلاً.
ألا ترى أن كل فرقة من فرق الإسلام، قد ادعت أن مسألة كذا سنة وخلافها بدعة، وتعكس الفرقة الأخرى كذلك، ثم هلم جرا!!
ولا يقال: إن من هذا ما هو من الظنيات، والاختلاف ظاهر؛ لأنا نقول: إن محل النزاع في نفس مسألة قيل: إنها سنة، وإنها بدعة؛ ومعرفة الحق الذي هو سنة حقاً، متوقفة على الدليل، المفيد أن هذا الأمر حق، لا أنه يعرف بالرجال.
...إلى قوله: إذ الدين أمر شرعي، فلا بد فيه من دليل شرعي، أن هذا هو الحق، لا مجرد خصوصية تلك الفرقة، على فرض أنها هي المختصة بالفن دون غيرها؛ بخلاف ما كان من غير الدين والتدين، كمثل: الرجوع إلى أهل المهن في مهنهم، لا كمثل: ما يتطرق إليه التنافس والدغل والأهواء، والميل معها، كمثل: الميل إلى العقائد والمذاهب والدواعي إليها، ورمي المخالف لها وله بما تهواه النفوس، من غمط الحق والتحامل.
...إلى قوله: إذا عرفت هذا، ظهر لك أن مثل من تعلق بفنون اللغة العربية، التي من جملتها: علم القرآن، والحروف، قد مشوا على نمط واحد، ووتيرة واحدة، في فنونهم تلك، ولا تجد بينهم خلافاً ضائراً، مع كونهم من كل فرق الإسلام؛ وذلك لأن فنونهم لا دخل لها في التدين، ولا ثمة ما يوجب الملاحظة، وقصارى عملهم حفظ جوهر اللغة، وما يلحق ذلك من هيآتها، نحواً وتصريفاً، وبياناً ومعنى. /450

(2/450)


قال: وحينئذ لابد من معرفة السنة، ما هي، والبدعة، ما هي؛ ثم الحكم بأنها سنة وخلافها بدعة؛ مثل: مسألة الجبر، وما يلحق به، والإرجاء الذي يسمونه رجاء، تقولاً على اللغة؛ وكذا النصب والرفض، وما يلحق بهما، ومثل: الأذان بحي على خير العمل، والتثويب، وأمثال ذلك من مسائل الأصول والفروع؛ لا كون القائل بأي مسألة من الظنيات آثماً، أو غير آثم؛ إنما المراد الحكم بأن هذه المسألة سنة وخلافها بدعة، لا فيما يلزم القائل بها، أو ما يلزم له؛ فتأمل تصب.
...إلى قوله: وأيضاً، فإنهم ـ أعني أهل السنة ـ بزعمهم قد اضطربوا اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة، فيما بينهم؛ لاختلافهم، إما للنفاسة والرئاسة، أو العقيدة؛ فترى من يقول منهم في رجل: إنه أمير المؤمنين في الحديث؛ وهو بعينه عند آخرين أكذب الكاذبين، وتتنوع لهم فيه النعوت والأوصاف، بالمدح والذم وعدم الائتلاف.
وهذا معلوم لمن نظر في كتبهم، في الجرح والتعديل.
[كلام المقبلي وصارم الدين في انحراف وتحامل المحدثين]
قال: وقد ذكر المقبلي في كل كتبه أن هذا صنيع أهل الحديث، وأنه لا ينبغي تقليدهم، ولا الاعتماد على أقاويلهم؛ وإنما يكون ذلك كالأمارة، فخذ ودع.
وتراهم يرمون غيرهم بالحجر والمدر، كأنهم الدراري والغرر.
وكما هو صنيعهم في أهل علم الكلام، من أنه بدعة أضرت بالأنام، ومخالف للسلف والصحابة الأعلام، وتجاهلوا ـ أو جهلوا ـ أن من هو باب مدينة العلم من يدور معه الحق حيثما دار، قد خاض في الأسماء والصفات، وفتح أبواب تلك المقفلات، وقد ملأت البسيطة أقواله وخطبه وكلامه؛ فهل بعده على من اهتدى بهديه من ملامة؟
غير أنه قد حصل من بعض المتكلمين من الغلو والتنافس، مثل ما قدمنا في أهل الحديث.
[الكلام على حقيقة التشيع والشيعي عند المحدثين]
وقال: أو لم يقرروا أن كل من تولى علياً، وأهل بيته ـ سلام الله عليهم ـ من دون تقديم على أبي بكر، وعمر ـ شيعي؛ وكل شيعي موصوم مذموم؛ ولهذا يقدحون في الحاكم، والنسائي، والشافعي، وأمثالهم. /451

(2/451)


قلت: المروي عن يحيى بن معين أنه قال: طالعت كتاب الشافعي في السير، فوجدته لم يذكر إلا علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ.
فاستشهد بذلك أن الشافعي رافضي ـ صانه الله تعالى ـ وقد رواه عنه الإمام (ع) بصيغة الجزم.
وروى الإمام القاسم بن محمد (ع) عن السبكي في طبقاته، عن يحيى بن معين أنه قال: الشافعي ليس بثقة لما كان يتشيع، انتهى.
قال: وأما من قدم علياً (ع) في الإمامة والفضل فهو غال، ويطلق عليه رافضي.
وكذا من قدمه على عثمان، أو قدح في مثل معاوية وأتباعه، أو في بغاة الصحابة، أو ذكر أدنى وصمة، في أي صحابي، كما نقلنا عن ابن حجر في الفتح، والذهبي، وحكاه السيد محمد الأمير، والسيد حسن بن إسحاق ـ رحمه الله ـ، وكل ذلك ظاهر في كتبهم؛ وكيف، وابن العربي شارح الأحوذي قد قال: إن ابن ملجم ـ لعنه الله ـ قتل علياً باجتهاده بالإجماع...إلخ؟
وقال: إن الحسين بن علي (ع) قُتِلَ بسيف جده.
وكما في منهاج السنة لابن تيمية، فقد بالغ وأبلغ في تنقيص أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ، وكذا الزيدية.
...إلى قوله: وابن حجر قال في صواعقه التي هوت به في النار: إن معاوية باغ على علي، ثم على الحسن (ع)، حتى نزل الحسن عن الخلافة؛ ولكنه غير آثم، بل مأجور؛ لأنه فعل باجتهاده...إلخ.
وقال: إن معاوية، وعمرو بن العاص مجتهدان أخطآ.
وكم نعد من كلماتهم؟
والكل من أقوال هؤلاء هو مذهب الحشوية النابتة، والجبرية القدرية.
قال: ولم تقع متابعة الهوى إلا في أيام الصحابة وتابعيهم، وأيام بني أمية؛ وقد نبه القرآن في غير ما آية كريمة مثل: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } [الجاثية:17]، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا } [آل عمران:105]، وما ورد في النهي عن التفرق؛ ومعلوم وقوع ذلك /452

(2/452)


بين هذه الأمة كما في الأمم السابقة.
قال: ومعترك الأهوية، وظهور الضغائن ومتابعة الدنيا، ومتابعة ملوك بني أمية، إنما وقع في المتقدمين؛ فكم شاحح ولاحظ معاوية ومن بعده فيما يقدح به في أمير المؤمنين، وأهل بيته (ع)، وما يرفع به جانب عثمان خصوصاً، ثم أصحابه عموماً.
...إلى قوله: ثم انتقلت تلك الأحاديث إلى الديانين غالباً؛ وقد تمكنت الشبهة والجفوة للآل الأكرمين.
ثم نقل كلاماً لابن حجر العسقلاني في الجرح والتعديل مستشهداً به، وفيه: والآفة تدخل في هذا الفن تارة من الهوى، والغرض الفاسد، وكلام الثقة غير سالم من هذا غالباً، وتارة من المخالفة في العقائد، وهو موجود كثيراً قديماً وحديثاً؛ ولا ينبغي إطلاق الجرح بذلك.
ثم ساق مصطلحهم المتقدّم في التشيع، وأورد كلام السيد العلامة الحسن بن أحمد بن إسحاق في الرد على ابن تيمية، ومنه قوله: وهو أنهم جعلوا التشيع رأس كل بدعة في الدين، ثم قسموا الشيعة إلى فرق متعددة، حتى عدوا منهم فرقاً كفرية، بل صرّح الذهبي في بعض كتبه أن من يتولى علياً (ع) ويحبه، وأهل بيته، فهو شيعي؛ وكذا صرح شيخه مؤلف هذا الكتاب، فجعلوا مجرد توليهم، ومحبتهم بدعة، مع اتفاق الأمة على موالاة كل مؤمن.
قال الإمام محمد (ع): وهذا هو ما ذكره ابن الأثير في نهايته؛ لأنه قال ما نصه: وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولى علياً ـ رضي الله عنه ـ، وأهل بيته، حتى صار لهم اسماً خاصاً؛ قال: وأصلها من المشايعة، وهي المتابعة والمطاوعة، انتهى.
قال: فقد تواصى الحشوية بهذا أولهم وآخرهم، وكل من يتولى علياً وأهل بيته، فإنه عدوّهم؛ لأن الله ـ تعالى ـ قابل التشيع بالعداوة في قصة موسى (ع): {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى /453

(2/453)


الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص:15]، وقال تعالى في قصة نوح: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)} [الصافات].
ثم ساق الإمام من كلامه (ع) إلى قول الإمام: فهذا حاصل مذهبهم، وخلاصة معتقدهم؛ فكيف تقبل رواياتهم على أهل البيت وهم أعداؤهم؟
وقد جعلوا مجرد التشيع وصمة ينزهون كبارهم عنها؛ وذلك إنما هو مجرد حب علي من دون تقديمه أو تفضيله، أو من يقدح فيمن حاربه وعاداه، وهم يروون الذي في كتبهم: ((لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق))، وأن حبه علامة الإيمان، وبغضه علامة النفاق؛ وغير ذلك من أحاديثهم.
وهذا المعنى وغيره مما حكموا به، متواتر، أو صحيح، أو حسن؛ دع ما لم يصححوه.
وقد جعلوا تقديمه أو تفضيله على المشائخ رفضاً وغلواً، فيكون كل أهل البيت روافض، ويلزم في النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وحاشا مقامه، ومقام إلهه العزيز الكريم؛ لأنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ هو الذي قدمه وقربه وفضله.
...إلى قوله: ورووا فضائله، التي توجب عليهم تفضيله وتقديمه، ورووا أنه أمر علياً (ع) بقتال الناكثين، والقاسطين، والمارقين، وحديث عمار ـ رضي الله عنه ـ وأجمعوا على تواتره، بل إنه معلوم ضرورة، وفيه أن معاوية، وأتباعه الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار؛ وحديث الغدير وفيه: ((اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه)) وحديث المحاربة، وأمثال ذلك؛ فأنى تؤفكون؟
ولا عجب، فقد أصيبوا بـ((اخذل من خذله)).
وساق كلاماً قد سبق في صدر الكتاب.
[ذكر جماعة من النواصب اعتمدهم البخاري]
قال (ع): وقد رأيت أن أنقل هنا ما أورده الإمام القاسم بن محمد (ع) في بحث ما روي عن الإمام الهادي (ع) في البخاري، ومسلم، وقد ذكر أنهم عمموا تعديل الصحابة، ورووا عن بغاتهم وأمثالهم، ممن اشتهر وظهر عنه بغض /454

(2/454)


الآل، ونصب العداوة لهم.
حتى قال: ولم يرووا عمن يرتضى دينه إلا أقل مما رووا عمن ذكرنا، مع وسائط ممن يرى سبّ أمير المؤمنين، كعمرو بن شعيب، وآبائه وأضرابهم ـ لعنهم الله ـ، وممن كان يعلن ببغاضة أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ ويتجارى على الله بالكذب، وعلى رسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ كعكرمة، مولى ابن عباس.
قلت: تقدم الكلام على عكرمة وغيره.
قال: واعتمدوا على رواية كثير ممن عرف بالنصب كحريز بن عثمان الحمصي؛ فإن البخاري اعتمد على روايته.
قلت: قد بسط الكلام في شأن هذا المارق المنافق في شرح نهج البلاغة.
قال السيد العلامة، محمد بن عقيل، في العتب الجميل ـ أحسن الله جزاءه ـ بعد أن ساق بعض مخازيه: وقد تجشمت الإطالة، نصحاً لله ولرسوله؛ ليحذر الحريص على دينه دسائس المنافقين، ويدقق البحث، ولا يغتر بقولهم: ثقة، ثبت، صاحب سنة...إلخ؛ فإن أمثال هذا الإطراء منهم يكال جزافاً لكلاب النار، والفجار المنافقين، الوضاعين المبدلين للدين.
ومما تقدم نقله تعرف أن حريز بن عثمان فاجر منافق وضاع، مبغض لعلي (ع) مجاهر بذلك، وبأنه لا يحبه، بل يشيد بسبه.
قلت: رووا أنه كان يقول: لا أحبه، قتل آبائي ـ يعني علياً ـ.
قال: ويخترع الأحاديث في تنقيصه، وهو مع ذلك سفياني، داعية إلى مذهبه الممقوت؛ وادعاؤه سماع ذلك البهتان من طاغيته الوليد، أو احتمال إمكان ذلك، عذر غير مقبول، وإن كان الشياطين يوحي بعضهم إلى بعض.
قلت: وهذا البهتان المشار إليه، هو ما رووه عنه أنه قال: هذا الذي يرويه الناس عن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أنه قال لعلي: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى)) حق؛ ولكن أخطأ السامع.
قلت: فما هو؟
قال: إنما /455

(2/455)


هو (أنت مني بمنزلة قارون من موسى).
قلت: عمن ترويه؟
قال: سمعت الوليد بن عبد الملك يقوله.
وغير ذلك مما افتراه على الله وعلى رسوله، فسحقاً له ولشيخه وإمامه، وقائده إلى النار بزمامه؛ {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ }...الآية [التوبة:67].
ويا عجباه لأصحاب الصحاح، ولرجالهم المعتمدين عليهم من أرباب الفسوق والكفر الصراح! وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قال الإمام القاسم بن محمد (ع): وكذلك إسحاق بن يزيد العدوي.
قلت: كذا في الفرائد، والمشهور بن سويد (بالسين المهملة، والواو)، وقد أفاد ابن حجر في مقدمة الفتح أن العجلي وثقه، وأنه قال: كان يحمل على علي بن أبي طالب.
قال الإمام القاسم (ع): وحصين بن نمير الواسطي.
قلت: قال في الفتح: قال أبو خيثمة: كان يحمل على علي.
قال الإمام القاسم (ع): وبهز بن أسد، وعبدالله بن سالم الأشعري، وقيس بن أبي حازم.
قلت: هو من المشهورين ببغض سيد الوصيين، والمصرحين بذلك، كما في شرح النهج وغيره؛ وقد سبق الكلام فيه.
وممن جرحه ورد روايته من أئمة العترة (ع): الإمام ما نكديم، والأمير الحسين، والإمام القاسم (ع) كما ترى.
وادعى الذهبي أن الناس أجمعوا على توثيقه؛ فقال بعضهم: انظر في كلام الذهبي حيث الرجل يروي ما يوافق مذهبه يبالغ في التوثيق، ويروي الإجماع مجازفة.
وفي تهذيب التهذيب عن ابن المديني عن القطان أنه منكر الحديث؛ وفي مقدمة الفتح عن يعقوب بن أبي شيبة أن من أصحابهم من قال: له أحاديث مناكير، وأنه كان يحمل على علي.
..إلى قوله: ولذلك كان يجتنب كثير من قدماء الكوفيين الرواية عنه، انتهى. /456

(2/456)


قال الإمام القاسم بن محمد (ع): ومحمد بن زياد بن الربيع المصري.
قلت: هو الألهاني الحمصي في تهذيب التهذيب لابن حجر.
قال الحاكم: اشتهر عنه النصب، كحريز بن عثمان، انتهى.
وسلك فيه الذهبي مذهبه، فادعى اتفاق الناس على توثيقه، قال: وما علمت فيه مقالة سوء، سوى قول الحاكم الشيعي، انتهى.
قال الإمام القاسم (ع): والوليد بن كثير بن يحيى المدني؛ فهؤلاء اعتمدهم البخاري مع ظهور عداوتهم لأمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ، وبغضهم له.
[عدد من تكلم فيهم ممن اعتمدهم أهل الصحاح، والمجاهيل في البخاري، ومن أخرج له البخاري ولم يخرج له مسلم؛ والعكس]
ثم ذكر الإمام (ع) ما قد قدمناه: أن المتكلم فيهم ممن اعتمدهم البخاري ثلاث مائة وخمسة وخمسون، ومن الذين علق لهم خمسة وسبعون، والمجاهيل مائة وثمانية وأربعون، وأن النووي قال في شرح مسلم: قال أبو عبدالله الحاكم، عدد من أخرج له البخاري، ولم يخرج له مسلم ـ يريد أن مسلماً استضعفهم ـ أربع مائة وأربعة وثلاثون، وعدد من احتج بهم مسلم، ولم يحتج بهم البخاري ـ يريد أنه استضعفهم ـ ستمائة وخمسة وعشرون.
قال: ومثل ما ذكره الحاكم في هذا ذكره ابن حجر في مقدمة فتح الباري.
وذكر أهل التدليس، وأنه مقرر في كتبهم، حتى حكى أن محمد بن يحيى الذهلي نهى أن يأخذوا عن البخاري.
...إلى قوله: وصح أن البخاري رمى الذهلي هذا بالكذب، ثم اعتمده في /457

(2/457)


صحيحه، ودلّسه.
وساق في معاملتهم بمجرد أهوائهم.
قال: ويقولون: فلان زائغ، فلان تركوه؛ بلا حجة إلا الدعوى؛ ويعدلون من جرح بسبب من أسباب الجرح معيناً، كما رووه عن عبدالله بن أبي داود، بأنه يكذب، وبأنه رمى أنس بن مالك خادم رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وأزواجه بالزور والبهتان في حديث الطير، وقال: إن صح حديث الطير فنبوته ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ باطلة.
وهذا كفر.
قلت: هذا المخذول هو أبو بكر بن أبي داود السجستاني، صاحب السنن.
وفي الميزان للذهبي بالسند إلى أبيه أنه قال: ابني عبدالله كذاب؛ قال ابن صاعد: كفانا ما قال أبوه فيه.
وفيه: قال ابن عدي ـ وساق السند إلى إبراهيم الأصفهاني ـ يقول: أبو بكر ابن أبي داود: كذاب، انتهى.
ثم شهد له الذهبي بالحفظ والإمامة؛ قال: وما ذكرته إلا لأنزهه.
قال الإمام القاسم (ع): فعدلوه.
وقال الذهبي في النبلاء بعد أن ذكر هذا عنه: إنما هو كذاب في لهجته لا في الحديث؛ فكأنه عنده من أركان المحدثين، لما كان زائغاً عن أمير المؤمنين؛ ثم ذكر بعض من قد تقدم الكلام فيهم.
...إلى قوله: وأشباههم من النواصب البغضة لآل محمد، وأنهم عندهم عدول، ولا بأس بهم؛ وإن رموا بشيء من الجرح اغتفروه.
انتهى كلام الإمام (ع)، وقد تقدم ما فيه كفاية.
وأقول والله الموفق: قد سمعت ما يقدمون عليه من الجرأة على الله ـ تعالى ـ وعلى رسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ واختيار إبطال النبوة، وجحد الرسالة، على إبطال ما أصلوه من عند أنفسهم، وبأهوائهم، من تقديم /458

(2/458)


من أخر الله، وتأخير من قدم الله، بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير؛ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله، قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير؟ ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله؟
وليس بنافع لأمثال هذا المارد الجاحد، الرد والتكذيب لخبر واحد، ففي معناه ما لايحصى كثرة، كتاباً وسنة؛ فقد علم من الكتاب المبين، والمجمع عليه من سنة الرسول الأمين، التقديم والتفضيل لسيد الوصيين، وأخي سيد النبيين، بل نفس إمام المرسلين، ولسائر عترته المطهرين ـ صلى الله وسلم عليهم أجمعين ـ برغم أنوف الجاحدين؛ وربك يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة؛ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله؟ أهم يقسمون رحمة ربك؟ قل: إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله واسع عليم، يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وقد سبق في الكتاب، ما فيه تبصرة لأولي الألباب.
والمعلوم من حال الخصوم كافاهم الله ـ تعالى ـ أنهم يسلكون في إبطال الوارد من حجج الله ـ تعالى ـ على لسان رسوله في وصيه، وسائر أهل بيت نبيه ـ صلى الله وسلم عليهم ـ كل طريقة، تارة بالتضعيف والتزييف، وأخرى بالتبديل والتحريف، ومرة بالمعارضة والمناقضة، وأخرى بالجحود والتكذيب، وما بهرتهم به الآيات، والأخبار المتواترة، وقهرتهم فيه البراهين المعلومة /459

(2/459)


القاهرة؛ ولم يجدوا في رده ولو بالمباهتة، أو معارضته ولو بالروايات الكاذبة، أو تأويله ولو بالتحريفات الباطلة، حيلة، ولم يهتدوا سبيلاً؛ فعند ذلك يعرضون عن معانيه، ويمنعون عن الخوض فيه، ويقطعون عنه الخطاب، ويوصدون دونه الأبواب، كأن في آذانهم عن سماعه وقراً، ومن بينهم وبينه حجاب، ويتواصون بهجره، وإلغاء ذكره، إلا ما غلبهم من إمراره عند تلاوة الآيات، أو إملاء الروايات، من غير تعريج عليه، أو توقف لديه؛ ومن استدل به أو بحث عنه، أو نظر في معناه، رموه بالبدعة، ونبزوه بالرفض، ومخالفة السنة والجماعة، ونسبوا إليه كل طامة، ولا يرقبون فيه إلاً ولا ذمة؛ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
[خبر الطير وتخريجه]
فنقول: خبر الطير رواه أئمة العترة (ع) منهم: الإمام المنصور بالله، أخرجه في الشافي، والأمير الحسين في الينابيع؛ وقال: وهذا الخبر مما احتج به أمير المؤمنين(ع) يوم الشورى بمحضر الصحابة، ولم ينكر عليه منهم منكر، انتهى.
وفيه: ((اللهم ابعث أحب خلقك إليك))، و((اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر))، الخبر.
قال شارح الأساس: وهذا الخبر مشهور، قال في المحيط: وروي عن أنس، وسعد بن أبي وقاص، وأبي ذر، وأبي رافع مولى رسول الله صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم، وسفينة، وابن عمر، وابن عباس؛ وهو متلقى بالقبول من جلّ الصحابة. /460

(2/460)


قلت: في كتاب المحيط ما لفظه: إن أمير المؤمنين احتج به بحضرة الصحابة يوم الشورى، ولم ينكر عليه أحد، وفيه: كل طريق تعلم بها الشورى، يعلم بها إيراده(ع) الخبر.
وفيه: ويدل على صحة هذا الخبر أيضاً إجماع العترة عليه، وبينا من قبل أن إجماعهم حجة.
ويدل على ذلك أيضاً أن هذا الخبر رواه عدة من الصحابة؛ لأنه روى ذلك أنس، وسعد بن أبي وقاص ـ وذكر بقية السبعة المذكورين ـ.
ثم قال: وما من واحد منهم إلا وقد جعله حجة.
إلى قوله: فلو لم يكن في الأصل مما قامت به الحجة لم يكن ينتشر هذا الانتشار، ولم تجتمع عليه، وعلى الانقياد له جلّ الصحابة.
وقال الشيخ أبو عبدالله البصري ـ رحمه الله ـ: روى خبر الطير عن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أنس بن مالك، وسعد بن أبي وقاص، وأبو رافع مولى النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وسفينة مولى النبي، وابن عباس.
قال: ورواية هؤلاء لهذه القصة عن النبي - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - مشهورة، لا يدفعها أحد من أهل العلم.
انتهى بلفظه من المحيط بالإمامة.
قال أيّده الله في التخريج: ورواه ابن المغازلي عن ابن عباس، وعن سفينة مولى رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وعن علي من حديث المناشدة، وعن أنس من طرق أكثر من عشر، ورواه الكنجي عن أنس من ثلاث طرق، وقال: رواه المحاملي كذلك ـ أي عن سفينة ـ، وذكر أن الحاكم أخرجه عن ستة وثلاثين نفساً؛ وذكر عددهم في مناقبه.
قال: ورواه أبو علي الصفار بإسناده عن أنس، ورواه أبو الحسين عبد الوهاب بن الحسن الكلابي عن أنس، ورواه النسائي في خصائصه عن أنس.
قال: ورواه ابن المغازلي، والخوارزمي بإسنادهما إلى عامر بن واثلة عن علي (ع).
انتهى المراد نقله.
قلت: وفي ذخائر العقبى للطبري الشافعي ما ذُكر أنه (ع) أحب الخلق إلى الله بعد رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ عن أنس بن مالك، قال: /461

(2/461)


كان عند النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ طير، فقال: ((اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير))، فجاء علي بن أبي طالب (ع) فأكل معه.
أخرجه الترمذي، والبغوي في المصابيح في الحسان، وأخرجه الحربي، وخرجه الإمام أبو بكر محمد بن عمر بن بكير النجار عن أنس؛ وساقه إلى قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((اللهم ائتني بأحب الخلق إليك وإلي))، انتهى.
وفي شرح التحفة العلوية للسيد محمد الأمير بعد سياق ما نقلته من الذخائر ما لفظه: وفي الجامع الكبير في مسند أنس بن مالك.
وساق الرواية إلى قوله: فسمع النبي - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - صوته، فقال: ((ادخل يا علي، اللهم وإلي ـ ثلاثاً ـ)) أخرجه ابن عساكر.
وذكر أنه أخرجه ابن عساكر أيضاً عن دينار، وعن عبدالله القشيري، عن أنس، وعبدالله بن أحمد بن حنبل، عن سفينة مولى رسول الله صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم، وفيه: ((اللهم ائتني بأحب خلقك إليك وإلى رسولك...الخبر))، وذكر رواية ابن المغازلي له.
قال الأمير: قال الذهبي: وأما حديث الطير، فله طرق كثيرة قد أفردتها بمصنف.
قلت: صنّف فيها بعد ما أدهشته كثرتها كما بهرته طرق خبر الغدير، حتى قطع بها، فأنوار فضائل الوصي ـ صلوات الله عليه ـ تارة تدهشه وتارة تبهره، وهو أعمى عن طريق الهدى لا يبصره؛ وكل ذلك من إخراج الله الحق على ألسنة المبطلين، والحمد لله رب العالمين.
قال الإمام محمد بن عبدالله (ع) في الفرائد: وقد أردت أن أنقل شيئاً من كلام الوالد محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ من العواصم، وهو ممن لا يتهم؛ فقد بالغ في تجميل المحدثين، حتى تعصب لهم بكل ممكن.
قال: ولقد صنف الحافظ العلامة محمد بن جرير الطبري كتاباً في طرق حديث الطير، في فضائل علي (ع)، لما سمع رجلاً يقول: إنه ضعيف.
قال الذهبي: وقفت على هذا الكتاب، فاندهشت؛ لكثرة ما فيه من الطرق.
فكيف بمن قال: إن صحّ حديث الطير فنبوة محمد صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم باطلة؟ وهو أبو بكر بن أبي داود؛ /462

(2/462)


فهل بعد هذا من كفر صريح؟
كذلك الذهبي له مقال فيه مع قوله هذا.
فما ترى في هؤلاء الذين تغاضوا لابن أبي داود، أهم أعداء وشر الأعداء أم لا؟ وهل يقبلون على أهل البيت؟ حاشا الله.
قال الإمام محمد بن عبدالله: على أنّا نقول: إن حديث الطير برغم كل خصم أخرجه الترمذي، والحاكم وصححه، وقال: إنه يلزم البخاري ومسلماً إخراجه في صحيحيهما؛ لكثرة من رواه، فقد عدّ في المستدرك من وجوه التابعين نيفاً وثلاثين رجلاً كلهم رواه عن أنس، وجمع طرقه في غيره عن ستة وثمانين نفساً يروونه عن أنس؛ فهو متواتر قطعاً عن أنس.
وقد رواه المحاملي عن سفينة مولى رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -، ورواه عبدالله، ورواه أمير المؤمنين في حديث المناشدة بمجمع من الصحابة فأقروا به، ورواه أيضاً غيره؛ وإذا كان أحب خلق الله إلى الله، فهو أحب خلق الله إلى رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قطعاً؛ على أن في بعض طرقه قوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((اللهم وإلي)).
ثم ساق كلام صاحب التحفة، وسأنقله منها؛ فإني أعدل كثيراً إلى الأصول التي يأخذون منها؛ لزيادة إفادة، لا تخفى على أرباب الرواية والدراية.
[أحاديث المحبة لعلي وتخريجها]
هذا، قال السيد العلامة محمد الأمير، في الرد على المعاند في خبر الطير: ولأنه علل عدم صحته بأمر قد ثبت، وهو أنه إذا كان أحب الخلق إلى الله كان أفضل الناس بعد رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، فقد ثبت أنه أحب الخلق إلى الله من غير حديث الطير، كما أخرجه أبو الخير القزويني من حديث ابن عباس أن علياً (ع) دخل على النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ فقام إليه وعانقه، وَقَبَّلَ بين عينيه، فقال له العباس: أتحب هذا يا رسول الله؟
قال: ((ياعم، والله، لله أشد حباً له مني)).
ذكره المحب الطبري.
قلت: وقد أورده الطبري في بحث آخر بلفظ: وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كنت أنا والعباس جالسين عند رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ إذْ دخل علي بن أبي طالب، فسلم، فرد عليه رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ السلام،/363

(2/463)


وقام إليه وعانقه، وقبل بين عينيه، وأجلسه عن يمينه.
فقال العباس: يا رسول الله، أتحب هذا؟
فقال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((يا عم، والله، لله أشد حباً له مني؛ إن الله جعل ذرية كل نبي في صلبه، وجعل ذريتي في صلب هذا)).
أخرجه أبو الخير الحاكمي.
قلت: وإخراج الحاكمي له، وصاحب كنوز المطالب في بني أبي طالب، أفاده في الإقبال وشمس الدين صاحب المسوح فيما كتبه للإمام القاسم بن محمد (ع)، وهو في جواهر العقدين، قال: أخرجه أبو الخير الحاكمي في أربعينه، ورواه صاحب كنوز المطالب بزيادة.
وساق إلى قوله: فقال فيه رسول الله: ((ياعم، والله، لله أشد حباً له مني؛ إنه لم يكن نبي إلا ذريته الباقية بعده في صلبه، وإن ذريتي من بعدي في صلب هذا؛ إنه إذا كان يوم القيامة دُعي الناس بأسماء أمهاتهم ستراً من الله عليهم، إلا هذا وذريته؛ فإنهم يُدعون بأسمائهم؛ لصحة ولادتهم)).
قال الأمير: في حديث خيبر الماضي ما يدل لذلك، فإنه ليس المراد من وصفه بحب الله إياه أدنى مراتبها، ولا أوسطها، بل أعلاها؛ لما علم ضرورة من أن الله يحب جماعة من الصحابة، غير علي (ع).
..إلى قوله: فلما علم أنه قد شاركهم في محبة الله لهم، وأنه رأس المتبعين لرسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ علم أنه أراد أعلاهم محبة لله؛ ولهذا تطاول لها الصحابة، وامتدت إليها الأعناق، وأحب كل وترجى أن يخص بها.
ثم ساق في الاستدلال بأخبار أوردها الطبري في الذخائر، ونذكرها قريباً من رواية الفرائد؛ ولعمر الله، إن الأمر في ذلك لأبين من أن يحوج إلى بيان، أو يتكلف عليه إقامة برهان.
ونهج سبيلي واضح لمن اهتدى .... ولكنها الأهواء عمّت فأعمتِ
فهل يصح من مؤمن بالله ورسوله أن يعارض ما علم من النصوص الضرورية، في الكتاب الكريم والسنة النبوية، بمثل ما رواه البخاري في صحيحه، بسنده إلى عمرو بن العاص وزير معاوية، وهو: أيّ الناس أحب إليك يا رسول الله؟
قال: (من النساء عائشة). /464

(2/464)


قال: فمن الرجال؟
قال: (أبوها).
وليس إلا معارضة لما ورد بهذا اللفظ بخصوصه في سيد الوصيين، وأخي سيد النبيين، وفي زوجه فاطمة البتول، بضعة الرسول، صلى الله وسلم عليهم وعلى آلهم الطاهرين.
كما قال الإمام محمد بن عبدالله (ع) في الفرائد ـ وقد ساق البحث في رواية البخاري لما يعارض خبر الأبواب المعلوم بالتواتر، بإقرار الخصوم، كما قدمنا ـ ما لفظه: وهذا الحديث في المعارضة يشبه حديث عمرو بن العاص ـ وذكره ـ.
قال الإمام (ع): فإنه معارض للحديث المروي عن عائشة، الذي أخرجه الترمذي من رواية جميع بن عمير، قال: دخلت مع عمتي على عائشة، فسُئلت: أي الناس كان أحب إلى رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ؟
قالت: فاطمة.
قيل: فمن الرجال؟
قالت: زوجها، إن كان ما علمت صواماً قواماً.
قلت: وأخرجه الخوارزمي بسنده إلى جميع بن عمير، قال: دخلت على عائشة.
..إلى قوله: فقالت: ما رأيت رجلاً قط أحبّ إلى رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ من علي، ولا امرأة أحبّ إليه من امرأته.
قال الإمام: وأخرج عن بريدة، قال: أحب الناس إلى رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ فاطمة؛ قال: ومن الرجال علي (ع).
وذكر البخاري حديث عمرو، وترك حديث عائشة؛ وحديث عمرو هذا ضعيف، أعظمها حال عمرو.
أما معاداته لعلي (ع) فإنها واضحة كالشمس، وقد أشار إلى وضع عمرو له السلف ـ رحمهم الله ـ فإنهم سموه: حديث عمرو، وجعلوه كالعلم له؛ وفي رجاله غير عمرو.
..إلى قوله: على ما ذكره ابن حجر في نقادة من نقد فيه من رجال البخاري؛ ولا حاجة في إعلاله من جهة الرجال بزيادة على حال عمرو، الذي نسب إليه الحديث؛ وأين رجاله وحاله، وشواهده من حديث علي وفاطمة؟!!
وقد ذكر ابن حجر في شرح حديث عمرو هذا ما هو معارض له من حديث عائشة، غير حديث فاطمة (ع).
قال: وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي بسند صحيح عن النعمان /465

(2/465)


بن بشير، قال: استأذن أبو بكر على النبي - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -، فسمع صوت عائشة عالياً، وهي تقول: والله، لقد علمت أن علياً أحب إليك من أبي...الحديث.
...إلى أن قال: وهو في الظاهر يعارض حديث عمرو؛ ولكن يرجح حديث عمرو أنه من قول النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وهذا من تقريره.
...إلخ ما ذكره، وختمه بقوله: والله أعلم.
قلت: ويالله من هذا الترجيح، الذي هو غير رجيح، ما أضعف قواه، وأوهن عراه، وأبعده عن الصواب، المعلوم من ضرورة السنة والكتاب، قولاً وفعلاً وتقريراً يعلمه أولوا الألباب!.
وتالله، إنه لا يخفى ذلك على مثل هذا الشيخ، ولا يجهل حال عمرو، ولكن الهوى يعمي ويصم؛ نعوذ بالله من الخذلان.
وسلك السيد الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير طريقة إلى الجمع، لا بأس بها، لو كان للرواية قرار؛ ولكن كيف والراوي من رؤوس الدعاة إلى النار؟ فهي مؤسسة على شفا جرف هار؛ فلا معنى للجمع إلا بعد صحة الأخبار.
فقال في العواصم ـ بعد أن تكلم على حديث عمرو ـ ما لفظه: ولكن ذلك في أحب الناس إليه، لا في أحب أهله، الذين هم أحب الناس إليه؛ وقد روى الترمذي من حديث عائشة...إلخ، وذكر أنه روى حديث بريدة.
قال: وذكر الترمذي نحو الجمع الذي ذكرته عن إبراهيم النخعي...إلخ كلامه.
قال الإمام في الفرائد: وفي كلام ابن حجر إشارات إلى ما وقع في نفسه، من حديث عمرو، وكلاهما من أهل الجراءة في الدين، والمحاربة لأمير المؤمنين؛ ولكن النعمان كان أصدق من عمرو، وليس له نفاقه وكذبه وغدره.
وأما في هذا الحديث فعداوته ـ قلت: أي النعمان ـ مؤكِّدة ومحقِّقة لصدقه فيما رواه من فضيلته؛ والحق ما شهدت به الأعداء؛ وقوة أحاديث علي بينة ظاهرة، وشواهده كثيرة متواترة.
وقد تقدم أنه لم يكن الحامل لأكثر من تقحم على تعديل كل الصحابة على تفسيرهم، الذي فسروا به الصحابي، إلا /466

(2/466)


توسيع الدائرة، وعلاج إبطال ما أثبت الله ـ سبحانه ـ لأهل بيت رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ من وجوب الاتباع والتفضيل، على كل من أهل الفضل؛ ولم يكن لهم ما يعارضون به براهين فضيلتهم، ولزوم قدوتهم وحجتهم، إلا قبول روايات أعاديهم، والقائمين بهتك حقوقهم، وإطفاء نور الله فيهم.
...إلى قوله: فأبطلوا ما أمكنهم إبطاله.
وما قهرهم برهانه؛ فإما يتأولونه ولو بتأويل باطل، أو يمنعون أن يبحث عن مدلوله؛ لئلا يرتقي إلى الأعلى فالأعلى، وقد كررنا هذا مراراً ـ وأفاد أن هذا كلام الإمام يحيى شرف الدين (ع) ـ.
قال في الفرائد: وأبى الله إلا أن يتم نوره، ولو كره الكافرون، بروايات الخصوم.
ثم ذكر أنه خرّج خبر جميع بن عمير النسائي من طريقين.
قلت: وقد تقدم إخراج الخوارزمي له.
قال: وقال السيوطي: أخرجه الخطيب في المتفق والمفترق، وابن النجار، عن عروة، قال: قلت لعائشة: من أحب الناس إلى رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ؟
قالت: علي بن أبي طالب.
ثم سألها عن خروجها عليه...الخبر؛ أخرجه الترمذي، وأبو داود.
قلت: وأخرج أحمد بن حنبل عن جميع ما لفظه: دخلت مع أمي على عائشة.
..إلى قوله: فسألتها عن علي، فقالت: سألتني عن أحب الناس كان إلى رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لقد رأيت علياً، وفاطمة، وحسناً، وحسيناً، وقد جمع رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بثوب عليهم، ثم قال: ((اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً)).
قالت: قلت: يارسول الله، أنا من أهلك؛ قال: ((تنحي أنت إلى خير)).
[حديث الإنذار وتخريجه]
وذكر الإمام محمد بن عبدالله (ع) أن النسائي أيضاً أخرج حديث بريدة، وحديث النعمان، ثم ذكر خبر التسعة الذين جاءوا إلى ابن عباس رضي الله عنهما؛ /467

(2/467)


وما رواه لهم من مناقب الوصي ـ صلوات الله عليه ـ العشر، وقد اشتمل على خبر: ((من كنت مولاه))، وخبر المنزلة.
وفيه: أن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قال: ((إنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي))، وأنه قال: ((أنت ولي كل مؤمن بعدي ومؤمنة))، وخبر الراية، وخبر براءة، وخبر الإنذار، وخبر سبقه إلى الإيمان، وخبر الكساء، وخبر شرائه نفسه ليلة نام في مكانه، وخبر سد الأبواب غير باب علي، وغير ذلك؛ وهو خبر جامع، أخرجه الإمام المنصور بالله في الشافي.
وأفاد الإمام (ع) في الفرائد أنه أخرجه أحمد بن حنبل عن ابن عباس، وأخرج النسائي بنحوه في خصائصه، والكنجي في مناقبه كما في رواية أحمد بطوله.
قال: ورواه ابن عساكر في الأربعين الطوال، وأخرجه الحاكم في المستدرك وصححه، كما في حديث أحمد، وهو في صحيح أبي عَوانة.
وقال في موضع آخر: ثم ذكر ـ أي الإمام المنصور بالله (ع) ـ في الشافي حديث جمع بني هاشم عند نزول: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء]، وعرضه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ عليهم من يكون وزيره وخليفته فأبوا، فقال علي: أنا، فقال: ((أنت)).
وعن الثعلبي حديث نور النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وابن المغازلي، والديلمي؛ وفيه: ((ففيَّ النبوة، وفي علي الخلافة)).
وقد أخرج حديث جمع بني هاشم ابن حجر في تخريجه أحاديث الكشاف، وقال: أخرجه ابن إسحاق في المغازي، والبيهقي مطولاً، وأخرجه البزار، وأبو نعيم في الدلائل...إلخ.
ورواه من أصحابنا الجم الغفير بالأسانيد القوية، وفيه الخلافة /468

(2/468)


بعد أن عرض عليه ما أراده منهم، فقال: ((أيكم يوازرني على الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم)).
فأحجم القوم جميعاً.
فقال علي ـ وهو أحدثهم سناً ـ: أنا يا نبي الله.
قال: فأخذ برقبتي، وقال: ((هذا أخي ووصيي وخليفتي، فاسمعوا له وأطيعوا)).
وفي رواية الأولين أنهم قالوا لأبي طالب: أطع ابنك فقد أمّره عليك.
قلت: وأخرجه الحاكم بسنده إلى ابن عباس، وفيه: ((فأيكم يوازرني على أمري هذا على أن يكون أخي ووصيي ووليي، وخليفتي فيكم)).
ورواه بسنده عن البراء، وفيه: ((على أن يكون وصيي، ووليي، وخليفتي)) وقولهم لأبي طالب: أطعْ ابنك فقد أمره عليك.
وأخرجه الكنجي عن البراء، وصحح نحوه الإسكافي.
وقال السيوطي: أخرجه ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي.
انتهى من التحفة.
وأخرج خبر الإنذار محمد بن سلميان الكوفي عن علي (ع) بسنده من أربع طرق؛ في طريقين ذكر الوصية، وفي بعض ((وليي وخليفتي)) في ثلاث طرق، و((أخي)) في ثلاث، وفي واحدة: ((يقضي ديني)).
وأخرجه أيضاً بسنده إلى ابن عباس، وفيه: ((أيكم يوازرني على أن يكون أخي ووصيي ووارثي وخليفتي ووزيري)).
أفاده أيده الله في التخريج؛ وقد سبقت روايته من الشافي، وبعض طرقه في خبر المنزلة.
قال الإمام (ع): على أن لفظ الخلافة قد جاء من طرق المحدثين كثيراً؛ ولكنها الأهواء عمت فأعمت.
قلت: وقد سبق ويأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ كثير طيب.
ثم ذكر الإمام (ع) ما أورده الأمير من الأخبار المشار إليها آنفاً، فقال: وأخرج المخلص الذهبي، والحافظ أبو القاسم الدمشقي، من حديث عائشة، وقد ذُكِرَ عندها علي، فقالت: ما رأيت رجلاً أحب إلى رسول الله صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم منه، ولا امرأة أحبّ إلى رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ من امرأته.
وأخرج الخجندي عن /469

(2/469)


معاذة الغفارية، قالت: دخلت على رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في بيت عائشة، وهي خارجة من عنده فسمعته يقول: ((يا عائشة إن هذا أحب الرجال إليّ، وأكرمهم عليّ؛ فاعرفي له حقه، وأكرمي مثواه)).
وأخرج الملا في سيرته عن معاوية بن ثعلبة، قال: جاء رجل إلى أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ وهو في مسجد رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ فقال: يا أبا ذر، أتخبرني بأحبّ الناس إليك؟ فإني أعرف أن أحب الناس إليك أحبهم إلى رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
فقال: هو ذا الشيخ ـ وأشار إلى علي (ع) ـ.
ذكر هذه الأحاديث المحب الطبري.
[خبر عن أبي بكر في تفضيل أمير المؤمنين (ع)]
قال الإمام: واسمع إلى ما روي عن أبيها.
أخرج الدارقطني عن الشعبي، قال: بينا أبو بكر جالس، إذْ طلع علي بن أبي طالب من بعيد؛ فقال أبو بكر: من سره أن ينظر إلى أعظم الناس منزلة، وأقربه قرابة، وأفضله حالة، وأعظمه عناء عن رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - فلينظر إلى هذا الطالع.
انتهى من جواهر العقدين للسمهودي الشافعي.
قلت: هو كذلك في الجواهر؛ وفي رواية بلفظ: من سره أن ينظر إلى أقرب الناس قرابة من نبيهم ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وأجوده منه منزلة، وأعظمهم عند الله عناء، وأعظمهم عليه، فلينظر إلى علي.
أخرجه الخوارزمي عن شيخه الزمخشري، مسنداً إلى أبي سعد السمان، بإسناده إلى الشعبي قال: نظر أبو بكر إلى علي مقبلاً، فقال: من سره...إلخ.
أفاده في التفريج.
وفي الجواهر: قال أبو بكر: ما كنت لأتقدم رجلاً سمعت رسول الله ـ صلى الله /470

(2/470)


عليه وآله وسلم ـ يقول فيه: ((علي مني كمنزلتي من ربي)).
قال: أخرج ابن السمان في كتاب الموافقة عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وذكر الخبر.
ورواه في ذخائر العقبى بلفظه، وقال: أخرجه السمان.
وأخرج ابن المغازلي عن جابر بن عبدالله.
وفي شرح التحفة عن ابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ بلفظ: ((يا علي، منزلتك عندي كمنزلتي عند الله، ومن فارقك فقد فارقني، ومن فارقني فارق الله))؛ أخرجه الحاكم الجشمي عن أنس، وسعيد بن جبير؛ وأخرجه الإمام في الشافي بسنده إلى الحاكم.
[خبر الجواز وتخريجه]
وفي الذخائر أيضاً: عن أبي بكر، قال: سمعت رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يقول: ((لا يجوز أحد الصراط إلا من كتب علي له الجواز)) أخرجه ابن السمان في كتاب الموافقة، انتهى.
قلت: خبر الجواز مروي بطرق عدة، منها: عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: قال النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((علي يوم القيامة على الحوض؛ لا يدخل الجنة إلا من جاء بجواز من علي بن أبي طالب))، أخرجه المنصور بالله في الشافي، وأخرجه ابن المغازلي.
وأخرج نحوه الخوارزمي عن ابن عباس، وابن مسعود.
وأخرجه ابن المغازلي عن ثمامة بن عبدالله بن أنس، عن أبيه، بلفظ: ((لم يجز إلا من معه كتاب ولاية علي))، وغير ذلك.
[اعتراف الشيخين للعترة بالأفضلية عليهما]
وساق الإمام (ع) في اعتراف أبي بكر وعمر، من ذلك: ما جرى للحسنين (ع) معهما على المنبر؛ وقد رواه في جواهر العقدين، إلا أن الإمام استوفى الطرق، وهي /471

(2/471)


ما رواه الدارقطني، عن عبد الرحمن الأصبهاني، قال: جاء الحسن بن علي(ع) على أبي بكر، وهو على منبر رسول الله صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم، فقال: انزل عن مجلس أبي.
فقال: صدقتَ والله، إنه لمجلس أبيك.
وأجلسه في حجره وبكى.
قال: وروى الدارقطني في قصة أخرى في أمر المنبر اتفقت للحسين بن علي (ع) مع عمر بن الخطاب نحو هذه، وأن عمر قال: منبر أبيك لا منبر أبي.
قال: وقد ذكر ابن سعد في طبقاته هذه القصة، وغيرها.
قلت: في الجواهر: وقال: وهل أنبتَ الشعر على رؤوسنا إلا أبوك؟ - أي إن الرفعة ما نلناها إلا به - انتهى.
قال الإمام: وروى قصة الحسين (ع) الكنجي في مناقبه، وقال: أخرجها أحمد بن حنبل في المسند، وأحمد بن سعد، وطرَّقها محدث الشام ـ يعني ابن عساكر - من طرق شتى، وذكر الذهبي قصة الحسين، وصححها - وكذلك المزي - وذكر أيضاً قصة الحسن السيوطي في جمع الجوامع، وعزاه إلى أبي نعيم، والجابري، وابن سعد.
انتهى المراد.
قلت: وفي رواية الذهبي، والمزي: أن الحسين (ع) قال لعمر: انزل عن منبر أبي، واذهب إلى منبر أبيك.
فقال: إن أبي لم يكن له منبر.
وأقعده معه، وقال له: من علّمك هذا؟
قال: ما علّمني أحد.
ثم قال له: وهل أنبت الشعر في رؤوسنا إلا الله ثم أنتم.
ثم قال الذهبي: إسناده صحيح.
قلت: قد اعترضهما السبطان المعصومان المطهّران، واعترف الشيخان بأن المجلس لأبيهما لا لهما، ولم يدليا بحجة ولا شبهة، في تسنّمهما لذلك المقام.
قال الإمام: ومهما وقع نزاع من المخالف في شيء مما ذكرنا، فملاكه كله قول عمر من على المنبر: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه.
وهذا الخبر معلوم عند الأمة، لا يعلم له مناكر.
قلت: رواه /472

(2/472)


البخاري وغيره.
ومن ذلك اعتراف أبي بكر على المنبر، وقوله: وليتكم ولست بخيركم.
قال الأمير الناصر للحق الحسين بن بدر الدين (ع) في الينابيع ـ وذكر الأدلةـ: ومنها: إجماع الصحابة فإن أبا بكر قال على المنبر: وليتكم ولست بخيركم؛ ولم ينكر عليه منكر.
قلت: وقد استدل بذلك صاحب المحيط بالإمامة، والإمام المنصور بالله (ع)، وغيرهما؛ وفيه أبلغ الرد على المخالفين، من قول من يدعون له الأفضلية، وتأويلهم بأن ذلك من باب هضم النفس غير صحيح؛ لأن المقام لا يحتمله، ولأنه لا يسوغ الهضم إلا بالمعاريض، لا بالكذب الصريح.
واعتراف أبي بكر وعمر لسيدهما سيد المسلمين، خير البرية، وخير البشر ـ على لسان أخيه ـ ومن أبى فقد كفر، كما تواتر به الخبر، معلوم بين الأمة لا ينكر، في مقامات لا تعد ولا تحصر؛ ومما تواتر: لولا علي لهلك عمر.
ولم يكن في حسابهما أنه سيأتي من بعدهما من يدعي لهما الفضل والحق، على أولي الفضل والسبق، أهل بيت النبوة سادات الخلق.
وإقرار الشيخين، وسائر أزواج رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - وصحابته، ورواياتهم في أمير المؤمنين، ونفس الرسول الأمين، خصوصاً، وفي سائر أهل بيت النبوة الطيبين عموماً، بما يصرح أنه لا يوازيهم ولا يدانيهم أحد من المخلوقين، بعد النبيين ـ صلى الله عليهم أجمعين ـ أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر، مما اتفقت على روايته الأمة المحمدية، لا مما انفردت به النواصب الحشوية، وروته عن شرار البرية، كالخبر المار، الذي رجحه ابن حجر، وأمثاله من المرويات الفرية.
[تهنئة الشيخين لعلي بالولاية يوم الغدير وتخريجها]
وسأذكر طرفاً مما اقتضاه المقام، مقدماً لأجلِّ المقامات العظام، المتضمن تهنيتهما لمولاهما، ومولى المؤمنين يوم الغدير، بمشهد الجم الغفير.
ومن ألفاظها قول أبي بكر، وعمر: أمسيت يا ابن أبي طالب مولى كل مؤمن /473

(2/473)


ومؤمنة، لما قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره))، أخرجه الكنجي عن سعد بن أبي وقاص.
وروى عبد الرزاق بسنده إلى البراء بن عازب، قال: لما نزل النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بغدير خم.
..إلى قوله: ثم قال: ((ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟))، قالوا: بلى، قال: ((فهذا وليكم، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه))، فقال عمر: يهنيك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مسلم.
ذكره في الكامل المنير.
وأخرج محمد بن سليمان الكوفي قول عمر: هنيئاً لك يا ابن أبي طالب، أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة، بعد قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه)).
وأخرجه الإمام المرشد بالله (ع)، والإمام المنصور بالله، وابن أبي شيبة، وأحمد بن حنبل في المسند، ومحمد بن سليمان من طريقين، ويحيى بن الحسن البطريق عن البراء.
وأخرجه الإمام المنصور بالله (ع) في الشافي عن أنس في خبر طويل في المؤاخاة، وفيه: قول رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لعلي ـ صلوات الله عليه ـ: ((إنما ادخرتك لنفسي))..إلى قوله: فقال: ((اللهم إن هذا مني، وأنا منه؛ ألا إنه مني بمنزلة هارون من موسى؛ ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه))..إلى قوله: فاتبعه عمر بن الخطاب، فقال: بخٍ بخٍ يا أبا الحسن، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم.
وقد سبق في المقام الثامن من مقامات خبر المنزلة، وأخرجه الإمام الحسن (ع) في أنوار اليقين، وهو في مناقب ابن المغازلي.
وأخرج قول عمر: بخٍ بخٍ...إلخ، محمد بن سليمان الكوفي، عن أنس، وأخرجه الإمام المرشد بالله، والحاكم من طريقين عن أبي هريرة.
وروى فرات بن إبراهيم الكوفي بسنده إلى أبي ذر؛ وساق خبر الغدير...إلى قوله: فقال عمر: بخ بخ يا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة...الخبر، ذكره الحاكم الحسكاني.
وقال الحاكم الجشمي ـ رحمه الله ـ في كتاب تنبيه الغافلين: والمروي /474

(2/474)


عن جماعة أنها نزلت هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ } [المائدة:67]، فقام رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ خطيباً بغدير خم، وأخذ بيد علي ورفعها، حتى رأى بعضهم بياض إبطه؛ ثم قال: ((ألست أولى بكم من أنفسكم؟)).
قالوا: اللهم نعم.
فقال: ((من كنت مولاه، فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)).
فقام عمر بن الخطاب، وقال: بخ بخ يا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.
وأنشأ حسان أبياتاً بعد أن استأذن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في إنشائها، وهي:
يناديهم يوم الغدير نبيهم .... بخمٍّ فأسمع بالرسول مناديا
وقال: فمن مولاكم ونبيكم؟ .... فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
...إلى قوله:
فقال له: قمْ ياعلي فإنني .... رضيتُك من بعدي إماماً وهاديا
قال ـ رحمه الله ـ: وحديث الموالاة وغدير خم، قد رواه جماعة من الصحابة، وتواتر النقل به حتى دخل في حدّ التواتر، فرواه زيد بن أرقم، وأبو سعيد الخدري، وأبو أيوب الأنصاري، وجابر بن عبدالله، واختلف ألفاظهم.
قال: ففي حديث جابر وغيره: أن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لما انصرف من حجة الوداع، ووافى الجحفة.
إلى قوله: ثم قال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)).
فقام عمر، وقال: هنيئاً لك يا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.
قال جابر: كنا اثني عشر ألف رجل، انتهى. /475

(2/475)


وقيل لعمر: إنا نراك تصنع بعلي شيئاً لا نراك تصنعه بأحد من أصحاب رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
فقال: إنه مولاي ومولى كل مؤمن.
أخرجه الإمام المرشد بالله (ع) عن أبي فاختة.
وأخرجه الخوارزمي عن شيخه الزمخشري، عن سالم مسنداً...إلى قوله: إنه مولاي.
وأخرجه صاحب جواهر العقدين عن سالم بن أبي الجعد، وأخرجه الدارقطني.
وسأل قوم من الشام عمر، فسار إلى أمير المؤمنين (ع) فأفتاه، فالتفت إليهم عمر، فقال: أتدرون من الرجل؟ ذاك علي بن أبي طالب مولاي ومولاكم، ومولى كل مسلم.
أخرجه محمد بن سليمان الكوفي.
ونازعَ رجل عمر في مسألة، فقال: بيني وبينك هذا ـ وأومأ إلى علي ـ.
..إلى قول عمر: مولاي ومولى كل مسلم.
أخرجه الخوارزمي عن الزمخشري، بإسناده عن أبي سعيد السمان، بسنده إلى يعقوب بن إسحاق بن إسرائيل؛ أفاده في التفريج.
ورواه محمد بن سليمان الكوفي عن أبي جعفر، وأخرجه السمان في الموافقة بلفظ: ومولى كل مؤمن، ومن لم يكن مولاه فليس بمؤمن؛ ذكره الأمير.
وأخرجه الحاكم بسنده إلى أبي جعفر، كما رواه السمان.
أفاده ـ أيده الله تعالى ـ في التخريج.
قلت: وأخرج في جواهر العقدين عن السمان عن عمر، وقد جاء أعرابيان يختصمان، فقال لعلي: اقض بينهما يا أبا الحسن.
فقضى علي بينهما؛ فقال أحدهما: هذا يقضي بيننا؟
فوثب إليه عمر، وأخذ بتلابيبه، وقال: ويحك، ما تدري من هذا؟ هذا مولاي ومولى كل مؤمن، ومن لا يكن مولاه فليس بمؤمن.
وروى الطبري في تاريخه، عن شهر بن حوشب قول عمر لابنه عبدالله، وقد استنكر عليه تقديمه للحسن والحسين (ع)، فقال له عمر: أسكت لا أم لك؛ أبوهما خير من أبيك، وأمهما خير من أمك.
والروايات في ذلك كثيرة.
والأمر كما قال الإمام في الفرائد: أما خبر الغدير، فقد جمع رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ له الألوف المؤلفة، وخطبهم في يوم شديد الحر، وعرّس بهم في غير وقت التعريس، ونعى إليهم نفسه، وأشهدهم على /476

(2/476)


أنفسهم بالبلاغ؛ ثم قال: ((ألست أولى بكم من أنفسكم؟))، قالوا: بلى...الحديث.
وفيه: أنه رفع علياً، حتى شوهد بياض إبطيهما؛ وفيه: ذكر الثقلين، والخليفتين، والتوصية بهما، وفيه: أن أبا بكر وعمر هنياه بالإمارة، وأن عمر ما تمنى الإمارة إلا يومئذ، وكذا روي عنه في حديث خيبر؛ أما تهنئة عمر لعلي فمشهورة عند المخالف والموالف.
وأما تهنئة أبي بكر له، فرواها الدارقطني، والكنجي وغيرهما.
وحديث الغدير معلوم بالتواتر اللفظي قطعاً...إلى آخر كلامه.
[خبر ((لأبعثن عليكم رجلاً مني)) وتخريجه]
وقد أقرّ عمر بتمنيه للإمارة في غير المقامين المذكورين، لما قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لوفد ثقيف: ((لتسلمن أو لأبعثن إليكم رجلاً مني ـ أو قال: عديل نفسي ـ فليضربن أعناقكم، وليسبين ذراريكم، وليأخذن أموالكم)).
قال عمر: فما تمنيت الإمارة إلا يومئذ، وجعلت أنصب صدري، رجاء أن يقول: هو هذا.
فالتفت فأخذ بيد علي، وقال: ((هو هذا)) مرتين.
رواه أحمد في المسند، ورواه في كتاب فضائل علي (ع) أنه قال: ((لتنتهن يا بني وليعة، أو لأبعثن عليكم رجلاً كنفسي، يمضي فيكم أمري، يقتل المقاتلة، ويسبي الذرية)).
قال أبو ذر: فما راعني إلا برد كف عمر في حجزتي من خلفي، يقول: من تراه يعني؟
قلت: إنه لا يعنيك؛ وإنما يعني خاصف النعل بالبيت؛ وأنه قال: ((هو هذا)).
ومن مقامات هذا الخبر الشريف: أنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لما فتح مكة انصرف إلى الطائف، فحصرها سبع عشرة أو تسع عشرة؛ ثم قام خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((أوصيكم بعترتي خيراً، وأن موعدكم الحوض، والذي نفسي بيده، لتقيمن الصلاة، ولتؤتن الزكاة، أو لأبعثن عليكم رجلاً مني ـ أو كنفسي ـ يضرب أعناقكم)).
ثم أخذ بيد علي، ثم /477

(2/477)


قال: ((هو هذا)).
أخرجه ابن أبي شيبة، عن عبد الرحمن بن عوف.
وأخرجه الحاكم عنه بلفظ: أن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ هجَّر؛ ثم قال: ((أيها الناس، إني لكم فرط، وإني أوصيكم بعترتي خيراً، موعدكم الحوض))...الخبر، إلا أن فيه: ((فليضربن أعناق مقاتليهم، وليسبين ذراريهم)).
قال الإمام محمد بن عبدالله (ع): يعني أهل الطائف، كما فيما أخرجه النسائي وغيره، وفيه: ((كنفسي)) أو ((عديل نفسي))...إلخ، انتهى.
وأخرجه أبو علي الصفار بلفظ: انصرف رسول الله صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم إلى الطائف، ثم قال: ((يا أيها الناس إني فرط لكم فأوصيكم بعترتي خيراً، وإن موعدكم الحوض؛ والذي نفسي بيده، لتقيمن الصلاة، ولتؤتن الزكاة، أو لأبعثن عليكم رجلاً مني ـ أو كنفسي ـ)).
فقال أبو بكر: أنا هو؟
فقال: لا.
فقال عمر: أنا هو؟
فقال: لا.
فأخذ بيد علي، فقال: ((هذا)).
وأخرجه الكنجي عن أبي ذر، وصدره الحاكم عن عبد الرحمن، وروى نحوه عبد الوهاب الكلابي في وفد ثقيف، عن المطلب بن عبدالله، وروى نحوه عن علي في قريش: ((والله لتنتهن أو ليبعثن الله عليكم...إلخ)).
وأخرج نحوه أحمد بن حنبل في وفد ثقيف: ((لتسلمن))...إلخ، قاله ابن أبي الحديد؛ أفاده في التخريج.
قال أيده الله: وأخرج نحوه في قريش: ((لتنتهن أو ليبعثن الله عليكم رجلاً قد امتحن الله قلبه على الإيمان ـ يعني علياً ـ))...إلخ.
قلت: قال الطبري في ذخائر العقبى: ذكر أن النبي صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم هدّد قريشاً يوم الحديبية ببعثه عليهم عن علي (ع).
..إلى قوله: فقال النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((يا معشر قريش، لتنتهن أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف، فقد امتحن الله قلبه على الإيمان)).
فقالوا: من هو، يا رسول الله؟
وقال أبو بكر: من هو، يا رسول الله؟
وقال عمر: من هو، يا رسول الله؟
قال: ((هو خاصف النعل))، وكان أعطى علياً نعله يخصفها.
ثم التفت علي إلى من عنده، وقال: إن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ /478

(2/478)


قال: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار))؛ أخرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح، انتهى.
وعن زيد بن يثيغ، قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((لينتهن بنو وليعة، أو لأبعثن إليهم رجلاً يمضي فيهم أمري، يقاتل المقاتلة، ويسبي الذرية)).
قال: فقال أبو ذر: فما راعني إلا برد كف عمر في حجزتي من خلفي، قال: من تراه يعني؟
قلت: ما يعنيك، ولكنه يعني خاصف النعل ـ يعني علياً (ع) ـ؛ أخرجه أحمد في المسند.
وأخرج أيضاً عن أبي سعيد، قال: كنا جلوساً في المسجد، فخرج علينا رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وعلي في بيت فاطمة، فانقطع شسع نعل رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، فأعطاه علياً يصلحها؛ ثم جاء، وقام علينا، ثم قال: ((إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله)).
قال أبو بكر: أنا هو، يا رسول الله؟
فقال: لا.
فقال عمر: أنا هو، يا رسول الله؟
قال: لا؛ ولكن خاصف النعل.
وأخرجه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يقول: ((إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله)).
قال أبو بكر: أنا هو، يا رسول الله؟
قال: لا؛ ولكن خاصف النعل في الحجرة.
أفاده الطبري في الذخائر.
قلت: وفي مسند أحمد، عن عبدالله بن حنطب، قال: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لوفد ثقيف: ((لتسلمن أو لأبعثن عليكم رجلاً مني ـ أو قال: مثل نفسي ـ فليضربن أعناقكم، وليسبين ذراريكم، وليأخذن أموالكم)).
فقال عمر: والله ما اشتهيت الإمارة إلا يومئذ، فجعلت أنصب صدري، رجاء أن يقول: هذا.
فالتفت إلى علي، فأخذ بيده، فقال: ((هو هذا، هو هذا)) مرتين.
قال ـ أيده الله ـ في التخريج: وروى إبراهيم بن الحسن بن ديزيل، والنسائي، ومحمد بن سليمان الكوفي، وأبو حاتم، وأبو علي الحسن بن علي الصفار، عن أبي سعيد الخدري، أن النبي قال لأصحابه: /479

(2/479)


((إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله)).
فقال أبو بكر: أنا هو، يارسول الله؟
قال: ((لا)).
قال عمر: أنا هو؟
قال: ((لا، ولكن خاصف النعل ـ يعني علياً (ع) ـ)).
وروى ابن المغازلي نحوه من حديث المناشدة عن علي (ع)، وروى قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن... إلخ)) من طريق أخرى عن علي (ع)، ورواه عبد الوهاب الكلابي بسنده إلى أبي سعيد، وأحمد، وأبو يعلى، وابن حبان، والحاكم في المستدرك، وأبو نعيم في الحلية، والضياء المقدسي في المختارة، وابن أبي شيبة.
وأخرج صدره الخوارزمي، وأبو العلا الهمداني، والكنجي عن أبي ذر.
وكذا رواه في كتاب إقرار الصحابة أبو القاسم بسنده إلى محمد بن جرير الطبري، بسنده إلى أبي بكر. /480

(2/480)


الفصل التاسع [في معاني الأخبار الواردة في علي وذريته]
في جوامع من معاني هذه الأخبار الشريفة، التي هي من أعلام النبوة؛ وهي معلومة قد روتها طوائف الأمة، بألفاظ وروايات مترادفة ومختلفة، مطولة ومختصرة، كأخبار الناكثين والقاسطين والمارقين المتواترة.
[سند خبر الوفاة وتخريجه]
ومنها: قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((أيها الناس احفظوا قولي تنتفعوا به بعدي، وافهموا عني تنتعشوا؛ لئلا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض؛ فإن أنتم فعلتم ذلك ـ ولتفعلنّ ـ لتجدن من يضرب وجوهكم بالسيف)).
ثم التفت عن يمينه، ثم قال: ((علي بن أبي طالب؛ ألا وإني قد تركته فيكم؛ ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت؟)).
وهو من خبر الوفاة؛ رواه بطوله الإمام موسى بن عبدالله، عن أبيه، عن جده(ع)؛ وقد سبقت الإشارة إليه في أسانيد أمالي الإمام أحمد بن عيسى بن زيد (ع)، وسيأتي بأبسط من هذا ـ إن شاء الله ـ.
وقد أخرجه السيد الإمام أبو العباس الحسني (ع) في /483

(2/483)


المصابيح، وصاحب المحيط بالإمامة ـ رضي الله عنهم ـ والإمام المنصور بالله (ع) بسنده إلى شيخ الإسلام زيد بن الحسن البيهقي.
قال في الشافي: والفقيه زيد بن الحسن بن علي يرويه عن مصنف كتاب المحيط بأصول الإمامة على مذاهب الزيدية.
وقال فيه: حدثنا السيد أبو الحسين علي بن أبي طالب الحسني ـ رضي الله عنه ـ قال: أخبرنا الشريف أبو الحسين زيد بن إسماعيل الحسني ـ رضي الله عنهم ـ، قال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني ـ رضي الله عنه ـ، قال: حدثنا عبدالله بن الحسن الإيوازي ـ رحمه الله ـ، قال: حدثنا جعفر بن محمد بن شعبة النيروسي، قال: حدثنا موسى بن عبدالله بن موسى بن عبدالله بن حسن بن حسن، عن أبيه، عن جده، عن أبيه عبدالله بن الحسن (ع) في خبر الوفاة بطوله.
ولم يبقَ إلا الحسن بن الحسن، وأبوه الحسن بن علي بن أبي طالب ـ سلام الله عليهم ـ، ويجوز أن يروي الإنسان عن شيخ شيخه، ويجوز أن يقول: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بعدما يصح له سند المتن.
انتهى المراد من كلامه (ع).
فهذه طريق خبر الوفاة، وهو خبر جامع عظيم، قد استوفاه أبو العباس الحسني في المصابيح؛ وأورد الإمام المنصور بالله منه فصولاً.
وذكره في تراجم رجاله الثقات الأثبات، صاحب الطبقات؛ ولم تزل الإحالة عليه في مؤلفات علماء العترة (ع)، فمتى ذكر خبر الوفاة، فهو المراد، وهذا السند الصحيح النبوي سنده.
هذا، ومنها: ما أخرجه الخطيب ابن المغازلي في المناقب، بسنده إلى الإمام علي بن موسى الرضا، قال: حدثني أبي موسى، قال: حدثني أبي جعفر، قال: حدثني أبي محمد بن علي الباقر، عن جابر بن عبدالله الأنصاري، قال: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وإني لأدناهم في حجة الوداع بمنى: ((لا ألفينكم بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض؛ وأيم الله، لئن فعلتموها لتعرفنني في الكتيبة التي تضاربكم))، ثم التفت إلى خلفه، فقال: ((أو علي، أو علي، أو علي)) ثلاثاً.
قال: وأكثر متن هذا الحديث هو من جملة الحديث الذي أخرجه مسلم في /484

(2/484)


صحيحه، عن جابر بن عبدالله في خطبة حجة الوداع، ولم يغادر منه شيئاً إلا ذكر علي بن أبي طالب (ع)، لعله المسقط لذلك؛ لعذر، كما هي عادتهم في فصل فضائل أهل بيت نبيهم في الأغلب، عن كتب حديثهم، إلى كتب يعرفونها بكتب المناقب، انتهى.
وفي الجامع الصغير للسيوطي: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض))، أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، عن جرير؛ وأحمد، والبخاري، وأبو داود، والنسائي، عن ابن عمر؛ والبخاري، والنسائي عن أبي بكرة؛ والبخاري، والترمذي، عن ابن عباس، انتهى.
قلت: وأخرجه الإمام الناصر للحق (ع) في البساط بلفظ: ((لا ترجعن بعدي كفاراً يضرب بعضكم بعضاً))، من خطبة حجة الوداع.
قال ـ أيده الله تعالى ـ في التخريج عقيب سياقه لخبر ابن المغازلي، عن جابر...إلى قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((ولئن فعلتموها لتجدني في الكتيبة أضاربكم، أو علي)): ورواه الحاكم عن ابن عباس؛ وعن جابر من أربع طرق، ثم أورد ما سبق من رواية مسلم عن جابر، وما في الجامع.
قلت: والخبر الذي رواه الباقر (ع) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ وما في معناه، شواهدُ فصوله كثيرة، معلومة منيرة؛ وقد سبق ويأتي - إن شاء الله تعالى - ما يكفي من له أدنى بصيرة.
[تخريج خبر ((من تولاه فقد تولاني))...إلخ]
فمن ذلك قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((أوصي من آمن بي وصدقني بولاية علي بن أبي طالب؛ فمن تولاه، فقد تولاني، ومن تولاني فقد تولى الله؛ ومن أحبه فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحبّ الله؛ ومن أبغضه، فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله عز وجل)) هذا الخبر الشريف /485

(2/485)


من مرويات الشافي، وشرح الغاية وغيرهما.
أخرجه الإمام المنصور بالله، بسنده إلى الإمام المرشد بالله، بسنده إلى أبي عبيدة بن محمد بن عمّار بن ياسر، عن أبيه، عن جده ـ رضي الله عنهم ـ قال: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ:...الخبر.
وأخرجه أبو العباس الحسني (ع)، ومحدث الشام الكنجي الشافعي، وأبو علي الصفار، عن عمار بن ياسر ـ رضي الله عنه ـ وابن المغازلي من ثلاث طرق، ومحمد بن سليمان الكوفي من طريقين.
وأخرجه أيضاً عن أبي جعفر محمد بن علي، عن آبائه، عن علي (ع) بلفظ: ((فإن ولاءه ولائي، وولائي ولاء الله؛ وإن منكم من يسفهه حقه)).
فقالوا: سمهم يا رسول الله.
قال: ((قد أُمِرْتُ بالإعراض عنهم)).
وليس فيه: ((ومن أحبه...إلخ)).
ورواه أيضاً بسنده إلى الباقر (ع) من طريق أخرى، ورواه عن جابر.
ورواه أبو القاسم في كتاب إقرار الصحابة، بسنده عن ابن عمر، بنحو رواية محمد بن سليمان، وفيه: ((أُمِرْتُ بالإعراض عنهم)).
وبلفظ رواية الشافي أخرجه الطبراني، وابن عساكر، عن أبي عبيدة ابن محمد بن عمار بن ياسر، عن أبيه، عن جده ـ رضي الله عنهم ـ.
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((أتاني ملك، فقال: يامحمد، سل من أرسلنا قبلك علام بعثوا عليه؟ قال: على ولايتك وولاية علي بن أبي طالب))؛ أخرجه الحاكم عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ من أربع طرق، وأخرجه الكنجي عنه.
وذكر أبو نعيم ـ وهو من أكبر أصحاب الحديث ـ في كتابه الذي استخرجه من كتاب لابن عبد البر المغربي الأندلسي المحدث في تفسير قوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا } [الزخرف:45]، أن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ليلة أسري به جمع الله بينه، وبين الأنبياء، ثم قال لهم: سلهم يا محمد علام بعثتم عليه؟
فقالوا: بعثنا على شهادة أن لا إله إلا الله، وعلى الإقرار بنبوتك، والولاية لعلي بن أبي طالب.
أفاده في شرح الأبيات الفخرية.
وأخرج الكنجي، بسنده إلى الإمام يحيى بن عبدالله بن الحسن، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((إن في الفردوس لعيناً /486

(2/486)


أحلى من الشُّهد، وألين من الزبد، وأبرد من الثلج، وأطيب من المسك؛ فيها طينة خلقنا الله ـ تعالى ـ منها، وخلق منها شيعتنا؛ فمن لم يكن من تلك الطينة، فليس منا ولا من شيعتنا؛ وهي الميثاق الذي أخذه الله ـ عز وجل ـ ولاية علي بن أبي طالب)).
ثم قال الكنجي بعده: قال الحافظ ابن عساكر عقيب هذا: قال عبيد: فذكرت لمحمد بن الحسن هذا الحديث، فقال: صَدَقَك يحيى بن عبدالله، هكذا أخبرني أبي، عن جدي، عن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
وأخرج الحاكم أيضاً بإسناده إلى الحسين بن علي (ع) في قوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ }...إلى قوله: {ثُمَّ اهْتَدَى (82)} [طه]، فقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لعلي: ((لولايتك)).
وعن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ: إلى حب آل محمد ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
وعن الباقر: إلى ولايتنا أهل البيت.
رواه عنه من طريقين.
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لعلي (ع): ((أنت الطريق الواضح، وأنت الصراط المستقيم، وأنت يعسوب المؤمنين))، أخرجه الحاكم الحسكاني بسنده إلى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
وأخرج أيضاً بسنده إلى الحسين السبط (ع) من حديث عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من سره أن يلج النار، فليترك ولاية علي بن أبي طالب؛ فوعزّة ربي وجلاله، إنه لباب الله الذي لا يؤتى إلا منه، وإنه الصراط المستقيم، وإنه الذي يسأل الله عن ولايته يوم القيامة)).
أفاد أغلب ما ذكرناه في التخريج.
[تخريج أخبار: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ}]
وما أخرجه الإمام المنصور بالله (ع) في الشافي، عن الفقيه بهاء الدين، بإسناده، يبلغ به ابن شيرويه الديلمي، بإسناده عن أبي سعيد الخدري، عن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: (({وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)} [الصافات]، عن ولاية علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه في الجنة ـ)).
قال (ع): رويناه عن الثقة، يبلغ به النبي - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -. /487

(2/487)


قلت: وقد أقَرّ فقيه الخارقة ـ على شدة تمرده، وكثرة عناده ـ بتفسير الآية بعد اعتراضه والرد عليه؛ فقال: هذا ممكن غير مستحيل، لكن بشرط أنهم يُسألون عن التوحيد أولاً، وعن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ثانياً، ثم يسألون بعد ذلك عن ولاية علي (ع)؛ لأن وجوبها بعد.
فأجاب عليه الإمام (ع) أنه لم يذكر أن أول ما يسألون عنه هو أمر علي (ع) حتى يعتب بزعمه، ويُرَتَّب.
...إلى قوله (ع): إن الذي فسر الخبر هو مبلّغ الوحي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ فعتب الفقيه هو عليه...إلخ.
وإنما أوردته؛ لأنا لا نعدم مِنْ خَلَف الفقيه مِنْ هو على طريقته في هذا الباب، فيعلم أن سلفنا وسلفه قد كفونا مؤنة الإيراد والجواب.
هذا، وروى الحاكم الحسكاني، بإسناده إلى النبي صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم في قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)} [الصافات]، قال: ((عن ولاية علي بن أبي طالب))، رواه عن أبي سعيد الخدري من ثلاث طرق، وفي واحدة بلفظ: ((عن إمامة علي بن أبي طالب)).
ورواه عن ابن عباس من طريقه عن الشعبي، عنه.
ورواه عن أبي جعفر، قال: ((عن ولاية علي))، ومثله عن أبي إسحق السبيعي، وعن جابر الجعفي.
وروى بإسناده عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم: ((إذا كان يوم القيامة أوقف أنا وعلي على الصراط؛ فما يمر بنا أحد إلا سألناه عن ولاية علي؛ فمن كانت معه، وإلا ألقيناه في النار؛ وذلك قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)} [الصافات])).
ورواه محمد بن سليمان الكوفي بإسناده إلى أبي سعيد الخدري، عن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)} [الصافات]، قال: ((عن ولاية علي بن أبي طالب)) من طريقين، وعن أنس.
ورواه ابن شيرويه الديلمي في كتاب الفردوس، بإسناده إلى أبي سعيد، عن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((وقفوهم إنهم مسؤولون عن ولاية علي بن أبي طالب))، عن الإمام الحسن بن بدر الدين كما ذكره الإمام هنا. /488

(2/488)


وروي هذا في تنبيه الغافلين عن أبي إسحاق، ورواه ابن البطريق في العمدة من كتاب الفردوس.
وفي مناقب الكنجي: وروى ابن جرير، وتابعه الحافظ أبو العلا الهمداني، وكذلك ذكره الخوارزمي عن أبي إسحاق، ورفعه ابن جرير وحده عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)} [الصافات]، يعني عن ولاية علي بن أبي طالب (ع).
أفاده ـ أيّده الله ـ في تخريج الشافي.
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((إن الله لما خلق السماوات والأرض دعاهنّ فأجبنه، فعرض عليهنّ نبوتي، وولاية علي بن أبي طالب، فقبلتاهما؛ ثم خلق الخلق، وفوض إلينا أمر الدنيا؛ فالسعيد من سعد بنا، والشقي من شقي بنا؛ نحن المحلّون لحلاله، والمحرمون لحرامه))، رواه البكري الخوارزمي عن جابر.
أفاده في التفريج.
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((النظر إلى علي عبادة، وذكره عبادة، ولا يقبل الله إيمان عبد إلا بولايته، والبراءة من أعدائه)) انتهى من حديث طويل أخرجه الكنجي عن علي (ع)، وقال: رواه الحافظ أبو العلا الهمداني، وتابعه الخوارزمي.
أفاده ـ أيده الله ـ في التخريج.
قلت: ورواه الخوارزمي في فصوله، بسنده عن جعفر بن محمد، عن آبائه، عن علي (ع) من خبر طويل.
قال ـ أيده الله ـ: عن أبي ذر، سمعت النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يقول: ((أيها الناس، لو صليتم حتى تكونوا كالأوتار، وصمتم حتى تكونوا كالحنايا، ولقيتم الله بغير ولاية علي بن أبي طالب، لكبكم الله في نار جهنم)) رواه أبو خراسان محمد بن عبدالله بن عيسى، يرفعه إلى أبي ذر.
[انتهى] من الكامل المنير.
وأخرج الحاكم أبو القاسم عن علي (ع) في قوله تعالى: {فَأَذَّنَ }...الآية [الأعراف:44]، قال: أنا المؤذن.
وعن الباقر قال: هو أمير المؤمنين.
وعن ابن عباس، قال: المؤذن علي؛ يقول: ألا لعنة الله على الذين كذبوا بولايتي، واستخفوا بحقي.
وقد سبق ما في جواهر العقدين، ولفظه: قال الحافظ جمال الدين الزرندي عقيب حديث: ((من كنتُ مولاه فعلي/489

(2/489)


مولاه)): قال الإمام الواحدي: هذه الولاية التي أثبتها النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ مسئول عنها يوم القيامة.
وروى في قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)} [الصافات]، أي عن ولاية علي، وأهل البيت.
...إلى قوله: ما أخرجه الديلمي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعاً: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)} [الصافات]، عن ولاية علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ.
ويشهد لذلك قوله في بعض الطرق المتقدمة: ((والله سائلكم كيف خلفتموني في كتابه، وأهل بيتي)).
وأخرج ابن المغازلي، ورفعه إلى أنس قال: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((إذا كان يوم القيامة ونصب الصراط على شفير جهنم، لم يجز عليه إلا من كان معه كتاب ولاية علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ)).
وقال في موضع آخر: وعن أبي بردة ـ رضي الله عنه ـ، قال: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، ونحن جلوس ذات يوم: ((والذي نفسي بيده، لا تزول قدم عن قدم يوم القيامة، حتى يسأل الله الرجل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن جسده فيم أبلاه؟ وعن ماله مِمَّ كسبه وفيم أنفقه؟ وعن حبنا أهل البيت)).
قال عمر: ما آية حبكم؟
فوضع يده على رأس علي وهو جالس إلى جانبه، وقال: ((آية حبي حبّ هذا من بعدي)).
قال: وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ مرفوعاً: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يُسأل عن أربع))...الخبر بلفظه إلا أن فيه: ((وعن ماله فيم أنفقه ومن أين اكتسبه؟))، انتهى.
[أحاديث متنوعة في لزوم التزام ولاية الوصي]
قلت: وقد تقدم في ذكر خبر الغدير ما ورد في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ }...الآية [المائدة:3]، وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، والولاية لعلي بن أبي طالب))، من رواية الإمام الرضا علي بن موسى الكاظم (ع).
ورواها الإمام المرشد بالله (ع) بلفظ: /490

(2/490)


((وإتمام النعمة، ورضى الرب برسالتي، والولاية لعلي)) ومثلها لمحمد بن سليمان الكوفي إلا أن فيها: ((ورضى الرب بولايتي، وبالولاية لعلي من بعدي)).
ومن كلام الوصي ـ صلوات الله عليه ـ: ثم انتقل النور إلى غرائزنا، ولمع في أئمتنا؛ فنحن أنوار السماء، وأنوار الأرض؛ فبنا النجاة، ومنا مكنون العلم، وإلينا مصير الأمر، وبمهدينا تقطع الحجج، خاتم الأئمة، ومنقذ الأمة، وغاية النور، ومصدر الأمور؛ فنحن أفضل المخلوقين، وأفضل الموحدين، وحجج رب العالمين؛ فليهنأ النعمة من تمسك بولايتنا، وقبض عروتنا؛ انتهى.
أخرجه المسعودي في مروج الذهب، عن أبي عبدالله جعفر بن محمد، عن أبيه محمد، عن أبيه علي، عن أبيه الحسين سبط رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، عن أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع).
وأخرج أبو العباس الحسني، بسنده إلى موسى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن، عن أبيه، عن جده: أنه قال النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لعلي: ((وأنت وصيي من أهلي، وخليفتي في أمتي؛ من والاك فقد والاني، ومن عصاك فقد عصاني)).
وأخرج الإمام المرشد بالله، بسنده إلى جعفر الصادق، قال: حدثني أبي محمد بن علي الباقر، قال: حدثني أبي علي بن الحسين، عن أبيه الحسين الشهيد، عن أبيه علي بن أبي طالب (ع)، قال: سمعت رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يقول: ((لو أن عبداً عبد الله سبعة آلاف سنة، وهو عمر الدنيا؛ ثم أتى الله ـ عز وجل ـ ببغض علي بن أبي طالب، جاحداً لحقه، ناكثاً لولايته، لأتعس الله خده، وجدع أنفه)).
وأخرج أبو العباس الحسني (ع) بسنده، عن حذيفة بن اليمان، قال: رأيت رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ كما تراني، قد أخذ بيد الحسين بن علي بن أبي طالب (ع)، ثم قال: ((أيها الناس، إن من استكمال حجتي على الأشقياء من بعدي ولاية علي بن أبي طالب؛ ألا إن التاركين ولاية علي بن أبي طالب هم الخارجون من ديني، فلا أعرفن خلافكم على الأخيار /491

(2/491)


من بعدي)) وقد مرّ.
والخبر المروي عن الباقر، عن آبائه (ع): أن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قال: ((خذوا بحجزة هذا الأنزع - يعني علياً (ع) - فإنه الصديق الأكبر، والهادي لمن اتبعه؛ من اعتصم به أخذ بحبل الله، ومن تركه مَرَقَ من دين الله، ومن تخلف عنه محقه الله، ومن ترك ولايته أضله الله، ومن أخذ بولايته هداه الله))، قال في تفريج الكروب: وعلى فصوله شواهد.
قلت: والوارد من الآيات والأخبار في الولاية، مما لا تحيط به رواية، ولا تبلغ منه الغاية.
[تخريج: بك يا علي يهتدى المهتدون، و{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ }]
ولما نزل قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)} [الرعد]، قال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((أنا المنذر، وعلي الهادي، بك يا علي يهتدي المهتدون))؛ أخرجه ابن عساكر، عن ابن عباس.
قال: وذكره غير واحد من أئمة التفسير، منهم: محمد بن جرير الطبري، وأحمد بن محمد الثعلبي النيسابوري، والنقاش، وغيرهم؛ وأخرجه الديلمي عن ابن عباس.
أفاده ابن الإمام في شرح الغاية.
قال ـ أيده الله ـ في تخريج الشافي: وأخرجه علي بن الحسين في المحيط، عن ابن عباس؛ وأخرج نحوه الناصر للحق عن أبي برزة الأسلمي، وأخرج نحوه في المحيط عن علي زين العابدين (ع)، موقوفاً.
وقال ـ كثر الله فوائده ـ: قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((أنا المنذر وعلي الهادي... إلخ))، رواه أبو القاسم الحسكاني عن ابن عباس من ست طرق، وعن أبي برزة الأسلمي من ثلاث طرق، وعن أبي هريرة، وعن يعلى بن مرة، وعن علي، وعن مجاهد، وعن زرقاء الكوفية، ونحوه عن علي من ثلاث طرق، وعن أبي برزة.
وروى بإسناده عن أبي سعيد الخدري في قوله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)} [الرعد]، قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((هو علي بن أبي طالب)).
ورواه /492

(2/492)


عن ابن عباس، وعن محمد بن الحنفية، وعن أبي صالح من طريقين، وعن أبي جعفر الصادق؛ وقال أبو صالح: قال ابن عباس: هو والله علي بن أبي طالب؛ انتهى شواهده.
وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((أنا المنذر، وعلي الهادي، وبك يا علي يهتدي المهتدون))، أخرجه الديلمي، والكنجي عن ابن عباس، وأخرجه ابن عساكر، عن علي.
انتهى شرح غاية.
وقال علي (ع): ((رسول الله المنذر، وأنا الهادي)) أخرجه الحاكم عن علي، وقال: صحيح.
انتهى من التفريج؛ وقد تقدمت الرواية، في تفسير الآية.
قال أمير المؤمنين (ع): إن الله تعالى عنانا بقوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } [البقرة:143]، فرسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ هو الشاهد علينا، ونحن شهداء الله على خلقه، وحججه في أرضه، ونحن الذين قال الله ـ عز اسمه ـ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } [البقرة:143].
أخرجه الحاكم الحسكاني، عن سليم بن قيس، عن علي (ع).
[خطبة السبط الأكبر يوم وفاة والده وتخريجها]
وأخرج الإمام أبو طالب (ع) بسنده، إلى فطر بن خليفة، أن الحسن السبط لما أُصيب علي (ع): قام خطيباً، فقال: الحمد لله وهو للحمد أهل، الذي منَّ علينا بدين الإسلام، وجعل فينا النبوة والكتاب، واصطفانا على خلقه، وجعلنا شهداء على خلقه، وجعل الرسول علينا شهيداً...إلى آخرها.
ولهذه الخطبة الشريفة طرق كثيرة.
قال الإمام محمد بن عبدالله الوزير: ومن ذلك خطبة /493

(2/493)


الحسن بن علي(ع) على رؤوس من بقي من الصحابة والتابعين يوم مات علي (ع)، منها: خاتم الوصيين، ووصي خاتم الأنبياء، وأمير الصديقين، والشهداء والصالحين؛ ثم قال: أيها الناس لقد فارقكم رجل ما سبقه الأولون، ولا يدركه الآخرون.
قال الإمام (ع): وهذه الخطبة قد أخرجها جماعة من أهل الحديث، منهم: الكنجي، وابن حجر في المنح، وحسَّن إسنادها، ورواها أئمتنا؛ وهي مشهورة لا يمكن إنكارها، وأخرجها النسائي في الخصائص، انتهى.
وأخرجها أبو علي الصفار والكنجي، عن أبي الطفيل، قال: خطب الحسن بعد وفاة علي؛ وذكره، فقال: خاتم الوصيين...وساق ما تقدم إلى قوله: ولا يدركه الآخرون؛ لقد كان رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يعطيه الراية، فيقاتل جبريل عن يمينه، وميكائيل عن شماله، فما يرجع حتى يفتح الله عليه؛ ما ترك ذهباً ولا فضة، إلا سبع مائة درهم، يريد أن يشتري بها خادماً لأم كلثوم.
ثم قال: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمد ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
ثم تلا قوله تعالى: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَائِي }...الآية [يوسف:38]، وأنا ابن البشير، وأنا ابن النذير، وأنا ابن الداعي إلى الله وابن السراج المنير، أنا ابن الذي أُرسل رحمة للعالمين، وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وأنا من أهل البيت الذين كان جبريل ينزل عليهم، وعنهم كان يعرج، وأنا من أهل البيت الذين افترض الله مودتهم وولايتهم، فقال فيما أنزل على محمد ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً}...إلخ [الشورى:23]، واقتراف الحسنة مودتنا.
انتهى من الأربعين للصفار. /494

(2/494)


قال أبو الفرج الأصفهاني: ـ وذكر السند ـ عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي مريم...إلى قوله: خطب الحسن بن علي، وقال: أيها الناس، لقد فارقكم ـ وساق الخطبة...إلى قوله: واقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت ـ ولم يذكر {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ }...الآية.
وأخرج الدولابي الخطبة بتمامها من قوله: لقد فارقكم...إلخ، كرواية الصفار عن زيد بن الحسن؛ أفاده الأمير في شرح التحفة.
وروى ابن المغازلي عن هُبيرة بن مريم: لقد فارقكم...إلى قوله: سبعمائة درهم.
ورواها أحمد بن شعيب النسائي في خصائصه، عن هبيرة، عن الحسن، كرواية ابن المغازلي بزيادة قوله: قال رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله، يقاتل جبريل عن يمينه...إلخ)) باختلاف يسير.
وأخرج أحمد بن حنبل، عن عمرو بن حبشي، كرواية المغازلي.
أفاده في التفريج، وفيه: وأخرج أحمد عن زر بن حبيش ، عن الحسن بن علي أنه خطب، وقال: لقد فارقكم بالأمس رجل ما سبقه الأولون، ولا يدركه الآخرون.
أفاده ـ أيده الله ـ في التخريج، قال فيه: وروى الخطبة المرشد بالله...إلى قوله: يشتري بها خادماً، عن هبيرة بن مريم.
وأخرج الكنجي عن عبدالله بن مسعود، قال: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((ما بعثت علياً في سرية، إلا رأيت جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، والسحابة تظله، حتى يرزقه الله الظفر)).
وأخرجه محمد بن سليمان الكوفي، بسنده إلى جابر بن عبدالله، عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((ما بعث الله علياً في سرية، إلا رأيت جبريل عن يمينه...إلخ)).
وقال ابن أبي الحديد: وفي خطبة الحسن بن علي (ع) لما قبض أبوه: لقد /495

(2/495)


فارقكم في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون، ولا يدركه الآخرون؛ كان يبعثه رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ للحرب، وجبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره. انتهى.
ورواه أبو جعفر الطبري في تاريخه، بسنده إلى خالد بن جابر، عن الحسن بن علي (ع)، ورواه الموفق بالله عن هبيرة بن مريم.
أفاده ـ أيده الله ـ في التخريج.
قلت: وأخرجها السيد الإمام أبو العباس (ع) في المصابيح عن الحسين بن زيد بن علي (ع).
[تخريج حديث ((علي خير البشر))]
هذا، ومن شواهد ما سبق نحو أخبار: ((علي خير البشر، فمن أبى فقد كفر))، أفاد صاحب المحيط بالإمامة أن شيخه يرويه بإحدى وسبعين طريقاً، وقد رواه الذهبي في الميزان عن شريك، وقال: بإسناد كالشمس.
وأورده محمد بن سليمان الكوفي مسنداً في مناقبه بطرق وشواهد كثيرة، نحو: ((علي خير البرية)).
ورواه السيوطي في سورة لم يكن، في الدر المنثور، من طرق؛ أفاده الإمام محمد بن عبدالله (ع).
وقال الإمام المنصور بالله (ع) في الشافي: والأخبار المتواترة مروية عن جابر أنه قال: ((علي خير البشر، لا يشك فيه إلا كافر)).
قلت: ساق في المحيط بالإمامة بسنده إلى جابر، قال: خير الناس ـ يعني علياً(ع) ـ ولا يشك فيه إلا كافر.
وبسنده إلى أبي إسحاق، عن أبي وائل، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((علي خير البشر فمن أبى فقد كفر)).
قال ـ أيده الله ـ في تخريج الشافي بعد إيراد قوله (ع): والأخبار المتواترة...إلخ: أخرجه أبو يعلى، وابن عساكر، وقال: روي عن عائشة؛ وأبو القاسم الجابري عن عائشة مرفوعاً، ورواه في المحيط بالإمامة ـ وذكر الرواية المارة ـ.
قال: وكذا رواه برهان الدين في أسنى المطالب، بإسناده إلى جابر، قال: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((علي خير البشر... إلخ)).
وذكر في الإقبال عن شريك النخعي قال: ((علي خير البشر... إلخ)).
وأخرجه الخطيب عن علي، وحذيفة مرفوعاً، وعن جابر مرفوعاً، وروى محمد بن سليمان الكوفي بسنده إلى جابر، قال: ((علي خير البشر)).
وروى بسنده إلى حذيفة عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((علي خير البشر، فمن أبى فقد كفر)).
وقال /496

(2/496)


الإمام يحيى بن حمزة (ع): روى علي، وابن مسعود، أن النبي قال: ((علي سيد البشر، من أبى فقد كفر)).
وسئل جابر بن عبدالله عن علي، فقال: ذلك خير البشر، من شك فيه فقد كفر.
رواه يحيى بن الحسن العقيقي بسنده؛ ذكره الإمام الموفق بالله.
قلت: وقد سبق ذكر الخبر، والوعد بالكلام عليه، فهذا تمامه، والله ولي الإعانة.
[تمام الكلام على حديث: ((أنا سلم لمن سالمت))، ونحوه]
ونحو قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من ناصب علياً الخلافة بعدي فهو كافر، وقد حارب الله ورسوله؛ ومن شك في علي فهو كافر))، رواه الخطيب ابن المغازلي، عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ، وأخرجه الكنجي.
وفي هذا المعنى أخبار متواترة، كأخبار المحاربة، نحو: قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لعلي (ع): ((أنا سلم لمن سالمت، حرب لمن حاربت))، أخرجه الإمام المرشد بالله (ع)، ومحمد بن سليمان الكوفي، وابن المغازلي، وعبد الوهاب الكلابي، عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ.
قال ابن أبي الحديد: ورواه الناس كافة.
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((حربك حربي، وسلمك سلمي))، أخرجه نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم (ع)، والإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة من طريق الإمام الناصر الأطروش (ع)؛ ومحمد بن سليمان الكوفي بطريقين عن جابر بن عبدالله ـ رضي الله عنهما ـ.
والكنجي والخوارزمي، وابن المغازلي، عن علي (ع).
وأبو يعلى الهمداني بإسناده عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي (ع)، قال: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((لولا أن تقول فيك طوائف من أمتي))...إلى قوله: ((حربك حربي، وسلمك سلمي)).
وابن /497

(2/497)


المغازلي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، قال: ((يا علي، سلمك سلمي، وحربك حربي، وأنت العلم ما بيني وبين أمتي من بعدي)).
أفاده أيّده الله في التخريج.
وهذا طرف من طرقها، ويأتي الكلام عليها مستوفى - إن شاء الله تعالى -، وقد أَقَرّ بتواترها الخصوم.
وأخبار: إن حبه إيمان، وبغضه نفاق، كذلك.
وقد مَرّ نحو قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((لا يتقدمك بعدي إلا كافر، ولا يتخلفك بعدي إلا كافر؛ وإن أهل السماوات ليسمونك أمير المؤمنين))، أخرجه الإمام (ع) في الشافي، بسنده إلى صاحب المحيط بالإمامة؛ وأخرجه أبوالعباس (ع) يبلغان به الحارث بن الخزرج.
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((يا معشر المسلمين لا تخالفوا علياً فتضلوا، ولا تحسدوه فتكفروا)) أخرجه محمد بن منصور عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي (ع)؛ وأخرجه محمد بن سليمان عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
ونحو قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((علي باب حطة، من دخل منه كان مؤمناً، ومن خرج منه كان كافراً))، أخرجه الدارقطني، والحاكم عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((ألا إن التاركين ولاية علي هم الخارجون عن ديني)) أخرجه أبو العباس (ع) عن حذيفة؛ وقد مَرّ.
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((وهو إمامكم بعدي، فمن رضي بذلك لقيني على ما فارقته؛ ومن غيّر وبدّل لقيني ناكثاً بيعتي، عاصياً لأمري، جاحداً لنبوتي، لا أشفع له عند ربي، ولا أسقيه من حوضي))، أخرجه محمد بن سليمان الكوفي بسنده إلى الإمام النفس الزكية محمد بن عبدالله، وأخيه الإمام يحيى بن عبدالله، عن أبيهما عبدالله بن الحسن، عن أبيه الحسن بن الحسن، عن جده أمير المؤمنين (ع).
ولما نزل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً }...الآية [الأنفال:35]، قال النبي ـ صلى /498

(2/498)


الله عليه وآله وسلم ـ: ((من ظلم علياً مقعده هذا بعد وفاتي، فكأنما جحد نبوتي ونبوة الأنبياء قبلي))، أخرجه الحاكم أبو القاسم الحسكاني عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ؛ وروى عنه في الآية، قال: حذر الله أصحاب محمد ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أن يقاتلوا علياً.
وأخرج الحاكم أبو القاسم بسنده إلى أبي عثمان النهدي، قال: رأيتُ علياً، فتلا هذه الآية: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ } [التوبة:12]، فقال: والله ما قوتل أهل هذه الآية منذ نزلت إلا اليوم.
وأخرج بسنده عن مؤذن بن أقصى، قال: صحبت علياً سنة...إلى قوله: سمعته يقول: من يعذرني من فلان وفلان؛ إنهما بايعا طائعين غير مكرهين، ثم نكثا بيعتي من غير حدث أحدثته؛ والله، ما قوتل أهل هذه الآية: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ }...الآية.
وأخرج بسنده عن زيد بن وهب، قال: سمعتُ حذيفة يقول: والله ما قوتل أهل هذه الآية: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ }...الآية.
وغير ذلك كثير يضيق عنه البحث.
[تنوُّع الكفر والفسق، واختلاف أحكام كلٍ منهما]
ولا يعترض هذا بلزوم إجراء أحكام الكافرين المحاربين لرسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ عليهم؛ فإن الكفر والشرك والنفاق أنواع مختلفة، ولكل نوع منها معاملة، كما اختلفت معاملة الكتابي، والوثني، والمرتد، وغيرهم، مع كونهم جميعاً كافرين بنص الكتاب المبين، وإجماع المسلمين.
فلأصحاب الكفر بالله سبحانه ورسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ الذين لا يقرّون بالشهادتين، ولا يقيمون الصلاة، ولا /499

(2/499)


يستقبلون القبلة، أو المكذبين لإحدى الضروريات من دين الإسلام، معاملة.
وهم أيضاً أقسام: كتابي، وغير كتابي، ومرتد، وأصلي، ومجاهر، ومنافق؛ ولكل قسم أحكام.
ولأهل الكفر بغير ذلك مما ورد في الكتاب المبين، أو علم بسنة الرسول الأمين ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ تسميتهم كافرين معاملة؛ وهم أيضاً على أقسام.
وقد روى الإمام الناصر للحق الحسن بن علي الأطروش (ع) بسنده عن الحسن، قال: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر)).
ورواه أيضاً بسنده عن عبدالله، ورواه الكنجي عن أبي وائل، عن عبدالله، وقال: سمعته عن عبدالله، عن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
قال: هذا حديث صحيح متفق على صحته، رواه البخاري، ومسلم، والترمذي.
وغير ذلك كثير.
نعم، وعلى هذا أنواع الفسق والشرك والنفاق، وغيرها من أسماء المذام، وكل ذلك موقوف على الدليل من الكتاب وسنة سيد الأنام، صلى الله عليه وسلم وعلى آله الكرام.
فلأهل الكفر والنفاق بولاية أمير المؤمنين (ع) أحكام، قد بينها الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لوصيه (ع)، وأجراها عليهم الوصي، وأوضحها للأنام؛ وما ورد من نفي الكفر، أو الشرك، عنهم، فالمراد نفي المُخْرِجَيْنِ عن اسم الملة، المقتضيين لسبي النساء والذرية، وتحريم المناكحة، ونحوها من الأحكام.
[تفسير: {أحسب الناس...إلخ} وما ورد فيها من الأخبار]
قال أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ: لما أنزل الله ـ سبحانه ـ قوله: {الم(1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)} [العنكبوت:1،2]،...إلى /500

(2/500)


قوله: فقلت: يا رسول الله، ما هذه الفتنة التي أخبرك الله [تعالى] بها؟
فقال: ((يا علي، إن أمتي سيفتنون من بعدي)).
فقلت: يا رسول الله، أو ليس قلت لي يوم أحد، حيث استشهد من استشهد من المسلمين، وحيزت عني الشهادة، فشق ذلك علي، فقلت [لي]: ((أبشر فإن الشهادة من ورائك))؟
فقال لي: ((إن ذلك لكذلك، فكيف صبرك إذاً؟)).
فقلت: يا رسول الله، ليس هذا من مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشرى والشكر.
..إلى قوله: فقلت: يا رسول الله، بأي المنازل أنزلهم عند ذلك؟ أبمنزلة ردّة أم بمنزلة فتنة؟
فقال: ((بمنزلة فتنة)).
انتهى من نهج البلاغة.
[تبشير علي بالشهادة ـ وحكم من يخرجون عليه]
قال ابن أبي الحديد: روى كثير من المحدثين عن علي (ع) أن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، قال له: ((إن الله قد كتب عليك جهاد المفتونين، كما كتب علي جهاد المشركين)).
..إلى قوله: فقلت: يا رسول الله، كنت وعدتني الشهادة؛ فاسأل الله أن يعجلها لي بين يديك.
قال: ((فمن يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين؛ أما إني وعدتك الشهادة، وستستشهد، تُضْرَب على هذه، فَتُخْضب هذه، فكيف صبرك إذاً؟)).
فقلت: يا رسول الله، ليس هذا بموطن صبر، هذا موطن شكر.
قال: ((أجل، أصبت)).
..إلى قوله: فقال: ((إن أمتي ستفتن بعدي، فتتأول القرآن وتعمل بالرأي، وتستحل الخمر بالنبيذ، والسحت بالهدايا، والربا بالبيع، وتحرف الكتاب عن مواضعه، وتَغْلِبُ كلمة الضلال)).
..إلى قوله: ((فإذا قلدتها جاشت عليك الصدور، وقلبت لك الأمور؛ تقاتل حينئذ على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، فليست حالهم الثانية بدون حالهم الأولى)).
فقلت: يا رسول الله، فبأي منزل أنزل هؤلاء المفتونين بعدك؟ أبمنزلة فتنة، أم بمنزلة ردة؟
فقال: ((بمنزلة فتنة، يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل)).
فقلت: يا رسول الله، يدركهم العدل منا، أم من غيرنا؟
قال: ((بل منا؛ بنا فتح، وبنا يختم، وبنا ألّف الله بين القلوب بعد الشرك، وبنا يُؤلّف الله بين القلوب بعد الفتنة)).
فقلت: الحمد لله على ما وهب لنا من فضله، انتهى.
قلت: ونحو هذا رواه في مجموع تفسير نجم آل الرسول القاسم، /501

(2/501)


والهادي إلى الحق، وأسباطهما من آل محمد، في مخاطبة الرسول للوصي والزهراء؛ وكل ذلك من معجزاته، ودلائل نبوته، عليه وآله أفضل الصلوات والتسليم.
قال ـ أيده الله ـ في التخريج: ومن خطبة لعلي (ع) من رواية جعفر الصادق، عن آبائه، عن علي: ألا إن أبرار عترتي، وأطايب أرومتي، أحلم الناس صغاراً، وأعلم الناس كباراً؛ وإنا أهل بيت مِنْ عِلْمِ الله عُلّمنا، وبحكم الله حكمنا، ومن قول صادق سمعنا؛ فإن تتبعوا آثارنا، تهتدوا ببصائرنا، وإن لم تفعلوا، يهلككم الله بأيدينا؛ معنا راية الحق، من تبعها لحق، ومن تأخر عنها غرق؛ ألا وبنا تدرك تِرَة كل مؤمن، وبنا تخلع ربقة الذل عن أعناقكم، وبنا فُتح لا بكم.
قاله أبو عبيدة.
انتهى من شرح النهج.
وأخرجه السيوطي عن أبي الزعراء، عن علي (ع)، وأخرجه عبد الغني بن سعيد في الإيضاح؛ أفاده الوزير.
وفي الكامل المنير بالسند إلى أبي ذر الغفاري ـ رضي الله عنه ـ قال: سألت رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، من خليفتك علينا من بعدك؟
فقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((علي بن أبي طالب، هو خير من أخلّف بعدي)).
وساق إلى قوله: قلت: يا رسول الله، ثم مه؟ قال: ((ثم تبايعون لخير هذه الأمة بعد رسولها، علي بن أبي طالب؛ حتى إذا وجبت له الصفقة نكثتم، فأول من ينكث عليه طلحة والزبير، ثم يستأذنان إلى مكة، فيجدان فيها امرأة من نسائي، فيسيران بها إلى البصرة المؤتفكة بدين أهلها ودنياها، فعند ذلك يسيرون إلى فرعون أمتي من الشام، معاوية بن أبي سفيان، فيقتتلون بها قتالاً شديداً، فيحجز الله بينكم بالوهن؛ فعند ذلك يبعثون حكمين، فيكون حكمهما على أنفسهما، وعند حكومتهما تفترق الأمة على /502

(2/502)


أربع فرق: فرقة على الحق لا ينقصها الباطل، وفرقة على الباطل لا ينقصها الحق، وفرقة مرقت من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وفرقة وقفت كالشاة)).
..إلى قوله: ((إذا جاءها الذئب فاختطفها)) انتهى.
[تخريج حديث الحوأب]
وروى في المحيط، عن أبي طالب بسنده إلى ابن مسعود، وأبو العباس الحسني بسنده إليه، قال: قلت: يا رسول الله، من يغسلك إذا مت؟
قال: ((يغسل كل نبي وصيه)).
فقلت: يا رسول الله، ومن وصيك؟
قال: ((علي بن أبي طالب)).
قال: قلت: يا رسول الله، كم يعيش بعدك؟
قال: ((ثلاثين سنة)).
ثم قال: ((إن يوشع بن نون خرجت عليه صفراء بنت شعيب زوجة موسى، وقالت: أنا أحق بالأمر منك، فقاتلها، وقاتل مقاتليها، وأسرها وأحسن أسرها؛ وإن ابنة أبي بكر ستخرج على علي في كذا وكذا ألفاً من أمتي، فيقاتلها، ويقتل مقاتلتها، ويأسرها ويحسن أسرها؛ وفيها وفي صفراء نزل قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } [الأحزاب:33] يعني صفراء في خروجها على يوشع بن نون)).
وأخرج البخاري في صحيحه رفعه إلى نافع عن عبدالله، قال: قام النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ فأشار إلى مسكن عائشة، فقال: ((هاهنا الفتنة ـ ثلاثاًـ)).
وروى أبو العباس عن ابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، قال: ((ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تخرج حتى تنبحها كلاب الحوأب، يقتل عن يمينها ويسارها قتلى كثير، في النار)).
ورواه صاحب المحيط بسنده إلى ابن عباس باختلاف يسير، وروى نحوه الكنجي عن ابن عباس، وقال: أخرجه ابن خزيمة، وروى نحوه أبو عمر في الاستيعاب، وأبو مخنف بسندهما /503

(2/503)


إلى ابن عباس.
وقالت عائشة: إني سمعت رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يقول: ((كأني بكلاب ماء يدعى الحوأب قد نبحت بعض نسائي))، ثم قال لي: ((إياك يا حميراء أن تكونيها))، فلفق لها الزبير، وطلحة، خمسين أعرابياً، جعلا لهم جعلاً فحلفوا لها، وشهدوا أن هذا ليس بماء الحوأب؛ فكانت هذه أول شهادة زور في الإسلام.
رواه الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس، ورواه محمد بن إسحاق عن حبيب بن عمير، ورواه جرير بن يزيد عن عامر الشعبي.
ورواه أبو مخنف، قال: حدثنا إسماعيل بن خالد، عن قيس بن حازم، قالوا جميعاً.
وساق الرواية، وفيها ما ذكر، فقالت أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ لعائشة: يا ابنة أبي بكر، أبدم عثمان تطلبين، وما كنتِ تدعينه إلا نعثلاً؟ أم على ابن أبي طالب تنقمين؟ أذكّرك الله، وخمساً سمعتهنّ أنا وأنت من رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
وساقت إلى قول عائشة: فأقبل رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ عليها غضبان محمراً وجهه، وقال: ((والله لا يبغضه ـ يعني علياً ـ أحد من أهل بيتي، ولا من غيرهم، إلا خرج من الإيمان؛ وإنه مع الحق، والحق معه))، وأنه قال لأم سلمة: ((يا ابنة أبي أمية، أعيذك أن تكوني منبحة كلاب الحوأب، وأنت يومئذ ناكبة عن الصراط))، وأنه قال لعائشة: ((إن لأمتي منكِ يوماً مراً)).
رواه في شرح النهج عن أبي جعفر الإسكافي.
[بحث أخبار الناكثين والقاسطين والمارقين]
قلت: والأخبار في هذا كثيرة، وكفى بأخبار الناكثين والقاسطين والمارقين المتواترة.
ومن طرقها: ما رواه الإمام الأعظم زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي(ع) قال: أمرني رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين؛ وما كنت لأترك شيئاً مما أمرني به حبيبي رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ. /504

(2/504)


قال أيده الله في التخريج: قال في التلخيص: رواه النسائي في الخصائص، والبزار، والطبراني.
وفي كنز العمال: أخرجه ابن عدي، والطبراني في الأوسط، وعبد الغني بن سعيد في إيضاح الإشكال، والأصفهاني في الحجة، وابن مندة في غرائب شعبة، وابن عساكر من طرق، وفي رواية عن علي (ع): أمرت بقتال ثلاثة: القاسطين، والناكثين، والمارقين؛ فأما القاسطون فأهل الشام، وأما الناكثون ـ فذكرهم ـ وأما المارقون فأهل النهروان.
أخرجه الحاكم في الأربعين، وابن عساكر.
وأخرجه الحاكم من طريقين عن أبي أيوب بلفظ: أمر رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ علي بن أبي طالب بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين.
وفي الرواية الأخرى بلفظ: سمعت رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - يقول لعلي بن أبي طالب: ((يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين))، وساقه بإسنادين مختلفين إلى أبي أيوب...إلخ.
[انتهى] من تتمة الروض النضير.
وفي الروض النضير: قال: أخرجه الحاكم، وغيره عن أبي أيوب، وهو متلقى بالقبول إن لم يكن متواتراً، انتهى.
وقد مَرّ الحديث عن ابن عباس، وفيه: ((اشهدي يا أم سلمة أنه قاتِل الناكثين والقاسطين والمارقين))، من رواية الإمام في الشافي، والقاسم بن إبراهيم، وأبي العباس الحسني، والفقيه حميد الشهيد، وعبدالله بن طاهر، والعقيلي، والكنجي.
ورواه ابن المغازلي من حديث المناشدة؛ وروى الكنجي بإسناده إلى أبي سعيد الخدري، قال: أمرنا رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، مع علي بن أبي طالب. وقال: أخرجه الحاكم أبو عبدالله، وأخرجه الكنجي أيضاً عن علي.
قال أيده الله: وأخرجه إبراهيم بن ديزيل عن أبي أيوب، وقال عمار بن ياسر: أما إني أشهد أن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أمر علياً بقتال الناكثين والقاسطين.
رواه أبو مخنف؛ قاله عمار رداً على أبي موسى، لما ثبط الناس عن الجهاد مع علي(ع).
ورواه محمد بن سليمان الكوفي عن علقمة، /505

(2/505)


وعن أبي سعيد التيمي، كليهما عن علي؛ لفظ أبي سعيد: عهد إليَّ رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أن أقتل الناكثين والقاسطين والمارقين، فقال: الناكثين أهل الجمل، والقاسطين أهل الشام، والمارقين الخوارج.
قلت: بالنصب على الحكاية.
قال أيده الله: ولفظ علقمة: أمرت أن أقتل...إلخ.
وعن أبي سعيد التيمي، عن علي (ع)، نحو الأول من طريق أخرى، ورواه عن إبراهيم، عن علي نحو حديث علقمة.
وروى نحوه عن أبي أيوب.
وقال عمار بن ياسر: أمرني رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بقتال الناكثين، وقد فعلت، وأمرني بقتال القاسطين، وأنتم هم ـ يخاطب عمرو بن العاص في صفين ـ وأما المارقون فلا أدري أدركهم أو لا.
رواه نصر بن مزاحم.
وأخرج الإمام أبو طالب (ع) عن علي (ع): ((يا علي أنت فارس العرب، وأنت قاتل الناكثين والمارقين والقاسطين، وأنت أخي، ومولى كل مؤمن ومؤمنة، وأنت سيف الله الذي لا يخطئ، وأنت رفيقي في الجنة)).
قال أبو ذر لسلمان ـ رضي الله عنهما ـ: إلزم كتاب الله، وعلي بن أبي طالب؛ فأشهد أني سمعت رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يقول: ((علي أول من آمن بي، وأول من يصافحني يوم القيامة، وهو الصديق الأكبر، والفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل))؛ أخرجه الإمام المرشد بالله (ع)، وأبو علي الحسن الصفار، ومحمد بن سليمان الكوفي بسنده إلى أبي ذر من طريقين.
وأخرج ابن عبد البر في الاستيعاب، عن أبي ليلى الغفاري، والكنجي في مناقبه، عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((ستكون من بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فالزموا علي بن أبي طالب؛ فإنه أول من يراني، وأول من يصافحني يوم القيامة، وهو الصديق الأكبر، وهو فاروق هذه الأمة، يفرق بين الحق والباطل، وهو يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب المنافقين)).
وأخرج الحافظ الكنجي في مناقبه من حديث السمرقندي؛ وبإسناده عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ، قال: ستكون فتنة من /506

(2/506)


أدركها فعليه بخصلة من كتاب الله، وعلي بن أبي طالب؛ فإني سمعت رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وهو آخذ بيد علي ـ رضي الله عنه ـ، وهو يقول: ((هذا أول من آمن بي، وأول من يصافحني، وهو فاروق هذه الأمة، يفرق بين الحق والباطل، وهو يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الظلمة، وهو الصديق الأكبر، وهو بابي الذي أوتى منه، وهو خليفتي من بعدي)).
ثم قال: أخرجه محدث الشام في فضائل علي ـ رضي الله عنه ـ بطرق شتى.
[تخريج أحاديث: ذمِّ الخوارج ومدح قاتلهم]
وأخرج الإمام المنصور بالله (ع) في الشافي، بسنده إلى صاحب كتاب المحيط بالإمامة، بسنده إلى أبي اليسر، قال: كنت عند عائشة أم المؤمنين، فدخل مسروق، فقالت: من قتل الخوارج؟
قال: علي.
فقالت: سمعت رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يقول: ((يقتلهم خير أمتي من بعدي، وهو يتبع الحق والحق يتبعه)).
قال: وهذا خبر معروف من أصحاب الحديث لم يدفعه أحد منهم.
قلت: وفي مسند أحمد بن حنبل: عن مسروق، قال: قالت لي عائشة: إنك من ولدي، ومن أحبهم إليَّ، فهل عندك علم من المخَدَّج؟
فقلت: نعم قتله علي بن أبي طالب على نهر يقال لأعلاه ثامراً، ولأسفله النهروان.
..إلى قوله: فقالت: هل لك على ذلك بَيّنَةٌ؟
فأقمت رجالاً شهدوا عندها بذلك.
قال: فقلت: سألتكِ بصاحب هذا القبر، ما الذي سمعت من رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ فيهم؟
فقالت: نعم، سمعته ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يقول: ((إنهم شر الخلق والخليقة، يقتلهم خير الخلق والخليقة، وأقربهم عند الله وسيلة)).
أفاده في شرح النهج.
وأخرجه محمد بن سليمان الكوفي، وابن المغازلي، عن عائشة بلفظ: ((هم...الخبر بتمامه))، ونقله الإمام محمد بن عبدالله الوزير.
قال: وفي كتاب صفين للمدائني: عن مسروق، أن عائشة لما عرفت أن علياً قتل ذا الثدية، قالت: لعن الله عمرو بن العاص، كتب عليَّ أنه قتله بالإسكندرية؛ ألا إنه لا يمنعني ما في نفسي أن أقول ما سمعت من رسول الله صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم، /507

(2/507)


سمعته يقول: ((يقتله خير أمتي من بعدي)).
[تخريج حديث: خير رجالكم علي، ونحوه]
ويضاف إلى ما سبق من أخبار خير البرية، وخير البشر، وخير أمتي، وما في معناها نحو قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((خير إخواني علي، وخير أعمامي حمزة))، أخرجه الديلمي عن عابس بن ربيعة.
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((خير رجالكم علي، وخير شبابكم الحسن والحسين، وخير نسائكم فاطمة))؛ أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والبيهقي، والحاكم في المستدرك، والطبراني، والروياني، عن عبادة بن الصامت؛ والخطيب، وابن عساكر عن ابن مسعود.
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((خير البرية علي))، رواه الخوارزمي عن أبي سعيد مرفوعاً.
انتهى من التفريج.
وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ مخاطباً لفاطمة (ع): ((لقد زوجتك خير من أعلم)) رواه الكنجي عن حبيب بن أبي ثابت، وقال: رواه البخاري في أماليه.
وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((علي خير من طلعت عليه الشمس بعدي ومن غربت، وأعلمهم)).
وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((أحب الخلق إلى الله بعد النبيين والمرسلين علي بن أبي طالب))، أخرجهما أبو القاسم الجابري في كتاب إقرار الصحابة عن أبي بكر، قال ابن عمر لنافع، وقد سأله مَن خير الناس بعد رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: خيرهم من كان يحلّ له ما كان يحلّ له، ويحرم عليه ما كان يحرم عليه.
...إلى قوله: علي؛ سد أبواب المسجد، وترك باب علي، وقال له: ((لك في هذا المسجد مالي، وعليك فيه ما علي، وأنت وارثي ووصيي، تقضي ديني، وتنجز عداتي، وتقتل على سنتي؛ كذب من زعم أنه يبغضك ويحبني))، أخرجه ابن المغازلي عن جعفر بن محمد، عن أبيه.
وقد مَرّ، وشواهد الجميع لا تحصر.
وفي كل هذه المعاني الشريفة ما لايبلغ أقصاه، ولا يدرك منتهاه، كقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((أنت أخي ووزيري، وخير من أخلّفه بعدي؛ بحبك يعرف المؤمنون، وببغضك يعرف المنافقون؛ من أحبك من أمتي فقد برئ من النفاق، ومن أبغضك لقي الله /508

(2/508)


عز وجل منافقاً))، أخرجه الإمام الأعظم في مجموعه بسند آبائه صلوات الله وسلامه عليهم.
وقال الله مخاطباً لرسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في الخبر القدسي: ((فأنت نبيي، وخيرتي من خلقي، ثم الصديق الأكبر، الطاهر المطهر، الذي خلقته من طينتك، وجعلته وزيرك، وأبا سبطيك، السيدين الشهيدين، سيدي شباب أهل الجنة، وزوجته خير نساء العالمين))، الخبر من طريقه (ع)، وقد مَرّ.
وأخرج الإمام المنصور بالله (ع) في الشافي بسنده إلى زيد بن الحسن البيهقي، رفعه إلى أنس بن مالك، قال: دخل علي بن أبي طالب على رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، فقال: ((أنت أخي ووزيري، وخليفتي في أهلي، وخير من أخلفه من بعدي)).
وأخرجه محمد بن سليمان الكوفي، بطريقه عن سلمان، عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بلفظ: ((إن وصيي وموضع سري، وخليفتي في أهلي، وخير من أترك بعدي، علي بن أبي طالب)) أفاده أيده الله في التخريج.
قلت: وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((في أهلي)) ليس للتخصيص؛ إذ ليس الخليفة إلا واحداً على العموم، كما هو معلوم، فخليفته الكائن في أهله، خليفته على جميع أمته؛ وأيضاً الخليفة على الأفضل، خليفة على من دونه بالأولى.
ثم لو سلم فهو في هذا الخبر من باب التنصيص على البعض؛ فقد ورد التصريح بكونه خليفته في أمته، وقد سبق قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((والخليفة في الأهل والمال، وفي المسلمين، وفي كل غيبة)) من رواية الإمام أبي طالب، والإمام المرشد بالله، عن الإمام الأعظم (ع).
وفي خبر أم سلمة من أخبار المنزلة المتقدمة: ((علي أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وعيْبَة علمي، وبابي الذي أوتى منه، والوصي على الأموات من أهل بيتي، والخليفة في الأحياء من أمتي)).
وسبق قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((أول من يدخل علينا أمير المؤمنين، وسيّد المسلمين، وقائد الغر المحجلين))...إلى قوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((وأنت وصيي وخليفتي، والذي يبين لهم الذي يختلفون /509

(2/509)


فيه من بعدي، وتسمعهم صوتي)) وهو مما أخرجه الإمام (ع) في الشافي.
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في خبر ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ من حديث التسعة الذين جاءوا إليه: ((إنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي))، وقد مرّ تخريجه أول البحث.
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في خبر موسى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن، عن أبيه، عن جده (ع)، لعلي (ع): ((وأنت وصيي من أهلي، وخليفتي في أمتي؛ من والاك فقد والاني، ومن عصاك فقد عصاني)).
وفي خبر الأنوار الآتي ـ إن شاء الله تعالى ـ قوله صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم: ((ففيَّ النبوة، وفي علي الخلافة))، أخرجه الإمام المنصور بالله (ع) من طريق ابن المغازلي، وابن شيرويه الديلمي، عن سلمان ـ رضي الله عنه ـ.
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((هذا أول من آمن بي، وأول من يصافحني، وهو فاروق هذه الأمة، يفرق بين الحق والباطل، وهو يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الظلمة، وهو الصديق الأكبر، وهو بابي الذي أوتى منه، وهو خليفتي من بعدي))، أخرجه الكنجي الشافعي بالإسناد إلى ابن عباس، قال: سمعت رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وهو آخذ بيد علي - رضي الله عنه - يقول...الخبر؛ أفاده في شرح الغاية؛ وسيأتي تمام طرق هذا الخبر الشريف ـ إن شاء الله تعالى ـ.
والأخبار في هذا المعنى متواترة، كما حقق ذلك أعلام العترة الطاهرة (ع) وغيرهم، وقد سبق ويأتي ما يكفي ويشفي.
[دلالة الكتاب والسنة على خلافة علي (ع) وشركته في الأمر]
وقد دلّ على خلافة سيد الوصيين، لأخيه سيد النبيين ـ صلى الله وسلم عليهم أجمعين ـ، وشركته في أمره الكتاب المبين، بصريح قوله ـ عز وجل ـ عن موسى لهارون (ع): {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي } [الأعراف:142]، وقوله: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)} [طه]، وقد علم بأخبار المنزلة استحقاقه لجميع ما كان له منه إلا /510

(2/510)


النبوة.
قال أيده الله تعالى في التخريج في الخبر المروي في الشافي: رواه الناصر للحق(ع)، وعلي بن بلال، وأبو القاسم الحاكم بلفظ: ((إن أخي ووزيري، وخليفتي وخير من أتركه بعدي علي بن أبي طالب...إلخ)).
وأبو علي الصفار بأسانيدهم إلى أنس، ورواه الخوارزمي بدون ((وخليفتي))، عن سلمان.
وروى محمد بن سليمان الكوفي بإسناده إلى أنس بن مالك، عن سلمان الفارسي: ((إن أخي ووارثي وخليفتي، وخير من أترك بعدي، علي بن أبي طالب، يقضي ديني، وينجز موعدي)).
وروى بطريق أخرى عن أنس، عن سلمان: ((إن خليلي ووزيري وخليفتي، وخير من أترك بعدي، علي بن أبي طالب...إلخ الخبر)).
وروي أيضاً عن سلمان بطريق أخرى عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أنه قال: ((إن وصيي وأعلم أمتي بعدي علي بن أبي طالب)).
وروي أيضاً بطريق أخرى عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أنه قال: ((وصيي علي بن أبي طالب، هو خير أمتي بعدي)).
وروي عن أبي سعيد، عن سلمان عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أنه قال: ((إن علياً هو خيرهم، وأفضلهم، وأعلمهم، فهو وليي ووصيي ووارثي)).
وروى عن سلمان بطريق آخر عنه - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((إني أوصيتُ إلى علي، وهو أفضل من أترك بعدي)) انتهى.
[تخريج أحاديث: الوصاية والخلافة ونحوها لعلي]
وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((إن وصيي، وموضع سري، وخير من أترك بعدي، ينجز عدتي، ويقضي ديني، علي بن أبي طالب)) رواه الطبراني عن أبي سعيد عن سلمان، والكنجي عن سلمان، والحاكم أبو القاسم بلفظ: ((إن وصيي، وخليفتي، وخير من أترك بعدي... إلخ))، عن سلمان أيضاً.
وروى الحاكم خبر: ((إن خليلي)) المارّ عن أنس.
وقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لسلمان: ((يا أبا عبدالله إن أخي ووارثي وخليفتي وخير من أترك بعدي علي بن أبي طالب، يقضي ديني، وينجز موعدي)) أخرجه محمد بن منصور، عن سلمان الفارسي.
وقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((يا علي، حربك حربي، وحزبك حزبي، من أحبك أحبني، ومن أحبني فقد أحبّ الله، ومن أبغضك أبغضني /511

(2/511)


ومن أبغضني فقد أبغض الله؛ أنت وزيري في حياتي، وخليفتي بعد وفاتي))، رواه العالم الولي، إسحاق بن أحمد بن عبد الباعث ـ رضي الله عنه ـ في كتاب الحياة.
وفي محاورة النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لفاطمة (ع): ((يا فاطمة؛ أنتِ بضعة مني، وعلي مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي؛ يا فاطمة، إني سألت الله أن يجعل لي علياً وزيراً وخليفة من بعدي...الخبر))، رواه في كتاب إقرار الصحابة لأبي القاسم الجابري.
وفيه: روى تميم بن بهلول ـ وذكر سنده إلى عائشة ـ قالت: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((أنا سيد الأولين والآخرين، وعلي بن أبي طالب سيد الوصيين، وأخي ووارثي، وخليفتي في أمتي))...إلى قوله: ((وهو إمام المسلمين، وولي المؤمنين، وأميرهم بعدي)).
[خطبة سلمان في فضل أمير المؤمنين وخلافته]
وروى أبو إسماعيل الكوفي، عن زاذان، عن سلمان الفارسي، أنه قال في خطبته بعد أن حمد الله، وأثنى عليه:
أما بعد:
أيها الناس؛ فإني قد أوتيت علماً، ولو أخبركم بكل ما أعلم لقالت طائفة: مجنون، وقالت طائفة: رحم الله قاتل سلمان.
..إلى قوله: ألا وإن لكم منايا، تتبعها بلايا؛ ألا وإن عند علي بن أبي طالب علم المنايا والبلايا، وفصل الخطاب، وهو على سنة هارون بن عمران، حين قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((أنت خليفتي ووصيي في أهلي، أنت مني كهارون من موسى))، أمَا والله لو ولّيتم علياً لأكلتم من فوقكم، ومن تحت أرجلكم...الخبر.
انتهى من الكامل المنير.
وروى هذه الخطبة محمد بن سليمان الكوفي بإسناده إلى ابن عباس.
..إلى قوله: فقال ـ أي سلمان ـ بعد حمد الله ـ: أيها الناس فإني قد أوتيت علماً...إلخ، باختلاف يسير؛ من مناقبه.
قلت: وقد أشار إليها الإمام المنصور بالله (ع) في الشافي، وذكر منها قوله: أنسيتم أو تناسيتم.
وقوله: والله لو أعلم أني أعزّ لله ديناً، أو أمنع لله ضيماً لضربت بسيفي قدماً قدماً. /512

(2/512)


[الخلافة في الأرض في القرآن لثلاثة: آدم وداود وعلي]
قال أيده الله في التخريج: وروى الحاكم أبو القاسم بإسناده إلى عبدالله بن مسعود، قال: وقعت الخلافة من الله في القرآن لثلاثة نفر: لآدم (ع)، لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة:30]، يعني آدم؛ والخليفة الثاني: داود لقوله تعالى: {يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ } [ص:26]، يعني أرض بيت المقدس؛ والخليفة الثالث: علي بن أبي طالب (ع) لقوله تعالى: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } [النور:55]، يعني آدم، وداود (ع)، انتهى.
قال أيده الله: وهذا تفسير صحابي من العظماء، ولا مساغ للاجتهاد فيه، فيكون توقيفاً ـ نسأل الله توفيقاً ـ.
وقال في البرهان ـ أي الإمام الناصر الديلمي (ع) ـ: إنها نزلت الآية في رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وعلي، وخيار أهل بيتهما، ومن سار بسيرتهما إلى يوم القيامة؛ لأنهم ورثة الكتاب...إلخ.
ومثل هذا ذكره محمد بن القاسم، والحسين بن القاسم.
ويؤيده ما رواه الحاكم بإسناده إلى ابن عباس، قال: نزلت هذه الآية في آل محمد ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ؛ وما ذكره الشرفي في المصابيح.
[إتمام تخريج أحاديث الوصاية والخلافة]
وقال الحسن السبط (ع): إن الله اختار محمداً، وأمره أن ينتخب من أهله رجلاً يؤازره ويعينه على أداء رسالته، فعرض ذلك رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ على عمومته، فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم، فأوحى الله إليه: (أن اتخذ علياً وزيراً، وناصراً ووصياً)، فضمّ رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ علياً إلى صدره، وقال: ((هذا منكم صفوتي، وهذا دونكم المختار عندي، وهذا يعينني على أمري، شدّ الله به ظهري، كما شدّ ظهر موسى بهارون؛ اللهم /513

(2/513)


أيده بالإيمان، وجنّبْه عبادة الأوثان)).
ذكر هذا الإمام أحمد بن سليمان (ع).
وقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((وصيي، وأعلم من أخلف بعدي، علي بن أبي طالب)) أخرجه الإمام أبو طالب (ع) عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ.
وأخرج عن جابر أنه قال، وقد زار الحسين السبط (ع): فأشهد أنك ابن خير النبيين، وابن سيد الوصيين...إلخ.
وقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لعلي (ع): ((أنت وصيي))، رواه محمد بن سليمان الكوفي عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي (ع)؛ ورواه عن زيد بن أرقم، من طريقين.
وروى أيضاً عن الباقر (ع) قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((يا علي، أنت أخي ووصيي، وأنت أمين النبيين، وخاتم الوصيين)).
وروى أيضاً بسنده عن الباقر (ع) من حديث الإسراء: ((فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟
قال: هؤلاء ملائكة يقال لهم: الأوابون؛ فسمعتهم يقولون: محمد خير الأنبياء، وعلي خير الأوصياء...إلخ)).
وروى بإسناده إلى أبي رافع، عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قال: ((أما ترضى يا علي أنك أخي في الدنيا والآخرة، وأنك خير أمتي في الدنيا والآخرة، وأن امرأتك خير نساء أمتي في الدنيا والآخرة، وأن ولديك سيدا شباب أمتي في الدنيا والآخرة، وأنك أخي ووزيري ووارثي؟)).
وخطب علي (ع) فقال: أنا عبدالله وأخو رسوله، لا يقولها أحد قبلي ولا بعدي إلا كذاب؛ ورثت نبي الرحمة، ونكحت سيدة نساء هذه الأمة، وأنا خاتم الوصيين.
أخرجه محمد بن سليمان بسنده إلى أبي البحتري الأنصاري، والأصبغ بن نباتة؛ وهو في شرح النهج عن حكيم بن جبير.
وفي الخبر: ((أوحى الله إلى الجنة لأزيننك بأربعة أركان يوم القيامة: بمحمد سيد الأنبياء، وعلي سيد الأوصياء، والحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة)) أخرجه الإمام (ع) في الشافي بسنده إلى الحاكم الجشمي، وبسنده إلى /514

(2/514)


قتادة.
وأخرج الإمام (ع) أيضاً من أمالي الإمام أبي طالب (ع) بسنده إلى مجاهد، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: بينا رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يطوف بالكعبة، إذ بدت رمانة من الكعبة، فاخضر المسجد لحسن خضرتها؛ فمدّ رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يده فتناولها، ومضى رسول الله في طوافه، فلما انقضى طوافه صلى في المقام ركعتين؛ ثم فرق الرمانة قسمين، كأنها قدت بالسكين، وأكل النصف، وأطعم علياً (ع) النصف.
..إلى قوله: ثم التفت رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ إلى أصحابه، فقال: ((إن هذا قطف من قطوف الجنة، ولا يأكله إلا نبي، أو وصي نبي، ولولا ذلك لأطعمناكم)).
قال الإمام (ع): وقد أكل طعام الجنة مراراً، وشافه جبريل (ع) مراراً، وأحصى عدد الملائكة (ع)، وهو أمارة الوصية والخلافة، انتهى.
وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((إن الله اختار من كل أمة نبياً، واختار لكل نبي وصياً؛ فأنا نبي هذه الأمة، وعلي وصيي في عترتي، وأهل بيتي، وأمتي))، رواه الخوارزمي عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ.
[انتهى] من التفريج.
وأخرج الإمام (ع) في الشافي من مسند أحمد بن حنبل، وساق سنده، قال: قلنا لسلمان: سل النبي من وصيه؟
فقال سلمان: يا رسول الله، من وصيك؟
فقال: ((يا سلمان، من كان وصي موسى؟)).
فقال: يوشع بن نون.
قال: ((فإن وصيي ووارثي، يقضي ديني، وينجز موعدي، علي بن أبي طالب)).
قال ـ أيّده الله ـ في التخريج: وعنه - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((إن علياً وصيي ووارثي))، رواه البغوي، وابن المغازلي، والكنجي عن بريدة، ورواه الخوارزمي في فصوله، وأخرجه ابن عساكر، وصدره: ((لكل نبي وصي ووارث)).
وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((إن أخي ووزيري ووصيي علي بن أبي طالب))، رواه علي بن الحسين في المحيط، والحسن الصفار عن أنس.
وقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لعلي (ع): ((أنت أخي ووصيي /515

(2/515)


ووارثي))، رواه محمد بن سليمان، عن عبدالله بن أبي أوفى، ورواه أحمد، والصفار بلفظ: ((أنت أخي، ووارثي)) عن زيد بن أبي أوفى.
قلت: وهذه الرواية عن عبدالله بن أبي أوفى ترد ما رواه عنه البخاري ومسلم من إنكاره للوصاية، وهي أصح وأرجح من تلك الرواية المخالفة للمتواتر المعلوم، بإجماع المسلمين وإقرار الخصوم؛ وقد أنكر عليه السائل له في تلك الرواية، حيث قال: فقلت: كيف كتب على الناس الوصية أو أمر بالوصية؟
فقال: أوصى بكتاب الله ـ هكذا أخرجاه عنه ـ.
قال الإمام الحجة المنصور بالله عبدالله بن حمزة (ع) في سياق الرد عليه ما لفظه: فلما أعيد عليه السؤال، قال: نعم أوصى بكتاب الله، وأفرد العترة من الكتاب، والنبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قال ـ مجمعاً عليه كافة أهل الإسلام من الصحاح، وغيرها ـ: ((خلفت فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، حبلان ممدودان لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض))، فذكر كونهما خليفتيه.
...إلى قوله: فكيف يقول ابن أبي أوفى: إن الوصية بأحدهما دون الآخر، مع ثبوت انحرافه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، ومخالفته الإجماع؛ ولم يرو بنفسه ذلك عن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، ولم يوافقه أحد من الصحابة على ذلك؛ وقوله في ذلك غير مقبول؛ لكونه مخالفاً للكتاب والسنة.
إلى آخر ما في الشافي.
نعم، وأخرج المرشد بالله بسنده إلى موسى الكاظم، عن آبائه، عن علي (ع)، قال: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((إن فيك مثلاً من عيسى ابن مريم (ع))).
وساق إلى قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((ولكن أنت أخي، ووزيري، ووصيي، ووارثي، وعَيْبة علمي)). /516

(2/516)


ومن حديث عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((أتاني جبريل فبشرني أن منا سبعة لم يخلق الله مثلهم: أنا محمد رسول الله سيد النبيين، وعلي ابن عمي سيد الوصيين... الخبر))، أخرجه محمد بن سليمان الكوفي بسنده إلى أبي سعيد الخدري.
وقال الوصي (ع): إن أكرم الخلق على الله يوم القيامة سبعة، كلهم من ولد عبدالمطلب.
فقال عمار: من هم؟
قال: نبيكم خير النبيين، ووصيكم خير الوصيين، وحمزة سيد الشهداء، وجعفر الطيّار في الجنة ـ سقط اثنان، وهما الحسنان كما يأتي قريباً ـ ورجل يخرج منا آخر الزمان يقال له: المهدي.
رواه في الكامل المنير.
ومن شواهده ما أخرجه الإمام في الشافي، بسنده إلى أنس بن مالك، قال: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((نحن ولد عبد المطلب سادة أهل الجنة: أنا، وحمزة، وجعفر، وعلي، والحسن، والحسين، والمهدي)).
قال ـ أيده الله ـ في التخريج: وأخرجه عن أنس الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على شرط مسلم، وابن ماجه؛ وابن السري عن أنس، ورواه الطبري، وابن المغازلي بدون ((المهدي)) عن أنس.
وروى محمد بن سليمان الكوفي بإسناده عن ابن عباس، قال: قال النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((أول سبعة يدخلون الجنة: أنا، وحمزة، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين، والمهدي محمد بن عبدالله)).
وأخرج الكنجي عن ربيعة السعدي، عن حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ، قال: لأحدثنكم بما سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصره عيناي؛ خرج رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - كأني أنظر إليه كما أنظر إليك الساعة، /517

(2/517)


حامل الحسين بن علي على عاتقه، كأني أنظر إلى كفّه الطيبة، واضعها على قدمه، يلصقها بصدره، فقال: ((أيها الناس، لا أعرفن ما اختلفتم في الخيار بعدي؛ هذا الحسين بن علي خيار الناس جداً وجدة)).
ثم ساق في أبويه، وأخيه، وعمه، وعمته، وخاله، وخالته، على هذا النحو.
قال الكنجي: هذا سند اجتمع فيه جماعة أئمة الأمصار، منهم: ابن جرير الطبري، ومنهم: إمام أهل الحديث ابن ثابت الخطيب، ذكره في تاريخه، ومنهم: محمد بن تمام بن عساكر في تاريخه.
قال الإمام محمد بن عبدالله الوزير في الفرائد عقيب هذا: وأخرجه السمهودي الشافعي نزيل مكة، وقال: أخرجه ابن حبان في كتاب السنة الكبير، وزاد فيه ما لفظه: أيها الناس، إن الفضل، والشرف، والمنزلة، والولاية لرسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وذريته؛ فلا تذهبن بكم الأباطيل.
انتهى وسيأتي ـ إن شاء الله ـ.
وروى الإمام الموفق بالله (ع) بإسناده إلى أنس، قال: سمعت رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يقول: ((ليدخلن علي اليوم رجل هو خير الأوصياء، وسيد الشهداء، وأقرب الناس من النبيين يوم القيامة))، قال: فدخل عليه علي بن أبي طالب، فقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((ومالي لا أقول هذا فيك، وأنت تبرئ ذمتي، وتحفظ وصيتي، وتقضي ديني))، ورواه محمد بن سليمان عن أنس.
وأخرج قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((علي سيد الشهداء)) الإمام المرشد بالله (ع) عن علي ـ صلوات الله عليه ـ.
وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ خبر سادة أهل الجنة وغيره، مما استلزم التكرير؛ لاقتضاء المقامات وهو يسير، وقد مَرّ.
وستأتي أيضاً أخبار أقدم أمتي سلماً، وأكملهم حلماً، /518

(2/518)


وأكثرهم علماً، وأن الله اختاره من أهل الأرض بعد رسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وأنه أول المسلمين إسلاماً، وأعلمهم علماً؛ وأنه أول من آمن به، والصديق الأكبر، والفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل، ويعسوب المؤمنين؛ وأنه أولهم إيماناً بالله، وأوفاهم بعهد الله، وأقومهم بأمر الله، وأقسمهم بالسوية، وأعدلهم في الرعية، وأبصرهم بالقضية، وأعظمهم عند الله مزية، وخير البرية؛ وأنه أفضلهم، وأشدهم لله غضباً ونكاية في العدو؛ وأنه خير الأوصياء؛ وأنه عبد الله، وأخو رسوله؛ قد علَّمه عِلْمه، واستودعه سره، وهو أمينه على أمته؛ وأنه سيد العرب، وسيد ولد آدم ما خلا النبيين والمرسلين، وسيد المسلمين، وسيد الوصيين، وأمير المؤمنين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين.
[أحاديث السيادة لعلي ـ وتخريجها]
وأخرج الحاكم في المستدرك عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: نظر النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ إلى علي، فقال: ((يا علي، أنت سيد في الدنيا، وسيد في الآخرة، حبيبك حبيبي، وحبيبي حبيب الله، وعدوّك عدوي، وعدوّي عدوّ الله؛ والويل لمن أبغضك بعدي)) قال: صحيح على شرط الشيخين.
وأخرجه أبو علي الصفار بسنده إلى أنس بلفظ: نظر رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ إلى علي بن أبي طالب، فقال: ((أنت سيد في الدنيا، وسيد في الآخرة، ومن أحبك فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أبغضك فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله؛ وويل لمن أبغضك بعدي))، رواه في الأربعين.
وأخرجه بمثل روايته ابن المغازلي، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ، وأخرجه أحمد بن حنبل عن ابن عباس بلفظ: ((أنتَ سيّد في الدنيا، وسيّد في الآخرة، من أحبك فقد أحبني، وحبيبك حبيب الله، وعدوّك عدوّي، وعدوّي عدوّ /519

(2/519)


الله، والويل لمن أبغضك من بعدي)).
وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أنه قال لفاطمة: ((والذي بعثني بالحق، إنكِ سيّدة نساء العالمين، ولقد زوجتك سيداً في الدنيا، وسيداً في الآخرة))، رواه ابن المغازلي، وابن السراج عن عمران بن الحصين.
انتهى من التخريج.
وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أنه قال لعلي (ع): ((لولا أني خاتم الأنبياء لكنتَ شريكاً في النبوة، فإلا تكن نبياً فإنك وصي نبي ووارثه؛ بل أنت سيد الأوصياء، وإمام الأتقياء))، رواه في شرح النهج عن الصادق (ع).
وقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في علي (ع): ((إنه سيد المسلمين من بعدي، وأمير المؤمنين، وقائد الغر المحجلين، وإمام المتقين))، أخرجه محمد بن منصور، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
[انتهى] من مناقب خير الأوصياء.
وفي خبر المنادي يوم القيامة: ((هذا علي بن أبي طالب، وصي رسول رب العالمين، وأمير المؤمنين، وقائد الغر المحجلين، إلى جنات النعيم)) أخرجه الكنجي عن ابن عباس، والخوارزمي.
وأخرج الكنجي أيضاً خبر: ((ترد عليَّ الحوض راية علي أمير المؤمنين، وإمام الغر المحجلين)) عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ كما سبق.
وكذا ما أخرجه الإمام علي بن موسى الرضا، عن آبائه (ع): ((يا علي، أنا سيد المرسلين وأنت يعسوب المؤمنين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين)).
وما أخرجه الإمام الناصر للحق (ع)، وعلي بن بلال، بسندهما إلى عبدالله بن أسعد بن زرارة، عن أبيه أسعد: ((أُوحي إليَّ في علي أنه سيد المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين)).
وأخرجه محمد بن سليمان الكوفي، عن عبدالله بن أسعد، عن أبيه، وعن جابر؛ والحاكم في المستدرك وصححه، عن أسعد بن زرارة /520

(2/520)


بلفظ: ((أُوحي إليّ في علي ثلاث: أنه سيد المؤمنين... الخبر)).
وخبر: ((مرحباً بسيد المؤمنين، وإمام المتقين))، أخرجه أبو نعيم.
وقد سبق من هذه الأخبار النبوية، وما في معناها بطرقها في الفصل الأول، ما فيه تبصرة لذوي الأبصار.
[الأخبار الدالة على إمامة السبطين، وأن أولادهما أحق بالإمامة، وتخريجها]
ومن الأخبار المتواترة المعلومة، القاضية لأمير المؤمنين، وسيد الوصيين، وأخي سيد النبيين ـ صلى الله وسلم عليهم أجمعين ـ بالسيادة والخيرية والإمامة، نحو: الخبر الشريف، الذي قال فيه إمام الأئمة، الهادي إلى الحق (ع) ما نصه: وأجمعت الأمة أن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قال: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما))، وقال: ((هما إمامان قاما أو قعدا))، وأجمعوا أن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قال: ((إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي؛ إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض))، انتهى.
وقال الإمام المنصور بالله (ع) في الشافي: وروينا من غير طريق أن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قال: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما))، انتهى.
قال السيوطي في الجامع الصغير ـ وقد ساق الرواة والمخرجين لقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)) ـ ما لفظه: وهو متواتر؛ أفاده العزيزي. /521

(2/521)


وقال الإمام (ع) في الشافي: والأمة لم تختلف في قول رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا، وأبوهما خير منهما)).
وقال أيضاً: والخبر مشهور، تلقته الأمة بالقبول.
قال ـ أيده الله تعالى ـ في التخريج: قال الإمام الحسن بن بدر الدين (ع): والعترة مجمعة على صحته.
وقال: إنه مما ظهر، واشتهر بين الأمة، وتلقته بالقبول، ولا جحده أحد، ممن يعوّل عليه من علماء المسلمين.
ثم حكى عن الإمام القاسم بن محمد، والمرتضى بن المفضل، والشرفي، وحميد الشهيد، برواية الإمام عز الدين بن الحسن، والقاضي عبدالله بن زيد، والنجري، والقاضي أحمد حابس، مثل ذلك.
قال ـ أيده الله ـ: ومما يدل على إمامة الحسنين، وأن ولدهما أحق بالإمامة: قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من سره أن يحيى حياتي))...إلى قوله: ((فليتولّ علي بن أبي طالب، وذريته الطاهرين أئمة الهدى...إلخ))، رواه المرشد بالله بإسناده إلى الحسين السبط (ع).
ورواه ابن شاهين، وابن مندة، والباوردي، ومُطين، عن زياد بن مطرف؛ ورواه المرشد بالله (ع) بإسناده إلى ابن عباس بلفظ: ((وأوصياءه، فهم الأولياء، والأئمة من بعدي...إلخ)).
ورواه أبو /522

(2/522)


نعيم، والرافعي، والكنجي بلفظ: ((فليتول علياً، وليتول وليه، وليقتدِ بالأئمة من بعدي، فإنهم عترتي، خلقوا من طينتي...إلخ)).
ورواه الطبراني بلفظ: ((وليقتد بأهل بيتي من بعدي، فإنهم عترتي... إلخ)).
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من أحب أن يركب سفينة النجاة، ويتمسك بالعروة الوثقى، ويعتصم بحبل الله المتين، فليأتم علياً، وليأتم الهداة من ولده))، رواه الحاكم الحسكاني بإسناده عن علي (ع).
قلت: وقد سبقت هذه الأخبار الشريفة.
قال ـ أيده الله ـ: وكذا حديث الثقلين، وحديث السفينة المتواترين، وحديث النجوم المستفيض؛ فإنها قاضية بأنهم هداة الأمة، والأولى بالاتباع، فهم الأئمة على الخلق؛ وكذا قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } [النساء:59]، قال علي (ع): من هم يا رسول الله؟
قال: ((أنت أولهم))، رواه الحاكم عن سليم بن قيس الهلالي، عن علي (ع).
ورواه الحاكم أيضاً عن جعفر الصادق، قال: نزلت في علي، والحسن والحسين.
ورواه الناصر الأطروش عن جعفر الصادق بلفظ: (هم علي، والحسن، والحسين، وذريتهم (ع))، ذكره أبو القاسم البستي.
وكذا قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ }...إلى قوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ } [النور:55]...إلخ، قال في البرهان: نزلت في رسول الله صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم، وعلي، /523

(2/523)


وخيار أهل بيتهما...إلخ.
ويؤيده ما رواه الحاكم عن ابن عباس، قال: نزلت هذه الآية في آل محمد ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
ذكر هذا في المصابيح.
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((لا تعلّموا أهل بيتي فهم أعلم منكم، ولا تقصروا عنهم فتهلِكوا، ولا تتولوا غيرهم فتضلوا))، من رواية القاسم بن إبراهيم عن زيد بن أرقم.
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من سره أن يحيا حياتي))...إلى قوله: ((فليتولّ علي بن أبي طالب، والأخيار من ذريتي))، وقد علم أن ذريته ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ من ولد فاطمة بالأخبار الجمة؛ وهذا الخبر رواه محمد بن سليمان الكوفي.
وروى بإسناده إلى محمد بن علي رفعه، وروى بسنده إلى محمد بن عبدالله، وأخيه يحيى بن عبدالله الكامل، عن جدهما، عن علي بن أبي طالب، قال: لما خطب أبو بكر قام أبي بن كعب، فقال: يا معشر المهاجرين والأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، قال: ((أوصيكم بأهل بيتي خيراً فقدموهم، ولا تقدموا عليهم، وأمِّروهم ولا تأَمّروا عليهم...إلخ))؟
قال ـ أيده الله ـ: تأمل إلى شدة عناد المخالفين للعترة (ع) كيف يستدلون على أن الإمامة في قريش بما يروونه آحاداً من أنه قال: ((قدموا قريشاً... إلخ)).
قلت: وبخبر: ((الأئمة من قريش)).
قال: ولا يلتفتون إلى حديث الثقلين المتواتر، الذي فيه: ((قدّموهم ولا تقدّموا عليهم))، وأنه دليل على أن الإمامة في العترة.
قلت: مع أن أهل البيت (ع) المرادون بذلك أيضاً بالأولى، وبدلالة ما لايحصى.
قال: وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أنه قال: ((أتاني جبريل آنفاً، فقال: تختموا بالعقيق، فإنه أول حجر شهد لله بالوحدانية، ولي بالنبوة، ولعلي بالوصية، ولولده بالإمامة، ولشيعته بالجنة))، رواه ابن /524

(2/524)


المغازلي بإسناده عن علي(ع)؛ وأخرجه ابن السمان، عن علي أيضاً من شمس الأخبار؛ ورواه الخوارزمي.
انتهى من تفريج الكروب.
وقال الهادي (ع) في الأحكام: بلغنا عن رسول الله صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم أنه قال: ((من أمرَ بالمعروف، ونهى عن المنكر من ذريتي، فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة كتابه، وخليفة رسوله)).
وفي الجامع الكافي: عن الباقر، قال: من حبس نفسه لواعيتنا، وكان منتظراً لقائمنا، كان كالمتشحط بين سيفه وترسه في سبيل الله.
[إجماع العترة على أولوية علي وذريته بالإمامة وتفضيلهم]
وفيه: قال الحسن بن يحيى: أجمع آل رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أن علي بن أبي طالب أفضل الناس بعد رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وأعلمهم، وأولاهم بمقامه؛ ثم من بعد أمير المؤمنين الحسن والحسين، أولى بمقام أمير المؤمنين؛ ثم من بعد ذلك علماء آل رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
أفاده في الاعتصام.
قلت: وهذا معلوم من دينهم ضرورة، والنصوص فيه أكثر من أن تحصر، وقد مَرّ ما فيه مدّكر؛ وإذا كان أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، وأخو سيد النبيين ـ صلى الله وسلم عليهم أجمعين ـ خيراً من سادة أهل الجنة، وأفضل أهل بيت النبوة، الذين ورد فيهم ما لايحصى كثرة، كتاباً وسنةً، فما بالك بغيرهم من سائر الأمة.
وقد سبق في الفصل الأول، ما أخرجه الإمام المنصور بالله من أمالي المرشد بالله(ع) يرفعه إلى رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((نحن شجرة /525

(2/525)


النبوة، ومعدن الرسالة؛ ليس أحد من الخلائق يفضل أهل بيتي غيري)) وشواهده.
قال ـ أيده الله تعالى ـ: ويشهد له قوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد)) أخرجه الملا، والطبري عن أنس؛ وأخرجه الديلمي.
وقال ابن عمر: ويحك! علي من أهل البيت لا يقاس بهم أحد.
..إلى آخر ما رواه الحاكم الحسكاني.
قلت: وقد تقدم.
وقول الوصي (ع): لا يعادل بآل محمد من هذه الأمة أحد، ولا يساوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً؛ هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة، الآن إذ رجع الحق إلى أهله، ونقل إلى منتقله.
ومن كلامه (ع): أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا، كذباً وبغياً علينا، أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم؟ بنا يستعطى الهدى، ويستجلى العمى؛ إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا يصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم.
[انتهى] من نهج البلاغة.
وقوله (ع): نحن الشعار والأصحاب، والخزنة والأبواب، ولا تؤتى البيوت إلا من أبوابها، فمن أتاها من غير أبوابها سُمي سارقاً؛ فيهم كرائم القرآن، وهم كنوز الرحمن؛ إن نطقوا صدقوا، وإن سكتوا لم يسبقوا.
قال الإمام (ع) في الشافي: إن المعلوم ضرورة من علي وذريته الطاهرين أنه (ع) أفضل الخلائق، بعد النبيين والمرسلين، وأنه سيد /526

(2/526)


الوصيين، وخليفة رسول رب العالمين، بعد النبي صلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين.
...إلى قوله (ع): إذْ جاء فيهم ما لا يمكن تحويله، وعلم من دينهم ما لا يصح تحويله، أن أباهم أفضل البرية بعد الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وأنهم أفضل الخلائق بعده. انتهى.
[المفضلون لعلي(ع) على كل أحد بعد الرسول (ص)]
قلت: وقول أهل بيت النبوة في أمير المؤمنين، وإمام المتقين، وسيد الوصيين، وأخي سيد النبيين ـ عليهم الصلاة والسلام ـ: إنه أفضل الأمة، وتالي أخيه نبي الرحمة، وثانيه في كل درجة ومنزله، هو قول جميع بني هاشم، الذين شيخهم العباس بن عبد المطلب، وولده البحر حبر الأمة، كما هو المعلوم من أقوالهم وأفعالهم، وقول أعيان السابقين الأبرار، من المهاجرين والأنصار، كالمقداد وأبي ذر وعمار.
وقد امتنعوا كافة عن البيعة لأبي بكر؛ لاعتقادهم الحق لعلي (ع)، وقد أجمع على رواية امتناعهم لذلك جميع الطوائف، من موالف ومخالف؛ وإن اختلفوا فيما وراء ذلك.
وهو ومن معه من أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة لا يتأخرون عن الحق ساعة ولا لحظة؛ كيف وهو مع الحق، والحق معه؟
[كلام علي(ع) في العذر عن المنازعة في الإمامة]
وقد اتفق البخاري ومسلم في كتابيهما أنه لم يبايع هو ولا أحد من بني هاشم ستة أشهر؛ ثم كانت المصالحة ـ التي أخرجها البخاري هكذا بلفظها ـ بين علي، وأبي بكر، وسببها عند آل محمد (ع)، ومن اتبعهم، إشفاقه من انتشار حبل الإسلام، واختلال أمر الملة، وذهاب الدين الحنيف لغلبة الردة؛ كما قال (ع): إنه لما قبض رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قلنا: /527

(2/527)


نحن أهله وعصبته وذريته، وأحق خلق الله به، لا ننازع سلطانه ولا حقه؛ وإنا لكذلك إذ انبرى لنا قوم نزعوا سلطان نبينا منا، وولوه غيرنا؛ وأيم الله، لولا مخافة فرقة المسلمين، وأن يعود الكفر الثاني، ويبور الدين، لغيَّرنا ما استطعنا...إلى آخر الكلام المروي في الشافي.
ورواه المدائني عن عبدالله بن جنادة في خطبة علي (ع) بلفظه: وأيم الله، لولا مخافة الفرقة بين المسلمين، وأن يعود الكفر ويبور الدين، لكنا على غير ما كنا لهم عليه...إلى آخر الخطبة المروية في شرح النهج.
وفيها: لما قبض رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، قلنا: نحن أهله وورثته وعترته، وأولياؤه دون الناس...إلخ.
وهذا الكلام قاله (ع) قبل توجهه إلى البصرة للحاق طلحة والزبير بيوم؛ أفاده في الشافي.
قال ابن عبد البر في الاستيعاب: ذكر عمر بن شبة، عن المدائني، عن أبي مخنف، عن جابر، عن الشعبي، قال: لما خرج طلحة، والزبير.
..إلى قوله: فقال ـ أي علي (ع) ـ: العجب لطلحة والزبير؛ إن الله ـ عز وجل ـ لما قبض رسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، قلنا: نحن أهله وأولياؤه، لا ينازعنا سلطانه أحد، فأبى علينا قومنا فولوا غيرنا؛ وأيم الله، لولا مخافة الفرقة، وأن يعود الكفر، ويبور الدين، لغيّرنا؛ فصبرنا على مضض...إلخ، انتهى.
وقال: لما قبض نبيه استأثرت علينا قريش بالأمر، ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة؛ فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين، وسفك دمائهم؛ والناس حديثوا عهد بالإسلام.
رواه الكلبي. /528

(2/528)


ولم يزل مع ذلك يقيم الحجة، ويوضح المحجة للأمة على كل حال، وبكل مقال، كما قال الإمام (ع) في الشافي، وعلى أنه (ع) لم يغفل الكلام، والاحتجاج والتعريف أنه أولى بالإمامة في مقام بعد مقام.
...إلى قوله: فما قام (ع) مقاماً إلا وذكر أنه أولى بالأمر بعد رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - فأي بيان أوضح من ذلك لمن كان له رأي رشيد، ونظر سديد؟!
قال (ع): وتلك حال يجب فيها لم الشمل ما أمكن؛ لعظم المصيبة لموت النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وظهور الردة، ونجوم المنافقين، وخشية اشتقاق العصى بين المسلمين، فلهذا عمل علي (ع) بما يسعه العلم والدين، واستبقاء حال الإسلام والمسلمين، ففعل علي(ع) في كل وقت من أوقات الخلفاء، ومن بعدهم، ما يقتضيه علمه الثاقب، ورأيه الصائب، واستعمل القول اللين في وقت، ويعرض بالقول الخشن في وقت، وأطلق القول الأخشن في وقت، واستعمل السوط بل السيف في وقت.
[التخيير لعلي(ع) بين القيام والقعود أيام المشائخ، وتحتم القيام أيام الناكثين والقاسطين والمارقين]
...إلى قوله: وعلى هذا وقع التخيير لعلي (ع) في القيام في أوقات المشائخ وبعدهم كما في الخبر: ((فإن قُمْتَ فالجنة، وإن قعدتَ فالجنة))، لما كان القيام غير متعين عليه لما سقط من شرائط الوجوب؛ وبعد ذلك عند التمكن وإزاحة العلة، قال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((فإن قمتَ فالجنة، وإن قعدتَ فالنار)).
وأخرج الإمام (ع) عن الشيخ الإمام العالم، صاحب المحيط،/529

(2/529)


بسنده إلى أبي رافع في خبر الشورى، قول أمير المؤمنين (ع): أما والله إنكم لتعرفون من أولى الناس بهذا الأمر قديماً وحديثاً، وما منكم أحد إلا وقد سمع من رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ووعى ما وعيته.
وأقواله (ع) في هذا المعنى أكثر من أن تحصر، والأمر كما قال في الفرائد: كل من يتصف بأدنى ذرة من إنصاف أو دين يعلم أن أقلّ قليل مما وقع منهم في جانبه يكفي في وضوح عذره؛ على أنه (ع) قد أبان عذره في كل مقام، وتكلم بما يليق بالدين والعلم، ثم نجم النفاق، وأحاطت الردة، واشتعلت نارها، فلم يسعه إلا صيانة الإسلام.
صان الوصيُّ بها الإسلام إذْ بقيت .... أعلام شرع يراعيها مراعيهِ
لم يكن أمر الصحابة بأعجب ولا أعظم من أمر أصحاب موسى (ع)، وقد خلف عليهم هارون(ع)، ووعدهم بالرجوع، فوقعت فتنة العجل، وعصوا وخالفوا أخاه، واستضعفوه وكادوا يقتلونه، والحال أنه بقي معه من بني إسرائيل ألوف مؤلفة؛ فكيف يشبهه علي (ع) فلم يبق معه إلا بنو هاشم ونفر من المؤمنين.
...إلى قوله: مع إياسه من عودة رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - فكيف لا يصبر، وقد قال له أخوه - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((تبكيه ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك إلا بعد موتي)).
وقال له: ((إن قمتَ فالجنة، وإن قعدتَ فالجنة)).
وقال أمير المؤمنين (ع): والله لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين...إلخ.
[احتجاج علي لمَّا أُريد إكراهه على بيعة أبي بكر، وامتناعه عنها]
قلت: وفي أخبار السقيفة: واجتمعت بنو هاشم إلى بيت علي بن أبي طالب، ومعهم الزبير، وكان يعدّ نفسه رجلاً من بني هاشم، كان علي يقول: ما زال الزبير منا أهل البيت حتى نشأ بنوه، فصرفوه عنا.
..إلى قوله: وذهب عمر، ومعه عصابة إلى بيت فاطمة، منهم: /530

(2/530)


أسيد بن حضير، وسلمة بن أسلم، فقال لهم: انطلقوا فبايعوا.
فأبوا عليه، وخرج عليهم الزبير بسيفه.
...إلى قوله: ثم انطلقوا به وبعلي، ومعهما بنو هاشم، وعلي يقول: أنا عبد الله، وأخو رسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
..إلى قول أمير المؤمنين (ع): لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي؛ أخذتم هذا الأمر من الأنصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ فأعطوكم المقادة، وسلموا إليكم الإمارة؛ وأنا أحتج عليكم بمثلما احتججتم به على الأنصار، فأنصفونا إن كنتم تخافون الله من أنفسكم، واعرفوا لنا من الأمر مثلما عرفت الأنصار لكم، وإلا فبوؤا بالظلم وأنتم تعلمون.
قلت: وهذه حجة عليهم لازمة لا يجدون عنها محيصاً، ولا يستطيعون لها رداً؛ لأنه إذا بطل متمسك الخصم، الذي ليس له شبهة سواه، بطلت دعواه؛ ولهذا كرر الاحتجاج بها عليهم الوصي والحسنان، وسائر أهل بيت النبوة ـ صلوات الله عليهم ـ، وهو مسلك من البيان، نطق به القرآن، في غير مكان؛ مع أنه ـ رضوان الله عليه ـ قد احتج عليهم بنصوص الكتاب والسنة في مقامات عديدة.
ومما اتفق عليه منها: يوم الشورى، ومنها: يوم استنشد الناس حديث غدير خم، وغيرهما، وهم يعلمونها، ويقرون بها، وما طال العهد، ولا بعد الأثر؛ وتارة عدل هو وأهل بيته إلى الاحتجاج عليهم بنفس حجتهم وعين دليلهم، وهو من القلب الذي يقال له: القول بالموجب.
وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (ع) مخاطباً لأبي بكر:
فإن كنتَ بالقربى حججتَ خصيمَهم .... فغيرك أولى بالنبي وأقربُ
وإن كنتَ بالشورى ملكتَ أمورهم .... فكيف تليها والمشيرون غيّب؟
وهذا واضح معلوم، لا يمتري فيه إلا جاهل محروم، أو متجاهل ملوم، /531

(2/531)


وعند الله تجتمع الخصوم.
عدنا إلى تمام الكلام.
قال: فقال عمر: إنك لست متروكاً حتى تبايع.
فقال له علي: احلب حلباً لك شطره، أشدد له اليوم أمره، ليرده عليك غداً؛ لا والله؛ لا أقبل قولك ولا أبايعه.
إلى قول علي (ع): يا معشر المهاجرين، الله الله، لا تخرجوا سلطان محمد عن داره وبيته إلى بيوتكم ودوركم، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه؛ فوالله ـ يا معشر المهاجرين ـ لنحن أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم، ما كان منا القاريء لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بالسنة، المضطلع بأمر الرعية؛ والله، إنه لفينا، فلا تتبعوا الهوى فتزدادوا من الحق بعداً.
فقال بشير بن سعد: لو كان هذا الكلام سمعته منك الأنصار يا علي قبل بيعتهم لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان، ولكنهم قد بايعوا.
فانصرف إلى منزله، ولم يبايع...إلى آخره.
أخرجه أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري بسنده، في كتاب السقيفة.
قال شارح النهج: فأما امتناع علي من البيعة حتى أخرج على الوجه الذي أخرج عليه، فقد ذكره المحدثون، ورواه أهل السير.
وقد ذكرنا /532

(2/532)


ما ذكره الجوهري في هذا الباب، وهو من رجال الحديث، ومن الثقات المأمونين؛ وقد ذكر غيره من هذا النحو ما لايحصى كثرة.
وقال فيه أيضاً: وهو عالم كثير الأدب، ورع، ثقة، مأمون عند المحدثين، أثنى عليه المحدثون.
وروى نحو ما سبق في الكامل المنير، وفيه: فقال علي (ع): أنصفوا من أنفسكم...إلى قوله: وأنتم تعلمون.
وفيه: الله الله يا معشر المهاجرين...إلى قوله: فتزدادوا من الله بعداً.
قال ـ أيده الله ـ: ورواه ابن جرير الطبري في تاريخه، انتهى.
فهذا طرف يسير مما روته العامة، دع عنك ما عند آل محمد (ع)، ومن أنصف عرف أن الأمر كما قال:
خفيت أحقاد بدر .... وبدت يوم السقيفهْ
فلهذا صيّر النا .... سُ أبا بكر خليفهْ
وقد ملأت أقوال الوصي ـ رضوان الله عليه ـ في هذا الشأن الصحائف، وأجمع على نقلها الموالف والمخالف، كما قال عالم المعتزلة شارح النهج:
واعلم أنها قد تواترت الأخبار عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بنحو هذا القول، نحو قوله: (ما زلت مظلوماً منذ قَبَضَ الله رسوله حتى يوم الناس هذا، وقوله: اللهم اجز قريشاً؛ فإنها منعتني حقي، وغصبتني أمري.
وقوله: فجزت قريشاً عني الجوازي؛ فإنهم ظلموني حقي، وغصبوني سلطان ابن أمي.
وقوله وقد سمع صارخاً ينادي أنا مظلوم، فقال: هلم فلنصرخ معاً فإني ما زلت مظلوماً.
وقوله: إنه يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحا.
وقوله: أرى تراثي نهباً.
وقوله: أصغيا بإنائنا، وحملا الناس على رقابنا.
وقوله: إن لنا حقاً إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل وإن طال السرى.
وقوله: ما زلت مستأثراً عليَّ مدفوعاً عما أستحقه وأستوجبه.
قلت: ونحو قوله (ع): حتى إذا قبض رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ رجع قوم على الأعقاب، وغالتهم السبل، واتكلوا على الولايج، /533

(2/533)


ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي أمروا بمودته، ونقلوا البناء عن رص أساسه، فبنوه في غير موضعه...إلخ.
وقوله: اللهم إني أستعديك على قريش، ومن أعانهم؛ فإنهم قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي...إلخ.
قال الشارح: وقد رواه الناس كافة.
وقوله: فأغضيت على القذى...إلخ.
وقد روى كثير من المحدثين أنه عقيب يوم السقيفة تألم وتظلم، واستنجد واستصرخ، حيث ساموه الحضور للبيعة؛ وأنه قال وهو يشير إلى القبر: يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني؛ وأنه قال: وا جعفراه، ولا جعفر لي اليوم، وا حمزتاه ولا حمزة لي اليوم...إلخ.
وقال رجل ثقفي لعلي (ع) يوم الجمل: ما أعظم هذه الفتنة!!.
فقال علي (ع): وأي فتنة وأنا قائدها وأميرها؟ وإنما بدء الفتنة من يوم السقيفة، ثم يوم الشورى، ثم يوم الدار.
رواه أبو الحسين أحمد بن موسى الطبري.
[المتخلفون عن بيعة أبي بكر]
قال الإمام المنصور بالله (ع) في الشافي: لا خلاف بين الأمة أن أمير المؤمنين امتنع من البيعة، وذكر أنه أولى بهذا الأمر، وأن العباس بن عبد المطلب قال لأمير المؤمنين بعد وقوع العقد لأبي بكر: امدد يدك أبايعك، فيقول الناس: عمّ رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بايع ابن أخيه؛ فلا يختلف عليك اثنان.
وليس هذا قول الراضي بالعقد الذي وقع.
ولا خلاف أن الزبير بن العوام قد امتنع من البيعة، وخرج شاهراً سيفه فكسروه.
ولا خلاف أيضاً أن خالد بن سعيد لما ورد من اليمن أظهر الخلاف، وحث بني هاشم، وبني أمية، على الخلاف، وقال: أرضيتم أن يلي عليكم تيمي؟
وقال أبو سفيان لأمير المؤمنين (ع): إن شئت ملأتها عليهم خيلاً ورجلاً.
وأمير المؤمنين (ع) قعد عنه، /534

(2/534)


وقعد بنو هاشم أجمع، وامتنعوا من الحضور عنده، وأظهر سلمان النكير، وقال: كرديد، وبكرديد.
..إلى قوله (ع): وقد روى الثقات في هذه القضية.
قال: وهو أنه ممن تخلف عن بيعة أبي بكر: علي (ع)، والعباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، والزبير بن العوام، وخالد بن سعيد، والمقداد بن الأسود، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، والبراء بن عازب، وأبي بن كعب.
قلت: وكان أعيان المهاجرين والأنصار، وأرباب السبق منهم والفضيلة، والبشارات من الله على لسان رسوله، غير راضين بما جرى من خلاف رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يوم الخميس، والرجوع عن الجيش الذي بعثه، وما تعقبه يوم السقيفة، ولا عادلين بأمير المؤمنين، وسيد المسلمين، ولا خارجين عن ولايته؛ قضت بذلك الأخبار الصحيحة، المتفق عليها المعلومة.
وقد ندم كثير على ما كان منهم يوم السقيفة من الفلتة؛ لا سيما الأنصار، كما وردت به الآثار.
وفي شرح النهج: وروى الزبير بن بكار ـ قلت: وهو من الزبيريين، وهم أهل انحراف ـ بسنده، قال: لما بويع أبو بكر واستقر الأمر، ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته، ولامَ بعضهم بعضاً، وذكروا علي بن أبي طالب، وهتفوا باسمه، وأنه في داره لم يخرج إليهم، وجزع لذلك المهاجرون، وكثر في ذلك الكلام. /535

(2/535)


[انتصار للأنصار من علي والفضل بن العباس]
ثم ذكر فروة بن عمرو، وكان ممن تخلف عن بيعة أبي بكر، وكان ممن جاهد مع رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وقاد فرسين في سبيل الله، وكان يتصدق من غلة نخله بألف وسق في كل عام، وكان سيداً؛ وهو من أصحاب علي، وممن شهد معه يوم الجمل.
ثم قال: إن رجالاً من سفهاء قريش، ومثيري الفتن، اجتمعوا إلى عمرو بن العاص.
ثم حكى كلاماً له في الأنصار.
قال: ثم التفت فرأى الفضل بن العباس.
..إلى قوله: فقال الفضل: يا عمرو، إنه ليس لنا أن نكتم ما سمعنا منك، وليس لنا أن نجيبك وأبو الحسن شاهد بالمدينة، إلا أن يأمرنا فنفعل.
ثم رجع الفضل إلى علي فحدثه، فغضب وشتم عمراً، وقال: آذى الله ورسوله.
ثم قام فأتى المسجد، فاجتمع إليه كثير من قريش وتكلم مغضباً.
..إلى قول علي (ع): من أحب الله ورسوله أحب الأنصار.
وقال للفضل: انصر الأنصار بلسانك ويدك؛ فإنهم منك وإنك منهم.
فقال الفضل:
قلتَ يا عمرو مقالاً فاحشاً .... إن تعد يا عمرو والله فلكْ
إنما الأنصار سيف قاطع .... من تصبه ظِبَة السيف هلكْ
وسيوف قاطع مضربها .... وسهام الله في يوم الحلكْ
نصروا الدين وآووا أهله .... منزل رحب ورزق مشتركْ
وإذا الحرب تلظّت نارها .... بركوا فيها إذا الموت بركْ
ثم حكى أبيات حسان بن ثابت، وقد بعثت إليه الأنصار، وقال له خزيمة بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ: اذكر علياً وآله يكفك كل شيء، فقال: /536

(2/536)


جزى الله عنا والجزاء بكفّه .... أبا حسن عنا ومن كأبي حسنْ
سبقتَ قريشاً بالذي أنت أهله .... فصدرك مشروح وقلبك ممتحنْ
ومنها:
حفظت رسول الله فينا وعهده .... إليك ومن أولى به منك من ومن؟
ألست أخاه في الهدى وابن عمه .... وأعلم منهم بالكتاب وبالسننْ؟
فحقك ما دامت بنجد وشيجة .... عظيم علينا ثم بعد على اليمنْ
ثم حكى ما دار بينهم في ذلك، ومنه قول بعض بني المطلب:
ما كنتُ أحسب أن الأمر منتقلٌ .... عن هاشم ثم عنها عن أبي حسن
الأبيات المشهورة.
ومنه قول لسان الأنصار وشاعرهم النعمان بن عجلان ـ قال: وكان سيداً فخماً ـ من قصيدة له:
وكان هوانا في علي وإنه .... لأهل لها ياعمرو من حيث لا تدري
وصي النبي المصطفى وابن عمه .... وقاتل فرسان الضلالة والكفرِ
...إلى آخرها.
وروى الجوهري عن علي بن سليمان النوفلي، قال: سمعت أبياً يقول: ذكر سعد بن عبادة يوماً علياً بعد يوم السقيفة، فذكر أمراً من أمره يوجب ولايته، فقال له ابنه قيس بن سعد: أنتَ سمعت رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يقول هذا الكلام في علي بن أبي طالب، ثم تَطْلُب الخلافة، ويقول أصحابك: منا أمير ومنكم أمير؛ لا كلمتك والله من رأسي بعد هذا كلمة أبداً. /537

(2/537)


وقال:
أيها الناس، إني وليت أمركم ولست بخيركم؛ فإذا أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني؛ إن لي شيطاناً يعتريني، فإياكم وإياي إذا غضبت، لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم؛ الصدق أمانة، والكذب خيانة...إلخ.
قلت: ليته ترك خيرهم يليهم، الذي لا يحتاج إلى تقويم، ولا يؤثر في أشعارهم وأبشارهم، بل يحملهم على المحجة البيضاء، والحق القويم، والصراط المستقيم، الذي كان إذا علا المنبر يقول: سلوني قبل أن تفقدوني...إلخ.
وهو الذي نصبه لهم رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يوم الغدير، وقرر ولايته، وهنّأه بذلك أبو بكر وعمر.
* ولو لم يكن نصٌّ لقدمه الفضل *
فكيف والنصوص فيه من الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر؛ إذاً والله لأراح واستراح؛ الله أعلم حيث يجعل رسالاته.
قال نجم آل الرسول، القاسم بن إبراهيم، عليهم الصلوات /538

(2/538)


والتسليم: واعلم أنه لا يجوز أن يقوم مقام رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ من إذا قضى بقضية أو أحدث حدثاً لم يأت عن الله، ولم يحكم به رسول الله، فراجعه فيه من هو أعلم به منه، رجع عن حكمه واعترف، كان قوله: عليَّ شيطان يعتريني.
..إلى قوله: وإنما يصلح للإمامة، ويخلف النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في أمته، من كان إذا صعد المنبر يقول: سلوني قبل أن تفقدوني، فعندي علم المنايا، والقضايا والوصايا، وفصل الخطاب؛ والله لأنا أعلم بطرق السماء من العالم منكم بطرق الأرض، وما من آية نزلت في ليل ولا نهار، ولا سهل ولا جبل، إلا وأنا أعلم فيمن نزلت؟ وفيم نزلت؟ ولقد أسرَّ إلي رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ألف باب من مكنون علمه، فتح كل باب منها ألف باب.
...إلى أن قال: والله يقول: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي } [يونس:35].
قلت: وقوله ـ رضوان الله عليه ـ: ((سلوني قبل أن تفقدوني))، من أخباره المعلومة بين الأمة؛ وقد أخرجه مسلم عن علي ـ سلام الله عليه ـ بلفظ: ((سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن كتاب الله، وما من آية إلا وأنا أعلم حيث نزلت بحضيض جبل أو سهل أرض، وسلوني عن الفتن، فما من فتنة إلا وقد علمت كبشها، ومن يقتل فيها)).
قال: ولم يكن أحد من الصحابة يقول: /539

(2/539)


((سلوني)) غيره.
وأخرجه أحمد عن سعيد بلفظ: لم يكن أحد من أصحاب رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يقول: ((سلوني قبل أن تفقدوني)) إلا علي بن أبي طالب.
وأخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب بلفظ: ما كان أحد من الناس يقول: ((سلوني)) غير علي بن أبي طالب.
وذكره شارح النهج، وساق فيه خبراً عجيباً.
هذا، وفي شرح النهج: عن الزبير بن بكار، عن محمد بن إسحاق، قال: وكان عامة المهاجرين وجل الأنصار لا يشكّون أن علياً هو صاحب الأمر بعد رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
قلت: وكذلك أبو بكر وعمر، ومن معهم يعلمون ذلك، وهم مقرون أن بيعتهم كانت فلتة، كما قال عمر على المنبر، وحكم على من عاد إلى مثلها بالقتل؛ كما رواه البخاري ومسلم.
[يوم الشقاق، ومخالفة الرسول (ص) يوم الخميس]
ولا يستنكر شيء بعد واقعة يوم الخميس.
يوم الخميس وما يوم الخميس به .... كلّ الرزية قال البحر هي هي هي
التي أخرجها الشيخان وغيرهما، وأجمع على وقوعها الخلق، من صدور النزاع، والتقدم بين يدي الله ورسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ حتى أدى إلى منع رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ عما أراد من تأكيد عهده، وكتابة الكتاب الذي لا يضلون من بعده؛ وكان ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قد أقام البرهان، وأعلن البيان، وإنما أراد التأكيد وزيادة التبليغ، ففهم عمر قصده، ولولا ذلك ما استطاع عمر ولا جميع الخلق رده.
وعلى كل حال، فلعمر الله، إن تلك واقعة في الإسلام تذوب لها القلوب، وتقشعر منها الجلود، من كل من بقي في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، ونعوذ بالله من الخذلان؛ فلهذا كان ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ إذا ذكرها يبكي حتى يبل دمعه الحصى، ويقول: إنها الرزية /540

(2/540)


كل الرزية؛ برواية البخاري ومسلم وغيرهما.
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا.
وتعقّب ذلك ما هو مشهور، وعلى صفحات الصحائف مسطور، وإلى الله ترجع الأمور.
قد كان بعدكَ أنباء وهينمة .... وما من الكرب لا أسطيع أبديهِ
والعجب كل العجب، ممن يبالغ أشدّ المبالغة في المنع عن التصريح بالحق، والقيام لله بالشهادة بالقسط، زعماً منهم لرعاية حق الصحابة، ولا يبالون مع ذلك بالإضاعة لحقوق الله ـ تعالى ـ، وحقوق رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وأهل بيته من الصحابة والقرابة، ولا بالإعراض عن نصوص الكتاب والسنة؛ ويعتمدون على روايات مفتريات، ويردون الصحيحات والمتواترات.
وقد علمَ الله تعالى أنّا أحرص الناس على احترام أصحاب نبينا وأبينا ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وأولاهم برعاية جانبهم، وتجليلهم وتكريمهم وتعظيمهم؛ ولكن من ثبت منهم على ما فارق عليه الرسول - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - ولزم هديه، وحفظ وصاته في أهل بيته، كما أنهم أولى الناس بالتمسك بأهل بيت نبيهم، والاعتصام بحبلهم واتباع سبيلهم، والالتزام بما سمعوه من نبيهم ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ إذْ هو ضروري في حقهم.
وعلى الجملة، المتبع الدليل، وليس على سواه تعويل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. /541

(2/541)


[الإسحاق بن يوسف والسعد ينطقان بالكلام النفيس]
قال العلامة شيخ العترة إسحاق بن يوسف ـ رضي الله عنه ـ: ولهذا الشأن تواصوا على ترك البحث عما تضمنت النصوص الواردة في علي (ع) حتى آل أمر الخصوم أن من بحث أو سأل عما دلت عليه تلك الأحاديث فهو رافضي، ونبزوه بتلك الأسماء القبيحة؛ كل ذلك لئلا يتبين أمر أبي بكر، ويتعاظم أمر علي (ع)، حتى حسموا المادة بترك أي وصمة على مثل معاوية ويزيد المريد، ونحوهم؛ لئلا يرتقى إلى الأعلى فالأعلى؛ ومن قال أي وصمة على مثل هؤلاء، الذين هم من أعداء الله ورسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أو أي شيء، فهو رافضي كذاب، وتناسوا أن الله ـ جل جلاله ـ قد أوجب في آيتين كريمتين ـ دعْ ما سواهما ـ وجوب القول بالحق والقسط في الشهادة، ولو على أنفسهم أو الوالدين أو الأقربين، ونهى عن اللي والإعراض، فتركوا ما علموا وعقلوا، وكيف بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ(159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(160)} [البقرة:159،160]، وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ }...الآية [آل عمران:187]، فما عذرهم من القول بالحق...إلخ. /542

(2/542)


قلت: وقد أشار إلى كلام العلامة السعد في شرح المقاصد، حيث قال: وما وقع من الصحابة من المشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ، والمذكور على ألسنة الثقات، يدل بظاهره على أن بعضهم قد حاد عن طريق الحق، وبلغ حد الظلم والفسق، وكان الباعث له الحقد والفساد، واللدد والعناد، وطلب الملك والرئاسة، والميل إلى اللذات والشهوات؛ إذْ ليس كل صحابي معصوماً، ولا كل من لقي النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بالخير موسوماً.
...إلى قوله: وأما ما جرى بعدهم من الظلم على أهل البيت (ع) فمن الظهور بحيث لا مجال للإخفاء، ومن الشناعة بحيث لا اشتباه على الآراء، يكاد يشهد له الجماد والعجماء، وتبكي له الأرض والسماء، وتنهدّ منه الجبال، وتنشق منه الصخور، ويبقى سوء عمله على كرّ الشهور، ومرّ الدهور؛ فلعنة الله على من باشر أو رضي أو سعى، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
فإن قلت: فمن علماء المذهب من لا يجوز اللعن على يزيد، مع علمهم بأنه يستحق ما يربو على ذلك ويزيد. قلت: تحاشياً من أن يرتقى إلى الأعلى فالأعلى.
..إلى قوله: وإلا فمن الذي يخفى عليه الجواب والاستحقاق؟ وكيف لا يقع عليه الاتفاق؟
قال الإمام محمد بن عبدالله (ع) في الفرائد: وفي كلام هذا العالم، وهكذا أمثاله، ممن صرح وعرض ولم يكتم، ومن تعصب أو تذبذب أو تلعثم، ما يستفرغ العجب؛ بينما هو يقرر وينطق، بملء فيه، أن من الصحابة من /543

(2/543)


حاد عن الطريق وبلغ حد الظلم والفسق...إلخ، بحيث لا يمكنه تلافيه؛ إذ هو قد نكص على عقبه، ورجع إلى القهقرى في منقلبه، وجاء بأعذار سلفه وأضرابه.
...إلى قوله: فقال: تحامياً أن يرتقى إلى الأعلى إلى آخره؛ الله المستعان على ما تصفون.
..إلى قوله: بعد أن علموا من آيات يتلونها، وأحاديث يملونها، من أن الله ـ سبحانه ـ، ورسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قد أخذ على العلماء خصوصاً، وعلى الكافة من المسلمين عموماً من القيام شهداء لله الآيتين.
..إلى أن قال: ومن الخصوم من روى أحاديث مفتراة، من أن الصحابة وإن زلّوا فهو مغفور لهم، ففرق بين الصحابة وبين من بعدهم، بترهات؛ قد قطع دابرهم القواطع عقلاً ونقلاً؛ ومنهم من زعم ألا يسأل عما شجر بينهم؛ وكم لهم من ترهات.
وكل ذلك لما رأوا أن النصوص قاضية على القطع بأن النص في علي (ع)، ورأوا أن أهل السقيفة لم يأتوا ببرهان إلا هذه الأعذار الباطلة، ودفعوا بها وجه النصوص؛ ثم قرر خلفهم عن سلفهم أنه لا يبحث عن مدلول تلك النصوص، التي رووها وصححوها وحسنّوها، بل كأنه لا مدلول لها؛ ومن طلب دلالتها نسبوه إلى الرفض، ووصفوه بأقبح الأوصاف.
قال: وكأنما صححوه وقرروه وعلموه عن أمر الله ورسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في خليفته ووصيه، وأهل بيته، شيء فريٌ، أو نسي منسي؛ توارثوا ذلك خلفاً عن سلف.
قال (ع): فالمعلوم من الدين ضرورة وجوب القول بالحق، والقيام بالقسط، ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين؛ الله المستعان.
وهل للنبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ حاجة في رعاية من خرج عن طريقته، وسلك سبيل الضلال في مخالفته، وعادى أهل بيته؟
ألم يناد القرآن على أصحاب موسى (ع) بما جرى منهم، ولم يسكت عن نقير ولا قطمير؟
والله سبحانه أعلم /544

(2/544)


منكم، وسنة الله في الآخرين كسنته في الأولين، بصرائح الآيات إن كنتم مؤمنين.
[ما ورد في أحداث الصحابة وغيرهم]
بل لم يراع الله أحداً من أصحاب النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ مما حدث منهم، كمثل: حاطب بن أبي بلتعة، نزلت فيه أول سورة الممتحنة، وعائشة وحفصة، نزل فيهما أول سورة التحريم، ونبه في آخرها بضرب المثال بامرأة نوح وامرأة لوط؛ ونزل في أصحاب الإفك إحدى عشرة آية، ونزل في جملة الصحابة في قصة يوم أحد ما نزل، وفي الثلاثة الذين خلفوا.
قلت: وفيهم من أهل بدر، وهو دليل قاطع معارض لحديث أهل بدر؛ فقد وقعت المؤاخذة لأهل بدر، ولم يغفر لهم حتى تابوا، مع أن في ذلك الخبر إغراءاً صريحاً لا يصدر من الحكيم ـ عز وجل ـ، فتدبر، والله ولي التوفيق.
قال: وعاتب الله الأنبياء (ع)، ونعى عليهم صغائر ذنوبهم ـ حتى سيد الرسل ـ في غير ما آية؛ فيا لها من مصيبة على من سكت عن القول بالحق!؛ هذه دسيسة تحتها حيات وعقارب من ضغائن وأهويات؛ وحبك للشيء يعمي ويصم.
ومثل: الذي أشار لبني قريضة فنزلت: {لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ } [الأنفال:27]، وما نزل في أبي بكر من المناهي. /545

(2/545)


وفيه وفي عمر نزل أول سورة الحجرات: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(1) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ(2)} وسبب النزول: أن أبا بكر وعمر استشارهما النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ فيمن يرأس على بني تميم، فتشاقا بينهما ورفعا أصواتهما وجهرا...إلخ، فنزلت.
وهذا من رواية البخاري وغيره.
فإذا كان الله ـ سبحانه ـ، ورسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ نعى عليهما ذلك، وتوعدهما بإحباط عملهما، فما ظنك بغيرهما؛ الله المستعان.
ثم ذكر ما تعقب من النكث والقسط والمروق، وغير ذلك.
ثم قد أقروا بتواتر حديث الحوض معنى، وسوّغ لفظاً؛ وفيه من رواية البخاري: ((فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم))، وكان جواب النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في ذلك الموقف العظيم: ((فأقول: سحقاً سحقاً لمن غير وبدل)).
وذكر ما جعلوه أصلاً في قبول ما لا يجوز قبوله، من مجاريح الصحابة والمجهولين منهم، وخصوم أهل البيت (ع)، بل أعداء الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ الذين هم أعداء الله، وصحّح أهل البيت نفاقهم، وعدم إسلامهم؛ كل ذلك لما زيّن لهم الشيطان أن الصحابي من رأى النبي ـ صلى الله /546

(2/546)


عليه وآله وسلم ـ وأنهم عدول بآية{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران:110]، وآية: {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } [البقرة:143]، وغير ذلك؛ وليس فيه دلالة قطعية ولا ظنية، على تعديل كل واحد من الصحابة؛ والاتفاق منا ومنهم على نفي عصمة كل فرد، وأن منهم من ارتد وقتل على ردته، ومنهم من فسق فسق تصريح، ومنهم مجروح العدالة بدون الفسق.
[كلام المقبلي على ابن حجر في تعديل مثل مروان]
وللمقبلي كلام مثل هذا في العلم الشامخ، عند قول ابن حجر، في ترجمة مروان: إذا ثبت صحبته، فلا يؤثر الطعن فيه:
وكأن الصحبة نبوة، وكأن الصحابي معصوم، وهو تقليد في التحقيق، بعد أن صارت عدالة الصحابي مسلمة عند الجمهور.
والحق أن المراد بذلك الغلبة فقط، وأن الثناء من الله، ومن رسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وهو الدليل على عدالتهم، لم يتناول الأفراد.
وساق، ثم قال: أين موضع أحاديث ((لا تدري ما أحدثوا بعدك))، وهي متواترة معنى، ولو ادعي في بعضها تواتر اللفظ لساغ؟
ثم قال: ألم يقل الله سبحانه: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } [الحجرات:6]، في رجل متيقن صحبته، ولم تزل حاله مكشوفة مع الصحبة؟ ومنهم من شرب الخمر، وما لا يحصى فيما سكت عنه؛ رعاية لحق النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ما لم يلجئ ملجيء ديني، فيجب ذكره؛ ومن أعظم الملجئات، ترتب شيء من الدين على رواية مثل /547

(2/547)


مروان والوليد، فإنها أعظم خيانة لدين الله، ومخالفة لصريح الآية الكريمة؛ والنقم بذلك لا يعود على جملة الصحابة بالنقص، بل هو تزكية لهم؛ فإياك والاغترار!.
[الأدلة القاطعة على أن الباغين ونحوهم غير مؤمنين]
قال الإمام محمد بن عبدالله (ع) في الفرائد: وقد علم أن منهم الناكثين والقاسطين وأمثالهم؛ ولو لم يكن إلا آية البغاة: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }...إلخ [الحجرات:9]، فسماهم مؤمنين باعتبار الأصل، قال: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } فسمّاها ووصفها بالبغي حتى ترجع؛ وسماهم النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بالناكثين والقاسطين والمارقين.
وسمّاهم بالفئة الباغية في حديث عمّار ـ رضي الله عنه ـ: ((يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار)).
ألا ترى إلى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ...الآية} [المائدة:54]، كيف سماهم أولاً مؤمنين؟ فهل بعد الردة يسمون مؤمنين؟ وكم في القرآن من التسمية بالمؤمنين؛ ثم تعقب ذلك بوصف آخر.
وحديث عمار ـ رضي الله عنه ـ قطعي عند الموالف والمخالف؛ فما بقي بعد هذا التصريح؟
فهل النكث والقسط والمروق من الكبائر أم لا؟ /548

(2/548)


وهل قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((أنا حرب لمن حاربكم سلم لمن سالمكم)) ـ وقد قرر المقبلي بأنه من المتواتر معنى بشواهده ـ فهل من حارب الله ورسوله هو من أهل الكبائر؟
قلت: وكفاه قول الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ المقطوع به: ((اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله))، فقد صار عدوّ الله تعالى مخذولاً بدعوة رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
قال: والقتلى في يوم الجمل نحو ثلاثين ألفاً، وفي صفين سبعين ألفاً، وقيل: إن القتلى انتهت إلى مائة وعشرين ألفاً، وفي النهروان ثمانية آلاف، وقيل: أقل، وقيل: أكثر؛ فهذه الأمم قتلوا وهم مؤمنون، وقد قلتم: إنه لا توبة لقتل مؤمن واحد، فهل تاب علي (ع)؟ أم القتلى من الفرق الثلاث غير مؤمنين بل فساق أو كفار؟
وقد روى أئمتنا (ع) وغيرهم، حديث: ((لعنتك يا علي من لعنتي، ولعنتي من لعنة الله، ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً)).
وروى أيضاً أحاديث مرفوعة فيها لعن معاوية خاصة به وبأبيه وأخيه، وحديث: ((إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه)) حديث مشهور، وقد رواه الذهبي من طرق وقوّاه، وهو من أشد الخصوم؛ فلم يقبله إلا لكونه متواتراً، أو نحو المتواتر.
وقال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: هم رأوه فلم يقتلوه فما أفلحوا ولا أنجحوا.
وحديث: ((لعن الله السائق والقائد والراكب))، رواه الهيثم، وذكره في العواصم.
وحديث: ((إذا اجتمع معاوية وعمرو، ففرّقوا بينهما، فإنهما لا يجتمعان إلا على غديرة)).
وحديث: ((اللهم اركسهما ـ أي معاوية وعمراً ـ في الفتنة ركساً، ودعّهما في النار دعاً))، رواه أحمد بن حنبل وغيره، وذكره ابن الأثير في النهاية.
وكم من نحو ذلك مما غلب الخصوم ظهوره.
ورووا أيضاً بأن علياً (ع) لعن معاوية في عشرة من فراعنته، وصحّ ذلك /549

(2/549)


عندهم قطعاً، وأقرّ به الخصوم كلهم أو الغالب منهم.
قلت: ويعلم بهذا وغيره من البراهين القاطعة بطلان ما افتراه الوضاعون عليه ـ رضوان الله عليه ـ أنه قال: قتلاي وقتلى معاوية في الجنة؛ وأنه صلى عليهم.
قال (ع): أما حديث صلاة أمير المؤمنين (ع) على قتلى معاوية، فالمروي من طريق أولاده وشيعتهم ـ رحمهم الله ـ أنه كان يقول عند رؤيته القتيل: (اللهم إنه كان عدوّك، قاتل ليدحض دينك، ويخالف ما جاء به رسولك، فأصله النار)، فهذه صلاته (ع) على قتلى معاوية.
والحديث الثاني أنه (ع) قال: (قتلاي وقتلى معاوية في الجنة)، فهو مخالف لما صحّ بالضرورة والقطع؛ لما رواه الموالف والمخالف؛ فمن ذلك حديث عمار ـ رضي الله عنه ـ وهو قطعي بل ضروري، وفيه: ((يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار)) وفيه: ((قاتل عمار في النار وسالبه))
قال النواصب: قد أخطا معاوية .... في الاجتهاد وأخطا فيه صاحبهُ
قلنا: كذبتم فلم قال النبي لنا .... في النار قاتل عمار وسالبهُ؟
ومنها: ما تواتر قطعاً عن أمير المؤمنين (ع)، ومنها: حديث الثلاث الفرق: ناكث وقاسط ومارق، وفيه الأمر من النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لعلي(ع) بقتالهم وقتلهم؛ أفيأمر معلم الشريعة بقتلهم وقتالهم، ثم يكون الباغي من أهل الجنة؟!! هذا هو الضلال المبين، والخسران في دين رب العالمين.
ومنها: /550

(2/550)


حديث الغدير الذي إذا لم يكن معلوماً فما في الدنيا معلوم، هكذا قرره المقبلي من الخصوم؛ ولا يحتاج إلى ذكر شيء.
ومنها: حديث: ((أنا حرب لمن حاربكم، سلم لمن سالمكم)) بألفاظه وسياقاته، وعمومه للأربعة أهل البيت (ع)، وخصوصه لعلي (ع)، وهو متواتر بشواهده، قرره المقبلي وغيره.
ومنها: حديث السفينة، فهل نجا من قوم نوح (ع) غير من ركب السفينة وقد قال: {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا }؟ [نوح:25]، وفيه: ((من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى ـ أو زجّ به في النار ـ)).
وكم لو نريد الاستقصاء؛ وإنما في هذا بلاغ وأي بلاغ؛ فقد دلّ الدليل القاطع من وجوه كثيرة أنه(ع) يدور معه الحق حيثما دار، وأنه مع الحق والقرآن، والقرآن والحق معه، وأنه رأس الثقل الأصغر، وخبرا السفينة، وباب حطة، وآية التطهير، والمباهلة، والمودة، والاجتباء، والاصطفاء، والمخصوص بالمحبة الخاصة في حديث الطير، وخيبر، وغير ذلك مما لا يحصى كثرة في أهل البيت عموماً، وفيه خصوصاً، مثل: حديث الغدير، والمنزلة، وغيرهما، أن قوله وفعله وحكمه هو الحق الذي لا محيص عنه، وغير ذلك مما لا ينحصر؛ فلا نعلم بلفظ يفيد الاستخلاف على الأمة والولاية والإمامة إلا وقد ورد لعلي (ع).
إذا عرفت هذا، فالمعلوم أن الصحابة سمعوا من رسول الله ذلك، وعقلوه؛ لكونهم من صميم العرب، وبلغتهم خوطبوا؛ ولو فرضنا، على بعده، لو أن شبهة اعترت أحدهم لسأل النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ عنها، فيبينها، فمن سمع فهو ضروري في حقه، ومن لم يسمع في بعض الأحاديث فقد نُقل إليه؛ فهذا أصل من أصول الشريعة.
قلت: ولم يزل النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يبلغهم ما أنزل الله عليه في شأن أخيه، وتلاه الوصي ـ صلوات الله عليه ـ /551

(2/551)


المبين للأمة ما يختلفون فيه.
[حديث الشورى ومخرجوه وما اشتمل عليه]
وقد أورد عليهم يوم الشورى ـ دعْ عنك ما سواه ـ نحو سبعين حجة.
وقد أخرجه الإمام المؤيد بالله (ع) في أماليه، وصاحب الكامل المنير، والإمام المنصور بالله (ع) في الشافي بطرقه، والإمام الحسن (ع) في الأنوار، وصاحب المحيط، وحميد الشهيد، وابن المغازلي، والكنجي، والخوازمي، بزيادة ونقص، وصحح شارح النهج كثيراً منه؛ وأخرجه غيرهم من أئمتنا (ع)، وشيعتهم، والعامة.
وقد اشتمل على الكثير الطيب مما نزلت به في شأنه الآي القرآنية، والأخبار المتواترة النبوية.
وفي خاتمة إحدى الطرق التي أوردها الإمام الحجة عبدالله بن حمزة (ع) في الشافي بسنده إلى عامر بن واثلة: فأنشدكم بالله، هل فيكم أحد قال له رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((ما سألت الله شيئاً إلا سألت لك مثله)) غيري؟
قال أيّده الله في التخريج: قوله: ما سألت الله شيئاً...إلخ، المرشد بالله عن أبي الجحاف، عن علي (ع).
وأخرجه ابن المغازلي عن عبدالله بن الحارث، عن علي (ع)، والنسائي في خصائصه، وذكر ما ذكره الإمام محمد بن عبدالله (ع)، وهو ما لفظه: وقد أخرج السيوطي في الجامع الكبير عن علي (ع) قال: وجعت وجعاً فأتيت النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، فأقامني في مقامه، وقام يصلي، وألقى علي طرف ثوبه، فقال: ((برئتَ يا ابن أبي طالب، فلا بأس عليك، ما سألت الله لي شيئاً إلا سألت لك مثله، ولا سألت الله شيئاً إلا أعطانيه غير قيل لي: إنه لا نبي بعدك...إلخ))، أخرجه ابن أبي عاصم، وابن جرير، وصححه؛ والطبراني في الأوسط، وابن شاهين في السنّة، وسكت السيوطي، ولم يقدح فيه حسب عادته إذا ثمّة مقال.
وساق ـ أيّده الله تعالى ـ إلى قوله: قال علي (ع): كنت في أيام رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ كجزء من رسول /552

(2/552)


الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ينظر إلي الناس، كما ينظرون إلى الكوكب في أفق السماء؛ ثم غض مني الدهر فقرن بي فلاناً وفلاناً، ثم قُرنت بخمسة أمثلهم عثمان، فقلت: وا ذفراه...إلخ.
قلت: لقد أبلغ ـ سلام الله عليه ـ في التذكرة، وليس فوق ذلك أسوة ولا بعده عبرة.
قال الإمام محمد (ع) في الفرائد: وقد جمع حديث المناشدة نحواً من سبعين منقبة، وروي من طرق عدة قدح الحشوية في بعضها؛ ولكن أخرج الله الحق على ألسنتهم وهم كارهون بذكر المتابعات.
..إلى قوله: وهو حديث صحيح.
قال: وأما حديث خيبر، والطير، ودوران الحق والقرآن، بألفاظه عند الموالف والمخالف، فهي مشهورة عند الجميع، وغير ذلك مما لا يمكن حصره، كما اعترف به حفّاظ الحديث، من أنه لم يأت لأحد من الصحابة بالأسانيد الجياد ما أتى لعلي (ع)، منهم: ابن حنبل، والنسائي، وإسماعيل القاضي، وابن حجر العسقلاني، وغيرهم.
وفي الفرائد: هذا أحمد بن حنبل يقول، وقد سُئل عن الخلفاء الأربعة؟ فقال: أما علي، فقد زان الخلافة ولم تزنه، وأما غيره فقد زينته ولم يزنها.
وحكى ابن حجر في المنح ما نصه: وما أحسن قول حكم لعلي لما دخل الكوفة: والله، يا أمير المؤمنين لقد زينت الخلافة وما زينتك، ورفعتها وما رفعتك، وهي أحوج إليك منك إليها!.
وقال ابن الجوزي في تاريخه: أكثروا عند أحمد في خلافة أبي بكر وعلي، فرفع أحمد رأسه وقال: قد أكثرتم؛ إن علياً لم تزنه الخلافة ولكنه زانها.
قال ابن أبي الحديد: وهذا دال على أن غيره ازدان بالخلافة وتممت نقصه، وأن علياً لم يكن فيه نقص يحتاج إلى أن يُتمم بالخلافة...إلخ.
وملاك الأمر /553

(2/553)


أن الله يصطفي ما يشاء ويختار؛ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم.
[امتلاء الخافقين بفضائل علي (ع)]
ولقد قال بعض العلماء: إن علياً (ع) ملأت فضائله ومناقبه ما بين الخافقين، مع أن محبيه كتموا ما كتموا خيفة من أعداء الله ومبغضيه، حقاً أو لزوماً، كتموا ما كتموا غيظاً وحسداً، فظهر من بين الكتمين ما ملأ الخافقين؛ أبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
بخلاف غيره، فقد روى المدائني وغيره، ما صنع معاوية ومن بعده، في هدم فضائل علي (ع) وأهل بيته، وتشييد ما يعارض ما ورد فيهم، وافتعال أحاديث معارضة كل حديث روي لأهل البيت، وكان ذلك ولا قوة إلا بالله.
قلت: وقد تقدم ما ذكره المدائني، وابن نفطويه، وما يشهد له من كلام الباقر(ع)، ويصدّقه الواقع كما يعلمه الناظر.
قال (ع): فنقول: إنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قد صرح وعرض، وبالغ وحذّر، وبشّر وأنذر؛ فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها؛ وما على الرسول إلا البلاغ المبين؛ فلم يترك ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ فيما نحن بصدده عبارة تفيد اختصاص أخيه علي بمقامه من بعده من جميع لغة العرب بما يفيد القطع البت، واليقين المثبت.
ومنها ما هو معلوم على انفراده عن غيره قطعاً، منها: لفظ مولى وولي وأولى، والوزارة الخاصة، والخلافة، وأمير المؤمنين، والإمام والسيد واليعسوب، وتشبيهه بهارون، وعيسى، وبكثير من الأنبياء، والمحبة الخاصة من الله ورسوله، ولله ورسوله، وأنه باب المدينة، وأنه لن يدخلكم في ضلال، ولن يخرجكم من هدى؛ أفمن يهدي /554

(2/554)


إلى الحق أحق أن يتبع؛ وتوليته على بني هاشم، الذين هم رأس الناس، لما جمعهم في حديث: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء]، فقال: ((فاسمعوا له وأطيعوا))، وأنه لم يكن في سرية إلا كان رئيسها، ولم يولّ عليه أحداً.
على أنّا نقول: إن جميع الألفاظ المفيدة للاستخلاف والرئاسة العامة، قد وردت لعلي(ع)، وأقل الأحوال أنها تواردت على معنى واحد، وهو التواتر المعنوي؛ فكيف بحديث الغدير والمنزلة المتواترين لفظاً، لم تلبسون الحق بالباطل وقد عقلتم عن الله، وعن رسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ما قررتموه من صحة النص بالأولوية المطلقة، وبأنه لا أوضح منه دلالة ورواية؟ وإذا لم يكن معلوماً فما في الدنيا معلوم؛ واضطر من له أدنى مسكة من دين وإنصاف، ممن لم ير النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ولا سمع منه ذلك الموقف، فضلاً عمن رأى وسمع اللفظ، مع القرائن المفيدة للعلم اليقين، لفظية وحسية وعقلية، إلى فهم المراد وعرفان مقصوده؛ ولذلك هنأه كبار الصحابة، وقالوا فيه الأشعار من الولاية لكل مؤمن ومؤمنة.
قلت: وبراهين أهل بيت النبوة معلومة، مجمع على نقلها بين فرق الأمة؛ وما يتشبث به المخالف من الأقوال المضلة، والشبهات المضمحلة، متفرد بنقلها، ليس عليها أثارة من علم، ولا دلالة من كتاب ولا سنة؛ وما يستوي الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور.
ولقد اعترف في هذا المقام، فحول الأقوام، وأشدهم في مجال الخصام، مع شائبة محاماة وملاوذة عن الحق لاتخفى على ذوي الأفهام. /555

(2/555)


[كلام المقبلي في الولاية، وتخريجه لخبر الغدير]
قال الشيخ صالح المقبلي في الإتحاف حاشيته على الكشاف من سورة الأحزاب، قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [الأحزاب:6]،...الآية: إن الأولوية مطلقة، فتصدق حقيقة في كل أولوية، والظاهر التعميم للمقام، والدلائل لا تحصى؛ وكيف وهو بمنزلته من ربه، خالق العبد ومالكه؛ وفي الأحاديث ما هو في عموم الآية، ومنها ما هو نص في بعض ما دعى إلى بيانه.
أخرج البخاري، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن أبي هريرة، عن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، قال: ((ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة؛ اقرأوا إن شئتم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ }))...الآية.
حتى قال: وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والنسائي، عن بريدة، قال: غزوت مع علي اليمن فرأيت منه جفوة، فلما قدمت على رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ذكرت علياً فتنقصته؛ فرأيت وجه رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ تغيّر، فقال: ((يا بريدة، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟)).
قلت: بلى يا رسول الله.
قال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)).
وبهذا الحديث وما في معناه تحتج الشيعة على أن مولى بمعنى أولى؛ لأن النبي - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - دلّ مساق كلامه أنه سوَّاه بنفسه، وإلا لما كان لمقدمة قوله: ((ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم)) معنى؛ فلم يرد مثل ولاية سائر المؤمنين بعضهم لبعض؛ بل معنى الأولوية في كل أمر، كما في حقه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
ومن أشهر ما في الباب: حديث غدير خم؛ وقد عزاه السيوطي في الجامع الكبير إلى أحمد بن حنبل، والحاكم، وابن أبي شيبة، والطبراني، /556

(2/556)


وابن ماجه، وابن قانع، والترمذي، والنسائي، والمقدسي، وابن أبي عاصم، والشيرازي، وابن عقدة، وأبي نعيم، وابن حبان، والخطيب، كل منهم من رواية صحابي فصاعداً؛ ذلك من حديث ابن عباس، وبريدة بن الحصيب، والبراء بن عازب، وعمر بن الخطاب، وحبشي بن جنادة، وأبي الطفيل، وزيد بن أرقم، وجرير بن عبدالله البجلي، وجندب الأنصاري، وسعد بن أبي وقاص، وزيد بن ثابت، وحذيفة بن أسيد الغفاري، وأبي أيوب الأنصاري، ومالك بن الحويرث، وحبيب بن بديل بن ورقاء، وقيس بن ثابت بن شراحيل الأنصاري، وعلي بن أبي طالب، وابن عمر، وأبي هريرة، وطلحة، وأنس بن مالك، وعمرو بن مرة.
وفي بعض روايات أحمد: عن علي، وثلاثة عشر رجلاً.
وفي رواية له، وللطبراني وللضياء المقدسي: عن أبي أيوب وجمع من الصحابة.
وفي رواية لابن أبي شيبة: عن أبي هريرة، واثني عشر من الصحابة، وفيها: ((اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه...إلخ)).
وفي رواية لأحمد، والطبراني، والمقدسي، عن علي، وزيد بن أرقم، وثلاثين رجلاً من الصحابة، ولفظه كما مَرّ: ((من كنت مولاه فعلي مولاه))، بعد ذكر المقدمة المذكورة.
وفي كثير من الروايات: ((اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه)).
وفي بعضها: ((وانصر من نصره، واخذل من خذله)).
ثم قال: لا أوضح من هذا الدليل رواية ودلالة على أن علياً (ع) أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
..إلى قوله: وإذا ثبت أن علياً أولى بالمؤمنين من أنفسهم؛ فلم آثروا غيره بالإمارة، والأمير يصير أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ورضي بذلك سادات الصحابة، وخير القرون، ووافقهم علي ووازرهم؟
وساق؛ ثم رجع في الجواب إلى الدعاوى المجردة عن البرهان، المردودة بنصوص السنة والقرآن، ومتواتر النقل الذي أجمع عليه /557

(2/557)


الفريقان، منها: قوله: تحلى علي بالأولوية بالنص النبوي، وبقية الخلفاء بالرضى من علي، ونصحاء الإسلام كعمر وأبي عبيدة، والمهاجرين والأنصار، وأطلق لهم علي التصرف، وهو بمحل القطب من الرحا...إلخ كلامه؛ وقد تقدم ما فيه بلاغ لقوم عابدين.
قال الإمام (ع) : أقول: فلم لم يبين لنا من هؤلاء السادة، الذين رضوا؟
ألا يعلم ما وقع من النزاع والجدال يوم السقيفة، وما قالت قريش، وما قالت الأنصار؟
ثم ما يقول في بني هاشم، وسائر من تبعهم ذلك الوقت؟ أهم سادات الصحابة؟ أو من ساداتهم؟! لا سبيل إلى الإنكار.
فأين كانوا حال العقد؟!
أليس إنما حضر أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة، وبشير بن سعد، والنعمان؛ ومنهم: أسيد بن حضير؟!
هؤلاء الذين عقدوا لأبي بكر، ثم ضربوا الناس طوعاً وكرهاً للبيعة، وأهل البيت مشغولون عند نبيهم ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
وقد ألم بما ذكرناه ما رواه عمر عن نفسه، أخرجه البخاري وغيره، حيث قال: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه.
ألا يعلم الفقيه أن علياً وبني هاشم تخلفوا ستة أشهر حسبما أخرجه البخاري؟
ألم يعلم أن علياً (ع) اعتزلهم، ولم يغز معهم؟
وقد ألظّ عليه عمر وورم أنفه، فأين المؤازرة؟
ثم لم يخرج برايات رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - ولا سيوفه وأمثالها لهم؛ وإنما أخرجها يوم الجمل.
ولا يقال: إنه (ع) خرج في حرب أهل الردة، وقام وثار؛ فلا شك، لكنا نقول: إن مثل ذلك يجب مع إمام، ومع غيره، على كل فرد؛ على أنه (ع) أحق من حفظ دين أخيه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ؛ لأنه وصيه وخليفته، ولأجل حفظ الدين أغضى وجامل، وشرب على الشجى، وغمض على القذى.
وقد اشتهر وظهر عند /558

(2/558)


الموالف والمخالف تجرمه وتشكيه منهم، إلى أن قتل (ع)؛ ثم زوجته وأولاده إلى الآن.
قال: وفي أبحاثه المسددة: ((أنا حرب لمن حاربكم، سلم لمن سالمكم))، قاله لعلي(ع)، وفاطمة، والحسن، والحسين ـ صلوات الله عليهم ـ؛ أخرجه أحمد، والطبراني، والحاكم.
وفي معناه عدة أحاديث بعضها تعمهم، وبعضها تخص الحسن والحسين حين يخاطبهما؛ وفي بعضها يعم أهل البيت في الجملة، وفي بعضها يخص أمير المؤمنين(ع).
ثم قال: مجموعها يفيد التواتر المعنوي؛ وشواهده لا تحصى، مثل: أحاديث قتل الحسين، وأحاديث ما يلقاه فراخ آل محمد وذريته، بألفاظ وسياقات يحتمل مجموعها مجلداً ضخماً؛ فمن كان قلبه قابلاً، فهو من أوضح الواضحات في كل كتاب، ومن يَنْبُو عنها فلا معنى لمعاناته بالتطويل.
ثم ذكر حديث الغدير فقرر تواتره، كما قرر في الإتحاف؛ وساقه بمخرجيه ورجاله، كما هناك سواء.
ثم قال: نعم، فإن كان هذا معلوماً، وإلا فما في الدنيا معلوم؛ إذا حققت هذا فهاهنا أناس يقولون نوالي علياً، ومن حاربه؛ وقد علمت أن من حارب علياً فقد حارب أهل البيت، وحارب الحسن والحسين وفاطمة، ومن حاربهم فقد حارب رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، ومن حارب رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ فقد حارب الله، فهو حرب لله، وعدوّ لله؛ فمن سالم العدوّ، فقد حارب من عاداه؛ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّي وعدوكم أولياء؛ ومن يتولهم منكم فإنه منهم.
وبالجملة، فمعلوم بالآيات والأحاديث، ومعالم دين الإسلام، التنافي بين /559

(2/559)


موالاة العدو وموالاة عدوّه؛ وقد أحسن القائل:
إذا صافى صديقك من تعادي .... فقد عاداك وانصرم الكلامُ
انتهى المأخوذ من كلامه.
قال الإمام (ع) في الفرائد: انظر وتأمل ما حققه المقبلي، الحقيق بالإنصاف، وقول الحق؛ وما كان أحسنه لو استقام! ومعلوم أن الفساق من أهل الجحيم.
وأيضاً فقوله تعالى في قصة إبراهيم (ع): {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } [التوبة:114]، فنص على العلة، وهي العدواة؛ فكل عدوّ لله مندرج تحت العلة؛ وقد قرر كما سمعت في حديث: ((أنا حرب... إلخ)).
قال: وأيضاً، فإن وجوب الموالاة والمعاداة من أعظم واجبات الشرع الشريف؛ فالدعاء لأعداء الله ورسوله، ومن هو حرب لله ورسوله، اعتداء في الدعاء؛ ولا تغترّ بشبههم.
وقد أخرج جماعة حديث: ((لا يحبك إلا مؤمن، ولايبغضك إلا منافق))، ومنهم: مسلم، وأحمد، والحميدي، وابن أبي شيبة، والترمذي، والنسائي، وابن عدي، وابن حبان، وأبو نعيم، وابن أبي عاصم، عن علي (ع)، قال: والذي فلق الحبة وبرأَ النسمة، إنه لعهد النبي الأمي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أنه لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق.
فهل كان يحبه معاوية وشيعته الذين يلعنونه على المنابر كلها، وبلغوا كل مبلغ؟
فقد ذهبت عقول هؤلاء المذبذبين، وقلّ حياؤهم، وإبقاؤهم على أنفسهم.
ما يفعل الأعداء في الأحمق .... ما يفعل الأحمق في نفسه
/560

(2/560)


أخرج ابن عساكر عن علي ـ رضي الله عنه ـ: نحن النجباء، وأفراطنا أفراط الأنبياء، وحزبنا حزب الله، والفئة الباغية حزب الشيطان؛ ومن سوّى بيننا وبين عدوّنا فليس منا.
[استغراق خبر المنزلة لجميع المنازل، والرد على ابن حجر والمقبلي في كلامهما على خبر المنزلة]
قال (ع): وأما حديث المنزلة فلا نزاع فيه لموالف ولا مخالف، وقد أثبت لعلي جميع منازل هارون من موسى؛ لأنه اسم جنس أضيف، فيفيد الاستغراق، بدليل صحة الاستثناء.
..إلى قوله: بلا نزاع أن علياً أخوه في الدنيا والآخرة؛ فلما استثنى النبوة دلّ على ثبوت سائر المنازل لعلي، ومن جملتها الخلافة، وزاده توكيداً وتوضيحاً قوله (ع): ((بعدي)).
وقد اعترف ابن حجر المكي في شرح الهمزية، وتكلم بكلام شاف في شرح قول الناظم:
ووزير ابن عمه في المعالي .... ومن الأهل تسعد الوزراءُ
وساق ابن حجر...إلى قوله: قد وردت فيه بمعناها على وجه أبلغ من لفظها، وهو قوله (ع): ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى)) فإن هذه الوزارة المستفادة من هذا، التي هي كوزراة هارون، أخص من مطلق الوزارة فيهما ـ يعني أبا بكر وعمر ـ. /561

(2/561)


ومن ثمة أخذ منها الشيعة أنها تفيد النص أنه الخليفة بعده؛ وهو كذلك، لولا ما يأتي قريباً.
ثم ذكر ما يؤيد معنى هذه الموازرة الخاصة من أن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ آخاه دون غيره، وأرسله مؤدياً لبراءة، وأنه استخلفه بمكة عند الهجرة، حتى أتاه بأهله بعد أداء ودائعه، وقضاء ما عليه؛ فهذه كلها مؤدية موازرة خاصة لم توجد في غيره.
ثم ذكر ما زعمه مبطلاً؛ فذكر أن علياً شهد المشاهد كلها إلا تبوك؛ لأنه استخلفه على المدينة، وقال له: أتخلفني على النساء والصبيان؟ قال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)).
فيكون إنما قال له ذلك حينئذ، مبطلاً لمتمسك الشيعة، على أنه الخليفة المقدم على الكل، على أن هارون مات في حياة موسى؛ فلا دليل فيه على الخلافة بعد الموت.
انتهى كلامه.
واعترف بهذا العلامة الطيبي وغيره. /562

(2/562)


قال ابن حجر العسقلاني في شرح البخاري: واستدل بحديث المنزلة على استحقاق علي ـ رضي الله عنه ـ للخلافة دون غيره من الصحابة.
وقال الطيبي: معنى الحديث: يتصل بي، نازل مني منزلة هارون من موسى، وفيه تشبيه مبهم بينه بقوله: ((إلا أنه لا نبي بعدي))، فعرف أن الاتصال المذكور بينهما ليس من جهة النبوة، بل من جهة ما دونها، وهو الخلافة.
ولما كان هارون، وهو المشبه به، إنما كان خليفة في حياة موسى دلّ ذلك على تخصيص خلافة علي (ع) للنبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بحياته، انتهى.
فتأمّل هؤلاء العلماء، لما قهرهم البرهان، لم يجدوا بداً من القول به، لكن مع دغل في النفوس، بما زعموا من التخصيص؛ لأن النبي - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -، قال: ((بعدي)) وذلك يفيد بعد موته، ولأن طروء أمر على المشبه لم يطرأ على المشبه به مثله لا يضر.
وقد حرر الرد عليهم المنصور بالله (ع) في الشافي بما لا مزيد عليه.
قال (ع): ونقول: إنهم قد اعترفوا بما تمسك به الشيعة وقرروه؛ أما دعوى ابن حجر أنه لم يقع منه هذا اللفظ إلا في غزوة تبوك، فلا نسلم له؛ بل قاله في مواطن تسعة.
قلت: بل في أكثر من ذلك، وقد سبق ما فيه الكفاية.
قال (ع): على أنا لو سلمنا عدم وقوعه إلا بهذا السبب، فإنه لا يقصر على سببه، كما ذلك مقرر في علم الأصول؛ لأن الحجة هو الخطاب لا السبب، ولأن ذلك يصح منه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ابتداء من دون سبب.
...إلى قوله: /563

(2/563)


المعلوم أنه لو عاش هارون، لكان خليفة موسى بلا نزاع؛ لأنه لم يعزله؛ على أنا نقول: إن قوله: ((بعدي))، يفيد تحقيق البعدية أن علياً (ع) سيعيش بعده، خليفة له، قائماً مقامه، إلا أنه غير نبي؛ فلما لم يستثن إلا النبوة، ثبت ما سواها من المنازل.
قال (ع) رداً على ما ذكره الشيخ صالح: وكل من له أدنى مسكة من عقل وإنصاف يعلم أن هذا دفع في وجه النص، وتمحل في تمشية ما فعل الصحابة من مخالفة هذا النص، الذي هنؤوا علياً به يوم ذاك، وهم من صميم العرب؛ فلا يتصوّر عدم معرفة المراد منه، ولهذا لم يعتذروا بتمحلات الفقيه وأسلافه، بل ورد عن أبي بكر وعمر وغيرهما ما ورد من اعترافهم بالنص، خصوصاً عمر، فإنه قد أكثر من ذلك.
فنقول: إذا قد تحلى علي بالنص فما بقي، فهلا وقف عنده، ورضي بخيرة الله ورسوله؟
نعم، الله ـ تعالى ـ ورسوله قد قضى ـ بمعنى أَمَرَ ـ بإقامة علي (ع) مقام الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بالدليل الذي قرره الفقيه، وأقر به بقوله: وتحلى علي بالنص، وذلك خيرة الله ورسوله، وعملوا بخيرتهم.
وأما قوله: وبقية الخلفاء بالرضى من علي، فموضع النزاع؛ فهلم الدلالة عليه، وصحح لنا رضى علي، من غير رواية الداعية إلى مذهبك ممن يقول بمقالتك هذه؛ ولن تجد أبداً.
وأما جمعه للمهاجرين والأنصار، فلا يخلو إما أن يدعي إجماعهم، أولا؛ لا يصح له أن يدعيه، إذ هو ينكره في كتبه، ويبدع من ادعاه، فكفانا المؤنة؛ على أنه وإن ادعاه، فقد عجز عن تصحيحه من هو أشد منه شكيمة.
وأما قوله: وأطلق علي (ع) لهم التصرف، فمحل النزاع أيضاً، فهلم الدلالة عليه؛ بل صبر وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، يرى تراثه نهباً؛ وقد /564

(2/564)


اشتهر شهرة الشمس والقمر تَظَلّمه وتشكِّيه، وتجرمه منهم، هو وزوجته وأولاده وأشياعهم إلى الآن.
وإذا حققت النظر، وجمعت ما ورد في علي (ع) من كل لفظ يدل على الخلافة له، عرفت أنها تواردت على معنى واحد، وتضافرت على ذلك، وعلمت أن ذلك مقطوع به؛ ولم يبقَ إلا ما قاله أبو فراس ـ رحمه الله ـ:
تالله ما جهل الأقوام موضعها .... لكنّهم ستروا وجه الذي علموا
[اعتراف الصحابة بوجه النص في علي (ع) واعتذارهم بالمصلحة في عدولهم عنه]
ولقد أفصح عمر في اعتذاراته بأن تسنمهم لمقام رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ليس إلا ما رأوه من المصلحة بزعمهم؛ فتداركوا الإسلام بمصلحتهم، وتناسوا ما ملأ أسماعهم وأبصارهم، من النصوص لعلي بمقام النبوة.
وجوابنا عليهم: قل أأنتم أعلم أم الله؟
ثم تعقب القول من عمر بإبطال إمامة صاحبه، بأن بيعته كانت فلتة، وأمر بقتل من عاد إلى مثلها، وببطلان إمامة أبي بكر تبطل إمامة عمر؛ لأنه أصلها.
قال (ع): ولقد صار سنة جارية عند الخصوم، ومن بهم تذبذب، أو لهم تعصب، يردون ما خالف أهويتهم في الصحابة؛ لئلا يلزم كفرهم بزعمهم، كما قال يحيى بن معين في رده لحديث مينا بن مينا، عن ابن مسعود في الاستخلاف، فقال: كيف يروي ما فيه تكفير الصحابة؟
أقول: بحثنا في تقرير المسألة لا في تكفير الناس، فمن كفر فإنما يكفر على نفسه، ومن ضلّ فإنما يضل عليها؛ ولو تركت أدلة الشرع الشريف، لأجل لا يكفر المخالف، لبطل ما جاء به الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
قال: غير أنا نقول: معاذ الله من اعتقاد تكفير مزيل للملة، كما قال الكميت ـ رحمه الله ـ بين يدي جعفر بن محمد، أو أبيه، أو جده (ع):/565

(2/565)


ويوم الدوح دوح غدير خمّ .... أبان له الولاية لو أطيعا
ولكن الرجال تبايعوها .... ولم أرَ مثلها عرضاً مبيعا
ولم أبلغ بهم لعناً وذماً .... ولكن ساء أوّلهم صنيعا
إن ربك يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون.
قال: ولنعد إلى ما أشرنا إليه من اعتراف الصحابة بوجه النص؛ وإنما عدلوا عنه لأمور مصلحية بزعمهم؛ هذا أجمل ما يقال فيهم.
فمن ذلك ما روي من حديث عبد الرحمن بن عوف، أن أبا بكر قال له في مرض موته: إني لا آسى على شيء، إلا على ثلاث وددت أني لم أفعلها: وددت أني لم أكشف بيت فاطمة، وإن أغلق على الحرب.
والحديث طويل...إلى أن قال: أخرجه أبو عبيدة في كتاب الأموال، والعقيلي في الضعفاء، والطبراني في الكبير، وابن عساكر في تاريخه، وسعيد بن منصور، وقال: إنه حديث حسن.
قلت: ليته لم يفعل، ونحن، وكل مؤمن، والله نود ذلك؛ وكيف وفي البيت العصابة المطهرة النبوية، المفترضة مودتهم على كافة البرية، ومن الحق والقرآن معهم، ومن خلفهم الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ فيهم، وهو سائلهم عنهم، وفيهم بضعة رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ الزكية، التي يؤذيه ما يؤذيها، ويريبه ما يريبها، ويغضب الله ـ تعالى ـ لغضبها؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال (ع): وليت شعري! ماذا يقال بكشف بيت بضعة الرسول، وسيدة النساء ـ سلام الله عليها ـ أهي رضيت أم غضبت؟
وقد أقر الذهبي ـ على /566

(2/566)


تعنته ونصبه ـ بقصة إرادتهم الإحراق، وذكرها الطبراني، والواقدي، وابن عبد ربه في العقد، وغيرهم، أن عمر سعى للإحراق وتوعّدها.
ورواه الزبير بن بكار عن عمر باختلاف يسير، وفيه جواب ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ، وكيف لا يحقد من غُصب شيئه ويراه في يد غيره؟
وذكر آخره احتجاج قريش على الأنصار، بالقرب من رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، واحتجاج العرب على العجم بذلك.
ثم قال: فنحن أحق برسول الله من سائر قريش.
وفيه قول عمر لابن عباس: ما رددتَ على أحد إلا غلبتَه.
انتهى المراد من الفرائد بتصرف.
[محاورة عمر لابن عباس حول استحقاق علي الخلافة]
قال ـ أيده الله تعالى ـ في تخريج الشافي: وروى ابن أبي الحديد، والطبراني، عن عمر أنه قال لابن عباس: أتدري ما منع الناس منكم؟
قال ابن عباس: ما هو؟
قال: كرهت أن يجتمع لكم النبوة والخلافة، فتجخفوا الناس؛ فاختارت قريش لأنفسها ووفقت وأصابت.
قال ابن عباس: أتميط عني غضبك فتسمع؟
قال: قلْ ما شئت.
قال: أما قولك: كرهت قريش؛ فإن الله قال لقوم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)} [محمد].
وأما قولك: نجخف؛ فلو جخفنا بالخلافة جخفنا بالقرابة، ولكن أخلاقنا مشتقة من أخلاق رسول الله، قال الله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [ن]، وقال له: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)} [الشعراء]. /567

(2/567)


وأما قولك: اختارت قريش؛ فإن الله يقول: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } [القصص:68]، وقد علمت أن الله ـ تعالى ـ اختار لخلقه من ذلك من اختار؛ فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها، لوفقت وأصابت.
فقال عمر: أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشاً في أمر قريش لا يزول، وحقداً لا يحول.
فقال ابن عباس: مهلاً؛ فإن قلوبهم من قلب رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ الذي طهّره الله، وهم الذين قال الله فيهم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)} [الأحزاب:33].
وأما قولك: حقداً؛ فكيف لا يحقد من غُصِب شيئه، ويراه في يد غيره.
فقال عمر: أما أنت يا ابن عباس، فقد بلغني عنك أنك لا تزال تقول: أخذ هذا الأمر منا حسداً وظلماً.
فقال: أما قولك: حسداً؛ فقد حسد إبليس آدم فأخرجه من الجنة، وأما قولك: ظلماً؛ فأنت تعلم من هو صاحب الحق.
..إلى أن قال عمر: واهاً لابن عباس! ما رأيته لاحى أحداً إلا خصمه.
انتهى باختصار.
ورواه الطبري في تاريخه، وقال عمر: أحراهم والله إنْ وليها أن يحملهم على كتاب ربهم، وسنة نبيهم لصاحبك.
رواه ابن أبي الحديد، وأحمد بن يحيى ثعلب.
وروى أبو بكر الجوهري بسنده إلى ابن عباس، قال: مَرّ عمر بعلي وأنا معه، فمشيت مع عمر، فقال لي: يا ابن عباس، أما والله إن صاحبك لأولى الناس بالأمر بعد رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
وذكر ما رواه الواقدي /568

(2/568)


عن ابن عباس من محاورة بين علي (ع) وعثمان.
فقال علي: أما عتيق، وابن الخطاب، فإن كانا أخذا ما جعله رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ فأنت أعلم بذلك والمسلمون.
انتهى باختصار.
وروى أبو بكر الأنباري في أماليه أن علياً جلس إلى عمر في المسجد؛ ثم قام، فعرض واحد بذكره، ونسبه إلى التيه.
فقال عمر: حق لمثله أن يتيه؛ والله، لولا سيفه لما قام عمود الإسلام؛ وهو بعد أقضى الأمة، وذو سابقتها، وذو شرفها.
فقال ذلك: فما منعكم منه؟
قال: كرهناه على حداثة سنه، وحبه بني عبد المطلب.
رواه ابن أبي الحديد في شرح النهج؛ فانظر إلى هذا الاعتذار البارد.
وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس، قال: مشيت أنا وعمر بن الخطاب، في بعض أزقّة المدينة، فقال: يابن عباس، أظن القوم استصغروا صاحبكم، إذ لم يولوه أمورهم.
فقلت: والله ما استصغره رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ إذ اختاره لسورة براءة يقرؤها على أهل مكة.
فقال لي: الصواب أن تقول: لقد سمعت رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يقول لعلي: ((من أحبك أحبني، ومن أحبني أحبه الله، ومن أحبه الله أدخله الجنة)).
وروى أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني، وساق سنده إلى عمر أنه قال لابن عباس: إن أول من أزالكم عن هذا الأمر أبو بكر؛ إن قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوة.
قاله ابن أبي الحديد.
وروى الزبير بن بكار بسنده إلى ابن عباس ما قال عثمان في مخاطبته: ولقد علمت أن الأمر لكم، ولكن قومكم دفعوكم عنه، واختزلوه دونكم...إلخ؛ ذكره في شرح النهج.
[كلام المقداد في أمير المؤمنين (ع)]
وروى أبو بكر الجوهري بإسناده إلى المعروف بن سويد، قال: كنت أيام /569

(2/569)


عثمان بالمدينة، أيام بويع عثمان، فرأيت رجلاً في المسجد جالساً، وهو يصفق بإحدى يديه على الأخرى، والناس حوله، ويقول: واعجباً من قريش واستئثارهم بهذا الأمر على أهل هذا البيت، معدن الفضل، ونجوم الأرض، ونور البلاد!، والله، إن فيهم رجلاً ما رأيت رجلاً بعد رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - أولى منه بالحق، ولا أقضى بالعدل، ولا آمر بالمعروف، ولا أنهى عن المنكر.
فسألت عنه، فقيل: هذا المقداد.
فتقدمت إليه، فقلت: أصلحك الله، من الرجل الذي تذكر؟
فقال: ابن عم نبيك علي بن أبي طالب.
قال: فلبثت ما شاء الله، فلقيت أبا ذر، فحدثته ما قال المقداد.
فقال: صدق.
قلت: فما يمنعكم أن تجعلوا هذا الأمر فيهم؟
قال: أبى ذلك قومهم.
قال ـ أيده الله ـ: وما رواه أبو بكر عن ابن سويد من قول المقداد، روى نحوه عوانة، عن الشعبي، عن عبد الرحمن بن جندب بن عبدالله الأزدي، عن أبيه، وفيه: قال المقداد: أما والله، لقد تركت رجلاً من الذين يأمرون بالحق وبه يعدلون؛ أما والله، لو أن لي على قريش أعواناً لقاتلتهم قتالي إياهم ببدر وأحد.
فقال عبد الرحمن: أخاف أن تكون صاحب فتنة وفرقة؟
قال المقداد: من دعا إلى الحق وأهله وولاة الأمر لا يكون صاحب فتنة؛ ولكن من أقحم الناس في الباطل وآثر الهوى على الحق، فذلك صاحب الفتنة والفرقة.
قال: فتربّد وجه عبد الرحمن.
قال: وقول المقداد: لو أجد أعواناً على قريش لقاتلتهم قتالي إياهم ببدر، رواه المسعودي في مروج الذهب، وذكر محاورته لابن عوف من الإقبال، ورواه الطبري في تاريخه.
قال عمر لابن عباس: ما أرى صاحبك إلا مظلوماً.
قال: قلت: فاردد إليه ظلامته.
فمضى يهمهم، ثم وقف؛ ثم قال: يابن /570

(2/570)


عباس: ما أظنهم منعهم عنه إلا أنه استصغره قومه.
قال: فقلت: والله، ما استصغره الله ورسوله حين أمره أن يأخذ براءة من صاحبك.
فأعرض عني...إلخ، رواه الزبير بن بكار في كتاب الموقفيات عن ابن عباس، ورواه أبو بكر الجوهري بإسناد رفعه إلى ابن عباس.
[كلام البراء في تمالي قريش على أهل بيت النبوة]
قال ابن أبي الحديد: وقال البراء بن عازب: لم أزل لبني هاشم محباً، فلما قبض رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ خفت أن تتمالى قريش على إخراج هذا الأمر عنهم، فأخذني ما يأخذ الواله العجول، مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، فكنت أتردد إلى بني هاشم، وهم عند النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في الحجرة، وأتفقد وجوه قريش؛ فإني كذلك، إذْ فقدت أبا بكر وعمر، وإذا قائل يقول: القوم في سقيفة بني ساعدة.
وإذا آخر يقول: قد بويع أبو بكر.
فلم ألبث وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل، ومعه عمر، وأبو عبيدة، وجماعة من أصحاب السقيفة، وهم محتجزون بالأزر الصنعانية، لا يمرون بأحد إلا خبطوه وقدموه، فمدوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه، شاء ذلك أو أبى؛ فأنكرت عقلي، وخرجت أشتد حتى انتهيت إلى بني هاشم، والباب مغلق، فضربت عليهم الباب ضرباً عنيفاً، وقلت: قد بايع الناس لأبي بكر ابن أبي قحافة.
فقال العباس: تربت أيديكم إلى آخر الدهر؛ أما إني قد أمرتكم فعصيتموني.
فمكثت أكابد ما في نفسي.
...إلى آخر ما ساقه؛ وهذا الخبر رواه أبو بكر الجوهري بإسناده إلى أبي سعيد الخدري عن البراء بن عازب، وفيه زيادة.
قلت: ورواه المهلبي، وعمر بن شبه بإسناد رفعاه إلى أبي سعيد الخدري؛ أفاده في شرح النهج.
قال ـ أيده الله تعالى ـ: قال عمر لابن عباس: /571

(2/571)


كيف خلفت ابن عمك ـ يعني علياً ـ؟
قال: خلفته يمتح بالغرب على نخيلات يقرأ القرآن.
قال: يا عبدالله، عليك دماء البدن إن كتمتنيها، هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة؟
قلت: نعم.
قال: أيزعم أن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ نص عليه؟
قال: قلت: نعم؛ وأزيدك، سألت أبي عما يدعيه؟ فقال: صدق.
فقال عمر: لقد كان من رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في أمره ذرؤ من قول، لا يثبت حجة، ولا يقطع عذراً، ولقد كان يريع في أمره وقتاً ما؛ ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام؛ لا ورب هذه البنية، لا تجتمع عليه قريش لو وليها...إلخ.
رواه أحمد بن طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسنداً؛ ذكره ابن أبي الحديد.
انتهى المراد إيراده بتصرف.
قال الإمام (ع) في الفرائد: وفي هذا الخبر ما لا يخفى، وعلى فصوله شواهد قوية صحيحة.
أما قوله: ذرؤ من قول ـ الذرؤ: الطرف ـ فقد أقر له بالولاية يوم الغدير في قوله: أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.
وأما قوله: ولقد أراد في مرضه، فشاهد ذلك الخبر الصحيح عند الجميع رواه البخاري ومسلم: ((ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً)).
فقال عمر ذلك القول؛ كما قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله، وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب، لأن النبي - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
نعم، فهل ورد فيه وفي صاحبه ذرؤ من القول في إقدامهما على مقام النبوة المستحق له غيرهما؟ فما هو؟ أم لا؟
لا سبيل إلى الأول؛ لأن المعلوم في حجاج يوم السقيفة عدم الإدلاء بشيء خاص بهما؛ وحينئذ، فما روي من طريق من /572

(2/572)


يصحح خلافتهما منفرداً به غير صحيح.
على أنّا نقول: إن اعترافهما لعلي (ع) بذلك المقام واقع في مقامات بروايات الخصوم؛ وإنما عدلوا عن علي (ع) لما زعم عمر من الإشفاق على الأمة، ونحوه من الأمور المصلحية برد النصوص؛ ولكون خبر حفصة لهما بتوليهما بعد إخبار من النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بما يكون منهما من عدم التوقف على ما وقفا عليه؛ فهذه الروايات عن عمر دالة بمجموعها وأفرادها أن تسنّمهم لمقام الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ليس إلا لما زعموه من الأمور.
ولما وقع من هؤلاء تسنم مقام النبوة للمصلحة التي اعتذروا بها، ورأى من بعدهم من خصوم الآل ـ حقاً أو لزوماً ـ أن تعذراتهم بدعوى المصلحة لا تقنع خصومهم، ولا يقع بها دفع النصوص المعلومة في أمير المؤمنين، تمحلوا بروايات وأحاديث حدثت أكثرها أيام معاوية، تقرب ببعضها إلى أمراء السوء؛ كل ذلك لتتمّ لهم استقامة إمامة مشائخهم؛ ولكن أبى الله إلا أن يتم نوره، ولو كره الكافرون.
[إفشاء سرِّ رسول الله (ص) وما ورد في ذلك]
قال: وقصة إفشاء سر رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ عن حفصة بنت عمر أو عائشة، وبالاتفاق على الإفشاء من إحداهما لما أفشته إلى الأخرى، ثم إلى أبي بكر وعمر؛ وقد سمعت ما عاتبهما الله، وذكر تظاهرهما على رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وصغو قلوبهما ـ وفي رواية ابن مسعود: وزاغت قلوبهما ـ وذلك التهديد الذي لا مزيد عليه؛ ثم التعريض بهما في آخر السورة، بضرب المثال للكفار بزوجي نوح ولوط ـ عليهما الصلاة والسلام ـ، وأنه لم ينفع الزوجين كونهما وصلة النبيين، وقيل: ادخلا النار مع الداخلين؛ وضرب المثال للمؤمنين بزوجة فرعون، ومريم ابنة عمران ـ رضي الله عنهما ـ.
وبإفشاء سرّ رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ من إحدى /573

(2/573)


زوجتيه إلى أحد أبويهما أو إليهما انقدح في قلب أبي بكر، وعمر، ذلك، وزرعاه؛ ولأجله رجعا من جيش أسامة مع من تبعهما.
[أمور ارتكبها بعض الصحابة وعدلوا فيها عن الحق]
وقد ذكر الشهرستاني في كتاب الملل والنحل ـ وهو من رأس الخصوم، أشعري ـ أنه وقع قبل موت النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ خلافان:
الأول: رجوع من رجع من جيش أسامة، وقد شدد النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في إنفاذه.
والخلاف الثاني: خلافهم عليه يوم الخميس، في منع عمر أن يكتب لهم ذلك الكتاب، الذي لا يضلون بعده أبداً.
وذكر خلافين بعد موته:
أحدهما: يوم السقيفة.
ثم إن الشهرستاني تمعذر لهم بمعاذير باطلة.
قال الإمام في الفرائد: ونحن نقول: إن هذين الخلافين ـ أي الأولين ـ هما أم كل فتنة، ورأس كل محنة، على الإسلام والمسلمين جملة، وعلى أهل البيت خاصة، وقد انبنى عليهما كل شر إلى يوم القيامة، ولزمهم الوعيد في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ }...الآية [الأحزاب:36].
قال: والحاصل في مخالفة بعض الصحابة: /574

(2/574)


الأولى: رجوعهم عن جيش أسامة، وتخلفهم عن أميرهم؛ وقد سمعوا وعقلوا تشديد رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في ذلك، من العصيان لله ولرسوله، واللعن للمتخلف.
والثانية: ما وقع يوم الخميس ـ وما يوم الخميس به ـ من منع عمر لأن يكتب لهم رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ كتاباً لا يضلون بعده أبداً، واختلاف الحاضرين، حتى قام الخلاف بين رسول الله ومن امتثل أمره، وبين عمر ومن تبعه، فقائل يقول: قربوا له داوة وبيضاء يكتب لكم الكتاب؛ وقائل يقول: القول ما قال عمر؛ وأكثروا اللغط والأصوات، حتى ضاق النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وقال: ((قوموا عني، فلا ينبغي عندي تنازع))، والمعلوم من الدين ضرورة أنه الآمر الناهي؛ فما لعمر ومن تبعه من ذلك...إلخ.
الثالثة: مصيبة يوم السقيفة، وما جرى فيها من تلك الأمور التي إن فتشتها فتشت جيفة.
الرابعة: ما جرى منهم على أمير المؤمنين (ع) من التهديدات، وأنواع البليات، حتى بالحريق له، ولبضعة الرسول؛ وقد ملأ النبي - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم في أمير المؤمنين، وبضعة الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ومن إليهما، وعقلوه وعرفوا المراد به؛ فهذه أربع مخالفات.
انتهى من الفرائد ملخصاً.
[انقسام الصحابة إلى ثلاثة أقسام]
قال الإمام المنصور بالله (ع) في الشافي: وقد بينا أن حال الصحابة ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
فقسم: ماتوا على ما فارقوا عليه رسول الله صلى الله /575

(2/575)


عليه وآله وسلم، فهؤلاء هم الذين يستحقون ما ظهر لهم من الثناء من الله ـ سبحانه ـ، ومن رسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
وقسم: ظهر فسقهم بالخروج على الإمام علي (ع)، ومحاربتهم له، وقتلهم وقتالهم.
ـ قلت: وكذا من أتى بكبيرة غير ذلك ـ فهؤلاء من تاب تاب الله عليه، ومن مات على حاله غير تائب، فإلى نار الله ودماره.
وقسم ثالث: جرت منهم أمور وتخاليط، واستيلاء على أمر الأمة، والدفع لإمام الهدى؛ فهؤلاء حكمهم إلى العلي الأعلى؛ فإن ظهر لنا دليل على لحوقهم بأحد الفريقين، وجب إلحاقهم بذلك الدليل؛ وإن لم يظهر دليل، وقفنا.
...إلى قوله: فهذه مراتب الصحابة، التي قضت بها الأدلة...إلى آخر كلامه هذا.
قلت: واعلم أن أعلام أهل البيت، أبناء علي بن أبي طالب، وفاطمة بنت محمد ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وخلاصة شيعتهم، لا يبالون بقعقعة المخالفين خلفهم بالشنآن، ورميهم لهم بالزور والبهتان، ولا يخافون في الله لومة لائم، ويغضبون لأبيهم، الذي أتى فيه عن الله ـ تعالى ـ وعن رسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ما أتى، ولأمهم فاطمة البتول الزهراء، التي يغضب لغضبها الله - جل وعلا - وقد ماتت غاضبة على الشيخين، هاجرة لهما، وعاشت بعد رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ستة أشهر، وصلى عليها علي - صلوات الله عليهما - ومن معه، ودفنها ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر وعمر؛ ولم يبايع هو ولا أحد من بني هاشم مدة حياتها، وصالحهم بعد ذلك.
هذا الذي أخرجه صاحبا صحيحيهم البخاري ومسلم وغيرهما.
ولذا قال نجوم آل محمد (ع): كانت لنا أم صديقة ماتت وهي غاضبة عليهما، ونحن /576

(2/576)


غاضبون لغضبها.
[حديث: ((يا فاطمة إن الله يغضب لغضبك...إلخ)) ومخرجوه]
قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((يا فاطمة إن الله يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك)) أخرجه الإمام علي بن موسى الرضا بسند آبائه (ع).
وأخرجه الإمام المرشد بالله (ع) في أماليه الأنوار، بسنده إلى الإمام الحسين بن زيد بن علي، وعلي بن عمر بن علي، عن جعفر بن محمد، عن آبائه (ع)، قال: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لفاطمة ـ عليها السلام ـ: ((إن الله ـ عز وجل ـ يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك)).
وأخرجه ابن المغازلي عن الإمام الحسين بن زيد، عن جعفر بن محمد، عن آبائه(ع).
وأخرجه الفقيه حميد الشهيد بسنده إلى جعفر بن محمد، عن أبيه بسنده السابق: أن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، قال: ((يا فاطمة إن الله...الخبر)).
وأخرجه الكنجي عن الحسين بن علي.
وأخرجه أبو سعيد، وأبو المثنى، والديلمي، والطبراني، والحاكم في المستدرك، وأبو نعيم في الفضائل، وابن عساكر، وصححه المحدث أحمد بن سليمان الأوزري، والشيخ الحافظ محمد بن عبد العزيز العنسي.
وفي النهاية في مواد الكلم حديث: ((إن الله يغضب لغضب فاطمة ـ أو: لغضبك يا فاطمة ـ)) متفق عليه، أفاده الإمام محمد بن عبدالله الوزير (ع).
[أحاديث أنه يؤذي الرسول ما آذاها ومخرجوها]
وقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((إنما فاطمة بضعة مني، يؤذيني ما آذاها)) أخرجه البخاري، ومسلم، وأخرجه أحمد بزيادة: ((وينصبني ما أنصبها))، والترمذي /577

(2/577)


وقال: صحيح، والطبراني، والحاكم في المستدرك، والضياء المقدسي في المختارة.
وبلفظ: ((إنما فاطمة بضعة مني، فمن آذاها فقد آذاني)) أخرجه الحاكم عن أبي حنظلة.
قال في المحيط: وهو خبر معروف لا ينكره أحد.
وبلفظ: ((إنما فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها أغضبني))، أخرجه ابن أبي شيبة عن محمد بن علي، وأخرجه البخاري.
والروايات في هذا أكثر من أن تحصر.
[قصة مذاكرة ثلاثة من أئمة العترة مع ثلاثة من أشياخ الحديث]
وقد اتفقت مذاكرة ثلاثة من أئمة العترة (ع) مع ثلاثة من أشياخ الحديث.
وهي أن السيد الإمام صلاح بن المهدي بن الإمام إبراهيم بن تاج الدين (ع) كان يسمع على الشيخ العلامة أحمد بن سليمان الأوزري، فعرض حديث: ((إن الله يغضب لغضب فاطمة))، فاستفهمه السيد: أهذا صحيح؟
قال: نعم.
ثم استمر في القراءة إلى أن فاطمة ماتت غضبى على أبي بكر وعمر.
قال السيد: أهذا صحيح؟
قال: نعم.
فقال السيد: كيف يمكن الجمع بين الحديثين؟
فاشتجر الجدال حتى أدى إلى ترك القراءة؛ ثم استرضاه الشيخ، وأزال ما في نفسه.
ومثل ذلك وقع للإمام عز الدين (ع) مع الشيخ العامري.
ونحو ذلك سواء وقع للإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم (ع) مع العلامة الحبشي، إلا أن الشيخ نازع أولاً، ثم قال: الأمر مشكل.
روى ذلك في تفريج الكروب، وفي الفرائد؛ ولله قائلهم حيث يقول: /578

(2/578)


أتموت البتول غضبى ونرضى؟ .... ما كذا يفعل البنونَ الكرامُ
وفي الفرائد: وقد ورد في الحديث المتفق عليه الموالف والمخالف: ((فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها فقد أغضبني)) بجميع ألفاظه، وسياقاته، مثل: ((من آذاها فقد آذاني))، ((يريبني ما يريبها))، وغير ذلك، كما في كتب الحديث.
قال: وأوصت ألا يحضر قبرها أبو بكر وعمر؛ كل ذلك معلوم عند الموالف والمخالف، وأنها ماتت واجدة على أبي بكر، وهجرته فلم تكلمه حتى ماتت؛ ولقد خطبت الخطبة المشهورة، فلم تترك شأنها وشأنهم؛ وكذا في كلامها لنساء الأنصار: قرت العيون، وشفت الصدور، وإلى الله ترجع الأمور.
قال: ومهما وقع التناكر في تفاصيل ذلك، فمعظمها وأصولها معلوم عند الكافة.
...إلى قوله: ثم تعقب بعد قيام أمير المؤمنين النكث من الناكثين، والبغي منهم ومن القاسطين ومن المارقين، وجرى عليه منهم ما يصم ويعظم؛ وكان (ع) يتجرّم إن ذكر ذلك من أهل السقيفة.
ثم قتل(ع)، وكانت الطامة وهدم الإسلام، فتغلب معاوية بمعونة الفجار والأغتام، ومن آثر الحياة الدنيا من صحابي وغيرهم من ذوي الإجرام.
فغلب بمكره ومكرهم، ومن وازره من دهاتهم، الحسنَ السبط (ع)، حتى أنه أُلجيء إلى المهادنة؛ ثم لم يف بما عقد عليه، ثم سَمَّه؛ ثم عقد الأمر ليزيد، وصانع الفجرة ببيعته، حتى كان سبباً في قتل الحسين السبط (ع)، وسبي حريم رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بتلك الفعلة الشنعاء، والمصيبة الفظعاء.
ثم استولت بنو أمية وتغلّبت على المسلمين، وهم الشجرة الملعونة في القرآن...إلخ.
وفي هذه الفصول فتح الخلاف بين التابعين، ومن بعدهم، في مهمات أصول الدين وفروعه، ونشأ منها قتل الأخيار وتبعيدهم، وتقريب الأشرار وتوليهم، وجرى على المسلمين /579

(2/579)


عموماً عظيم ظلمهم، وخصوصاً أهل البيت (ع)، وأهل مودتهم.
ثم بعدهم بنو العباس مع طول مدتهم، ثم من بعدهم.
[تحامل الناس على أمير المؤمنين (ع) وخبر: ((إن الأمة ستغدر بك يا علي)) ومخرِّجوه]
واسمع إلى كلام متين، وخطاب رصين، ممن هو إمام الأمة، وكاشف الغمة، المتوكل على الله شرف الدين (ع)؛ والحال أن له مذهباً جميلاً في الصحابة قد رضَّى عنهم.
قال في شرح خطبة الأثمار: الأمر الثاني يتعلق بأمر تحامل الناس على أمير المؤمنين، وذريته الطيبين الطاهرين ـ صلى الله عليه وعليهم أجمعين ـ.
وساق حتى قال: نعرفك ـ أيها المسترشد ـ بامتحان أمير المؤمنين، وذريته الطاهرين، من أمة النبي الأمين، بوجوه من الامتحانات؛ كما يصدق قول النبي -صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -.
وسنذكر ما اطلعت عليه فيمن روى هذا الحديث بعد هذا إن شاء الله تعالى فيما رواه الحاكم في المستدرك، ورواه غيره: ((إن الأمة ستغدر بك يا علي بعدي))، الحديث وغيره مما يوافق معناه.
قلت: خبر غدر الأمة بالوصي ـ صلوات الله عليه ـ، وهو من أعلام النبوة، كإخباره عن الناكثين والقاسطين والمارقين، وقتل عمار، وغير ذلك من أخبار الغيوب، الواقعة على ما أخبر بها المختار ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
فأخرج محمد بن سليمان الكوفي، بسنده إلى أبي إدريس الأودي، قال: سمعت علياً يقول: كان فيما عهد إلي النبي - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - ((إن الأمة ستغدر بك)).
ورواه عن ثعلبة، عن يزيد الحماني، وعن علي (ع).
وقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((إن الأمة ستغدر بك من بعدي، وأنت تعيش على /580

(2/580)


ملتي، وتقتل على سنتي؛ ومن أحبك أحبني، ومن أبغضك أبغضني؛ وإن هذه ستخضب من هذا)) ـ يعني لحيته من رأسه ـ أخرجه الدارقطني في الأفراد، والحاكم في المستدرك، والخطيب في تاريخه، والطبراني عن علي بن أبي طالب (ع).
وأخرج الحاكم عن علي (ع): ((عهد معهود إن الأمة ستغدر بك بعدي)).
وفي رواية: إن مما عهد إليَّ النبي - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((إن الأمة ستغدر بك بعدي)).
وأخرج أيضاً عن ابن عباس مرفوعاً: ((أما إنك ستلقى بعدي جهداً))، وأخرجه الخطيب، وصحح الحاكم هذه الروايات كلها.
أفاده الإمام محمد بن عبدالله الوزير (ع).
وأخرج الذهبي بسنده، إلى علقمة، عن علي، قال: عهد إلي النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((إن الأمة ستغدر بك)).
قال في شرح النهج: وروى سدير الصيرفي، عن أبي جعفر محمد بن علي (ع)، قال: اشتكى علي شكاة، فعاده أبو بكر وعمر، وخرجا من عنده، وأتيا النبي - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - فسألهما ((من أين جئتما؟)).
قالا: عدنا علياً.
قال: ((كيف رأيتماه؟)).
قالا: رأيناه يُخاف عليه مما به.
قال: ((كلا؛ إنه لن يموت حتى يُوسَع غدراً وبغياً))...إلخ.
قال: وروى عثمان بن سعيد، عن عبدالله بن الغنوي، أن علياً (ع) خطب بالرحبة، فقال: أيها الناس، إنكم قد أبيتم إلا أن أقولها؛ ورب السماء والأرض، إن من عهد النبي الأمي إليَّ: ((إن الأمة ستغدر بك بعدي)).
وروى هيثم بن بشير، عن إسماعيل بن سالم، مثله.
قال: وقد روى أكثر أهل الحديث هذا الخبر بهذا اللفظ، أو بقريب منه.
قلت: وفي تخريج الشافي: وروى عبد الوهاب الكلابي بإسناده إلى يزيد الحماني، قال: سمعت علياً (ع) يقول: ورب السماء والأرض إنه لعهد /581

(2/581)


النبي الأمي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((إن الأمة ستغدر بك يا علي))، انتهى.
وفي شرح النهج: وروى أبو جعفر الإسكافي أن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ دخل على فاطمة ـ عليها السلام ـ فوجد علياً نائماً، فذهبت تنبهه، فقال: ((دعيه، فرب سهر له بعدي طويل، ورب جفوة لأهل بيتي من أجله شديدة)).
فبكت؛ فقال: ((لا تبكي؛ فإنكما معي في موقف الكرامة عندي))، انتهى.
[تخريج حديث الحدائق السبع]
قال الحسين بن الإمام (ع): وعن علي (ع): بينا رسول الله آخذ بيدي، ونحن نمشي في بعض سكك المدينة؛ فمررنا بحديقة، فقلت: يا رسول الله، ما أحسنها من حديقة!.
قال: ((لك في الجنة أحسن منها)).
فلما خلا له الطريق اعتنقني؛ ثم أجهش باكياً.
قلت: يا رسول الله، ما يبكيك؟
قال: ((ضغائن في صدور أقوام، لا يبدونها لك إلا من بعدي)).
قلت: يا رسول الله، في سلامة من ديني؟
قال: ((في سلامة من دينك)).
أخرجه البزار، وأبو يعلى، والحاكم، وأبو الشيخ، والخطيب، وابن الجوزي، وابن النجار.
قال الإمام محمد بن عبدالله (ع) في الفرائد: وأخرج السيوطي في الكبير حديث الحدائق السبع، وعزاه إلى من تقدم.
قلت: أي الذين ذكرهم ابن الإمام (ع).
قال في الفرائد: وصححه الحاكم، انتهى.
قال ـ أيده الله تعالى ـ في التخريج: والذهبي عن ابن عباس، والنسائي في مسند علي، والكنجي في مناقبه عن أنس، قال: وهكذا سياق مؤرخ الشام ـ يعني ابن عساكر ـ، ومحمد بن سليمان الكوفي، عن علي (ع)، وعن أبي رافع، وعن أنس، وعن يونس بن حبان مرفوعاً.
قال في المقصد الحسن والإقبال: ورواه البغوي، والنسائي، انتهى. /582

(2/582)


قلت: ورواه الطفاوي من تهذيب الكمال، بسند لمؤلفه عال، إلى النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ولفظه: عن علي (ع)، قال: بينا النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ آخذ بيدي؛ فمررنا بحديقة، فقلت: ما أحسنها من حديقة! قال: ((لك في الجنة أحسن منها)) حتى مررنا بسبع حدائق كل ذلك أقول: ما أحسنها! ويقول: ((لك في الجنة أحسن منها))، حتى إذا خلا له الطريق اعتنقني، وأجهش باكياً، فقلت: ما يبكيك؟
قال: ((إحن في صدور قوم، لا يبدونها لك إلا من بعدي)).
فقلت: في سلامة من ديني؟
قال: ((في سلامة من دينك))).
ذكره في حواشي شرح الغاية.
قلت: وكم لهذه الأخبار الشريفة من شواهد ليس لها انحصار.
[أحاديث في الحث على محبة علي ومخرجوها]
قال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((أوصي من آمن بي وصدقني، بولاية علي بن أبي طالب؛ فمن تولاه، فقد تولاني، ومن تولاّني، فقد تولّى الله؛ ومن أحبّه فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحبّ الله؛ ومن أبغضه فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله عز وجل))، أخرجه الإمام المرشد بالله، والكنجي، وأبو علي الصفار، عن عمار بن ياسر من ثلاث طرق، ومحمد بن سليمان من طريقين.
ورواه بسنده عن جعفر بن محمد، عن آبائه، عن علي (ع) بلفظ: ((فإن ولاءه ولائي، وولائي ولاء الله؛ وإن منكم من يسفهه حقه))، وليس فيه ذكر من أحبه...إلخ.
ورواه بسنده إلى الباقر، ورواه أبو القاسم في كتاب إقرار الصحابة بسنده إلى ابن عمر، بنحو رواية محمد بن سليمان، وفيه: ((أمرت بالإعراض عنهم)).
وعلى رواية الأصل: أخرجه الطبراني، وابن عساكر عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، عن أبيه، عن جده.
وأخرجه الطبراني من /583

(2/583)


قوله: ((من أحب علياً فقد أحبني...إلى آخره))، عن محمد بن عبيدالله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جده - رضي الله عنهم -، إلا أنه بلفظ: ((أحبه الله)) و ((أبغضه الله)).
وأخرجه الإمام المرشد بالله (ع) عن أبي رافع من حيث أخرجه الطبراني بلفظه، إلا أن صدره: ((من أحبه فقد أحبني... إلخ)).
وقد سبق الخبر الشريف.
وأخرج في المحيط عن الإمام أبي طالب بطريقه إلى ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((أقضى أمتي بكتاب الله علي، فمن أحبني فليحبه؛ فإن العبد لا ينال ولايتي إلا بحب علي)).
وأخرجه الإمام الناصر (ع) بلفظه بسنده إلى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
وقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من أحبك فبحبي أحبك؛ فإن العبد لا ينال ولايتي إلا بحبك))، أخرجه الديلمي عن ابن عباس.
وأخرج قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((محبك محبي، ومبغضك مبغضي)) ابن المغازلي عن علي (ع)، والطبراني عن سلمان ـ رضي الله عنه ـ.
وأخرج الحاكم في المستدرك عن سلمان: ((من أحب علياً فقد أحبني، ومن أبغض علياً فقد أبغضني)).
[أخبار متنوعة في فضائل أمير المؤمنين (ع)]
وأخرج الحاكم أيضاً فيه عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: نظر النبي - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - إلى علي، فقال: ((يا علي أنت سيد في الدنيا، سيد في الآخرة؛ حبيبك حبيبي، وحبيبي حبيب الله؛ وعدوّك عدوّي، وعدوّي عدوّ الله؛ والويل لمن أبغضك بعدي))، قال: صحيح على شرط الشيخين.
وأخرجه /584

(2/584)


أبو علي الصفار بإسناده إلى أنس بلفظ: نظر رسول الله إلى علي بن أبي طالب، فقال: ((أنت سيد في الدنيا وسيد في الآخرة؛ ومن أحبك فقد أحبّني، ومن أحبني فقد أحبّ الله؛ ومن أبغضك فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله؛ وويل لمن أبغضك بعدي؛ أنا سيد المرسلين، وأنت سيد المسلمين، وأنت يعسوب المؤمنين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين))، أخرجه الإمام الرضا علي بن موسى الكاظم، عن آبائه(ع).
وأخرجه بمثل روايته ابن المغازلي، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
وأخرجه أحمد بن حنبل، عن ابن عباس بلفظ: ((أنت سيد في الدنيا، سيد في الآخرة؛ من أحبّك فقد أحبّني، وحبيبك حبيب الله؛ وعدوّك عدوّي، وعدوّي عدوّ الله؛ والويل لمن أبغضك بعدي)).
وأخرج الخطيب في المتفق والمفترق عن محمد بن علي (ع) قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((ما ثَبَّتَ الله حبّ علي في قلب مؤمن، فزلت به قدم، إلا ثبت الله قدميه يوم القيامة على الصراط)).
وأخرج ابن النجار عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ، قال: خرج رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قابضاً على يد علي ذات يوم، فقال: ((ألا من أبغض هذا فقد أبغض الله ورسوله، ومن أحب هذا فقد أحب الله ورسوله)).
وأخرج الحاكم وصححه هو والذهبي عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ، عنه - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله؛ ومن أطاع علياً فقد أطاعني، ومن عصاه فقد عصاني)).
وفي شرح النهج: وروى الناس كافة أن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قال: ((هذا وليي وأنا وليه؛ عاديت من عاداه، وسالمت من سالمه)) /585

(2/585)


أو نحو هذا اللفظ.
وروى محمد بن عبدالله بن أبي رافع، عن زيد بن علي بن الحسين (ع)، قال: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لعلي (ع): ((عدوّك عدوّي، وعدوّي عدوّ الله عز وجل)) انتهى.
وأخرج الطبراني، والحاكم، والخطيب عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((يا علي طوبى لمن أحبك وصدق فيك، وويل لمن أبغضك وكذب فيك)).
وأخرج الديلمي عن جابر بن عبدالله ـ رضي الله عنهما ـ قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((ثلاث من كن فيه فليس مني ولا أنا منه: بغض علي، ونصب أهل بيتي، ومن قال: الإيمان كلام)).
وفي هذا الخبر الشريف ذكر النصب.
وأخرج عن أنس قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن أبي طالب)).
وأخرج عنه أبو سعيد في شرف النبوة، قال: صعد رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ المنبر، فذكر قولاً كثيراً ثم قال: ((أين علي بن أبي طالب؟)).
فوثب إليه؛ فقال: ها أنذا يا رسول الله.
فضمه إلى صدره، وقبّل بين عينيه، وقال بأعلى صوته: ((معاشر المسلمين، هذا أخي، وابن عمي، وختني؛ هذا /586

(2/586)


لحمي ودمي وشعري، هذا أبو السبطين: الحسن والحسين، سيدي شباب أهل الجنة؛ هذا مفرج الكروب عني، هذا أسد الله، وسيفه في أرضه على أعدائه؛ على مبغضه لعنة الله ولعنة اللاعنين، والله منه بريء؛ فمن أحب أن يبرأ من الله ومني، فليبرأ من علي؛ وليبلغ الشاهد الغائب)).
ثم قال: ((اجلس يا علي؛ فقد عرف الله لك ذلك)).
ذكره المحب الطبري في الذخائر.
وفي خبر بريدة لما شكى علياً (ع) ورسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - يسمع؛ فخرج مغضباً وقال: ((ما بال أقوام ينقصون علياً؛ من أبغض علياً، فقد أبغضني، ومن فارق علياً، فقد فارقني؛ إن علياً مني وأنا منه؛ خلق من طينتي وخلقت من طينة إبراهيم، وأنا أفضل من إبراهيم، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم؛ يا بريدة، أما علمت أن لعلي أكثر من الجارية التي أخذها، وهو وليكم بعدي))، بلفظه في جواهر العقدين.
وأخرج الحاكم الجشمي عن أنس، وسعيد بن جبير ـ وذكره الإمام (ع) في الشافي ـ: ((يا علي، منزلتك عندي كمنزلتي عند الله؛ فمن فارقك فقد فارقني، ومن فارقني فقد فارق الله)).
وأخرج الكنجي، وابن المغازلي، وأحمد في المناقب، والحاكم في المستدرك عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - يقول: ((يا علي، من فارقني فارق الله، ومن فارقك فقد فارقني))؛ وقد مَرّ.
وأخرجه ابن المغازلي عن مجاهد، عن /587

(2/587)


ابن عمر، والطبراني في الكبير عنه أيضاً.
والعجب من تخلّف ابن عمر مع روايته لهذا وغيره.
وقد روي تأسفه على تركه قتال الفئة الباغية معه، ونشره لفضائله (ع).
ممن روى ذلك: الإمام المنصور بالله، وابن عبد البر؛ وسيأتي ـ إن شاء الله ـ في ترجمته؛ والأعمال بخواتهما، وإلى الله ترجع الأمور.
وأخرج الطبراني في الكبير، عن ابن عمر قوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((ألا أرضيك ياعلي؟ أنت أخي ووزيري، تقضي ديني، وتنجز موعدي، وتبريء ذمتي؛ فمن أحبك في حياة مني، فقد قضى نحبه؛ ومن أحبك في حياة منك بعدي، فقد ختم الله له بالأمن والإيمان، وآمنه يوم الفزع؛ ومن مات وهو يبغضك يا علي مات ميتة جاهلية، يحاسبه الله بما عمل في الإسلام)).
فهذه لمحة من بارق.
[كلام الإمام شرف الدين في الصحابة والعترة]
ولنعد إلى تمام كلام الإمام يحيى شرف الدين.
قال (ع): وغير هذا مما يوافق معناه، بما يكون بعده في حقه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وحق أهل البيت، من انحراف أمته عنهم، وغمط حقه فيهم؛ بل حق الله ـ تعالى ـ عليهم، له ولهم، بوجوه كثيرة، منها: ما سنذكره في هذا الشرح، ومنها: ما لم نذكره، مما يلزم عن ذلك ملل الإسهاب، ومتعسر الإطناب.
فمما نذكره هنا: أنك قد عرفت أن أبا بكر لما وقع في أول خلافته خلاف /588

(2/588)


العرب، وكانوا على ثلاثة أصناف ـ كما ذكره أهل الحديث ـ منهم: من ارتد عن الإسلام.
ومنهم: من منع الزكاة، وهم صنفان:
أحدهما: من اعتقد سقوط وجوب الزكاة بعده ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
والآخر: من لم يعتقد سقوط الوجوب.
قال الإمام محمد: فقال أبو بكر: والله، لا أفرق بين الصلاة والزكاة.
وحديث الثلاث الفرق مشهور.
وأما حديث عمار ـ رضي الله عنه ـ، فمتواتر عند الجميع من موالف ومخالف.
وقيل: امتنعوا من تسليمها، إلا إلى من يفيد النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ولايته يوم الغدير؛ والله أعلم.
قال الإمام شرف الدين (ع): وهذان الصنفان لم يخرجوا من الإسلام؛ لقرب عهدهم به، وتأولهم فيما خالفوا من قواعده.
وحين أوجب وألزم أبو بكر قتالهم وحربهم اعترض عليه من الصحابة من اعترض بحديث: ((أمرت أن أقاتل الناس... إلخ)).
وأجاب أبو بكر: أن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قال في آخر الحديث: ((إلا بحقها))، ومن حقها سائر واجبات الإسلام، التي منها: الولاية، والحقوق، ونحوها إلى الإمام؛ وقال: والله لو منعوني...إلخ؛ فأذعن له كل الصحابة والمسلمين، وقاتلوا أولئك الأصناف أجمعين؛ ولم يختلفوا في ذلك الإلزام، ولا فصلوا بين التصريح والتأويل، والتكفير والتضليل، في معصية الإمام.
ولما أفضى الأمر إلى أمير المؤمنين (ع)، وظهر تصديق النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ مما جاء من خبر الغيب، 589

(2/589)


عن الملك العلام، من قوله: ((إنك يا علي ستقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين))، وغير ذلك من أخبار الغيوب، التي ظهرت على يد أمير المؤمنين، من نحو: قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لعمار: ((ستقتلك الفئة الباغية))، وغيرها من الآيات العظام، مال كثير عن علي (ع)، منهم: من نكث البيعة بعد لزومها، ومنهم: من زاد إلى ذلك المروق من أحكام الشريعة، ومنهم: من قسط وبغى، وأفرط في تقحمه على حدود الملة المحمدية، ومخالفته لهديها وعلومها، ومنهم: من تأخر، ومنهم: من تثبط وثبط في القيام مع الإمام (ع) في قتال الفئات المذكورة، وإجراء أحكام الله عليها، التي بينها في سنة نبيه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وعمومها، وجرى على ذلك أكثر الأمة إلى قيام الساعة وهجومها، مع كون الأحكام في حق علي أظهر، والبراهين في شأن عدوان المحاربين له أبين وأشهر؛ والتزموا من أجل ذلك لوازم، كانت قواعد لكل ضلالة إلى انتهاء الدنيا، مثل: تعديل الفساق والمنافقين، والبغاة والناكثين، وإيجاب طاعة الفجار المتغلبين...إلخ.
قال: فهذا أول ما نذكره من تصديق الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ من إخباره، فيما يجري من أكثر أمته، من الجفاء والعقوق، وغمط اللوازم والحقوق، في حق خليفته ووصيه، وأهل بيته وذريته، الذين هم حجة الله ـ سبحانه ـ على خلقه؛ وهم الأمة الوسطى، وهم الجماعة المأمور بملازمتهم ومن اتبعهم وعرف حقّهم؛ وهم سفينة النجاة، وقرناء كتاب الله العزيز إلى يوم القيامة، وهم باب حطّة الذي لا يؤمن مَنْ تخطّاه.
وقد عرفت حيفهم وميلهم عن أمير المؤمنين؛ للشبهة المرخصة في نكث بيعته، والخروج عن طاعته، والمفارقة لجماعته؛ ولم يلتفتوا إلى شيء من ذلك في حق من تقدمه من /590

(2/590)


الخلفاء السابقين؛ بل سمعوا وأطاعوا، وقاتلوا وقتلوا أهل القبلة، وأهل لا إله إلا الله، وغيرهم ممن خرج من أي طاعة.
مع أن الخلفاء السابقين على أمير المؤمنين، لم يكن لهم من العلم والفضل والبيان لأحكام الله في فرق المخالفين والمحاربين، ما كان لأمير المؤمنين (ع) من ذلك؛ فإنه بين أحكام المحاربين وأنواعهم، ففرق بين الكفار والبغاة، وبين من له شوكة وفئة، ومن لم يكن، وبين من أخطأ بمجرد التقدم عليه مع مراعاة أحكام الشريعة، وبين من تعدى حدودها في خاصة نفسه، وعامة الإسلام والمسلمين، وبين من وقف على الطاعة، ومن أحرب وشق العصا؛ وغير ذلك، مما لو لم يكن بيان أمير المؤمنين فيه، كان مجهولاً في الإسلام، ومطموساً في شريعة الملك العلام،....إلى آخر كلامه (ع).
ثم ساق، حتى قال: فحين وقعت هذه الهفوة، أوجبت البعد من أهلها عن أهل البيت النبوي والجفوة، فنشأت من ذلك المفاسد، ولزوم الخلافات في المرادات والمقاصد؛ وكان أول الأمر أهون بتولي أبي بكر وعمر وأوائل خلافة عثمان، ومعرفة أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ بمراعاتهم لقواعد الشريعة المطهرة، وإن أخطؤا في التقدم عليه وجفوته، وجفوة سيدة نساء العالمين، بإجماع المسلمين، إلا من لا اعتداد به من العالمين، في عقوق أهل بيت النبي الأمين صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم.
ورأى أمير المؤمنين السكوت لدفع الأعظم فتنة في الدين، وإن علم بلزوم مفاسد إلى يوم الدين.
ومن هنا حصلت العداوة والبغضاء، حتى جعلت عوضاً من المودة، التي أمر الله بها، وأنها أجر النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ على تبليغ الرسالة.
ثم ساق كلاماً شافياً؛ انتهى المراد. /591

(2/591)


[بحث في الإمامة]
قال في الفرائد: فتقرر أن الإمامة هي عهد الله وأمانته، وأنها لإبراهيم، ثم ذريته الصالحين منهم، فلا ينال العهد من كان ظالماً؛ لهذا النص الذي لا يقبل فيه تأويل من ينبو قلبه عنه، ويتجاسر على تحريفه بالعناد، وإخراجه عن معناه الظاهر إلى غير المراد؛ ثم بإجماع المسلمين أنها انحصرت على رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وقد دلّ القرآن عليه: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا } [آل عمران:63]، مع قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [الأحزاب:6]، والأولوية مطلقة، فتصدق في كل شيء؛ ثم قوله تعالى في غير ما آية: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } [الأحزاب:6].
وذلك سنة الله في أنبيائه (ع) في إتباع أهليهم بهم، وتقديمهم على غيرهم؛ ولن تجد لسنة الله تبديلاً؛ ويكفي قوله: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29)} [طه]، قال: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } [القصص:35].
وقد جاء عن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لعلي (ع) مثل هذا في أحاديث، وحديث المنزلة المعلوم عند الأمة: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه ليس بعدي نبي)) بألفاظه؛ وهي كثيرة.
وقد أقرّ الخصوم لعلي بالوزارة الخاصة بهذا الحديث والخلافة، مع ملاوذة منهم، وتمعذر معلوم بطلانه، وقد تقدم مع أحاديث صريحة في الوزارة كثيرة، متواتر معناها، وحديث الغدير، الذي قطع الخصوم بوقوعه.
وهو الحديث اليقين الكون قد قَطَعَتْ .... بكونه فرقةٌ كانت توهّيهِ
مثل: الذهبي، مع شدة شكيمته، ومنهم: المقبلي مع تعنته، فقال: لا أوضح منه دلالة ورواية، وإنه إذا لم يكن معلوماً فما في الدنيا معلوم، وإن الأولوية فيه صادقة في كل شيء، كما /592

(2/592)


هي في أخيه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
وقرر المقدمة في قوله: ((ألست أولى بكم من أنفسكم؟))، قالوا: بلى، قال: ((فمن كنت مولاه فعلي مولاه؛ اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله))، بألفاظه وسياقاته؛ وهذا بعد أن أخبرهم وعزَّاهم في نفسه، واستشهدهم على البلاغ وقررهم عليه، وعرس بهم في غير وقته، في شدة الحر؛ مع ما فيه من القرائن العقلية والحسية واللفظية والمعنوية؛ ثم شهد كبار الصحابة بذلك، وهنّؤوه بما ناله، وقِيلت الأشعار فيه من شعرائهم.
ونظير حديث الولاية آية الولاية: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا } [المائدة:55]، سواء سواء، مع ما قدمنا أن كل لفظ أو معنى يستعمل في الرئاسة، فقد ورد لعلي (ع) أحاديث، مثل: الوصية، والخلافة، والإمامة، وإمرة المؤمنين، وسيدهم، ويعسوبهم، وغيرها، من رواية الجميع؛ وما أوردناه في العترة من الآيات والأخبار، مثل: حديث الثقلين والخليفتين، وهو من جملة حديث الغدير، كما حقّقه الحاكم في المستدرك وغيره، وفيه: إن التمسك بهما أمان من الضلال أبداً، وغير ذلك مما أفاد القطع في المراد.
ومن الأدلة أيضاً: إجماع الأمة على جوازها فيهم، وكفاية القائم بالمقصود منه؛ لأن من يقول: إنها في جميع الناس، فهم ساداتهم وأطهرهم، ومن يقول: إنها في قريش، فهم خيرتهم بالنص، وساداتهم بالنصوص، بخلاف من عداهم؛ فالحق ما أجمعت عليه الأمة.
قلت: هذا الاستدلال بالإجماع غير كاف في الحصر، إلا مع انضمام مقدمة أخرى، وهي أن الإمامة مشتملة على ما لا يجوز تناوله إلا بدلالة قطعية؛ فلا بد في بيان منصبها من دلالة معلومة شرعية، والإجماع دليل على صحتها فيهم، ولا دليل على صحتها في غيرهم، مع عدم الاعتداد بقول الإمامية، وأهل الإرث من العباسية؛ لما علم من بطلانه.
وهذا الاستدلال /593

(2/593)


بإجماع الأمة، وفيه ما فيه؛ لإمكان أن يُقال: شرعيّة الإمامة تكفي في صحتها في كل الأمة؛ فالأولى العدول إلى غيره من الأدلة التي تقدّمت، وأقواها خبر الثقلين ونحوه، وخبر ((الأئمة من قريش)).
وأما إجماع العترة(ع)، فلا كلام؛ مع أن النصوص في بيان المنصب معلومة.
قال الإمام (ع): أما الكلام على الخوارج، فهم كلاب النار، وشر الخلق والخليقة، المارقون؛ فأنى يعتد بخلافهم؟!.
وأما دعوى الإرث، فقريبة الميلاد، ولا دليل لهم؛ مع أن الإرث فيه نزاع كبير؛ وأيضاً فإنه ينقض عليهم إمامة المشائخ.
وأما الإمامية، فلا دليل، مع كونه مما تعم به البلوى؛ ولأن الصحابة تنازعوا يوم السقيفة، بما لا يجهله أحد، ثم سلمت الأنصار وغيرهم لقريش، وجرى ما جرى على أمير المؤمنين ومتابعيه.
وبهذا التقرير يعلم أن منصب الإمامة التي هي خلافة النبوة، وهي عهد الله وأمانته، من جنس قريش، إنما هي لآل النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ عترته الذين طهرهم الله تطهيراً، وجعلهم بالتشبيه كسفينة نوح، وباب حطة، وكان بهم بصيرا، ولهم نصيراً.
[بحث في خبر: ((لايزال هذا الأمر في قريش))]
هذا، وقد اختبط أهل الحديث في معنى قوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان)).
قلت: أخرجه البخاري ومسلم.
قال: من حيث أن الأمر لم يبق فيه أحد من قريش، /594

(2/594)


وعموا عَمَّا ملأ الأرض من أنوار العترة المرضية، والسلالة المصطفوية، من قيام قائمهم في كل بلاد، ولا سيما في الحجاز والعراق، واليمن وجيلان وديلمان، ظاهراً في أغوارها والأنجاد، مجدداً للشريعة بالسيوف الحداد؛ فما يمر عصر من العصور، إلا وقائمهم يدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - ظاهراً غير مستور، فتلزم إجابته كل خلق الله، وتظهر حجته على جميع عباد الله؛ فماذا علينا إذا تصامم من نسميهم بالخوارج، وتعمَّى عن أنوارهم من هو في الحقيقة عن الدين خارج؟ فما أنت بمسمع من في القبور؛ حتى ألجأتهم الضرورة إلى ما تنبه له ابن حجر.
قلت: أي العسقلاني في الفتح شرح البخاري، قال ما لفظه: فإن بالبلاد اليمنية ـ وهي النجود منها ـ طائفة من ذرية الحسن بن علي، لم تزل مملكة تلك البلاد معهم، من أواخر المائة الثالثة ـ وهو عهد الإمام الهادي إلى الحق ـ.
...إلى قوله: فبقي الأمر في قريش بقطر من الأقطار في الجملة، وكبير أولئك ـ أي أهل اليمن ـ يقال له: الإمام؛ ولا يتولى الإمامة فيهم، إلا من يكون عالماً متحرياً للعدل، انتهى.
وقد أوردته بلفظه، وليس في الفرائد كذلك.
قال إمام الأئمة، وفاتح باب الجنة، الإمام زيد بن علي (ع) ـ وقد كَسّل عليه بعض من عنده ـ: إنما أريد إقامة الحجة على هذه الأمة، ولو يوماً واحداً؛ لئلا يقولوا يوم القيامة: لم يأتنا أحد منهم.
وروى حديثاً في ذلك، هذا معنى كلامه؛ رواه في مناقب محمد بن سليمان الكوفي ـ رحمه الله ـ.
وحديث: ((لا يزال هذا الأمر... إلخ)) نظير الحديث الآخر: ((لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله، وهم ظاهرون على الناس))، أخرجه البخاري ومسلم.
وفي بعض رواياته: ((يقاتلون على الحق... إلخ))، وفي بعضها: ((قوّامة على أمر الله))، وفي بعضها: ((يقاتلون عن هذا الدين، حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال))، الحديث بألفاظه وسياقاته.
فالإشارة التي في حديث قريش، والتي /595

(2/595)


في أحاديث الطائفة والأوصاف، وقوله: ((قائمة بأمر الله))، وقوله: ((على الحق))، و((قوامة على أمر الله))، إنما هي إلى دينه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وأمره، الذي جاء به من عند الله - سبحانه - والصفات كذلك، لا إلى من هو يخالفه؛ ولا يجوز صرف تلك الأحاديث النبوية، إلى ما عليه الظلمة الفجار، والجورة الأشرار.
وانظر إلى قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وقد سُئل عن الجماعة ما هي؟ فقال: ((ما أنا عليه وأصحابي اليوم))؛ فقيدها - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - باليوم ـ يعني حياته صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ما ذاك إلا لأمر عظيم، أعلمه به الخبير العليم، من اختلاف الصحابة، كما في الحديث المتفقة عليه الأمة، المتواتر، القطعي لفظاً، من ردّ بعضهم عن الحوض، وسوقهم إلى النار، وأخذهم إلى ذات الشمال، وأنّهم غيّروا وبدّلوا، وجوابه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ عليهم: ((سحقاً سحقاً))؛ وقد تَصَلَّف مَنْ أَوَّلَ الحديث هذا بالمرتدين عن جملة الإسلام.
قلت: وتأويله ذلك لا يفيده شيئاً فيما يروم، كما هو معلوم.
قال: وقد كشف الله الحقيقة برواياتهم مثل لفظ: ((أصحابي أصحابي))، و((أصيحابي أصيحابي))، و((منكم))، و((من عرفني))، وغير ذلك، حتى روى البخاري أنه لا يخلص منهم إلا مثل همل النعم.
[أحاديث كون المجددين من العترة، ومخرجوها]
هذا، وحديث المجددين في رأس المائة السنة معروف عند الكل، ولهذا تَصْرِفُه كل فرقة إلى كبارها، وتعاموا أن التجديد إنما يقع ممن بهم فُتح وبهم خُتم، مع ما قد روي من طريق أحمد بن حنبل، وذكره السيوطي وغيرهما أن في حديث المجددين زيادة: ((من أهل بيتي)). /596

(2/596)


وكما في حديث: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله... إلخ))، وجاء من طريقهم أيضاً زيادة: ((من أهل بيتي))، ولفظه: ((في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي، ينفون عن هذا الدين تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين؛ ألا وإن أئمتكم وفدكم إلى الله، فانظروا من تفدون))...إلخ.
قال الإمام شرف الدين: روى هذا الحديث أحمد بن حنبل، والحاكم في المستدرك، وغيرهما ممن ذكره في مجمع الزوائد، ورواه الملا في سيرته بلفظه.
قلت: وقد تقدم.
قال: وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((إن عند كل بدعة يكاد بها الإسلام ولياً من أهل بيتي موكلاً، يعلن الحق وينوره، ويرد كيد الكائدين، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وتوكلوا على الله))، رواه الإمام أبو طالب (ع)؛ وقد تقدم.
قال: وقد ذكر شارح عقيدة المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم شطراً صالحاً من الأحاديث من كتب المحدثين؛ حتى قال: قال الزِّيلي الشافعي ـ رحمه الله ـ: وفي أحاديث التمسك بأهل البيت(ع) إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم بالتمسك به إلى يوم القيامة، كما أن الكتاب العزيز كذلك؛ ولذا كانوا أماناً لأهل الأرض كما تقدم، وشهد لذلك الخبر الوارد: ((في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي... إلخ)).
وساق كلاماً جيداً، ثم قال: ومن ذلك: حديث المهدي المنتظر، وأنه من أهل البيت (ع)، وذلك ما لا كلام فيه، ولا خلاف لأحد يعوّل عليه.
ومن ذلك: حديث المجددين من أهل البيت (ع)؛ فإن ذلك دليل كون بهم العصمة في كل وقت.
ذكر ذلك الشيخ جلال الدين الأسيوطي في كتابه مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود، في شرح أول حديث من كتاب الملاحم، ما لفظه:
وأخرج أبو إسماعيل من طريق حميد بن زنجويه، قال: سمعت أحمد بن حنبل /597

(2/597)


يقول: يروى في الحديث عن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((إن الله يمنّ على أهل دينه في رأس كل مائة سنة برجل من أهل بيتي، يبين لهم دينهم)).
...إلى قوله: وملاك هذا اقترانهم بالقرآن، وأنهم الأمان؛ فمن يكون الأحق بتجديد شريعة أبيهم، والقيام عليها، ورد أحوال من يحرفها، أو ينتحل خلافها؛ ولقد كانوا (ع) كذلك، والحمد لله رب العالمين.
إذا عرفت هذا، ظهر لك ـ إن كنت من المنصفين ـ صحة قول الإمام:
فنحن طائفة الحق التي وردت .... فيها الأحاديث مما الكل يرويهِ
وأنهم (ع) هم المستخلفون، والمخلّفون لهذا المقام، إلى يوم الزحام، وأنهم الخزنة والأبواب، والحفاظ للكتاب؛ أولهم من أُمِر بقتال الناكثين، والقاسطين والمارقين، المقاتل على تأويل القرآن، كما قاتل أخوه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ على تنزيله، الوارد فيه ما أفاد القطع، بأنه مع الحق والقرآن؛ ثم تلاه أولاده نجوم الظلام، ورجوم الضلال، حتى يختم بمهديهم لقتال الدجال؛ فأنى يؤفك الآفكون!.
[كلام السيد محمد بن إبراهيم الوزير في آل محمد (ع)]
ثم ذكر كلام السيد الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير.
وأنا آتي به من محله فهو أتم:
قال في العواصم: وآله الذين أمر بمحبتهم، واختصهم للمباهلة بهم، وتلا آية التطهير بسببهم، وبشر محبيهم بالكون معه في درجته يوم القيامة، وأنذر محاربيهم بالحرب، وبشر مسالميهم بالسلامة، وشرع الصلاة عليهم معه في كل صلاة، وقرنهم في حديث الثقلين بكتاب الله، فوصى فيهم، وأكد الوصاة بقوله: ((الله الله))، أخرجه مسلم فيما رواه، وزاد الترمذي: ((وبشراه بشراه لذي قرباه، إنهما لن يفترقا حتى يلقياه)).
ولما أَهَبَّ الله ـ سبحانه ـ لهم أرواح الذكر المحمود، في جميع الوجود، بذكرهم في الصلاة الإلهية، ومع الصلوات النبوية، /598

(2/598)


فلازم ذكرهم الصلوات الخمس، والصلوات على خير من طلعت عليه الشمس، كان ذلك إعلاماً ممن له الخلق والأمر، وإعلاناً ممن لا يقدر لجلاله قدر، أنه أراد أن يهبّ ذكرهم مَهَبَّ الجنوب والقبول، وألا ينسى فيهم عظيم حق الرسول؛ لا سيما وقد سبق في علم الله أن الأشراف لا يزالون محسَّدين، وأن الاختلاف والمعاداة فتنة هذه الأمة إلى يوم الدين.
وكذلك؛ فإنه لما علم ما سيكون من استحلال حرمتهم العظيمة، وسفك دمائهم الكريمة، آذن بأنه حرب لمن حاربهم، وقرنهم بالكتاب المجيد، ووصى بهم من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
انتهى والله هو الولي الحميد. /599

(2/599)


الفصل العاشر في البرهان القاطع على تعيين أهل السنة والجماعة، وبيان أهل البدعة والفرقة
اعلم أنه عَظُم الخطب، وعمّ الخبط، وكثُرت المنازعة، في هذه الأسماء الأربعة، وصارت كل فرقة تدعي لها محمودها، وتنفي عنها مذمومها، وترمي بها خصومها؛ والحق ما صحّ دليلُه، واتضح سبيلُه.
وقد سبق من أدلة الكتاب المبين، وسنة الرسول الأمين ـ صلى الله عليه وآله المطهرين ـ ما فيه بلاغ لقوم عابدين.
[البرهان على تعيين أهل السنة والجماعة والبدعة والفرقة]
وقد أبان المراد بأبلغ البيان، وأقام عليه أقوم البرهان، بابُ مدينة علم أخيه، المبينُ للأمة ما يختلفون فيه.
من ذلك ما أخرجه الإمام الناطق بالحق أبو طالب (ع) بسنده في أماليه، قال: سأل ابن الكواء أمير المؤمنين (ع) عن السنة والبدعة، وعن الجماعة والفرقة.
فقال (ع): يابن الكواء، حفظت المسألة فافهم الجواب: السنة ـ والله ـ سنة محمد ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، والبدعة ـ والله ـ ما خالفها، والجماعة ـ والله ـ أهل الحق وإن قلّوا، والفرقة ـ والله ـ متابعة أهل الباطل وإن كثروا.
وأخرج السيوطي في جمع الجوامع في مسند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ صلوات الله عليه ـ؛ قال: أخرجه وكيع، من رواية الإمام المظلوم، النفس التقية، يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن (ع)، ولفظه: عن يحيى بن عبدالله بن الحسن، عن أبيه، قال: كان علي يخطب، فقام إليه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني من أهل الجماعة؟ ومن أهل الفرقة؟ ومن أهل السنة؟ ومن أهل البدعة؟
فقال: ويحك! أما إذا /603

(2/603)


سألتني فافهم عني، ولا عليك ألا تسأل عنها أحداً بعدي؛ فأما أهل الجماعة، فأنا ومن اتبعني وإن قلوا، وذلك الحق عن أمر الله وأمر رسوله؛ وأما أهل الفرقة، فالمخالفون لي ولمن اتبعني، وإن كثروا؛ وأما أهل السنة فالمستمسكون بما سنّه الله ورسوله، وإن قلّوا؛ وأما أهل البدعة، فالمخالفون لأمر الله ولكتابه ولرسوله، العاملون برأيهم وأهوائهم، وإن كثروا؛ وقد مضى منهم الفوج الأول، وبقيت أفواج، وعلى الله قصمها عن حدبة الأرض.
[سيرة علي(ع) في البغاة]
فقام إليه عمار، فقال: يا أمير المؤمنين إن الناس يذكرون الفيء، ويزعمون أن من قاتلنا فهو وماله وأهله فيء لنا، وولده.
فقام إليه رجل من بكر بن وائل يدعى عباد بن قيس ـ وكان ذا عارضة ولسان شديد ـ فقال: والله يا أمير المؤمنين، ما قسمت بالسوية ولا عدلت.
وساق إلى قوله: فقال علي (ع): إن كنت كاذباً فلا أماتك الله حتى تلقى غلام ثقيف.
فقال رجل من القوم: ومن غلام ثقيف يا أمير المؤمنين؟
فقال: رجل لا يدع لله حرمة إلا انتهكها.
قال: فيموت أو يقتل؟
قال: بل يقصمه قاصم الجبارين قبله، بموت فاحش يحرق منه دبره؛ لكثرة ما يجري من بطنه؛ يا أخا بكر، أنت امرؤ ضعيف الرأي؛ أو ما علمتَ أنا لا نأخذ الصغير بذنب الكبير، وأن الأموال كانت لهم قبل الفرقة، وتزوجوا على رشدة، وولدوا على الفطرة؟! وإنما لكم ما حوى عسكرهم، وما كان في دورهم فهو لهم ميراث؛ وإن عدى علينا أحد منهم، أخذناه بذنبه، وإن كف عنا، لم نحمل عليه ذنب غيره.
..إلى قوله ـ صلوات الله عليه ـ: يا أخا بكر، أما علمت أن دار الحرب يحل ما فيها، وأن دار الهجرة يحرم ما فيها إلا بحق؟ فمهلاً مهلاً.
..إلى قوله:
فقام عمار، فقال: يا أيها الناس، إنكم ـ والله ـ إن اتبعتموه وأطعتموه، لم يضلّ بكم عن /604

(2/604)


منهاجٍ قيْسَ شَعَرةٍ، وكيف يكون ذلك، وقد استودعه رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ المنايا والوصايا وفصل الخطاب، على منهاج هارون بن عمران، إذْ قال له رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي)) فضلاً خصه الله به، وإكراماً منه لنبيه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ حيث أعطاه ما لم يعط أحداً من خلقه.
ثم قال علي: انظروا ـ رحمكم الله ـ ما تؤمرون فامضوا له، فإن العالم أعلم بما يأتي به من الجاهل الخسيس الأخس؛ فإني حاملكم ـ إن شاء الله ـ إن أطعتموني على سبيل الجنة، وإن كانت ذا مشقة شديدة، ومرارة عتيدة، والدنيا حلوة، والحلاوة ـ لمن اغتر بها ـ من الشقوة والندامة عما قليل؛ ثم إني مخبركم أن جيلاً من بني إسرائيل أمرهم نبيهم ألاّ يشربوا من النهر، فلجوا في ترك أمره، فشربوا منه إلا قليلاً منهم؛ فكونوا ـ رحمكم الله ـ من أولئك الذين أطاعوا ربهم، ولم يعصوا ربهم.
وأما عائشة فأدركها رأي النساء، وشيء كان في نفسها عليَّ، يغلي في جوفها كالمرجل، ولو دُعِيَتْ لتنال من غيري ما أتت إليّ لم تفعل؛ ولها بعد ذلك حرمتها الأولى، والحساب على الله.
..إلى آخر كلامه ـ صلوات الله عليه ـ.
وقد ساق السيد الإمام علي بن عبدالله بن القاسم في الدلائل رواية الأسيوطي...إلى قوله: (من حدبة الأرض).
قال: فهذه رواية أهل الحديث لها.
وأما رواية الشيعة لها، فما أخرجه الحجوري في روضته، بإسناده إلى معاذ البصري، من طريق العبدي، عن أبيه، عن جده، أن علياً لما فرغ من أهل الجمل، نادى بالصلاة جامعة.
ثم ساق الحديث إلى أن قال: وصلى بالناس في المسجد الأعظم.
وساق لفظ الخطبة، من جملتها الحديث الذي رواه الأسيوطي عن الإمام يحيى بن عبدالله بلفظه. انتهى.
[الزيغ والضلال في تحريف مسمى السنة والبدعة]
ومما ورد من النصوص، بلفظ السنة والجماعة على الخصوص، الخبر الطويل الذي أخرجه أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخرجه الإمام المنصور بالله(ع) في /605

(2/605)


الشافي، وصاحب الكشاف عند تفسير قوله ـ جل وعلا ـ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } [الشورى:23]، والرازي في مفاتيح الغيب، وفيه: ((ألا من مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة))، ونحوه في إشراق الإصباح.
وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من أحب حسناً وحسيناً وأباهما وأمهما كان معي في الجنة، ومات متبعاً للسنة))، أخرجه أبو داود.
وفي معناها أخبار لا حاجة لاستقصائها؛ والحق أوضح من فلق النهار، لأولي الأبصار.
وإن من أبين البدعة، وأوضح الفرقة، ابتداع البدعة، واتباع الفرقة، وتسمية ذلك سنة وجماعة، ولزوماً للطاعة؛ وبالله عليك إن كنت ممن يؤمن بالله ورسوله، ويحكم كتاب الله، وسنة نبيه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ هل تستقيم دعوى من يدعي اتباع السنة النبوية، مع رفضهم للعترة المحمدية، الموصى بهم في الأخبار المتواترة الضرورية، المطهرين من الرجس بنص الكتاب، المسؤولة مودتهم على جميع ذوي الألباب؟
فما يكون الجواب على الله ورسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يوم العرض والحساب؟
وكيف يكون الحال وأئمة تلك السنة ـ المركون إليها ـ الدعاة إلى النار، كما صح في متواتر الأخبار؟
وهب أن هؤلاء الأغمار، خفي عليهم ذلك الأصل المنهار، المؤسس على شفا جُرف هار؛ فأيّ عذر لهم في الائتمام بالفجار، والمحامات عن أعداء الله، وأعداء رسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، والتولي والترضي عن أولئك الطغاة البغاة الأشرار، والنصب والرفض لنجوم آل محمد الأطهار، والسب والبغض لأولياء العترة الأبرار؟
ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعاً، وأن الله شديد العذاب؛ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب، وقال الذين اتبعوا: لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا؛ كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات /606

(2/606)


عليهم، وما هم بخارجين من النار.
فتلك سنتهم ـ على زعمهم ـ التي ابتدعوها، وجماعتهم التي اتبعوها، وهي سنة المضلين، وجماعة الظالمين، المخالفة لكتاب رب العالمين، وسنة سيد المرسلين ـ عليهم الصلاة والسلام ـ، والمفارقة لجماعة وصيه إمام المتقين، وأهل بيته قرناء الذكر المبين (ع)، ولصحابة الرسول السابقين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ.
ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين، نولّه ما تولى ونصله جهنم، وساءت مصيراً؛ وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض، والله ولي المتقين؛ ولتعلمنّ نبأه بعد حين، ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون؛ قل رب أحكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون.
[الكلام على جعلهم السنة مكان العترة]
ومن أعجب الزيغ والخذلان، وأغرب الضلال والبطلان، زعم بعض أهل النصب والرين، المعارَضَةَ لأخبار الثقلين، المعلومة عند الفريقين، بحديث آحادي، مما رووه عن /607

(2/607)


أبي هريرة وغيره، جعل فيه السنة مكان العترة، ولم يروه أحد من أهل صحاحهم.
ونقول: على فرض ثبوته، لا معارضة ولا منافاة، ولا سبيل إلى التفرقة بين حجج الله؛ فكتاب الله وسنة رسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ مؤداهما واحد، وبعضهما على بعض شاهد، والأمر بلزوم أحدهما أمر بلزوم الآخر، والدلالة على التمسك بالسنة النبوية، لا يوجب اطراح فرض التمسك بالعترة المحمدية، بل يوجب التمسك بهم؛ إذ هو نص السنة المعلومة، المجمع عليها بين البرية؛ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟
وقد ورد في رواية آل محمد ـ صلوات الله عليهم ـ جمع الكتاب والسنة والعترة، وهو من آخر ما عهد رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في مرضه، ولفظه: ((يا أيها الناس، إني خلفت فيكم كتاب الله وسنتي وعترتي، فالمضيع لكتاب الله كالمضيع لسنتي، والمضيع لسنتي كالمضيع لعترتي؛ أما إن ذلك لن يفترق حتى ألقاه على الحوض))، رواه الإمام الناطق بالحق أبو طالب بسنده إلى الإمام الأعظم زيد بن علي، بسند آبائه ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ وقد سبق في سند المجموع الشريف.
وفي إتيانه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بعكس التشبيه، ما لا يخفى من المبالغة البليغة والتنبيه؛ فيا سبحان الله! كيف يعدل المدعون للسنة إلى المعارضة بحديث آحادي لا معارضة فيه، ولم يروه أحد من أهل معتمداتهم الستة، وإنما رواه مالك بلاغاً، ولا حجة عندهم في مرسل، وأورده الحاكم؟!
وقد أخرج خبر التمسك بالكتاب والعترة من ثلاث طرق، قال: في كل واحدة: صحيح على شرط الشيخين، وإنما استدركها لعدم إخراج البخاري ومسلم لها من تلك الطرق خاصة.
وإلا فقد أخرج خبر التمسك بالكتاب والعترة طوائفُ الأمة كما قدمنا في الفصل الأول، فكيف يزعمون وهم يدعون الإسلام المعارضة لما أنزل الله في محكم كتابه؟ وأكده على لسان رسوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - في الآيات المتكاثرة، والأخبار المتواترة، كآيات الولاية، والمودة، والأمر بالطاعة، والتطهير، /608

(2/608)


والمباهلة، والاصطفاء، والاجتباء، والإطعام، والخمس، والسؤال، والصادقين، والترحم، والاعتصام، والإنذار، والسلام، وأخبار كل منها، وأخبار الكساء، والخميصة، والرداء، والتمسك، والخليفتين، والثقلين، الذي كرره الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في مقام بعد مقام، رواه أكثر من عشرين صحابياً، وخرج كما سبق في دواوين الإسلام، وفيه: ((إني تارك فيكم، ومخلّف فيكم)) وفيه: ((فانظروا كيف تخلفوني فيهما))، وفيه: ((إني سائلكم حين تردون عليَّ الحوض عن الثقلين)) وفيه: ((فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي)) ثلاثاً.
وقد روى لفظ: ((أذكركم الله في أهل بيتي)) في هذا الخبر الشريف من العامة: أحمد، ومسلم، والنسائي، وعبد بن حميد، والحاكم، والدارمي، وابن خزيمة، وابن حبّان، وفيه: ((فلا تقدّموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم)).
ومن مقاماته: ما قاله ـ صلوات الله عليه وآله وسلامه ـ في مرض وفاته، وقد خرج فصلى بالناس، ثم قام يريد المنبر، وعلي والفضل بن العباس قد احتضناه حتى جلس على المنبر، فخطبهم، واستغفر للشهداء، ثم أوصى بالأنصار، وقال: ((إنهم لا يرتدون عن منهاجنا؛ ولا آمنُ منكم يا معشر المهاجرين))، ثم رفع صوته حتى سمع من في المسجد ووراءه يقول: ((يا أيها الناس، سُعّرت النار، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم؛ إنكم والله لا تتعلقون علي غداً بشيء؛ ألا وإني قد تركت فيكم الثقلين، فمن اعتصم بهما، فقد نجى، ومن خالفهما هلك وهوى، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله طرف بيد الله وطرف بأيديكم، وعترتي أهل بيتي، فتمسكوا بهما لا تضلوا ولا تذلوا أبداً؛ فإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض؛ وإني سألت الله ذلك لهم فأعطانيه؛ ألا فلا تسبقوهم فتهلكوا، ولا تقصروا عنهم فتضلوا، ولا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم بالكتاب؛ أيها الناس، احفظوا قولي تنتفعوا به بعدي، وافهموا عني تنتعشوا؛ لئلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض؛ فإن أنتم /609

(2/609)


فعلتم ذلك، ولتفعلنّ، لتجدنّ من يضرب وجوهكم بالسيف))، ثمّ التفت عن يمينه، ثمّ قال: ((علي بن أبي طالب؛ ألا وإني قد تركته فيكم، ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت؟))، فقال الناس: نعم يا رسول الله ـ صلوات الله عليك ـ، فقال: ((اللهم اشهد))، ثم قال: ((ألا إنه سيرد علي الحوض منكم رجال فيدفعون عني، فأقول: يارب، أصحابي أصحابي؛ فيقول: يا محمد، إنهم أحدثوا بعدك، وغيروا سنتك؛ فأقول: سحقاً سحقاً)).
وفي يوم آخر: خرج رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يمشي بين علي والفضل، وقدماه تخطان بالأرض، وصلى بالناس، فلما سلم أمر علياً والفضل، وقال: ((ضعاني على المنبر))، فوضعاه على منبره، فسكت ساعة، ثم قال: ((يا أمة محمد؛ إن وصيّتي فيكم الثقلان: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، اعتصموا بهما تردوا على نبيكم حوضه؛ ألا ليذادن عني رجال منكم، فأقول: سحقاً سحقاً))، ثم أمر علياً والفضل أن يدخلاه منزله، وأمر بباب الحجرة ففتح، ودخل الناس عليه، ثم قال: ((ائتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعدي أبداً))، قال عمر بن الخطاب: إن رسول الله ليهجر.
إلى قوله: فسمع رسول الله هذا القول فغضب، ثم قال لهم: ((اخرجوا عني، وأستودعكم كتاب الله، وأهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما؟ وأنفذوا جيش أسامة؛ لا يتخلّف عن بعثه إلا عاص لله ولرسوله...الخبر بطوله))، رواه كامل أهل البيت عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي صلوات الله وسلامه عليهم.
فرسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يوصي أمته، وخصوصاً صحابته، في أهل بيته، ويستخلفهم فيهم، ويلزمهم التمسك بهم، ويؤكد عليهم كلّيّة التوكيد، ويشدد عليهم في ذلك غاية التشديد؛ وجاءت الحشوية، ومن سبقهم ولحقهم من مردت البرية، بمشاقّتهم، والرفض لطاعتهم، والنصب لجماعتهم، والعدواة لهم ولأهل ولايتهم، والولاية لأهل عدواتهم ولقتلتهم؛ ولم يكفهم ذلك حتى رموهم بدائهم، فسَمَّوا أهل بيت نبيهم أهل البدعة، وسموا أنفسهم أهل السنة، وجماعتهم الفرقة، وفرقتهم /610

(2/610)


الجماعة؛ فالحكم لله، والموعد القيامة؛ هنالك يخسر المبطلون.
ومما ورد في هذا المقام بخصوصه: ما أخرجه البزار عن فاطمة بنت علي (ع): سمعت رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في مرضه الذي قبض فيه يقول، وقد امتلأت الحجرة من أصحابه: ((أيها الناس، أوشك أن أقبض قبضاً سريعاً، فينطلق بي، وقد قدمت إليكم القول معذرة إليكم؛ ألا إني مخلف فيكم كتاب ربي عز وجل، وعترتي أهل بيتي))، ثم أخذ بيد علي فرفعها، فقال: ((هذا علي مع القرآن))، وقد تقدم خبر المجموع من رواية الإمام الأعظم، عن آبائه ـ صلوات الله عليهم ـ.
وما أخرجه الطبراني من خبر ابن عمر: آخر ما تكلم به النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((اخلفوني في أهل بيتي))، وأخبار باب حطة من دخله غفر له؛ وقد بدّل الذين ظلموا من أمتنا قولاً غير الذي قيل لهم، كما بدل الذين ظلموا من بني إسرائيل قولاً غير الذي قيل لهم؛ وأخبار سفينة نوح، وباب السلم المفتوح، وأخبار النجوم والأمان، وفيها من رواية العامة: ((النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لهم من الاختلاف، فإذا خالفتهم قبيلة اختلفوا فصاروا حزب إبليس))، أخرجه أحمد بن حنبل، والحاكم في المستدرك، وغيرهما، وقد سبق.
[أحاديث تحريم الجنة على من ظلم وآذى أهل البيت(ع)، وأجر من أحسن إليهم]
وقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وقاتلهم، وعلى المعين عليهم ومن سبّهم؛ أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلّمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم))، أخرجه الإمام علي الرضا في الصحيفة بسند آبائه(ع)، وأخرجه عنه الإمام أبو طالب (ع) في الأمالي من طريقه، وأخرجه ابن عساكر، وابن النجار عن علي (ع).
وأخرج الإمام المنصور بالله، بسنده إلى الثعلبي، بسنده إلى الإمام علي الرضا، بسند آبائه إلى علي (ع)، قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي، وآذاني في عترتي؛ ومن صنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها، فأنا أجازيه غداً إذا لقيني يوم القيامة)). وأخرجه الإمام علي الرضا في الصحيفة. /611

(2/611)


قال أيده الله في التخريج: وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من صنع إلى أحد من أهل بيتي معروفاً، فعجز عن مكافأته، كنت المكافئ له يوم القيامة))، أخرجه أبو سعيد عن علي؛ رواه المحب الطبري؛ انتهى من التفريج.
وروى نحوه في صحيفة علي بن موسى الرضا، وقال في تخريجها: أخرجه ابن عساكر عن علي (ع)، وأخرجه الخطيب، عن عثمان بن عفان، والترمذي، والنسائي، والنجاري عن أسامة. انتهى.
وقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((اشتد غضب الله وغضب رسوله على من أهرق دم ذريتي، أو آذاني في عترتي))، أخرجه الإمام علي الرضا بسند آبائه(ع).
وأخرج ابن المغازلي بلفظ: ((اشتد غضب الله وغضبي على من اهراق دمي، أو آذاني في عترتي)).
وأخرجه ابن النجار عن أبي سعيد، بلفظ: ((والله اشتد غضبه على من أراق دمي، أو آذاني في عترتي))، وأخرجه الديلمي عن أبي سعيد، بلفظ: ((اشتد غضب الله على من آذاني في عترتي)).
وأخرجه البزار عن ابن عمر؛ ذكره السيوطي في الجامع الصغير.
وأخرج الجعابي من الطالبيين: ((من آذى عترتي فعليه لعنة الله))، وأخرج أيضاً: ((من سبّ أهل بيتي، فإنما يريد الله والإسلام)).
وروى الأصبغ بن نباتة، عن علي (ع) مرفوعاً: ((من آذاني في أهل بيتي، فقد آذى الله، ومن أعان على أذاهم وركن إلى أعدائهم، فقد آذن بحرب من الله؛ ولا نصيب لهم في شفاعتي)).
وقد سبق في سند البساط ما أخرجه الناصر للحق بسنده إلى الباقر (ع)، قال: حدّثنا جابر بن عبدالله الأنصاري، قال: خطبنا رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، فقال: ((أيها الناس، من أبغضنا ـ أهل البيت ـ بعثه الله يوم القيامة يهودياً)).
قال: قلت: يارسول الله، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم؟
قال: ((وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم)).
وأخرجه الطبراني والعقيلي عن جابر بلفظ: ((من أبغضنا ـ أهل البيت ـ /612

(2/612)


حشره الله يوم القيامة يهودياً، وإن شهد أن لا إله إلا الله)).
[أحاديث وعيد من آذى علياً(ع)]
وفي مناقب ابن المغازلي بسنده إلى معاوية بن حيدة القشيري، قال: سمعت النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يقول: ((يا علي، لا تبالي، من مات وهو يبغضك مات يهودياً أو نصرانياً... الخبر)).
وقال ـ كثر الله فوائده ـ في تخريج الشافي: قال صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم: ((من آذى علياً فقد آذاني))، أخرجه أحمد، عن عمرو بن شاس الأسلمي، ورواه عنه ابن عبد البر في الاستيعاب، ورواه أبو يعلى، والبزار، وأحمد، والخوارزمي عن سعد بن أبي وقاص، وأخرجه الحاكم، وقال: صحيح.
ورواه الخوارزمي أيضاً عن عبدالله بن دينار الأسلمي، وابن المغازلي عن ابن عباس، وفيه: ((يا أيها الناس، من آذى علياً حشره الله يوم القيامة يهودياً أو نصرانياً)).
قلت: وصدره: ((يا أيها الناس، من آذى علياً فقد آذاني؛ إن علياً أولكم إيماناً، وأوفاكم بعهد الله، يا أيها الناس من آذى علياً بُعث يوم القيامة...الخبر)).
قال: وأخرج هذا الخبر أحمد في مسنده من عدة طرق بلفظ: ((بعث يوم القيامة... إلخ))، وكذا هو بلفظ: ((بعث يوم القيامة)) في مناقب ابن المغازلي.
وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ } [الأحزاب:57].
وأخرج الكنجي عن مصعب بن سعد بن مالك، عن أبيه سعد، قال: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من آذى علياً فقد آذاني)).
وأخرجه الحاكم عن عمرو بن شاس الأسلمي، وصححه هو والذهبي؛ ورواه محمد بن سليمان الكوفي بسنده عن عمرو بن شاس، وأخرجه البخاري في التاريخ.
وأخرجه أبو عمر النمري بزيادة: ((ومن آذاني فقد آذى الله)) عن عمرو بن شاس.
ومن حديث رواه الحاكم أبو القاسم عن علي، عنه صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم: ((من آذى شعرة منك، فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فعليه لعنة الله)).
وروى أيضاً عن أم سلمة عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، قال لعلي: ((من آذاك فقد آذاني))، [انتهى] من شواهده.
وحديث: ((فعليه لعنة الله)) رواه الحاكم في تنبيه الغافلين، والزرندي في الدرر عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي بلفظ: ((لعنة الله وملائكته ملأ السماء، وملأ /613

(2/613)


الأرض)) انتهى.
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من سبّك ـ يا علي ـ فقد سبّني، ومن سبّني فقد سبّ الله، ومن سبّ الله أدخله النار))، أخرجه في الشافي عن الإمام المرشد بالله يبلغ به ابن عباس.
قال ـ أيده الله تعالى ـ: وأخرج هذا الحديث محمد بن يوسف الكنجي ـ رحمه الله ـ بسنده إلى ابن عباس.
وقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من سبّ علياً فقد سبني))، أخرجه النسائي عن أم سلمة، وأخرجه الحاكم وصححه هو والذهبي، وأخرجه أحمد عن ابن عباس، وعن أم سلمة؛ وأبو عبدالله الخلاجي عن ابن عباس.
انتهى من الاعتصام.
وأخرجه الطبراني عن علي (ع)، وابن المغازلي بسنده إلى علي بن عبدالله بن عباس؛ وذكره المسعودي.
[أحاديث وعيد من أبغض العترة، ونحوها]
وأخرج أحمد في المناقب، وابن عدي، والديلمي عن أبي سعيد الخدري، عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أنه قال: ((من أبغض أهل البيت فهو منافق)).
وفي الخبر السابق من أمالي المرشد بالله، بسنده إلى الصادق، مرفوعاً: ((ومن أتاني ببغضهم أنزلته مع أهل النفاق)).
وروى ابن المغازلي، من طريق الإمام علي الرضا، قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((ويل لظالمي أهل بيتي؛ عذابهم مع المنافقين في الدرك الأسفل من النار)).
وروى محمد بن سليمان الكوفي بسنده إلى الباقر (ع) يرفعه إلى النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((لا يبغض أهل البيت إلا ثلاثة: رجل وضع على فراش أبيه لغير أبيه، ورجل جاءت به أمه وهي حائض، ورجل منافق)).
وأخرج معناه الإمام المرشد بالله وأبو الشيخ. /614

(2/614)


وروى أيضاً بسنده إلى زر بن حبيش، عن علي (ع)، أنه قال: قال النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((إنا أهل بيت لا يحبنا إلا مؤمن تقي، ولا يبغضنا إلا منافق رديء)).
وأخرج الملا أنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قال: ((لا يحبنا ـ أهل البيت ـ إلا مؤمن تقي، ولا يبغضنا إلا منافق شقي)).
وأخرجه المحب الطبري عن علي (ع).
وأخرج الملا في سيرته، وابن سعد: أنه - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - قال: ((استوصوا بأهل بيتي، فإني مخاصمكم عنهم غداً، ومن أكن خصمه أخصمه، ومن أخصمه دخل النار)).
وأنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قال: ((من حفظني في أهل بيتي، فقد اتخذ عند الله عهداً)).
وأخرج ابن المغازلي، عن أبي سعيد الخدري، قال: صعِد رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ المنبر، فقال: ((والذي نفسي بيده، لا يبغض أهل البيت أحد إلا كبّه الله في النار)).
وأخرجه بلفظ: ((إلا أدخله الله النار)) الحاكم في المستدرك، والذهبي في التلخيص وقال: على شرط مسلم، وابن حبان وصححه. /615

(2/615)


وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((فلو أن رجلاً صفن بين الركن والمقام، فصلى وصام، ثم لقي الله وهو مبغض لأهل بيت محمد دخل النار)) أخرجه الحاكم في المستدرك، والذهبي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وقال: على شرط مسلم.
وأخرج الطبراني عن ابن عمر: ((ألا أرضيك يا علي؛ أنت أخي ووزيري، تقضي ديني، وتنجز موعدي، وتبريء ذمتي؛ فمن أحبك في حياة مني، فقد قضى نحبه؛ ومن أحبّك في حياة منك بعدي، فقد ختم الله له بالأمن والإيمان؛ ومن أحبك بعدي ولم يرك ختم الله له بالأمن والإيمان، وأمنه يوم الفزع؛ ومن مات وهو يبغضك يا علي مات ميتة جاهلية، يحاسبه الله بما عمل في الإسلام))، وقد مَرّ.
وأروده ابن الإمام في شرح الغاية، قال فيها: وعن علي (ع)، قال: طلبني رسول الله.
..إلى قوله: فقال: ((قم، والله لأرضينك؛ أنت أخي وأبو ولدي، تقاتل على سنتي، وتبريء ذمتي؛ من مات في عهدي، فهو في كنز الله؛ ومن مات في عهدك، فقد قضى نحبه؛ ومن مات يحبك بعد موتك، فقد ختم الله له بالأمن والإيمان ما طلعت شمس أو غربت...الخبر)).
قال: أخرجه أبو يعلى، وقال البوصيري: رواته ثقات، انتهى. /616

(2/616)


وهو في جواهر العقدين إلى قوله: ((ما طلعت شمس وما غربت)).
قال المحب الطبري: أخرجه أحمد في المناقب.
قال صاحب الجواهر: وقد أخرجه أبو يعلى بنحوه.
انتهى المراد إيراده.
وقد سبق من طرق الجميع ما فيه كفاية، وإن كان لا ينتهى في هذا إلى غاية.
[الأخبار بوجوب حبِّ أهل البيت (ع) وتحريم بغضهم]
والأخبار بوجوب حبهم، وأنه إيمان، وتحريم بغضهم، وأنه نفاق، والوعد بالشفاعة لمحبيهم، وحرمانها لمبغضيهم، معلومة بين الأمة، قد أفردها بالتأليف أعلام الأئمة، وهي مستغرقة لأسفار جمة.
ولنذكر هنا قسطاً نافعاً لأرباب الهداية، وطرفاً قاطعاً لذوي الزيغ والغواية؛ والله ولي التسديد في البداية والنهاية.
قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((ما أحبّنا أهل البيت أحد فزلّت به قدم إلا ثبتته قدم، حتى ينجيه الله يوم القيامة))، أخرجه إمام الأئمة الهادي إلى الحق(ع) في الأحكام؛ وقد سبق.
وقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((الإسلام لباسه الحياء، وزينته الوفاء، ومروءته العمل الصالح، وعماده الورع؛ ولكل شيء عماد، وعماد الإسلام حبّنا أهل البيت))، أخرجه الإمام أبو طالب (ع) بسنده إلى جعفر الصادق، عن آبائه(ع) إلى رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
وأخرجه ابن النجار عن الحسين السبط (ع)، باختلاف يسير، لا يخل بالمعنى. /617

(2/617)


وقد سبق أيضاً ما أخرجه الإمام أبو طالب (ع) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: ((أيها الناس، أوصيكم بعترتي أهل بيتي خيراً؛ فإنهم لحمتي وفصيلتي، فاحفظوا منهم ما تحفظون مني)).
وقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((يا علي، من أحب ولدك فقد أحبك، ومن أحبك فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أحب الله أدخله الجنة؛ ومن أبغضهم فقد أبغضك، ومن أبغضك فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله، ومن أبغض الله كان حقيقاً على الله أن يدخله النار))، أخرجه إمام الأئمة الهادي إلى الحق (ع) في الأحكام، كما تقدم.
وقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((أحبّوا الله لما يغذوكم من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي))، أخرجه الإمام المنصور بالله (ع) في الشافي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
وأخرجه محمد بن سليمان الكوفي بسنده إلى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ، وابن المغازلي عنه من طريقين، وأخرجه عنه أبو داود، والترمذي وحسنه، والبيهقي في الشعب، والحاكم في المستدرك، وقال: صحيح الإسناد، والطبراني.
وقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((أحبّوا أهل بيتي، وأحبوا علياً؛ فمن أبغض أحداً من أهل بيتي فقد حرم شفاعتي))، أخرجه ابن عدي في الكامل عن أنس.
ولا يخفى ما في عطف الخاص ـ وهو علي ـ على العام ـ وهو أهل البيت(ع)ـ من إفادة الإجلال والإعظام، كقوله عز وجل: {وَالصَّلَاةِ /618

(2/618)


الْوُسْطَى } [البقرة:238]، وكذكر جبريل وميكائيل بعد الملائكة ـ عليهم الصلاة والسلام ـ، فهو من أجل مواقعه العظام.
وأخرج الإمام المرشد بالله (ع) عن علي (ع): ((لا نالت شفاعتي من لم يخلفني في عترتي أهل بيتي)).
وأخرج ابن عدي أيضاً، والديلمي عن علي، عن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((أثبتكم على الصراط أشدكم حباً لأهل بيتي)).
وأخرج الحاكم الحسكاني، عن سالم بن عبدالله، عن أبيه، قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((أكثركم نوراً يوم القيامة أكثركم حباً لآل محمد)).
وأخرج الحاكم الحسكاني أيضاً بإسناده، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((أما والله لا يحب أهل بيتي عبد إلا أعطاه الله نوراً، حتى يرد عليّ الحوض؛ ولا يبغض أهل بيتي عبد إلا احتجب الله عنه يوم القيامة)).
وقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((إن لكل بني أب عصبة ينتمون إليها إلا ولد فاطمة، فأنا وليهم وعصبتهم، وهم عترتي خلقوا من طينتي؛ ويل للمكذبين بفضلهم؛ من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه))، وقد سبق /619

(2/619)


صدر الخبر، وما في بابه، من روايات العترة وسائر الأمة.
وسبقت الأخبار في هذا المعنى، نحو: قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من أحبّ)) ((ومن سرّه أن يحيا حياتي))، وفيها: ((فليتولّ علي بن أبي طالب وذريته الطاهرين أئمة الهدى))، وفيها: ((والأئمة من بعدي، أعطاهم الله علمي وفهمي، وهم عترتي، خُلقوا من لحمي ودمي، إلى الله أشكو من ظالمهم))، وفيها: ((فويل للمكذبين بفضلهم من أمتي، القاطعين فيهم صلتي، لا أنالهم الله ـ عز وجل ـ شفاعتي)).
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من أحب أن يركب سفينة النجاة، ويتمسك بالعروة الوثقى، ويعتصم بحبل الله المتين، فليأتم علياً، وليأتم الهداة من ولده...الخبر)).
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((إن لله حرمات ثلاثاً من حفظها حفظ الله له أمر دينه ودنياه... الخبر))، وفيه: ((وحرمة رَحِمي)).
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأله الله عن أربع... الخبر))، وفيه:: ((وعن حبنا أهل البيت)).
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه، وأهلي أحب إليه من أهله، وعترتي أحب إليه من عترته...الخبر)).
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((نحن أهل البيت شجرة النبوة، ومعدن الرسالة، ليس أحد من الخلائق يفضل أهل بيتي غيري)).
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد)).
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((قدّموهم ولا تقدموا عليهم، وتعلموا منهم ولا تعلموهم، ولا تخالفوهم فتضلوا، ولا تشتموهم فتكفروا)).
وغيرها كثير؛ وقد تقدمت هذه /620

(2/620)


الأخبار الشريفة كلها بطرقها مستوفاة في صدر الكتاب وأثنائه.
وخبر: ((قدّموهم ولا تقدموا عليهم))، مروي في أخبار الثقلين المتواترة.
أخرج محمد بن سليمان الكوفي ـ رضي الله عنه ـ بسنده إلى الإمام محمد بن عبدالله النفس الزكية، وأخيه الإمام يحيى بن عبدالله، عن أبيهما الكامل عبدالله بن الحسن، عن جدّهما، عن علي بن أبي طالب، قال: لما خطب أبو بكر، قام أُبي بن كع ب، فقال: يا معشر المهاجرين والأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - قال: ((أوصيكم بأهل بيتي خيراً فقدموهم ولا تقدموا عليهم، وأمِّروهم ولا تأمَّروا عليهم...إلى آخره))؟
وأخرج الإمام المرشد بالله (ع) في أماليه، بسنده إلى أبي سعيد، عن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أنه قال: ((لا تعلموا أهل بيتي فهم أعلم منكم، ولا تشتموهم فتضلوا)).
وقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((لا تعلموا أهل بيتي فهم أعلم منكم، ولا تسبقوهم فتمرقوا، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تولوا غيرهم فتضلوا))، أخرجه في الكامل المنير، عن زيد بن أرقم.
وقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((أربعة أنا شفيع لهم يوم القيامة: المكرم لذريتي، والقاضي لهم حوائجهم، والساعي لهم في أمورهم عندما اضطرّوا، والمحب لهم بقلبه ولسانه))، أخرجه الإمام الرضا علي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق، بسند آبائه (ع)، وأخرجه الديلمي عن الإمام علي /621

(2/621)


الرضا (ع) بسنده.
وأخرج الإمام أبو طالب في الأمالي، بسنده إلى الإمام علي بن موسى، بسند آبائه(ع)، قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((ثلاثة أنا شفيع لهم يوم القيامة: الضارب بسيفه أمام ذريتي، والقاضي لهم حوائجهم عندما اضطروا إليه، والمحب لهم بقلبه ولسانه)).
وأخرج الديلمي في الفردوس، عن علي (ع)، عنه صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم: ((حبي وحب أهل بيتي نافع في سبعة مواطن، أهوالهن عظيمة))، وأخرجه ولد الديلمي.
وأخرج أبو نصر عبد الكريم بن محمد الشيرازي في فوائده، والديلمي، وابن النجار، قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((أدِّبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم، وحب أهل بيته، وقراءة القرآن)).
وقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((الزموا مودتنا ـ أهل البيت ـ؛ فإن من لقي الله ـ عز وجل ـ وهو يودنا دخل الجنة بشفاعتنا؛ والذي نفس محمد بيده، لا ينفع عبداً عمله إلا بمعرفة حقّنا))، أخرجه محمد بن سليمان الكوفي، عن الحسين السبط، عن جده ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ؛ أفاده أيده الله في تخريج الشافي.
وأخرجه الطبراني في الأوسط عن الحسين السبط (ع) عن جده ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ؛ ذكره في تفريج الكروب، والمطلع، وغيرهما.
وأخرج الخطيب، وابن عساكر، عن أبي الضحى، عن ابن عباس ـ رضي /622

(2/622)


الله عنهما ـ وأخرجاه عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة، عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((والله، لا يبلغوا الخير والإيمان، حتى يحبوكم لله ولقرابتي)).
أفاده أيده الله في التخريج، نقلاً عن التفريج.
قلت: وأخرج الإمام المرشد بالله (ع) قوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((والذي نفسي بيده لا يدخل قلب عبد الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله)).
وأخرجه الإمام المنصور بالله (ع) في الشافي، بلفظ: ((لن يبلغوا الخير حتى يحبوكم لله ولقرابتي)).
وأخرجه الثعلبي بلفظ: ((والذي بعثني بالحق نبياً، لا يؤمنون حتى يحبوكم لي)).
وأخرج أحمد، والحاكم، وأبو نعيم، والطبراني، والبيهقي، والترمذي، وابن ماجه، وابن أبي عاصم، وابن مندة، وعمر الملا الموصلي، والبغوي، والروياني في صحيحه، ومحمد بن نصر، وغيرهم، قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((والذي نفس محمد بيده، لا يدخل قلب امرئ الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله)).
وفي لفظ: ((والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدهم حتى يحبكم لحبي)).
وفي لفظ: ((والله، لا يدخل قلب رجل الإيمان، حتى يحبهم لله ولقرابتي)).
وفي لفظ: ((لا يبلغ الخير ـ أو قال: الإيمان ـ عبد، حتى يحبكم لله ولقرابتي)). /623

(2/623)


أفاده السيد العلامة الأوحد، محمد بن علي الحسيني اليمني الأصل، النازل بالجامع الأزهر بمصر، في كتابه نثر الدر المكنون، من فضائل اليمن الميمون، أحسن الله ـ تعالى ـ جزاءه، ووفقنا وإياه.
قلت: ولفظ: ((والله، لن يبلغوا الخير ـ أو الإيمان ـ حتى يحبوكم لله ولقرابتي)) أخرجه الخطيب، وابن عساكر، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وعائشة.
وقال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((يا علي، إذا كان يوم القيامة أخذت بحجزة الله، وأخذت أنت بحجزتي، وأخذ ولدك بحجزتك، وأخذت شيعة ولدك بحجزهم؛ فترى أين يؤم بنا؟))، أخرجه الإمام الرضا علي بن موسى، بسند آبائه (ع)، وفسر الحجزة بالسبب، أبو العباس ثعلب، وابن نفطويه النحوي، لما سألهما أبو القاسم الطائي.
قلت: وهي بضم المهملة؛ وكلامهما يحتمل أن يكون السبب من معانيها لغة حقيقة، وأن يكون مجازاً.
والحقيقة معقد الإزار ونحوه، كما ذكره غيرهما من أهل اللغة.
واستعمالها فيه استعارة مصرحة؛ لذكر المشبه به وحذف المشبه، كاستعمال الحبل في نحو: قوله ـ عز وجل ـ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا } [آل عمران:103]، والعلاقة المشابهة، والقرينة عقلية.
هذا، وروى هذا الخبر الشريف /624

(2/624)


الخوارزمي، بسنده إلى الإمام علي بن موسى الرضا، بسند آبائه (ع).
وأخرج السمهودي الشافعي في كتابه جواهر العقدين، عن الحافظ الزرندي في كتابه درر السمطين، عن إبراهيم بن شيبة الأنصاري، قال: جلست إلى الأصبغ بن نباتة، فقال: ألا أقرئك ما أملاه علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ؟
فأخرج إليَّ صحيفة فيها مكتوب ما لفظه:
(بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أوصى به محمد أهل بيته وأمته؛ أوصى أهل بيته بتقوى الله ولزوم طاعته؛ وأوصى أمته بلزوم أهل بيته، وأن أهل البيت يأخذون بحجزة نبيهم ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وأن شيعتهم يأخذون بحجزهم يوم القيامة، وأنهم لن يدخلوكم في باب ضلالة، ولن يخرجوكم من باب هدى).
وأخرج الطبراني في الكبير، عن ابن عمر، قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((أول من أشفع له يوم القيامة من أمتي أهل بيتي، ثم الأقرب فالأقرب من قريش، ثم الأنصار، ثم من آمن بي واتبعني من اليمن، ثم سائر العرب، ثم الأعاجم؛ ومن أشفع له أولاً أفضل))، أورده من هذه الطريق في التفريج، وكذا في الجامع الصغير، وفيه: قال الشيخ: حديث صحيح.
وقال ـ أيده الله ـ في تخريج الشافي: رواه الطبراني، والدارقطني، والذهبي...إلخ. /625

(2/625)


قلت: ومثله في شرح الهداية لصلاح الإسلام (ع).
وأخرج الخطيب عن علي (ع): ((شفاعتي لأمتي من أحب أهل بيتي))، قال في الجامع الصغير: قال الشيخ: حديث حسن لغيره.
قلت: بل معناه متواتر، لشواهده التي لا تنحصر.
وأخرج الطبراني عن علي (ع): سمعتُ رسول الله صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم يقول: ((أول من يرد علي الحوض أهل بيتي، ومن أحبني من أمتي)).
وفي الدلائل: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من أراد التوصل إلى أن يكون عندي له يد أشفع له بها يوم القيامة، فَلْيَصِلْ أهل بيتي، وليُدخل عليهم السرور))، أخرجه الملا.
[أخبار نبوية في أهل البيت(ع) وشيعتهم]
وأخرج الإمام الحجة، المنصور بالله عبد الله بن حمزة (ع) في الشافي، عن علي بن أبي طالب (ع)، قال: شكوت إلى رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - حسد الناس لي، فقال: ((أما ترضى أن تكون رابع أربعة، أول من يدخل الجنة: أنا وأنت والحسن والحسين، وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا، وذريتنا خلف أزواجنا، وشيعتنا خلف ذريتنا)).
وأخرجه محمد بن سليمان الكوفي، بطريقه إلى الإمام الأعظم زيد بن علي، عن آبائه (ع).
وأخرجه الثعلبي، بسنده إلى عمر بن موسى، عن الإمام الأعظم زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب (ع).
وأخرجه الكنجي، والطبراني، وابن عساكر عن أبي رافع، عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
ورواه الطبري في ترجمة الحسن، وأخرجه أحمد عن علي (ع).
وأخرج الحاكم في المستدرك، /626

(2/626)


وابن سعد عن علي (ع)، قال: أخبرني رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أن أول من يدخل الجنة أنا وفاطمة والحسن والحسين، قلت: يا رسول الله، فمحبونا؟ قال: ((من ورائكم)).
وعن برهان الدين في أسنى المطالب، عن ابن عمر، قال: بينا أنا عند رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وجميع المهاجرين والأنصار إلا من كان في سرية، أقبل علي يمشي، وهو متغضب؛ فقال رسول الله: ((من أغضبه فقد أغضبني)).
فلما جلس، قال: ((مالك يا علي؟)).
قال: آذاني بنو عمك.
فقال: ((يا علي، ما ترضى أن تكون معي في الجنة والحسن والحسين، وذرارينا خلف ظهورنا، وأزواجنا خلف ذرياتنا، وأشياعنا عن أيماننا وشمائلنا؟))، أخرجه الإمام أحمد في المناقب، وأبو سعيد عبد الملك الواعظ في شرف النبوة؛ أفاده في الإقبال.
وأخرجه الطبراني بلفظ: ((أول أربعة يدخلون الجنة أنا وأنت والحسن والحسين... الخبر)).
قلت: ويحمل ما بينه وبين الأول من اختلاف الهيئات، على اختلاف المقامات، كما حمل على ذلك غيره، مما يدل على اختلاف الأحوال، في الكتاب والسنة؛ وهو محمل صحيح واضح.
هذا، وفي التخريج ـ بعد رواية الأصل وشواهده ـ ما لفظه: وكذا قال ابن حجر: رواه الطبراني من حديث أبي رافع، والكريمي عن ابن عائشة، بسنده عن علي(ع).
وقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((يرد عليَّ الحوض أهل بيتي ومن أحبهم من أمتي، كهاتين السبابتين))، رواه أبو الفرج الأصبهاني، عن سفيان بن الليل بطريقين، عن الحسن السبط، عن أبيه علي بن أبي طالب (ع)، قال: سمعت رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يقول: ((يرد علي...إلخ)).
وأخرجه محمد بن /627

(2/627)


سليمان الكوفي، عن سفيان بن الليل، عن الحسن السبط، عن أبيه الوصي، عن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
وأخرجه الملا، عن علي، عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
ذكره السمهودي في جواهر العقدين؛ أفاده في الإقبال.
وذكره ابن أبي الحديد في شرحه؛ أفاده ـ أيده الله ـ في التخريج.
قلت: وأخرجه المحب الطبري، عن علي مرفوعاً، بلفظ: ((يرد أهل بيتي... الخبر))، ذكره في التفريج.
قال أيده الله في التخريج: قال الناصر للحق (ع): حدثني محمد بن منصور المرادي ـ وساق سنده إلى علي (ع) ـ قال: نرد نحن وشيعتنا إلى نبي الله كهاتين ـ وجمع بين إصبعيه السبابة والوسطى ـ.
قاله في المحيط.
قلت: وفي خبر عبدالله بن شريك، عن الحسين السبط: نبعث نحن وشيعتنا هكذا ـ وأشار بالسبابة والوسطى ـ.
فإن لم يكن مرفوعاً، فهو توقيف؛ إذْ لا مساغ للاجتهاد فيه؛ ذكره في التفريج.
قال: وعبدالله بن شريك هذا ممن وصل من الكوفة إلى ابن الحنفية وابن عباس، مع أبي عبدالله الجدلي؛ ليخلصهما من ابن الزبير بمكة، لما أراد تحريق بيوتهما؛ لامتناعهما من بيعته؛ فأخرجهما إلى الطائف، وتوفي ابن عباس هنالك، انتهى. /628

(2/628)


قلت: وقوله: (السبابة والوسطى) على الحقيقة، وفي الأول (بين السبابتين) من باب التغليب، كالحسنين والقمرين، وهو واضح.
وقد تقدم من رواية الإمام الأعظم في مجموعه، بسنده عن آبائه إلى علي ـ صلوات الله عليهم ـ: من قال في موطن قبل وفاته: رضيتُ بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ نبياً، وبعلي وأهل بيته أولياء؛ كان له ستراً من النار، وكان معنا غداً هكذا ـ وجمع بين إصبعيه ـ.
قلت: وهذا مقيّد، كغيره من مطلقات الوعد، بالأدلة المعلومة، القاضية بكون ذلك للمؤمنين، القائمين بما لا يعذرون بتركه من فرائض الله، والمجتنبين للكبائر من محارم الله، المطيعين لرب العالمين؛ إنما يتقبل الله من المتقين.
وفي هذا المعنى قول الله ـ تعالى ـ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)} [فصلت].
وقال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((أتاني جبريل عن ربه، وهو يقول: ربي ـ عز وجل ـ يقرئك السلام، ويقول: يا محمد، بشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات، ويؤمنون بك، ويحبون أهل بيتك، بالجنة؛ فإن لهم عندي جزاء الحسنى، وسيدخلون الجنة))، أخرجه الإمام علي بن موسى بسند آبائه (ع).
وقد سبق في الفصل الأول ما ورد في تفسير خير البرية، وقول رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((هم أنت يا علي وشيعتك)).
وتقدم /629

(2/629)


ما في معناه، نحو: الخبر الذي فيه: ((ترد عليّ الحوض راية علي أمير المؤمنين، وإمام الغر المحجلين)) من رواية محدث الشام، عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ.
وما يشهد له، نحو: خبر الرايات، الذي فيه: ((ألا وإنه سيرد عليّ يوم القيامة ثلاث رايات من هذه الأمة))...إلى قوله: ((ثم ترد راية أخرى تلمع نوراً، فأقول: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل كلمة التوحيد والتقوى، نحن أمة محمد، ونحن بقية أهل الحق؛ حملنا كتاب ربنا فأحللنا حلاله وحرمنا حرامه؛ وأحببنا ذرية محمد فنصرناهم من كل ما نصرنا به أنفسنا، وقاتلنا معهم، وقتلنا من ناواهم؛ فأقول لهم: أبشروا، فأنا نبيكم محمد، ولقد كنتم كما وصفتم؛ ثم أسقيهم من حوضي فيصدرون رواء...الخبر))، رواه الحاكم الإمام في السفينة، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
وقد سقته بتمامه، في أوائل التحف الفاطمية ص19 في شرح:
ولايتهم فرض على الخلق لازم
والخبر الذي فيه: ((وخلقت شيعتكم منكم))، من رواية الإمام الأعظم.
وخبر السبعين الألف، الذين يدخلون الجنة بغير حساب، من رواية الإمام الناصر للحق.
وخبر الذين عن يمين العرش، من رواية الباقر (ع).
وخبر ((إن في السماء حرساً وهم الملائكة، وإن في الأرض حرساً، وهم شيعتك ـ يا علي ـ لن يبدلوا ولن يغيروا))، رواه الإمام الناصر للحق، عن جعفر بن محمد، عن آبائه، عن علي.
وخبر جعفر الصادق، المروي في الأنوار، للإمام المرشد بالله (ع)، وفيه: ((وجواز مني محبة أهل البيت)).
ويشهد له ما رواه الخوارزمي، عن /630

(2/630)


ابن عباس: ((إذا كان يوم القيامة أقام الله جبرائيل ومحمداً (ع) على الصراط، فلا يجوز أحد، إلا من كان معه براءة من علي بن أبي طالب)).
وما رواه أيضاً عن ابن مسعود: ((إذا كان يوم القيامة يقعد علي بن أبي طالب على الفردوس، وهو جبل قد علا الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومن سفحه تفجر أنهار الجنة، وتتفرق في الجنان؛ وهو جالس على كرسي من نور، يجري بين يديه النسيم، لا يجوز أحد الصراط، إلا ومعه براءة بولايته وولاية أهل بيته، يشرف على الجنة، فيدخل محبيه الجنة، ومبغضيه النار)).
وفي معناه أخبار كثيرة؛ والوارد في هذه الأبواب، يتجاوز حدّ الاستيعاب؛ وقد سلف ما فيه ذكرى لأولي الألباب.
[أخبار أنت مع من أحببت]
ومما أخرجه الإمام الموفق بالله في السلوة، والإمام المنصور بالله (ع) في الشافي من طريق ولي آل محمد، عباد بن يعقوب ـ رضي الله عنه ـ، قال: كان أمير المؤمنين قاعداً في الرحبة، فأطال الحديث وأكثر.
ثمّ نهض، فتعلّق به رجل من همدان، فقال: يا أمير المؤمنين، حدّثني حديثاً.
فقال: قد حدّثتكم كثيراً.
قال: أجل، إنه كثر فلم أحفظه، وغزر فلم أضبطه؛ فحدثني حديثاً جامعاً ينفعني الله به.
فقال: حدثني رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أني أرد وشيعتي رواء، ويرد عدونا ظماء؛ خذها إليك قصيرة وطويلة؛ أنتَ مع من أحببت، ولك ما اكتسبتَ؛ أرسلني يا أخا همدان.
وأخرج الإمام أبو طالب (ع) عن عطية العوفي، عن جابر بن عبدالله /631

(2/631)


ـ رضي الله عنهم ـ قال: سمعت رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يقول: ((من أحب قوماً حُشر معهم؛ ومن أحب عمل قوم أشرك في عملهم)).
وأخرج أيضاً عن أنس، عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، قال: ((المرء مع من أحبّ، وله ما اكتسب)).
قال ـ أيده الله ـ في تخريج الشافي: وروى صدره أحمد من حديث جابر، وأبو داود نحوه عن أبي ذر.
وروى الطبراني في الكبير والأوسط من حديث علي، مرفوعاً: ((ولا يحب رجل قوماً إلا حشر معهم))، ورواه في الكبير، من حديث ابن مسعود.
وروى أحمد من حديث عائشة مرفوعاً: ((ولا يحب رجل قوماً إلا جعله الله معهم)).
وروى جعفر بن الأحمر، عن مسلم الأعور، عن حبة العُرَني، قال: قال علي: من أحبني كان معي؛ أما إنك لو صمت الدهر كله، وقمت الليل كله، ثم قتلت بين الصفا والمروة ـ أو قال: بين الركن والمقام ـ لما بعثك الله إلا مع هواك، بالغاً ما بلغ، إن في جنة ففي جنة، وإن في نار ففي نار.
قاله أبو جعفر الإسكافي؛ انتهى من شرح النهج.
وقال علي (ع) من خطبة له، رواها أبو طالب (ع) عن ربيعة بن ناجذ: فإن لكل امريءٍ ما اكتسب، وهو يوم القيامة مع من أحب.
وروى أبو الحسن المدائني، عن الحسن السبط، قال: قال: إني سمعت رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يقول: ((من أحبّ قوماً كان معهم))، قاله ابن أبي الحديد في شرح النهج.
قلت: وخبر: ((أنتَ مع من أحببت))، أخرجه الإمام أبو طالب (ع) في الأمالي، عن عروة بن مُضَرِّس؛ والقاضي عياض، عن أنس.
وخبر /632

(2/632)


((المرء مع من أحبّ)) أخرجه الشيخان وغيرهما، عن أنس وغيره؛ وقال السيوطي: أخرجه مالك، وابن أبي شيبة، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي عن أنس؛ والشيخان أيضاً عن ابن مسعود؛ وأبو نعيم والضياء عن أبي ذر؛ وعبد بن حميد وأبو عوانة، عن جابر؛ وأحمد أيضاً والبخاري، عن أبي موسى؛ والطبراني وابن عساكر والشيرازي، عن عروة بن مضرس؛ والطيالسي وابن حبان والترمذي ـ أيضاً، وقال: حسن صحيح ـ وابن خزيمة والضياء، عن صفوان بن عسال؛ وقد روي عن صفوان بن قدامة، وعن معاذ.
انتهى من تفريج الكروب.
قال فيه: وهذا الخبر علم من أعلام الشيعة، وركن من أركان الشريعة، يصرف قلوب المؤمنين المحبين لله إلى موالاة أوليائه، والدخول في سلك أحبائه، ويصدها عن موالاة أعدائه؛ ولأمر ما كان سلمان منهم؛ ومن أحب الله كان معه وأحب نبيه ضرورة، ومن أحب نبيه كان معه وأحب أهل بيته، ومن أحب أهل بيته كان معهم، وعكس ذلك؛ هذا أمر مرتبط، هكذا دلّت عليه الأدلة؛ ومعناه أنه لا يتصور الحب لله دون نبيه، ولا حب نبيه دون آله، انتهى.
قلت: وهذا من ضروري الدين، لا يستطيع الرد له ولا المناكرة فيه أحد من الموحدين؛ وإنما التحريف والتبديل فيه وفي أمثاله من الضروريات طريقةُ المتمردين.
والمعلوم عقلاً ونقلاً أن شرط المحبة المرضية لله ـ تعالى ـ ولرسوله ـ صلى /633

(2/633)


الله عليه وآله وسلم ـ ولمن فرض الله ـ تعالى ـ طاعته ومحبته، الطاعة والاتباع، كما قال ـ عزّ وجل ـ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } [آل عمران:31].
* إن المحبّ لمن يحب يطيع *
فخرج عن الصراط السوي، والمنهج المرضي، فريقا الرفض والنصب، وهم الغالون المفرطون، والقالون المفرطون.
وقد وصف الفريقين وأوضح فيهما الأحكام، وأقام عليهم الأعلام، إمامُ المرسلين، وأخوه سيد الوصيين ـ عليهم صلوات رب العالمين ـ وصح التشبيه، واتضح وجه الشبه فيه، على لسان النبي الأمي - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - لوصيه وأخيه؛ فقرنه برسول الله وكلمته المسيح عيسى بن مريم ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وشبه الطائفتين الضّالتين، وهما الغالية والقالية، بالنصارى واليهود، وأبان المعنى المقتضي لإلحاقهما بذوي الاعتداء والعنود.
[حديث: ((لولا أن تقول فيك طوائف))، تخريجه وبحث فيه]
فمن ذلك ما أخرجه إمام الأئمة، الهادي إلى الحق، يحيى بن الحسين بن القاسم (ع) في تفسير قول الله ـ تعالى ـ: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)} [الزخرف:57]، قال (ع): روي عن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أنه قال لعلي (ع) ذات يوم: ((يا علي، لولا أن تقول فيك طوائف من أمتي /634

(2/634)


ما قالت النصارى في المسيح(ع) لقلت فيك مقالاً، لا تمرّ بملأ إلا أخذوا من أثرك، يبغون به البركة؛ غير أنه يكفيك أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)).
فقال المنافقون لما أن سمعوا ذلك: ما رضي محمد أن يضرب لابن عمه مثلاً إلا عيسى بن مريم.
ثم قالوا: والله لآلهتنا التي كنا نعبدها خير منه ـ يعنون علياً ـ.
فأنزل الله ما أنزل فيهم...إلى آخر كلامه (ع).
وأخرج الإمام المرشد بالله (ع) بإسناده، عن علي ـ صلوات الله عليه ـ، قال: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((إن فيك مثلاً من عيسى بن مريم، أحبته النصارى حتى أنزلته بالمنزل الذي ليس له، وأبغضته اليهود حتى بهتوا أمه؛ لولا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في المسيح ابن مريم، لقلت فيك قولاً ما تمرّ بملأ من أمتي إلا أخذوا ترابك، وطلبوا فضل طهورك؛ ولكن أنت أخي، ووزيري، ووصيي، ووارثي، وعيبة علمي)).
وأخرج صاحب المحيط بالإمامة، عن جابر مرفوعاً، أن علياً لما قدم من خيبر...وساق نحو ذلك، وفيه زيادة.
وأخرج الحاكم الجشمي في السفينة، بإسناده عن جابر، أن علياً لما قدم من خيبر ـ بعدما افتتحها ـ قال النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((لولا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في المسيح، لقلت فيك قولاً، لا تمر بملأ إلا أخذوا من تراب نعليك، وفضل طهورك، يستشفون به؛ ولكن حسبك أن تكون مني وأنا منك، ترثني وأرثك، وأنت تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي))، الحديث بطوله.
وقد سبق في الفصل الأول، مع ذكر المخرجين له من الأئمة، وعلماء الأمة، إلا أنه لم يتقدم من هذه الطرق؛ وعلى كل فصل من فصوله شواهد.
وأخرج أحمد في المسند مرفوعاً: ((والذي نفسي بيده، لولا أن تقول طوائف /635

(2/635)


من أمتي ما قالت النصارى في ابن مريم، لقلت فيك اليوم مقالاً، لا تمر بملأ من المسلمين إلا أخذوا التراب من تحت قدميك؛ للبركة)).
وله طرق كثيرة.
وما يفهمه الخبر من منع قول الطوائف، الذي ترك القول لخوف وقوعه، كما في قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((لولا أن أشق على أمتي... الخبر)) لما تفيده: لولا، على ما هو مقرر في العربية؛ فالمراد إمتناع صدور قولهم، مسنداً أو مستمداً للشبهة من قوله الذي تركه، واكتفى ببيان منزلته منه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، أو امتناع قول طوائف أخر، غير هؤلاء، لو قال ذلك القول لغلوا كما غلوا، لا الامتناع على الإطلاق؛ كيف وقد أخبر بكون ذلك في صدر الخبر الأول، وفي أخبار متسعة النطاق.
وفي الخبر هذا دلالة بينة على تقرير شرعية أخذ التراب وفضل الطهور للتبرك، ولم يمنع منه القول لذلك، وهو مما يرد على من منعه، وادعى كونه شركاً،’ بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
هذا، وممن أخرج الخبر الشريف في تشبيه الوصي بعيسى بن مريم (ع) بلفظ: ((إن فيك شبهاً من عيسى بن مريم))، أبو علي الحسن بن علي الصفار في الأربعين، وابن المغازلي في المناقب، وأحمد، والحاكم وصححه، وابن أبي عاصم، وابن شاهين، وابن جرير، والعقيلي، والدورقي، وابن الجوزي، كلهم عن علي (ع)، والنسائي بلفظ: ((إن فيك مثلاً من عيسى))، والبزار، وأبو يعلى، والحاكم أبو القاسم من طرق عن علي (ع)، ورواه أيضاً عن أبي رافع.
وفي الأرواح للمقبلي: أخرج الحاكم وصححه، والبخاري في تاريخه، عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال: قال لي النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((إن بك يا علي من عيسى مثلاً))، والسيوطي في الجامع الكبير بلفظ: ((يا علي إن فيك من /636

(2/636)


عيسى مثلاً)).
قال الإمام محمد بن عبدالله الوزير (ع): وقد جاء في الحديث مرفوعاً وموقوفاً: ((يهِلك فيك ـ أو يهِلك في ـ اثنان: محب غال، ومبغض قال)) انتهى؛ وهو كما قال.
وأخرج الإمام الرضا علي بن موسى، بسند آبائه، عن علي (ع): من أحبني وجدني عند مماته بحيث ما يحب، ومن أبغضني وجدني عند مماته بحيث يكره.
قال ابن أبي الحديد في شرح قول الوصي (ع): فإنكم لو قد عاينتم ما قد عاين من مات لجزعتم...إلخ، ما لفظه: ويمكن أن يعني به ما كان (ع) يقوله عن نفسه: إنه لا يموت ميت حتى يشاهده (ع) حاضراً عنده.
ثم روى قول أمير المؤمنين، مخاطباً للحارث الهمداني:
أحار همدان من يمت يرني .... من مؤمن أو منافق قِبَلا
يعرّفني طرفه وأعرفه .... بعينه واسمه وما فعلا
أقول للنار وهي توقد للـ .... ـعرض ذَرِيهِ لا تقربي الرجلا
ذَرِيهِ لا تقربيه إنّ له .... حبلاً بحبل الوصي متصلا
...إلى قول الشارح: ففي الكتاب العزيز ما يدل على أن أهل الكتاب لا يموت منهم ميت حتى يصدّق بعيسى بن مريم (ع)، وذلك قول الله - تعالى -: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)} [النساء].
قلت: الشاهد في أول الآية: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ }، [النساء:159]، انتهى. /637

(2/637)


وهذا تحقيق لكمال المشابهة بينهما ـ عليهما الصلاة والسلام ـ.
وقد ثبت في الكتاب المبين، وسنة الرسول الأمين، تنزيل أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، منزلة نفس سيد المرسلين ـ عليهم صلوات رب العالمين ـ كما في آية المباهلة: {وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ } [آل عمران:61]، وفي أخبار لا يتأتى لها انحصار، بلفظ: ((كنفسي)) و((عديل نفسي)) و((علي نظيري)) و((كرأسي من جسدي)) و((علي مني بمنزلتي من ربي))، وهي وما في معناها من الأحاديث الجمّة، معلومة بروايات أئمة العترة، وسائر علماء الأمة.
وقد سبق من أخبار الولاية، والمنزلة، والمحبة، وتبليغ براءة، وغير ذلك، مما أجمعت عليه طوائف الأمة في الرواية، ما فيه كفاية لذوي الهداية.
[تشبيه علي(ع) بجماعة من الأنبياء(ع)]
ومما ورد في هذا المعنى بخصوصه، على لسان سيد المرسلين، تشبيه أخيه سيد الوصيين، بجماعة من النبيين ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - كقوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في فهمه، وإلى إبراهيم في حلمه، وإلى يحيى بن زكريا في زهده، وإلى موسى في بطشه، فلينظر إلى علي بن أبي طالب))، أخرجه أبو الخير الحاكمي، عن أبي الحمراء مولى النبي.
وأخرجه أحمد بن حنبل في المسند، وأحمد البيهقي في صحيحه بلفظ: ((وإلى عيسى في زهده)) ـ مكان ((يحيى)) ـ ((وإلى موسى في فطنته)).
وأورده ابن أبي الحديد في شرح النهج، في الأخبار التي ساقها من طرق المحدثين.
وأخرج الأول المحب الطبري الشافعي. /638

(2/638)


قال في ذخائر العقبى ما لفظه: (ذكر تشبيه علي (ع) بخمسة من الأنبياء) عن أبي الحمراء قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه...الخبر)).
قال: وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ، قال: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من أراد أن ينظر إلى إبراهيم في حلمه، وإلى نوح في حكمه، وإلى يوسف في جماله، فلينظر إلى علي بن أبي طالب))، أخرجه الملا في سيرته، انتهى.
وأفاد في تخريج الشافي: أنه رواه في الشواهد، بسنده إلى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
قال ـ أيده الله تعالى ـ: ورواه ـ أي الخبر الأول ـ الحاكم الحسكاني، بإسناده إلى أبي الحمراء، من شواهد التنزيل.
وروى ابن المغازلي، عن أنس، عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من أراد أن ينظر إلى علم آدم، وفقه نوح، فلينظر إلى علي بن أبي طالب)).
وقال النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وهو في جمع من أصحابه: ((أريكم آدم في علمه، ونوحاً في فهمه، وإبراهيم في حكمته؟)).
فقال أبو بكر: يا رسول الله، أقست رجلاً بثلاثة من الرسل، من هو؟
فقال النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((ألا تعرفه يا أبا بكر؟)).
قال: الله ورسوله أعلم.
قال: ((أبو الحسن، علي بن أبي طالب)).
رواه الخوارزمي، عن الحارث الأعور، عن علي.
وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من أراد أن ينظر إلى آدم في وقاره، وإلى موسى في شدة بطشه، وإلى عيسى في زهده، فلينظر إلى هذا المقبل))، فأقبل علي بن أبي طالب، رواه الخوارزمي، بإسناده إلى أبي الحمراء مولى النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
[انتهى] من التفريج.
وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، /639

(2/639)


وإلى نوح في حكمه، وإلى إبراهيم في حكمته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب))، أخرجه الكنجي عن ابن عباس؛ ورواه الحاكم أبو القاسم عن أبي الحمراء بلفظ: ((ونوح في فهمه)).
وقال النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من أراد أن ينظر إلى موسى في شدة بطشه، وإلى نوح في حلمه، فلينظر إلى علي بن أبي طالب))، أخرجه الإمام المرشد بالله، بسنده إلى الحسين السبط، عن أبيه علي (ع) في أماليه.
قال السيد محمد بن إسماعيل الأمير في شرح قوله في التحفة:
وبعيسى صحّ فيه مثل .... فسعيداً عدّ منهم وشقيا
بعد أن ساق الأخبار في ذلك: إذا عرفت هذا، فهذه شرائف الصفات: العلم، والحلم، والفهم، والزهادة، والبطش، والحسن؛ ثم إنه حاز أكمل كل واحدة، فإن علم الرسل أكمل العلم، وحلمهم أكمل الحلم، وفهمهم أتم فهم، وزهادتهم أبلغ زهادة، وبطشهم أقوى بطش؛ فناهيك برجل كمله الله بهذه الصفات، وأخبر نبيه أنه حازها، وشابه أكمل من اتصف بها، وأن من أراد أن ينظر من كان متصفاً بها من أولئك الرسل ويشاهده كأنه حي، نظر إلى هذا المتصف بها؛ ولذلك قيل:
يدل بمعنىً واحد كلُّ فاخر .... وقد جمع الرحمن فيك المعاليا
...إلخ كلامه.
وقد أورد في هذا الباب، وغيره من ذلك الكتاب، مباحث حسنة.
هذا، ومما جاء في ذلك المعنى: قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((تفترق أمتي فيك، كما افترقت بنو إسرائيل في موسى))، أخرجه ابن عبد البر في /640

(2/640)


الاستيعاب، ذكره في التفريج.
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لعلي ـ صلوات الله عليه ـ: ((يدخل فيك النار فرقتان: أما واحدة فتعطيك فوق حقك كما فعلت النصارى بعيسى بن مريم، وفرقة تدفعك عما أوجب الله لك كما فعلت اليهود بعيسى ابن مريم))، رواه صاحب الجليس الممتع، والخوارزمي؛ أفاده في التخريج.
نعم، وهذا من أعلام النبوة، ومعجزات الرسالة؛ لأنها لم تكن قد حدثت مقالة الغالين، فهو كالأخبار النبوية عن الناكثين والقاسطين والمارقين؛ فهو كما قال الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة (ع) في الشافي عقيب رواية: ((إن فيك مثلاً من عيسى بن مريم...الخبر)): وهذا علم غيب قد وقع.
[تفسير الغالين والقالين، والرد على من استشكل تحريق الوصي (ع) للغالين]
هذا، فقد غلت الفئة الغالية في وصي رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ علي بن أبي طالب ـ صلوات الله وسلامه عليهما ـ، فأشركت به وعبدته، وادعت له الإلهية، وصفات الربوبية؛ وقد نقلت علماء الأمة وأرباب السيرة ما صدر منهم، وما فعله الوصي ـ صلوات الله عليه ـ بهم، من استتابتهم، ودعائهم إلى توحيد الله؛ ثم تحريقهم، وإقامة حد الله، وذلك حكم الله فيهم، وفي أمثالهم. /641

(2/641)


وقد همّ رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بتحريق المتخلفين عن جماعة الصلاة، كما نقله الرواة؛ مع أن فعل الوصي ـ صلوات الله عليه ـ حجة، فهو مع الحق والقرآن، والحق والقرآن معه، الهادي لمن تبعه، المبين للأمة، باب مدينة العلم والحكمة، الذي أخذت عنه أحكام الله ورسوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - في قضاياه، ومنه علمت السيرة المحمدية في الغلاة والبغاة، ورجعت إليه الصحابة في كل ما أبهم عليهم من معالم دين الله؛ فلا وجه لما يستشكله بعض الأقوام، من تحريقهم بالنار؛ ولا صحة لما ينقله عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ من الإنكار، فقد كان مقتدياً بابن عمه، الذي يدور معه الحق حيثما دار، كما تواترت به الأخبار، مهتدياً بنوره، متبعاً لأثره في جميع أموره، وهو القائل: (إذا بلغنا شيء عن علي من قضاء أو فتيا لم نجاوزه إلى غيره)، وقد تقدم؛ وقال أيضاً: (ما ثبت لنا عن علي من قضاء أو فتيا لم نعدل إلى غيره)، أخرجه في المحيط بسنده إلى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
وقال: (كنا إذا أتانا الثبت عن علي لم نعدل به) أخرجه ابن عبد البر، وابن سعد.
وأقواله فيه أكثر من أن تحصر، فحاشاه عن مخالفة حكمه؛ فهذا غلو الفرقة الغالية، كما غلت النصارى في رسول الله عيسى بن مريم ـ صلى الله عليهما ـ، فأشركت به وبأمه وعبدته، وادعت له الولدية الإلاهية، وصفات الربوبية؛ تعالى الله عما يقول الظالمون؛ سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وكما جحدت اليهود ـ لُعِنَتْ ـ رسالة المسيح، وعادته، وسبته وأمه ـ صلى /642

(2/642)


الله عليهما ـ وحاربته، جحدت الفرقة القالية، كالناكثين والقاسطين والمارقين، ومن شابههم من الناصبية، ولاية وصي رسول الله علي بن أبي طالب ـ عليهما وآلهما الصلاة والسلام ـ ومقامه ووصايته، وما خصّه الله - تعالى - به وأهل بيته، وحاربتهم، وأنكرت فضلهم، ووالت أعداءهم، وعادت أولياءهم، ورموهم بالابتداع، ومخالفة السنة والاتباع؛ ومن تأخرت بهم الأعوام، أو ألجمتهم سيوف الإسلام، عن المصارحة بجميع الأنواع، فعلوا منها بقدر المستطاع، كما هو معلوم لأرباب الاطلاع.
ولعمر الله، إن من نظر بعين البصيرة، إلى ما تضمنته أعطاف مؤلفاتهم المنشورة، واشتملت عليه غضون مصنفاتهم المشهورة، علم بالضرورة أنهم استدركوا بأقلامهم، ما فاتهم من المشاركة بسيوفهم، لإخوانهم المضلين البغاة بصفين مع إمامهم؛ فقد قرروا صحة إمامة معاوية، إمام الفئة الباغية، الداعية إلى النار، بالنص النبوي المتواتر عن المختار، وصرحوا باجتهاده، في بغيه وعناده، وغيه وفساده، وحربه لأهل بيت نبيهم حجة الله على عباده، وقتله للسابقين، المشهود لهم بالجنة من صحابة سيد المرسلين، ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، والألوف المؤلفة من طوائف المؤمنين ـ رضي الله عنهم ـ وتولوه وصحبه، وتبرموا على من لعنه وسبه، وعدلوه وحزبه، كمروان وعمرو بن العاص، وعمر بن سعد بن أبي وقاص، أمير الجند القاتل لابن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وسبطه وريحانته، وعمران بن حطان المادح لأشقى الآخرين، القاتل لسيد الوصيين، وأخي سيد النبيين ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ حتى قال ابن العربي: إن ابن ملجم قتل علياً باجتهاده، ويكون مأجوراً بالإجماع.
فكان أبلغ ردهم عليه ما قاله ابن حجر أحمد بن علي العسقلاني، صاحب فتح الباري على البخاري ما لفظه: هذا باطل /643

(2/643)


بالإجماع.
فهذه نبذة مما قد تكررت، وهي معلومة، لا تناكر فيها بينهم؛ بل هي معدودة من أصول هذه السنة؛ وهذا جزاؤهم لرسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في قرابته، وأهل بيته وعترته (ع).
وأما في جانب غيرهم، فالأمر كما قال الإمام شرف الدين (ع) ما نصه: وهم يذكرون عن أكثر المحدثين التصريح، بأن من سب أبا بكر وعمر أدنى سب كفر، ووجب ضرب عنقه البتة؛ فيالله وللمسلمين، ما شأن أمير المؤمنين!!...إلخ كلامه.
قلت: والمعلوم أنهم معاندون لعترة سيد المرسلين، مضادون لهم في معالم الدين.
[الإشارة إلى بعض رؤوس الناصبية، وكلامهم في الوصي (ع)]
وأما طائفة منهم، فقد انتصبوا للنصب، وتجردوا للمنابذة لهم والحرب، كابن تيمية، صاحب منهاج السنة ـ على زعمه ـ وتلميذه الذهبي، صاحب الميزان والتواريخ، ومن شاكلهما؛ وقد سبق من أحوالهم ما يكفي، وكتبهم على ذلك أعظم بيان، وأكبر برهان.
قال ابن تيمية في الجزء الثاني من منهاجه ص230: وعلي يقاتل ليطاع، ويتصرف في النفوس والأموال، فكيف يجعل هذا قتالاً على الدين؟ وأبو بكر يقاتل من ارتد عن الإسلام، ومن ترك ما فرض الله ليطيع الله ورسوله فقط...إلى آخر كلامه.
أقول: بالله عليك، انظر ـ أيها المطلع ـ كيف جعل جهاد علي (ع) للكفار، وهو وعمه أسد الله الحمزة، وابن عمهما عبيدة بن الحارث (ع)، أول من بارز للجهاد في سبيل الله في بدر، وجهاده في بدر وأحد والخندق وخيبر وحنين، وقتاله للناكثين والقاسطين، الفئة الباغية، الداعية إلى النار، القاتلة لعمار، /644

(2/644)


وللمارقين عن الدين؛ جعل كل ذلك ليطاع ويتصرف؛ هل يقول هذا من يؤمن بالله ورسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ واليوم الآخر؟
وصدق الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق))، ولقد أصاب ابن حجر الهيثمي، حيث قال في فتاواه: ابن تيمية عبد خذله الله وأضله، وأعماه وأصمه وأذلّه، بذلك صرح الأئمة، الذين بينوا فساد أحواله، وكذب أقواله.
انتهى من كتاب جلاء العينين من الصفحة الرابعة.
وكابن حجر المكي أحمد بن محمد الهيثمي صاحب الصواعق، الشاهدة عليه أنه للحق مفارق، وكفى في الدلالة على امتلائه من الشنآن، ومجانبته للإيمان، ومناصبته لقرناء القرآن، قوله فيها في معاوية بن أبي سفيان ما لفظه:
وأما ما يستبيحه بعض المبتدعة من سبه ولعنه ـ أي معاوية ـ فله فيه أسوة بالشيخين وعثمان، وأكثر الصحابة، فلا يلتفت لذلك، ولا يعول عليه؛ فإنه لم يصدر إلا من قوم حمقى جهلاء أغبياء، طغاة، لا يبالي الله في أي واد هلكوا، فلعنهم الله وخذلهم أقبح اللعنة والخذلان، انتهى.
وفي إيراد كلامه هذا، الذي تكاد السماوات يتفطرن منه، وتنشق الأرض، وتخرّ الجبال هداً، ما يغني عن الرد عليه؛ فحسبه الله ما أجرأه!.
ولقد علم الثقلان أن هؤلاء الذين سماهم المبتدعة، السابين، هم أئمة أهل الإيمان، قرناء القرآن، وأمناء الرحمن، عليهم صلوات الملك الديان، فسيعلمون من هو شر مكاناً وأضعف جنداً.
قال العلامة الجليل، محمد بن عقيل، صاحب العتب الجميل، الحسيني الحضرمي، في تقوية الإيمان: لقد أظهر ابن حجر في هذه المقالة المشؤمة ضبّ صدره، وفَاهَ بما يتحاشى المسلم العاقل عن التفوه به؛ أسكرته خمرة عصبية /645

(2/645)


الجاهلية، فانفجر بركان نصبه، فتدفق بالحمم، ورمى بنفسه في هوة عميقة؛ عافانا الله مما ابتلاه به آمين.
إن ابن حجر ممن عرف صحة الحديث، في لعن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ معاوية بعد إسلامه المزعوم، وعلم تواتر لعن علي صنو النبي لطاغيته، واتباع العترة له في ذلك، ومعهم خيار الصحابة، وأهل الحق...إلخ كلامه.
ولقد أحسن النصح للمسلمين، حيث يقول فيه: ولقد أضرت تحريفات هذا الشيخ وتمويهاته، بعقائد كثير من المسلمين في عدة أقطار، وهو والذهبي وابن تيمية من كبار نواصب أهل السنة، ومن أكثرهم تغريراً وزوراً، وإن تفاوتت مراتبهم في ذلك؛ وقد شاركهم في كثير من ذلك بعض علماء تلك الطائفة المجترمة، فتجد في طيات أقاويل بعضهم من دقائق النصب وخبثه، ما هو قرة عين إبليس، مما يدل على أنهم قد مردوا على النصب، وغمر قلوبهم بغض علي وأهل البيت، فأعماها رانها؛ عاملهم الله بقسط عدله آمين.
فكُنْ من زبَدهم وسموم نصبهم على حذر؛ ورضي الله عن شيخنا العلامة ابن شهاب الدين، إذْ كتب على ظهر الكتاب، المسمى تطهير الجنان، تصنيف ابن حجر المكي، شعراً:
لا تشكروا جمع تطهير الجنان ولا .... مدحاً به كذباً فيمن بغى وفجرْ
فإنما طينة الشيخين واحدة .... ذاك ابن صخر وهذا المادح ابن حجرْ
انتهى. /646

(2/646)


[اعتراف ابن حجر العسقلاني وابن حجر المكي بتواتر خبر الغدير، وبوزارة أمير المؤمنين (ع)]
قلت: وقد سبق أن ابن حجر الهيثمي هذا، من المعترفين بتواتر خبر الغدير.
قال في صواعقه: رواه ثلاثون من الصحابة، وفيه: ((اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، واخذل من خذله... إلخ)).
وأقرّ في منحه المكية، شرح الهمزية، بالوزارة الخاصة لأمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ التي لا يشاركه فيها أحد، لا أبو بكر وعمر، ولا غيرهما عند قول الناظم:
ووزير ابن عمه في المعالي .... ومن الأهل تسعد الوزراءُ
حيث قال ما لفظه: إنها قد وردت فيه على وجه أبلغ من لفظها، وهو قوله(ع): ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى))، فإن هذه الوزارة المستفادة من هذه، التي هي كوزارة هارون، أخص من مطلق الوزارة.
...إلى قوله: ومن ثمة أخذت الشيعة، أنها تفيد النص أنه الخليفة بعده؛ وهو كذلك، لولا ما يأتي قريباً...إلخ كلامه.
ولم يأت بما يبطله، وأنى له؛ وإنما هو من باب قوله ـ تعالى ـ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ } [النمل:14].
وقد اعترف ابن حجر العسقلاني بمثل ما اعترف، فذكر خبر الغدير، عن سبعة وعشرين من الصحابة، ثم قال: وآخرون.
كلاً منهم يذكر أسماء أفرادهم، /647

(2/647)


غير الروايات المجملة، مثل اثني عشر، ثلاثة عشر، جمع من الصحابة، ثلاثين رجلاً، وقد تقدم.
وقد اخترتُ نقل كلامهم في خبر المنزلة؛ لبيان متمسكهم، المتهدم الأركان، في معارضة النصوص من السنة والقرآن، وهو الذي أشار إليه الهيثمي بقوله: لولا ما يأتي.
قال العسقلاني في شرح البخاري ما لفظه: واستدل بحديث المنزلة على استحقاق علي ـ رضي الله عنه ـ للخلافة، دون غيره من الصحابة.
وقال الطيبي: معنى الحديث: يتصل بي؛ نازل مني منزلة هارون من موسى، وفيه تشبيه مبهم بينه بقوله: ((إلا أنه لا نبي بعدي))، فعرف أن الاتصال المذكور بينهما ليس من جهة النبوة، بل من جهة ما دونها، وهو الخلافة؛ ولما كان هارون المشبه به إنما كان خليفة في حياة موسى، دلّ ذلك على تخصيص خلافة علي (ع) للنبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بحياته، انتهى.
قال الإمام محمد بن عبدالله (ع): فتأمل هؤلاء العلماء، لما قهرهم البرهان، لم يجدوا بداً من القول به، لكن مع دغل في النفوس.
..إلى قوله: لأن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قال: ((بعدي))، وذلك يفيد بعد موته؛ ولأن طروء أمر على المشبه به، ولم يطرؤ على المشبه مثله لا يضر، وقد جود الرد عليهم المنصور بالله (ع) في الشافي بما لا مزيد عليه.
قلت: وقد مضت مباحث شافية، وإنما أوردت هذا؛ لانسياق البحث إليه، ولئلا يتوهم المغرب أن عندهم شيئاً؛ وما هو إلا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.
ثم ذكر ابن حجر الهيثمي ما يؤيد /648

(2/648)


هذه الوزارة الخاصة، من أن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ آخاه دون غيره، وأرسله مؤدياً لبراءة، وأنه استخلفه بمكة عند الهجرة، حتى أتاه بأهله، بعد أداء ودائعه، وقضاء ما عليه؛ فهذه كلها مؤدية وزارة خاصة لم توجد في غيره، انتهى.
[مجرد التشيع لآل محمد بدعة عند القوم]
ومن أعجب مكابرة أحزاب المضلين، من أعداء آل الرسول الأمين ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، أنهم جعلوا مجرد التشيع لآل محمد ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بدعة، كما قدّمنا عنهم تحقيقه، وعدوا مسماه من موجبات الجرح، ومقتضيات القدح؛ وهو المحمود بخصوص لفظه في الكتاب الكريم، بمثل قوله - عز وجل - في خليله ـ صلوات الله عليه ـ: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)} [الصافات]، وعلى لسان الرسول - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - في الأخبار الكثيرة، المتفق على روايتها بين فرق الأمة، والمأخوذ بمعناه، من إيجاب الله - تعالى - ورسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لهم الولاية والمودة والتمسك، وما في تلك الأبواب، على جميع ذوي الألباب.
وانظر إلى مباهتة هذا الشيخ، حيث قال في صواعقه، عند تفسير قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)} [طه]، ما لفظه: قال ثابت البناني: اهتدى إلى ولاية أهل بيته ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
قلت: وروى الحاكم الحسكاني، بسنده إلى الحسين بن علي (ع) في قوله ـ تعالى ـ: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ }...إلى قوله: {ثُمَّ اهْتَدَى (82)}، فقال لعلي(ع): ((لولايتك)).
وعن أبي ذر: إلى حب آل محمد ـ صلى الله عليه /649

(2/649)


وآله وسلم ـ.
وعن الباقر قال: إلى ولايتنا أهل البيت.
رواه عنه من طريقين؛ أفاده ـ أيده الله ـ في التخريج؛ وقد سبق.
قال ابن حجر الهيثمي: وجاء ذلك عن أبي جعفر الصادق.
وساق عن علي (ع)...إلى قوله: إن خليلي محمداً صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم قال: ((إنك ستقدم على الله ـ تعالى ـ وشيعتك راضين مرضيين، ويقدم عليه عدوّك غضاباً مقمحين)) ثم جمع على يده يريهم الإقماح.
[مسمى الشيعة عند القوم]
فقال ابن حجر ـ هذا ـ الهيثمي ما لفظه: وشيعته هم أهل السنة.
..إلى قوله: والشيعة ليسوا من شيعة علي وذريته؛ بل من أعدائهم..إلى آخر كلامه.
وفي هذا عبرة لذوي العقول؛ وقد عرفت معنى التشيع عند هؤلاء الأقوام، وأنهم جعلوه مجرد محبة علي ـ عليه الصلاة والسلام ـ.
وأما من قدمه على أبي بكر وعمر، فهو الغالي عندهم، ويطلق عليه رافضي، وهو معلوم من نصوصهم، وتصريحهم في مؤلفاتهم؛ وقد سبق عليه الكلام.
وما ادعاه ابن حجر هنا له ولطائفته المتسمية بالسنية، من مقام الشيعة، لما بهرهم ما ورد فيهم عن صاحب الشريعة ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ فإنه يأباه عليهم حبهم لعدو الله وعدو رسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وأهل بيت نبيه، معاوية، وأمه الهاوية، رأس الفئة الباغية، الداعية إلى النار، وبئس القرار./650

(2/650)


لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله، لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء، ومن يتولّهم منكم فإنه منهم، فلما تبين له أنه عدوّ لله تبرأ منه.
والمعلوم قطعاً، عقلاً وشرعاً، كلية المنافاة بين محبة الولي، ومحبة عدوه، والجمع بين الموالاة والمعاداة.
تودّ عدوّي ثم تزعم أنني .... صديقك ليس النَّوك عنك بعازبِ
[أحاديث المسالمة والمحاربة]
ولقد أنكر سخافة هؤلاء المخذولين كلُّ من أخذ بطرف من الإنصاف، كالمقبلي.
قال في الإتحاف ـ بعد أن ساق أحاديث: ((أنا حرب لمن حاربكم، سلم لمن سالمكم))، وقال: مجموعها يفيد التواتر المعنوي، وساق حديث الغدير، /651

(2/651)


ومخرجيه ورجاله، وقرر تواتره، وأنه لا أوضح منه رواية ودلالة، وقال: فإن كان هذا معلوماً، وإلا فما في الدنيا معلوم ـ ما لفظه: إذا حققت هذا، فهاهنا أناس يقولون: نوالي علياً ومن حاربه.
وقد علمت أن من حارب علياً فقد حارب أهل البيت، وحارب الحسن والحسين وفاطمة، ومن حاربهم فقد حارب رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -، ومن حارب رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ فقد حارب الله، فهو حرب الله، وعدوّ الله؛ فمن سالم العدو فقد حارب من عاداه؛ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء؛ ومن يتولهم منكم فإنه منهم.
وبالجملة، فمعلوم الآيات والأحاديث، ومعالم دين الإسلام، التنافي بين موالاة العدوّ وموالاة عدوّه، وقد أحسن القائل:
إذا صافى صديقك من تعادي .... فقد عاداك وانصرم الكلامُ
قلت: وقد قال أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ: نحن النجباء، وأفراطنا أفراط الأنبياء، ونحن حزب الله ورسوله، والفئة الباغية حزب الشيطان؛ فمن أشرك في حبّنا عدوّنا، فليس منّا، ولا نحن منه...الخبر؛ رواه محمد بن سليمان الكوفي.
وأخرجه أحمد بلفظ: (وحزبنا حزب الله، ومن سوّى بيننا وبين عدوّنا فليس منا)؛ وأخرجه بهذا ابن عساكر.
قال الإمام المنصور بالله (ع) في الشافي: وقال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في علي والحسن والحسين وفاطمة (ع)، رويناه مسنداً في أخبار كثيرة، بألفاظ مختلفة ومتفقة، ترجع إلى معنى واحد: ((أنا سلم لمن سالمكم، حرب لمن حاربكم))، وحرب رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ كافر بإجماع المسلمين، انتهى. /652

(2/652)


قلت: هذا الخبر وهو: ((أنا سلم لمن سالمكم، حرب لمن حاربكم)) في الأربعة ـ صلوات الله عليهم ـ، أخرجه الإمام المرشد بالله (ع)، ومحمد بن سليمان الكوفي بطريقين، والكنجي كذلك، وقال: أخرجه الترمذي، والطبراني، وخرجه ابن ديزيل؛ كلهم عن زيد بن أرقم؛ ورواه في الجامع الكافي.
وأخرجه الحاكم الحسكاني عن أبي سعيد الخدري، والطبري في الذخائر عن أم سلمة بلفظ: ((أنا حرب لمن حاربهم، سلم لمن سالمهم، عدوّ لمن عاداهم))، والزرندي عن أم سلمة بلفظ: ((أنا حرب لمن حاربكم، سلم لمن سالمكم)).
وقال الطبري: أخرجه الغساني في معجمه.
وأخرجه الخوارزمي، والسمان عن أبي بكر، والإمام أبو طالب، والمرشد بالله (ع)، وابن المغازلي، والثعلبي، والكنجي، وأحمد، والطبراني، والحاكم، وأبو حاتم عن أبي هريرة.
انتهى من تخريج الشافي باختصار.
وفي تفريج الكروب: ((أنا حرب لمن حاربكم، سلم لمن سالمكم)) قاله لعلي وفاطمة والحسن والحسين؛ أخرجه أحمد بن حنبل، والطبراني في الكبير، والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة، وعن زيد بن أرقم أيضاً، إلا أن لفظ الحاكم: ((حاربتم، وسالمتم))، انتهى.
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لعلي ـ صلوات الله عليه ـ: ((أنا حرب لمن حاربت، سلم لمن سالمت))، أخرجه الإمام المرشد بالله (ع)، ومحمد بن سليمان الكوفي، وابن المغازلي، وعبد الوهاب الكلابي عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ؛ قال ابن أبي الحديد: ورواه الناس كافة.
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لعلي ـ عليه /653

(2/653)


السلام ـ: ((حربك حربي، وسلمك سلمي)) أخرجه نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم، والإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة، من طريق الإمام الناصر الأطروش (ع)، ومحمد بن سليمان بطريقين، عن جابر بن عبدالله ـ رضي الله عنه ـ والكنجي، والخوارزمي، وابن المغازلي عن علي(ع).
وأبو يعلى الهمداني بإسناده إلى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي (ع)، قال: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((لولا أن تقول فيك طوائف من أمتي))...إلى قوله: ((حربك حربي، وسلمك سلمي)).
وابن المغازلي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قال: ((يا علي، سلمك سلمي، وحربك حربي، وأنت العلم ما بيني وبين أمتي من بعدي)).
انتهى من التخريج بتصرف.
وأخبار المحاربة بالنص النبوي، مما علم بالتواتر المعنوي؛ كما اعترف بذلك كثير، منهم: المقبلي.
قال في أبحاثه المسددة ـ كما نقله عنه الإمام محمد بن عبدالله الوزير (ع) في الفرائد ـ ما نصّه: ((أنا حرب لمن حاربكم، سلم لمن سالمكم)) قاله لعلي وفاطمة والحسنين ـ صلوات الله عليهم ـ، خرّجه أحمد، والطبراني، والحاكم؛ وفي معناه عدة أحاديث بعضها يعمهم، وبعضها يخص الحسن والحسين حين يخاطبهما، وفي بعضها يعم أهل بيته في الجملة، وفي بعضها يخص أمير المؤمنين /654

(2/654)


(ع).
ثم قال: مجموعها يفيد التواتر المعنوي، وشواهدها لا تحصى، مثل: أحاديث ((ما يلقاه فراخ آل محمد وذريته))، بألفاظ وسياقات يحتمل مجموعها مجلداً ضخماً؛ فمن كان قلبه قابلاً، فهو من أوضح الواضحات في كل كتاب، ومن ينبو عنها، فلا معنى لمعاناته بالتطويل، انتهى.
قال في تفريج الكروب: ((من ناصب علياً الخلافة بعدي فهو كافر، وقد حارب الله ورسوله؛ ومن شكّ في علي فهو كافر))، رواه ابن المغازلي عن أبي ذر، وهو في شمس الأخبار.
[تفسير المراد بالإمساك عن الصحابة]
قال المؤلف السيد الإمام إسحاق بن يوسف بن المتوكل على الله بن القاسم(ع): قوله: ((من ناصب علياً... إلخ)) قد حكم كثير من الشيعة بكفر معاوية، لا لهذا الحديث.
قلت: أي وحده.
قال: فهو نص عليه؛ ولكن المقتضي قوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((حربك حربي))، وقوله: ((أنا حرب لمن حارب هؤلاء))، وغيره من الأحاديث في هذا المعنى، التي لاتخفى، مما هو متواتر معنى؛ وإن لم يكن محارب أهل البيت ومعاديهم، معادياً لرسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، ومحارباً له، بطلت النصوص الكثيرة، واضمحلت الدلائل /655

(2/655)


المنيرة؛ على أن أهل السنة لا تنكر ذلك، لكنهم يتمسكون بما ورد في الإمساك عن الصحابة، وهي لا تعارض ذلك.
ثمّ ساق في الرد عليهم، وبطلان تمسكهم.
قلت: وهو متمسك مَنْ في قلبه مرض، وله في الرد لحجة الله والصد عن سبيل الله ولبس الحق بالباطل هوى وغرض.
إذ المعلوم قطعاً أن المراد بما صح من ذلك ـ مع كونه أحادياً لا يبلغ عشر معشار ما نحن فيه ـ هو الإمساك عن المستقيمين على دين الله، المتبعين لهدي رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ المتمسكين بمن أمرهم الله ـ تعالى ـ ورسوله بمودتهم، والتمسك بهم، من أهل بيت نبيهم؛ وأما غيرهم، فالكتاب والسنة مملوءان بذمهم، والبراءة منهم؛ ومن نكث فإنما ينكث على نفسه.
وقد سماهم الله على لسان رسوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - في سنته المتواترة - دعْ عنك ما في الكتاب العزيز - الناكثين والقاسطين والمارقين والمنافقين؛ ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون؟ أتريدون أن تهدوا من أضل الله؟
وقال فيما تواتر أيضاً من أحاديث الحوض المجمع على روايتها: إنه يقول لهم: ((سحقاً سحقاً)).
ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا، فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة، أم من يكون عليهم وكيلاً؟/656

(2/656)


[أحاديث أن حبَّ علي عنوان الإيمان، وبغضه عنوان النفاق]
ومما علم بالتواتر اللفظي، من النصّ النبوي، في الوصي ـ صلوات الله عليه ـ: أن حبه إيمان، وبغضه نفاق، بإقرار العدو والولي.
فمن ذلك: ما رواه الإمام الأعظم، زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي(ع)، قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((أنت أخي ووزيري، وخير من أخلّفه بعدي؛ بحبّك يُعْرف المؤمنون، وببغضك يعرف المنافقون؛ من أحبّك من أمتي بريء من النفاق، ومن أبغضك لقي الله ـ عز وجل ـ منافقاً)).
وقال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((يا علي، لولاك ما عرف المؤمنون بعدي))، أخرجه الإمام الرضا علي بن موسى الكاظم، بسند آبائه (ع).
وأخرجه ابن المغازلي، عن علي مرفوعاً.
قال في الفرائد: ومثله عن أم سلمة مرفوعاً.
وقال في الدلائل: أخرجه الخطيب، وابن المغازلي، وقد أخرجه عدة من المحدثين، انتهى.
وفي الخبر الطويل القدسي ـ وقد مَرّ ـ: ((لولا علي لم يعرف حزبي))، رواه الخوارزمي بإسناده إلى جعفر بن محمد، عن آبائه، عن علي (ع)؛ ذكره في التفريج.
وفي التخريج: وأخرجه الكنجي، وأبو نعيم، وابن المغازلي، عن أبي برزة الأسلمي، انتهى.
وأخرج الإمام الناصر (ع) في البساط، بسنده عن جابر - رضي الله عنه -: سُئل عن علي (ع)، فقال: ذلكم خير البشر؛ ما كنا نعرف نفاقاً، ونحن على عهد رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ إلا ببغضهم علي بن أبي طالب (ع).
وأخرجه أحمد بن حنبل، ورواه محمد بن سليمان بسنده عن جابر بلفظ: ما كنا نعرف منافقنا معشر الأنصار...الخبر.
وأخرج الإمام الناصر (ع) أيضاً بسنده إلى أبي سعيد، قال: ما كنا نعرف المنافقين إلا ببغضهم علي بن أبي طالب (ع)؛ وإذا /657

(2/657)


ولد فينا مولود لم يحب علياً (ع) عرفنا أنه منافق.
وأخرجه عنه أحمد بلفظ: منافقي الأنصار إلا ببغضهم علياً.
وأخرجه عن أبي سعيد أبو داود؛ وأخرجه البخاري، عن حذيفة؛ والإمام أبو طالب، عن أبي سعيد، بلفظ: إنما كنا نعرف منافقي الأنصار ببغضهم علياً.
وأخرج الحاكم في المستدرك، والخطيب في المتفق والمفترق، عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ: ما كنا نعرف المنافقين إلا بتكذيبهم لله ولرسوله، والتخلف عن الصلوات، والبغض لعلي (ع)؛ وصححه.
ورواية أخرى عن جابر، وأخرجها أحمد.
وأخرج الإمام الناصر (ع) فيه بسنده، عن علي (ع) أنه قال: قضي فانقضى، إنه لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق.
قال الحسين بن القاسم، والإمام محمد بن عبدالله الوزير، والسيوطي، والمقبلي، حديث: لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق، أخرجه جماعة، منهم: مسلم، وأحمد، والحميدي، وابن أبي شيبة، والترمذي، والنسائي، وابن عدي، وابن حبان، وأبو نعيم، وابن أبي عاصم؛ عن علي (ع).
وحديث علي (ع): والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إنه لعهد النبي الأمي إلي، أنه لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق؛ أخرجه محمد بن سليمان الكوفي بسنده إلى زر بن حبيش عن علي(ع)، وأخرجه أحمد عنه من طريقين، وأخرجه النسائي عن زر من ثلاث طرق، ومسلم، والترمذي.
قال الإمام محمد بن عبدالله الوزير: وهذا الحديث مشهور، بل متواتر معنى، وله ألفاظ وسياقات، وممن أخرجه: البيهقي، والديلمي، وأبو الشيخ، والكرخي، والرافعي، والخطيب، والطبراني، والحاكم في المستدرك، وابن عبد البر، وأبو داود، وابن المغازلي وغيرهم؛ كل منهم من رواية صحابي، ومن طريق واحدة فأكثر؛ وهذه الأحاديث في أهل البيت (ع) فهي كثيرة /658

(2/658)


الموارد في أن من أبغضهم فهو منافق بألفاظ؛ والحمد لله، انتهى.
وفي التخريج: ورواه ابن المغازلي، عن علي (ع) من سبع طرق، ورواه من حديث المناشدة عن أبي الطفيل، عن علي بلفظ: ((ولا يبغضك إلا كافر)).
ورواه ابن المغازلي بلفظ: لا يحبني كافر، ولا يبغضني مؤمن.
وأخرجه الكنجي عن علي كما عند النسائي.
وروى ـ أي محمد ـ بسنده إلى زيد بن أرقم، قال: قال علي: والذي فلق الحبة، إنه قال النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق أو كافر)).
وأبو علي الحسن بن علي الصفار، بسنده إلى عبدالله بن يحيى.
وروى محمد بن سليمان الكوفي، بسنده إلى عمر بن عبدالله بن يعلى، عن أبيه، عن جده يعلى، قال: سمعت رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يقول لعلي: ((من أطاعك فقد أطاعني، ومن أطاعني فقد أطاع الله؛ ومن عصاك فقد عصاني، ومن عصاني فقد عصى الله؛ ومن أحبك فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب الله؛ ومن أبغضك فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله؛ لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق كافر)).
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((لا يحب علياً إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق)) أخرجه الإمام أبو طالب (ع) عن أم سلمة - رضي الله عنها -، والكنجي عنها بلفظ: ((لا يحب علياً منافق، ولا يبغضه مؤمن))، وقال: رواه أبو عيسى في صحيحه.
قلت: وبهذا اللفظ أخرجه مسلم عن أم سلمة.
وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق))، أخرجه عنها عبدالله بن أحمد بن حنبل في زياداته، والترمذي.
وأخرجه ابن أبي شيبة عنها بلفظ: ((لا /659

(2/659)


يبغض علياً مؤمن، ولا يحبه منافق))، والطبراني عنها بلفظ: ((لايحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق)).
قال الشيخ أبو القاسم البلخي: وقد اتفقت الأخبار الصحيحة، التي لاريب فيها عند المحدثين، على أن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قال له: ((لا يبغضك إلا منافق، ولا يحبك إلا مؤمن)).
قال: وروى حبة العرني، عن علي (ع) أنه قال: إن الله ـ عز وجل ـ أخذ ميثاق كل مؤمن على حبي، وميثاق كل منافق على بغضي؛ فلو ضربت وجه المؤمن بالسيف ما أبغضني، ولو صببت الدنيا على وجه المنافق ما أحبني.
قال: وقد روى كثير من أرباب الحديث، عن جماعة من الصحابة، قالوا: ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ إلا ببغض علي بن أبي طالب.
ذكره في شرح النهج.
وأخرج أحمد، عن عبدالله بن حنطب، عن أبيه، عنه صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم: ((أيها الناس، أوصيكم بحب ذي قرباها، أخي وابن عمي علي بن أبي طالب؛ لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق؛ من أحبه فقد أحبني، ومن أبغضه فقد أبغضني، ومن أبغضني عذّبه الله بالنار)).
وأخرج الحاكم بسنده إلى ابن عباس قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((لا يبغضك إلا منافق)).
فهذه مع ما سبق في صدر الكتاب مجة من لجة، مما ورد في هذا اللفظ بخصوصه؛ ومن وقف عليها ـ بل على بعضها ـ علم بالضرورة بطلان ما زخرفه المزخرفون، وحرّف الكَلِم عن مواضعه فيها المحرّفون ـ كما سبقت الإشارة إليه ـ من تأويلها بأن ذلك في صدر الإسلام، واستدل عليه بأنه ـ صلوات الله عليه ـ كان ثقيلاً على المنافقين، وأن الخوارج ونحوهم لم يكفروا بالإجماع، ونحو /660

(2/660)


ذلك من التلبيس والتغرير.
والجواب: أنها وردت عامة ومطلقة عن الله ـ سبحانه ـ على لسان رسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في كل زمان ومكان، وعلى كل حال من الأحوال، في صدر الإسلام وآخره وأوسطه، وعلى عهد رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وبعده، وفي حياته وموته.
[اختلاف معاملة الكفار]
وأما الإجماع على عدم كفر باغضيه فممنوع؛ وإنما لم يعاملوا معاملة الكفار الجاحدين، للشهادة والصلاة والزكاة، وغيرها من أركان الإسلام؛ لأن معاملة الكفر أنواع مختلفة الأحكام، كما اختلفت معاملة أهل الذمة، وأهل النفاق، وأهل الحرب، وأهل الردّة من الكفار، وإن اتفقوا في إطلاق الكفر عليهم، والحكم باستحقاق النار، وغضب الجبار؛ وكذلك معاملة العصاة من أهل القبلة والشهادة، فمنهم من يقاتل، ومنهم من يجلد، ومنهم من يرجم، ونحو ذلك؛ ولم يخرجهم ذلك عن اسم الفساق بالاتفاق.
وعلى الجملة، للأسماء والأحكام الأخروية باب، وللمعاملة والأحكام الدنيوية باب آخر، وكل واحد منهما موقوف على الدليل، كما يعلمه من له علم وفهم وتحصيل، من أولي الألباب.
وما ورد عن الوصي ـ صلوات الله عليه ـ من نفي الكفر عنهم، فمع كونه آحادياً ومعارضاً بنحو قوله (ع) في معاوية وأصحابه: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما أسلموا، ولكن استسلموا، وأسرّوا الكفر؛ فلما/661

(2/661)


وجدوا أعواناً عليه أظهروه؛ وهو في النهج.
وقول عمار ـ رضي الله عنه ـ: والله ما أسلموا، ولكنهم استسلموا، وأسروا الكفر والنفاق حتى وجدوا أعواناً على الكفر فأظهروه؛ رواه في المحيط بسنده إلى الإمام الأعظم زيد بن علي (ع).
ولا نسبة له إلى جنب ما ذكرنا، فيحمل ما صح منه على نفي كفر الإنكار للشهادة، والصلاة؛ لالتزامهم في الظاهر لتلك الأحكام، لا نفي كفر النفاق والشقاق، والعداوة لله ولرسوله، ولوصيه ولأهل بيت نبيه ـ عليهم الصلاة والسلام ـ التي أجمع عليها الخاص والعام، وخرجت في جميع دواوين الإسلام، وقد ورد التصريح بالكفر والنفاق، لمن نازعه وحاربه وأبغضه، عن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وعن وصيّه في متواتر الأخبار، بما لا يستطاع له رد ولا إنكار، ولم يستقم لأهل الزيغ والشقاق، ما ذكروه من التحريف والتبديل في غير لفظ النفاق.
قال الأمير في شرح التحفة ـ بعد أن أورد كلام العامري المنقول من تلفيق محمد بن إبراهيم الوزير المستمد من تزويق ابن حجر وغيره تشابهت قلوبهم ـ ما لفظه: وهذه الأجوبة وإن تمشت في أن بغضه (ع) نفاق، فأما أحاديث أذاه، وهي: ((من آذاه فقد آذى رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، ومن آذى رسول الله فقد آذى الله))؛ وقد علم وعيد من آذى الله من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ... الآية} [الأحزاب:57]، فلا يتمّ فيه الجواب؛ فينظر.
انتهى كلامه. /662

(2/662)


قلت: ولا يتمّ الجواب ولا يتمشى، عن أن ولايته ولايته، وطاعته طاعته، ومعصيته معصيته، وعداوته عداوته، وحبه حبه، وبغضه بغضه، وحربه حربه، وسلمه سلمه، وسبّه سبّه، ونفسه نفسه، وغير ذلك مما لا ينحصر بِعَدٍّ ولا حساب، في متواتر السنة وصريح الكتاب.
ولا يتم أيضاً فيما ورد بذلك اللفظ وبغيره في سائر أهل بيت الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ فليستعدوا للجواب، بين يدي رب الأرباب، يوم العرض والحساب.
وقد بين الله ـ تعالى ـ في الكتاب المبين، وسنة الرسول الأمين، مقام أمير المؤمنين، وسيّد الوصيين، وأخي سيد النبيين ـ صلى الله وسلم عليهم أجمعين ـ بكل بيان يشار إليه، وعلى كل معنى يدل عليه؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم.
[خاتمة]
هذا، ويتوقف عنان القلم، عن المد في زاخر هذا اليم؛ وقد تكرر النقل على سبيل الاستطراد، لما قد مَرّ في بعض المواد، واستغنيت في بعض مما وقفت فيه على الأصول، بالعزو إلى الأمهات، عن نسبته إلى كتاب من التخريجات، وإن كانت قد تكون هي المذكرة للبحث؛ وذلك للسلامة عن الطول، وللإفادة بتوافق الوقوف على الأصول.
وقد يتخيل لبعض الناظرين أنه قد وقع التعرض لما لا حاجة إليه، ولما هو مشهور متداول؛ وليس الأمر على ما يتخيل، فقد يكون متداولاً من غير تحقيق لطريقه، أو من غير الطريق المفيدة، أو يكون معروفاً من طريق وله طرق عديدة؛ فكم من خبر عند من لا خبرة له من الآحاد، وهو متواتر عند أرباب البحث والانتقاد؛ ورب حديث يعتقد القاصر /663

(2/663)


أنه مما تفرد به بعض الطوائف، وهو مما رواه الموالف والمخالف؛ أو تكون طرقه متفرقة في الأسفار، وفي جمعها من الفوائد ما لايخفى على ذوي الأنظار.
وقد تحصل ـ بفضل الله ـ في هذا المجموع المبارك ـ إن شاء الله تعالى ـ ما لم يتحصل فيما اطلعت عليه في كتاب؛ والمنة لله الملك الوهاب، وهو الموفق لمنهج الصواب، وإليه المرجع والمآب.
نعم، وقد تيسر ـ بحمد الله تعالى وإفضاله ـ فيما سبق، غاية الرغائب، ومنتهى المطالب، والبلاغ المبين، لقوم عابدين، وجمع طرق جوامع مؤلفات آل محمد الأعلام ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وشيعتهم الكرام، ومعتمدات كتب العامة، كالأمهات الست؛ بالطرق إلى الشافي، ثم بطرقها المفصلة فيه، وبالطرق المتصلة بالأئمة، الذين رووها بطرقهم في مسنداتهم، كالإمام عز الدين بن الحسن، والإمام القاسم بن محمد (ع) وغيرهم، على ما سبق.
[السند إلى بيان ابن مظفر، وشرح الأزهار، وإلى مؤلفات ابن حابس، وابن بهران، وداود بن الهادي، والإمام عز الدين، والإمام إبراهيم المؤيدي، وابن لقمان، والجلال، وابن الأمير، والمقبلي]
بيان ابن مظفر للعلامة يحيى بن أحمد، المتوفى سنة خمس وسبعين وثمانمائة، أرويه بالسند السابق إلى الإمام شرف الدين، عن العلامة علي بن أحمد، عن العلامة علي بن زيد الشظبي، عن المؤلف.
شرح الأزهار للعلامة عبدالله بن مفتاح، المتوفى سنة سبع وسبعين وثمانمائة، وما يتعلق به من الحواشي، أرويه بالسند المذكور إلى الإمام شرف الدين، عن العلامة علي بن أحمد، عن العلامة علي بن زيد، عن المؤلف.
مؤلفات القاضي العلامة أحمد بن يحيى حابس: شرح الثلاثين المسألة، وشرح الكافل، وشرح التكملة، والمقصد الحسن، والتكميل، بالسند الآتي إلى إبراهيم بن القاسم صاحب الطبقات، عن القاضي العلامة أحمد بن ناصر المخلافي، عن أبيه، عن جده، عن المؤلف. /664

(2/664)


مؤلفات القاضي العلامة محمد بن يحيى بهران، المتوفى سنة سبع وخمسين وتسعمائة: المعتمد، والكافل، وتخريج البحر، وشرح الأثمار، والتكميل، وغيرها، بالسند السابق إلى الإمام القاسم بن محمد، عن العلامة عبد العزيز بن محمد، عن أبيه المؤلف.
مؤلفات السيد الإمام داود بن الهادي بن أحمد بن المهدي، والإمام الهادي عز الدين بن الحسن (ع): شرح المعيار، وشرح الأساس، وشرح الكافل، وتتمة البسامة، أرويها بالأسانيد السابقة إلى السيد العلامة الحسين بن أحمد زبارة، عن القاضي العلامة أحمد بن صالح بن أبي الرجال، عن القاضي العلامة أحمد بن سعد الدين المسوري، عن المؤلف.
مؤلفات الإمام إبراهيم بن محمد المؤيدي: شرح الهداية، وشرح الكافل ـ الروض الحافل ـ وشرح الثلاثين المسألة، وغيرها، بهذا السند إلى القاضي أحمد بن صالح، عن المؤلف.
مؤلفات السيد العلامة أحمد بن محمد بن لقمان: شرح الكافل، وشرح الأساس، بهذا السند إلى القاضي أحمد بن صالح، عن المؤلف ـ رضي الله عنهم ـ.
مؤلفات السيد العلامة الحسن بن أحمد الجلال، المتوفى سنة أربع وثمانين وألف، بالسند السابق إلى الحسين بن أحمد زبارة، عن القاضي عبد الواسع بن عبد الرحمن القرشي، المتوفى سنة ثمان ومائة وألف، عن المؤلف.
مؤلفات السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير، بالسند السابق إلى أحمد بن يوسف زبارة، وأحمد بن زيد الكبسي، عن السيد عبدالله بن محمد، عن أبيه محمد بن إسماعيل الأمير المؤلف.
مؤلفات العلامة صالح بن مهدي المقبلي، المتوفى سنة ثمان ومائة وألف، /665

(2/665)


بالسند السابق إلى العلامة محمد بن إسماعيل الأمير، عن العلامة عبد القادر بن علي البدري، عن المؤلف.
[السند إلى طبقات الزيدية، وبلوغ الأماني، والإحازة، والعقد الفريد، وغيرها]
وأروي طبقات الزيدية، للسيد الإمام إبراهيم بن القاسم - رضي الله عنه - وأسانيد القاضيين العالمين أحمد بن سعد الدين المسوري، ومحمد بن أحمد مشحم ـ رضي الله عنهم ـ عن والدي ـ رضي الله عنه ـ عن الإمام المهدي لدين الله محمد بن القاسم الحوثي، عن شيخه السيد الإمام محمد بن محمد بن عبدالله الكبسي، عن السيد العلامة إسماعيل بن أحمد الكبسي، عن القاضي العلامة علي بن حسن بن جميل المعروف بالداعي، عن القاضي العلامة محمد بن أحمد مشحم؛ وهو بطرقه في كتابه بلوغ الأماني المذكور فيه إسناد كل مؤلف إلى صاحبه.
وبهذا السند، عن شيخه مؤلف الطبقات السيد الإمام إبراهيم بن القاسم، جميع ما تضمنته.
وبهذا السند أيضاً إلى العلامة محمد بن أحمد مشحم، عن شيخه العلامة أحمد بن محمد الأكوع، عن شيخه العلامة أحمد بن سعد الدين المسوري، ما جمعه في كتابه من أسانيد أئمة العترة (ع) خلفاً عن سلف، وغيرهم، وجميع ما صح عنه؛ وقد تقدّمت الطرق إليه.
وكذا ما جمعه القاضي العلامة الحافظ، عبدالله بن علي الغالبي، الإحازة وغيرها، بالسند المار إليه.
والعقد الفريد للسيد الإمام عبد الكريم بن محمد أبي طالب صاحب الروضة، بالسند المتقدم إلى السيد الإمام الرباني، الحسين بن محمد الحوثي، عن المؤلف - رضي الله عنهم -. /666

(2/666)


وإتحاف الأكابر، للعلامة محمد بن علي الشوكاني، أرويه عن والدي ـ رضي الله عنه ـ عن الإمام المهدي لدين الله محمد بن القاسم الحوثي، عن السيد الإمام محمد بن محمد الكبسي، عن المؤلف.
وقد تضمّنت هذه المجموعات، وغيرها مما اتصل به إسنادنا، الطرق إلى سائر المؤلفات، وإن كان كتاب اللوامع قد أحاط بالأصول المرجوع إليها، والمهمات المعتمد عليها، إحاطة الهالة بالقمر، والأكمام بالثمر، ولم يبق إلا ما هو كالفضلة، بعد تمام الجملة، مع أن أصول الطرق إليه فيه متحصلة.
نعم، ولم نصل إلى هذا المحل، إلا وقد تحصل مفردات في الإسناد، ملخصات على الانفراد، منها: الجامعة المهمة، في إسناد كتب الأئمة، كان التعجيل بها إجابة للطالبين، وتلبية للراغبين، وفيها بقية الطرق إلى كتب الإجازات، عن مشائخنا - رضي الله عنهم - ولا يذهب عنك ما ذكرته في الفصل الرابع، وفي الفصل الخامس في سند المجموع، أني أروي عن جميع من اتصل بهم السند ذلك من ابتدائه إلى الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة (ع)، جميع ما لكل واحد منهم من المؤلفات والمرويات، كل واحد منهم بالسند المتصل به؛ وقد شمل ذلك جمعاً كثيراً، وعدداً كبيراً.
[الإشارة إلى إسناد مؤلفات مَنْ بعد الإمام المهدي القاسم بن محمد (ع):
أنوار التمام، فرائد اللآلئ، البدور المضيئة، الموعظة الحسنة، الروض النضير، عدة الأكياس شرح الأساس، الغاية، الهداية،]
وقد أشرت هنالك إلى ما للإمام القاسم بن محمد، ومن قبله (ع)، وأشير هنا إلى ما بعده.
فمن ذلك ما للإمامين المؤيد بالله محمد، والمتوكل على الله إسماعيل ابني الإمام القاسم بن محمد (ع) من المؤلفات، ومن ذلك: أنوار التمام بتتمة اعتصام الإمام القاسم، للسيد الإمام أحمد بن يوسف زبارة (ع)، وما للإمام الشهير المنصور بالله محمد بن عبدالله الوزير، من ذلك: كتاب فرائد اللآلي، مجلد حافل، قد كثر النقل منه في تخريج الشافي،/667

(2/667)


وفي هذا الكتاب.
وكذا ما لوالدنا الإمام المهدي لدين الله محمد بن القاسم الحوثي (ع) من المؤلفات والجوابات؛ وقد جُمِعَتْ جواباته(ع) فبلغت مؤلفاً جامعاً في كل فن، قدره بعض العلماء بالشافي، وبعض بالبحر الزخار.
ومنها: جواباته على الأسئلة الضحيانية المسماة بـ(المشكاة النورانية).
قال (ع) في صدرها: الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم...إلخ.
ومنظومة الإمام المشهورة، العامة النفع، في الجنايات، التي صدرها:
باسم إله العرش يُمناً ومعصماً .... وعونك يا رحمن بدءأ ومختماً
وكتاب الموعظة الحسنة، وهي الدعوة التي وجهها إلى أهل الديار الحجازية، وجبل الرس، وأهل وادي الفرع، وبدر، وخيبر، وسائر الأقطار، صدرها:
الحمد لله الذي فتح لأصفيائه باب الدعاء إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، ومنح قلوب أوليائه التلقي بالقبول على مرور الأعوام والأزمنة، وجعلهما فرضين لازمين، وواجبين متساويين، وإن تباعدت الديار والأمكنة...إلخ؛ وهي أربعة أبواب: باب في مهمات مسائل أصول الدين، وباب في مهمات من الفقه معتمدة، وباب فيما جاء في فضائل العترة ووجوب التمسك بهم وما يتبع ذلك، وباب فيما يجب للمحقين من الأئمة؛ أورد في جميعها الأدلة من المعقول والمنقول، في الفروع والأصول؛ وقد اعتمدها في التدريس علماء عصره، ومن بعدهم رضوان الله عليهم.
وهكذا كل من له مؤلف أو رواية، أو دراية من أهل هذا الإسناد، والله ولي التوفيق والسداد./668

(2/668)


ومما صح لي بالسماع والإجازة من مؤلفات المتأخرين التي لم تتضمنها إجازات المتقدمين: كتاب الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير؛ أرويه بطرق أعلاها عن والدي قدس الله روحه عن شيخه العلامة شيخ الإسلام محمد بن عبدالله الغالبي، عن حفيد المؤلف ابن بنته القاضي العلامة الحافظ أحمد بن محمد بن يحيى السياغي المتوفى سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وألف، عن السيد العلامة بدر الدين محمد بن إسماعيل بن محمد الكبسي المتوفى سنة تسع وثمانين ومائتين وألف، عن أبيه ـ رضي الله عنهم ـ عن المؤلف، القاضي العلامة الخطير، حافظ العصر الأخير، الحسين بن أحمد السياغي الحيمي الصنعاني، المتوفى سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف ـ رحمه الله تعالى ـ.
قال فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، شارح الصدور بأنوار معارفه...إلخ.
وسنذكر ـ إن شاء الله تعالى ـ في الفصل الآتي المنفرد، وهو الحادي عشر، عند المرور على ذكر العلماء، الإسناد إلى من لم يتصل به منهم فيما مر تفصيلاً، وإن كان قد تضمن ذلك ما سبق، وفيما تقدم كفاية وافية.
ويحسن أن نختم هذا البحث بذكر سند عدة الأكياس شرح الأساس، للسيد الإمام عمدة الأعلام، أحمد بن محمد الشرفي، وسند الغاية، وشرحها الهداية، للسيد الإمام سلطان العلوم، ومحقق منطوقها والمفهوم، نجم الأعلام الحسين بن الإمام القاسم (ع).
أما شرح الأساس: فبالسند الآتي إلى المتوكل على الله إسماعيل، عن أخيه الحسين، عن السيد الإمام أحمد بن محمد الشرفي.
وأما الغاية وشرحها: فأرويها بالسند السابق إليه (ع) في الفصل/669

(2/669)


الرابع، وبالسند المتقدم في المجموع وغيره إلى الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم، عن أخيه سيد المحققين الحسين بن أمير المؤمنين (ع).
قال فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول العبد الفقير إلى الله عز وجل، الغني بإعانته على ما عقد وحل...إلى آخر الهداية شرح الغاية.
ـــــــــــــــ
والله أسأل، وبجلاله أتوسل، أن يصلي ويسلم على من أرسله رحمة للعالمين، وعلى آله الهادين إلى يوم الدين، وأن يتقبّل العمل، ويحقق الأمل، ويحسن الختام، ويصلح أمر الإسلام، إنه قريب مجيب، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
حرر غرة شوال سنة سبع وسبعين وثلاثمائة وألف، بمدينة صعدة حرسها الله بالصالحين، وعمرها بالعلماء العاملين، بجوار الجامع المقدس النبوي اليحيوي، جامع والدنا إمام الأئمة، الهادي إلى الحق المبين، يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم، عليهم وعلى سلفهم وخلفهم أفضل الصلاة والتسليم؛ وسبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.
ـــــــــــــــ
---
- قال في المخطوطة التي قابلنا هذه عليها ما لفظه: حمداً لله وصلاة وسلاماً على رسول الله وعلى آله صفوة الله؛ وإنه كان الفراغ من النساخة لهذا الجزء الأخير في حوالي 20/12/1388هـ، كاتبها حسن بن محمد الفيشي غفر الله لهما آمين.
انتهى نقلاً من نسخة المؤلّف أيده الله، وبارك في أيامه، ونفع بعلومه الإسلام والمسلمين، آمين آمين.
قال في ورقة الأصل: كتب الفقير إلى الله تعالى قاسم بن أحمد بن المهدي محمد بن القاسم بن محمد بن إسماعيل بن الحسن الحوثي الحسيني غفر الله له وللمؤمنين والمؤمنات، آمين آمين في 20/ صفر / 1392هـ.

(2/670)


لوامع الأنوار
الجزء الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
(الفصل الحادي عشر اللاحق بلوامع الأنوار)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وآله الأكرمين، وبعد:
فهذا الفصل، الذي سبق به الوعد في لوامع الأنوار، قد أفردته؛ ليتمكن المطلع من وصله بالماضي أو فصله عنه، فإليه الاختيار.
والمقصد الأهم منه ذكر أعلام العترة الأطهار، وكرام العصابة الأبرار، الذين عليهم في باب الرواية معظم المدار، على ضرب وجيز من الاختصار، والمبحوث عنه أولاً وبالذات، الرواة الثقات، في أصل أسانيد أئمتنا السابقين عليهم السلام، ومَنْ بيننا وبين المؤلفين.
فإن ذُكِرَ غيرهم لغرض فبالعرض؛ وقد سبق في التحف الفاطمية وفي لوامع الأنوار ذكر الكثير، فمن أعيد الكلام عليه فهو لتقريب المنال، وتيسير الانتوال، ويكون إن شاء الله تعالى بما فيه زيادة إفادة بلا تكرار، ومن لم يكن قد اتصلت به فيما مَرّ الطريق، فسأوصل السند إليه وإلى مؤلفاته، عند المرور عليه، وذلك النزر اليسير، والله ولي التوفيق والتيسير.
وأما المؤلفات الجامعة، فقد تقدمت إليها الطرق النافعة، بحمد الله تعالى.
هذا ومن سنذكر في هذا الفصل المبارك إن شاء الله فلا يخلو، إما أن يكون معلوم الحال، لدى الخاص والعام، فلا كلام.
وإن ذكر بما يفيد، فمن باب التأكيد.
وإما أن لا يكون كذلك، فإن وقع التصريح، بتعديل أو تجريح، فمتضح؛ وإن لا يذكر بشيء فعهدة المطلع أن يعتمد على ما يصح.
ولا يخفى موجب الإحالة في مثل ذلك على أرباب الفهوم، /15

(3/15)


لعل لها عذر وأنت تلوم.
ولا يكون التصريح بالتعديل، إلا لمن صحت عدالته المحققة، ولا الجرح إلا لمن صحّ مقتضاه، بطريق الشرع المرتضاة، لموجب القيام بالقسط، والشهادة لله تعالى بالحق ـ كما أخذ الله تعالى ـ بعد كثرة البحث، وشدة التحري والفحص؛ للوقوف على الحقائق، وتجنب مختلف الطرائق.
وقد استلزم العمل تكرير النظر في جميع ما تحصل من مؤلفات أولي الألباب، والله الموفق للصواب، وسلوك منهج السنة والكتاب.
وقد وقعت العناية بإعانة الله تعالى في الإحاطة؛ ليكون هذا المؤلَّف جامعاً للمقصود، بإعانة الملك المعبود.
وسيكون البحث فيمن عدهم الشيخ العالم الزاهد، ولي آل محمد، القاسم بن عبد العزيز بن إسحاق البغدادي الزيدي ، في رسالته المشهورة، في أصحاب الإمام الأعظم زيد بن علي بن الحسين بن علي عليهم السلام، ومن ثبتت عدالتهم بصحيح النقل في مؤلفات سائر أئمتنا الهداة، كأصحاب الأئمة، القائمين بما افترضه الله تعالى على الأمة، الذين ذكرهم الإمام المنصور بالله عليه السلام في الشافي ، والفقيه حميد الشهيد في الحدائق، وأبو الفرج في مقاتل الطالبيين ، وغيرهم؛ وجميع من ذكرهم السيد صارم الدين إبراهيم بن محمد الوزير، في علوم الحديث المسمى بالفلك الدوار ، ومن تبعه كالسيد العالم المهدي بن الهادي اليوسفي، المعروف بالنوعة، في الإقبال ؛ والقاضي العلامة شمس الشريعة أحمد بن يحيى حابس ، في المقصد الحسن ؛ والقاضي عماد الدين يحيى بن محمد حميد المقرائي، في النزهة ، وجميع من عدهم في ثقات محدثي الشيعة السيد الإمام الصارم إبراهيم بن القاسم بن المؤيد بالله محمد بن القاسم عليهم السلام، في طبقات الزيدية ، ومن أوردهم منهم في المختصر من الطبقات ، المسمى /16

(3/16)


بالجداول، شيخُنا المولى العلامة، فخر أعلام العصر، عبد الله بن الإمام الهادي ـ رضي الله تعالى عنهما ـ.
وأنا أرويه عنه وجميع مروياته، كما سبق في التحف الفاطمية .
على أن السيد صارم الدين عليه السلام، والتابعين له المذكورين، أدخلوا في الشيعة بعض من ليس منهم على الحقيقة؛ وإنما هو باعتبار قربهم من جانب العترة، بالنظر إلى أولى النصب والبِغضة، ولأخذهم بطرف من الإنصاف، رَمَاهم بالتشيع؛ لقصد القدح، أربابُ الزيغ والانحراف، أرادوا أن يذموا فمدحوا، كما قيل: بعض الجرح تعديل.
وسأبين ـ إن شاء الله تعالى ـ عند المرور عليهم، مَنْ كان من ذلك القبيل، ويتضمّن البحث عمن جمعهم، منهم: القاضي العلامة المفضال، ولي الآل، أحمد بن صالح بن أبي الرجال ، في مطلع البدور ، ومجمع البحور.
وعلى الجملة، أبلغ الجهد ـ إن شاء الله تعالى ـ في هذا المنهج؛ ليكون على أكمل منوال، بإعانة ذي الجلال.
وقد جعلت طبقات الزيدية الكبرى مصدر النقل، وقنطرة العبور، مع مراجعة الأصول، لمحلها من الجمع والاشتهار، وتطلع الأفكار إليها والأنظار، وقد يقع في ذلك تصحيح أو ترجيح، أو تقديم أو تأخير، أو زيادة أو نقص.
ولفظ (قلت) دال على أن الكلام مضاف إليَّ، حتى أنها إن كانت في كلام الغير، أعبّر عنها بلفظ (قال) أو نحو ذلك، تجنباً للبس.
وبالجملة فسيتضح ما استمد منها، أو من أي كتاب، بلا ارتياب.
[المراد بأئمتنا الخمسة أو الجماعة أو الستة]
ومتى أطلق أئمتنا الخمسة، فهم: المؤيد بالله ، وأخوه أبو طالب ، والموفق بالله ، وولده المرشد بالله، ومحمد بن منصور المرادي .
أو الجماعة، أو الستة: فالبخاري، ومسلم، وأبو داود ، والنسائي ، والترمذي ، وابن ماجه .
أو حافظ اليمن: فصاحب الفلك الدوار، الوزير.
أو السيد الإمام أو المولى، فمؤلف الطبقات .
[سند الطبقات ]
وهذه الطريق إلى طبقات الزيدية ، وإن /17

(3/17)


كانت قد سبقت في الجامعة المهمة، ولوامع الأنوار.
فيقول المفتقر إلى الله سبحانه مجد الدين بن محمد بن منصور بن أحمد بن عبد الله بن يحيى بن الحسن بن يحيى بن عبد الله بن علي بن صلاح بن علي بن الحسين بن الإمام عز الدين بن الحسن بن الإمام علي بن المؤيد الحسني المؤيدي، أفرغ الله عليهم شآبيب عفوه وغفرانه، وأسبغ عليهم سرابيل لطفه ورضوانه:
أروي كتاب طبقات الزيدية بطرق كثيرة، وقد أوضحت مختارها فيما تقدم من لوامع الأنوار، والجامعة المهمة، في أسانيد كتب الأئمة؛ أعلاها عن شيخي ووالدي عالم آل محمد وعابدهم، الولي بن الولي، محمد بن منصور المؤيدي - رضي الله عنهما-، عن شيخه والدنا الإمام المهدي لدين الله محمد بن القاسم الحسيني الحوثي ـ قدس الله روحه في عليين ـ، عن شيخه نجم أعلام اليمن محمد بن محمد بن عبد الله الكبسي ، عن شيخه العلامة بدر الآل الأكرمين إسماعيل بن أحمد الكبسي - رضي الله عنهم -، عن شيخه الفقيه العلامة جمال الدين علي بن حسن جميل، المعروف بالداعي، عن القاضي العلامة الأوحد محمد بن أحمد مشحم ، عن شيخه المؤلف السيد الإمام الصارم إبراهيم بن القاسم بن المؤيد بالله محمد بن القاسم عليهم السلام.
[نبذه من أول الطبقات ]
قال في الطبقات :
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إلاه إلا الله الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين.
أما بعد، فهذا كتاب جمعتُ فيه أسماء الرواة، التي في كتب أئمتنا أئمة الزيدية الهداة، ولم أذكر إلا من له سند متصل، غالباً، وجعلته ثلاث /18

(3/18)


طبقات: الأولى: في أسماء الصحابة، والثانية: في أسماء التابعين وتابعيهم إلى رأس الخمس المائة، والثالثة: من روى كتبهم عليهم السلام وكتب شيعتهم متصل السند إلى يومنا هذا، وأسماء الكتب التي جمعت رجالها.
قلت: ذكرها بعبارة فيها بسط، وأنا أسوقها على وجه أخصر وأكمل؛ فإنه لم يورد جميع المبحوث عن رجالها، في هذا المحل، فهي: المجموعان: الفقهي، والحديثي ، وأماليات أئمتنا الخمس، والأحكام ، والمنتخب ، والبساط ، وشرح التجريد ، وشرح الأحكام لأبي العباس، والمصابيح له، وصحيفة الرضا، والاعتبار للجرجاني، والشافي، والجامع الكافي ، والتأذين بحي على خير العمل، وقليل من الشفاء، والذكر للمرادي، وشرح القاضي زيد، والمحيط بالإمامة ، وأمالي السمان ، وجلاء الأبصار .
وهذه وغيرها قد مضت بطرقها مستوفاة بحمد الله في لوامع الأنوار.
ومنها: الأربعون لأبي الغنائم، والبراهين الصريحة لمحمد بن سليمان الكوفي وهي المناقب ، ونظام الفوائد أمالي قاضي القضاة، جمعها القاضي جعفر، والمسائل المرتضاة ، وشواهد التنزيل ، ومناقب ابن المغازلي، ومناقب الكنجي ، والحلية لأبي نُعيم، وابن أبي شيبة .
ويذكر من كتب العامة: الستة، وأحمد، ومستدرك الحاكم، والمسندات للشافعي، ولأبي يعلى، ولابن عدي ، وكتب الطبراني ، وسنن البيهقي ، وشعبة، وابن عساكر ، وأبي حاتم، وأدب البخاري، وتفسير الترمذي ، والفردوس للديلمي، والبزار ، وغيرها.
ـــــــــــــــ
[إمام المرسلين وخاتم النبيئين - صلى الله عَلَيْه وآله وسلم -]
هذا، وقد افتتح السيد الإمام بمن اسمه إبراهيم، كما يأتي، وإذا كان القصد التبرك فالأولى ما اختاره بعض نجوم العترة، كالإمام المرشد /19

(3/19)


بالله في الأنوار، والسيد أبي العباس في المصابيح عليهما السلام، ومن العامة صاحب جامع الأصول وغيرهم، من الابتداء بذكر مَنْ قَرَنَ الله تعالى ذِكْرَه بذكره، فاشتق نوره من نوره، إمام المرسلين، وخاتم النبيئين ـ صلى الله وسلم عليه وعليهم وعلى آله الطاهرين ـ رسول الله وأمينه، وحبيبه وخليله، ومختاره ومصطفاه، ومجتباه ومرتضاه، الذي أرسله رحمة للعالمين، وجعله حجة على خلقه أجمعين، المأخوذ ميثاقه على رسله، والمبشر به في مُنْزَلات كتبه، المؤيد بالمعجزات النيرات، وبالآيات البينات الباهرات، التي لا يحصى لها عدد، ولا ينتهي لها مدد، من اسمه أحمد، أبو الطيب والطاهر والقاسم، إمام المرسلين، وخاتم النبيئين - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، محمد رسول الله بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ـ صلى الله عليه وعلى آله وبارك وترحم وتحنن وسلم ـ ومن مدحه الله المليك الأكبر، فماذا يبلغ من مدحه مدح البشر؟ وما يأتي القائل في حقه أو يذر؟
فالحمد لله تحدثاً بنعمته، على ما اختصنا به من رحمته، حيث شرفنا منه بأقوى سبب، و أزلفنا إليه بأقرب نسب، اجتبى أهل بيته، من زيتونة شجرته، وأفاض عليهم أنوار نبوته وحكمته، فصيرهم بحكمه أهله وذريته، وورثته وعترته، أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومهبط الوحي؛ وخلَّفهم في أمته، وقرنهم بكتابه وسنته، وجعلهم النجوم والأمان لأهل الأرض، وأمر الخلق بمودتهم وركوب سفينتهم، والتمسك بولايتهم إلى يوم العرض، والله يحكم لا معقب لحكمه، ولا راد لفضله، يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة، وإن الله لسميع عليم.
قال الباقر محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام: /20

(3/20)


لنحن على الحوض روّاده .... نذود ويُسعد ورّادهُ
فما فاز من فاز إلا بنا .... وما خاب من حبنا زادهُ
فمن سرّنا نال منا السرور .... ومَنْ ساءنا ساء ميلادهُ
ومن كان غاصبنا حقّنا .... فيوم القيامة ميعادهُ
فقد أعطاه الله جلّ جلاله الكوثر، وجعله نسله الأطيب الأكثر؛ فقال سبحانه: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ } [الكوثر:1].
نعم، والتعرّض لليسير من الخصائص النبوية، يخرج بنا عن الاختصار، ويستوعب حوافل الأسفار، وقد مضى في التحف الفاطمية ولوامع الأنوار، ما لا غنى عنه من أخبار المختار، وعترته الأطهار، عليهم الصلاة والسلام.
قال السيد الإمام عليه السلام في طبقات الزيدية : وهذا أوان الشروع ومن الله أستمدّ التوفيق.
[إبراهيم بن رسول الله - صلى الله عَلَيْه وآله وسلم -]
إبراهيم بن رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - أمه: مارية القبطية، ولد في ذي الحجة سنة ثمان؛ وكانت قابِلَته سلمى مولاة النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - امرأة أبي رافع ؛ وحلق شعره يوم سابعه، وتصدق بزنة شعره فضة.
وتوفي وله ستة عشر شهراً.
رواه السيد المؤيد بالله .
قلت: والإمام المرشد بالله، وذكره ابن عبد البر في الاستيعاب، وابن الأثير في جامع الأصول .
قال: وقيل: سبعة عشر شهراً.
قلت: وفي الاستيعاب: القول الآخر: إنه ابن ثمانية عشر شهراً، وكذا في جامع الأصول .
وغسّله علي بن أبي طالب ؛ رواه محمد ـ أي ابن منصور المرادي - ضي الله عنه-.
وقيل: الفضل بن العباس، وصلى عليه النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، ونزل في قبره، ورش على قبره ماء.
وقبره بالبقيع، مشهور مزور. /21

(3/21)


[أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام]
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، القرشي، المكي، الهاشمي، أبو الحسن ـ كرم الله وجهه في الجنة ـ.
وأمه فاطمة بنت أسد، أول هاشمية ولدت هاشمياً.
وُلِد في الكعبة، في شهر رجب، عام ثلاثين بعد الفيل، وهو اليوم السابع من أيلول، كما رواه السيد أبو طالب ، عن كافي الكفاة ، حيث قال:
يا مُغْفِل التاريخ من جَهْلهِ .... وليس معلوم كمجهولِ
إن علي بن أبي طالب .... مولده سابع أيلولِ
قلت: هو الصاحب إسماعيل بن عبّاد، أحد علماء العدل والتوحيد، وأولياء آل محمد ـ عليهم السلام ـ؛ وأقواله في الوصي وسائر العترة ـ عليهم السلام ـ مشهورة، وقد أتى في الشافي منها بنبذ شافية، وهو القائل:
علي حبه جُنّه .... قسيم النار والجَنه
وصي المصطفى حقاً .... إمام الإنس والجِنه
قال السيد الإمام: وهو أول من أسلم، كان في حجر رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - قبل الإسلام وبعده، وهاجر من مكة بعده بثلاثة أيام.
قلت: استخلفه رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -؛ ليفديه بنفسه، ليلة نام على فراشه، ويؤدي ديونه وأماناته وودائعه، كما هو معلوم.
وقد بسط الروايات في ذلك أئمتنا ـ عليهم السلام ـ، وعلماء العامة، وأخرجوا الأحاديث في نزول قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ } [البقرة:207]، فيه.
قال: وهو أول من صلى من المسلمين.
وشهد المشاهد كلها، إلا تبوك؛ فإنه استخلفه - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - على المدينة.
وكان حامل لواء النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - في حروبه، وإذا لم يغز بنفسه أعطاه سلاحه.
وشجاعته معروفة، وفضائله وخصائصه /22

(3/22)


كثيرة، يخرجنا ذكرها عن المقصود.
قلت: ولله القائل:
وتركتُ مدحي للوصي تعمّداً .... إذْ كان نوراً مستطيلاً كاملاً
وإذا استقام الشيء قامَ بنفسه .... وصفات ضوء الشمس تذهب باطلاً
قال: منها: ما روى الهادي - عليه السلام - في الأحكام ، في الحدود، قال: بلغنا عن أمير المؤمنين - عليه السلام - أنه قال: (ثلاث ما فعلتهن قط ولا أفعلهنّ: ما عبدتُ وثناً قط، وذلك أني لم أكن لأعبد ما لا يضر ولا ينفع؛ ولا زنيت قط، وذلك لأني أكره في حرمة غيري ما أكره في حرمتي؛ ولا شربت خمراً قط، وذلك أني لما يزيد في عقلي أحوج مني لما ينقصه).
واختصّ بغَسل النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وتكفينه، وإدخاله القبر.
ولم يَتَأَمَّرْ عليه في عهد النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - أحد؛ وكان أمره ببراءة.
قلت: وأخذها من أبي بكر، لما نزل جبريل - عليه السلام - بأمر الله ـ عز وجل ـ، أنه لا يبلغ ويؤدي عنه ـ على حسب الروايات، وقد سبقت في الفصل الأول ـ إلا هو أو رجل منه، أو من أهل بيته، كما مَرَّ؛ وهو مما تواتر.
قال: ولما توفي رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، أقام بالمدينة في خلافة الثلاثة.
ولما قُتل عثمان بُويع له - عليه السلام -؛ ثم كان حرب الجمل، وبعده حرب صفين، وبعده حرب الخوارج، كما أمره رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - بقتال الناكثين، والقاسطين، والمارقين.
ثم أقام بالكوفة حتى ضُرب ـ صلوات الله عليه ـ لصبح الجمعة، تاسع عشر شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة، ولبث ثلاثة أيام، وكان وفاته ليلة الأحد، إحدى وعشرين، وهو في ثلاث وستين، وغسله ولده الحسن، وعبيد الله بن عباس، وصلى عليه الحسن، وكبر خمساً، ودُفن عند صلاة الصبح.
قال في الإفادة : دُفن أولاً في الرحبة، مما يلي باب كندة؛ ثم نقل ليلاً /23

(3/23)


إلى الغري؛ ليخفى موضع قبره.
وكون قبره في الغري هو المعلوم؛ ذكره الأئمة، منهم: الحسن السبط، وزيد بن علي، وولد أخيه جعفر بن محمد .
نعم، وروى عنه أولاده الخمسة: الحسن، والحسين، ومحمد، وعمر، والعباس؛ ومن النساء: زينب؛ وخلق كثير، منهم: الشعبي ، والحارث الأعور، والحسن البصري ـ على الصحيح ـ وعاصم بن ضمرة، وعاصم بن بهدلة ، وزاذان ، وعلي بن ربيعة ، والنعمان بن سعد ، وسويد بن غَفَلة ، وعمر بن علي ، ويزيد بن أبي أمية ، ويزيد بن أبي مريم ، وحجر بن عدي ، وكميل بن زياد ، وغيرهم.
وله في الصحيحين أربعة وأربعون حديثاً، وخرج له الأربعة وغيرهم، وأئمتنا جميعهم وشيعتهم، إلا الشريف السليقي، انتهى.
قلت: ومن الرواة عنه - عليه السلام -: ابن عباس، وعبد الله بن جعفر ، وابن مسعود ، وغيرهم من الصحابة، والتابعين، كما عدوهم في كتب الرجال.
وأعلمُ الصحابة بعد أخي رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وابن عمه، وباب مدينة علمه، ابنُ عباس، وابن مسعود.
فأما ابن عباس - رضي الله عنه -، فكما قال شارح النهج: وقد علم الناس حال ابن عباس، في ملازمته له، وانقطاعه إليه، وأنه تلميذه وخريجه؛ وقيل له: أين علمك من علم ابن عمك؟
فقال: كنسبة قطرة من المطر، إلى البحر المحيط، انتهى.
ومن كلامه - رضي الله عنه -: والله، لقد أعطي علي تسعة أعشار العلم؛ وأيم الله، لقد شارككم في العشر العاشر.
أخرجه أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب.
ورواياته لما أنزل الله فيه من الكتاب المبين، وما قاله في شأنه الرسول الأمين، أكثر من أن تحصر؛ وقد مَرّ ما فيه معتبر.
وأما ابن مسعود - رضي الله عنه -، فرجوعه إلى الوصي - عليه السلام - معلوم، وتبليغه لما ورد فيه كذلك مرسوم، وهو القائل: قرأت القرآن /24

(3/24)


على رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، وأتممته على خير الناس بعده، علي بن أبي طالب .
أخرجه الإمام - عليه السلام - في الشافي .
قال ـ أيده الله ـ في التخريج: وهو في مجمع الزوائد.
قلت: رواه في الفرائد بلفظ: علي أفضل الناس بعد رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -...إلخ.
وأخرجه الخوارزمي، بلفظ: قرأت على رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - سبعين سورة، وختمت القرآن على خير الناس، علي بن أبي طالب .
وأخرج أبو نعيم ، عن ابن مسعود ، قال: كنت عند النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، فسئل عن علي، قال: ((قسمت الحكمة عشرة أجزاء؛ أعطي الناس جزءاً، وعلي تسعة أجزاء ))، وبلفظ: ((قسمت الحكمة عشرة أجزاء؛ وأعطي علي تسعة أجزاء والناس جزءاً واحداً )).
أخرجه ابن المغازلي، والحاكم، والكني، عن عبد الله، عنه - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -؛ وأخرجه الخوارزمي، عنه مرفوعاً، وأخرجه الحسين بن علي البرذعي في معجمه، وابن النجار ، عن عبد الله؛ قال الكنجي : وأخرجه أبو نعيم في الحلية .
هذا، والمعلوم من النصوص النبوية، أن أعلم الأمة ـ كما ورد الخبر النبوي بهذا اللفظ بخصوصه: ((أعلم أمتي علي بن أبي طالب ))، أخرجه محمد بن سليمان الكوفي والديلمي ، عن سلمان؛ والكنجي عنه، وقال: رواه الهمداني، والخوارزمي؛ وفي معناه ما لا يحيط به الحصر، أخو رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - ووصيه، وابن عمه، وباب مدينة علمه؛ وعلى ذلك إجماع الأمة المحمدية، من العترة النبوية، وسائر من يعتد به من فرق البرية؛ فهو المبين للأحكام، بعد أخيه سيد الرسل الكرام ـ عليه وعليهم الصلاة والسلام ـ والمؤسس بسيفه وعلمه قواعد الإسلام، والمؤيد للنبوة، والممهد للملة، والمرجع والمفزع للصحابة والأمة، في كل /25

(3/25)


مهمة، كما هو معلوم للأنام.
ومما لا ينكر: لولا علي لهلك عمر.
ولقد صدق حيث قال، وقد قام علي - عليه السلام - من المسجد، فذكره إنسان، فقال عمر: حق لمثله أن يتيه، والله، لولا سيفه لما قام عمود الإسلام، وهو بعد أقضى الأمة، وذو سابقتها، وذو شرفها...إلخ.
رواه أبو بكر بن الأنباري.
وغير ذلك من أقواله وأقوال الصحابة ما لا يحصر.
وقد أغناه - عليه السلام - ما أثنى الله ـ جل جلاله ـ عليه، ورَفَع شأنه في كتابه وسنة رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - عن جميع أقوال البشر.
ـــــــــــــ
[أم المؤمنين خديجة بنت خويلد ـ رضي الله عنها]
خديجة بنت خويلد بن أسد، القرشية، الأسدية، أم المؤمنين، أول من آمن بالله سبحانه، وصدق رسالته، من الأمة، بالإجماع؛ سيدة نساء هذه الأمة بلا خلاف، أفضل نساء النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، وأكرمهنّ عليه.
تزوجها - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - قبل البعثة، وهو في خمس وعشرين سنة، وهي في أربعين.
وهي أم أولاده - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، إلا إبراهيم عليهم السلام.
وبلغها جبريل - عليه السلام - السلام، عن الله عز وجل، وبشرها ببيت في الجنة، لا صخب فيه ولا نصب.
ولم يتزوج عليها الرسول - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
وفضائلها لا تحصى.
تُوفيت قبل الهجرة بثلاثة أعوام، وهي في خمس وستين، ونزل الرسول - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - في قبرها، ودُفنت بالحَجون، وقبرها مشهور مزور، ـ صلوات الله وسلامه على زوجها، وأخيه وعليها، وعلى بنيها وبناتها، وذريتهم الطاهرين، إلى يوم الدين ـ.
وقد وردت أخبار كثيرة في المقارنة بينها وبين مريم ابنة عمران، وفاطمة بنت محمد، وآسية بنت مزاحم، في سيادة نساء العالمين.
وفي صحيح البخاري، عن علي - عليه السلام - رفعه: ((خير نسائها مريم، وخير نسائها خديجة )).
قال ابن حجر في الإصابة: وقد أثنى النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - على خديجة، ما لم يثن على غيرها. /26

(3/26)


ثم ذكر حديث عائشة، قالت: كان رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - لا يكاد يخرج من البيت، حتى يذكر خديجة، فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوماً من الأيام؛ فأخذتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلا عجوزاً، قد أبدلك الله خيراً منها.
فغضب، ثم قال: ((لا والله ما أبدلني خيراً منها؛ آمنَتْ إذْ كفر الناس، وصدّقتني إذْ كذّبني الناس، وواستني بمالها إذْ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء )).
قالت عائشة: فقلتُ في نفسي: لا أذكرها بعدها بسبّة أبداً.
أخرجه أبو عمر بن عبد البر .
قلت: رواه في الاستيعاب باختلاف يسير.
ــــــــــــــ
[سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع)]
فاطمة بنت محمد الرسول - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، أم الحسن، أشبه الناس برسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، سيدة نساء العالمين.
قلت: وذكر السيد الإمام قول العامة في ولادتها قبل النبوة، ثم قال: وهي أصغر بنات النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، في قول ذكره في جامع الأصول .
وفي رواية أبي العباس الحسني، في المصابيح ، قال: أخبرنا الحسن بن أحمد بن إدريس ، إلى جعفر بن محمد ، في ذكر أولاد النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، فقال: كان القاسم أكبر أولاده، ثم زينب، ثم عبد الله، وهو الطيب، ولد بعد النبوة، ومات صغيراً، ثم أم كلثوم ، ثم فاطمة، ثم رقية ، هكذا الأول فالأول.
وصرح به أبو عمر، وكذا ذكره في تاريخ الخميس .
إلى قوله: لما روى الملا في سيرته قال: ((أتاني جبريل بتفاحة من الجنة، فأكلتها، فواقعت خديجة، فحملت بفاطمة )).
وساق الأخبار، حتى قال: وهذه الروايات تقتضي أن ولادة فاطمة /27

(3/27)


بعد البعثة، وهو مغاير لما رواه ابن إسحاق وغيره، وهو الأصح على رأي قدماء أئمتنا عليهم السلام، والله أعلم.
أمها خديجة بنت خويلد .
هاجرت إلى المدينة، وتزوجها علي - عليه السلام - ولها خمس عشرة سنة، وكان ذلك في صفر، وبنى بها في الحجة، بعد وقعة أحد.
وكان تزويجها بأمر الله سبحانه، وكان المهر اثني عشرة أوقية ونصفاً، عن خمس مائة درهم، كذا في أكثر الروايات ـ وفي رواية: أربعمائة مثقال فضة.
وحضر عقدها جماعة من النبلاء ؛ ودعا - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - برطب وثمر؛ فقال: ((انتهبوا)).
وفيما روي: ((إنما أنا بشر مثلكم، أتزوج منكم وأزوجكم، إلا فاطمة؛ فإنها نزل تزويجها من السماء )) رواه السيد أبو طالب وغيره.
وفي رواية: ((فاطمة بضعة مني، فمن آذاها فقد آذاني )).
قلت: قد سبق تخريجه وما في معناه.
قال في الفرائد: وأما ما يخص فاطمة عليها السلام، فمنها: حديث الإغضاب: ((فمن أغضبها فقد أغضبني؛ ومن آذاها فقد آذاني ))، وحديث: أنه يغضب لغضبها، ويرضى لرضاها، بألفاظه وسياقاته، مما تواتر عند أهل الحديث، مع إجماع أهل البيت على ذلك.
ومنها: الإخبار بالقطع أنها سيدة نساء العالمين، وسيدة نساء أهل الجنة..إلخ.
وفي الاستيعاب لابن عبد البر، بالسند إلى عائشة، أنها قالت: ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً وحديثاً برسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - من فاطمة؛ وكانت إذا دخلت عليه قام إليها، فقبلها ورحّب بها كما كانت تصنع هي به - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
وروي بالسند عنها، قالت: ما رأيت أحداً كان أصدق لهجة من فاطمة، إلا أن يكون الذي ولَدها - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
وبسنده إلى جميع بن عمير ، قال: دخلت على عائشة، فسألت، أي /28

(3/28)


الناس كان أحب إلى رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -؟
قالت: فاطمة.
قلت: فمن الرجال؟
قالت: زوجها، إن كان ما علمته صواماً قواماً.
وساق بالسند إلى بريدة، قال: كان أحب النساء إلى رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - فاطمة، ومن الرجال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهما ـ.
وفي الإصابة لابن حجر ما لفظه: وفي الصحيحين : عن المسور بن مخرمة، سمعتُ رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - على المنبر يقول: ((فاطمة بضعة مني، يؤذيني ما آذاها، ويريبني ما يريبها )).
وعن علي بن الحسين بن علي ، عن أبيه، عن علي، قال: قال النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - لفاطمة: ((إن الله يرضى لرضاك ويغضب لغضبك )).
وساق في فضائلها.
إلى قوله: بسند من أهل البيت، عن علي، أن النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - قال لفاطمة: ((إن الله يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك )).
قال: وأخرج الترمذي من حديث زيد بن أرقم ، أن رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - قال لعلي وفاطمة والحسن والحسين: ((أنا حرب لمن حاربهم، سِلْم لمن سالمهم )).
قال: وانقطع نسل رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - إلا من فاطمة.
قلت: وقد تقدم من دلالات الكتاب والسنة على جميع ذلك، ما فيه الكفاية.
وفي الروض، بعد أن ساق الأخبار الدالة على أبوة رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - لولد فاطمة ـ عليهم السلام ـ:
قال بعض المحققين من العلماء: ظاهر كلام أئمتنا أنه حقيقة، وأن حكمه في ذلك يخالف حكم غيره.
إلى قوله: لأن هذه خصوصية وتكرمة ثابتة بوحي خاص؛ ويدل على كونها حقيقة قوله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((وأنا عصبتهما )).
قلت: وفي ألفاظ الخبر الشريف: ((إلا بني فاطمة، فأنا وليهم وعصبتهم )) أخرجه الطبراني في الكبير، و((إلا ولد فاطمة، فإني أنا أبوهم وعصبتهم )) أخرجه الخطيب في تاريخه، و((ما خلا ولد فاطمة، فإني أنا /29

(3/29)


أبوهم وعصبتهم )) أخرجه أبو نعيم في معرفة الصحابة.
قال: فلولا أنه أب شرعاً لم يكن عصبة، ولا لهما بذلك على سائر الناس مزية؛ ولا تنافيه أبوة علي - عليه السلام - لهما؛ وكون النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم- جداً لهما، فلكل مقام اعتبار يناسبه.
وقد كانا عليهما السلام في زمانه - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يدعوانه: يا أبه؛ ويقول الحسن لعلي - عليه السلام -: يا أبا الحسين؛ والحسين يقول له: يا أبا الحسن.
ولم يدعوانه يا أبه، حتى توفي النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
هكذا نقل عمن يوثق به.
قال النووي، في كتاب تهذيب الأسماء واللغات : وذكر أن النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - كناها أم أبيها.
وقال: فيه ما ينوه بمقامها غاية التنويه.
إلى قوله: فحيث نزلها أكرم الخلائق من نفسه الكريمة، منزلة أكرم الخلق عليه، فبخٍ بخٍ ثم بخٍ بخٍ.
وقد قال بعض الطلبة: في هذه اللفظة لطيفة حسنة؛ وهي أن أولاد رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - من فاطمة باتفاق، ويشهد له حديث: ((كل بني أنثى... إلخ)).
وإذا كانت فاطمة بمنزلة الأم، كان المختار - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - بمنزلة الولد، فيكون عَقِبَها، كما لو كانت أماً له ـ صلوات الله عليه وآله وسلم ـ وأعقبت منه؛ فإن أولاده حينئذٍ أولادها لا محالة.
وهذه دقيقة جليلة يحظى بها الثقات، ويقبلها مَنْ لم يرفع النصب أنوار قلبه؛ والله أعلم.
قال بعض العلماء: إن قلت: قد جمع الله تعالى لعلي الكرم، بمشاركته لرسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - في كل ظهر وبطن، حتى افترقا في عبد الله وأبي طالب؛ هلاّ كمل الله الفضيلة بجمعهما من ظهر عبد الله وبطن آمنة؛ ليكون أشرف وأتم لما يريده الله من جعلهما كموسى وهارون؟
ثم أجاب بأن الأمر كذلك؛ لكن الحكيم سبحانه لما قضى بأن عقب المختار من ظهر علي وبطن فاطمة، فرقهما؛ ليتم التزويج.
ولله درّ هذا /30

(3/30)


العالم.
قال: وأما عدول يحيى بن يعمر، في جوابه على الحجاج، في كونهما من ذرية النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - إلى دخولهما تحت عموم الآية، في قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ(85)} [الأنعام:84،85] ، فللإقناع وقطع الحجة، بما لا يقدر على دفعه؛ ولاقتراح الحجاج عليه جواباً من القرآن الكريم؛ لأن أحاديث فضائل أهل البيت في ذلك العصر لا يُلتفتُ إليها، ولا يُطاق التظاهر بروايتها.
انتهى المراد بتصرّف يسير.
قال السيد الإمام: ولما مات النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - جاءت تطلب ميراثها، فروي لها: ((إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما خلفناه ـ أو تركناه ـ صدقة )) رواه السيد أبو العباس وغيره.
وفي رواية: جاءت إلى أبي بكر، فقالت: فدك بيدي أعطانيها رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - لوكيلي.
فقال: يا بنت محمد، أنت عندي مصدّقة، إلا أن عليك البينة.
فجاءت بعلي وأم أيمن.
على الأشهر من الروايات ـ وذكرها زيد بن علي وغيره ـ أنه قال: رجل مع الرجل، أو امرأة مع المرأة.
فلم تأت بأحد.
قلت: وفي تفريج الكروب : أرسلت فاطمة إلى أبي بكر، تسأله ميراثها من رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك، وما بقي من خمس خيبر؛ فقال أبو بكر: إن رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - قال: ((لا نورث ما تركناه صدقة )).
وساق حتى قال: فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئاً، فَوجِدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلّمه حتى توفيت، وعاشت بعد النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - ستة أشهر.
فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلى عليها علي - رضي الله عنه -.
أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة، انتهى. /31

(3/31)


قال: ولم تلبث بعد النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - إلا ستة أشهر، وتوفيت.
وفي رواية السيد أبي طالب، عن الباقر: أربعة أشهر.
وسنّها يوم ماتت وقد جاوزت العشرين بقليل.
قطع به ابن حجر.
ورواية الباقر: ولها ثلاث وعشرون سنة.
قال في جامع الأصول : وأهل البيت يقولون ثمان عشرة سنة.
قال السيد الإمام: وهو الأولى.
قال: وكانت أول لاحق به من أهله.
قلت: وقد بشرها أبوها - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - بذلك، كما وردت به الروايات الصحيحة.
قال: وغسلها علي - عليه السلام - في قول، وأسماء بنت عميس في رواية، وفي رواية، أنها غسلت نفسها أوان موتها، وصلى عليها علي - عليه السلام -.
هكذا في الطبقات .
وقوله: وفي رواية أنها غسلت نفسها؛ في الإصابة: وأخرج ابن سعد وأحمد بن حنبل ، من حديث أم رافع، قالت: مرضت فاطمة، فلما كان اليوم الذي توفيت فيه، قالت لي: يا أمه، اسكبي لي غسلاً.
فاغتسلت كأحسن ما كانت تغتسل، ثم لبست لها ثياباً جدداً، ثم قالت: اجعلي فراشي وسط البيت، فاضطجعت عليه، واستقبلت القبلة؛ وقالت: يا أمه، إني مقبوضة الساعة، وقد اغتسلت فلا يكشفني أحد.
فماتت؛ وجاء علي، فأخبرته؛ فاحتملها، ودفنها بغسلها ذلك، انتهى.
قال السيد الإمام: ودُفنت بالبقيع ليلاً، بوصية منها، ورش قبرها وسبعة أقبر حوله.
روى عنها ابنها الحسين، وعائشة، وأنس، وغيرهم، وخرج لها الجماعة، وأئمتنا الخمسة، وزيد بن علي، والهادي للحق، هكذا في الطبقات .
ـــــــــــــــــ
[السبط الأكبر الحسن بن علي (ع)]
الحسن بن علي بن أبي طالب ، أبو محمد، سيد شباب أهل الجنة، وريحانة جده من الدنيا، الإمام قام أو قعد.
مولده بالمدينة، في شهر رمضان، عام ثلاثة من الهجرة. /32

(3/32)


قلت: هذا الأصح من الأقوال.
وهو عقيب وقعة أحد، وسماه رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - عن أمر الله: حسناً، وعقّ عنه شاتين، في رواية المنصور بالله ـ قلت: الذي في الشافي بكبش؛ وما ذكره ثابت في رواية الإمام علي الرضا - عليه السلام -، وغيره ـ وحلق رأسه يوم سابعه، وتصدقت أمه بوزن شعره فضة؛ وتربى في حجر جده - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وله عنه روايات محفوظة، عند الرواة مدونة.
وقال فيه: ((ولدي سيّد سيصلح الله به بين فئتين عظيمتين )).
وشهد مع أبيه صفين والجمل، ثم بويع له بعد أبيه، في شهر رمضان، سنة أربعين من الهجرة، في الكوفة؛ وخرج منها في ذي الحجة، حتى نزل المدائن؛ فخذله أصحابه ونفروا عنه، فاضطرته الحوادث إلى اعتزال الأمر، ومصالحة معاوية مصداقاً للحديث.
ثم رجع إلى المدينة، فأقام بها عشر سنين، وحج خمساً وعشرين حجة، ماشياً؛ وإن النجائب لتقاد معه.
ثم سقته امرأته جعدة بنت الأشعث سماً في لبن، بأمر معاوية، فمات بعد شهر، في شهر....
قلت: بيض لذلك في الطبقات ؛ وقد قيل: إنه في شهر ربيع الأول.
قلت: واختلف في تاريخ موته وعمره، فقيل: سنة تسع وأربعين، وقيل: سنة خمسين، وقيل: إحدى وخمسين، وقيل: اثنتين؛ وله سبع وأربعون ـ وصححه المؤلف ـ وقيل: تسع، وقيل: ست، وقيل: خمس.
هكذا في الكتب المعتبرة؛ والاختلاف واقع في مثل هذا، في الأغلب، فيكتَفى بالأقرب.
[وصية الإمام الحسن أين يُدفن]
قال: وأوصى إلى أخيه الحسين: أن إذا متّ فتولّ غسلي، وادفني إلى جنب جدي رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -؛ فإن مُنِعتَ فادفني إلى جنب أمي فاطمة ـ عليها السلام ـ بالبقيع؛ وإياك أن تهرق فيَّ محجمة دم.
فلما توفي، مُنع من قبره عند جدّه - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، فدفن بالبقيع إلى جنب فاطمة ـ عليها السلام ـ.
وقبره مشهور /33

(3/33)


مزور.
روى عنه أولاده: الحسن، وزيد، وغيرهما كأبي الحوراء السعدي ـ قلت: بالمهملة ـ.
قال: وعمير بن مأمون.
وأخرج له الستة، وأئمتنا، وشيعتهم، إلا الشريف.
[تخريج حديث: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة...إلخ الحديث]
قلت: والأخبار النبوية التي أشار إليها، أما الأول، فكما قال إمام الأئمة، الهادي إلى الحق - عليه السلام -: وأجمعت الأمة أن رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - قال: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما )) وقال: ((هما إمامان قاما أو قعدا )) انتهى.
وقال الإمام المنصور بالله - عليه السلام - في الشافي : وروينا من غير طريق، أن النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - قال: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما )).
وقد ساق السيوطي الرواة والمخرجين لقوله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة )).
ثم قال: وهو متواتر؛ ذكره العزيزي .
قال الإمام محمد بن عبد الله الوزير - عليه السلام -: وأما حديث الحسنين ((أنهما سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما ))، فقد رواه الموالف والمخالف، بطرق وسياقات، فهو متواتر لفظاً ومعنى، لا أقل؛ وهو يفيد سيادتهم في الجنة، فكيف بأهل الدنيا؟
وما بال الخصوم كلهم عظموا شعائر حديث العشرة، ورقوه ووقوه وشيّدوه، والحال أنهم تفرّدوا بروايته، وليس هو إلا آحادياً؛ وهذا على فرض صحته، وإلا فنحن نرده كما رده سيد الوصيين، الذي يدور معه الحق حيثما دار.
قال: وقد عارض أهل الأهواء هذا الحديث، بحديث تفردوا به، بأن أبا بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة.
ولا نسلّم صحة ما تفردوا به؛ وأيضاً، فالمعلوم أن أهل الجنة يبعثون ويدخلون الجنة في سنّ الشباب، من ثلاثين سنة، ولا كهل في الجنة؛ وتأويله بأنه باعتبار حياتهما لا يصح؛ لأن الحسنين ما ماتا إلا وهما في سن الكهولة. /34

(3/34)


قلت: والخطاب صدر من الرسول - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - في الحسنين - عليهما السلام -، وهما صبيان، في نحو الثمان، فلم يكن المقصود بذكر الشباب، إلا في بيان سن أهل الجنة، كما أفاده شارح الجامع الصغير حيث قال ـ وقد أنصف ـ: ويحتمل أنه - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - قال: ((سيدا شباب ))، ولم يقل: ((أهل الجنة))، لينبّه على أن كل مَنْ فيها شاب، فيكونان أفضل من فيها، إلا من خرج بدليل آخر، كالنبيئين.
قلت: لكن لا يخص إلا من صح تخصيصه بالدليل، لا بالتقولات والأباطيل.
وقد عارضوا ما اختص به ربُّ العالمين، ورسولُه الأمين، أهلَ بيته الطاهرين، ما استطاعوا، حتى في أسمائهم وأوصافهم؛ ولكن أبى الله إلا أن يتم نوره، ويقيم حجته؛ فإن الوارد في الكتاب والسنة، في أهل بيت النبوة، مجمع عليه، ومتواتر بين الأمة؛ وما يعارضون به متفرد بروايته، مقدوح في طرقه، آثار الوضع عليه بيّنة، لا يمتري في بطلانه العارفون، ليحق الله الحق بكلماته؛ كذلك نقذف بالحق على الباطل فيدمغه، فإذا هو زاهق، ولكم الويل مما تصفون.
وفي تعَبٍ من يحسد الشمس ضوءها .... ويجهد أن يأتي لها بضريبِ
أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله؟ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً.
[تخريج حديث: الولد ريحانة...إلخ]
نعم، وأما الخبر الثاني؛ فأخرجه أئمة النقل من أهل البيت وغيرهم.
ومن طرقه ما أخرجهُ الإمام الرضا، بسند آبائه ـ صلوات الله عليهم ـ، قال رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((الولد ريحانة، وريحانتي من الدنيا الحسن والحسين )).
وأخرجه الإمام أبو طالب - عليه السلام -، بسنده إلى جعفر بن محمد - عليهما السلام -، عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ، قال: /35

(3/35)


سمعتُ رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - قبل موته بثلاث، وهو يقول لعلي بن أبي طالب: ((سلام الله عليك أبا الريحانتين؛ أوصيك بريحانتي من الدنيا، فعن قريب ينهدّ ركناك، والله خليفتي عليك )).
وأخرجه أبو نعيم وابن عساكر، عن جابر.
وأخرج الكنجي ، عن جعفر بن محمد - عليهما السلام -، عن أبيه، عن جابر قوله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((سلام عليك يا أبا الريحانتين؛ أوصيك بريحانتي من الدنيا )).
وقال ابن عمر لسائل له: ألا تنظر إلى هذا، يسأل عن دم البعوض يصيب الثوب، وقد قتلوا ابن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم؟
يريد الحسين بن علي عليهما السلام.
أخرجه في الشافي .
وتمامه: وقد قال رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((هما ريحانتاي من الدنيا )) أخرجه البخاري في كتابه.
وفي رواية عنه: يسألونني عن الذباب وقد قتلوا ابن بنت رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وقد قال رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((هما ريحانَتِيْ من الدنيا، وهما سيدا شباب أهل الجنة )) رواه الشيخان، أفاده في تفريج الكروب .
وأخرجه أحمد بن حنبل والترمذي والكنجي، بطريقه إليه بلفظ: ((إن الحسن والحسين ريحانتي من الدنيا )).
وأخرجه أيضاً عن أبي أيوب، وقال: أخرجه الطبراني ، وصاحب الحلية ، ومحدّث الشام من حلية الأولياء.
وأخرجه الإمام المرشد بالله - عليه السلام -.
وقال - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((وكيف لا أحبهما، وهما ريحانتي من الدنيا أشمهما؟ )) يعني الحسن والحسين؛ أخرجه الطبراني في الكبير، والضياء في المختارة ؛ وأخرج نحوه العسكري في الأمثال عن علي - عليه السلام -.
وقال - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - في الحسن السبط: ((هذا ريحانتي من الدنيا )) أخرجه أحمد عن أبي بكرة .
وعنه - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((هذان ريحانتاي من الدنيا )) أخرجه الترمذي ، وصححه.
وأخرجه ابن بنت منيع /36

(3/36)


بلفظ: جاء الحسن والحسين يسعيان إلى رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - فأخذ أحدهما فضمه إلى إبطه؛ ثم جاء الآخر فضمه إلى إبطه الأخرى، وقال: ((هذان ريحانتاي من الدنيا، من أحبني فليحبهما )) وطرقه كثيرة.
[حديث: ((الحسن والحسين إمامان... إلخ))]
وأما الخبر الثالث، وهو قوله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا، وأبوهما خير منهما ))، فهو كذلك مجمع عليه بين الأئمة.
وقد صرّح الذكر الحكيم، وسنة أبيهما الرسول الكريم عليه وآله الصلاة والتسليم، بتطهير الله تعالى، واصطفائه واجتبائه، ومحبة الله تعالى ورسوله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - لهما ولأبيهما وأمهما، وحكم بأنهما ابنا رسوله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وسبطاه، وحبيباه وريحانتاه، وبالسيادة لأهل الجنة، وغير ذلك من التشريف والتكريم، مما نطق به الكتاب، وتواترت به السنة، مما لا يحصر، وتتقاصر عنه أقوال البشر؛ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
[خطبة للإمام الحسن - عليه السلام - لما أصيب علي (ع)]
ومن خطب الحسن السبط، المشهورة: لما أصيب علي ـ صلوات الله عليهما ـ قام في الناس خطيباً، فقال: الحمد لله، الذي لم يزل للحمد أهلاً، الذي مَنّ علينا بالإسلام، وجعل فينا النبوة والكتاب، واصطفانا على خلقه، فجعلنا شهداء على الناس، وجعل الرسول علينا شهيداً.
يا أيها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني، فأنا الحسن بن محمد ، فالجد في كتاب الله أب، قال الله تعالى: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } [يوسف:38]، فأنا ابن البشير النذير، وأنا ابن الداعي إلى الله وأنا ابن السراج المنير؛ ونحن أهل البيت الذين افترض الله مودتنا وولايتنا، فقال: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } [الشورى:23].
يا أيها الناس، لقد فارقكم في هذه الليلة رجل، ما سبقه الأولون، ولا يدركه الآخرون، هيهات هيهات، لطال ما قَلَّبْتُم له الأمور، في مواطن /37

(3/37)


بدر وأحد، وحنين وخيبر، وأخواتها.
إلى قوله: أعطى الكتاب عزائمه، دعاه فأجابه، وقاده فاتبعه ـ صلوات الله عليه وعلى آله ومغفرته ـ ونحتسب أمير المؤمنين عند الله، وأستودع الله ديني وأمانتي، وخواتيم عملي.
أخرجها السيد الإمام أبو العباس الحسني ، عن الحسين بن زيد بن علي عليهم السلام، وطرقها كثيرة كما تقدم في الفصل السابع.
[خطبته عليه السلام قبل وقوع الصلح مع معاوية]
وخطبته - عليه السلام - قبل وقوع الصلح بينه وبين معاوية، قال فيها، بعد حمد الله تعالى والثناء عليه، والصلاة على النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: أيها الناس، والله ما بين جابَلْص وجابَلَق ابن بنت نبيء غيري وغير أخي.
إلى قوله - عليه السلام -: وإنكم قد دُعيتم إلى أمر ليس فيه رضى ولا نصفة، فإن كنتم تريدون الله واليوم الآخر، حاكمناهم إلى ظبات السيوف، وأطراف الرماح، وإن كنتم تريدون الحياة الدنيا، أخذنا لكم العافية.
فتنادى الناس من جوانب المسجد: البقية البقية.
أخرجها الإمام المنصور بالله - عليه السلام - في الشافي .
وأخرج الذهبي عن ابن دريد نحوها، وفيها: ما ثنانا عن أهل الشام شك ولا ندم؛ وإنما نعاملهم بالسلامة والصبر، فشيبت السلامة بالعدواة، والصبر بالجزع؛ وكنتم في منفذكم إلى صفين دينكم أمام دنياكم، فأصبحتم ودنياكم أمام دينكم؛ ألا وإنا لكم كما كنا، ولستم لنا كما كنتم...إلخ.
وقال - عليه السلام -: يا أهل الكوفة، والله، لو لم تذهل نفسي عنكم إلا لثلاث: لقتلكم أبي، وطعنكم فخذي، وانتهابكم ثقلي.
رواه الإمام أبو طالب ، وأبو العباس عليهما السلام.
وحكى ابن عبد ربه في عقده، والمسعودي في مروجه، ما معناه، أن معاوية قال للحسن - عليه السلام -: قم، فأعلم الناس أنك قد سلّمت الأمر إليّ.
فقام الحسن، وشكى من أهل العراق؛ وكان مما قال: أما والله، يا أهل العراق، لو لم أذهل عنكم إلا /38

(3/38)


لثلاث لكانت كافية: وهي قتلكم لأبي، وسلبكم لرحلي، وطعنكم لفخذي.
ثم قال: وإنما الخليفة من عمل بكتاب الله وسنة نبيه - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم-؛ فأما صاحبكم هذا، فإنما هو رجل قد ملك ملكاً، يتمتع به قليلاً، ويعذب بسببه طويلاً.
وروي: وتبقى تبعته؛ وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين.
ومن كلامه - عليه السلام - لهم: خالفتم أبي، حتى حكَّم وهو كاره، ثم دعاكم إلى قتال أهل الشام، فأبيتم، حتى صار إلى كرامة الله؛ ثم بايعتموني، على أن تسالموا من سالمني، وتحاربوا من حاربني؛ وقد أتاني أن أهل الشرف منكم، قد أتوا معاوية، فحسبي منكم؛ لا تغروني من نفسي وديني.
رواه المدائني.
وروي أيضاً، أن الحسن - عليه السلام - خطب، بعد أن سأله معاوية، فقال فيها: الحمد لله، الذي توحد في ملكه، وتفرد في ربوبيته.
ثم ذكر علياً - عليه السلام -، فقال: ولقد اختصه بفضل، لم تعدوا مثله، ولم تجدوا مثل سابقته، فهيهات هيهات، طال ما قلّبتم له الأمور، حتى أعلاه الله عليكم، وهو صاحبكم وعدوّكم، في بدر وأخواتها.
حتى قال: ولقد وجه الله إليكم فتنة، لن تصدروا عنها حتى تهلكوا؛ لطاعتكم طواغيتكم، وانضوائكم إلى شياطينكم؛ فعند الله أحتسب ما مضى وما ينتظر، من سوء دعتكم، وحيف حكمكم.
يا أهل الكوفة، لقد فارقكم بالأمس سهم من مرامي الله، صائب على أعداء الله، نكال على فجّار قريش، لم يزل آخذاً بحناجرها، جاثماً على أنفاسها.
إلى قوله: أعطى الكتاب خواتمه وعزائمه؛ دعاه فأجابه، وقاده فاتبعه، لا تأخذه في الله لومة لائم ـ فصلوات الله عليه ورحمته ـ.
[جواب الإمام الحسن (ع) على سفيان بن الليل ]
أخرج الإمام المرشد بالله - عليه السلام -، بسنده إلى عدي بن ثابت ، عن سفيان بن الليل ، قال: دخلت على الحسن بن علي /39

(3/39)


- عليهما السلام -، فقلت: السلام عليك، يا مُذلّ رقاب المؤمنين، أنت ـ والله بأبي وأمي ـ أذللتَ رقابنا مرتين.
يعني حين سلّمت الأمر.
إلى قوله: ومعك مائة ألف، كلهم يموتون دونك.
فقال: يا سفيان بن الليل ، إني سمعت أبي يقول: سمعتُ رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يقول: ((يلي الأمة ـ أو أمتي ـ رجل واسع البلعوم، رحب الضرس، يأكل ولا يشبع، ولا ينظر الله إليه )).
قال: ما جاء بك يا سفيان؟
قلت: حبّكم أهل البيت.
قال: إذاً ـ والله ـ تكون معنا هكذا ـ وألصق بين إصبعيه السبابتين ـ.
وأخرجه الإمام المنصور بالله من طريقه - عليه السلام -.
وأخرجه أبو الفرج الأصفهاني ، من طريقين: إحداهما، عن الشعبي ، وفيهما: إني سمعتُ أبي علياً يقول: سمعت رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يقول: ((لا تذهب الليالي والأيام، حتى يجتمع أمر هذه الأمة، على رجل واسع السرم، ضخم البلعوم، يأكل ولا يشبع، لا ينظر الله إليه، ولا يموت حتى لا يكون له في السماء عاذر، ولا في الأرض ناصر)) وإني عرفت أن الله بالغ أمره.
وفيهما: فإني سمعت علياً يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((يرد علي الحوض أهل بيتي، ومن أحبهم من أمتي، كهاتين )) يعني السبابتين.
إلى قوله: أبشر يا سفيان؛ فإن الدنيا تسع البر والفاجر، حتى يبعث الله إمام الحق من آل محمد - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
قال ـ أيده الله ـ في التخريج: وقوله في حديث سفيان: ((يلي أمتي رجل... إلخ))، رواه محمد بن سليمان والمدائني، موقوفاً على علي؛ وأبو الفرج الأصفهاني بطريقين، وروى نحوه الجاحظ ، عن أبي ذر ؛ وإبراهيم الثقفي ، عن أنس، مرفوعاً.
قلت: ورواه في الحدائق؛ قال فيها: وروينا بالإسناد، عن سفيان بن الليل .
وساق رواته المرشد بالله في الخبر /40

(3/40)


وفي شرح النهج: قال المدائني: ودخل عليه سفيان بن أبي ليلى النهدي، فقال: السلام عليك يا مذلّ المؤمنين.
فقال الحسن: اجلس ـ يرحمك الله ـ؛ إن رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - رُفع له ملك بني أميّة، فنظر إليهم يعلون على منبره، واحداً فواحداً، فشقّ ذلك عليه؛ فأنزل الله تعالى في ذلك قرآنا، قال له: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْءَانِ } [الإسراء:60]، وسمعتُ أبي علياً ـ رحمه الله ـ يقول: سيلي أمر هذه الأمة رجل، واسع البلعوم، كبير البطن.
فسألته: من هو؟
فقال: معاوية.
وقال لي: إن القرآن قد نطق بملك بني أمية ومدتهم، قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } [القدر:3]، قال أبي: هذا ملك بني أمية.
وأخرج الإمام المرشد بالله - عليه السلام -، بسنده إلى الحسن بن علي عليهما السلام، أن رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - رفع إليه ملك بني أمية، فنظر إليهم يعلون على منبره، فشقّ ذلك عليه، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } [الكوثر:1]، نَهْرَ الجنة، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } [القدر:1]...إلى قوله: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } [القدر:3]، من ملك بني أمية.
قال القاسم:ـ قلت: أي ابن الفضل أحد الرواة ـ: فَحَسَبْنَا ملكهم، فانقرض لألف شهر.
وروى معنى ما ذكر في سورة القدر في الحدائق.
وأخرج ذلك الترمذي ، عن الحسن بن علي - عليهما السلام -.
وأخرج النيسابوري في تفسير سورة القدر أفاده في النصائح، قال فيها: وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه في الدلائل، وابن عساكر، عن سعيد بن المسيب ، قال: رأى النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - بني أمية.
إلى قوله: وهو قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } [الإسراء:60]، انتهى.
وفي أنوار اليقين : وروى الإمام الحاكم رحمه الله، بإسناده في الشجرة الملعونة في القرآن، أنهم بنو أمية.
وفي تفريج الكروب : رأى /41

(3/41)


رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - بني أمية ينزون على منبره نزو القردة.
حتى قال: فأنزل الله سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا... الآية}.
أخرجه الثعلبي في تفسيره، بإسناده عن سعد.
قال: وقد روي حديث الرؤيا لبني أمية بألفاظ مختلفة، وقد استوفى المأثور في ذلك السيوطي في الدر المنثور.
وقد ذكر الرازي في مفاتيح الغيب ، فقال: عن ابن عباس، أن الشجرة الملعونة في القرآن بنو أمية؛ وأنه - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - رأى بني أمية يتداولون [على] منبره، انتهى.
[جواب الإمام الحسن (ع) على الإمام الحسين (ع) في موادعة معاوية]
قال الحسين للحسن عليهما السلام: أجاد أنت فيما أرى من موادعة معاوية؟
قال: نعم.
قال: إنا لله وإنا إليه راجعون ـ ثلاثاً ـ.
ثم قال: لو لم نكن إلا في ألف رجل، لكان ينبغي لنا أن نقاتل عن حقنا، حتى ندركه، أو نموت وقد أعذرنا.
فقال الحسن: فكيف لنا بألف رجل مسلمين؟ إني أذكرك الله يا أخي، أن تفسد عليّ ما أريد، أو ترد علي أمري؛ فوالله، ما آلوك ونفسي وأمة محمد - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - خيراً؛ إنك ترى ما نقاسي من الناس، وما كان يقاسي منهم أبوك من قبلنا، حتى كان يرغب إلى الله في فراقهم، كل صباح ومساء؛ ثم قد ترى ما صنعوا بي؛ أفبهؤلاء نرجوا أن ندرك حقنا؟ إنا اليوم ـ يا أخي ـ في سعة وعذر، كما وسعنا العذر يوم قُبض نبينا.
فسكت الحسين.
رواه الإمام الحسن - عليه السلام - في الأنوار، والفقيه حميد في الحدائق.
[من كتاب الحسن (ع) إلى معاوية]
ومن كتاب الحسن - عليه السلام - إلى معاوية، بعد أن حمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، قال - عليه السلام -: فلما توفي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - تنازعت سلطانه العرب، فقالت قريش: نحن قبيلته، وأسرته وأولياؤه.
إلى قوله - عليه السلام -: فأنعمت لهم العرب، وسلمت ذلك.
حتى قال: فلما صرنا ـ أهل بيت محمد وأولياءه ـ إلى محاجتهم، وطلب النصف منهم، باعدونا /42

(3/42)


واستولوا بالإجماع على ظلمنا ومراغمتنا، والعنت منهم لنا؛ فالموعد الله، وهو الولي النصير.
ثم قال: فأمسكنا عن منازعتهم، مخافة على الدين، أن يجد المنافقون والأحزاب بذلك مغمزاً يثلمونه به، أو يكون بذلك لهم سبب، لما أرادوا من إفساده، فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية، على أمر لست من أهله.
إلى قوله: فأنت ابن حزب من الأحزاب، وابن أعدَأِ قريش لرسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - ولكتابه، والله حسيبك، وسترد فتعلم لمن عقبى الدار...إلخ.
رواه أبو الفرج في المقاتل، وروى نحوه المدائني، ورواهما شارح النهج عنهما، وغيره.
قال ـ أيده الله ـ في التخريج: وقد اعترف ابن حجر في شرح الهمزية ، بتفرق الناس، وانتشار النظام، عن الحسن بن علي - عليهما السلام -؛ ورواه الحاكم في المستدرك ، واعترف به المقبلي في أبحاثه؛ ذكر هذا المنصور بالله محمد بن عبد الله الوزير - رضي الله عنه -.
قال: وروى الذهبي في النبلاء من طرق، ما يفيد تفرق الناس عنه؛ ورواه أبو الفرج الأصفهاني والمدائني، وروى أبو جعفر الطبري نحو ذلك.
قلت: ومن أعلام النبوة إشارة قوله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((قاما أو قعدا )) وتصريح قوله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - في الحسن - عليه السلام -، وهو على المنبر: ((إن ابني هذا سيد، ولعل الله تعالى أن يبقيه حتى يصلح بين فئتين من المسلمين )) بهذا اللفظ رواه الإمام المرشد بالله، بسنده إلى جعفر الصادق، عن أبيه الباقر - عليهما السلام -، عن جابر بن عبد الله ؛ وقد سبقت رواية البخاري له، وغيره.
قال ابن عبد البر في الاستيعاب: وتواترت الآثار الصحاح عن النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - أنه قال في الحسن بن علي: ((إن ابني هذا سيد... إلخ)).
والأخبار متفقة على ما ذكره من صدره /43

(3/43)


وهذا يدل على أن الصلح أولى من القتال، في هذه الحال؛ كما كان كذلك في صلح الحديبية، وأن الحسن السبط مصيب للحق، مرضي الفعال؛ ولا دلالة فيه على إصابة البغاة القاسطين، كما لا دلالة في صلح الحديبية على ذلك في حق الكافرين، ولا على الرضى بشيء مما هم عليه من الضلال، وقد أطلق على الجميع في بعض رواياته اسم الإسلام، والمراد المعنى العام، الذي هو الاستسلام، وإظهار الشهاديتن والصلاة، ونحوها من الأشياء التي يفارقون بها في الأحكام ، أهلَ الكتابين وعبدةَ الأصنام، كما قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ ءَامَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا }...الآية، [الحجرات:14].
وقد سبق الاستدلال على ذلك، وهو معلوم لمن له بمعالم الإسلام أي إلمام.
[وصية الإمام الحسن (ع) لما حضرته الوفاة]
هذا، وقد افترت الحشوية عليه، كما افترت على أبويه؛ من ذلك: ما وضعوه في وصيّته للحسين - عليهما السلام -، التي أوردها ابن عبد البر مقطوعة السند، غير معزوة إلى أحد.
ونقلها منه الطبري في الذخائر، والأمير في شرح التحفة .
وبطلانها لا يخفى على ذوي البصائر؛ لمخالفتها المعلوم من الكتاب والسنة، وما عليه أهل بيت النبوة، بالضرورة.
والذي عند أهل بيت محمد - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - من روايات وصية أبيهم الحسن - عليه السلام - نحو ما أشار إليه السيد الإمام؛ وقد روى معناه أبو العباس الحسني .
وروى الإمام الحسن بن بدر الدين - عليه السلام - في الأنوار، أنه لما حضرته الوفاة، قال لأخيه الحسين بن علي - عليهما السلام -: اكتب: هذا ما أوصى به الحسن بن علي.
وساق في الشهادة لله تعالى...إلى قوله: وإني أوصيك يا حسين، بمن خلفت من أهلي، وولدي ونسائي، وأهل بيتك، أن تحفظ منهم ما أوصاك الله به، وأن توالي وليّهم، وتعادي عدوّهم، /44

(3/44)


وأن تكون لهم والداً، وأن تغفر لمسيئهم، وتقبل من محسنهم، وأن تدفني مع رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - فإني أقرب إليه وأحق به ممن دخل بيته بغير إذنه، ولا بعهد عنده منه؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ } [الأحزاب:53]، فوالله، ما أمروا بالدخول من رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - ولا جاءهم كتاب من بعده بالإذن، فإن أبت عليك الامرأة، فأناشدك الله والقرابة، التي قرب الله منك، والرحم الماسّة برسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وفاطمة، وأمير المؤمنين، وسيد المسلمين، علي بن أبي طالب ؛ أن تهريق فيَّ دم محجمة، حتى نلقى رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - غداً، فنختصم عنده، ونخبره بما كان من الناس إلينا بعده.
ثم قُبض ـ رحمة الله عليه ورضوانه ومغفرته ـ.
[السبط الأصغر الحسين بن علي (ع)]
الحسين بن علي بن أبي طالب ـ عليهم السلام ـ، أبو عبد الله، سيد شباب أهل الجنة، وريحانة جدّه من الدنيا، الإمام قام أو قعد؛ مولده بالمدينة، في شعبان، سنة أربع من الهجرة؛ فبينه وبين الحسن مدة الحمل وأربعون يوماً.
قلت: أما أنه ليس بينهما إلا ما ذكر، فهو الصحيح في رواية أهل البيت ـ عليهم السلام ـ ولكن يحمل على أن مدة الحمل تسعة أشهر وعشرون يوماً، لا على ما حمله عليه ابن حجر في الإصابة، من أنه لم يكن الطهر إلا بعد شهرين، فلا يصح ذلك، كما لا يخفى.
قال: تربى في حجر جده، وله عنه رواية، وأكثر الرواية عن أبيه؛ وشهد مع أبيه الجمل وصفين، ولبث في الكوفة حياة أبيه، ثم مع أخيه الحسن، حتى رجعا إلى المدينة، ولم يزل بالمدينة، حتى توفي الحسن، وحتى جاء نعي معاوية، سنة ستين؛ وورد الأمر بالبيعة ليزيد، فامتنع منها، فخرج من المدينة ليلاً، بمن معه من أهل بيته وبني عمه، نحو مكة /45

(3/45)


فقدمها، وأقام بها خمسة أشهر، ووردت عليه كتب العراقيين بالبيعة؛ فبعث مسلم بن عقيل ، فكتب إليه كتاباً يستقدمه؛ فخرج في ذي الحجة لثمان مضت منها، سنة ستين، ولم يزل سائراً حتى ورد كربلاء بمن معه؛ وفيها قُتل ومن معه، في عاشر شهر محرم، سنة إحدى وستين.
وتولى حزّ رأسه سنان بن أنس النخعي ، ويقال: شمر بن ذي الجوشن .
وحمل رأسه خولي بن يزيد ، إلى ابن زياد ، ثم إلى يزيد بن معاوية .
ودفنت جثته ـ صلوات الله عليه ـ في الموضع المعروف بكربلاء، وعليه مشهد مزور معروف.
ورأسه ذكر المقريزي في أخبار مصر ، أنه نُقل إلى مصر، بدولة الفاطميين.
وحج خمساً وعشرين حجة، ماشياً، والنجائب تقاد.
روى عنه أولاده، منهم: علي بن الحسين، وغيرهم، ممن قتل معه.
أخرج له الستة، وأئمتنا جميعهم، إلا الشريف السيلقي ، انتهى كلام الطبقات بلفظه.
هذا، والوارد من الأخبار في الحسين السبط وفي استشهاده عن جده المختار، وأبيه الكرار ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ وما ظهر في شأنه من الآيات البينات، واضحة المنار، لذوي الأبصار، وكذا ما نزل بأعداء الله وأعداء رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - القاتلين له من النكال والبوار، والخزي والدمار؛ أَضْرَبْتُ عن الخوض فيها للاختصار، ولمكانها من الاشتهار، قد مُلئت بها الأسفار، وسارت مسير الشموس والأقمار.
نعم، وكان الأولى بالتقديم بعد أصحاب الكساء ـ صلوات الله عليهم ـ سائر القرابة، ثم الصحابة؛ ولكن جريتُ في هذا على ما جرى من الترتيب، والله تعالى ولي الإعانة والتوفيق.
---
قال في الطبقات : (فصل) ومن هنا الشروع على حروف المعجم.
(فصل: الهمزة)
[أبي بن كعب الأنصاري ]
أبيّ (بضم الهمزة، وفتح الموحدة) بن كعب بن قيس الأنصاري /46

(3/46)


الخزرجي، النجاري، البدري، أبو المنذر، وأبو الطفيل، سيد القراء، شهد العقبة الثانية وبدراً وغيرها من المشاهد.
خرج له الشيخان ثلاثة عشر حديثاً، وخرج له الأربعة أيضاً، وبعض أئمتنا.
والأكثر أنه مات في خلافة عمر بالمدينة، ودُفن بها.
روى عنه ابن بشير، وأبو رافع، والنخعي، والطفيل بن أبي، ومن الصحابة: سهل بن سعد، ورافع بن خديج، ورفاعة، انتهى.
وله المقام المحمود، الذي رواه الإمامان: محمد بن عبد الله النفس الزكية، ويحيى بن عبد الله، عن آبائهما، عن علي ـ عليهم السلام ـ أوضح فيه الحجة، ولم تأخذه في الله لومة لائم؛ وقد سبق ذكره - رضي الله عنه -.
[أسامة بن زيد مأمور النبي لغزو الشام]
أسامة بن زيد بن حارثة القضاعي، الكلبي نسباً، الهاشمي ولاءً، أبو زيد المدني، كان مولى لخديجة بنت خويلد.
قلت: أي أبوه.
قال: فوهبته للنبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وهو ابن ثمان، وكان يدعى زيد بن محمد، فنزل: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } [الأحزاب:5].
قلت: وغيرها، كقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } [الأحزاب:40]، وقد يتعلق بها غلف القلوب، من طغام النواصب، الذين لا يفهمون التنزيل، ولا يفقهون التأويل، والآية واضحة في نفي نسبة رجالهم إليه، لا نفي رجاله وذريته وعترته وأبنائه، بصريح الكتاب، في قوله ـ عز وجل ـ: {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ } [آل عمران:61]، ودعا الحسنين، بإجماع الأمة؛ وبمتواتر السنة المعلومة.
ومثل هذا الكلام، لا يصدر إلا عن جهلة الأنام، الذين هم أشبه شيء بالأنعام، ولا يتجاسر أن يتفوه به من له أدنى مسكة من الإسلام.
قال السيد الإمام: وأمه أم أيمن، وكان النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - أمَّره على جلّة المهاجرين /47

(3/47)


قلت: وذلك في بعث أسامة المشهور، الذي بعثه رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - قبيل الوفاة، وشدد في تنفيذه غاية التشديد، وتوعّد على التخلف عنه نهاية الوعيد؛ وكان في جملته أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة، وغيرهم، من المهاجرين والأنصار، غير أهل بيت النبوة؛ وتخلف المذكورون عن الجيش، وكان من أمر السقيفة ما كان؛ وجميع ذلك معلوم للأنام، متفق على نقله بين أهل الإسلام.
قال الإمام الحجة، عبد الله بن حمزة - عليه السلام - جواباً على صاحب الخارقة: ولو صحّ ما ذكرت من أمر رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - لأبي بكر بالصلاة، لما دلّ على الإمامة؛ لأن الكل من آحاد الصحابة كان يصلي بالجميع، وأهل بيت الرسول مشغولون بأمره، فما في هذا من دليل على الإمامة؛ وقد عقد الولاية لأسامة بن زيد، على جلّة المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر؛ والولاية بالأمارة أقرب إلى الإمامة.
إلى قوله - عليه السلام -: إن الحجة عليهما باقية؛ فإنهما لم يأتمرا بأمر الله ورسوله، في الخروج مع أسامة...إلى آخره.
وهذا عارض جَرّ إليه المذكور، وإلى الله ترجع الأمور.
قال: واعتزل الفتن، وعنده علي - عليه السلام -.
وذكر السيد المرشد بالله، أنه لم يقاتل مع علي، مع تفضيله لعلي، تأولاً منه أنه لا يقاتل أهل الشهادتين ـ هكذا قيل ـ والذي نقلناه من خط شيخنا، أنه لما قَتَل القَتِيل بعد أن شهد الشهادتين، ولقي من رسول الله من الكلام، الذي ود أنه لم يسلم إلا ذلك اليوم، أنه آلى على نفسه أنه لا يَكْلُم مسلماً، ولا يقاتل مسلماً؛ ولذلك قعد عن علي - عليه السلام - يوم صفين والجمل، انتهى.
توفي سنة أربع وخمسين، وروى عنه عبد الرحمن بن عوف، وكريب، وأبو ظبيان؛ وأخرج له الستة، وبعض أئمتنا، انتهى.
قلت: وما ذكر غير مخلص، وقد قال الله ـ عز وجل ـ: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي /48

(3/48)


حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } [الحجرات:9]، وقال رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - فيما تواتر عنه: ((علي مع الحق، والحق مع علي )) وقال - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((وانصر من نصره، واخذل من خذله )) وأخبار الناكثين، والقاسطين، والمارقين؛ وقال - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - لعمار: ((تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار )) في آيات تتلى، وأخبار تملى.
[أسلع بن شريك خادم النبي (ص)]
أسلع بن شريك بن عوف التميمي ـ في الأصح ـ وهو خادم النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وصاحب راحلته؛ له حديث في التيمم، ذكره النواوي في التهذيب، والسيد المؤيد بالله .
وروى عنه ولده بدر؛ أخرج له ـ وبعده بياض ـ.
قال: ومن أئمتنا: المؤيد بالله فقط.
قلت: في الهامش: لم يخرج لأسلع الستة، وأهمله صاحب التقريب .
قلت: وليس له تاريخ وفاة في الطبقات ، ولا في الاستيعاب لابن عبد البر، ولا الإصابة لابن حجر، ولا جامع الأصول لابن الأثير، ولا الخلاصة للخزرجي.
ومن لم أذكر تاريخه، فلم أجده في هذه ولا في غيرها من كتب البحث، والله أعلم.
[أسيد بن أبي إياس]
أسيد بن أبي إياس.
قلت: هو الكناني، الدؤلي؛ كان شاعراً، وهو الذي كان يحرض مشركي قريش على قتل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فأهدر النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - دمه يوم الفتح؛ فأتاه وأسلم، وصحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: وصحح أنه بفتح الهمزة؛ ذكره الإمام أبو طالب ، وصاحب الإكمال /49

(3/49)


[أسيد بن حضير ]
أَسِيد (بفتح الهمزة، وكسر المهملة) ابن حضير (بمهملتين) ـ قلت: وفي الخلاصة : أُسيد (بالضم) ابن حضير (بمهملة ثم معجمة مصغراً) ابن سماك، الأشهلي، البدري، أبو يحيى؛ أحد النقباء، أسلم بعد العقبة الأولى.
إلى قوله: توفي بالمدينة، سنة عشرين، في شعبان؛ وقبره بالبقيع، وروى عنه أنس وابن أبي ليلى.
قال في الكاشف: وكان كثير النسيان.
أخرج له الجماعة، ومن أئمتنا: السيد المرشد بالله.
[بعض أخبار السقيفة والبيعة]
قلت: وفي أخبار السقيفة: فلما رأى بشير بن سعد الخزرجي ، ما اجتمعت عليه الأنصار، من تأمير سعد بن عبادة - وكان حاسداً له، وكان من سادة الخزرج - قام، فقال: أيها الأنصار.
إلى قوله: إن محمداً - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - رجل من قريش، وقومه أحق بميراث أمره.
فقام أبو بكر، وقال: هذا عمر وأبو عبيدة، فبايعوا أيهما شئتم.
فقالا: لا والله، لا نتولى هذا الأمر عليك.
إلى قوله: فلما بسط يده، وذهبا يبايعانه، سبقهما إليه بشير بن سعد، فبايعه، فناداه الحُباب بن المنذر : يا بشير عَقَّكَ عَقَاقْ؛ والله، ما اضطرك إلى هذا الأمر إلا الحسد لابن عمك.
ولما رأت الأوس أن رئيساً من رؤساء الخزرج قد بايع، قام أسيد بن حُضَ ير، وهو رأس الأوس، فبايع، حسداً لسعد أيضاً، ومنافسة أن يلي الأمر.
إلى قوله: واجتمعت بنو هاشم إلى بيت علي بن أبي طالب ، ومعهم الزبير، وكان يعدّ نفسه رجلاً من بني هاشم، كان علي - عليه السلام - يقول: ما زال الزبير منا أهل البيت، حتى نشأ بنوه فصرفوه عنا.
وساق إلى قوله: وذهب عمر ومعه عصابة إلى بيت فاطمة، منهم: أسيد بن حضير ، وسلمة بن أسلم .
إلى قوله: فقال لهم: انطلقوا فبايعوا، فأبوا عليه، وخرج عليهم الزبير بسيفه؛ فقال عمر: /50

(3/50)


عليكم الكلب.
فوثب سلمة بن أسلم ، فأخذ السيف من يده، فضرب به الجدار.
ثم انطلقوا به وبعلي، ومعهما بنو هاشم، وعلي يقول: أنا عبد الله، وأخو رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
حتى انتهوا به إلى أبي بكر، فقيل له: بايع.
فقال: أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي؛ أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله، فأعطوكم المقادة، وسلموا إليكم الإمارة، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، فأنصفونا ـ إن كنتم تخافون الله ـ من أنفسكم، واعرفوا لنا من الأمر مثل ما عرفت الأنصار لكم، وإلا فبوؤا بالظلم وأنتم تعلمون.
فقال عمر: إنك لست متروكاً حتى تبايع.
فقال له علي: احلب حلباً لك شطره، اشدد له أمره؛ ليرد عليك غداً؛ لا والله، لا أقبل قولك، ولا أبايعه.
إلى قوله: فقال علي: يا معشر المهاجرين، الله الله، لا تخرجوا سلطان محمد عن داره وبيته إلى بيوتكم ودوركم، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن ـ أهل البيت ـ أحق بهذا الأمر منكم، ما كان منا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله؛ العالم بالسنة، المضطلع بأمر الرعية؛ والله، إنه لفينا؛ فلا تتبعوا الهوى فتزدادوا من الحق بعداً.
فقال بشير بن سعد: لو كان هذا الكلام سمعته منك الأنصار يا علي قبل بيعتهم لأبي بكر، ما اختلف عليك اثنان؛ ولكنهم قد بايعوا.
فانصرف إلى منزله ولم يبايع، .....إلى آخره.
أخرجه أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري ، بسنده في كتاب أخبار السقيفة له.
قال شارح النهج: فأما امتناع علي من البيعة، حتى أُخرج على الوجه الذي أُخرج عليه، فقد ذكره المحدثون، ورواه أهل السير؛ وقد ذكرنا ما ذكره الجوهري في هذا الباب، وهو من رجال /51

(3/51)


الحديث، ومن الثقات المأمونين؛ وقد ذكر غيره من هذا النحو ما لا يحصى كثرة.
وقال فيه أيضاً: وهو عالم، كثير الأدب، ورع، ثقة، مأمون عند المحدثين، أثنى عليه المحدثون.
وروى نحو ما سبق في الكامل المنير ، وفيه: فقال علي: أنصفوا من أنفسكم..إلى قوله: وأنتم تعلمون.
وفيه: الله الله يا معشر المهاجرين..إلى قوله: فتزدادوا من الله بعداً.
قال ـ أيده الله ـ في التخريج: ورواه ابن جرير الطبري، في تاريخه، انتهى.
قال الإمام المنصور بالله - عليه السلام - في الشافي : فإنه لا خلاف بين الأمة أن أمير المؤمنين - عليه السلام - امتنع عن البيعة، وذكر أنه أولى بهذا الأمر، وأن العباس بن عبد المطلب قال لأمير المؤمنين - عليه السلام - بعد وقوع العقد لأبي بكر: امدد يدك أبايعك؛ فيقول الناس: عَمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بايع ابن أخيه؛ فلا يختلف عليك اثنان.
وليس هذا قول الراضي بالعقد الذي وقع.
ولا خلاف أن الزبير بن العوام قد امتنع من البيعة، وخرج شاهراً سيفه، إلى أن قال عمر ما قال، وأخذ سيفه فكسره.
ولا خلاف أيضاً أن خالد بن سعيد ، لما ورد من اليمن أظهر الخلاف، وحثّ بني هاشم وبني أمية على الخلاف؛ وقال: أرضيتم أن يلي عليكم تيمي.
وقال أبو سفيان لأمير المؤمنين - عليه السلام -: إن شئت ملأتها عليهم خيلاً ورجلاً.
وأمير المؤمنين - عليه السلام - قعد عنه، وقعد بنو هاشم أجمع، وامتنعوا من الحضور عنده.
وأظهر سلمان النكير، وقال: كرديد وبكرديد.
إلى قوله - عليه السلام -: وقد نقل الثقات في هذه القصة.
إلى قوله: وهو أنه ممن تخلّف عن بيعة أبي بكر: علي - عليه السلام - والعباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، والزبير بن العوام، وخالد بن /52

(3/52)


سعيد، والمقداد بن الأسود، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر ، والبراء بن عازب ، وأبي بن كعب.
قال - عليه السلام -: وكان خالد بن سعيد غائباً في اليمن، فقدم، فأتى علياً - عليه السلام -، فقال: هلم أبايعك، فوالله، ما في الناس أولى بمقام محمد منك، انتهى.
وفي شرح النهج: وروى الزبير بن بكار ، قال: روى محمد بن إسحاق، أن أبا بكر لما بويع، افتخرت بنو تيم بن مرة.
قال: وكان عامة المهاجرين وجل الأنصار، لا يشكون أن علياً هو صاحب الأمر، بعد رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
قلت: وكذلك أبو بكر وعمر ومن معهم، يعلمون ذلك؛ وهم مقرون أن بيعتهم كانت فلتة، كما قال عمر على المنبر، وحَكَمَ على من عاد إلى مثلها بالقتل، كما رواه البخاري ومسلم، وهو معلوم النقل.
ولا يستنكر شيء بعد واقعة يوم الخميس.
[يوم الخميس] وما يوم الخميس به .... كل الرزية قال البحر هي هي هي
التي أخرجها الشيخان وغيرهما؛ بل أجمع على روايتها الخلق، من صدور النزاع، والتقديم بين يدي الله ورسوله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - حتى أدى إلى منع رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - عما أراد من تأكيد عهده، وكتابة الكتاب الذي لا يضلون من بعده، وكان - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - قد أقام الحجة، وأبان المحجّة؛ وإنما أراد التأكيد، وزيادة التبليغ؛ وفهم عمر ومن معه قصده؛ ولولا ذلك لما استطاع عمر ولا جميع الخلق منعه ولا رده.
وعلى كل حال، فلعمر الله، إن تلك واقعة في الإسلام، تذوب لها القلوب، وتقشعّر منها الجلود، من كل مَنْ بقي في قلبه مثقال ذرة من الإيمان.
فلهذا كان ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ إذا ذكرها يبكي حتى يبلّ دمعه الحصى، ويقول: إنها الرزية كل الرزية؛ برواية البخاري ومسلم وغيرهما.
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون لهم الخيرة /53

(3/53)


من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً.
هذا، وكان أعيان المهاجرين والأنصار، وأرباب السبق منهم والفضيلة، والبشارات من الله تعالى على لسان رسوله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - غير راضين بما جرى من خلاف رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يوم الخميس، والرجوع عن الجيش الذي بعثه، وما تعقبه يوم السقيفة؛ ولا عادلين بأمير المؤمنين، وسيد الوصيين، ولا خارجين عن ولايته، قضت بذلك الأخبار، الصحيحة المتفق عليها المعلومة.
وقد ندم كثير على ما كان منهم يوم السقيفة من الفلتة، لا سيما الأنصار، كما وردت بذلك الآثار.
وروى الجوهري بسنده إلى جرير بن المغيرة ، أن سلمان، والزبير، والأنصار، كان هواهم أن يبايعوا علياً - عليه السلام - بعد النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
وروى بسنده عن حبيب بن أبي ثابت ، قال: قال سلمان يومئذ: أصبتم ذا السن منكم، وأخطأتم أهل بيت نبيكم؛ لو جعلتموها فيهم، ما اختلف عليكم اثنان، ولأكلتموها رغداً.
قال شارح النهج: هذا الخبر، هو الذي روته المتكلمون في باب الإمامة، عن سلمان، أنه قال: (كرديد وبكرديد)، تفسره الشيعة فتقول: أراد: أسلمتم وما أسلمتم...إلخ.
وروى الجوهري أيضاً، بسنده إلى أبي ذر ، أنه قال: لو جعلتم هذا الأمر في أهل بيت نبيكم، لما اختلف عليكم اثنان.
وروى الزبير بن بكار ـ وهو من الزبيريين، وهم أهل الانحراف ـ بسنده، قال: لما بويع أبو بكر واستقر أمره، ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته، ولام بعضهم بعضاً، وذكروا علي بن أبي طالب ، وهتفوا باسمه، وأنه في داره لم يخرج إليهم؛ وجزع لذلك المهاجرون، وكثر في ذلك الكلام.
وكان أشد قريش على الأنصار نفراً، منهم: سهيل بن عمرو ، والحارث بن هشام ، /54

(3/54)


وعكرمة بن أبي جهل، المخزوميان؛ وهؤلاء أشراف قريش، الذين حاربوا النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وكلهم موتور.
ثم ذكر فروة بن عمرو ، قال: وكان ممن تخلّف عن بيعة أبي بكر، وكان ممن جاهد مع رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وقاد فرسين في سبيل الله؛ وكان يتصدق من غلّة نخله بألف وسق في كل عام، وكان سيداً، وهو من أصحاب علي، وممن شهد معه يوم الجمل.
قال الزبير: ثم إن رجالاً من سفهاء قريش ومثيري الفتن، اجتمعوا إلى عمرو بن العاص، فقالوا له: إنك لسان قريش.
ثم حكى مسيره إلى المسجد، وكلامه في الأنصار.
قال: ثم التفت فرأى الفضل بن العباس بن عبد المطلب ، وندم على قوله؛ للخؤولة بين ولد عبد المطلب وبين الأنصار، ولأن الأنصار كانت تعظم علياً وتهتف باسمه حينئذ.
فقال الفضل: يا عمرو، إنه ليس لنا أن نكتم ما سمعنا منك، وليس لنا أن نجيبك وأبو الحسن شاهد بالمدينة، إلا أن يأمرنا، فنفعل.
ثم رجع الفضل إلى علي، فحدثه، فغضب وشتم عمراً، وقال: آذى الله ورسوله.
ثم قام فأتى المسجد، فاجتمع إليه كثير من قريش، وتكلّم مغضباً، وقال - عليه السلام -: إنه مَنْ أحبّ الله ورسوله أحبّ الأنصار.
قال الزبير: فمشت قريش عند ذلك إلى عمرو بن العاص، فقالوا: أيها الرجل، أما إذا غضب علي فاكفف.
قال الزبير: وقال علي للفضل: انصر الأنصار بلسانك ويدك، فإنهم منك وإنك منهم.
فقال الفضل:
قلتَ يا عمرو مقالاً فاحشاً
إنما الأنصار سيف قاطعٌ
وسيوف قاطع مضربها
نصروا الدين وآووا أهله
وإذا الحرب تلظت نارها
إنْ تَعُد يا عمرو والله فلكْ
من تصبه ظبة السيف هلكْ
وسهام الله في يوم الحلكْ
منزل رحب ورزق مشتركْ
بركوا فيها إذا الموت بركْ
/55

(3/55)


ثم حكى أبيات حسان بن ثابت ، وقد بعثت إليه الأنصار، وقال له خزيمة بن ثابت : اذكر علياً وآله يكفك كل شيء، فقال:
جزى الله عنّا والجزاء بكفه .... أبا حسنٍ عنا ومَنْ كأبي حسنْ؟
سَبَقْتَ قريشاً بالذي أنت أهله .... فصدرك مشروح وقلبك ممتحنْ
..إلى قوله:
حَفِظْتَ رسول الله فينا وعهده .... إليك ومن أولى به منك من ومن؟
ألست أخاه في الهدى ووصيه .... وأعلم منهم بالكتاب وبالسنن؟
فحقك ما دامت بنجد وشيجة .... عظيم علينا ثم بعد على اليمن
وذكر مما جرى بينهم قول زيد بن أرقم لعبد الرحمن بن عوف: إن ممن سميت من قريش، من لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد، علي بن أبي طالب .
قال الزبير: فلما كان الغد، قام أبو بكر فخطب الناس، وقال: أيها الناس، إني وليت أمركم ولست بخيركم، فإذا أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني؛ إن لي شيطاناً يعتريني، فإياكم وإياي إذا غضبت، لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم؛ الصدق أمانة، والكذب خيانة...إلخ.
قلت: ليته ترك خيرهم يليهم، الذي لا يؤثر في أشعارهم وأبشارهم؛ بل يحملهم على الحق القويم، والصراط المستقيم، وهو الذي كان يقول، إذا علا المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني...الخبر.
وهو الذي نصبه لهم رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يوم الغدير، وقرر ولايته، وهنأه بذلك أبو بكر وعمر.
* ولو لم يكن نصٌّ لقدَّمَه الفضل *
فكيف وفي الكتاب والسنة ما لا يحصر؟ إذاً والله لأراح واستراح؛ الله أعلم حيث يجعل رسالاته.
نعم، وذكر قول الفضل بن العباس: يا معشر قريش، إنكم إنما أخذتم الخلافة بالنبوة، ونحن أهلها /56

(3/56)


قلت: وهذه حجة عليهم لازمة، لا يجدون عنها محيصاً، ولا يستطيعون لها رداً؛ لأنه إذا بطل متمسك الخصم الذي ليس له شبهة سواه، بطلت دعواه.
ولهذا كرر الاحتجاج عليهم بها أمير المؤمنين، والحسنان، وسائر أهل بيت النبوة ـ صلوات الله عليهم ـ وهو مسلك من البيان، قد نطق به القرآن في غير مكان؛ مع أنه ـ صلوات الله عليه ـ قد احتج عليهم بنصوص الكتاب والسنة، في مقامات عديدة.
ومما اتفق عليه منها: يوم الشورى؛ ومنها: يوم استنشد الناس حديث غدير خم، وغيرهما.
وهم يعلمونها؛ ويقرّون بها، وما طال العهد، ولا بعد الأثر، ولذلك عدلوا إلى الاحتجاج عليهم بنفس حجتهم، وعين دليلهم، وهو من القلب، الذي يقال له القول بالموجب، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ مخاطباً لأبي بكر:
فإن كنت بالقربى حججت خصيمهم .... فغيرك أولى بالنبي وأقربُ
وإن كنت بالشورى ملكت أمورهم .... فكيف تليها والمشيرون غيّبُ؟
وهذا واضح معلوم، لا يمتري فيه إلا جاهل محروم، أو متجاهل ملوم، وعند الله تجتمع الخصوم.
هذا؛ رجعنا إلى تمام الكلام:
ثم قال الفضل بن العباس ـ رضي الله عنهما ـ: وإنا لنعلم أن عند صاحبنا عهداً هو ينتهي إليه.
ثم حكى ما دار بينهم في ذلك من الأشعار؛ ومنه قول بعض بني عبد المطلب:
ما كُنْتُ أحسب أن الأمر منتقل .... عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
...الأبيات المشهورة.
ومنها: قول لسان الأنصار وشاعرهم، النعمان بن عجلان ـ قال: وكان سيداً فخماً ـ من قصيدة له:
وكان هوانا في علي وإنه .... لأهل لها ياعمرو من حيث لاتدري
فذاك بعون الله يدعو إلى الهدى .... وينهى عن الفحشاء والبغي والنكرِ
وصي النبي المصطفى وابن عمه .... وقاتل فرسان الضلالة والكفرِ
...إلى آخرها./57

(3/57)


وروى الجوهري، عن علي بن سلمان النوفلي، قال: سمعت أبياً يقول: ذكر سعد بن عبادة يوماً علياً، بعد يوم السقيفة؛ فذكر أمراً من أمره يوجب ولايته، فقال له ابنه قيس بن سعد: أنتَ سمعتَ رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يقول هذا الكلام في علي بن أبي طالب ، ثم تطلب الخلافة، ويقول أصحابك: منا أمير ومنكم أمير؟! لا كلمتك والله من رأسي بعد هذا كلمة أبداً.
وروى أيضاً، بسنده إلى الشعبي ، قال: قام الحسن بن علي - عليه السلام - إلى أبي بكر، وهو يخطب على المنبر، فقال له: انزل عن منبر أبي.
فقال أبو بكر: صدقت والله، إنه لمنبر أبيك لا منبر أبي.
وروى أيضاً، بسنده إلى أبي جعفر محمد بن علي - عليهما السلام - حديثاً، فيه: إن فاطمة ـ عليها السلام ـ سألت الأنصار النصرة لأمير المؤمنين - عليه السلام- فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل؛ لو كان ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به.
فقال علي: أكنت أترك رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - ميتاً في بيته لا أجهزه، وأخرج إلى الناس أنازعهم في سلطانه؟
وقالت فاطمة: ما صنع أبو حسن، إلا ما كان ينبغي، وصنعوا ما الله حسبهم.
انتهى المراد إيراده.
فهذا طرف يسير مما روته العامة، دَعْ عنك ما عند آل محمد ـ صلوات الله عليهم وسلامه ـ وقد ملأت أقوال الوصي ـ صلوات الله عليه ـ في هذا الشأن الصحائف، وأجمع على نقل ذلك عند الموالف والمخالف، /58

(3/58)


كما قال عالم المعتزلة شارح النهج: واعلم أنها قد تواترت الأخبار عنه - عليه السلام - بنحو هذا القول، نحو قوله: ما زلت مظلوماً منذ قبض الله رسوله، حتى يوم الناس هذا.
وقوله: اللهم اجز قريشاً، فإنها منعتني حقي، وغصبتني أمري.
وقوله: فجزت قريشاً عني الجوازي، فإنهم ظلموني حقي، واغتصبوني سلطان ابن أمي.
وقوله، وقد سمع صارخاً ينادي أنا مظلوم، فقال: هلم فلنصرخ معاً، فإني ما زلت مظلوماً.
وقوله: إنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحا.
وقوله: أرى تراثي نهباً.
وقوله: أصغيا بإنائنا، وحملا الناس على رقابنا.
وقوله: إن لنا حقاً إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل؛ وإن طال السرى.
وقوله: ما زلت مُسْتأثَراً عليَّ، مدفوعاً عما أستحقه وأستوجبه.
قلت: ونحو قوله - عليه السلام -: حتى إذا قُبض رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - رجع قوم على الأعقاب، وغالتهم السبل، واتكلوا على الولائج، ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي أُمِروا بمودته، ونقلوا البناء عن رصّ أساسه، فبنوه في غير موضعه...إلى آخره.
وقوله - عليه السلام -: اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم، فإنهم قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي...إلخ.
قال: وقد رواه الناس كافة.
وقوله - عليه السلام -: فأغضيت على القذى، وجرعت ريقي على الشجى، وصبرت من كظم الغيظ على أمَرّ من العلقم، وآلم للقلب من حز الشفار ...إلخ /59

(3/59)


قال الشارح: وقد روى كثير من المحدثين، أنه عقيب يوم السقيفة تألّم وتظلّم، واستنجد واستصرخ، حيث ساموه الحضور والبيعة؛ وأنه قال، وهو يشير إلى القبر: يا ابن أم، إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني؛ وأنه قال: وا جعفراه، ولا جعفر لي اليوم، وا حمزتاه، ولا حمزة لي اليوم.
وقال رجل ثقفي لعلي - عليه السلام - يوم الجمل: ما أعظم هذه الفتنة.
فقال علي - عليه السلام -: وأي فتنة هذه وأنا قائدها وأميرها؟ وإنما بدء الفتنة من يوم السقيفة، ثم يوم الشورى، ثم يوم الدار.
رواه أبو الحسن، أحمد بن موسى الطبري .
وفي الشافي : من طريق أبي رافع ، أنه - عليه السلام - قال لأهل الشورى: فأيم الله، إنكم لتعرفون مَنْ أولى الناس بهذا الأمر قديماً وحديثاً؛ وما منكم من أحد إلا وقد سمع رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - ووعى ما وعيته.
إلى قوله: وهذا حد ما يمكنه ويسقط عنه الفرض في ذلك الوقت، وعلى أنه - عليه السلام - لم يغفل الكلام والاحتجاج، والتعريف أنه أولى بالأمر، في مقام بعد مقام.
هذه خطبته قبل توجهه إلى البصرة؛ للحاق طلحة والزبير، بيوم، وسار في ثانيه: حمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - ثم قال: أما بعد، فإنه لما قبض رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - قلنا: نحن أهله وعصبته وذريته، وأحق خلق الله به، لا ننازع سلطانه ولا حقه؛ وإنا لكذلك إذ انبرى لنا قوم نزعوا سلطان نبينا منا، وولّوه غيرنا؛ وأيم الله، لولا مخافة فرقة المسلمين، وأن يعود الكفر الثاني، ويبور الدين، لغيرنا ما استطعنا.
...إلخ، وقد سبق.
قال - عليه السلام -: ولأنه - عليه السلام - قد بين بما بعضه يكفي؛ ولأنه لو لم يبين اكتفى بعلمهم بالحال؛ لأن مَنْ له ولاية أمسك؛ كما فعل هارون بن عمران - عليهما السلام - وقد بقي معه أكثر ممن بقي مع علي ـ عليه /60

(3/60)


السلام ـ، ومُنْكَرهم أكبر من فعل الصحابة؛ أولئك اتخذوا الآلهة من دون الله، وهؤلاء أقاموا إماماً دون علي - عليه السلام - بغير دليل شرعي على فعلهم.
إلى قوله: وأما تكرير الفقيه للقهر والضعف والعجز.
قلت: وهذه من تمويهات السنية، التي لا يزالون يغترون بها مَنْ لا بصيرة له ولا روية.
قال - عليه السلام -: فلا وجه له؛ لأن مثل ذلك وأعظم منه قد جرى على النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وعلى من قبله من الأنبياء ـ عليهم السلام ـ.
إلى قوله: بل لو جعلت جنبة الحق مع المغلوب، لوجدتها أكثر، فما في كلامه هذا ما يلزم، لولا التلبيس على العوام، والمقلدين الطَّغام.
إلى قوله: ولما رأى - عليه السلام - من افتراق كلمة المسلمين، مع كثرة العدو، ونجوم الردة والنفاق، ووهن الإسلام بموت النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -؛ فكان نظره - عليه السلام - نظراً في صلاح عامة المسلمين، وإن كان - عليه السلام - مظلوماً مغصوباً على حقه؛ وقد حكى - عليه السلام - مثل ذلك في مواضع كثيرة، من قوله: فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، ومثل قوله: نسلّم ما سلمت أمور المسلمين.
[أفلح مولى النبي - صلى الله عَلَيْه وآله وسلم -]
أفلح (بفتح الهمزة، وسكون الفاء، فلام، فمهملة) مولى النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
وفي جامع الأصول : وقيل: مولى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ له ذكر في السجود من كتاب الصلاة، خرج له الجرجاني.
قلت: ولم يذكروا له تاريخ وفاة، وكذا أفلح بن أبي القعيس عمّ عائشة من الرضاعة، وهكذا عند مسلم، وعنده أيضاً أفلح بن قعيس، وعند البخاري أفلح أخو أبي القعيس (وهو بضم القاف، وفتح المهملة، وسكون التحتية، فسين مهملة).
عنه عراك بن مالك؛ له ذكر عند البخاري /61

(3/61)


ومسلم، وذكره محمد بن منصور في الرضاعة.
قلت: وفي خبره دليل على تحريم لبن الأب، كما هو الصحيح.
[أنس بن الحارث الأسدي]
أنس بن الحارث، من بني أسد.
قال المرشد بالله: كان له صحبة، قُتل مع الحسين بن علي - عليهما السلام - سنة ستين.
[خادم النبي أنس بن مالك ]
أنس بن مالك بن النضر الأنصاري، الخزرجي، خادم النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - منذ قدم المدينة إلى أن توفي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
مات وقد جاوز المائة، وهو من أصحاب الألوف.
أخرج له جميع أئمتنا وشيعتهم، وأصحاب الست المسانيد والسنن كلها.
عنه ثابت البناني ، وحميد الطويل ، وعلي بن زيد بن جدعان ، وعمر بن الوليد، والربيع بن أنس، والحسن، وخلق كثير.
قلت: سبق ذكر توبته عما جرى منه إلى الوصي - عليه السلام - وكان ينشر فضائله.
وروى عثمان بن مطرف أن رجلاً سأل أنس بن مالك في آخر عمره، عن علي بن أبي طالب ؛ فقال: إني آليت ألا أكتم حديثاً سُئلت عنه في علي بعد يوم الرحبة؛ ذاك رأس المتقين يوم القيامة؛ سمعته والله من نبيئكم.
[أوس بن الصامت ]
أوس (بفتح الهمزة، وسكون الواو، فمهملة) ابن الصامت الأنصاري، المظاهر من امرأته في نهار رمضان.
شهد بدراً وما بعدها؛ توفي أيام عثمان.
خرج له الهادي إلى الحق، وأبو داود.
عنه حسان بن عطية /62

(3/62)


(فصل الباء الموحدة)
[بديل بن ورقاء]
بديل (مصغر) بن ورقاء الخزاعي؛ قيل: أسلم عام الفتح، وقيل: تقدم وشهد حنيناً، والطائف، وتبوك.
عنه: ابناه.
قُتل على عهد رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، وقيل: يوم صفين؛ وقيل: المقتول في صفين ابنه عبد الله، ذكره في جامع الأصول والإصابة.
قلت: ويدل عليه قول الشاعر:
أبعد عمّار وبعد هاشم .... وابن بديل فارس الملاحم
ترجو البقاء ضل حكم الحاكم
[البراء بن عازب ]
البراء بن عازب الأنصاري، الأوسي، أبو عمارة، صحابي جليل القدر، استصغر هو وابن عمر يوم بدر، وشهد أحداً وما بعدها وبيعة الرضوان، وشهد مع أمير المؤمنين الجمل، وصفين، والنهروان.
عنه: ابن أبي ليلى وغيره.
توفي بالكوفة بعد التسعين.
خرج له أئمتنا الخمسة: الأخوان، والموفق بالله، والمرشد بالله، ومحمد بن منصور ـ عليهم السلام ـ؛ والستة: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه.
[بريدة بن الحصيب ]
بريدة بن الحصيب ـ سبق ضبطه ـ الأسلمي؛ أسلم قبل بدر، وشهد خيبر.
خرج له أئمتنا الخمسة ـ عليهم السلام ـ، والستة.
توفي بمرو، سنة اثنتين وستين، وهو آخر الصحابة موتاً بخراسان.
روى عنه: ولده سليمان /63

(3/63)


[بشر بن عاصم]
بشر بن عاصم، كذا في الطبقات ؛ وأفاد في الاستيعاب أنه الثقفي، على قول الأكثر، وعن بعض: المخزومي.
وأفاد في الطبقات أنه أخرج المرشد بالله بإسناده إليه أن عمر أراد توليته فامتنع، وقال: سمعت رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يقول: ((يؤتى بالوالي فيوقف على الصراط فيهتز هزة، حتى يزول كل عضو من مكانه؛ فإن كان عادلاً مضى، وإن كان جائراً هوى في النار سبعين خريفاً )) وأخرجه عبد بن حميد عنه.
ومثله روي عن أبي ذر .
قلت: ولم يذكر من روى عنه.
وفي الاستيعاب أنه روى عنه أبو هلال محمد بن سليم الراسي ، وأبو وائل .
[بشير بن الخصاصية]
بشير (بفتح أوله) بن الخصاصية (بمعجمة، فمهملتين؛ بينهما ألف، فتحتيه، فهاء) وهي أمه.
وفي جامع الأصول بن معبد، مولى النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
كان من أهل الصُّفَّة.
عنه: بشير بن نهيك ، وجري بن كليب .
خرج له المرشد بالله - عليه السلام - والأربعة، إلا الترمذي .
[بشير بن سعد]
عنه: محمد بن كعب.
بشير بن سعد بن ثعلبة الجلاس (بضم الجيم، وباللام مثقلاً) الأنصاري، الخزرجي.
بدري، عقبي، شهد أحداً والخندق، وقتل بعين التمر، سنة ثلاث عشرة مع أبي بكر.
قلت: وهو أول من بايعه من الأنصار، كما مَرّ في أخبار السقيفة.
قال: روى عنه: ولده النعمان /64

(3/64)


قلت: هو من القاسطين، كما سياتي ـ إن شاء الله تعالى ـ.
أخرج له: المرشد بالله، والنسائي.
[بشير بن عقربة]
بشير بن عقربة الجهني، أبو اليمان؛ سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من قام بخطبة لا يلتمس بها إلا رياء وسمعة، وقفه الله يوم القيامة موقف رياء وسمعة )).
أخرجه المرشد بالله بإسناده إلى شريح بن عبيد ، وعبد الله بن عوف ، عنه.
[بلال بن الحارث]
بلال بن الحارث المزني، أبو عبد الرحمن؛ وفد في وفد مُزينة، سنة خمس، وكان معه لواؤها يوم الفتح؛ ثم سكن الأشعر، وراء المدينة، حتى توفي، سنة ستين، عن ثمانين.
عنه: ولده الحارث، وعلقمة بن وقاص .
خرج له: أبو طالب ، ومحمد، والأربعة.
[بلال بن رباح]
بلال بن حمامة، نسبة إلى أمه، وأبوه رباح (بمهملتين، بينهما موحدة، وألف) الحبشي؛ كان من السابقين، وخدم رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وأذَّن له.
توفي بدمشق، سنة عشرين، عن أربع وستين.
خرج له: زيد بن علي، والهادي إلى الحق، والثلاثة من أئمتنا عليهم السلام، والستة.
عنه: أبو إدريس الخولاني ، والأسود حديث: ((إنه كان يثني الأذان والإقامة )) عن عمران اليحصبي.
(فصل التاء)
[تميم بن أوس الداري]
تميم بن أوس بن حارثة الداري، وقيل: الديري نسبة إلى دير كان يتعبد فيه.
أسلم سنة تسع، /65

(3/65)


وهو أول من سرج المسجد.
سكن المدينة، ثم بيت المقدس.
توفي سنة أربعين.
أخرج له: المرشد بالله، ومسلم، والأربعة.
عنه: عطاء، وغيره.
[تميم بن عرفة]
تميم بن عرفة المازني.
عنه: ولده عباد.
خرج له: المرشد بالله، وغيره.
(فصل الثاء المثلثة)
[ثابت بن قيس الخزرجي]
ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي ؛ شهد أحداً وما بعدها.
استشهد باليمامة بقتال الردة، سنة إحدى عشرة.
عنه: ابنه عدي وغيره.
أخرج له: أبو طالب ، ومحمد، والبخاري، وأبو داود.
[ثوبان بن بُجْدُد]
ثوبان بن بجدد (بضم الموحدة، وسكون الجيم، فدال مهملة مضمومة مكررة) أبو عبد الله؛ أعتقه النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - فلازمه؛ فلما توفي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - خرج إلى الشام؛ وتوفي بحمص، سنة أربع أو خمس وأربعين.
عنه: سالم بن أبي الجعد، وغيره.
(فصل الجيم المعجمة من أسفل)
[شقيق الوصي: جعفر بن أبي طالب ]
جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، أبو عبد الله، وأبو المساكين، ذو الجناحين.
ولد بعد عقيل بعشر سنين؛ وأمه فاطمة بنت أسد.
أسلم بمكة، ثم هاجر إلى الحبشة، واجتمع بالنجاشي، وقرأ عليه سورة مريم، /66

(3/66)


وأسلم على يديه؛ ثم رجع يوم فتح خيبر، فالتزمه النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وقبَّله، وقال: ((ما أدري بأيهما أُسَرّ ـ أو أفرح ـ بفتح خيبر، أو قدوم جعفر؟ )).
ثم بعثه إلى مؤتة (بضم الميم، وسكون الهمزة، ومثناة فوقية) من أرض الشام، وبها قُتل، سنة ثمان.
أخرج له: أبو طالب ، والقاضي زيد، وأبو داود صلاة التسبيح.
هذه ترجمته بتمامها في الطبقات ؛ وقد تقدم في الفصول السابقة من فضائله ما يكفي.
[جابر بن سمرة السوائي]
جابر بن سمرة (بفتح السين المهملة تخفيفاً ـ والأكثر ضمها ـ) بن جنادة السوائي، كان وأبوه صحابيين.
وروى عنه: سماك بن حرب ، والمسيب بن رافع .
توفي بالكوفة، سنة ثلاث وسبعين.
[آخر الصحابة موتاً بالمدينة: جابر بن عبد الله ]
جابر بن عبد الله الأنصاري، الخزرجي؛ غزا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بضع عشرة غزوة.
قلت: وفي الاستيعاب: أنه شهد صفين مع أمير المؤمنين - عليه السلام - واستشهد والده بأحد ـ رضوان الله عليهما ـ.
وكان جابر من سادات الصحابة وفضلائهم، وأهل الولاء الخالص لأمير المؤمنين وأهل بيته ـ عليهم السلام ـ.
توفي بالمدينة، سنة ثلاث وسبعين، وهو ابن أربع وتسعين؛ وهو آخر الصحابة موتاً بها.
خرج له: أئمتنا الخمسة، وجماعة العامة.
روى عنه: الباقر، وأبلغه السلام عن جده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأخوه الإمام الأعظم زيد بن علي - عليهما السلام -، والحسن البصري، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن المنذر حديث: ((اللهم رب هذه الدعوة )) وعطية زيارة قبر الحسين - عليه السلام -، وأبو الزَّبِيْر المكي، /67

(3/67)


والشعبي، وعمرو بن دينار ، حديث: ((لأعطين الراية... الخبر)).
[الجارود بن عمرو الكندي]
الجارود بن عمرو بن العلاء الكندي، أبو المنذر.
قال المرشد بالله: في نسبه اختلاف.
قدم على النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - سنة تسع، فأسلم، مع وفد عبد قيس؛ ثم سكن البصرة، وقُتل بأرض فارس، في حداقة، سنة إحدى وعشرين.
عنه: مطرف بن الشخير، وابن سيرين .
قلت: وصفه أمير المؤمنين - عليه السلام - بالصلاح.
قال شارح النهج: كان يقال: أطوع الناس في قومه الجارود بن بشر بن المعلا.
لما قُبض رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - فارتدت العرب، خطب قومه، فقال: أيها الناس، إن كان محمد قد مات، فإن الله حيٌّ لا يموت؛ فاستمسكوا بدينكم.
إلى قوله: فما خالفه من عبد القيس أحد؛ انتهى.
وترجم له في الطبقات ثانياً، فقال: الجارود العبدي؛ اختلف في اسمه ونسبه، وكنيته ولقبه.
إلى قوله: ذكره الهادي - عليه السلام -.
[جَبَّار بن صخر]
جبَّار (بفتح أوله، وتثقيل الموحدة، وآخره مهملة) بن صخر ـ هكذا في نسخة صحيحة من شرح التجريد وهو الصواب ـ أبو عبد الله.
عنه: جابر بن عبد الله .
خرج له: المؤيد بالله .
قلت: لم يذكر في الطبقات وفاته.
وفي الاستيعاب أنه شهد بدراً وأحداً وما بعدها؛ وكان أحد السبعين ليلة العقبة، وآخى رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - بينه وبين المقداد، وأنه توفي سنة ثلاثين.
ثم ذكر قيامه مع النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - في الصلاة عن يساره وجعله عن يمينه؛ والخبر مذكور في موقف /68

(3/68)


المؤتم مع الإمام.
[جبير بن مطعم]
جبير (على صيغة التصغير) بن مطعم، القرشي، النوفلي؛ أسلم يوم الفتح، وحسن إسلامه؛ وكان سيداً حكيماً.
توفي سنة ثمان ـ أو تسع ـ وخمسين، بالمدينة.
أخرج له: المؤيد بالله ، والمرشد بالله - عليهما السلام -، والجماعة.
[جرهد]
جرهد (بضم أوله، فمهملتين، بينهما هاء) وفي جامع الأصول بفتحه، اختلف في نسبه.
من أهل الصفة؛ له حديث ((الفخذ عورة )) أخرجه المؤيد بالله ، ومحمد، وأبو داود، والترمذي.
وعنه: ولداه عبد الله وعبد الرحمن.
توفي سنة إحدى وستين.
في بعض نسخ أصول الأحكام : (جوهر) وهو وهم.
[جرير بن عبد الله البجلي ـ وبحث في خبر الفاسق]
جرير بن عبد الله البجلي ؛ قدم سنة عشر؛ مات سنة إحدى وستين.
قال السيد الإمام - عليه السلام -: إن قيل: كيف قبلتم روايته، مع تضعيف الأمير الحسين وغيره له من أئمتنا؛ وذلك لميله عن علي - عليه السلام - ولحوقه بمعاوية، وإحراق أمير المؤمنين بيته وطعامه؟
قلنا: أما من قبل فساق التأويل، فظاهر في قبول روايته؛ ويقبل ما كان غير معارض.
ومن لم يقبل، قال: كان ما رواه السيدان المؤيد بالله ، وأبو طالب حال ستره، وقبل ظهور ما ظهر منه.
إلى قوله: أو حجة على الخصم، وقد صح من طريق أخرى.
أخرج له: أبو طالب ، والمرشد بالله - عليهما السلام -، والجماعة.
وعنه: /69

(3/69)


عبد الملك بن عمير وغيره.
قلت: قوله: أما من قبل فساق التأويل فظاهر، يقال: لا لعمر الله ـ تعالى ـ ليس بظاهر؛ إنما ذلك فيمن يحتمل التأويل؛ أما من ظهرت منه الجرأة والمجاهرة، اتباعاً للهوى، وميلاً إلى الدنيا، فلا؛ ولهذا ضعفه الأمير الحسين - عليه السلام - وغيره من أئمتنا؛ القابلين للمتأولين؛ وأي شبهة تحتمل في رفض سيد الوصيين، وأخي سيّد النبيين ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ الذي صرحت نصوص الكتاب والسنة المتواترة بوجوب ولايته، ولزوم طاعته، وأن الحق والقرآن معه، وأن حربه حربه، وسلمه سلمه، ووليه وليه، وعدوّه عدوّه؟!
وفرق الناكثين والقاسطين والمارقين قد قطعت النصوص المعلومة، طرقَ الاحتمالات لهم والتأويلات المزعومة؛ وكذا معاملة أمير المؤمنين عليه السلام لهم بالقتل والقتال، وإنزاله بهم أشد النكال، يسد باب التأويل والاحتمال، فماذا بعد الحق إلا الضلال.
أيقال: التبست عليهم الحال وداخلتهم الشبه، في الترجيح بين طاعته وطاعة معاوية قائد الفئة الباغية، ورأس الأحزاب، ومبدل أحكام الكتاب؟
كلاّ والله، إن ذلك من المحال؛ وإنما هو ما حذرهم الله ـ سبحانه ـ في كتابه وسنة رسوله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - من التبديل والتغيير، والانقلاب على الأعقاب.
فيحقق هذا؛ فإنه من المواطن التي زلت فيها أقدام كثير من الأقوام؛ وطالب النجاة المتحري لمطابقة مراد الله ـ تعالى ـ لا يعرج على القال والقيل، بل يتبع الدليل، والله الهادي إلى خير سبيل.
هذا، وفي شرح النهج: وروى الحارث بن خطيرة أن رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - دفع إلى جرير بن عبد الله نعلين من نعاله، وقال: ((احتفظ بهما، فإن في ذهابهما ذهاب دينك )).
فلما كان يوم الجمل ذهبت إحداهما؛ فلما أرسله /70

(3/70)


علي - عليه السلام - إلى معاوية، ذهبت الأخرى؛ ثم فارق علياً واعتزل الحرب.
هذا، وهو القائل:
فصلّى الإله على أحمد .... رسول المليك تمام النعمْ
رسول المليك ومن بعده .... خليفتنا القائم المدعمْ
علياً عنيتُ وصي النبي .... يجالد عنه غواة الأممْ
له الفضل والسبق والمكرمات .... وبيت النبوة لا يهتضمْ
وهو الراوي عن رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - ما نصه: ((علي أول الناس إسلاماً، وأقرب الناس رحماً، وأفقه الناس في دين الله، وأضربهم بالسيف، وهو وصيي وخليفتي من بعدي، يصول بيدي، ويضرب بسيفي، وينطق بلساني، ويقضي بحكمي؛ لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا كافر منافق؛ وهو علم الهدى)) رواه في إشراق الإصباح ؛ أخرجه في شرح الغاية، والتفريج، ودلائل السبل الأربعة ، وغيرها.
[جنادة بن أبي أمية]
جنادة بن أبي أمية الأزدي.
روى عن النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وعمر، ومعاذ.
وعنه: بشر بن سعيد، وعلي بن رباح.
توفي سنة ثمانين.
خرج له: المرشد بالله، والجماعة.
[جندب بن عبد الله الأزدي ـ قاتل الساحر]
جندب بن عبد الله بن سفيان ـ ويقال بن بجيلة ـ الأزدي.
ويقال: بن كعب، ويقال: جندب الخير.
له صحبة ورواية.
روى عن علي، وسلمان، وحذيفة.
وعنه: ولده عبد الله، وعبد الملك، والأسود بن قيس، وشهر بن حوشب ، وغيرهم.
توفي /71

(3/71)


عشر الستين.
أخرج له: أبو طالب ، والمرشد بالله، ومحمد، والشيخان، والترمذي.
قلت: وقصة قتله الساحر بين يدي الوليد مشهورة؛ وقد بسطها شارح النهج، وأبو الفرج، وابن عبد البر، وابن حجر، وغيرهم؛ وهي من أعلام النبوة.
[جودان]
جَوْدان (بفتح الجيم، وسكون الواو، فمهملة، فألف، ونون) ويقال: ابن جودان.
مختلف في صحبته.
عنه: السائب بن مالك ، وعباس بن عبد الرحمن .
أخرج له: أبو طالب ، وابن ماجه.
(فصل الحاء المهملة)
[حمزة بن عبد المطلب، ومقتله وفضله]
حمزة بن عبد المطلب بن هاشم، أبو عمارة وأبو يعلى ، أسد الله وأسد رسوله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - عمّ الرسول - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وأخوه من الرضاعة، أسلم بمكة، وشهد بدراً وأحداً، وقُتل بعد أن قتل واحداً وثلاثين نفساً، قتله وحشي، وبقرت هند بطنه، وأخرجت كبده، فلاكتها، فلم تسغها؛ وكان في النصف من شوال، سنة ثلاث من الهجرة، وصلى عليه الرسول - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وكَبّر عليه سبعين تكبيرة؛ وكان عمره سبعاً وخمسين.
أخرج له أئمتننا: الهادي للحق، وسائرهم؛ وله ذكر في مجموع زيد بن علي - عليهما السلام -.
قلت: وقد سبق من مناقبه وبشائره الكثير الطيب، وهي أكثر من أن تحصى، وأشهر من أن تخفى، على من له في الإسلام نصيب.
وفيه وفي الوصي وعبيدة ـ عليهم السلام ـ وفي المبارزين لهم: عتبة وشيبة والوليد، /72

(3/72)


يوم بدر نزل قوله ـ عز وجل ـ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } [الحج:19]، بالاتفاق، وقوله ـ عز وجل ـ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا }...الآية [الأحزاب:23].
روى الحاكم بسنده، عن علي - عليه السلام - أنه قال: أنا والله المنتظر.
وروى [عن] ابن عباس، أنه قال: من قضى نحبه حمزة وجعفر، ومن ينتظر الشهادة والوفاء بالعهد علي، وقد والله رُزِقَ، وفيه نزل قوله ـ عز وجل ـ: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ } [الفجر:27]، وقوله ـ عز وجل ـ: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا } [القصص:61].
فممن روى نزولها فيه أبو العباس الحسني - عليه السلام -.
إلى غير ذلك من الآيات.
وقال رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((خير إخوتي علي، وخير أعمامي حمزة )) رواه أبو العباس؛ وقد سبق.
وهو أسد الله ـ تعالى ـ وأسد رسوله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وسيد الشهداء، وأحد سادات أهل الجنة.
ونتبرّك بهذا الخبر الشريف.
روى محمد بن سليمان الكوفي - رضي الله عنه - بسنده، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((أول سبعة يدخلون الجنة: أنا، وحمزة، وعلي، وجعفر، وفاطمة، والحسن، والحسين )) انتهى.
وأعودُ إلى ترتيب الطبقات ؛ وإنما قدمته لجلالة محله، وعظم مقامه؛ ـ أولاه الله رضوانه ـ.
[الحارث بن معاوية]
الحارث بن معاوية.
عنه: الحسن البصري.
لم يزد على هذا في الطبقات .
[الحارث بن نوفل الهاشمي]
الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي، استعمله النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - في بعض أعمال مكة.
عنه: ابنه عبد الله، وحفيده الحارث.
توفي زمن عثمان /73

(3/73)


أخرج له: المرشد بالله، وأبو نعيم، والنسائي.
[الحارث الصدائي]
الحارث الصدائي.
عنه: زياد بن نعيم .
والصواب أبو الحارث، كما يأتي إن شاء الله تعالى.
[حارثة بن وهب الخزاعي]
حارثة بن وهب الخزاعي.
خرج له: المؤيد بالله ، والمرشد بالله، والجماعة.
عنه: معبد بن خالد ، وأبو إسحاق السبيعي .
[حبان بن صخر]
حبان بن صخر (بالمهملة، وآخره نون) كذا في بعض نسخ شرح التجريد ، وأصول الأحكام .
والصواب بالجيم، وآخره راء؛ وقد مَرّ.
[حبان بن المنقذ]
حَبَّان (بفتح المهملة، وتثقيل الموحدة، فألف، فنون؛ كذا السماع، وكذا في المؤتلف والمختلف، وشرح مسلم للنووي) ابن المنقذ (آخره معجمة).
قيل فيه: الصحابي بن الصحابي، الأنصاري؛ شهد بدراً، وما بعدها.
مات زمن عثمان.
قيل: وكان في مائة وثمانين.
أخرج له: محمد.
[حبة بن خالد الأسدي]
حبة (بالموحدة ـ وفي بعض الكتب: بتحتية مثناة ـ) بن خالد الأسدي، أخو سواء.
لم يرو عنهما غير سلام بن شرحبيل ، فقط.
أخرج لهما: المرشد بالله، وأبو نعيم، وابن ماجه. /74

(3/74)


[حبشي بن جنادة السلولي]
حُبْشِي بن جن ادة (بضم المهملة، وإسكان الموحدة، وكسر الشين معجمة) السلولي.
نزل الكوفة.
روى عنه: الشعبي ، وأبو إسحاق السبيعي.
قلت: وشهد مشاهد أمير المؤمنين - عليه السلام - ذكره في الإصابة؛ وقد ثبت عن غيره.
[حجر بن عدي ]
حجر بن عدي ـ ويدعى حجر بن الأدبر ـ.
له صحبة، ووفادة، ورواية عن النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، وسمع من علي، وعمار.
وعنه مولاه، وأبو ليلى، وأبو البختري، وسلمة بن كهيل .
شهد مع علي - عليه السلام - صفين.
قلت: والجمل والنهروان.
قال: وكان عابداً صالحاً، يلازم الوضوء، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر؛ وكان يُكَذِّب زياداً على المنبر، وحصبه مرة، فكتب فيه إلى معاوية؛ فأرسل به إليه، فقتله في سنة إحدى وخمسين.
ولما أمر بقتله، قال لمن حضر من أهله: لا تطلقوا عني حديداً ولا تغسلوا عني دماً؛ فإني ملاقٍ معاوية على الجادة.
وفي رواية ابن عساكر : لما أمر بقتله، قال: دعوني لأصلي ركعتين؛ فصلى ركعتين، ثم قال: لا تطلقوا...إلخ، وادفنوني في ثيابي.
قلت: وقد سبق ذكره في الفصل الثاني، وإيراد بعض فضائله رضوان الله عليه.
[حدرد الأسلمي]
حَدْرَد بن أبي حدرد، أبو خراش الأسلمي.
قال المرشد بالله: صحابي.
عنه: عمران بن أبي أنس في الهجران.
وهو بفتح الحاء المهملة، وسكون الدال الأولى مهملة، /75

(3/75)


وفتح الراء.
قال في الجامع: من كبار الصحابة.
[حذيفة بن أسيد الغفاري]
حذيفة بن أسيد (بفتح الهمزة، وكسر السين) ابن خالد الغفاري.
شهد بيعة الرضوان.
روى عن علي - عليه السلام -، وعنه: أبو الطفيل، وابن أبي ليلى.
توفي سنة اثنتين وأربعين.
أخرج له المرشد بالله، ومحمد، ومسلم، والأربعة.
[حذيفة بن اليمان صاحب عِلْم المنافقين]
حذيفة بن اليمان ـ مخففاً ـ واسم اليمان حسيل (بضم المهملة الأولى، على صيغة التصغير) العبسي، أبو عبد الله الكوفي؛ صحابي جليل، من السابقين.
أعلمه رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - بما كان وما يكون من الفتن، إلى يوم القيامة، وكذا الحوادث.
قلت: وأعلمه بالمنافقين.
توفي سنة ست وثلاثين، بعد قتل عثمان بأربعين ليلة.
قلت: حال توجه الوصي - عليه السلام - لحرب الجمل.
وكان عند موته يحث الصحابة باللحاق به، يقول: الحقوا بأمير المؤمنين، وسيد المسلمين.
وأمر ولديه: صفوان وسعيداً ، فجاهدا، وقُتلا معه بصفين، كما سبق.
خرج له أئمتنا الخمسة، والرسي، والسمان، وذكره الإمام زيد بن علي - عليه السلام - في المجموع ، والجماعة.
وعنه: ابن أبي ليلى، وأبو الطفيل، وجندب، وغيرهم.
[حسان بن ثابت ]
حسان بن ثابت الأنصاري الخزرجي، من فحول الشعراء في الجاهلية والإسلام.
روى عنه: عمر، وأبو هريرة، /76

(3/76)


وعائشة.
مات قبل الأربعين في خلافة علي - عليه السلام -، وقيل: سنة خمس وأربعين وله مائة وعشرون سنة؛ وكان عثمانياً.
[الحكم بن عمير ]
الحكم بن عُمَ ير ـ مصغراً ـ الثمالي.
قال أبو نعيم: حدثنا إبراهيم بن حبيب ، عن موسى بن أبي حبيب ، قال: أخبرني عمي، الحكم بن عمير ـ وكان بدرياً ـ قال: صليت خلف النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، في صلاة المغرب والعشاء الآخرة، وفي الفجر، والجمعة.
أخرجه أبو نعيم في الحلية ، والدارقطني ، ومحمد بن منصور، بهذا السند.
قال في الطبقات : وهو ثلاثي لمحمد بن منصور، لا ثلاثي له غيره.
خرجه له: أبو نعيم، والشافعي ، والدارقطني، والحاكم، والديلمي؛ قالوا: وكان له صحبة.
قلت: وهذا من الأدلة على أن الجهر بالبسملة في الجهريات لا غير.
[حكيم بن حزام بن خويلد]
حكيم بن حزام بن خويلد القرشي ، أبو خالد، ابن أخي خديجة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ.
أسلم عام الفتح، وكان من المؤلفة، فحسن إسلامه.
توفي بالمدينة، سنة أربع وخمسين، عن مائة وعشرين.
خرج له: أئمتنا الثلاثة ـ عليهم السلام ـ، والجماعة.
عنه: ابنه حزام، وابن المسيب ، وعروة ، وحبيب بن أبي ثابت، وغيرهم.
[حمزة بن عمر الأسلمي]
حمزة بن عمر الأسلمي؛ كان عابداً مجتهداً، سَرْدَ الصوم.
توفي سنة إحدى وستين.
عنه: عائشة، وعروة، وغيرهما.
أخرج له: المؤيد بالله ، ومحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي /77

(3/77)


(فصل الخاء المعجمة من أعلى)
[خارجة بن حذافة، قاضي عمرو بن العاص]
خارجة بن حذافة العدوي، قتله عمر الخارجي ، ليلة ضُرِب علي عليه السلام اعتقاداً أنه عمرو بن العاص، وكان قاضيه ـ قيل: وعلى شرطته ـ.
عنه: عبد الله بن أبي مرة حديث الوتر.
خرج له: المؤيد بالله ، والأربعة، إلا النسائي .
[خالد بن عرفطة، حامل راية الضلالة]
خالد بن عرفطة القضاعي، ذكره الإمام أبو طالب - عليه السلام - بإسناده إلى أم حكيم الجدلية ، أنها سمعت رجلاً يقول لعلي - عليه السلام -: استغفر لخالد بن عرفطة .
فقال: ما مات؛ ولن يموت حتى يحمل راية ضلالة.
قالت أم حكيم: فرأيته جاء من عند معاوية بالراية.
قلت: وروى هذا في شرح النهج وغيره.
توفي بمصر، سنة أربع وستين.
[خالد الخزاعي ]
خالد الخزاعي .
قال محمد بن منصور: كان من أصحاب الشجرة؛ وكانت بيعة الشجرة آخر سنة ست، وتسمى بيعة الرضوان.
أخرج له: محمد بإسناده إلى ولده نافع ، أن النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - كان إذا صلى والناس ينظرون، صلى صلاة خفيفة، تامة الركوع والسجود.
[خراش بن أمية]
خراش (بمعجمتين، بينهما مهملة، وألف) ابن أمية الخزاعي الكعبي، شهد بيعة الرضوان.
قال محمد: وحجم للرسول - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وهو محرم، بقرن مضبب بفضة /78

(3/78)


[خزيم بن أوس]
خزيم (بمعجمتين، أولاهما مضمومة، ثم تحتية، فميم ـ وفي الإكمال بمهملتين) ابن أوس بن حارثة الطائي.
قال الإمام أبو طالب : هاجر إلى رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - بعد منصرفه من تبوك.
روى عنه: ولد ولده حميد بن قُريب ، عن جده، عن رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
[خزيمة بن ثابت، ذي الشهادتين]
خزيمة (كالأول بإثبات الهاء) ابن ثابت، أبو عمارة الأنصاري الأوسي، ذو الشهادتين؛ شهد بدراً وما بعدها؛ كانت راية بني خطَمة بيده يوم الفتح، وكان سيداً فيهم.
وشهد مع علي - عليه السلام - الجمل، وحضر صفين، فلما قتل عمار بن ياسر ، قال: سمعتُ رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يقول: ((تقتل عماراً الفئة الباغية )) ثم سلّ سيفه، وقاتل حتى قُتل، سنة سبع وثلاثين ـ رضوان الله عليه ـ.
قلت: وقد سبق الكلام عليه، في الجزء الأول، في الصحابة المفضلين للوصي - عليه السلام -.
أخرج له: المؤيد بالله ، ومحمد، ومسلم، والأربعة.
روى عنه عبد الله بن حصين .
[خالد بن زيد]
خالد بن زيد: أبو أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - يأتي في الكنى /79

(3/79)


(فصل الدال المهملة)
[ديلم الحميري]
ديلم (بفتح أوله، وسكون التحتية، وفتح لام، فميم) الحميري؛ وليس بديلم بن فيروز .
عنه: مرثد اليزني .
قال ابن عبد البر: لم يُرو عنه فيما أعلم، غير حديث واحد في الأشربة.
(فصل الذال المعجمة)
[ذؤيب بن حلحلة الخزاعي]
ذؤيب (بضم أوله) بن حلحلة (بمهملتين، بينهما لام ساكنة، فلام متحركة، فهاء) الخزاعي الكعبي، شهد الفتح.
خرج له: الإمام المؤيد بالله حديثاً واحداً، حديث البُدْن، ومسلم، وابن ماجه.
عنه: ابنه قبيصة، وابن عباس.
عاش إلى زمن معاوية.
(فصل الراء المهملة)
[رافع بن خديج الحارثي]
رافع بن خديج (بفتح معجمةٍ، وكسر مهملة) الأوسي، الحارثي؛ عُرض يوم بدر فاستُصْغر، وأجازه يوم أحد، فشهدها وما بعدها؛ وكان عريف قومه.
وشهد مع علي - عليه السلام - صفين، وأصابه سهم يوم أحد فبقي النصل فكان سببه انتقض عليه، فتوفي، سنة أربع وسبعين، وهو في ست وثمانين.
روى عن علي - عليه السلام -، وأبي بن كعب.
وعنه: إياس بن خليفة وغيره.
أخرج له: المؤيد بالله ، والمرشد بالله، ومحمد، والجماعة /80

(3/80)


[رافع بن مكيث]
رافع بن مكيث ـ آخره مثلثة كعظيم ـ الجهني، شهد الحديبية والفتح، ومعه لواء قومه.
له حديث واحد عند أبي طالب، رواه بعض بني رافع، وعبد الله بن الحارث .
[رافع مولى النبي - صلى الله عَلَيْه وآله وسلم -]
رافع مولى النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
بيّض له في الطبقات ولم يذكر غير هذا.
وفي الإصابة بعد أن ساق ترجمته: ولا أحسبه إلا أبا رافع؛ قال ابن الكلبي: والناس يغلطون في هذا فيقولون: أبو رافع، وإنما هو رافع.
[رفاعة بن رافع]
رفاعة (بضم أوله) بن رافع بن العجلان الأنصاري، الخزرجي؛ وقد ينسب إلى جده فيقال: رفاعة بن مالك.
شهد العقبة، وشهد مع علي - عليه السلام - الجمل وصفين.
توفي أول زمن معاوية.
روى عنه ابناه: عبد الله، ومعاذ، ويحيى بن علي ابن أخيه.
خرج له: أئمتنا الثلاثة: المؤيد بالله ، وأبو طالب، ومحمد؛ والبخاري، والأربعة.
(فصل الزاي المعجمة)
[الزبيب بن ثعلبة]
الزبيب (بضم المعجمة، فموحدتين، بينهما تحتية، ويقال: بنون بعد الزاي) بن ثعلبة العنبري.
عنه: ابنه، وحفيده شعيث ـ بمثلثة ـ.
أخرج له: أبو طالب ، والمرشد بالله، وأبو داود /81

(3/81)


[الزبير بن العوام الأسدي]
الزبير بن العوام الأسدي، أمه صفية بنت عبد المطلب، عمة النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - أسلم بعد أبي بكر، ثم هاجر الهجرتين، وشهد المشاهد كلها.
وحضر حرب الجمل، ولما ذكره علي - عليه السلام - الحديث: ((إنك ستقاتله وأنت له ظالم )) انصرف، فلحقه ابن جرموز، فقتله؛ ثم جاء برأسه وسيفه إلى علي - عليه السلام -، فقال علي - عليه السلام -: بشر قاتل ابن صفية بالنار.
وكانت حرب الجمل سنة ست وثلاثين، وللزبير سبع وستون.
روى عنه ابناه: عبد الله وعروة.
أخرج له: أبو طالب ، والجرجاني، والجماعة.
قلت: وقد كان كما قال أمير المؤمنين - عليه السلام -: ما زال الزبير رجلاً منا أهل البيت، حتى نشأ ابنه المشؤوم عبد الله ـ أو كما قال ـ.
قال له أبو الأسود الدؤلي لما قدم البصرة: يا أبا عبد الله، عهد الناس بك وأنت يوم بُويع أبو بكر آخذ بقائم سيفك، تقول: لا أحد أولى بهذا الأمر من ابن أبي طالب؛ وأين هذا المقام من ذاك؟!
قال شارح النهج: وأما الزبير، فلم يكن إلا علوي الرأي، شديد الولاء، جارياً من الرجل مجرى نفسه؛ ويقال: إنه - عليه السلام - لما استنجد بالمسلمين، عقيب يوم السقيفة، وما جرى فيه.
إلى قوله: ويسألهم النصرة والمعونة، أجابه أربعون رجلاً فبايعهم على الموت.
إلى قوله: فأصبح لم يوافه منهم إلا أربعة: الزبير، والمقداد، وأبو ذر، وسلمان.
قال: وقد نقل الناس خبر الزبير، لما هُجم عليه ببيت فاطمة ـ عليها السلام ـ وكُسر سيفه في صخرة ضُربت به، ونقلوا اختصاصه بعلي - عليه السلام - وخلواته به، ولم يزل موالياً له، متمسكاً بحبه ومودته، حتى نشأ ابنه عبد الله.
...إلى آخر كلامه.
وفيه: دخل الزبير وطلحة على علي - عليه السلام - فاستأذناه في العمرة، فقال: ما العمرة تريدان، وإنما تريدان /82

(3/82)


الغدرة، ونكث البيعة.
فحلفا بالله ما الخلاف عليه ولا نكث بيعته يريدان، وما رأيهما غير العمرة.
قال لهما: فأعيدا البيعة لي ثانية.
فأعاداها، بأشد ما يكون من الأيمان والمواثيق؛ فأذن لهما.
فلما خرجا من عنده، قال لمن كان حاضراً: والله، لا ترونهما إلا في فتنة يقتلان فيها.
قالوا: يا أمير المؤمنين، فمر بردهما عليك.
قال: ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
[زهير بن صرد الجشمي]
زهير بن صرد الجشمي أبو خردل؛ أدرك يوم هوازن ـ أي يوم حنين ـ وهو القائل لمن أسرهم رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -:
امنن عليّ رسول الله في كرم .... فإنك المرء نرجوه وننتظر
...الأبيات.
فلما سمع الشعر، قال رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم )).
وقالت قريش: ما كان لنا فهو لله ولرسوله.
وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لله ولرسوله.
أخرجه الإمام المرشد بالله - عليه السلام - وغيره.
وهذا الخبر خماسي للإمام المرشد بالله، وثلاثي للطبراني.
[زيد بن أرقم ]
زيد بن أرقم الأنصاري الخزرجي، استصغر يوم أحد؛ غزا مع النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - سبع عشرة غزوة، وكان من خواص علي - عليه السلام -، وشهد مع علي - عليه السلام - صفين.
توفي بالكوفة، سنة ثمان وستين.
خرج له: أئمتنا الخمسة، والجماعة.
عنه: عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وعبد الأعلى، وعطية العوفي ، وغيرهم /83

(3/83)


[زيد بن ثابت الأنصاري]
زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري الخزرجي.
أبو خارجة؛ استصغره النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يوم بدر فرده، وشهد ما بعدها؛ ولم يشهد شيئاً من حروب علي - عليه السلام -.
قال ابن عبد البر: وكان مع ذلك يفضل علياً، ويظهر حبه.
توفي بالمدينة، سنة خمس وأربعين ـ وقيل غير ذلك ـ.
خرج له: أئمتنا الخمسة إلا /92

(3/84)


الجرجاني، والجماعة.
عنه: رفاعة بن رفاعة ، وولده خارجة.
[زيد بن حارثة مولى النبي (ص)]
زيد بن حارثة بن شرحبيل الكلبي اليماني، حب رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - منَّ عليه فأعتقه؛ وامرأته أم أيمن مولاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قال ابن إسحاق: أسلم وصلى بعد علي، وشهد بدراً، وقتل بمؤتة، سنة ثمان - رضي الله عنه -.
وله ذكر في مجموع زيد بن علي - عليه السلام -، وخرج له: المؤيد بالله - عليه السلام -.
[زيد بن خالد الجهني]
زيد بن خالد الجهني، أبو عبد الرحمن؛ شهد الحديبية، وكان معه لواء جهينة يوم الفتح.
توفي سنة ثمان وسبعين.
خرج له: أئمتنا الثلاثة، والجماعة.
روى عنه: ابنه عبد الله، وعطاء، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، وغيرهم.
(فصل السين المهملة)
[سالم مولى أبي حذيفة]
سالم مولى أبي حذيفة، هو ابن معقل؛ ويقال: أبو عبيد بن عتبة.
كان من فارس؛ كان من خيار الصحابة وكبارهم، شهد بدراً؛ قتل يوم اليمامة/84

(3/85)


[سبرة الجهني]
سبرة (بإسكان الموحدة) ابن معبد بن الربيع ـ أو عوسجة ـ الجهني؛ عداده في البصريين.
أول مشاهده الخندق؛ كان ينزل ذا المروة، وبها مات.
أخرج له: المؤيد بالله ، ومحمد، ومسلم، والأربعة.
[سخبرة]
سخبرة (بفتح أوله، وسكون المعجمة، فموحدة، فراء)؛ عنه: ابنه عبد الله.
أخرج له: المرشد بالله، والترمذي.
[سعد بن عائذ مؤذن قباء]
سعد بن عائذ (آخره معجمة) مولى عمار بن ياسر ، ويعرف بسعد القرظ (بمشالة معجمة، الشجر الذي يُدْبَغُ به).
أَذّن بقباء، على عهد رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - ونقله عمر على المدينة؛ بقي إلى سنة أربع وسبعين.
أخرج له: أبو طالب ، وابن ماجه.
عنه: عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد ، عن أبيه، عن جده.
[سعد بن عبادة، سيد الخزرج]
سعد بن عبادة ، سيد الخزرج، صاحب راية الأنصار في المشاهد كلها؛ شهد بدراً، وقيل: لا؛ وهو من نقباء الأنصار ليلة العقبة، وكان كثير الصدقات والجود، وتخلّف عن بيعة أبي بكر.
قلت: وعن بيعة عمر؛ وقد سبق ما رواه الجوهري عن علي بن سليمان النوفلي ، قال: سمعت أبياً يقول: ذكر سعد بن عبادة يوماً علياً، بعد يوم /85

(3/86)


السقيفة، فذكر أمراً من أمره يوجب ولايته، فقال له ابنه قيس بن سعد: أنت سمعت رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يقول هذا الكلام في علي بن أبي طالب ، ثم تطلب الخلافة، ويقول أصحابك: منا أمير ومنكم أمير؟ لا كلمتك ـ والله ـ من رأسي بعد هذا كلمة أبداً.
قُتل بحوران، من أعمال دمشق، سنة خمس عشرة تقريباً.
أخرج له: أبو طالب ، والجرجاني، ومحمد، والأربعة.
[سعد بن مالك أبي سعيد الخدري ]
سعد بن مالك بن سنان الأنصاري، أبو سعيد الخدري؛ مشهور بكنيته، وهو من مشهوري الصحابة وفضلائهم، المكثرين في الرواية، معدود من أهل الصفة؛ غزا مع رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - اثنتي عشرة غزوة، أولها الخندق؛ واستصغر يوم أحد.
توفي بالمدينة، سنة أربع وسبعين، وله أربع وتسعون.
أخرج له: أئمتنا الخمسة، والسيلقي، والجماعة، وأهل المسانيد.
عنه: الحسن، وعطاء، وعطية، وخلق.
وأخرج له: عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وذكر أنه شهد مع علي عليه السلام حرب الخوارج، وذكر الحديث.
قلت: وقد ثبت أنه من المفضلين لأمير المؤمنين - عليه السلام - كما ذكر ذلك في قواعد عقائد آل محمد ـ عليهم السلام ـ.
قال الإمام المنصور بالله - عليه السلام -: وله في الإسلام خطر، انتهى.
[سعد بن معاذ]
سعد بن معاذ بن النعمان الأوسي، سيد قومه؛ شهد بدراً وأحداً، واستشهد يوم الخندق، وفيه قال النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((اهتز العرش لموت سعد )).
أخرج له أبو طالب ، وله في البخاري، فرد حديث /86

(3/87)


قلت: وهو الحاكم بحكم الله في بني قريظة ـ رضوان الله عليه ـ.
[سعد بن أبي وقاص ]
سعد بن أبي وقاص ـ قلت: واسم أبيه مالك ـ بن أهيب، القرشي الزهري المكي، أبو إسحاق؛ أسلم قبل فرض الصلاة، وشهد بدراً وما بعدها، واعتزل بعد قتل عثمان.
قلت: هو كما قال الوصي - عليه السلام -: لم ينصر الحق، ولم يخذل الباطل؛ إلا أن له مع معاوية مقامات حميدة، يُرجى له بها التوفيق للنجاة، قد رَدّ فيها على معاوية، ونشر فيها فضائل أخي رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، وروى فيها النصوص النبوية، كخبر المنزلة، والراية، وغيرهما.
أخرج ذلك عنه أئمة العترة ـ عليهم السلام ـ والعامة: البخاري، ومسلم، وغيرهما.
من ذلك ما روى محمد بن جرير الطبري، عن محمد بن حميد الرازي ، عن أبي مجاهد، عن محمد بن إسحاق بن أبي نجيح ، قال: لما حج معاوية طاف بالبيت ومعه سعد؛ فلما فرغ انصرف معاوية إلى دار الندوة، فأجلسه معه على سريره، ووقع معاوية في علي، وشرع في سبه، فزحف سعد؛ ثم قال: أجلستني معك على سريرك، ثم شرعت في سبّ علي، والله لأن يكون لي خصلة واحدة من خصال كانت لعلي، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس؛ لأن أكون صهراً لرسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - لي من الولد ما لعلي، أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس؛ والله لأن يكون رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - قال لي يوم خيبر: ((لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله ليس بفرّار، يفتح الله على يديه )) أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس؛ والله لأن يكون رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - قال لي ما قاله له في غزوة تبوك: ((ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي )) أحب إلي من أن يكون لي ما /87

(3/88)


طلعت عليه الشمس، وأيم الله لا دخلت لك داراً ما بقيت؛ ونهض.
توفي في العقيق، على عشرة أميال من المدينة، وحمل إليها، سنة ثمان ـ أو خمس ـ وخمسين.
خرج له: أئمتنا الخمسة، إلا محمد بن منصور، والجماعة.
روى عنه سعيد بن المسيب، وابنته عائشة.
قلت: وغيرهما.
[سعيد بن زيد بن عمرو العدوي]
سعيد بن زيد بن عمرو العدوي؛ أسلم هو وزوجته فاطمة بنت الخطاب في أول الإسلام، وشهد المشاهد إلا بدراً، وهو أحد العشرة.
قلت: قد سبق الاستدلال على عدم صحته؛ وقال - عليه السلام - في كتابه إلى طلحة والزبير في ابتداء نكثهما: فارجعا أيها الشيخان عن رأيكما؛ فإن الآن أعظم أمركما العار، من قبل أن يجتمع العار والنار.
قال ـ أيده الله ـ في التخريج: فلو صحّ حديث العشرة، لم يكن لقول باب العلم وجه؛ تأمل.
والكتاب في نهج البلاغة .
خرج له: أبو طالب ، والجماعة.
عنه: محمد بن طلحة ، ونوفل بن مساحق ، وابنته أسماء.
[سعيد]
سعيد؛ كذا في الطبقات ، وبيض بعده؛ ثم قال: له حديث في فضل رجب.
روى عنه: ولده عبد العزيز؛ ذكره المرشد بالله.
[سفينة مولى النبي - صلى الله عَلَيْه وآله وسلم -]
سفينة مولى رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - أهمله في الطبقات .
وفي هامشها من خط الحلبي: (المناقب ) أي أنه أخرج له محمد بن سليمان الكوفي في المناقب، انتهى /88

(3/89)


قال في الاستيعاب بعد أن ذكر الاختلاف في اسمه: روينا عنه أنه قال: سماني رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - سفينة، وذلك أني خرجت معه ومعه أصحابه، فثقل عليهم متاعهم، فحملوه علي، فقال لي رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((احمل فإنما أنت سفينة )) فلو حملتُ حينئذ وقر بعير ما ثقل علي.
وقال له سعيد: ما اسمك؟
فقال: ما أنا بمخبرك؛ سماني رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - سفينة، ولا أريد غير هذا الاسم.
وروى عنه: الحسن، ومحمد بن المنكدر ، وسعيد بن جهمان .
[سلمان بن عامر الضبي]
سلمان بن عامر الضبي؛ قال مسلم: لم يكن في الصحابة ضبي غيره.
خرج له: المرشد بالله، والبخاري، والأربعة.
[سلمان الفارسي ]
سلمان الخير، أبو عبد الله، مولى رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - أشار في الطبقات إلى قصة إسلامه؛ وهي في شرح النهج أتم، فنوردها منه باختصار.
قال: فأما حديث إسلامه، فقد ذكره كثير من المحدثين، ورووه عنه؛ قال: كنت ابن دهقان قرية حي أصبهان، وبلغ من حب أبي لي أن حبسني في البيت، كما تحبس الجارية؛ فأرسلني أبي يوماً إلى ضيعة له، فمررت بكنيسة النصارى، فدخلت عليهم، فأعجبتني صلاتهم، فقلت: دين هؤلاء خير من ديني؛ فسألتهم أين أصل هذا الدين؟
قالوا: بالشام.
فهربت من والدي، حتى قدمت الشام، فدخلت على الأسقف، فجعلت أخدمه وأتعلم منه، حتى حضره الموت؛ فقلتُ: إلى من توصي بي؟
فقال: قد هلك الناس، وتركوا دينهم، إلا رجلاً بالموصل، فالحق به.
فلما /89

(3/90)


قضى نحبه، لحقتُ بذلك الرجل، فلم يلبث إلا قليلاً حتى حضرته الوفاة؛ فقلتُ: إلى من توصي بي؟
فقال: ما أعلم أحداً بقي على الطريقة المستقيمة، إلا رجلاً بنصيبين.
فلحقت بصاحب نصيبين؛ ثم احتضر، فبعثني إلى رجل بعمورية من أرض الروم؛ فلما نزل به الموت، قلتُ: إلى من توصي بي؟
فقال: قد ترك الناس دينهم، وقد أظل زمان نبيء مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب، مهاجراً إلى أرض بين حرتين، لها نخل.
قلت: فما علامته؟
قال: يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة.
قال: ومَرّ بي ركب من كلب، فخرجت معهم؛ فلما بلغوا بي وادي القرى، ظلموني وباعوني، وحملني إلى المدينة؛ فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها، وبعث الله محمداً بمكة، ولا أعلم بشيء من أمره؛ إذ أقبل ابن عمّ لسيدي، فقال: قاتل الله بني قيلة، قد اجتمعوا على رجل بقباء قدم عليهم من مكة، يزعمون أنه نبيء.
قال: فأخذني القر والانتفاض، وجعلت أستقصي في السؤال؛ فما كلمني بكلمة، بل قال: أقبل على شأنك ودع ما لا يعنيك.
فلما أمسيت أخذت شيئاً من التمر، وأتيت به النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - فقلت: بلغني أنك رجل صالح، وأن لك أصحاباً غرباء ذوي حاجة، وهذا شيء عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم.
فقال - عليه السلام - لأصحابه: ((كلوا))، وأمسك فلم يأكل.
فقلت في نفسي: هذه واحدة؛ وانصرفت.
فلما كان من الغد، أخذت ما كان عندي وأتيته به، فقلت: إني رأيتك لا تأكل الصدقة؛ وهذه هدية.
فقال: ((كلوا))، وأكل معهم.
فقلت: إنه لهو؛ فأقبلت أقبله وأبكي.
فقال: ما لك؟
فقصصت عليه القصة؛ فأعجبه، وقال: ((يا سلمان، كاتب صاحبك ))، فكاتبته على ثلاثمائة نخلة وأربعين أوقية.
فقال رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - للأنصار: /90

(3/91)


((أعينوا أخاكم))؛ فأعانوني، فوضعها رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - فصحت كلها...إلخ.
قال: وكان سلمان من شيعة علي - عليه السلام - وخاصته.
قال: وكان إذا قيل: ابن من أنت؟ يقول: أنا سلمان ابن الإسلام.
قال: وروى أبو عمر بن عبد البر ، أن سلمان أتى رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -...إلى قوله: فغرس رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - ذلك النخل كله بيده، إلا نخلة واحدة غرسها عمر بن الخطاب ، فأطعم النخل كله إلا تلك النخلة؛ فقلعها وغرسها رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - بيده، فأطعمت.
قال أبو عمر: وقد روي أن سلمان شهد بدراً وأحداً، وهو عبد يومئذ، والأكثر أن أول مشاهده الخندق، ولم يفته بعد ذلك مشهد.
[أحاديث في فضل سلمان وتخريجها]
قال أبو عمر: وقد روي عن رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - من وجوه، أنه قال: ((لو كان الدين في الثريا لناله سلمان )).
قال: وقد روي عن عائشة قالت: كان لسلمان مجلس من رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - ينفرد به بالليل، حتى كاد يغلبنا على رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
وقد روي من حديث ابن بريدة عن أبيه، أن رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - قال: ((أمرني ربي بحب أربعة، وأخبرني أنه يحبهم: علي، وأبو ذر، والمقداد، وسلمان )).
قال: وقد روى الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البختري، عن علي - عليه السلام - أنه سُئل عن سلمان، فقال: علم العلم الأول، والعلم الآخر؛ ذاك بحر لا ينزف، وهو منا أهل البيت.
وفي رواية زاذان ، عن علي - عليه السلام -: سلمان الفارسي كلقمان الحكيم.
قلت: قال ـ أيده الله ـ في تخريج الشافي : وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((اشتاقت الجنة إلى أربعة: علي، وسلمان، وأبو ذر، وعمار بن ياسر )) أخرجه ابن عساكر ، عن حذيفة /91

(3/92)


وعنه - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((اشتاقت الجنة إلى ثلاثة: علي، وعمار، وسلمان )) أخرجه الحاكم والكنجي، عن أنس.
وعنه - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - ((ألا إن الجنة اشتاقت إلى أربعة: علي، والمقداد، وسلمان، وأبو ذر )) أخرجه الطبراني . انتهى من التفريج.
وعنه - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((أمرت بحب أربعة من أصحابي، وأخبرني الله بأنه يحبّهم: علي، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، والمقداد بن الأسود الكندي )) أخرجه الروياني ، عن بريدة، انتهى من التفريج.
وأخرج نحوه أحمد بن حنبل ، عن بريدة أيضاً، انتهى منه ـ أي من التفريج ـ.
ورواه الخوارزمي وابن المغازلي؛ ورواه علي بن موسى الرضا عنه - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - بإسناده، كما في الصحيفة .
ورواه أبو علي الصفار ، عن بريدة أيضاً، انتهى من مصنفه.
وروى عبد الوهاب الكلابي ، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الجنة اشتاقت إلى علي وعمار وسلمان ))، وروى أيضاً بإسناده إلى بريدة، وإلى عبد الله بن بريدة، عن أبيه قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله أمرني بحب أربعة، وأخبرني أنه يحبهم: علي، وأبو ذر، وسلمان، والمقداد بن الأسود الكندي ))، من مناقبه.
وأخرجه الكنجي عن بريدة، انتهى.
وهؤلاء الثلاثة كانوا من خواص آل محمد - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، وممن كان يرى تفضيل علي - عليه السلام - على سائر الصحابة، كما نقله ابن عبد البر في الاستيعاب عنهم، وهو مذكور في ترجمة علي.
انتهى من تفريج الكروب .
قال السيد الإمام في الطبقات : وكان من فضلاء الصحابة وزهادهم، وأحد النجباء، وسكن العراق، وعمر طويلاً، ومات بالمدائن، سنة خمس وثلاثين؛ يقال: إنه عاش ثلاثمائة سنة.
أخرج له: أئمتنا الخمسة إلا الجرجاني، والجماعة؛ وروى عنه: زاذان .
[سلمة بن الأكوع سابق الفَرَس]
سلمة بن الأكوع الأسلمي؛ شهد بيعة الرضوان، وكان شجاعاً رئيساً، يسبق الفرس، خيِّراً فاضلاً؛ ثم لما مات عثمان سكن الربذة، وعاد إلى المدينة، وبها توفي، سنة أربع وسبعين.
أخرج له: المؤيد بالله ، والمرشد بالله، ومحمد، والجماعة.
وعنه: محمد بن إبراهيم التيمي ، وولده إياس حديث الطير.
[سلمة بن المحَبِّق]
سلمة بن المُحَبِّق (بضم الميم، وفتح المهملة، وتشديد الموحدة مكسورة، فقاف كمحدث، قال في الجامع: وأهل الحديث يفتحون الموحدة على زنة معظَّم) وهو ابن ربيعة.
عنه: ابنه سنان، والحسن البصري.
أخرج له: محمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
[سلامة بن قيصر]
سلامة بن قيصر؛ سمع النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وقيل: تابعي.
عنه: عمرو بن ربيعة.
أخرج له: المرشد بالله.
[سليم الزرقي]
سليم الزرقي؛ سمع علياً - عليه السلام - بمنى؛ وعنه: ولده عمرو.
[سمرة بن جندب، المحرض على الحسين (ع)]
سمرة بن جُند ُب (بضم الجيم، وسكون النون، وضم المهملة وفتحها، فموحدة) الفزاري /93

(3/93)


الغطفاني، أبو عبد الرحمن؛ كان زياد بن أبيه يستخلفه على البصرة.
روى أبو طالب بإسناده إلى محمد بن قيس، قال: لما استخلفه على البصرة، أتاه رجل بزكاته، فقتله؛ فقيل له في ذلك، فقال: يا غلام، هات كتاب زياد؛ فإذا فيه: إذا أتاك كتابي، فاقتل على الظن والظنة، والشك والعلة.
وبها توفي، سنة سبع ـ أو ثمان ـ وخمسين.
وذكر ابن الأثير أنه لما عزله معاوية، قال سمرة: لعن الله معاوية؛ والله، لو أطعت الله كما أطعت معاوية ما عذبني أبداً.
قال السيد الإمام: فإن قلت: كيف جاز أخذ الحديث عند أصحابنا عنه؟
قال: لعله حال ستره، أو على جواز الأخذ عن فاسق التأويل.
خرج له: أئمتنا الخمسة إلا المرشد بالله، وخرج له الجماعة.
قلت: بل هو فاسق تصريح، وأي شبهة له في قتل المسلمين على الظن والظنّة...إلخ، وذلك الظن إنما هو في عدم الانقياد لأئمة الضلال؛ وكفى بما صرح به عن نفسه، في قوله: لو أطعت الله...إلخ؛ بل الإنسان على نفسه بصيرة.
في شرح النهج: وروى الأعمش ، عن أبي صالح، قال: قيل لنا: قدم رجل من أصحاب رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، فأتينا فإذا هو سمرة بن جندب ، وإذا عند إحدى رجليه خمر، وعند الأخرى ثلج؛ فقلنا: ما هذا؟
قالوا: به النقرس.
وإذا قوم قد أتوه، فقالوا: يا سمرة، ما تقول لربك غداً؟ تؤتى بالرجل فيقال لك هو من الخوارج فتأمر بقتله؛ ثمّ يؤتى بالآخر، فيقال لك: ليس الذي قتلته بخارجي، ذاك فتى وجدناه ماضياً في حاجته، فشبه علينا؛ وإنما الخارجي هذا؛ فتأمر بقتل الثاني.
فقال سمرة: وأي بأس في هذا؟ إن كان من أهل الجنة مضى إلى الجنة، وإن كان من أهل النار مضى إلى النار.
وروى فيه عن جعفر بن محمد ، عن آبائه، قصة النخل؛ وحاصلها: أنه /94

(3/94)


شكا رجل من الأنصار على رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - أذى سمرة له بنخله، فعالجه رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - أن يبيعه بثمنه، أو بنخل مكانه، أو يشتري بستان شريكه، أو يتركه لرسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، فلم يرض؛ فأمر بقطع نخله، وقال: ((لا حق له)).
وروى شريك، عن عبد الله بن سعد، عن حجر بن عدي ، قال: قدمت المدينة، فجلست إلى أبي هريرة ، فقال: ممن أنت؟
قلت: من أهل البصرة.
قال: ما فعل سمرة؟
قلت: هو حي.
قال: ما أحد أحب إليَّ طول حياةٍ منه.
قلت: ولم ذاك؟
قال: إن رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - قال لي وله ولحذيفة بن اليمان: ((آخركم موتاً في النار ))، فسبقنا حذيفة؛ وأنا الآن أتمنى أن أسبقه.
قال: فبقي سمرة، حتى شهد مقتل الحسين.
وروى أحمد بن بشير، عن مسعر بن كدام ، قال: كان سمرة على شرطة عبيد الله بن زياد، وكان يحرض الناس على الخروج إلى الحسين - عليه السلام - وقتاله.
وروى في شرح النهج، أن معاوية بذل لسمرة أربعمائة ألف؛ ليفتري على الله ورسوله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - فقبل. انتهى باختصار.
قلت: وقد روى خبر أن آخر الثلاثة المذكورين موتاً في النار، وأن سمرة آخرهم، ابنُ عبد البر في الاستيعاب، وابن حجر في الإصابة؛ ولكن حملاه على أن المراد نار الدنيا؛ وهو تأويل سخيف، وفيه نوع من التحريف؛ إذ المعلوم أنه لا يفهم ولا يتبادر من ذلك إلا نار الآخرة ـ نعوذ بالله منها ـ ولو أطلقها رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وأراد غيرها بلا قرينة، لكان فيه تغرير وتلبيس ـ وحاشاه ـ ولكان لا معنى لقلق أبي هريرة ، وتمنيه أن يسبقه؛ وحسبنا الله ونعم الوكيل /95

(3/95)


[سهل بن حنيف ]
سهل بن حنيف (بضم المهملة مصغراً) الأنصاري الأوسي، أبو ثابت، والد أبي أمامة، بدري، شهد المشاهد كلها، وكان ممن بايع على الموت، وثبت يوم أحد؛ ثم صحب علياً - عليه السلام - من حين بويع له، واستخلفه على المدينة حين سار إلى البصرة، وشهد معه صفين، وولاه فارس؛ ثم مات بالكوفة، سنة ثمان وثلاثين، وصلى عليه علي - عليه السلام -، وكبر عليه ستاً، فقال: إنه كان بدرياً.
وفي رواية لمحمد: سبعاً؛ والأول أشهر.
أخرج له: محمد، والجماعة.
[سهل بن أبي خثمة]
سهل بن أبي خثمة (بمعجمة مفتوحة، فمثلثة ـ كذا في بعض ـ وفي موضع: حثمة بمهملة مفتوحة، فمثلثة ساكنة، فميم، فهاء؛ وهو الصواب) واسم أبي حثمة عبد الله بن ساعدة الأنصاري الأوسي أبو محمد.
قُبض النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وهو في ثمان، لكنه حفظ؛ توفي أيام معاوية.
وفي الجامع: في أيام ابن الزبير، بالمدينة.
أخرج له: المؤيد بالله ، من رواية بشير بن يسار ؛ والجماعة.
[سهل بن سعد بن مالك]
سهل بن سعد بن مالك، أبو العباس الخزرجي؛ كان اسمه حزناً، فسماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم سهلاً؛ وشهد قضاء النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - بين المتلاعنين، وتوفي رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وهو في خمس عشرة، وأدرك الحجاج ـ لعنه الله ـ فختم في عنقه.
توفي سنة ثمان وثمانين، وقد بلغ المائة.
خرج له: أئمتنا الخمسة، والجماعة.
عنه: أبو حازم، وعباس بن سهل /96

(3/96)


[سواء بن خالد، أخي حبة المتقدم]
سواء بن خالد الأسدي، أخو حبة؛ لهما صحبة.
أخرج لهما: المرشد بالله، وابن ماجه.
[سويد بن قيس]
سويد بن قيس؛ له ثلاثة أحاديث، وعنه: سماك بن حرب ؛ عداده في الكوفة.
أخرج له: محمد.
[سويد بن مُقَرِّن]
سويد بن مُقَرِّن (بضم الميم، وفتح القاف، وكسر الراء مشددة، فنون) أخو النعمان بن مقرن ، ووالد معاوية.
في الجامع: يعد في الكوفيين؛ ومات بها.
روى عن النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وعن علي - عليه السلام -.
وعنه: ابنه معاوية، وغيره.
أخرج له: محمد، ومسلم، والأربعة إلا ابن ماجه ، والبخاري في الأدب؛ حققه في التهذيب.
(فصل الشين المعجمة)
[شُبرمة]
شُبرمة (بضم أوله، وسكون الموحدة، فمهملة) ذكره الإمام زيد بن علي - عليه السلام - في الحج، في النيابة.
توفي في حياة النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
[شداد بن أوس الأنصاري]
شداد بن أوس بن ثابت، أبو يعلى الأنصاري، ابن أخي حسان؛ كان من سادات الصحابة وفضلائهم.
توفي في بيت المقدس، سنة ثمان وخمسين، وهو ابن خمس وسبعين؛ قبره بظاهر باب الرحمة.
عنه: أبو ضمرة ابن حبيب ، وغيره.
خرج /97

(3/97)


له: أئمتنا الخمسة، والجماعة.
[شريك بن سحماء]
شريك بن سحماء (بمهملتين: أولاهما مفتوحة، والثانية ساكنة، فميم، فألف ممدودة) نسبة إلى أمه، واسم أبيه عبدة، حليف الأنصار.
شهد مع أبيه أحداً.
قال في الجامع: وهو الذي قذفه هلال بن أمية بامرأته، ولاعنها بذلك؛ وكذا ذكره المؤيد بالله .
قال النووي وابن الأثير: وقول من قال: إنه يهودي، باطل.
وحكى البيهقي عن الشافعي أن شريكاً كان يهودياً؛ ويجوز أن يكون أسلم بعد ذلك.
[شريك بن جنيد]
شريك، رجل من الصحابة.
قال المرشد بالله: هو ابن جنيد، ويقال: هو ابن حنبل العبسي الكوفي.
روى عن النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - مرسلاً، ولا صحبة له.
ويروي عن علي - عليه السلام -.
وعنه: عيسى بن حارثة الأنصاري .
وفي التقريب : ثقة من الثالثة.
خرج له: المرشد بالله، وأبو داود، والترمذي.
(فصل الصاد المهملة)
[صِرْمة بن قيس الأنصاري]
أبو مندة صِرْمة بن قيس الأنصاري، وهو الذي أنزل فيه: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } [البقرة:187]، وفي ذلك خلاف؛ والحديث خرجه البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي.
أسلم وهو شيخ كبير؛ وكان قوّالاً بالحق، شاعراً مجيداً؛ ذكره /98

(3/98)


في الجامع.
خرج له: الهادي - عليه السلام -.
[الصعب بن جَثَّامة]
الصعب بن جَثّامة (بفتح الجيم، وتشديد المثلثة) الليثي، الحجازي.
توفي في خلافة أبي بكر على الأصح.
خرج له: المؤيد بالله .
[صفوان بن أمية]
صفوان بن أمية بن خلف الجمحي المكي، أحد الأشراف الطلقاء، وشهد حنيناً وهو كافر، ثم أسلم وحسن إسلامه، وكان من المؤلفة.
مات سنة اثنتين وأربعين.
أخرج له: محمد، ومسلم، والأربعة.
[صفوان بن عَسَّال]
صفوان بن عَسّال (بمهملتين أخراهما مشددة، ثم ألف، ولام) المرادي الجملي (بفتح الجيم والميم)، غزا مع النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - اثنتي عشرة غزوة.
روى عنه: ابن مسعود مع جلالته، وزر بن حبيش .
أخرج له: المؤيد بالله ، وأبو طالب، والترمذي، وابن ماجه.
[صهيب الرومي]
صهيب الرومي، أحد المؤذنة للنبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، هو أبو يحيى النمري، صحابي مشهور؛ شهد بدراً وغيرها؛ توفي بالمدينة.
قلت: لم يذكر في الطبقات غير هذا.
وفي الاستيعاب: قال أبو عمر: كان صهيب مع فضله وورعه حسن الخلق، مداعباً؛ روينا عنه أنه قال: جئت النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وهو نازل بقباء، وبين أيديهم رطب وتمر، وأنا أرمد، /99

(3/99)


فأكلت، فقال النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((أتأكل التمر على عينك؟ )).
فقلت: يا رسول الله، آكل في شق عيني الصحيحة.
فضحك رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - حتى بدت نواجذه.
وأوصى عمر إليه بالصلاة بجماعة المسلمين، حتى يتفق أهل الشورى، استخلفه على ذلك ثلاثاً؛ وهذا مما أجمع عليه أهل السير والعلم بالخبر.
وروى بسنده أن أبا سفيان مَرّ على سلمان وصهيب وبلال، فقالوا: ما أخذت السيوف من عنق عدوّ الله مأخذها.
فقال لهم أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدها؟
ثم أتى النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - فأخبره بالذي قالوا: فقال: ((يا أبا بكر، لعلك أغضبتهم؛ والذي نفسي بيده لئن كنت أغضبتهم؛ لقد أغضبت ربك)).
قال: وفضائل صهيب، وسلمان، وبلال، وعمار، وخباب، والمقداد، وأبي ذر، لا يحيط بها كتاب؛ وقد عاتب الله نبيئه فيهم في آيات الكتاب.
ومات صهيب بالمدينة سنة ثمان ـ وقيل تسع ـ وثلاثين، ودفن بالبقيع، انتهى.
(فصل الضاد المعجمة)
[الضحاك بن سفيان]
الضحاك بن سفيان الكلابي العامري، ولي للنبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - نجداً، وروى عنه ابن المسيب ، والحسن في توريث امرأة أشيم؛ وكان شجاعاً يعد لمائة.
أخرج له: المرشد بالله، والأربعة.
[ضُمْرة أو ضميرة]
ضُمْرة (بضم أوله، وسكون الميم، فمهملة، فهاء) كذا في بعض كتب أئمتنا، والجامع، والخلاصة؛ وفي أكثر الكتب ضُمَيرة (على صيغة التصغير)، وكذا في شرح التجريد ؛ من موالي النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وقد أعقب.
يروي عن علي - عليه السلام -.
وقد أخرج له: الهادي إلى الحق في الأحكام ، والمؤيد /100

(3/100)


بالله، وأبو طالب، ومحمد - رضي الله عنهم -.
وعنه: ولده عبد الله.
قلت: ضميرة بن أبي ضميرة، له ولأبيه صحبة، وهو جد الحسين بن عبد الله بن ضميرة ، الذي يروي عن أبيه عن جده، وقد روى عنه الأئمة الكرام: القاسم بن إبراهيم ، وحفيده الهادي إلى الحق، وأحمد بن عيسى ـ عليهم السلام ـ.
(فصل الطاء المهملة)
[طارق بن سويد]
طارق بن سويد، أو سويد بن طارق، صحابي له أحاديث.
خرج له: المؤيد بالله في الأشربة، وأبو داود، والترمذي.
[طارق بن شهاب]
طارق بن شهاب الأحمسي.
عن علي بن أبي طالب ، وأبي بكر، وعمر، وابن مسعود، وغيرهم.
قيل: رأى النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
عنه: قيس بن حكيم، وعلقمة بن مرثد ، وإسماعيل بن أبي خالد .
توفي سنة اثنتين ـ أو ثلاث ـ وثمانين.
أخرج له: الجرجاني، ومحمد.
ذكره في الجامع في الصحابة، والظاهر ما في الخلاصة أنه من التابعين.
قلت: وكان من صحابة علي - عليه السلام - وشيعته، كما ذكره في شرح النهج، وروى فيه عنه أنه قال فيه: هو أول المؤمنين إيماناً بالله، وابن عم رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - ووصيه؛ وأتاه حال مسيره لحرب الجمل.
[طارق]
طارق:
كذا ذكره في الطبقات وبيض بعده، وأشار إلى أنه خرج له أبو طالب /101

(3/101)


[طلحة بن عبيدالله]
طلحة بن عبيد الله ، أبو محمد القرشي التيمي، كان من السابقين في الإسلام والهجرة، وشهد المشاهد غير بدر، واشتهر عند المؤرخين أن راميه يوم الجمل مروان بن الحكم.
ويقال: إن علياً - عليه السلام - دعاه عند القتال فذكّره بعض سوابقه، فاعتزل القتال، فأصابه السهم بعد أن اعتزل، سنة ست وثلاثين؛ وروى توبته عن الخروج على أمير المؤمنين الحاكم في العيون، وغيره؛ والله أعلم.
خرج له: أئمتنا الثلاثة، والجماعة.
عنه: مالك بن عامر الأصبحي وولده موسى.
[ذكر طلحة والزبير ووقعة الجمل]
قلت: ومن كلام الوصي - عليه السلام - في شأن طلحة والزبير المروي في النهج: اللهم إنهما قطعاني وظلماني، ونكثا بيعتي، وأَلَّبَا الناس عليَّ، فاحلل ما عقدا، ولا تحكم لهما ما أبرما، وأرهما المساءة فيما أمّلا وعملا.
وفي شرحه من رواية أبي مخنف: اللهم إن طلحة نكث بيعتي، وأَلَّبَ على عثمان حتى قتله، ثم عضهني به ورماني، اللهم فلا تمهله...إلخ.
ومن رواية أبي الحسن علي بن محمد المدائني عن عبد الله بن جنادة ، أنه دخل مسجد رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - إذ نودي (الصلاة جامعة) فاجتمع الناس، وخرج علي متقلداً سيفه، فشخصت الأبصار نحوه؛ فحمد الله وصلى على رسوله، ثم قال: أما بعد؛ فإنه لما قبض الله نبيئه - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - قلنا: نحن أهله وورثته وعترته وأولياؤه دون الناس، لا ينازعنا سلطانه أحد، ولا يطمع في حقنا طامع؛ إذ انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبيئنا، فصارت الإمرة لغيرنا، وصرنا سوقة، يطمع فينا الضعيف، ويتعزز علينا الذليل.
إلى قوله: وأيم الله، لولا مخافة الفرقة بين المسلمين، وأن /102

(3/102)


يعود الكفر ويبور الدين، لكنا على غير ما كنا لهم عليه.
إلى قوله - عليه السلام -: وبايعني هذان الرجلان في أول من بايع، تعلمون ذلك؛ وقد نكثا وغدرا، ونهضا إلى البصرة بعائشة؛ ليفرقا جماعتكم، ويلقيا بأسكم بينكم؛ اللهم فخذهما بما عملا أخذة رابية، ولا تنعش لهما صرعة، ولا تقل لهما عثرة، ولا تمهلهما فواقاً؛ فإنهما يطلبان حقاً تركاه، ودماً سفكاه؛ اللهم إني أقتضيك وعدك فإنك قلتَ وقولك الحق لِمَن بُغي عليه: {لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ } [الحج:60]، اللهم فأنجز لي موعدك، ولا تكلني إلى نفسي؛ إنك على كل شيء قدير.
وروى أبو مخنف عن زيد بن صوحان، قال: شهدت علياً - عليه السلام - بذي قار، وهو مُعْتَمّ بعمامة سوداء، ملتف بساج، يخطب، فقال في خطبته: الحمد لله على كل أمر وحال، في الغدوّ والآصال، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، ابتعثه رحمة للعباد، وحياة للبلاد.
إلى قوله - عليه السلام -: ثم قبضه الله حميداً؛ ثم استخلف الناس أبا بكر فلم يأل جهده، ثم استخلف أبو بكر عمر فلم يأل جهده، ثم استخلف الناس عثمان فنال منكم ونلتم منه؛ حتى إذا كان من أمره ما كان أتيتموني لتبايعوني.
إلى قوله: وبايعني طلحة والزبير.
إلى قوله: ثم استأذناني في العمرة، فأعلمتهما أن ليس العمرة يريدان، فسارا إلى مكة، واستخفا عائشة وخدعاها، وشخص معهما أبناء الطلقاء؛ فقدموا البصرة، فقتلوا بها المسلمين، وفعلوا المنكر؛ ويا عجباً لاستقامتهما لأبي بكر وعمر وبغيهما عليّ، وهما يعلمان أني لست دون أحدهما؛ ولو شئت أن أقول لقلت!.
إلى قوله - عليه السلام -: وخرجا يوهمان الطغام أنهما يطلبان بدم عثمان؛ والله، ما أنكرا عليَّ منكراً، ولا جعلا بيني وبينهم نصفاً، وإن دم عثمان لمعصوب بهما، ومطلوب /103

(3/103)


منهما؛ يا خيبة الداعي، إلى ما دعا؟ وبماذا أجيب؟ والله، إنهما لعلى ضلالة صماء، وجهالة عمياء.
ثم رفع يديه، فقال: اللهم إن طلحة والزبير قطعاني وظلماني، وأَلّبا علي، ونكثا بيعتي؛ فاحلل ما عقدا، وانكث ما أبرما، ولا تغفر لهما أبداً، وأرهما المساءة فيما عملا وأمّلا.
قال أبو مخنف: فقام إليه الأشتر، فقال: الحمد لله الذي مَنّ علينا فأفضل، وأحسن إلينا فأجمل؛ قد سمعنا كلامك يا أمير المؤمنين، ولقد أصبتَ ووفقت، وأنت ابن عمّ نبيئنا وصهره ووصيه، وأول مصدق به ومصلّ معه؛ شهدتَ مشاهده كلها، فكان لك الفضل فيها على جميع الأمة؛ فمن اتبعك أصاب حظه، واستبشر بفلجه؛ ومن عصاك ورغب عنك، فإلى أمه الهاوية؛ لعمري ـ يا أمير المؤمنين ـ ما أَمْرُ طلحة والزبير وعائشة علينا بمخيل؛ ولقد دخل الرجلان فيما دخلا فيه، وفارقا من غير حدث أحدثتَ، ولا جور صنعتَ؛ فإن زعما أنهما يطلبان بدم عثمان، فليقيدا من أنفسهما، فإنهما أول من أَلَّبَ عليه، وأغرى الناس بدمه؛ وأشهد الله لئن لم يدخلا فيما خرجا منه، لنلحقنهما بعثمان؛ فإن سيوفنا في عواتقنا، وإن قلوبنا في صدورنا، ونحن اليوم كما كنا أمس.
وفيه: الأصبغ بن نباتة : لما انهزم أهل البصرة ركب علي - عليه السلام - بغلة رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - الشهباء وكانت باقية عنده، وسار في القتلى يستعرضهم؛ فمرّ بكعب بن سور قاضي البصرة وهو قتيل، فقال أجلسوه، فأجلس؛ فقال: ويل أمك ـ كعب بن سور ـ لقد كان لك علم لو نفعك؛ ولكن الشيطان أضلك فأزلك، فعجلك إلى النار؛ أرسلوه.
وروى صاحب المحيط بالإمامة ، بإسناده عن ابن عباس، قال: مرض علي بن أبي طالب - عليه السلام - فدخل رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - في مرضه ليعوده، فرأى طلحة عند رأسه والزبير عند رجليه، فقال لهما رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: /104

(3/104)


((يشتد عليكما مرض علي؟)).
فقالا: سبحان الله! وكيف لا يشتد علينا مرض علي؟
فقال رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((والذي نفسي بيده، إنكما لا تخرجان من الدنيا حتى تقاتلاه وأنتما له ظالمان)).
قال في الحدائق: ودعا علي - عليه السلام - طلحة، فقال: نشدتك الله، هل سمعت رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يقول: ((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه ))؟
قال: نعم.
قال: فلم تقاتلني؟
قال: لم أذكر؛ وانصرفَ.
وروي أنه لما رُمي بسهم، قال بعدما أفاق من غشيته: ما رأيتُ مصرع قرشي أضلّ من مصرعي.
وقتل طلحةَ مروانُ بن الحكم.
وفي الرواية أنه لما صرع مَرّ به رجل من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: أمن أصحابنا أم من أصحاب أمير المؤمنين؟
فقال: بل من أصحاب أمير المؤمنين.
فقال: ابسط يدك لأبايعك لأمير المؤمنين، فألقى الله على بيعته؛ أما والله ما كفتنا آية من كتاب الله، وهي قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً } [الأنفال:25]، فوالله لقد أصابت الذين ظلموا خاصة.
[طلحة بن معاوية السلمي]
طلحة بن معاوية السلمي.
قال: أتيت النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - فقلت: إني أريد الجهاد، فقال: ((أمك حية؟)) قال: نعم، فقال: ((الزم رحلها فثمة الجنة )) رواه ولده محمد، وأخرجه الطبراني ، ورواه عنه الإمام المرشد بالله؛ وذكر الحديث كما ذكره في الجامع /105

(3/105)


[طلق بن علي السحيمي]
طلق (بفتح أوله، وسكون اللام) بن علي بن منذر بن قيس السحيمي (بمهملتين مصغراً) أبو علي اليمامي، وفد قديماً، وبنى في المسجد، وروى عنه: ابنه قيس.
قلت: روى عنه خبر عدم النقض بمس الذَّ كَر.
قال السيد الإمام وغيره: أخرج له المؤيد بالله ، والمرشد بالله، والأربعة.
---
(فصل العين المهملة)
[العباس بن عبد المطلب بن هاشم]
العباس بن عبد المطلب بن هاشم، عَمّ رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - أبو الفضل، كان أسن من رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - بسنتين أو ثلاث.
وفي رواية الإمام أبي طالب لما سُئل أيما أكبر، أنت أو رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -؟ فقال: هو أكبر مني، وأنا ولدت قبله.
ولم يزل مُعظَمَاً في الجاهلية والإسلام؛ وخرج إلى بدر مع المشركين، فأسره المسلمون، ففادى نفسه وابني أخيه عقيلاً ونوفلاً، وأسلم عقيب ذلك.
قلت: وقد ذكر أنه أسلم قبل ذلك، ولكنه لم يظهره إلا فيه.
قال السيد الإمام: وعذره النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - في الإقامة بمكة من أجل سقايته، ولقي النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - في سفر الفتح، وخرج معه إلى حنين.
قلت: وثبت عند رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - مع من ثبت من قرابته الذين أنزل الله سكينته على رسوله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وعليهم؛ قال العباس في ذلك:
نصرنا رسول الله في الحرب سبعة .... وقد فَرّ مَنْ قد فَرّ عنه وأقشعوا
وثامننا لاقى الحمام بسيفه .... بما مسّه في الله لا يتوجعُ
/106

(3/106)


أفاده في الاستيعاب عن ابن إسحاق، انتهى.
وأمره فنادى: يا معشر الأنصار، يا أصحاب الشجرة ـ وكان رجلاً صيِّتاً، قيل: إنه كان يسمع من ثلاثة أيام، وأنه نادى مرة في مكة: واصباحاه؛ فأسقطت الحوامل، وأنه كان يصيح على السبع فتنفتق مرارته؛ ذكره في الكشاف ـ فأقبلوا كأنهم الإبل يقولون: لبيك لبيك؛ وأخذ - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - بيده كفاً من الحصى، فرمى العدوّ بها، وقال: ((شاهت الوجوه))، ثم قال: ((انهزموا ورب الكعبة ))، ولم يبقَ أحد منهم إلا دخل في عينه من رمية رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم- وأنزل الله تعالى الرعب في قلوبهم، وأيّد رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - بملائكته، فرآهم المشركون على خيل بلق، وعليهم عمائم خضر.
والوقعة مشهورة، قد قص الله تعالى في الكتاب منها ما فيه كفاية.
[استسقاء الصحابة بالعباس - رضي الله عنه -]
وقصة استسقاء الصحابة به معلومة.
قال في الاستيعاب: وروينا من وجوه عن عمر أنه خرج يستسقي، وخرج معه العباس؛ فقال: اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - ونستشفع به، فاحفظ فيه لنبيك - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - كما حفظت الغلامين لصلاح أبيهما؛ وأتيناك مستغفرين ومستشفعين.
إلى قوله: ثم قام العباس وعيناه تنضحان، ثم قال: اللهم أنت الراعي، لا تهمل الضالة، ولا تدع الكسير بدار مضيعة، وقد ضرع الصغير، ورق الكبير، وارتفعت الشكوى؛ فأنت تعلم السر وأخفى؛ اللهم فأغثهم بغياثك، من قبل أن يقنطوا فيهلكوا، فإنه لا ييأس من روحك إلا القوم الكافرون.
فنشأت طريرة من سحاب، فقال الناس: ترون ترون.
ثم تلاءمت واستتمت ومشت فيها ريح، ثم هزت ودَرّت؛ فوالله، ما برحوا حتى اعتنقوا الجدر، وقلصوا المآزر، وطفق الناس بالعباس يمسحون /107

(3/107)


أركانه ويقولون: هنيئاً لك ساقي الحرمين.
وفي ذلك يقول أمير المؤمنين - عليه السلام -:
بعمي سقى الله البلاد وأهلها .... عشيّة يستسقي بشيبته عمر
وهذا صريح التوسل به والاستشفاع؛ لقربه من رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - فهل يسوغ لمسلم أن يجعل فعل الصحابة كالتوسل والاستشفاع بالأصنام؟! سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم.
قال السيد الإمام: وكان ـ أي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ـ يعظمه ويعطيه العطاء الجَزْل؛ وكذلك الخلفاء بعده، ونصبه عمر للاستسقاء فسقوا؛ ثم توفي في المدينة، في رجب، سنة اثنتين ـ أو أربع ـ وثلاثين، عن ثمان وثمانين.
أخرج له: أئمتنا الثلاثة، والهادي للحق،، والجماعة.
عنه: ولده عبد الله، وخزيمة بن أوس ، وغيرهما.
[عبد الله بن جعفر بن أبي طالب]
عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ـ رضوان الله عليهم ـ، أبو جعفر الهاشمي، أول مولود من المسلمين بالحبشة؛ وكان جواداً ممدحاً كأبيه.
أمه أسماء بنت عميس ، شهد فتوح الشام.
قلت: وشهد مع عمه الوصي - عليه السلام - مشاهد الجهاد.
قال في الطبقات : وله أخبار واسعة في السخاء والفتوة.
وتوفي بالمدينة سنة ثمانين، عن ثمانين.
خرج له: الإمام أبو طالب ، وله ذكر في المجموع في الوكالة والحجر، وروى له محمد.
عن علي - عليه السلام -، وعن أمه.
وعنه: هلال، وولده إسماعيل.
قلت: ولما سمع قول الشاعر:
إن الصنيعة لا تكون صنيعة .... حتى يُصاب بها طريق المصنع
قال: أما أنا فأقول:
يدُ المعروف غُنْمٌ حيث كانت .... تلقّاها كفور أو شكورُ
فعند الصالحين لها جزاءٌ .... وعند الله ما جحد الكفورُ
/108

(3/108)


[عبد الله بن العباس]
عبد الله بن العباس بن عبد المطلب ، أبو العباس الهاشمي؛ حبر الأمة، وترجمان القرآن.
ولد قبل الهجرة، وحنّكه النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - بريقه، ودعا له؛ ويسمى البحر لسعة علمه، وهو أحد الستة المكثرين في الرواية، وكان أكثرهم فتيا وأتباعاً؛ وكان عمر وغيره يرجعون إليه، واستعمله علي - عليه السلام - على البصرة.
وتوفي بالطائف سنة سبعين.
قلت: وفي الاستيعاب والإصابة وغيرهما: سنة ثمان وستين.
قال في الطبقات : بعد أن كف بصره؛ وفي الرواية: أنه من البكاء على الوصي - عليه السلام -؛ وصلى عليه محمد بن الحنفية؛ وقبره به مشهور مزور.
أخرج له الهادي للحق، وأئمتنا كافة، والجماعة، وأصحاب المسانيد، وغيرهم.
وروى عنه ولده علي بن عبد الله ، وسعيد بن جبير ، وسليمان بن يسار ، والضحاك بن مزاحم ، وطاووس، والشعبي، وعطاء بن أبي رباح ، ومجاهد، وميمون بن مهران ، وأبو العالية ، وغيرهم.
قلت: قال الإمام الحجة المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليهم السلام:
وهو ـ أي ابن عباس ـ واحد زمانه، ونسيج وحده؛ اجتمعت هذه الأمة على محبته؛ وله من الفضائل ما تصعب الإحاطة به؛ وإنما نذكر طرفاً على وجه الرعاية لحقه، وإلا فشهرة أمره تغني عن الإطناب في ذكره.
في الحديث أن أباه العباس رحمه الله تعالى بعثه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبعض حاجته، فأتاه وجبريل - عليه السلام - يناجيه، فاستحيا أن يقطع نجواهما، ولم يعرف جبريل - عليه السلام - فرجع إلى أبيه، فأعلمه؛ فجاء إلى رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - فأعلمه بذلك؛ فضم النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - عبد الله إليه، ومسح على صدره، وقال: ((اللهم فقهه في الدين، وانشر منه ))، فكان كذلك، فروت عنه جميع الأمة؛ وهو الفقيه الذي لا يُدافع، والمصقع الذي لا /109

(3/109)


يُنازع؛ وقد كان ذهب بصره في آخر أيامه، من البكاء على علي بن أبي طالب ...إلخ.
وقد كان العباس بن عبد المطلب ، وولده حبر الأمة، وإخوته، وأولاد جعفر بن أبي طالب ، وعقيل بن أبي طالب، وسائر بني هاشم، ومن معهم من أعيان الصحابة السابقين، ملازمين لأمير المؤمنين، داعين الأمة إلى إمامته، والقيام بطاعته، منذ قُبِض سيد المرسلين ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ كما هو معلوم عند ذوي العرفان من المسلمين.
وقد شهد جميع مشاهده، والجهاد بين يديه، مَنْ أدرك ذلك منهم؛ كما قال ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمته: شهد عبد الله بن عباس مع علي رضي الله عنه الجمل وصفين والنهروان، وشهد معه الحسن والحسين ومحمد بنوه، وعبيد الله وقثم ابنا العباس، ومحمد وعبد الله وعون بنو جعفر بن أبي طالب ، والمغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، وعقيل بن أبي طالب، وعبد الله بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب .
قلت: ونقل ابن حجر ذلك في الإصابة؛ ومنهم: العباس بن ربيعة بن الحارث ، المبارز يوم صفين تلك المبارزة المشهورة المذكورة في شرح النهج.
[عدم صحة معاتبة الوصي (ع) لابن عباس]
نعم، وكان ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ لابن عمه أمير المؤمنين - عليه السلام - الوزير الأعظم، والنصير المقدم؛ وما يحكى عنه من أخذه المال، ومفارقته لمحل عمله بالبصرة، ومعاتبة الوصي - عليه السلام - له غير صحيح؛ فمقامه أجل وأرفع من ذلك؛ والكتاب الذي في النهج غير موجه إليه، وليس فيه تصريح كما أفاده العلامة الشارح، والإمام عز الدين بن الحسن - عليه السلام - في المعراج .
ولم يزل عاملاً لأمير المؤمنين /110

(3/110)


- عليه السلام - عليها كما صرح به أبو الفرج في مقاتل الطالبيين ، وذكره ابن حجر في الإصابة، حيث قال: ولم يزل ابن عباس على البصرة حتى قُتل علي.
قال المولى العلامة نجم العترة الحسن بن الحسين الحوثي ـ أيده الله تعالى ـ في تخريج الشافي : لأن مقامات عبد الله في شأن علي في حياته وبعد وفاته، وإجلاله له والذبّ عنه والانتماء إليه، ينافي ما قيل من المكاتبة في أخذ المال؛ على أن ما رواه أبو الفرج الأصفهاني ، من أن عبد الله بن العباس كتب إلى الحسن بن علي، في أول خلافته، من البصرة، ينافي أنه أخذ مال البصرة وهرب به إلى مكة.
روى أبو عبيدة عن عمرو بن عبيد ، أن ما قيل من أخذ ابن عباس للمال قول باطل؛ فإن ابن عباس لم يفارق علياً إلى أن قُتل، وشهد صلح الحسن بن علي.
قال: وكيف يجتمع المال بالبصرة.
إلى قوله: وهو يفرغ بيت المال في كل خميس ويرشه، انتهى من أمالي المرتضى.
وروى المرشد بالله بإسناده عن أبي صالح، قال: ذكر علي بن أبي طالب - عليه السلام - عند عائشة، وابن عباس حاضر؛ فقالت عائشة: كان من أكرم رجالنا على رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
فقال ابن عباس: وأي شيء يمنعه من ذلك؟ اصطفاه الله لنصرة رسوله، وارتضاه رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - لأخُوَّتِه، واختاره لكريمته، وجعله أبا ذريته، ووصيه من بعده؛ فإن ابتغيت شرفاً فهو في أكرم منبت وأورق عود، وإن أردت إسلاماً فأوفر بحظه وأجزل بنصيبه، وإن أردت شجاعة فنهمة حرب وقاضية حتم، يصافح السيوف أبسالاً، لا يجد لموقعها حساً، ولا تنهنهه تعتعة، ولا تفلّه الجموع، والله ينجده، وجبريل يرفده، ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعضده، أحدّ الناس لساناً، وأظهرهم بياناً، وأصدعهم بالجواب، في أسرع جواب؛ عِظَتُه أبلغ /111

(3/111)


من عمله، وعمله يعجز عنه أهل دهره؛ فعليه رضوان الله، وعلى مبغضه لعائن الله. انتهى.
وروى محمد بن سليمان الكوفي نحوه بسنده إلى عبد الله بن صفوان ، قال: كنت عند عائشة، فذكر علي؛ فقالت: كان من أكرم رجالنا على رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
فقال رجل ـ ولم يسمه ـ...إلى آخره.
قال رجل لابن عباس: سبحان الله ما أكثر فضائل علي ومناقبه! وإني لأحسبها إلى ثلاثة آلاف.
فقال ابن عباس: أو لا تقول: إنها إلى ثلاثين ألفاً أقرب.
رواه الخوارزمي بإسناده، عن عيسى بن عبد الله ، عن أبيه، عن جده.
وقال ابن عباس: العلم ستة أسداس؛ لعلي بن أبي طالب خمسة أسداسه، وللناس سدس؛ ولقد شاركنا في السدس، حتى هو أعلم منا به.
رواه الخوارزمي عنه من طريقين، ومثله في ذخائر العقبى.
قلت: وروي عن ابن مسعود : قُسِّمت الحكمة عشرة أجزاء، فأعطي علي تسعة، والناس جزءاً واحداً.
وهو في تفريج الكروب بلفظ: كنت عند النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - فسُئل عن علي، فقال: ((قُسِّمت الحكمة... الخبر)) رواه ابن المغازلي.
وفي بعض كتب العترة: عن ابن مسعود ، قال: كنت عند النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -...الخبر، بزيادة: ((وعلي أعلم بالواحد منهم )) الأزدي وابن النجار وابن الجوزي وأبو علي البرذعي وحل (وهو رمز الحلية لأبي نعيم) أي أخرجه هؤلاء.
وروى ابن عبد البر في الاستيعاب، بسنده إلى ابن عباس، قال: والله لقد أعطي علي بن أبي طالب تسعة أعشار العلم؛ وأيم الله، لقد شارككم في العشر العاشر/112

(3/112)


وروى ابن عبد البر أيضاً، بسنده إلى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس، قال: كنا إذا أتانا الثبت عن علي لم نعدل به.
ورواه ابن حجر العسقلاني ؛ وقد سبق معناه عنه، من غير هذه الطريق؛ وهو يدل على أن قول الوصي - عليه السلام - عنده حجة، كما قضت به الأدلة.
وروايات ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وأقواله وأفعاله، في شأن ابن عمه أمير المؤمنين - عليه السلام - أكثر من أن يحصيها كتاب، أو يحيط بها الاستيعاب.
قال شارح النهج: وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له، وانقطاعه إليه، وأنه تلميذه وخريجه، وقيل له: أين علمك من علم ابن عمك؟ فقال: كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط.
قال ـ أيده الله تعالى ـ في التخريج: سُئل ابن عباس عن علي، فقال: ملئ عزماً وحزماً وعلماً ونجدةً.
أخرجه الحاكم.
وقال ابن عباس: لعلي أربع خصال، ليست لأحد غيره، هو أول عربي وعجمي صلى مع رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، وهو الذي كان لواؤه معه في كل زحف، وهو الذي صبر معه يوم فَرَّ عنه غيره، وهو الذي غسَّله وأدخله قبره.
أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب، وأخرجه علي بن الحسين في المحيط عن ابن عباس، إلا لفظ (أربع)، وزيادة (المهراس) قال: وهو الذي صبر معه يوم المهراس، وانهزم الناس كلهم غيره.
وأخرجه الكنجي والإمام أبو طالب ، عن ابن عباس، كما في المحيط.
وقال ابن عباس: ليس من آية في القرآن: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا } إلا وعلي بن أبي طالب رأسها وأميرها وشريفها، ولقد عاتب الله أصحاب محمد - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - في القرآن، وما ذكر علياً إلا بخير.
أخرجه عنه أحمد، والكنجي /113

(3/113)


وقال المحب الطبري: عن ابن عباس، وقد سُئل عن علي: رحمة الله على أبي الحسن؛ كان والله علم الهدى، وكهف التقى، وطود النهى، ومحل الحجا، وغيث الندى، ومنتهى العلم للورى، ونوراً أسفر في الدجا، وداعياً إلى المحجة العظمى، مستمسكاً بالعروة الوثقى، أتقى من تقمص وارتدى، وأكرم من شهد النجوى، بعد محمد المصطفى، وصاحب القبلتين، وأبو السبطين، وزوجته خير النساء، فما يفوقه أحد؛ لم تر عيناي مثله، ولم أسمع بمثله؛ فعلى من بغضه لعنة الله ولعنة العباد، إلى يوم التناد.
أخرجه أبو الفتح القواس، ورواه علي بن الحسين المسعودي في مروج الذهب ، انتهى.
قلت: وقوله: ولم ترَ عيناي...إلخ أي بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قطعاً، وهذا معلوم لكل مسلم، فلا يحتاج مثله إلى تقييد، مع أنه قد صَرّح في أول الخبر بقوله: بعد محمد المصطفى.
[شيء من فضائل ابن عباس]
هذا، قلت: قال المحب الطبري في الذخائر: عن ابن عباس: ضمني رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وقال: ((اللهم عَلِّمْه الحكمة )) أخرجه الترمذي ، وقال: حسن صحيح؛ والبغوي، وأبو حاتم؛ وخرجه البخاري، وقال: ضمني إلى صدره؛ وفي رواية له: ((اللهم علمه الكتاب )) وخرجه أبو عمر، وزاد: ((وتأويل القرآن )) ولم يقل: ضمني؛ وفي أخرى: ((وزده علماً، وفقّهه في الدين )) قال أبو عمر: وكلها أحاديث صحاح.
وفي رواية خرجها الحافظ الثقفي: ((زده فهماً وعلماً )) انتهى.
قلت: قال أبو عمر في الاستيعاب: وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه أنه قال لعبد الله بن العباس: ((اللهم علّمه الحكمة وتأويل القرآن ))، وفي بعض الروايات: ((اللهم فَقِّهه في الدين، وعلمه التأويل )) وفي حديث آخر: ((اللهم بارك فيه، وانشر منه، واجعله من عبادك الصالحين ))، وفي /114

(3/114)


حديث آخر: ((اللهم زده علماً وفقهاً ))، وهي كلها أحاديث صحاح.
وقال مجاهد: عن ابن عباس: رأيت جبريل عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرتين، ودعا لي رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - بالحكمة مرتين، انتهى.
قال في ذخائر العقبى: وعن مسروق قال: كنت إذا رأيت عبد الله بن عباس ، قلت: أجمل الناس، وإذا تكلم قلت: أفصح الناس، وإذا تحدث، قلت: أعلم الناس.
وعن الأعمش مثله، زاد: (وإذا سكت قلت: من أحلم الناس)، قال: وعن شقيق.
قلت: هو في الاستيعاب مسنداً إلى أبي وائل، قال: خطبنا ابن عباس، وهو على الموسم، فافتتح سورة النور؛ فجعل يقرأ ويفسر؛ فجعلت أقول: ما رأيتُ ولا سمعتُ برجل مثله، ولو سمعته فارس والروم والترك لأسلمت.
خرج جميع ذلك أبو عمر.
وخرج في الصفوة حديث شقيق، وقال: سورة البقرة مكان سورة النور.
وعن الحسن: كان ابن عباس يقوم على منبرنا هذا فيقرأ البقرة وآل عمران، فيفسرهما آية آية.
وفي الاستيعاب والذخائر: قال عمرو بن دينار : ما رأيت مجلساً أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس، الحلال والحرام، والعربية والأنساب، وأحسبه قال: والشعر؛ وكان أصحابه يسمونه البحر والحبر.
قال في الاستيعاب: وفيه يقول حسان:
إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه .... رأيت له في كل أحواله فضلا
إذا قال لم يترك مقالاً لقائل .... بمنتظمات لا ترى بينها فصلا
...الأبيات /115

(3/115)


وروى في الحدائق أن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أمسك للحسنين بالركاب، وسوى عليهما، فقال له مدرك بن أبي راشد : أنت أسن منهما، أتمسك لهما؟ قال: يا لكع، أو ما يدريك من هذان، هذان ابنا رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - أو ليس هذا مما أنعم الله به علي، أن أُمْسِكَ لهما، وأسوي عليهما.
هذا، ولما توفي - رضي الله عنه - صلى عليه محمد بن الحنفية عليهما السلام كما سبق، وقال: اليوم مات رباني هذه الأمة.
أخرجه أبو عمر والبغوي.
قال الطبري في الذخائر: وعن سعيد بن جبير ، قال: مات ابن عباس بالطائف، فشهدت جنازته، فجاء طائر لم ير على خلقه، فدخل في نعشه، ولم يُرَ خارجاً منه؛ فلما دُفن تليت هذه الآية: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً(28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي(29) وَادْخُلِي جَنَّتِي(30)} [الفجر:27ـ30].
خرجه ابن عرفة ؛ وروي عن أبي الزبير مثله.
نعم، وقد قدمت من ذكر لما سبق؛ وأعود إلى ترتيب الطبقات .
[عاصم بن عدي]
عاصم بن عدي، القضاعي العجلاني؛ كان يوم بدر أميراً على أهل قباء والعالية، فضرب له النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - بسهم، وشهد أحداً؛ له ستة أحاديث.
توفي سنة خمس وأربعين.
عنه: أبو البداح ، وسهل بن سعد، وابن عباس.
خرج له: المؤيد بالله ، والأربعة.
[عامر بن ربيعة بن كعب]
عامر بن ربيعة بن كعب، أبو عبد الرحمن العنزي (بمهملة، ونون ساكنة، فزاي) هاجر إلى الحبشة، وشهد المشاهد.
عنه: ابنه عبد الله.
أخرج له: المؤيد بالله ، /116

(3/116)


والمرشد بالله، والجماعة.
توفي سنة اثنتين وثلاثين.
[عامر بن واثلة ]
عامر بن واثلة ـ بمثلثة ـ بن عبد الله الكناني، أبو الطفيل.
له رؤية ورواية، وعُمِّر بعده - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - طويلاً؛ وصحب علياً - عليه السلام -، وكان من وجوه شيعته، ومن محبيه، وله منه محل خاص، وشهد مع علي المشاهد.
قلت: قد سبق ذكره في الفصل الثاني، وساق في الطبقات ترجمته، وحكى كلام بعض المنحرفين فيه، قال: ثم خرج طالباً بدم الحسين مع المختار بن عبيد، ثم أخرج محمد بن الحنفية من سجن عارم، وسكن الكوفة، ثم مكة، وأقام بها حتى مات.
ثم حكى الأقوال في سنة وفاته، وقد سبق تصحيح أنه سنة عشر ومائة.
قال في التهذيب: وهو آخر من مات من جميع أصحاب النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
روى عن علي، وأبي بكر، وعمر، ومعاذ، وعمار.
وعنه: جابر الجعفي ، والزهري، ويزيد بن حبيب، وغيرهم.
أخرج له: المؤيد بالله ، ومحمد، والجماعة.
قلت: وممن روى عنه الإمام الأعظم زيد بن علي ـ عليهم السلام ـ، كما سبق.
قال علامة العترة النبيل، محمد بن عقيل ـ رحمه الله ـ: وأما وصول أبي عبد الله الجدلي ومن معه ومنهم أبو الطفيل، لإنقاذ ابن الحنفية ومن معه، فذلك من أعظم مناقبهما، ومن أكبر منزلة عند الله تعالى وعند النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - فقد أثبت ثقات المؤرخين، أن ابن الزبير وضع ابن الحنفية ومن معه من بني هاشم في السجن، ووضع فيه حطباً وألقى عليه النار، فصادف ذلك وصول الجدلي وأبي الطفيل ومَنْ معهما، فأنقذ الله بهم /117

(3/117)


العترة ـ أنقذهم الله من كل سوء ـ فهل يليق أن يعد صنيع هؤلاء الأبطال المنقذين مما تطعن به عدالتهم؟! كلا والله.
إلى قوله: إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور؛ رب احكم بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الحاكمين.
وفي الاستيعاب لابن عبد البر: قدم أبو الطفيل على معاوية، فقال له: كيف وجدك على خليلك أبي الحسن؟
قال: كوجد أم موسى على موسى؛ وأشكو إلى الله التقصير.
قال له معاوية: كنتَ فيمن حصر عثمان؟
قال: لا، ولكني كنت فيمن حضره.
قال: فما منعك من نصره؟
قال: وأنت فما منعك من نصره إذ تربصت به ريب المنون؟ وكنت مع أهل الشام، وكلهم تابع لك فيما تريد.
فقال له معاوية: أو ما ترى طلبي لدمه نصرة له؟
قال: بلى، ولكنك كما قال أخو جعف:
لا ألفينّك بعد الموت تندبني .... وفي حياتي ما زوّدتني زادا
[عامر الرام]
عامر الرام (بفتح المهملة) صحابي، له حديث عند أبي داود، والإمام أبي طالب، رواه عنه ابن إسحاق عن ابن منصور عنه.
ويقال: ابن الرام؛ والأول أصح.
قلت: وفي الاستيعاب: عامر الرامي، ويقال: عامر الرام أخو الخضر، والخضر قبيلة في قيس عيلان..إلخ.
[عامر بن مسعود بن أمية]
عامر بن مسعود بن أمية بن خلف الجمحي، له حديث في صوم الشتاء.
عنه: عبد العزيز بن رفيع ، ونمير بن عريب .
اختلف في صحبته؛ عداده في أهل الكوفة.
أخرج له: المرشد بالله، والترمذي /118

(3/118)


[عبادة بن الصامت]
عبادة بن الصامت، أبو الوليد الخزرجي، السيد النقيب؛ شهد العقبات الثلاث، وبدراً وما بعدها.
توفي بالرملة، وقيل: ببيت المقدس، سنة أربع وثلاثين، عن اثنتين وتسعين.
عنه: ولده محمد، وإبراهيم بن عباد، وجابر، وأنس، والحسن البصري، وخالد بن معدان، وجنادة بن أمية، وغيرهم.
أخرج له: أئمتنا الخمسة، والجماعة.
[عبد الله بن أُنَيس]
عبد الله بن أنيس (بضم الهمزة، وفتح النون) أبو يحيى القضاعي الأنصاري حلفاً، بطل مقدام، شهد العقبة وأحداً.
سار إليه جابر بن عبد الله شهراً إلى الشام يسمع منه حديث المظالم.
عنه: بنوه، وجابر، ومحمود بن لبيد .
توفي سنة أربع وخمسين.
خرج له: الناصر للحق، وأبو طالب، والمحيط، ومسلم.
[عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي ]
عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي ، توفي سنة ست وثمانين بالكوفة، آخر الصحابة موتاً بها.
عنه: عمرو بن مرة ، وإسماعيل بن أبي خالد.
أخرج له: أبو طالب ، والجرجاني، والمرشد بالله، والجماعة.
قلت: وكان من المنحرفين عن أمير المؤمنين - عليه السلام -، كما أفاده الإمام المنصور بالله - عليه السلام - في الشافي .
[عبد الله بن بُحَينة]
عبد الله بن بُحَينة (بضم الموحدة، وفتح المهملة، فتحتية، فنون) الأزدي، كان من السابقين /119

(3/119)


ناسكاً فاضلاً، ينزل موضعاً بقرب المدينة؛ توفي آخر أيام معاوية.
أخرج له: المؤيد بالله ، والجماعة.
عنه: الأعرج.
[عبد الله بن بسر]
عبد الله بن بسر (بمهملتين) المازني، توفي سنة ثمان وثمانين، قال ابن عساكر : وضع النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يده على رأسه، فقال: ((يعيش هذا قرناً )) فعاش مائة سنة.
أخرج له: المرشد بالله، والطبراني، وأبو نعيم، وابن عساكر، وغيرهم.
[عبد الله بن جواد العقيلي]
عبد الله بن جواد العقيلي، قال ابن عساكر : له صحبة.
عنه: ولد أخيه يحيى الأشدق .
خرج له: المرشد بالله، وغيره .
[عبد الله بن الحارث بن جز]
عبد الله بن الحارث بن جز (بجيم ثم زاي) الزُّبَيدي (بضم الزاي) شهد فتح مصر.
عنه: يزيد بن حبيب، وغيره.
توفي سنة ست ومائة.
أخرج له: المرشد بالله، والأربعة، إلا النسائي .
[عبد الله بن رواحة ]
عبد الله بن رواحة (بفتح أوله) أبو رواحة الحارثي الأنصاري النقيب، شهد بدراً وما بعدها، وكان أحد النجباء الصادقين في الجهاد باللسان واليد، وأحد الأمراء في غزوة مؤتة، وبها استشهد، ولا عقب له.
خرج له: الإمام زيد بن علي، وأبو طالب ـ عليهم السلام ـ، ومحمد، والبخاري، وغيرهم /120

(3/120)


[عبد الله بن الزبير بن العوام ]
عبد الله بن الزبير بن العوام ، أبو خبيب الأسدي، أول مولود من المهاجرين بعد الهجرة، شهد مع خالته عائشة الجمل.
بويع له سنة أربع وستين بعد معاوية بن يزيد، وتخلّف عن بيعته ابن عباس وابن الحنفية، ثم حصره الحجاج بمكة، وقتل في جمادى سنة ثلاث وسبعين، وهي عمره.
أخرج له المؤيد بالله ، وأبو طالب، ومحمد، والجماعة.
قلت: قد تقدم كلام الوصي ـ صلوات الله عليه ـ في شأنه وهو من رؤوس الناكثين؛ لما خرج الحسين - عليه السلام - من مكة إلى العراق ضرب عبد الله بن العباس بيده على منكب ابن الزبير وقال: خلا الجو ـ والله ـ لك يا ابن الزبير.
وسار الحسين إلى العراق، فقال: يا ابن عباس، والله ما ترون هذا الأمر إلا لكم، ولا ترون إلا أنكم أحق به من جميع الناس.
فقال ابن عباس: إنما يرى من كان في شك، ونحن من ذلك على يقين.
...إلى آخر ما في شرح النهج.
[تركه للصلاة على النبي وآله أربعين جمعة]
وقال الإمام يحيى بن عبد الله بن الحسن ـ عليهم السلام ـ فيه: وهو الذي ترك الصلاة على رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - أربعين جمعة في خطبته؛ فلما التاث عليه الناس، قال: إن له أهيل سوء، إذا صليت عليه أو ذكرته أتلعوا أعناقهم وأشرأبُّوا لذكره، فأكره أن أسرَّهم، أو أقرّ أعينهم، رواه أبو الفرج في المقاتل.
وفي الفرائد ما لفظه: فإن المسعودي وغيره رووا أنه ترك الصلاة على النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - في الخطبة أربعين جمعة قال: إنه ما تركها إلا لئلا تشمخ أنوف أقوام ـ يعني بني هاشم ـ.
وفي شرح النهج: وكان عبد الله بن الزبير يبغض علياً وينتقصه.
وروى عمرو بن شبة، وابن الكلبي، والواقدي، وغيرهم من رواة السير /121

(3/121)


أنه مكث أيام ادعائه الخلافة أربعين جمعة لا يصلي فيها على النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، وقال: لا يمنعني من ذكره إلا أن تشمخ رجال بآنافها.
وروى سعيد بن جبير : أن عبد الله بن الزبير قال لعبد الله بن عباس: ما حديث أسمعه عنك؟
قال: وما هو؟
قال: تأنيبي وذمي.
فقال: إني سمعت رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يقول: ((بئس المرء المسلم يشبع ويجوع جاره )).
فقال ابن الزبير: إني لأكتم بغض أهل هذا البيت منذ أربعين سنة.
[جواب محمد بن الحنفية على ابن الزبير]
قال: وروى عمرو بن شبة أيضاً عن سعيد بن جبير ، قال: خطب عبد الله بن الزبير، فنال من علي - عليه السلام -، فبلغ ذلك محمد بن الحنفية، فجاء إليه وهو يخطب، فوضع له كرسي، فقطع عليه خطبته، وقال: يا معشر العرب، شاهت الوجوه، أينتقص علي وأنتم حضور؟ إن علياً كان يد الله على أعداء الله، وصاعقة من أمره، أرسله على الكافرين والجاحدين لحقه، فقتلهم بكفرهم، فشنئوه وأبغضوه، وأضمرو له السيف والحسد، وابن عمه - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - حي بعد لم يمت، فلما نقله الله إلى جواره، وأحب له ما عنده، أظهرت له رجال أحقادها، وشفت أضغانها، فمنهم من ابتزّه حقه، ومنهم من ائتمر به ليقتله، ومنهم من شتمه وقذفه بالأباطيل.
إلى قوله: والله ما يشتم علياً إلا كافر يُسِرّ شتم رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، ويخاف أن يبوح به، فيكني بشتم علي - عليه السلام -، أما إنه قد تخطت المنية منكم من امتد عمره، وسمع قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه: ((لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق )) وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
فعاد ابن الزبير إلى خطبته، وقال: عذرت بني الفواطم يتكلمون، فما بال ابن أم حنيفة؟
فقال محمد: يا ابن أم رومان، وما لي لا أتكلم، وهل فاتني من الفواطم إلا واحدة، ولم يفتني فخرها؛ لأنها أم أخوي...إلخ /122

(3/122)


قال المقبلي في الأبحاث في بحث اختياره بقاء تحريم القتال في الأشهر الحرم، والأمكنة الحرم: ولو كانت الأحاديث أخباراً لم يقع شيء من ذلك، وإنما هو أمر خولف وظيفة الأفعال الخارجية من ابن الزبير فمن بعده، فهونت ذلك على النفوس، مع أن أحاديث الملحد في الحرم الذي عليه نصف عذاب أهل النار، ونحو ذلك، كثيرة متعاضدة المعنى.
وقال في الإتحاف: والأحاديث الواردة في أن أول من يلحد في الحرم كبش قريش، عليه نصف عذاب أهل النار، ومعناه متواتر لكثرة رواته، ولولا الورع واحترام ابن الزبير، والتجوز البعيد أن يصدق ذلك في غيره، لكان لا حاجة إلى اللجلجة...إلخ.
قال الإمام - عليه السلام -: فتأمل العصبية، وقد علم أنه الكبش الذي يلحد في حرم الله.
إلى قوله: ولا عليهم مما يلزمهم للقرابة، ولو جلّ وعظم، وتناسوا ما قرع أسماعهم، ورووه في كتبهم، عن النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - مثل: ((فانظروا كيف تخلفوني فيهم )) ومثل: ((أذكركم الله في أهل بيتي ـ ثلاثاً ـ)).
قال: وهذا ابن الزبير قد فتح هذه المعصية التي عظمها الفقيه، وهي عظيمة وفاقرة في حرم الله تعالى، ووصفه النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - بأنه ملحد، وأن عليه نصف عذاب أهل النار، وقد علم الفقيه أنه من رؤوس الناكثين، فلم تطب نفسه تبعاً لما أصّله أسلافه في هذه المسألة أن يقرر ويقول الحق.
إلى قوله: وهذا هو عذر المخالف، تواصوا به خلفاً عن سلف.
قال أبو عمر في الاستيعاب: وروي أن عبد الله بن صفوان بن أمية مَرّ يوماً بدار عبد الله بن عباس بمكة، فرأى فيها جماعة من طالبي الفقه، ومَرّ بدار عبيدالله بن عباس فرأى فيها جماعة ينتابونها للطعام، فدخل على ابن الزبير، فقال له: أصبحت والله كما قال الشاعر:
فإن تصبك من الأيام قارعة
لم نبك منك على دنيا ولا دين /123

(3/123)


قال: وما ذاك يا أعرج؟
قال: هذان ابنا عباس، أحدهما يفقه الناس، والآخر يطعم الناس، فما أبقيا لك مكرمة.
فدعا عبد الله بن مطيع ، وقال: انطلق إلى ابني عباس، فقل لهما: يقول لكما أمير المؤمنين: أخرجا عني أنتما ومن انضوى إليكما من أهل العراق، وإلا فعلت وفعلت.
فقال عبد الله بن عباس لابن الزبير: والله ما يأتينا من الناس إلا رجلان: رجل يطلب فقهاً، ورجل يطلب فضلاً، فأي هذين تمنع؟ وكان بالحضرة أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني، فجعل يقول:
لا درّ درّ الليالي كيف تضحكنا .... منها خطوبٌ أعاجيبٌ وتبكينا
ومثل ما تحدث الأيام من عبر .... في ابن الزبير عن الدنيا تسلّينا
كنّا نجيء ابن عباس فيسمعنا .... فقهاً ويكسبنا أجراً ويهدينا
ولا يزال عبيدالله مترعة .... جفانه مطعماً ضيفاً ومسكينا
فالبر والدين والدنيا بدارهما .... ننال منها الذي نبغي إذا شينا
إن النبي هو النور الذي كشطت .... به عمايات ماضينا وباقينا
ورهطه عصمة في ديننا لهم .... فضل علينا وحق واجب فينا
ففيم تمنعنا منهم وتمنعهم .... منّا وتؤذيهم فينا وتؤذينا
ولست فاعلم بأولاهم به رحماً .... يا ابن الزبير ولا أولى به دينا
لن يؤتي الله إنساناً ببغضهم .... في الدين عزاً ولا في الأرض تمكينا
[عبد الله بن زيد الخزرجي]
عبد الله بن زيد، أبو محمد الخزرجي، الذي نسب إليه رؤية الأذان في رواية العامة، شهد بدراً.
عنه: ابنه محمد، وابن المسيب.
توفي سنة اثنتين وثلاثين.
أخرج له: المؤيد بالله ، والأربعة.
قلت: وقيل: إنه استشهد بأحد /124

(3/124)


[عبد الله بن زيد بن عاصم]
عبد الله بن زيد بن عاصم، أبو محمد النَّجَّاري، يعرف بابن أم عمارة، ووهم ابن عيينة فجعله رائي الأذان، وله ولأبيه صحبة؛ شارك في قتل مسيلمة الكذاب.
قُتل يوم الحرة، سنة ثلاث وستين.
عنه: عباد بن تميم .
أخرج له: المؤيد بالله ، والجماعة.
[عبد الله بن سرجس]
عبد الله بن سرجس (بفتح المهملة، وإسكان المهملة الثانية، وكسر الجيم، فمهملة، منصرف لأنه عربي) المزني البصري.
عنه: عاصم الأحول .
أخرج له: المؤيد بالله ، ومسلم، والأربعة.
[عبد الله بن سلام]
عبد الله بن سلام ـ مخفف ـ أبو يوسف الإسرائيلي، من ولد يوسف - عليه السلام -، عالم أهل الكتاب؛ أسلم مقدم النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - المدينة.
عنه: ولده يوسف، وابن مسلمة، وغيرهما.
أخرج له: الهادي للحق، والمرشد بالله - عليهما السلام -، والجماعة.
توفي سنة ثلاث وسبعين.
قلت: والرواية بأنه المراد بقوله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } [الرعد:43]، غير صحيحة، بل هي نازلة في أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ.
روى الحاكم بسنده إلى أبي سعيد الخدري، عن النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم-: هو علي بن أبي طالب .
ورواه عن ابن عباس، وعن محمد بن الحنفية، وعن أبي صالح من طريقين، وعن أبي جعفر الصادق، وقال أبو صالح : قال ابن عباس: هو والله علي بن أبي طالب .
انتهى من شواهد التنزيل ؛ أفاده أيده الله في التخريج /125

(3/125)


[عبد الله بن الشخِّير]
عبد الله بن الشّخّير (بكسر المعجمتين المثقلتين، فتحتية ساكنة، فمهملة) أبو مطرف، كان من الطلقاء.
عنه: بنوه: مطرف، ويزيد، وهاني؛ لا يعرف موته.
أخرج له: الجرجاني - عليه السلام -، ومسلم، والأربعة.
كان أحد المبايعين للإمام الحسن بن الحسن - عليهما السلام -.
[عبد الله بن عامر بن ربيعة العنزي]
عبد الله بن عامر بن ربيعة العنزي ـ بإسكان النون ـ أبو محمد، روى عن أبيه، وعمرو.
وعنه: عاصم بن عبيد الله؛ كان سخياً جواداً.
توفي سنة خمس وثمانين.
أخرج له: الإمام أبو طالب ، والمرشد بالله.
قلت: وليس هو عامل عثمان كما سبق إلى بعض الأوهام؛ ذاك ابن عامر بن كرز، ولم يترجم له في الطبقات .
[عبد الله بن عُكيم]
عبد الله بن عُكيم (بعين مهملة مضمومة، فكاف، فتحتية، فميم، مصغر) أبو معبد، مخضرم.
عن أبي بكر، وعمر.
وعنه: ابن أبي ليلى، وابن مخيمرة.
مات في إمارة الحجاج.
أخرج له: المؤيد بالله ، وأبو طالب.
قلت: في شرح النهج: وكان عبد الله بن عكيم عثمانياً، وكان عبد الرحمن بن أبي ليلى علوياً، وفي مختصر الطبقات أنه ـ أي عبد الله بن عكيم ـ أحد مبغضي الوصي - عليه السلام -.
[عبد الله بن عمر بن الخطاب]
عبد الله بن عمر بن الخطاب، أبو عبد الرحمن، أسلم قديماً بمكة بإسلام أبيه، وشهد الخندق /126

(3/126)


وما بعدها؛ ذكر الناصر للحق فيما رواه الإمام أبو طالب أنه لم يقاتل مع علي - عليه السلام - في حروبه، مع أنه يفضل أمير المؤمنين علياً - عليه السلام - على من حاربه، وهو من أصحاب الألوف في الحديث.
توفي بمكة سنة ثلاث وسبعين، وله أربع وثمانون.
أخرج له: أئمتنا الخمسة، والجماعة.
عنه: جمع من الصحابة والتابعين، منهم بنوه: سالم، وحمزة، وعبيدالله، ونافع ـ قالوا: وهو أصح رواياته ـ وزيد بن أسلم ، وسعيد بن جبير، والشعبي، وعبد الله وعمرو ابنا دينار، وطاووس، ومجاهد، وعطاء بن السائب ، وابن سيرين، ومحارب بن دثار .
قلت: والعجب من ابن عمر، كيف تخلّف عن أمير المؤمنين - عليه السلام - مع علمه وتفضيله له، وكثرة رواياته فيه مما لا يحصر، نحو قوله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((من فارق علياً فقد فارقني، ومن فارقني فارق الله عز وجل )) أخرجه ابن المغازلي، عن مجاهد، عن ابن عمر؛ وأخرجه الطبراني في الكبير عنه، وقد أخرجه أحمد في المناقب ، والحاكم في المستدرك ، عن أبي ذر قال: سمعت رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يقول: ((يا علي، من فارقني فارق الله، ومن فارقك فقد فارقني )) وأخرجه الكنجي وابن المغازلي عن أبي ذر أيضاً.
وفي حديث بريدة لما شكى علياً - عليه السلام - ورسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يسمع، فخرج مغضباً وقال: ((ما بال أقوام ينتقصون علياً؛ من أبغض علياً فقد أبغضني، ومن فارق علياً فقد فارقني؛ إن علياً مني وأنا منه )).
وروى الحاكم أبو القاسم وغيره أنه كان يفضل الوصي - عليه السلام - على سائر الصحابة /127

(3/127)


قال الإمام محمد بن عبد الله في الفرائد: وروى البلاذري في تاريخه أن عبد الله بن عمر كتب إلى يزيد ـ لعنه الله ـ: أما بعد، فقد عظمت الرزية، وجلّت المصيبة، وحدث في الإسلام حدث عظيم، ولا يوم كيوم الحسين...إلخ.
فأجابه يزيد ـ لعنه الله ـ: أما بعد، يا أحمق، فإنا جئنا إلى قصور مشيدة، وفرش ووسائد منضدة، فقاتلنا عنها؛ فإن يكن الحق لنا فعن حقنا قاتلنا، وإن يكن الحق لغيرنا فأبوك أول من سَنّ وابتزّ واستأثر بالحق على أهله.
قلت: وهو كجواب أبيه معاوية على محمد بن أبي بكر، الذي رواه في الشافي ، وشرح النهج، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
قال نافع لابن عمر: مَنْ خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
قال: ما أنت وذاك لا أمّ لك.
ثم قال: أستغفر الله؛ خيرهم بعده من كان يحل له ما كان يحل له، ويحرم عليه ما كان يحرم عليه.
قلت: من هو؟
قال: علي، سد أبواب المسجد وترك باب علي، وقال له: ((لك في هذا المسجد ما لي، وعليك فيه ما عليّ، وأنت وارثي ووصيي، وتقضي ديني، وتنجز عداتي، وتُقْتل على سنتي؛ كذب من زعم أنه يبغضك ويحبني)) رواه ابن المغازلي عن جعفر بن محمد عن أبيه، أخرجه في تفريج الكروب .
قال الإمام محمد بن عبد الله: واسمع إلى حديث رواه مسلم وغيره، لما تغيظ أهل المدينة ومكة، واشتد عليهم قتل الحسين، خلعوا يزيد ـ لعنه الله ـ، وأقاموا عبد الله بن مطيع ، ثم دخل عليه ابن عمر؛ فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة.
فقال ابن عمر: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك؛ سمعت رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يقول: ((من خلع يداً من طاعة لقي الله ولا حجة له، ومن مات ليس في عنقه بيعة /128

(3/128)


مات ميتة جاهلية))؛ فتأمل ابن عمر أورد الحديث مطلقاً بدون قيده المعلوم عند الأمة من طاعة الله، وإقامة كتاب الله.
إلى قوله: وقد علم بأنه قتل الحسين، وسبى حريم رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وفعل كل طامة؛ وكأنه لما كتب إلى يزيد الملعون وأجاب عليه بما ألقمه الحجر.
إلى قوله: ولِمَ لم يدخل في بيعة من يدور معه الحق حيثما دار، وقد طلبه؟ وأخلى رقبته عن بيعة إمام الحق حقاً، فيما رواه من الحديث؛ فلو بادره الموت في حياة أمير المؤمنين لمات ميتة جاهلية بالنص الذي رواه؛ ولهذا قال علي - عليه السلام - له ولآخر: لم ينصرا الحق، ولم يخذلا الباطل.
وما باله ترك بيعة علي - عليه السلام -، وجاء إلى الحجاج يبايعه لعبد الملك بن مروان، وروى هذا الحديث؛ فقال له الحجاج: يا عبد الله إن يدي مشغولة، وهذه رجلي؛ فبايع رجله، واستنكر الحجاج ذلك منه، وتمنعه من بيعة علي؛ ولولا أنه روي من وجوه كثيرة توبة ابن عمر وأوبته لحكمنا بهلاكه، لكن الله تداركه.
قلت: وروى العلامة شارح النهج عن أصحاب المعتزلة، أن ابن عمر ومن معه من المتخلفين عن أمير المؤمنين - عليه السلام -، لم يتخلفوا عن البيعة، وإنما تخلفوا عن الحرب.
وروى عن أبي الحسين في الغرر ، أن أمير المؤمنين - عليه السلام - أعفاهم عن حضور الحرب.
هذا، ويمكن حمل ما وقع من ابن عمر مع الحجاج، على التقية؛ لكنه يشكل على ذلك روايته له للخبر؛ وكذا لا يمكن الحمل على التقية في كلامه لابن مطيع؛ وهذا على فرض صحة الروايتين ـ أعني دخوله على ابن مطيع وعلى الحجاج ـ والله أعلم /129

(3/129)


والذي يدل عليه كلام الإمامين المنصور بالله عبد الله بن حمزة ، والمنصور بالله محمد بن عبد الله ـ عليهم السلام ـ ثبوت التوبة، وكذا كلام غيرهما؛ وحسبك بهما.
وأما الخبر الذي رواه، فقيوده معلومة في الكتاب والسنة، نحو قوله تعالى: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } [البقرة:124].
وقد روى الإمام الأعظم زيد بن علي، عن آبائه، عن علي ـ عليهم السلام ـ: من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية؛ إذا كان الإمام عدلاً براً تقياً.
وروى أيضاً عن علي - عليه السلام -: وأيما إمام لم يحكم بما أنزل الله فلا طاعة له.
نعم، وقد تكاثرت الروايات عن ابن عمر بتوبته، وأخرج ابن عبد البر من طرق، أن ابن عمر قال حين حضرته الوفاة: ما آسى على شيء إلا أني لم أقاتل الفئة الباغية مع علي بن أبي طالب .
قال الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة - عليه السلام - في ابن عمر: وكان شديد الاجتهاد في طاعة الله تعالى، ورويت عنه ندامة عظيمة في تخلفه عن علي - عليه السلام -، وكان يتوضأ لكل صلاة، وله رواية وسيعة عن النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - على غفلة كانت فيه، ولم يختلف في الرواية عنه. انتهى المراد.
[عبد الله بن عمرو بن العاص]
عبد الله بن عمرو بن العاص، أسلم قبل أبيه، شهد مع أبيه فتوح الشام، وكان يلوم أباه في ملابسة الفتن.
توفي بمصر ـ وقيل غير ذلك ـ سنة ثلاث ـ أو خمس ـ وستين.
خرج له: الجماعة، وأئمتنا الخمسة إلا الجرجاني؛ وروى /130

(3/130)


عنه حفيده شعيب بن محمد في الأصح.
قلت: وهذا الحفيد هو والد المريد عمرو بن شعيب ، القائل لعمر بن عبد العزيز لما قطع سنة الملاعين: السنة السنة.
قال في الطبقات في الرواة عنه: وعبد الله بن يزيد بن الشخير ، والشعبي، وعكرمة، ويوسف بن ماهك ، وغير هؤلاء كعطاء بن السائب. انتهى.
قلت: وكان عبد الله هذا في حزب القاسطين، كما قال في الكشاف عند ذكره لخبر روي عنه ما لفظه: وأقول: أما كان لابن عمرو في سيفيه ومقاتلته بهما علي بن أبي طالب ـ رضوان الله عليه ـ ما شغله عن تسيير هذا الحديث.
قال الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة : ولما استعظم أهل العلم والدين كونه مع معاوية، مع ما هو عليه من المعرفة والعلم والدين، فلم يكن عمدته إلا أن قال: أمرني رسول الله بطاعة عمرو.
إلى قوله: وقد جرت منه هذه الهفوة، والله أعلم ما ختم العمل، ونسأل الله الثبات. انتهى.
وأخرج ابن عساكر عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه قال: كنتُ في مسجد رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - في حلْقة فيها أبو سعيد الخدري، وعبد الله بن عمرو بن العاص؛ فمرّ بنا حسين بن علي فسلم، فرد عليه القوم؛ فقال عبد الله بن عمرو: ألا أخبركم بأحب أهل الأرض إلى أهل السماء؟
قالوا: بلى.
قال: هو هذا الماشي؛ ما كلمني كلمة منذ ليالي صفين؛ ولأن يرض عني أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم.
فقال أبو سعيد: ألا تعتذر إليه؟
قال: بلى.
فاستأذن أبو سعيد فأذن له فدخل، ثم استأذن لعبد الله بن عمرو فلم يزل به حتى أذن له /131

(3/131)


فأخبره أبو سعيد بقول عبد الله بن عمرو.
فقال له: أعلمتَ يا عبد الله أني أحب أهل الأرض إلى أهل السماء؟
قال: إي ورب الكعبة.
قال: فما حملك على أن قاتلتني وأبي يوم صفين؛ فوالله لأبي كان خيراً مني.
قال: أجل، ولكن عمراً شكاني إلى رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، فقال: يا رسول الله، إن عبد الله يقوم الليل، ويصوم النهار.
فقال رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((يا عبد الله بن عمرو صَلِّ ونَمْ، وصُمْ وأفطر، وأطع عمراً ))، فلما كان يوم صفين، أقسم عليّ فخرجت؛ أما والله ما كثرت لهم سواداً، ولا اخترطت لهم سيفاً، ولا طعنتُ برمح، ولا رميتُ بسهم.
قال: فكلمه. انتهى.
قلت: وأخرج ابن عبد البر، عن ابن أبي مليكة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أنه كان يقول: مالي ولصفين، مالي ولقتال المسلمين؛ والله لوددت أني متّ قبل هذا بعشر سنين؛ ثم يقول: أما والله ما ضربتُ فيها بسيف، ولا طعنتُ برمح، ولا رميتُ بسهم؛ ووددت أني لم أحضر شيئاً منها، وأستغفر الله عز وجل من ذلك وأتوب إليه.
إلا أنه ذكر أنه كانت بيده الراية يومئذ؛ فندم ندامة شديدة على قتاله مع معاوية، وجعل يستغفر الله ويتوب إليه.
[عبد الله بن قرظ]
عبد الله بن قرظ (بضم القاف) الأزدي.
عنه: ابنه يحيى، وعفيف، وسليم بن عامر، كان اسمه شيطاناً، فسماه رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - عبد الله؛ في الشاميين.
توفي سنة ست وخمسين بأرض الروم.
أخرج له: المرشد بالله، وأبو داود، والنسائي /132

(3/132)


[عبد الله بن مالك]
عنه الأعرج، هو ابن بحينة؛ قد مر.
[عبد الله بن مسعود]
عبد الله بن مسعود بن غافلة ـ بمعجمتين بينهما ألف ـ أبو عبد الرحمن الهذلي الزهري حلفاً، الكوفي؛ كان من أهل السوابق، وهاجر قديماً، وشهد المشاهد كلها، وكان يسمى بابن أم عبد، نسبة إلى أمه، قرأ عليه النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - القرآن، وأمرهم بأخذ القرآن عنه.
توفي بالمدينة سنة اثنتين ـ أو ثلاث ـ وثلاثين، ودُفن بالبقيع.
أخرج له: الناصر للحق في البساط ، وأئمتنا الخمسة إلا الجرجاني، والجماعة.
عنه: إبراهيم بن يزيد بن الأسود ، والحسن البصري، وزر بن حبيش، وشقيق، وعلقمة، وعطاء بن يسار، وأبو عثمان النهدي ، وأبو الأحوص، وأبو عمرو الشيباني، والشعبي، ومسروق، وأبو رافع، وأبو صالح، وغيرهم؛ وأينما ورد عبد الله مطلقاً في كتب أئمتنا عليهم السلام وغيرهم فهو المراد، إلا في موضع واحد من أمالي أبي طالب في خبر: ((إذا توضأ العبد المؤمن وتمضمض خرجت الخطايا ...)) الخبر، فهو عبد الله الصنابحي.
قلت: قال الإمام المنصور بالله - عليه السلام -: هو المبرز المعروف بالحق، المشهور بنفاذ البصيرة، وفيه آثار كثيرة، وهو أحد العلماء الأربعة بعد رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، ولم يختلف أحد من أهل العلم أنه ثاني علي بن أبي طالب أمير المؤمنين - عليه السلام -، وإن اختلف في الثالث والرابع بين سلمان وعمر ومعاذ وأبي الدرداء، /133

(3/133)


وزيد. انتهى.
وقد سبق في ذكر أمير المؤمنين - عليه السلام - قول ابن مسعود - ضي الله عنه-: قرأتُ القرآن على رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وأتممته على خير الناس بعده علي بن أبي طالب ؛ أخرجه الإمام في الشافي ، وهو في مجمع الزوائد.
وفي الفرائد بلفظ: علي أفضل الناس بعد رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم-...إلخ؛ وأخرجه الخوارزمي بلفظ: قرأت على رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - سبعين سورة، وختمت على خير الناس علي بن أبي طالب.
وما رواه مرفوعاً: ((قُسِّمت الحكمة عشرة أجزاء، أُعطي الناس جزءاً وعلي تسعة أجزاء ))، أخرجه أبو نعيم، وابن المغازلي، والحاكم، والكنجي، والخوارزمي، والبردعي، وابن النجار، عن عبد الله، عنه - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
وفي أمالي المرشد بالله - عليه السلام - بسنده: أن عبد الله قيل له حين قال: لو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغنيه الإبل لأتيته، قيل: علي؛ قال: عليه قرأت، وبه بدأت.
وقد سبق ذكره، مع مَنْ ذكر في الفصل الثاني من الصحابة رضي الله عنهم.
[عبد الله بن مُغَفَّل]
عبد الله بن مغفّل (بضم الميم، وفتح الغين المعجمة، وتشديد الفاء، فلام) ابن سعد المزني، من أهل بيعة الرضوان، تحول إلى البصرة، وتوفي بها سنة ستين.
عنه: الحسن، وأبو إسحاق، وعقبة بن صهبان ، وغيرهم.
أخرج له: الهادي للحق، والأخوان، والجماعة.
[عبد الله الصناحبي]
عبد الله الصناحبي (بضم المهملة، وألف بعد النون، فمهملة، فموحدة ـ كذا في /134

(3/134)


الطبقات ـ وفي الإصابة بتقديم الموحدة على الحاء المهملة) قال أبو عبد الله ـ أي البخاري ـ: وَهِم مالك، وإنما هو أبو عبد الله، واسمه عبد الرحمن بن عسيلة .
قال ابن معين: يشبه أن يكون له صحبة.
خرج له: أبو طالب ، ومالك، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
[عبد الرحمن بن أبي بكر]
عبد الرحمن بن أبي بكر، أسلم في هدنة الحديبية، وشهد مع أخته الجمل، ومع ابن العاص دومة الجندل، وفتح مصر.
توفي فجأة بقرب المدينة، سنة ثلاث وخمسين.
خرج له: المرشد بالله، والجماعة.
[عبد الرحمن بن أبزى ]
عبد الرحمن بن أبزى (بفتح الهمزة، وسكون الموحدة، فزاي، فألف) صلى خلف النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
قال البخاري: له صحبة.
ولاه أمير المؤمنين - عليه السلام - خراسان، وقال عمر فيه: إنه ممن رفعه الله بالقرآن.
روى عن علي، وأبي بكر، وعمر، وأبي، وعمار.
وعنه: ابنه سعيد، والشعبي.
روى عن رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - اثني عشر حديثاً.
خرج له: المؤيد بالله ، ومحمد، والجماعة.
[عبد الرحمن بن سمرة ]
عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب القرشي، من الطلقاء، أسلم يوم الفتح، وافتتح /135

(3/135)


سجستان وكابل؛ وهو الذي قال له النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((لا تسأل الإمارة )).
عنه: الحسن، وابن سيرين.
سكن البصرة، ومات بها، سنة خمسين أو بعدها.
أخرج له: المؤيد بالله ، والمرشد بالله.
[عبد الرحمن بن عوف]
عبد الرحمن بن عوف، أبو محمد، القرشي، الزهري، أسلم قديماً وهاجر، وشهد المشاهد.
توفي سنة إحدى ـ أو ثلاث ـ وثلاثين، ودُفن بالبقيع.
عنه: بنوه: إبراهيم، ومحمد، ومصعب، وأبو سلمة.
أخرج له: أئمتنا الثلاثة: المؤيد بالله ، وأبو طالب، والمرشد بالله، والجماعة.
قلت: وما وقع منه يوم الشورى من ميله عن أمير المؤمنين، وعرضه عليه البيعة، على أن يسير على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين، وامتناعه عن ذلك، بل على كتاب الله وسنة رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، وعدوله إلى عثمان، وقول أمير المؤمنين - عليه السلام -: والله ما فعلتها إلا أنك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه، ودعا عليه وعلى عثمان، واستجاب الله دعوته، ففسد الحال بينهما، وتعاديا، ولم يكلم أحدهما صاحبه حتى مات عبد الرحمن ـ كلّ ذلك مشهور، وعند جميع الطوائف على الصحائف مسطور، وإلى الله ترجع الأمور.
[عبد الرحمن بن غنم]
عبد الرحمن بن غنم (بمعجمة مضمومة، فنون، فميم) الأشعري، اختلف في صحبته.
عنه: ممطور، وعمير بن هاني .
وكان من العلماء، توفي سنة ثمان وثمانين /136

(3/136)


أخرج له: المرشد بالله، والبخاري في الأدب، والأربعة.
قلت: قال ابن عبد البر: وكانت له جلالة وقدر، وهو الذي عاتب أبا هريرة، وأبا الدرداء بحمص، إذ انصرفا من عند علي - رضي الله عنه - رسولين لمعاوية، وكان مما قال لهما: عجباً منكما، كيف جاز عليكما ما جئتما به.
إلى قوله: وقد علمتما أنه قد بايعه المهاجرون والأنصار، وأهل الحجاز والعراق، وأن من رضيه خير ممن كرهه.
إلى قوله: وأي مدخل لمعاوية في الشورى، وهو من الطلقاء، الذين لا تجوز لهم الخلافة، وهو وأبوه من رؤوس الأحزاب.
فندما على مسيرهما، وتابا منه بين يديه.
قلت: المشهور أن المصاحب لأبي هريرة في ذلك النعمان بن بشير، وهو الذي في شرح النهج؛ وأما أبو الدرداء فإنه توفي في أيام عثمان، كما صححه هو في الاستيعاب وغيره.
هذا، وكون غنم بالضم هو الذي في الطبقات ، وفي الإصابة بالفتح، وفيها وفي الاستيعاب أن وفاته سنة ثمان وسبعين.
[عبد المطلب بن ربيعة بن عبد المطلب بن هاشم]
عبد المطلب بن ربيعة بن عبد المطلب بن هاشم ـ ويقال: ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ـ الهاشمي، صحابي.
روى عنه: عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي ، وابنه.
توفي سنة اثنتين وستين.
أخرج له: الإمام المرشد بالله، وأبو داود، ومسلم، والنسائي.
[عبيدالله بن العباس]
عبيدالله بن العباس بن عبد المطلب ، أبو محمد، ابن عم رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - له أحاديث.
عنه: /137

(3/137)


ابنه عبد الله، وابن سيرين.
ولي اليمن لعلي - عليه السلام -.
توفي سنة ثمان وخمسين، وقيل غير ذلك.
وهو الذي ذَبَحَ ولديه الطفلين عدوّ الله بسرُ بن أرطأة باليمن.
قلت: وقد وقفتُ على المصحف العظيم، الذي كتبه الوصي علي بن أبي طالب ـ عليه الصلاة والسلام ـ، بخط يده الكريمة المطهرة، بخزانة الجامع الكبير بصنعاء، وهو ملطخ بدم الشهيدين، ولم يؤثر الدم في محو شيء من الخط، وهو بهيّ مبجّل ـ صلوات الله وسلامه على راسمه ـ.
[عبيدالله بن محصن]
عبيدالله بن محصن الأنصاري الخطمي، عنه: ولده سلمة، وفي الكاشف: عبد الله مكبراً.
أخرج له: الجرجاني، والترمذي، وابن ماجه.
قلت: قال ابن عبد البر: روى عن النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((من أصبح آمناً في سربه، معافى في جسمه، معه قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا )) منهم من جعل هذا الحديث مرسلاً، وأكثرهم يصحح صحبته...إلخ.
قلت: في النهاية : يقال: فلان آمن في سربه بالكسر، أي في نفسه، وفلان واسع السرب، أي رخي البال، ويروى بالفتح، وهو المسلك والطريق.
[عبيد بن حداد]
عبيد بن حداد، عنه: يعلى بن أسد .
رمز في الطبقات إلى أنه أخرج له الجرجاني /138

(3/138)


[عبيد بن فرقد]
عبيد بن فرقد، أبو عبد الله السلمي، عن جلّة أصحاب رسول الله، غزا مع رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - غزوتين، سكن الكوفة.
وفرقد (بفتح الفاء، وبالراء مهملة).
عنه: قيس بن أبي حازم ، والشعبي.
خرج له: المرشد بالله.
[عتاب بن أسيد ]
عتاب (بفتح أوله، وتقديم المثناة الفوقية المثقلة) بن أسيد (بفتح الهمزة) بن أبي العيص (بكسر المهملة الأولى) الأموي، أبو عبد الرحمن، من مسلمة الفتح، وولي للنبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - مكة، وله عشرون سنة.
مات سنة إحدى وعشرين، ذكره الطبراني .
عنه: سعيد بن المسيب ، وعطاء.
أخرج له: المؤيد بالله ، والجماعة.
[عثمان بن عفان]
عثمان بن عفان، أبو عمرو القرشي الأموي، أسلم بعد نيف وثلاثين، وهاجر إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، ولم يحضر بدراً، وبويع له سنة أربع وعشرين.
وكان سبب حصره أنه كان كلفاً بأقاربه، وكانوا أقارب سوء، فجرت أمور ذِكْرها يخرجنا عن المقصود، فَقُتل في ثاني عشر الحجة، سنة خمس وثلاثين، وله تسعون سنة.
عنه: ولده أبان، وشقيق، والحارث بن نوفل، وحميد بن عبد الرحمن ، وغيرهم.
أخرج له: أئمتنا الخمسة، والجماعة، انتهى بتصرف /139

(3/139)


قلت: وأحداثه مشهورة، وكلمات الوصي - عليه السلام - العلمية العصمية في شأنه معلومة، وفيها ـ كما قال الإمام المنصور بالله - عليه السلام - لأهل العلم مجال واسع.
[عثمان بن مظعون]
عثمان بن مظعون (بمعجمة مشالة، فمهملة) بن حبيب، أبو السائب الجمحي، أسلم قديماً، وهاجر الهجرتين، وشهد بدراً، وكان يصوم النهار ويقوم الليل.
توفي بعد سنتين من الهجرة، ويقال: إنه أول الصحابة موتاً.
أخرج له: الإمامان أبو طالب والمرشد بالله، ومحمد.
قلت: وفي الاستيعاب والإصابة: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبله بعد ما مات، وهو أول من دُفن بالبقيع، ووضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجراً عند رأسه وقال: ((هذا قبر فرطنا ))، ولما توفي إبراهيم ابن النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - قال - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((الحق بالسلف الصالح عثمان بن مظعون )).
[عثمان بن أبي العاص]
عثمان بن أبي العاص الثقفي الطائفي، أبو عبد الله، قدم على رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - سنة تسع، واستعمله النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - على الطائف، ولم يزل عليها حتى استعمله عمر على عمان والبحرين، ثم نزل البصرة، وبها توفي سنة إحدى وخمسين.
عنه: ابن المسيب ، ونافع بن جبير، ومطرف، والحسن، وغيرهم.
أخرج له: المؤيد بالله ، وأبو طالب، ومحمد، ومسلم، والأربعة /140

(3/140)


[عدي بن حاتم الطائي]
عدي بن حاتم الطائي، الجواد بن الجواد، قدم على رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - سنة تسع، فأكرمه وفرح بإسلامه، وشهد فتوح العراق وكسرى، وفتوح الشام، وشهد مع أمير المؤمنين - عليه السلام - حروبه، وكان من خلّص أصحابه ومحبيه؛ ثم نزل الكوفة ومات سنة ثمان وستين، عن مائة وعشرين.
خرج له: الجماعة، وأئمتنا الخمسة، إلا المؤيد بالله .
[عدي بن زيد الجذامي]
عدي بن زيد الجذامي، له حديث.
عنه: داود بن الحصين ، وعبد الله بن أبي سفيان .
خرج له: أبو داود ؛ كذا في الطبقات ، ولم يذكر أنه خرج له أحد من أئمتنا.
[العرباض بن سارية]
العرباض (بكسر العين، وسكون الراء، فموحدة، فألف، فضاد معجمة) بن سارية السلمي، أبو نجيح (بفتح النون، وكسر الجيم) من أهل الصفة، سكن حمص.
عنه: أبو أمامة، وجماعة.
توفي سنة خمس وسبعين.
أخرج له: الإمام أبو طالب ، والأربعة.
[عروة بن الجعد]
عروة بن الجعد (بجيم فمهملتين) البارقي ـ وعن ابن المديني أنه ابن أبي الجعد ـ أول من ولي القضاء بالكوفة.
عنه: الشعبي ، والسبيعي، وغيرهما.
أخرج له: الجماعة، ومحمد بن منصور حديث الأضحية، وعبد الرزاق وابن أبي شيبة حديث: أعطاه ديناراً /141

(3/141)


[عروة بن مضرس ]
عروة بن مضرّس (بضم الميم، وفتح الضاد معجمة، وكسر الراء مشددة) الطائي، شهد حجة الوداع، له أحاديث؛ عداده في الكوفيين.
أخرج له: الأخوان، والأربعة.
[عفيف الكندي]
عفيف الكندي، عمّ الأشعث، صحابي.
عنه: ابنه إياس.
أخرج له: أبو طالب ، والنسائي، وابن عدي، وابن عساكر؛ انتهى ما أفاده في الطبقات .
قلت: هو من رواة خبر صلاة أمير المؤمنين، وخديجة بنت خويلد - عليهما السلام - مع الرسول - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وليس أحد يعبد الله في الأرض غير هؤلاء الثلاثة، أخرجه الإمام أبو طالب ، والإمام المنصور بالله - عليهما السلام -، والكنجي، ومحمد بن سليمان الكوفي، والبخاري في تاريخه، والنسائي، والبغوي، وابن أبي خيثمة، وابن مندة، وصاحب الغيلانيات، وابن عبد البر.
عن إسماعيل بن إياس بن عفيف عن أبيه عن جده.
وفي الاستيعاب: من كلام العباس له: ولم يتبعه إلا امرأته وابن عمه هذا الفتى، وهو يزعم أنه سيفتح له كنوز كسرى وقيصر.
قال: وكان عفيف يقول وقد أسلم وحسن إسلامه: لو كان الله رزقني الإسلام يومئذ، كنت ثانياً مع علي بن أبي طالب .
وأخرجه عن يحيى بن عفيف الحاكم الحسكاني ، والكنجي، والنسائي، وأبو يعلى الموصلي، وابن عبد البر، وقال: حديث حسن جداً، وفي روايته من كلام العباس: ولا والله ما أعلم على وجه /142

(3/142)


الأرض أحداً على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة. انتهى.
وأخرجه أبو جعفر الإسكافي عن خالد بن نافع عن عفيف.
وأخرج أبو جعفر والخوارزمي عن ابن مسعود نحو حديث عفيف، وفيه: إذْ أقبل رجل من باب الصفا، وعليه ثوبان أبيضان، وله وفرة إلى أنصاف أذنيه جعدة، أشم، أقنى، أدعج العينين، كث اللحية، براق الثنايا، أبيض تعلوه حمرة، كأنه القمر ليلة البدر، وعلى يمينه غلام مراهق، أو محتلم حسن الوجه، تقفوهم امرأة قد سترت محاسنها، حتى قصدوا نحو الحجر، فاستلمه واستلمه الغلام، واستلمته المرأة.
إلى قوله: فقلنا: يا أبا الفضل، إن هذا الدين ما كنا نعرفه فيكم.
قال: أجل والله.
قلنا: فمن هذا؟
قال: هذا ابن أخي محمد بن عبد الله، وهذا الغلام ابن أخي أيضاً، هذا علي بن أبي طالب ، وهذه المرأة زوجة محمد خديجة بنت خويلد ، والله ما على وجه الأرض أحد يدين بهذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة.
انتهى من شرح النهج؛ وقد جمع طرقه ـ أيده الله ـ في تخريج الشافي .
[عقبة بن عامر الجهني]
عقبة ـ بضم أوله ـ بن عامر الجهني، القضاعي؛ كان في حزب القاسطين أيام صفين، ذكره ابن الأثير وابن حجر وغيرهما، وتولى مصر لمعاوية، وبها مات، سنة ثمان وخمسين.
عنه: إياس بن عامر ، وشعيب، والد عمرو وغيرهما.
أخرج له: أئمتنا الخمسة، والجماعة.
قلت: وقد مَرّ الوجه في الرواية عنه وعن أمثاله /143

(3/143)


[عقيل بن أبي طالب]
عقيل بن أبي طالب بن هاشم، ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
في رواية الإمام أبي طالب أنه أسلم يوم بدر هو والعباس ونوفل بن الحارث، وشهد مؤتة، وكان أنسب قريش؛ وقال له النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((إني أحبك حبين: لحب أبي طالب، وحبي إياك )) رواه الجرجاني.
قلت: ورواه ابن عبد البر، وابن أبي الحديد .
قال السيد الإمام: له أحاديث رواها عنه ابنه محمد، والحسن البصري.
توفي في خلافة معاوية.
أخرج له: أبو طالب ، والجرجاني، والنسائي، وابن ماجه؛ وله ذكر في مجموع زيد بن علي في الوكالة.
قلت: والصحيح أنه لم يصل إلى معاوية إلا بعد وفاة أمير المؤمنين عليه السلام.
قال شارح النهج: وهذا هو الأظهر عندي، وعرض نفسه وولده على أمير المؤمنين - عليه السلام - فأعفاه، وجوابه عليه في النهج وغيره؛ وله جوابات على معاوية مسكتة، منها: قوله وقد سأله أين يكون عمك أبو لهب؟
قال: إذا دخلت جهنم فاطلبه تجده مضاجعاً لعمتك أم جميل بنت حرب بن أمية ـ يعني حمالة الحطب ـ.
[عمار بن ياسر ]
عمار بن ياسر ، أبو اليقظان العنسي المذحجي، من السابقين الأولين المعذبين في الله أشد العذاب؛ شهد المشاهد كلها، وكان مخصوصاً منه بالبشارة والترحيب، وقال له: ((مرحباً بالطيب /144

(3/144)


المطيب ))، وقال: ((عمار جلدة بين عيني وأنفي )) وقال: ((تقتلك الفئة الباغية ))، وقال: ((ويح عمار يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار )).
استشهد مع أمير المؤمنين - عليه السلام - بصفين، سنة سبع وثلاثين ـ رضوان الله وسلامه ورحمته عليه ـ وكان من خلّص أصحابه ومحبيه.
عنه: ابنه محمد، وأبو الطفيل، وغيرهما.
خرج له: أئمتنا الخمسة، والجماعة.
وظهر باستشهاده ـ رضوان الله عليه ـ علم من أعلام النبوة، بتصديق الأخبار أنها تقتله الفئة الباغية، الداعية إلى النار، وتحقق للأغمار، تعيين أصحاب البغي القاسطين الفجار، ولم يستطيعوا مدافعة النصوص الصريحة المتواترة بردّ ولا إنكار.
قال ابن حجر: وتواترت الأحاديث عن النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - أن عماراً تقتله الفئة الباغية، وأجمعوا أنه قُتل مع علي بصفين، سنة سبع وثلاثين، وله ثلاث وتسعون سنة؛ واتفقوا أنه نزل فيه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ }...إلخ [النحل:106].
وفي الاستيعاب لابن عبد البر: بالسند إلى ابن عباس في قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ } قال: عمار بن ياسر ، {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } [الأنعام:122]، قال: أبو جهل بن هشام .
وقال رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((إن عماراً مُليء إيماناً إلى مشاشه))، وروي: ((إلى أخمص قدميه ))، وروي فيه بسنده إلى عائشة أنها قالت: سمعت رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يقول: ((مُليء عمار إيماناً إلى أخمص قدميه )).
وقال عبد الرحمن بن أبزى : شهدنا مع علي - رضي الله عنه - صفين /145

(3/145)


في ثمانمائة ممن بايع بيعة الرضوان، قتل منهم ثلاثة وستون، منهم: عمار بن ياسر .
قال: ومن حديث خالد بن الوليد ، أن رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - قال: ((من أبغض عماراً أبغضه الله تعالى )).
قال: ومن حديث أنس، عن النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - أنه قال: ((اشتاقت الجنة إلى علي وعمار وسلمان وبلال )).
ثم ساق إلى قوله: وفضائله كثيرة يطول ذكرها.
قال: وروى الأعمش بن أبي عبد الرحمن السلمي ، قال: شهدنا مع علي - رضي الله عنه - صفين.
إلى قوله: وسمعت عماراً يقول يومئذ لهاشم بن عتبة: يا هاشم تقدم، الجنة تحت البارقة، اليوم ألقى الأحبة، محمداً وحزبه، والله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحق، وهم على الباطل.
ثم قال:
نحن ضربناكم على تنزيله .... فاليوم نضربكم على تأويله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله .... ويذهل الخليل عن خليله
أو يرجع الحق إلى سبيله
قال: فلم أر أصحاب محمد - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - قتلوا في موطن ما قتلوا يومئذ.
قال: وروى وكيع، عن شعبة، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة، قال: لكأني أنظر إلى عمار يوم صفين، واستسقى فأتي بشربة من لبن؛ فشرب، فقال: اليوم ألقى الأحبّة؛ إن رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - عهد إلي أن آخر شربة تشربها من الدنيا شربة لبن؛ ثم استسقى فأتته امرأة طويلة اليدين بإناء فيه ضياح من لبن، فقال عمار حين شربه: الجنة تحت الأسنة؛ والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أن مصلحنا على الحق، وأنهم على الباطل.
قال: وتواترت الآثار عن النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - أنه قال: ((تقتل عماراً الفئة /146

(3/146)


الباغية )) وهذا من إخباره بالغيب، وأعلام نبوته - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -. انتهى المراد.
قلت: وجميع ذلك مأثور، وفي صحائف الإسلام مزبور، وقد رأيت إيراد ما ذكر من هذه الطريق، والله تعالى ولي التوفيق.
فانظر إلى كلام ابن عبد البر، وابن حجر، وغيرهما من حفاظ المحدثين، ثم يتوليان القاسطين الباغين، ولله القائل:
قال النواصب قد أخطا معاوية .... في الاجتهاد وأخطأ فيه صاحبهُ
قلنا كذبتم فلم قال النبي لنا .... في النار قاتل عمّار وسالبهُ؟
نعوذ بالله من الخذلان، وهو المستعان.
[عمر بن الخطاب ]
عمر بن الخطاب ، أبو حفص القرشي، أسلم بعد خروج مهاجرة الحبشة، على يدي أخته فاطمة، وزوجها سعيد بن زيد، في قصة طويلة، وفي الطبقات كما في كتب العامة أنه أول من تسمى بأمير المؤمنين.
قلت: الحق أن أمير المؤمنين حقاً، أول من تسمى بأمير المؤمنين، بأمر رب العالمين، على لسان سيد المرسلين ـ صلى الله وسلم عليهم أجمعين ـ فقد أمرهم رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - أن يسلموا عليه بأمير المؤمنين، أخرج ذلك الإمام المرشد بالله - عليه السلام - في الأمالي بسنده إلى بريدة.
وأخرجه الإمام المنصور بالله - عليه السلام - عنه في الشافي ، وشواهد ذلك شهيرة معلومة منيرة، وقد سبق من ذلك نصوص كثيرة.
فأما عمر فأول من سماه بذلك المغيرة بن شعبة، أو عمرو بن /147

(3/147)


العاص، على اختلاف الرواية كما ذكر ذلك ابن عبد البر وغيره من أهل التواريخ؛ ولا يفهم من أمير المؤمنين عند الإطلاق إلا سيد الوصيين، وأخو سيد النبيئين ـ صلى الله وسلم عليهم أجمعين ـ بالاتفاق؛ فشتان ما بين تسمية على لسان سيد ولد عدنان - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وتسمية ما أنزل الله بها من سلطان.
هذا، وقد كان عمر كثير الاعتراف لأمير المؤمنين - عليه السلام -، وقد سبق شيء من ذلك، ومما هو معلوم مشتهر: (لولا علي لهلك عمر).
نعم، بويع له بالخلافة صبيحة وفاة أبي بكر، وطعنه أبو لؤلؤة فيروز، غلام المغيرة بن شعبة، فتوفي لأربع بقين من ذي الحجة، سنة ثلاث وعشرين.
أخرج له: الجماعة، وأئمتنا الخمسة؛ وله ذكر في المجموع والأحكام.
عنه: حميد بن عبد الرحمن ، وسويد بن غفلة.
[عمر بن أبي سلمة]
عمر بن أبي سلمة المخزومي، ربيب رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - ولد بالحبشة مع أبويه في الثانية من الهجرة الأولى، وتزوج رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - أمه أم سلمة سنة أربع من الهجرة، فنشأ في حجره، وعلمه أدب الأكل.
شهد مع علي - عليه السلام - الجمل، واستعمله - عليه السلام - على فارس والبحرين.
توفي سنة ثلاث وثمانين.
أخرج له: أبو طالب ، والمرشد بالله، والجماعة.
عنه: ولده محمد، وعطاء بن أبي رباح /148

(3/148)


[عمر بن عوف]
عمر بن عوف.
عنه: ابنه عبد الله.
والصواب عمرو بفتح أوله؛ يأتي إن شاء الله تعالى.
خرج له: المؤيد بالله .
(فصل العين المهملة المفتوحة)
[عمرو بن تغلب]
عمرو بن تغلب (باثنتين من أعلى ثم معجمة، وآخره موحدة) هو الجواثي (بضم الجيم، آخره مثلثة).
عنه: الحسن.
خرج له: المرشد بالله، والبخاري، والنسائي، وابن ماجه.
[عمرو بن حريث المخزومي]
عمرو بن حريث المخزومي أبو سعيد الكوفي، عنه: ابنه جعفر، والحسن العرني .
توفي سنة خمس وثمانين.
خرج له: مسلم، والأربعة، والسمان.
[عمرو بن الحارث]
عمرو بن الحارث بن أبي ضرار الخزاعي المصطلقي أخو جويرية أم المؤمنين، بقي إلى بعد الخمسين، له رواية عن النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، وعن ابن مسعود .
وعنه: عيسى بن دينار.
أخرج له: أبو طالب ، ومحمد، والجماعة.
[عمرو بن حزم]
عمرو بن حزم (بفتح المهملة، وسكون الزاي) بن زيد الأنصاري الخزرجي أبو الضحاك؛ شهد الخندق، وولي نجران، وبعث معه النبي صلى الله عليه وآله وسلم /149

(3/149)


بكتاب فيه الفرائض، والسنن، والصدقات، والجروح، والديات، وكتابه مشهور؛ روى منه المؤيد بالله - عليه السلام - وخرجه جميعه أبو الغنائم النرسي في الأربعين ، ورواه أبو داود ، والنسائي متفرقاً.
عنه: ابنه محمد.
توفي سنة إحدى وخمسين.
قلت: وفي الاستيعاب: وقد قيل: إن عمرو بن حزم توفي في خلافة عمر بن الخطاب .
وفي الإصابة: قال أبو نعيم: مات في خلافة عمر، كذا قال إبراهيم بن المنذر في الطبقات ، ويقال: بعد الخمسين، قال: وهو أشبه بالصواب، ففي مسند أبي يعلى بسند رجاله ثقات أنه كلم معاوية في أمر بيعته ليزيد بكلام قوي؛ وفي الطبراني وغيره أنه روى لمعاوية وعمرو بن العاص حديث ((تقتل عماراً الفئة الباغية ))، والله أعلم.
[عمرو بن الحمق ]
عمرو بن الحَم ِق (بفتح المهملة، وكسر الميم، فقاف) بن حبيب الخزاعي؛ هاجر بعد الحديبية، وكان ممن دخل الدار على عثمان، ثم انضم إلى علي عليه السلام، وشهد معه الجمل، وصفين، والنهروان، وكان من خلّص أصحابه.
قتله عبد الرحمن بن عثمان الثقفي بالموصل، سنة إحدى وخمسين، وبعث برأسه إلى معاوية؛ وهو أول رأس أهدي في الإسلام.
وكان رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - قال له: ((يا عمرو أتحب أن أريك آية الجنة؟)) قال: نعم يا رسول الله؛ فمرّ علي بن أبي طالب ، فقال: ((هذا وقومه آية الجنة )).
عنه: أبو عامر الحضرمي .
خرج له: أبو طالب ، والنسائي، وابن ماجه.
[عمرو بن العاص]
عمرو بن العاص بن وائل السهمي، أبو محمد؛ كان من رؤوس القاسطين الباغين /150

(3/150)


بالنص المتواتر؛ وكان كثير الإقرار، بحق إمام الأبرار، مع ما هو فيه من الإصرار؛ وهو من رواة حديث عمار؛ وتطابق حاله وحال معاوية، فقد كانا في الغاية من المكر والدهاء والاغترار، بحلم الملك الجبار، والإملاء في هذه الدار.
* لا خير في لذّة من بعدها النار *
وحسبه من العار في الدنيا، واقعته التي تخلص بها من ذي الفقار، حتى ضُربت بها الأمثال في الأشعار؛ قال الشاعر:
ولا خير في دفع الردى بمذلة .... كما رَدّها يوماً بسوأته عمرو
ولله قول القائل:
قال النواصب قد أخطا معاوية .... في الاجتهاد وأخطا فيه صاحبهُ
قلنا كذبتم فلم قال النبي لنا .... في النار قاتل عمار وسالبهُ؟
وفاته بمصر سنة ثلاث وأربعين عن سبعين سنة.
لم يخرج له أئمتنا شيئاً في الأحكام ؛ إنما له ذكر عند محمد في التيمم، وعند الهادي في القنوت، وعند أبي طالب في قتل حريث مولى معاوية؛ وأخرج له الجماعة.
[عمرو بن عنبسة]
عمرو بن عِنبسة (بكسر المهملة، وبنون، ثم موحدة، كذا فيما نقلناه) والصواب أنه ابن عَبَسة (بفتح المهملة، والموحدة، وحذف النون) ابن عامر بن خلد السلمي، أبو نجيح، أسلم قديماً، وفي مسلم أنه رابع أربعة في الإسلام، وكذا عند النرسي.
أخرج له: مسلم، والأربعة، وأبو الغنائم النرسي.
قلت: ومحمد بن منصور في الأمالي في النكاح بلفظ: عن أبي نجيح السلمي قال: قال رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((من كان له ما يتزوج به فلم يتزوج فليس منا )) انتهى /151

(3/151)


واسمه في الاستيعاب والإصابة والخلاصة على ما صوبه، وبيض لوفاته في الطبقات .
وفي الإصابة: وأظنه مات في أواخر خلافة عثمان، فإنني لم أر له ذكراً في الفتنة...إلخ.
[عمرو بن عوف المزني]
عمرو بن عوف المزني، أبو عبد الله، قديم الإسلام، أول مشاهده الخندق، أحد البكائين، الذين عذرهم الله في تبوك.
عنه: ابنه عبد الله، والمسور بن مخرمة.
توفي آخر أيام معاوية.
أخرج له: الجماعة، والمؤيد بالله، والمرشد بالله.
[عمرو بن عوف الفَعْوي]
عمرو بن عوف الفَعْوي (بفتح الفاء، وسكون المهملة) الخزاعي.
عن هند بنت اللحوف ، وعنه: ولده عبد الله.
أخرج له: أبو طالب ، وأبو داود.
[عمرو بن كعب اليماني]
عمرو بن كعب اليماني، له حديث في مسح الرأس، رواه عنه ولده مُصَرِّف، كذا في أبي داود، وجزم به في الخلاصة ، وذكره في التقريب .
أخرج له: المؤيد بالله ، ومحمد.
والرواية عن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده.
[عمران بن الحصين ]
عمران بن الحصين أبو نُجَيد (بضم النون، وفتح الجيم) الخزاعي البصري، أسلم عام خيبر، وشهد ما بعد ذلك؛ وكان من فضلاء الصحابة.
قلت: وقد نزهه في شرح النهج عن الانحراف، وروي أنه كان ممن يفضل الوصي - عليه السلام -، وهو الظن به لمكانه في الإسلام.
قال: /152

(3/152)


وكان مجاب الدعوة، مات بالبصرة، سنة اثنتين وخمسين.
أخرج له: الجماعة، وأئمتنا الخمسة، إلا الجرجاني.
عنه: أبو رجاء العطاردي ، وعبد الله بن بردة ، وأبو نضرة ، والحسن البصري.
[عوف بن مالك]
عوف بن مالك، أبو محمد الأشجعي الغطفاني، أول مشاهده الفتح، وكان حامل راية قومه.
توفي بدمشق، سنة ثلاث وسبعين في الأصح.
أخرج له: الجماعة.
[عياش بن أبي ربيعة المخزومي]
عياش: (بتحتية مثناة، ثم معجمة) ابن أبي ربيعة المخزومي؛ أسلم قديماً، وهاجر إلى الحبشة، ثم هاجر إلى المدينة.
قُتل يوم اليرموك، أو اليمامة، سنة خمس عشرة.
أخرج له: المؤيد بالله ، وابن ماجه.
[عياض بن حماد]
عياض بن حماد (بكسر المهملة الأولى) بن أبي حماد بن ناجية بن عقال بن عرفجة بن ناجية بن سفيان ـ وفي جامع الأصول : ابن عقال أبو محمد بن سفيان، واتفقا ـ بن دارم، زاد المرشد بالله: ابن مالك بن حنظلة، ورفع نسبه إلى مضر بن نزار.
قال: من ساكني البصرة، قال في الجامع: المجاشعي التميمي.
قال المرشد بالله: وقد قيل في نسبه غير ذلك.
قال في الجامع: كان صديقاً لرسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - قديماً، قال المرشد بالله: له عن رسول الله خمسة أحاديث.
عنه: مطرف بن عبد الله، وأخوه يزيد، والحسن البصري، وغيرهم.
خرج له: المرشد بالله، ومسلم /153

(3/153)


قلت: هو راوي الخبر الدال على العدل الراد على الجبرية، الذي كرره الإمام المرشد بالله - عليه السلام - في أماليه آخر الحديث الخامس في فضل النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
(فصل الغين المعجمة)
[غيلان بن معتِّب]
غيلان بن معتِّب (بالميم، والعين مهملة، وكسر المثناة المشددة) أبو مالك بن كعب.
قلت: كذا في الطبقات ، والذي في الاستيعاب والإصابة وجامع الأصول: غيلان بن سلمة، ثم قال في الجامع: بن مغيث (بضم الميم، وكسر الغين المعجمة، وسكون الياء، وبالثاء المثلثة) وفي الإصابة ضبطه بالمهملة، والمثناة الفوقية.
قال في الطبقات : أسلم بعد فتح الطائف، وأسلم معه نساؤه، وكن عشراً، فقال له النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((اختر منهن أربعاً )).
وهو معدود من الشعراء، وأحد أشراف ثقيف، وفد على كسرى، وله قصة.
توفي آخر خلافة عمر.
أخرج له: المؤيد بالله ، وعنه: سالم عن أبيه.
قلت: ومن قصته أنه وفد على كسرى، فقال له ذات يوم: أي أولادك أحب إليك؟
قال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يؤوب، ذكر ذلك في الاستيعاب.
(فصل الفاء)
[فارض النهدي]
فارض النهدي، شهد هوازن مشركاً، ثم أسلم.
عنه: ولده المنتجع.
أخرج له: أبو طالب /154

(3/154)


[فضالة بن عُبيد]
فضالة (بفتح أوله) بن عبيد ـ مصغراً ـ أبو محمد الأنصاري، سكن دمشق وولي قضاءها لمعاوية.
توفي سنة ثمان ـ أو ثلاث ـ وخمسين.
خرج له: المرشد بالله، والجرجاني، ومسلم، والأربعة.
[الفضل بن العباس]
الفضل بن العباس بن عبد المطلب ، ابن عم رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - أكبر ولد العباس، وبه يكنى؛ شهد الفتح وما بعدها، وثبت في حنين، وأردفه النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - في حجة الوداع من مزدلفة إلى منى؛ وكان جميلاً.
دخل الشام للجهاد، وبه توفي في طاعون عمواس سنة ثمان عشرة.
عنه: أخواه: عبد الله، وقثم، وجابر بن عبد الله، وغيرهم.
أخرج له: المؤيد بالله ، والمرشد بالله، ومحمد، والجماعة.
(فصل القاف)
[قبيصة بن المخارق]
قبيصة (بفتح القاف، فموحدة مكسورة، فمثناة تحتية، فمهملة، فهاء) ابن المخارق بن عبد الله بن شداد العامري الهلالي، له ستة أحاديث.
عنه: أبو قلابة ، وأبو عثمان النهدي، وكنانة بن نعيم .
خرج له: أبو طالب ، ومسلم، وأبو داود، والنسائي.
[قتادة بن ملحان]
قتادة بن ملحان (بكسر الميم، وسكون اللام، فمهملة) القيسي.
عنه: ابنه عبد الملك، /155

(3/155)


ويزيد بن الشخير.
خرج له: المؤيد بالله ، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه في التقريب ؛ له حديث في أيام البيض.
[قتادة أو أبو قتادة]
قتادة، عنه: ابنه عبد الله، كذا وقع في بعض نسخ التجريد ، والصواب: أبو قتادة، كما يجيء في الكنى إن شاء الله.
[قدامة بن مظعون الجمحي]
قدامة بن مظعون الجمحي، هاجر إلى الحبشة، وشهد بدراً وسائر المشاهد، واستعمله عمر على البحرين، وبها شرب الخمر.
قلت: أخرج قصته في شربها الهادي إلى الحق - عليه السلام -.
توفي سنة ست وثلاثين؛ مظعون (بظاء معجمة ساكنة، وضم عين مهملة).
[قيس بن سعد بن عبادة ]
قيس بن سعد بن عبادة بن دلهم، أبو عبد الله الخزرجي، صاحب شرطة النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - كان من ذوي الرأي والدهاء والتقدم.
توفي سنة ستين.
خرج له: الجماعة، والمرشد بالله، وبيض للآخذين عنه، وبقية ترجمته.
وهو من أعيان فضلاء الصحابة، وخلّص أتباع الوصي، وسائر أهل البيت ـ صلوات الله عليهم ـ؛ شهد مشاهد أمير المؤمنين - عليه السلام - كلها، وله المقامات المشهورة المشكورة.
[قيس بن عاصم]
قيس بن عاصم بن سنان التميمي المنقري، وفد على النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - سنة تسع في جماعة /156

(3/156)


من بني تميم، وكان عاقلاً جواداً كريماً شريفاً؛ وقال النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((هذا سيد أهل الوبر ))، حرم الخمر في الجاهلية ووأد البنات.
عنه: الأحنف بن قيس، والحسن، وخليفة بن حصين.
أخرج له: الأربعة إلا ابن ماجه ، والشريف السيلقي.
(فصل الكاف)
[كثير بن السائب]
كثير بن السائب، عنه: عمارة بن خزيمة بن ثابت .
خرج له: المؤيد بالله - عليه السلام -، والنسائي.
قال في التقريب : وهم من جعله صحابياً، وعداده في التابعين، وهو مقبول، من الرابعة.
[كعب بن عُجْرة]
كعب بن عُجْرة، أبو محمد القضاعي البلوي، الأنصاري حلفاً؛ شهد بيعة الرضوان، وفيه نزل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا }...الآية [البقرة:196].
توفي سنة اثنتين وخمسين.
عنه: الشعبي ، وابن سيرين، وابن أبي ليلى، وغيرهم.
أخرج له: أئمتنا الخمسة إلا الجرجاني، والجماعة.
قلت: وعجرة (بضم العين المهملة، وسكون الجيم) أفاده في جامع الأصول .
[كعب بن عمرو بن عباد]
كعب بن عمرو بن عباد الأنصاري السَّلَمي ـ بالفتح ـ أبو اليَسَر ـ بفتح التحتانية ـ عقبي، بدري، جليل؛ له أحاديث.
عنه: ابنه عمار، وموسى بن طلحة ، وخلف بن خليفة .
مات سنة خمس وخمسين /157

(3/157)


قلت: شهد صفين مع أمير المؤمنين - عليه السلام -.
[كعب بن مالك بن عمر]
كعب بن مالك بن عمر، أبو عبد الله الخزرجي السَّلَمي ـ بفتح السين واللام ـ شهد العقبة والمشاهد كلها إلا بدراً وتبوك؛ وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم.
عنه: بنوه: عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الملك.
توفي بالمدينة سنة خمسين.
خرج له: المؤيد بالله ، والمرشد بالله، ومحمد، والجماعة.
قلت: وهو أحد شعراء رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - المجيدين.
[كعب بن مرة]
كعب بن مرة ـ ويقال: مرة بن كعب ـ النهري، نزل الأردن.
عنه: حبير بن نسير ، وأبو الأشعث الصنعاني ، وسالم بن أبي الجعد، وعدة.
توفي سنة سبع ـ أو تسع ـ وخمسين.
أخرج له: المرشد بالله، والأربعة.
(فصل اللام)
[لبيد بن ربيعة]
لبيد بن ربيعة بن مالك أبو عقيل، أحد شعراء الجاهلية والمخضرمين، من المعمرين؛ هاجر وحسن إسلامه؛ نزل الكوفة، وبها مات آخر أيام معاوية؛ عُمِّر في الجاهلية سبعين، وفي الإسلام خمساً وخمسين، له ذكر في أمالي أبي طالب.
[لقيط بن عامر بن صبرة]
لقيط بن عامر بن صبرة (بموحدة بين مهملتين مفتوحتين) أبو رزين العقيلي، صحابي مشهور /158

(3/158)


عنه: ولده عاصم، وإسماعيل بن سميع .
عداده من أهل الطائف، أو ممن سكن بمكة.
أخرج له: المؤيد بالله ، والأربعة.
(فصل الميم)
[ماعز بن مالك الأسلمي]
ماعز بن مالك الأسلمي.
قال في جامع الأصول : معدود في المدنيين، وهو الذي رجمه النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
روى عنه: ابنه عبد الله بن ماعز حديثاً واحداً.
وماعز بكسر العين المهملة وبالزاي.
وفي رواية زيد بن علي: إن الرجم ليطهر ذنوبه ويكفرها كما يطهر أحدكم ثوبه من دنسه، قال: ثم صلى عليه.
وفي رواية الهادي إلى الحق: فأمر النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - بالصلاة عليه، وقال: ((إنه في أنهار الجنة يتغمص ))، وفي رواية زيد: ((يتخضخض فيها )).
أخرج حديثه الإمامان: زيد بن علي والهادي إلى الحق، ومحمد بن منصور.
[مالك بن الحويرث الليثي]
مالك بن الحويرث الليثي، أبو سليمان، له خمسة عشر حديثاً.
عنه: نصر بن عاصم ، وأبو قلابة، وولده الحسن بن مالك .
مات بالبصرة سنة أربع وتسعين.
[مالك بن ربيعة]
مالك بن ربيعة أبو أسيد (بضم الهمزة) الأنصاري البدري، من جلة الصحابة.
توفي بالمدينة، سنة ثلاثين، وقيل: ستين، آخر البدريين.
عنه: ابناه: حمزة وزبير، وغيرهما.
أخرج له: أبو طالب ، والأربعة /159

(3/159)


[محجن بن أبي محجن]
محجن (بكسر أوله، وسكون الحاء المهملة، وفتح الجيم، فنون) بن أبي محجن الديلي (بكسر الدال المهملة، وسكون التحتية).
عنه: ابنه محجن.
أخرج له: أبو طالب في مَنْ صلى ثم حضر جماعة؛ ليس له غيره؛ ومحمد بن منصور، والجماعة.
[محمد بن عبد الله بن جحش]
محمد بن عبد الله بن جحش الأسدي.
عن عمته أم المؤمنين زينب وعائشة.
وعنه: أبو كبير مولاه، وابنه إبراهيم؛ هاجر الهجرتين.
أخرج له: أبو طالب ، والنسائي، وابن ماجه.
[محمد بن مسلمة]
محمد بن مسلمة، أبو عبد الله الأوسي، شهد بدراً وما بعدها؛ ثم لم ينصر الحق، مع ترجيحه جانب أمير المؤمنين - عليه السلام -؛ ذكر نحو هذا الإمام الناصر للحق فيما رواه أبو طالب .
توفي بالمدينة سنة ثلاث وأربعين.
أخرج له: أئمتنا الثلاثة: الأخوان، ومحمد.
[محمود بن لبيد ]
محمود بن لبيد بن عقبة الأنصاري، أبو نعيم، اختلف في صحبته.
عن عبد الله بن أنيس، وعنه: عاصم بن محمد وقتادة، وقالا: كان من الفقهاء الثقات.
توفي سنة ست وتسعين.
خرج له: المؤيد بالله في الأمالي ، والمرشد بالله، ومسلم، والأربعة /160

(3/160)


[مخرفة العبدي]
مخرفة (بفتح أوله، وسكون الخاء معجمة، وفتح الراء مهملة، ثم فاء، وهاء) العبدي، وقيل: اسمه مخارق (بضم الميم وبالمعجمة، وآخره قاف) ابن سليم؛ أبو قابوس.
عنه: ولده، وسماك بن حرب.
أخرج له: النسائي ، ومحمد بن منصور.
[مَزْيَدَة بن جابر]
مزيدة (بفتح الميم، وسكون الزاي، وفتح الياء المثناة من تحت) بن جابر العبدي (بفتح العين، والموحدة) عن علي - عليه السلام -.
وعنه: حفيده هوذة بن عبد الله بن مزيدة ، وابن أبي ليلى.
ذكره في الجامع والخلاصة والكاشف، وعده الذهبي في التابعين.
خرج له: محمد في الأمالي ، والبخاري في التاريخ.
[المستورد بن سنان]
المستورد (بضم أوله، وإسكان المهملة، وفتح المثناة فوقية، وسكون الواو، وكسر المهملة، فدال مهملة) بن سنان (بمهملة، ونونين، بينهما ألف) عنه قيس بن أبي حازم ، ويونس بن عمرو المغافري .
هكذا وقع في شرح التجريد ، والصواب بن شداد الآتي.
[المستورد بن شداد]
المستورد ـ كالأول ـ بن شداد (بمعجمة، ودالين مهملتين، بينهما ألف) ابن عمر الفهري الحجازي؛ نزل الكوفة، ثم سكن مصر.
عنه: قيس، وأبو عبد الرحمن الجبلي.
توفي بالإسكندرية، سنة خمس وأربعين /161

(3/161)


خرج له: المؤيد بالله على الصواب، والمرشد بالله، ومسلم، والأربعة.
[مسلمة بن مُخَلد]
مسلمة بن مُخَلّد (بضم الميم، وفتح خاء معجمة، وشدّة لام) الأنصاري، ولد مقدم النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - المدينة، قال في الكاشف: صحابي.
عنه: علي بن رباح، ومجاهد، وأبو أيوب.
ولي مصر وإفريقية سنة اثنتين وستين.
خرج له: المرشد بالله، وأبو داود.
[المسور بن مخرمة]
المسور (بضم أوله، وفتح المهملة، وكسر الواو المشددة، وآخره مهملة ـ كذا السماع، وعند البخاري ـ وقيل: بكسر الميم وسكون المهملة، وفتح الواو مخففاً) بن مخرمة بن نوفل القرشي الزهري، أبو عبد الرحمن، ولد بمكة بعد الهجرة بسنتين.
قتل في حصار ابن الزبير، أصابه حجر المنجنيق سنة أربع وستين.
عنه: عروة والزهري، وولده عبد الله.
خرج له: المؤيد بالله ، والمرشد بالله، والجماعة.
وقد عده بعضهم في مبغضي أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ؛ وقد حقق ذلك الإمام شرف الدين - عليه السلام - وغيره من علمائنا، وذكر الذهبي في النبلاء شيئاً مما يقدح في دينه؛ وقد عدّ الإمام شرف الدين حديثه في استئذان بني المغيرة للوصي من موضوعاته.
[المطلب بن أبي وداعة]
المطلب بن أبي وَداعة (بفتح الواو، وتخفيف الدال المهملة) فدى أباه يوم بدر بأربعة آلاف درهم، وهي أكثر ما فودي به.
من مسلمة الفتح هو وأبوه.
عن حفصة /162

(3/162)


عنه: بنوه: كثير، وجعفر، وعبد الرحمن بن الحارث ، وعكرمة بن الحارث ، نزل المدينة، وبها توفي.
أخرج له: المؤيد بالله ، ومسلم، والأربعة.
[معاذ بن أنس]
معاذ بن أنس الجهني، نزل البصرة، له ثلاثون حديثاً.
عنه: ابنه سهل.
أخرج له: أبو طالب ، والأربعة، إلا النسائي .
[معاذ بن جبل ]
معاذ بن جبل بن عمرو الخزرجي السلمي أبو عبد الرحمن؛ كان من أعيان الصحابة في العلم والفتوى، والحفظ للقرآن؛ أسلم وله ثمان عشرة سنة، شهد العقبة الأخيرة، وبدراً، وما بعدها؛ وبعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن يعلّم القرآن والأحكام، وكان يزوره في الأسفار، وأخذ بيده، فقال: ((يا معاذ والله إني لأحبك ))، وكان أمة حنيفاً قانتاً.
توفي في طاعون عمواس بالأردن، سنة ثمان عشرة.
عنه: أبو الطفيل، وأبو إدريس، وعبد الرحمن بن غنم، ومسروق، وكثير بن مرة، وغيرهم.
أخرج له: أئمتنا الخمسة، وأبو الغنائم النرسي، والجماعة.
قلت: وفي الاستيعاب ما لفظه: أصاب الناس طاعون في الجابية، فقام عمرو بن العاص، فقال: تفرقوا عنه، فإنما هو بمنزلة نار، فقام معاذ بن جبل فقال : لقد كنت فينا ولأنت أضل من حمار أهلك؛ سمعتُ رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يقول: ((هو رحمة لهذه الأمة؛ اللهم فاذكر معاذاً وآل معاذ فيما تذكره من هذه الرحمة ))، انتهى.
ولا صحة لما يذكر عنه من الأقاصيص عند مجيئه من اليمن إلى المدينة بعد وفاة رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - /163

(3/163)


[معاوية بن حُدَيْج]
معاوية بن حُدَيج (بضم المهملة، وفتح الثانية، وآخره جيم، مصغراً) الكندي؛ شهد فتح مصر.
قلت: مع الفئة الباغية، فهو من القاسطين؛ قال الحسن بن علي عليهما السلام لمعاوية بن حديج: يا معاوية، إياك وبغضنا، فإن النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - قال: ((لا يبغضنا ولا يحسدنا أحد إلا وُقِذَ يوم القيامة بسياط من نار ))، أخرجه الكنجي ، وقال: أخرجه الطبراني في معجمه الكبير.
وأخرج أيضاً عن الحسن أنه قال لمعاوية بن حديج، لما سبّ علياً: لئن وردت عليه الحوض ولا أراك ترده، لتجدنه حاسراً عن ذراعيه يذود الكفار والمنافقين عن حوض رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - كما تُذاد غريبة الإبل؛ قول الصادق...إلخ.
رواه إبراهيم بن سعد بن هلال الثقفي، في كتاب الغارات ، بإسناده إلى داود بن عوف ، قال: دخل معاوية بن حديج على الحسن، فقال له: أنت الساب علياً؛ وذكر الحديث؛ ذكر هذا في شرح النهج.
وقال: رواه قيس بن الربيع ، عن بدر بن خليل ، عن مولى الحسن. انتهى.
وذكره في انتخاب السادة المهرة ، وقال: أخرجه أبو علي القرظي، والحاكم وصححه؛ قاله الكنجي ؛ انتهى من التخريج.
عنه عبد الله بن عبد الرحمن، وعلي بن رباح.
توفي سنة اثنتين وخمسين.
أخرج له: الأربعة إلا الترمذي .
[معاوية بن الحكم السلمي]
معاوية بن الحكم السلمي، عداده في أهل الحجاز.
عنه: ابنه كثير، وعطاء بن يسار.
توفي سنة سبع /164

(3/164)


عشرة ومائة.
أخرج له: المؤيد بالله ، ومسلم، وأبو داود، والنسائي.
[معاوية بن أبي سفيان ]
معاوية بن أبي سفيان بن حرب، من مسلمة الفتح، وكان هو وأبوه من المؤلفة قلوبهم، رأس الفئة الباغية، الداعية إلى النار.
توفي في رجب، سنة ستين.
قال الإمام المؤيد بالله - عليه السلام -: معاوية عندنا لا يُعمل بحديثه؛ لسقوط عدالته.
قلت: وقد تقدم من أحواله ما فيه الكفاية.
عنه: خالد بن معدان، وعبد الله بن عامر، والأعرج، ومطرف بن عبد الله.
أخرج له: أبو طالب ، والمرشد بالله، والسيلقي، ومحمد بن منصور، والجماعة؛ ذكره الإمام زيد بن علي في ذكر الخنثى المشكل، وذكره الهادي في القنوت في الأحكام ، وذكر الإمامين له للرواية عن علي - عليه السلام - بسبّه.
[معدي كرب]
معدي كرب.
عنه: خالد بن معدان.
كذا وقع في أمالي أحمد بن عيسى؛ والصواب المقدام بن معدي كرب كما في شرح التجريد ، والكاشف، وغيرهما.
[مَعْقِل بن يسار ]
معقل (بفتح الميم، وسكون المهملة، وكسر القاف، فلام) بن يسار (بمثناة تحتية، فمهملتين بينهما ألف) المزني، أبو عبد الله، شهد بيعة الرضوان، نزل البصرة؛ وفيه المثل: إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل؛ وبها توفي آخر زمن معاوية /165

(3/165)


عنه: الحسن، ومعاوية بن قرة .
خرج له: أبو طالب ، والمرشد بالله، ومحمد، والجماعة.
[المغيرة بن شعبة]
المغيرة بن شعبة.
كان سبب إظهاره الإسلام أنه صحب قوماً، فاستغفلهم وهم نيام وقتلهم وأخذ أموالهم وهرب؛ فقدم المدينة وأظهر الإسلام، وكان الرسول - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - لا يرد على أحد إسلامه.
وهو الساعي لصرف الأمر عن أهل البيت ـ عليهم السلام ـ، وختم أيامه بالدعاء إلى بيعة يزيد، وشهد عليه بالزنى فتلجج الرابع، وهو زياد بن أبيه .
مات سنة خمسين؛ وقد تقدم الكلام على الرواية عن أمثاله؛ وأما أهل الحديث فمذهبهم معروف.
[المقداد بن الأسود]
المقداد بن الأسود، نسب إليه لأنه تزوج أمّه، ونشأ في حجره، وتبنّاه، واسم أبيه عمرو بن ثعلبة البهراني الكندي، كان من السابقين الأولين، هاجر الهجرتين، وشهد بدراً وما بعدها، ولم يكن يوم بدر فارس غيره.
وفي جامع الترمذي : ((أمرني ربي بحب أربعة، وأخبرني أنه يحبهم ))، فقيل: من هم؟ فقال: ((علي، وأبو ذر، والمقداد، وسلمان )) ومناقبه كثيرة.
عنه: جبير بن نفير، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعطاء بن يزيد الليثي.
توفي بالمدينة سنة ثلاث وثلاثين، عن سبعين.
أخرج له في المجموع وغيره: أن أمير المؤمنين - عليه السلام - أمره أن يسأل النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - عن المذي؛ وأخرج له الأخوان، ومحمد بن منصور - رضي الله عنهم -، والجماعة.
قلت: وفضائله غزيرة، ومقاماته مع الوصي - عليه السلام - في إنكار /166

(3/166)


عقدهم يوم السقيفة ويوم الشورى معلومة، وهو من أعلام السابقين، المخلصين ولايتهم لله تعالى ولرسوله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - ولوصيه أمير المؤمنين - عليه السلام -.
قال ابن عبد البر في الاستيعاب: وروي عن سلمان، وأبي ذر، والمقداد، وخباب، وجابر، وأبي سعيد الخدري، وزيد بن الأرقم، أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أول من أسلم، وفضّله هؤلاء على غيره.
قلت: بل وغير من ذكر من أعيان المهاجرين والأنصار - رضي الله عنهم - الذين وردت لهم البشائر في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - المعلومة المرفوعة، التي لا يوازيها ولا يقاربها نحو حديث العشرة.
هذا، وقد تقدمت الإشارة إلى قوله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((أمرني ربي بحب أربعة... الخبر)).
وأخرج الإمام الرضا بسند آبائه ـ عليهم السلام ـ قال: قال رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((إن الله أمرني بحب أربعة: علي، وسلمان، وأبي ذر، والمقداد بن الأسود )).
قال أيده الله في التخريج: وعنه - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((ألا إن الجنة اشتاقت إلى أربعة: علي، والمقداد، وسلمان، وأبي ذر )) أخرجه الطبراني عن علي، انتهى من التفريج.
وعنه - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((أُمرت بحب أربعة من أصحابي، وأخبرني الله أنه يحبّهم: علي، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، والمقداد بن الأسود الكندي )).
أخرجه الروياني ، عن بريدة، انتهى من التفريج.
وأخرج نحوه أحمد بن حنبل ، عن بريدة أيضاً.
ورواه الخوارزمي، عن ابن بريدة، أفاده في التفريج، وابن المغازلي عنه، ورواه أبو علي الصفار ، عن بريدة.
وروى عبد الوهاب الكلابي بإسناده إلى بريدة، وإلى عبد الله بن بريدة عن أبيه، قال قال رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((إن الله أمرني بحب أربعة، /167

(3/167)


وأخبرني أنه يحبهم: علي، وأبو ذر، وسلمان، والمقداد بن الأسود الكندي )) وأخرجه الكنجي ، عن بريدة.
قلت: وأخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب من حديث ابن بريدة عن أبيه بلفظ: ((أمرني ربي بحب أربعة، وأخبرني أنه يحبهم: علي، وأبو ذر، والمقداد، وسلمان )) وغير ذلك كثير.
نعم، في الروايات هذه: ((وأبو ذر)) فهو خبر مبتدأ محذوف، أو على الحكاية، إلا رواية الإمام علي بن موسى الرضا - عليهما السلام -، ورواية الطبراني عن علي - عليه السلام -، فمجرور على الظاهر من عطف البيان.
وقد تقدمت هذه الأخبار في ترجمة سلمان الفارسي - رضي الله عنه -.
[المقدام بن معدي كرب]
المقدام ـ آخره ميم ـ ابن معدي كرب بن عمرو الكندي، أبو كريمة، أحد أعيان الصحابة الوافدين على رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - نزل الشام وبها توفي، سنة سبع وثمانين.
أخرج له: أئمتنا الخمسة إلا الجرجاني، والجماعة إلا مسلم.
عنه: خالد بن معدان، ويحيى بن جابر، وغيرهما.
قال أبو الدرداء: أيكم يحفظ حديث رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - إذْ صلى بنا إلى بعير من المغنم..إلخ، رواه الحسن عن المقدام.
(فصل النون)
[نُبَيْشة الحنظلي]
نُبيشة (بضم أوله، فموحدة، فمثناة تحتية، مصغراً) الحنظلي.
عنه: أم عاصم، وأبو المليح الهذلي.
أخرج له: المرشد بالله، ومسلم، والأربعة /168

(3/168)


قلت: وصحح ابن حجر في الإصابة أنه الملبي في الحج عن أخيه شبرمة.
[النعمان بن بشير]
النعمان بن بشير بن سعد الخزرجي ؛ كان من حزب معاوية بصفين، وغزا بعض نواحي أمير المؤمنين - عليه السلام -، وولي حمص لمعاوية، ثم ليزيد؛ ثم قُتل بحمص، سنة أربع وستين.
عنه: ولده، والشعبي، وإسماعيل بن خالد ، وغيرهم.
خرج له: أبو طالب ، والمرشد بالله، ومحمد، وأبو الغنائم النرسي، والجماعة.
قلت: وقد ظهر سرّ التسمية النبوية له بـ(غُدر) فإن رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - سماه بذلك في الصغر، في قصة ذكرها ابن عبد البر، فهو من رؤوس الغادرين، وتحت لوائهم يحشر.
قال في الاستيعاب: كان أميراً على الكوفة لمعاوية سبعة أشهر، ثم كان أميراً على حمص لمعاوية، ثم ليزيد؛ فلما مات صار زبيرياً، فخالفه أهل حمص، فأخرجوه منها، واتبعوه وقتلوه.
وفيه: أنه أراد أن يهرب، فطلبه أهل حمص، فقتلوه، واحتزوا رأسه...إلخ.
وبعض أهل الحديث لا يصحح سماعه عن الرسول - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم-.
[نعيم بن النحام]
نعيم بن النحام (بنون، فمهملة مشددة، وبعد الألف ميم) بن عبد الله بن أسيد القرشي، هو الذي باع - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - مدبره، قيل: قتل في مؤتة، وقيل: مات في زمن عمر /169

(3/169)


[نعيم بن هزال]
نعيم بن هزال (بتشديد الزاي) الأسلمي.
عن أبيه.
وعنه: ابنه يزيد.
مختلف في صحبته.
خرج له: محمد، وأبو داود، والنسائي؛ ذكره ابن حبان في الثقات.
[نوفل بن الحارث بن عبد المطلب]
نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم؛ أسلم بعد بدر، وهاجر أيام الخندق، أعان رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يوم حنين بثلاثة آلاف رمح، فقال - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((كأني أنظر إلى رماحك يا أبا الحارث تقصف في أصلاب المشركين )).
توفي سنة خمس عشرة.
عنه: ابنه عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
خرج له: أبو طالب .
(فصل الهاء)
[هزال بن حبان]
هَزَّال (بفتح الهاء، وتشديد الزاي، فألف، فلام) ابن حبان بن يزيد الأسلمي.
عنه: ابنه نعيم؛ له ذكر في حديث ماعز.
خرج له: محمد بن منصور، والنسائي.
[هلال بن أمية الأنصاري]
هلال بن أمية الأنصاري الواقفي، شهد بدراً، وهو أحد الثلاثة المتخلفين عن تبوك، والملاعن زوجته.
خرج له: المؤيد بالله .
(فصل الواو)
[وابصة بن معبد]
وابصة ـ بكسر الموحدة ـ ابن معبد الأسدي، أبو شداد، وفد سنة تسع /170

(3/170)


أخرج له حديثه فيمن صلى خلف الصفوف وحده محمدُ بن منصور، وأبو داود، والترمذي.
أخرج له: محمد، والمرشد بالله، والأربعة إلا النسائي .
عنه: سالم بن أبي الجعد، وهلال بن يساف، وولده عمرو بن وابصة ، والشعبي حديث المصلي خلف الصفوف.
[واثلة بن الأسقع ]
واثلة (بمثلثة مكسورة بعد الألف، فلام، فهاء) ابن الأسقع (بمهملة، فقاف، فعين مهملة) الليثي، الكناني، من أهل الصفة، أول مشاهده تبوك، كان فارساً شجاعاً.
توفي سنة خمس وثمانين، عن مائة وخمس سنين.
عنه: بناته، وجماعة.
أخرج له: أئمتنا الثلاثة، والجماعة.
[وائل بن حُجر]
وائل بن حُجر (بمهملة مضمومة، فجيم، فمهملة) الحضرمي، أحد ملوك حمير، وفد على النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
عنه: ابنه عبد الجبار، وعلقمة، وكليب بن شهاب .
شهد مع علي - عليه السلام - صفين، ثم وفد على معاوية فأكرمه، ومات في أيامه؛ ضعّفه الأمير الحسين في الشفاء، وقال: قال القاسم بن إبراهيم : كان يكتب بأسرار علي - عليه السلام - إلى معاوية.
قال المولى فخر الإسلام عبد الله بن الإمام ـ رضي الله عنهما ـ: بغضه للوصي قد ذكره غير واحد، وهو أحد الشهود على حجر بن عدي ، انتهى /171

(3/171)


[الوليد]
الوليد: رجل من أهل الشام.
عنه: حجاج بن فرافصة.
أخرج له: محمد بن منصور.
[الوليد بن عقبة بن أبي معيط]
الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيْط، استسلم يوم الفتح، وولاه عثمان الكوفة، أقيم عليه الحدّ في شرب الخمر؛ قال الهادي إلى الحق - عليه السلام -: إن الذي أقام عليه الحدّ علي بن أبي طالب - عليه السلام - بيده، ضربه ثمانين.
وقد سماه الله تعالى فاسقاً بنص الكتاب العزيز، في قوله عز وجل: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ }...الآية [الحجرات:6]، وفي قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ } [السجدة:18]، فالوصي صلوات الله عليه المراد بالمؤمن، وهو المراد بالفاسق، لا اختلاف في ذلك.
لم يذكر له في الطبقات تاريخ وفاة.
(فصل الياء)
[يعلى بن أمية]
يعلى بن أُمية ـ بضم الهمزة ـ ويقال: منية (بضم الميم، وسكون النون، بعدها تحتانية مفتوحة) وهي أمه، كان مع عائشة يوم الجمل؛ ثم قُتل مع علي في صفين، سنة سبع وثلاثين، وقيل غير ذلك.
أخرج له: المؤيد بالله ، ومحمد، والجماعة.
عنه: ولده صفوان .
قال المولى فخر الإسلام عبد الله بن الإمام ـ رضي الله عنهما ـ: قال فيه أمير المؤمنين: أسرع الناس إلى فتنة.
وتكلّم عليه النفس الزكية بما لا يقبل حديثه /172

(3/172)


(فصل في الكنى)
(حرف الهمزة)
[أبي أمامة]
أبو أمامة، صُدَيّ (بضم المهملة، وفتح الدال المهملة أيضاً، وتشديد الياء) بن عجلان الباهلي السهمي؛ سكن مصر، ثم حمص.
توفي سنة إحدى وثمانين، قيل: عن مائة وست؛ وهو آخر من مات في الشام من الصحابة.
خرج له: أئمتنا الخمسة، والسمان.
[أبي أوفى الأسلمي]
أبو أوفى الأسلمي، علقمة بن خالد، من أصحاب الشجرة.
عنه: ابنه عبد الله، وإبراهيم السكسكي.
[أبي أيوب الأنصاري]
أبو أيوب، خالد بن زيد الأنصاري ، النجاري، شهد العقبة وبدراً، وما بعدها، ولما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة نزل عليه، وأقام عنده حتى بنى مسجده ومساكنه، وشهد مع الوصي - عليه السلام - مشاهده كلها، ولزم الجهاد حتى توفي في قسطنطينية، سنة اثنتين وخمسين.
عنه: عطاء الليثي، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وغيرهما.
خرج له: الجماعة، وأئمتنا الخمسة إلا الجرجاني؛ وقد تقدم.
(حرف الباء)
[أبي بردة بن نيار]
أبو بردة ابن نِيَار (بكسر النون، فمثناة تحتية مخففة، فألف، فمهملة) اسمه هانيء، وقيل: /173

(3/173)


مالك، واسم أبيه نيار، وقيل: عبد الله، البلوي، من أكابر الصحابة وفضلائهم، شهد العقبة وأحداً، وما بعدها، وشهد مع الوصي - عليه السلام - حروبه كلها، وهو خال البراء بن عازب .
روى عنه: هو، وجابر، وولده عبد الله.
توفي سنة إحدى وأربعين.
خرج له السيد أبو طالب ، والجماعة.
[أبي برزة الأسلمي]
أبو بَرزة (بموحدة مفتوحة، فمهملة ساكنة، فمعجمة، فهاء) الأسلمي، نضرة بن عبيد بن الحارث، وقيل: عبد الله بن نضر.
قلت: في الطبقات : بالراء بعد الضاد المعجمة، وفي الاستيعاب والإصابة باللام ـ هكذا: نضلة بن عبيد ـ وفيهما أنه أصح ما قيل في اسمه.
أسلم قديماً، وشهد خيبر، وما بعدها، وكان عند يزيد بن معاوية لما جيء برأس الحسين بن علي ـ صلوات الله عليهما ـ فقال له: أما إنك تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك، ويجيء هذا ومحمد - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - شفيعه؛ ثم قام.
ثم غزا بعد ذلك خراسان، ومات بها، سنة خمس وستين على الصحيح.
عنه: أبو عثمان النهدي ، وأبو الوضي، وأبو الجارود .
خرج له: الناصر للحق، وأبو طالب، والجماعة.
[أبي بصرة]
أبو بَصْرة ـ على لفظ البلدة المشهورة ـ حُمَيل (بضم المهملة، وفتح الميم، وسكون التحتية، فلام) الغفاري.
وقال الدارقطني : بفتح الجيم.
نزل مصر.
عنه: أبو تميم الحساني /174

(3/174)


أخرج له: المؤيد بالله ، ومسلم، وأبو داود، والنسائي.
[أبي بكر ابن أبي قحافة]
أبو بكر، عبد الله بن عثمان بن عامر التيمي، من المهاجرين؛ بايعه أبو عبيدة وعمر ومن تبعهما يوم السقيفة، مع عدم حضور الوصي - عليه السلام - والعباس، وكافة بني هاشم، ومن معهم من سادات المهاجرين والأنصار - رضي الله عنهم - وكانت بيعته ـ كما قال عمر برواية البخاري ومسلم وغيرهما ـ فلتة، وتعقّب ذلك الاختلاف الكثير، والحكم لله العلي الكبير؛ وكان في أيامه قتال أهل الردة، وغيرهم.
توفي في جمادى، سنة ثلاث عشرة، عن ثلاث وستين على الأشهر.
عنه: سويد بن غفلة، وغيره.
خرج له: أئمتنا الأربعة، والجماعة.
وفي جامع الأصول ما لفظه: ابن عمر أن أبا بكر قال: ارقبوا محمداً - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - في أهل بيته، أخرجه البخاري.
[أبي بكرة الثقفي]
أبو بكرة الثقفي، نفيع بن الحارث بن كلدة ـ بفتحتين ـ وقيل: اسمه مسروح ـ بمهملات ـ، أسلم يوم الطائف، نزل البصرة، ولم يقاتل يوم الجمل، وقيل: كان مريضاً، وعاتبه أمير المؤمنين لما زاره.
عنه: أولاده، والحسن.
توفي بها عام نيف وخمسين.
خرج له: أبو طالب ، والمرشد بالله، والجماعة.
(حرف الثاء)
[أبي ثعلبة الخشني]
أبو ثعلبة الخشني (بضم الخاء والشين معجمتين، ثم نون) نسبة إلى بطن من قضاعة؛ اختلف في اسمه واسم أبيه على أقوال: أحدها: أنه جرثوم بن ياسر /175

(3/175)


بايع تحت الشجرة.
وتوفي بالشام، سنة خمس وسبعين؛ من فضلاء الصحابة.
عنه: ابن المسيب ، وأبو إدريس، ومكحول.
خرج له: المؤيد بالله ، والمرشد بالله، والجماعة.
(حرف الجيم المعجمة)
[أبي جحيفة]
أبو جحيفة ـ بتقديم الجيم على الحاء المهملة، مصغراً ـ عبد الله بن وهب السُّوائي ـ بضم المهملة والمد ـ كان علي عليه السلام يكرمه، ويسميه وهب الخير، ويحبه؛ وجعله على بيت المال، وشهد معه مشاهده كلها؛ نزل الكوفة، وبها توفي، سنة أربع وسبعين.
[أبي جري]
أبو جري (بضم الجيم، وفتح [الراء] وتشديد الياء) جابر بن سُلَيم ـ أو سليم بن جابر ـ الهُجَيمي، وسليم والهجيم مصغران؛ نزل البصرة.
عنه: ابن سيرين ، وأبو تميمة.
أخرج له: السيد أبو طالب ، والجماعة إلا ابن ماجه .
ولم يذكر له وفاة، ولا تحقيق حال فيما وقفتُ عليه من المؤلفات، في هذا الباب، كالطبقات، وجامع الأصول، والإصابة، والاستيعاب؛ والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب.
[خاتمة]
وهنا توقف عنان القلم، لما دهم وألم، من تأجج نيران الفتن، في أرجاء /176

(3/176)


اليمن.
والله أسأل أن يعيذنا من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يثبتنا على دينه القويم، وصراطه المستقيم، ويوفقنا لنصرته بنصرة كتابه وسنة نبيئه - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - والذب عن حوزة الدين، والدفاع عن المؤمنين والمستضعفين، وأن يحقق لنا النصر الموعود به في الذكر المبين، كما قال عز وجل: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [غافر:51]، وأن يختم لنا بالشهادة، والفوز بالحسنى وزيادة، وأن يُلحقنا بأسلافنا الطاهرين، الصابرين الصادقين، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين؛ اللهم إليك رفعت الأبصار، وبسطت الأيدي، وتحوكم إليك في الأعمال، اللهم افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين؛ نشكوا إليك غيبة نبينا، وكثرة عدوّنا، وقلّة عددنا، وتظاهر الفتن، وشدة الزمن؛ اللهم فأغثنا بفتح تعجله، ونصر تعزّ به وليك، وسلطان حق تظهره، إله الحق آمين.
قال في الأم: كان التحرير يوم الجمعة، في جمادى الأولى، عام اثنين وثمانين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية ـ على صاحبها وآله أفضل الصلاة والسلام ـ ببلد الإيمان والحكمة، بمدينة صعدة، المؤسسة على التقوى والرحمة، ببركات هادي الأمة، أمير المؤمنين، الهادي إلى الحق المبين، يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليهم السلام ـ مطهّر اليمن من رِجْس كلّ إلحاد وضلال وظلمة، الذي ارتحل إليه إلى مدينة جده الرسول الأمين - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - فضلاءُ أهل اليمن وأعيانهم، كما رحل إلى جده - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - أسلافُهم الأنصار إلى مكة المكرمة، /177

(3/177)


فأنقذهم الله به، وأقام به الحق والعدل، وأحيا الكتاب والسنن، وأزال جميع الفتن، وأسس الأحكام الشرعية النبوية في ربوع اليمن، بشهادة جميع الطوائف، من موافق ومخالف، كما صرح بذلك ابن حجر في فتح الباري شرح البخاري، عند الكلام على خبر ((لا يزال هذا الأمر في قريش، ما بقي منهم اثنان ))، وكذا غيره من علماء الإسلام؛ وقد شهد لهم كتاب الله وسنة نبيئه، فهم الذين يهدون بأمر الله، ويقضون بالحق وبه يعدلون، الذين لما مكنهم الله في الأرض أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور.
وحسبنا الله ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير.
[عودة المؤلف إلى إتمام التأليف]
الحمد لله كما يجب لجلاله، وصلواته وسلامه على سيد رسله وآله؛ وبعد:
فنعود إلى المقصود بقدر الإمكان، بإعانة ذي الجلال، مع تبلبل البال، وترادف الأشغال، وتعاور عوامل الأفعال.
وقد سبق الكلام في موجب التوقف عن الإتمام، وإلى هذه الغاية لمّا تنكشف عماية هذه الفتنة، ولا تجلّت غياهب هذه المحنة؛ فنضرع إلى الله عز وجل أن يمن بالفرج العام، على المسلمين والإسلام.
وهذا التحرير عاشر شوال، عام خمسة وثمانين وثلاثمائة وألف، بظهران وادعة، حال الهجرة، عقيب العود من المؤتمر المعقود بمدينة حرض؛ وقد يسّر الله تعالى زيارة الحرمين الشريفين، والتمتع بالبيت الحرام، وزيارة سيد الأنام ـ عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام ـ /178

(3/178)


[أبي الجهم بن صخير]
أبو الجهم ابن صخير (بضم المهملة، ثم معجمة) وعند مالك أبو جهم بن هشام.
روى عنه عبد الرحمن بن عوف، في قصة فاطمة بنت قيس، لما خطبها هو ومعاوية، فقال: ((أما أبو جهم فضراب للنساء )).
خرج له: مالك، ومحمد بن منصور.
(حرف الحاء المهملة)
[أبي حازم البجلي]
أبو حازم البجلي، له حديث عند أبي داود.
عنه: ابنه قيس.
قُتل مع علي - عليه السلام - في صفين، سنة سبع وثلاثين.
في الإكمال : اسمه عبد عوف بن الحارث.
[أبي حميد]
أبو حميد حشيش (بحاء مهملة مضمومة، ثم معجمتين بينهما تحتية) الساعدي المنذر، أو عبد الرحمن، الصحابي الجليل، شهد أحداً وما بعدها، عاش إلى سنة ستين.
عنه: عباس بن سهل، وموسى بن عبد الله بن يزيد ، وعروة، وعمرو بن سليم ، وعدة.
أخرج له: المؤيد بالله ، وأبو داود؛ وفي الخلاصة : الجماعة.
(حرف الخاء المعجمة)
[أبي خلاد]
أبو خلاد، عبد الرحمن بن زهير الأنصاري، ويقال: أبو عيسى، مشهور بكنيته.
أخرج له: ابن ماجه ، والجرجاني.
عنه: أبو قرة؛ قال في الكاشف: والحق أن بينهما أبا مريم /179

(3/179)


[أبي خراش]
أبو خراش (بمعجمتين أولاهما مكسورة، بينهما مهملة، وألف) حدرد ـ بمهملات ـ بن أبي حدرد الأسلمي.
عنه: عمران بن أنس.
أخرج له المرشد بالله، وأبو داود.
(حرف الدال المهملة)
[أبي الدرداء]
أبو الدرداء، عويمر بن مالك ـ وقيل: عامر، وقيل: ابن ثعلبة ـ الأنصاري، الخزرجي، أسلم عقيب بدر، كان من عباد الصحابة، ولاه عثمان دمشق.
عنه: يزيد بن يزيد، وخليد، وعبد الله بن مرة، وابن أبي ليلى، والحكم، وأم الدرداء الصغرى، والحسن البصري.
توفي سنة اثنتين وثلاثين.
أخرج له: أئمتنا الخمسة، والشريف السيلقي، وأبو الغنائم النرسي، والجماعة.
(حرف الذال المعجمة)
[أبي ذر الغفاري]
أبو ذر الغفاري، اختلف في اسمه، والأشهر جندب بن جنادة ؛ من السابقين الأولين، الرفقاء النجباء المقربين، لازم النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - حتى قبضه الله تعالى، ثم سكن المدينة حتى نفاه عثمان إلى الربذة وبها مات؛ وكان قوّالاً بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم؛ قال فيه النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم-: ((ما أظلت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء، أصدق لهجة من أبي ذر ))، وقال أمير المؤمنين فيه: وعاء مُلئ علماً، وقد ضيعه الناس.
توفي سنة اثنتين وثلاثين، ولم يعقب /180

(3/180)


عنه: أبو مرواح، وعبد الله بن الصادر ، وابن أبي ليلى، وأبو إدريس الخولاني، وخلق.
خرج له: أئمتنا الخمسة، والشريف السيلقي، وأبو الغنائم، والبخاري، ومسلم.
(حرف الراء المهملة)
[أبي رافع القبطي]
أبو رافع القبطي، مولى رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، اختلف في اسمه، قيل: إبراهيم، وقيل: أسلم، كان مولى للعباس - رضي الله عنه -، فوهبه للنبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - فأعتقه حين بشره بإسلام عمه العباس، وزوجه مولاته سلمى، فولدت له عبيدالله، كاتب أمير المؤمنين - عليه السلام -.
روى عن علي - عليه السلام -، وحذيفة.
وعنه: ولده عبيدالله، وزين العابدين، والمقبري، وغيرهم.
توفي بعد عثمان، وكان أولاده أيتاماً في حجر أمير المؤمنين رضوان الله عليه.
أخرج له: أئمتنا الخمسة، والجماعة.
روى أبو رافع أن رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - قال لعلي - عليه السلام -: ((لولا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم ، لقلت فيك مقالاً لا تمر بأحد من المسلمين إلا أخذ التراب من أثر قدميك يطلبون به البركة)) أخرجه المرشد بالله من طريق الطبراني .
قلت: وقد سبق تخريجه في الجزء الأول من لوامع الأنوار.
وهو من الرواة لقوله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - لعلي - عليه السلام -: ((من أحبه فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أبغضه فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله)) انتهى /181

(3/181)


وأنه - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - بعث علياً مَبْعَثاً، فلما قدم قال رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((الله ورسوله وجبريل عنك راضون )).
[أبي رزين]
أبو رزين.
عنه: إسماعيل بن سميع .
هو لقيط بن عامر؛ تقدم.
(حرف السين المهملة)
[أبي سعيد الساعدي]
أبو سعيد الساعدي.
عنه: عبد الله بن رافع.
وفي الكاشف والخلاصة: أبو سعيد الساعدي، عن أنس، وعنه: رَوَّاد بن الجراح ؛ مجهول.
أخرج له: محمد بن منصور، والجماعة.
[أبي سعيد الخدري]
أبو سعيد الخدري، سعد بن مالك بن سنان الأنصاري الخزرجي، من مشهوري الصحابة وفضلائهم، المكثرين في الرواية، كان في أهل الصفة، محالفاً للصبر، فقيهاً نبيلاً جليلاً، غزا مع رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - اثنتي عشرة غزوة، أولها الخندق، واستصغر يوم أحد، فرد؛ ولم يكن في أحداث الصحابة أفقه منه، سكن المدينة وبها توفي، سنة أربع وسبعين، وله أربع وتسعون، وله عقب.
أخرج له أئمتنا الخمسة، والجماعة، وجميع المسانيد، والسيلقي.
عنه: الحسن، وعطاء، وعطية، وعمرو بن يحيى المازني، وخلق.
شهد مع علي - عليه السلام - حرب الخوارج؛ وذكر الحديث فيهم.
[أبي سفيان ]
أبو سفيان.
عنه: الأعمش حديث في الغيبة؛ لم يزد على هذا في الطبقات ، إلا أنه رمز فوق اسمه للجرجاني، وأهمله في الجداول /182

(3/182)


[أبي سفيان بن الحارث]
أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ابن عمّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لم يفد غير هذا في الطبقات ، ولم يذكره في الجداول ؛ ولعل ذلك لعدم روايته في الكتب المبحوث عن رواتها، وهو من الثابتين عنده - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يوم حنين.
توفي بالمدينة المطهرة، سنة عشرين.
قال في الاستيعاب: وكان رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يحبه، وشهد له بالجنة، وقال: ((أرجو أن يكون خلفاً من حمزة )).
قلت: وهو أخو الرسول - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - من الرضاعة؛ ومن ترثيته لرسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -:
فقدنا الوحي والتنزيل فينا .... يروح به ويغدو جبرئيلُ
نبي كان يجلو الشك عنا .... بما يوحى إليه وما يقولُ
ويهدينا فلا نخشى ضلالا .... علينا والرسول لنا دليلُ
أفاطم إن جزعت فذاك عذر .... وإنْ لم تجزعي ذاك السبيلُ
فقبر أبيك سيّد كل قبر .... وفيه سيّد الناس الرسولُ
قال في الاستيعاب: وقال ابن دريد وغيره من أهل العلم بالخبر: إن قول رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((كل الصيد في جوف الفراء )) في أبي سفيان بن الحارث، ابن عمه هذا.
قلت: فينبه بهذا على ما في الثمرات وغيرها.
ومن العجائب أنه حفر قبر نفسه قبل موته بثلاثة أيام - رضي الله عنه -؛ وكان هو والحسن السبط، وجعفر بن أبي طالب (ع)، من المشبهين لرسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
[أبي سيارة]
أبو سيارة الثقفي المُتَعي (بضم الميم، وفتح المثناة الفوقية، آخره مهملة) /183

(3/183)


عنه: سليمان بن موسى، في زكاة العسل.
أخرج له: محمد بن منصور، والهادي إلى الحق، وابن ماجه؛ كلهم في زكاة العسل.
(حرف الشين المعجمة)
[أبي شداد]
أبو شداد بن أوس ـ كذا وقع عند أبي طالب، والصواب شداد ـ وقد مرّ.
(حرف الطاء المهملة)
[أبي الطفيل ]
أبو الطفيل مصغر، عامر بن واثلة . سبق.
[أبي طلحة]
أبو طلحة، زيد بن سهل بن الأسود الأنصاري الخزرجي النجاري، شهد بدراً وما بعدها، وهو الذي جعله عمر على أهل الشورى.
روى عنه: ابناه: عبد الله، ومحمد.
توفي سنة نيف وثلاثين.
أخرج له: الأخوان، والجماعة.
(حرف العين المهملة)
[أبي العاص]
أبو العاص ابن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس، زوجه رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - ابنته زينب ـ رضي الله عنهما ـ قبل نزول الوحي، ثم أسلمت وهو على الشرك؛ ثمّ /184

(3/184)


أسلم، وخرج مع علي - عليه السلام - إلى اليمن، واستخلفه على اليمن، وكان مع علي - عليه السلام - في البيت يوم بويع أبو بكر.
وأحسن حل للإشكال في رد الرسول - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - زينب عليه بدون عقد بعد المدّة الطويلة، أنها لم تَبِنْ منه؛ لأن تحريم المسلمة على الكافر لم ينزل إلا بعد صلح الحديبية؛ وحين نزل التحريم توقف الفسخ على انقضاء العدة، فأسلم قبل ذلك؛ إذ لم يكن بين نزول التحريم وإسلامه إلا اليسير.
توفي في شهر ذي الحجة، سنة اثنتي عشرة.
[أبي عبيدة بن الجراح]
أبو عبيدة بن الجراح، عامر بن عبيدالله بن الجراح القرشي الفهري، أسلم قديماً، وشهد بدراً وما بعدها، وهو ممن صبر يوم أحد، وهو ثالث أقطاب السقيفة، ورضي أبو بكر به أو بعمر، وجعله عمر الأمير على الفتوح حين عزل خالد بن الوليد .
توفي بطاعون عَمْواس (بفتح المهملة، وسكون الميم، فواو، فألف، فمهملة) قرية بالأردن، سنة ثمان عشرة، عن ثمان وخمسين.
أخرج له أئمتنا الخمسة، والستة.
عنه: محمد بن المنكدر ، وخصيف، وأبو مسلم الخولاني، وغيرهم.
[أبي عمرو ابن حفص]
أبو عمرو ـ بفتح العين ـ بن حفص بن المغيرة المخزومي، زوج فاطمة بنت قيس، هو ابن عم خالد بن الوليد ، اختلف في اسمه فقيل: أحمد، أو عبد الحميد، ذهب مع علي - عليه السلام - إلى اليمن، قيل: فمات بها؛ والصحيح بقاؤه إلى زمن عمر.
عنه: حفيده عبد الحميد بن عبد الله بن عمرو .
خرج له: المؤيد بالله ، والنسائي /185

(3/185)


(حرف القاف)
[أبي قتادة الأنصاري]
أبو قتادة الأنصاري الخزرجي، الحارث ـ وقيل: عمرو أو النعمان ـ بن ربعي (بمهملتين مكسورتين بينهما موحدة ساكنة)، شهد أحداً وما بعدها، وكان من خواص رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وفيه قال: ((خير فرساننا أبو قتادة )).
روى عنه: ابن المسيب ، وابنه عبد الله، ومحمد بن كعب، وكبشة بنت كعب ، وعمرو بن سليم.
توفي بالمدينة، سنة أربع وخمسين، عن سبعين سنة، والله أعلم؛ كذا في الطبقات .
وفي جامع الأصول : بعد أن ذكر التاريخ المذكور: وقيل: بل مات في خلافة علي بن أبي طالب بالكوفة، وكان شهد معه مشاهده، وهو ابن سبعين سنة، وصلى عليه علي، وكبر عليه سبعاً...إلخ.
ومثل ذلك في الاستيعاب.
ولم يذكر في الجداول إلا هذا القول الأخير، قال: وكان بدرياً.
قال في الطبقات : خرج له الجماعة، وأئمتنا الخمسة إلا الجرجاني.
[أبي قتادة العدوي]
أبو قتادة العدوي، يروي عن عمر، وعمران بن حصين.
وعنه: حميد بن هلال، وإسحاق بن سويد.
قيل: له صحبة؛ وفي الخلاصة : تابعي؛ وثقه ابن معين.
خرج له: مسلم، وأبو داود، والنسائي، وأبو طالب /186

(3/186)


[أبي قرفاصة]
أبو قرفاصة.
قلت: كذا في الطبقات والجداول بتقديم الفاء على الصاد المهملة؛ والذي في أمالي المرشد بالله والاستيعاب والإصابة والخلاصة والتقريب، بتقديم الصاد على الفاء.
قال في التقريب : بكسر أوله جندرة.
قلت: بجيم، فنون، فدال مهملة، فراء.
قال الإمام المرشد بالله: كساه النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - برنساً؛ وكان الناس يأتونه فيدعو لهم، ويبارك فيهم، كان ولده غازياً ببلاد الروم، وهو في عسقلان من فلسطين، فكان يناديه وقت السحر (يا قرفاصة الصلاة) بأعلى صوته؛ فيجيبه (لبيك يا أبتاه)، فيقول له أصحابه: ويحك من تنادي؟ فيقول: أبي ورب الكعبة.
روى عنه محمد بن عامر.
أخرج له: المرشد بالله، وأبو نعيم، وابن عساكر، والخطيب.
(حرف الكاف)
[أبي كاهل]
أبو كاهل ـ بالهاء ـ قيس بن عائذ ـ بالمعجمة ـ الأحمسي؛ كان إمام حيِّهِ، يعد في الكوفيين.
عنه: إسماعيل، والأشعث، ابنا أبي خالد، ونفيع أبو داود .
مات في زمن الحجاج؛ أفاد هذه الترجمة في جامع الأصول ؛ ولم يذكره في الطبقات ومختصرها إلا بالكنية.
وفيها: روى عنه أبو طالب ، والنسائي، وابن ماجه.
عنه: أبو معاذ.
(حرف اللام)
[أبي لبابة]
أبو لبابة (بضم اللام، وتخفيف الموحدة الأولى) رفاعة بن عبد المنذر الأنصاري، /187

(3/187)


بدري جليل، كان يوم بدر، وعلي - عليه السلام - زميلي رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - على بعير واحد، التقيا ليلة العقبة.
توفي في أول خلافة علي - عليه السلام -.
عنه: أولاده، وسليمان الأعرج، وعدة.
أخرج له: أبو طالب ، ومحمد، والسمان، والشيخان، وأبو داود، وابن ماجه.
[أبي لتبية]
أبو لُتَبِيّة (بضم اللام، وفتح المثناة من أعلى، وكسر الموحدة، وتشديد المثناة تحتية) عبد الله الأنصاري.
روى عنه: ولده عبد الرحمن.
خرج له: محمد.
[أبي ليلى الأنصاري]
أبو ليلى الأنصاري ، اختلف في اسمه، قيل: بلال، أو داود، أو بُلَيل ـ بالتصغير ـ أو أويس، أو يسار، أو أيسر، أو أن اسمه كنيته أبو عبد الرحمن بن أبي ليلى .
شهد أحداً وما بعدها، وشهد مع علي - عليه السلام - جميع مشاهده، واستشهد بصفين.
عنه: ابنه عبد الرحمن.
خرج له: المرشد بالله، والأربعة إلا النسائي .
(حرف الميم)
[أبي مالك الأشعري]
أبو مالك الأشعري، اختلف في اسمه.
عنه: أبو سلام ممطور، وعبد الرحمن بن غنم.
توفي بطاعون عَمْواس، سنة ثمان عشرة.
أخرج له: أبو طالب ، ومحمد، ومسلم، والأربعة إلا الترمذي ؛ قيل: والبخاري.
قلت: وهو الصحيح.
[أبي المخبر]
أبو المخبر.
عنه: خليد الفراء ؛ لم يزد على /188

(3/188)


هذا في الطبقات وفي الجداول ، ولم أعرف له خبراً.
وفي الإصابة: أبو المجبر ـ بالجيم أو المهملة ـ قال يحيى بن عبد الحميد الحماني في مسنده: حدثنا مبارك بن سعيد الثوري ، عن أبي خليد الثوري ، عن أبي المجبر، قال: قال رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((من عال ابنتين أو ابنين، أو عمتين أو جدتين، فهو معي في الجنة كهاتين ))...إلخ.
[أبي محذورة]
أبو محذورة (بفتح الميم، وسكون المهملة، وضم الذال معجمة، وسكون الواو، فراء) المؤذن، الجمحي، المكي؛ اختلف في اسمه، أسلم منصرف النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - من حنين، وعلّمه الأذان، وأمره أن يؤذن بمكة.
عنه: عبد الملك حديث الأذان، وزوجه، وعبد العزيز بن رفيع، وعبد الله بن محيرث ، وابن أبي مليكة.
توفي سنة سبع وخمسين.
أخرج له: المؤيد بالله ، ومسلم، والأربعة.
[أبي مسعود الأنصاري]
أبو مسعود الأنصاري البدري ـ نسبة إلى الموضع، ولم يشهدها على الصحيح ـ عقبة بن عمرو.
عنه: ابنه بشير، وأبو وائل، وربعي بن خراش، وعمرو بن ميمون، وإبراهيم النخعي، وغيرهم.
توفي سنة أربعين.
وكان منحرفاً عن أمير المؤمنين - عليه السلام -.
خرج له: الأخوان، وأبو الغنائم، والجماعة.
[أبي مسعود الثقفي]
أبو مسعود الثقفي، عروة بن مسعود؛ حضر الحديبية قبل إسلامه، وسعى في الصلح، أسلم سنة تسع، وتحته عشر نسوة، فقال له: ((اختر أربعاً )) رواه محمد بن /189

(3/189)


منصور، وفي جامع الأصول نحوه؛ فقال: استأذن في الرجوع، فرجع؛ دعا قومه إلى الإسلام، فأبوا عليه؛ وأفاد أنه أذّن للفجر على غرفة في داره، فرماه رجل من ثقيف، فقتله؛ فقال - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((مثل عروة مثل صاحب يس، دعا قومه فقتلوه )).
أهمله في الجداول .
[أبي مسعود الزَّرَقي]
أبو مسعود الزرقي.
عن علي - عليه السلام -، وعمر، وعثمان.
وعنه: نافع بن جبير، وأبو الزناد، وغيرهما؛ ذكره المرشد بالله.
قال في الخلاصة : والصواب مسعود بن الحكم، ولعله تابعي.
وفي جامع الأصول : ولد على عهد رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، وكان له جلالة وقدر بالمدينة، ويعد في جلة التابعين وكبارهم.
وفي الخلاصة : احتج به مسلم، والأربعة، ووثقه الواقدي، وابن حبان.
[أبي موسى الأشعري ]
أبو موسى الأشعري، عبد الله بن قيس؛ قدم مكة قبل الهجرة، فأسلم؛ ثم قدم مع جعفر بعد فتح خيبر؛ أحد الحكمين؛ وخديعة عمرو له مشهورة.
روى الناصر - عليه السلام -، بسنده إلى عمار - رضي الله عنه -، أنه قال لأبي موسى: أشهد لقد كذبت على رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، أو كما قال ـ.
وقد بسطتُ الكلام عليه في الجزء الثاني من لوامع الأنوار بما فيه الكفاية.
توفي سنة اثنتين ـ أو أربع ـ وأربعين.
خرج له: المرشد بالله، ومحمد، والسيلقي، والجماعة، وذكره الإمام زيد بن علي - عليهما السلام - في الوتر، والإمام الهادي - عليه السلام - في الفنون /190

(3/190)


عنه: أبو بكر بن أبي موسى .
(حرف النون)
[أبي نجيح]
أبو نجيح (بنون، فجيم، فمهملة) السلمي.
عنه: أبو المغلس.
اسمه عمرو بن عبسة؛ قد مَرّ.
(حرف الهاء)
[أبي هريرة الدوسي، وبحث في الرواية عن أمثاله]
أبو هريرة الدوسي، اختلف في اسمه واسم أبيه اختلافاً كثيراً، لم يختلف في اسم أحد مثله؛ أكثر الصحابة رواية على الإطلاق، ضربه عمر بالدرة.
وفي إملاء أبي جعفر النقيب ، عن علي - عليه السلام -: لا أجد أحداً أكذب على رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - من هذا الدوسي.
وفي مسند أبي داود الطيالسي، أن عائشة أنكرت عليه رواية حديث رواه؛ وروى عنها ابن قتيبة نحو ذلك؛ وروي عن ابن عباس وعائشة أنهما أنكرا عليه حديث الاستيقاظ.
وروى له البخاري حديثاً عنه - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - فلما قيل له: أنت سمعته من رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - قال: لا؛ بل من كيسي.
ووصفه المنصور بالله - عليه السلام - بالغفلة؛ لحق بمعاوية، ودخل الكوفة، وأساء القول في أمير المؤمنين - عليه السلام -، فقال له بعض الحاضرين: يا أبا هريرة، أما سمعت رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يقول: ((اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه ))؟
قال: بلى.
قال: فأشهد لقد واليت من عاداه، وعاديت من والاه /191

(3/191)


قال في الجداول : وقد أكثرت في تقريظه الحشوية، كالشوكاني وغيره.
روى عنه خلق كثير.
أخرج له: أئمتنا الخمسة، والهادي إلى الحق - عليه السلام - خبراً واحداً في الأحكام ، وروى ذلك الخبر عن غيره، وأخرج له الجماعة.
قال شيخنا فخر الإسلام في الجداول : فإن قلت: فما وجه رواية الأئمة عنه وعن أضرابه؟
قال: أما الأئمة السابقون فلم يرووا عنه شيئاً في الأحكام ، وأما المتأخرون فروايتهم عنه احتجاج للمذهب بما يقبله الخصم؛ والله أعلم. انتهى.
قلت: والراجح أن الرواية لا تفيد التعديل، إلا أن يصرح الراوي أنه لا يروي إلا عن عدل، وإن روى عن غيره فللاحتجاج، مع التصريح بذلك؛ ويلحق بذلك من علم من حاله أنه لا يروي إلا عن عدل.
ولم يصح عندي الحكم على كتاب بتعديل جميع رواته، إلا كتابين:
أولهما: مجموع إمام الأئمة زيد بن علي - عليهما السلام -، فإن رواته من لدينا إليه أئمة العترة وأولياؤهم، وقد رواه عن آبائه ـ عليهم السلام ـ.
وثانيهما: أحكام الإمام الأعظم، الهادي إلى الحق - عليه السلام -، فإن رواته من لدينا إليه أعلام العترة وأولياؤهم، وأما رجاله فما كان عن آبائه فكرواية الإمام زيد بن علي عن آبائه ـ عليهم السلام ـ، وما كان عن غيرهم فهم ثقات أثبات؛ ويستثنى تلك الرواية الواحدة عن أبي هريرة ، التي ظهر أنها ليست عمدته؛ لما علم من عادته المستمرة.
وأما ما كان من البلاغات ونحوها، فتحمل على الصحة؛ لما علم من تحرّيه واحتياطه، وأنه ما روى عن غير الموثوق بهم إلا في مقام الاحتجاج على الغير بما يقبله، كالذي في الأوقات في المنتخب ، وقد /192

(3/192)


صرح بذلك؛ وقد سبق القول في الرد على الوزير بما فيه الكفاية.
وأما سائر المؤلفات، فلا بد من النظر في الرجال؛ لعدم التزامهم الصحة، إلا الإمام المؤيد بالله - عليه السلام - في شرح التجريد ، والأمير الحسين - عليه السلام - في الشفاء، فقد التزما الصحة؛ ولكنهما يقبلان المخالفين، وقد صرحا بذلك؛ فلا يفيد ذلك الالتزام إلا من يقبل المتأولين، فلا بد من البحث عن الرواة؛ وقد سبق الكلام في المقصود عندهما بالمتأولين، وأنهما لم يقصدا المتمرّدين؛ بدليل جرحهما لمن كان كذلك من الرواة؛ فهذا عندي هو التحقيق، والله تعالى ولي التوفيق.
في الطبقات : وكان فيه دعابة.
وذكر قصته في صفين، وهي أنه كان يصلي خلف علي - عليه السلام -، ويأكل مع معاوية، وعند القتال يجلس على تلّ؛ فقيل له في ذلك، فقال: الصلاة خلف علي أتم، وطعام معاوية أدسم، والجلوس على التل أسلم.
توفي بالعقيق ـ وقيل: بالمدينة ـ سنة سبع ـ أو تسع ـ وخمسين، عن ثمان وسبعين.
عنه: الجم الغفير، قيل: ثمانمائة، منهم: أبو تميمة اللخمي .
قلت: وفي الاستيعاب والإصابة: طريف بن مجالد الهجيمي ـ بالهاء والجيم ـ.
قال: وذكوان، وعبد الرحمن الحربي ، وسعيد بن المسيب، والمقبري.
أخرج له الجميع، إلا المجموع .
[أبي الهيثم ابن التيهان ]
أبو الهيثم ابن التيهان، اسمه مالك، أحد النقباء ليلة العقبة، شهد بدراً وما بعدها.
استشهد مع علي - عليه السلام - بصفين، سنة سبع وثلاثين على الصحيح؛ قاله /193

(3/193)


أبو نعيم، وغيره.
(حرف الواو)
[أبي وائل الأسدي]
أبو وائل الأسدي، سفيان بن سلمة؛ له رواية عن ابن مسعود .
عنه: واثلة بن علقمة .
خرج له: المؤيد بالله .
(فصل المبهمات)
أهملته؛ إذْ ليس فيه كثير فائدة.
---
(فصل في النساء الصحابيات)
(حرف الهمزة)
[أسماء بنت أبي بكر]
أسماء بنت أبي بكر، زَوْج الزبير بن العوام ، كانت من قدماء الإسلام والهجرة، شهدت كثيراً من المشاهد مع رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، وشهدت مع زوجها اليرموك، وشهدت الفتوح مع ابنها عبد الله؛ وكان عمر يفرض لها في ديوان العطاء ألفاً؛ وكانت تعبر الرؤيا، أخذت ذلك عن أبيها، وأخذ عنها سعيد بن المسيب ؛ وتُسمى ذات النطاقين، لشقّها نطاقها للنبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - في الهجرة، ولما طلقها الزبير أقامت مع ابنها عبد الله بمكة حتى قُتل، وماتت بعده بثلاث ليال، سنة ثلاث وسبعين، وقد بلغت مائة سنة.
خرج لها: المؤيد بالله ، والجماعة /194

(3/194)


[أسماء بنت عميس ]
أسماء بنت عميس ـ بضم المهملة الأولى ـ الخثعمية، أسلمت مع زوجها جعفر - عليه السلام -، وهاجرت الهجرتين، وتزوجها بعد جعفر أبو بكر، فولدت له محمداً، ثم تزوجها أمير المؤمنين - عليه السلام - بعد موت فاطمة - عليها السلام - فولدت له يحيى، وهي القابلة للحسنين ـ عليهم السلام ـ؛ وكانت من خواص أهل البيت ـ عليهم السلام ـ.
تُوفيت بعد علي - عليه السلام -.
روى عنها أولادها: عبد الله، وعون، ابنا جعفر بن أبي طالب ، ومحمد بن أبي بكر.
أخرج لها: المؤيد بالله ، ومحمد، والأربعة.
[أسماء بنت النعمان]
أسماء بنت النعمان، تزوج بها النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - فلما دخلت عليه استعاذت منه، فصرف وجهه عنها، وقال: ((أَمِنَ عائذ الله؛ الحقي بأهلك ))، وكانت مغرورة؛ ذكرها الهادي - عليه السلام -.
[أسماء بنت يزيد بن السكن]
أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية، خطيبة النساء ورسولتهنّ إلى رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - شهدت اليرموك، وقتلت تسعة بعمود خبائها.
عنها: مجاهد، وشهر بن حوشب.
أخرج لها: محمد، والبخاري، والأربعة.
(حرف الباء الموحدة)
[بريرة]
بريرة ـ بمهملتين بينهما تحتية ـ اشترتها عائشة، وشرط أهلها ولاءها، /195

(3/195)


فقال النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((الولاء لمن أعتق ))، وثبتت فيها سنن كثيرة.
قلت: قال الإمام الهادي إلى الحق - عليه السلام -: فكان فيها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربع سنن، فأولهن: أن عائشة اشترتها واشترط الذي باعها أن الولاء له، فقال النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((الولاء لمن أعتق ))، وتُصُدِّق على بريرة بشيء، فذكرت عائشة ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((هو عليها صدقة، ولنا هديّة )) وأكل منه - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
قلت: وفي هذا دليل على أن نساء النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - لسن من آله؛ لأن الصدقة محرّمة على آل محمد ـ صلوات الله عليه وعليهم ـ وعلى مواليهم؛ ولهذا منع منها أبا رافع لما كان من مواليهم.
قال الإمام الهادي - عليه السلام -: والثالثة: كان لها زوج فخيّرها رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - بعد العتق.
إلى قوله: والرابعة: أنه لم يجعل بيعها طلاقها..إلى آخر كلامه عليه السلام.
وقال في الإصابة: وقد جمع بعض الأئمة فوائد هذا الحديث فزادت على ثلاثمائة، ولخصتها في فتح الباري ، انتهى.
قلت: عدد كثيراً منها في كتاب المناقب صفحة 193، وبعضها بعيد؛ وذكر أنه لخصها في كتاب تهذيب الآثار لابن جرير.
قال ابن حجر: وقد بلغ بعض المتأخرين الفوائد من حديث بريرة إلى أربعمائة، أكثرها مستبعد متكلّف؛ كما وقع نظير ذلك للذي صنف في الكلام على حديث المجامع في رمضان، فبلغ به ألف فائدة وفائدة. انتهى.
[بسرة بنت صفوان ]
بسرة (بضم الموحدة، ومهملتين أولاهما ساكنة) بنت صفوان بن نوفل بن أسد الأسدية؛ مهاجرة، ابنة أخي ورقة بن نوفل؛ لها أحد عشر حديثاً /196

(3/196)


عنها: عبد الله بن عمرو، ومروان، وعروة.
خرج لها: المؤيد بالله ، والأربعة.
وروي عنها خبر مس الذكر ؛ ورواته غير ثقات.
(حرف الجيم المعجمة)
[جويرية بنت الحارث]
جويرية ـ على صيغة التصغير ـ بنت الحارث المصطلقية، أم المؤمنين.
توفيت سنة ست وخمسين.
خرج لها: المؤيد بالله ، ومحمد بن منصور ـ على الصواب ـ والخمسة.
(حرف الحاء المهملة)
[حبيبة بنت سهل]
حبيبة بنت سهل بن ثعلبة النجارية، التي اختلعت من ثابت بن قيس، وقالت: لا أنا ولا ثابت.
روت عنها عمرة بنت عبد الرحمن ، وعبد الله بن عمر.
وخرج لها: محمد، وأبو داود، والنسائي.
[حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية]
حليمة بنت أبي ذؤيب ـ واسمه عبد الله بن الحارث ـ السعدية، أم النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - التي أرضعته، ورأت له براهين من أعلام النبؤة؛ جاءت إليه - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يوم حنين، فقام إليها وبسط لها رداءه، فجلست عليه؛ روت عنه - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
وروى عنها: عبد الله بن جعفر ؛ أفاده في الاستيعاب.
وذكرها في الطبقات في ترجمة أم أيمن.
وفيها: قال ابن الجوزي : قدمت حليمة على النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - بعدما تزوج خديجة، وشكت جدب البلاد، فكلّم خديجة، فأعطتها أربعين شاة وبعيراً؛ ثم قدمت بعد الهجرة، فأسلمت، وبايعت، وأسلم زوجها /197

(3/197)


الحارث؛ وذكر القاضي عياض نحو ذلك. انتهى المراد.
ولم يذكروا لها وفاة، إلا أنهم ذكروا بقاءها بعد وفاة الرسول - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
[حفصة بنت عمر بن الخطاب ]
حفصة بنت عمر بن الخطاب ، أم المؤمنين، تزوجها صلى الله عليه وآله وسلم سنة ثلاث، وطلقها؛ فبكى عمر، وحثا على رأسه التراب، وقال: ما يعبأ الله بعمر وابنته بعد هذا.
وفي الطبقات : فنزل جبريل - عليه السلام -، فقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة، فإنها قوامة صوامة.
قلت: روى ذلك ابن عبد البر، وابن حجر بزيادة: وإنها زوجتك في الجنة.
توفيت سنة خمس وأربعين.
خرج لها: محمد بن منصور، والجماعة.
[حمنة بنت جحش]
حمنة (بفتح المهملة والميم، فنون، فهاء ـ ويقال: بسكون الميم ـ) بنت جحش (بفتح الجيم، وبسكون المهملة، فمعجمة) الأسدية، التي كانت تستحاض.
روى عنها: ابناها: محمد، وعمران، ابنا طلحة، وزوجها طلحة.
خرج لها: محمد بن منصور، والجامع الكافي، والأربعة إلا الترمذي حديث الاستحاضة.
(حرف الخاء المعجمة)
[خديجة بنت خويلد ]
أم المؤمنين وسيدة النساء؛ سبقت مع أهل البيت السابقين ـ عليهم /198

(3/198)


السلام ـ؛ وإنما ذكرتها هنا لئلا يتوهم الإهمال، لما كان هذا محل الاسم ـ صلوات الله وسلامه على زوجها، وعليها، وعلى ابنتها، وزوجها، وعلى بنيهم الطاهرين ـ.
[خولة بنت ثعلبة]
خولة بنت ثعلبة بن أصرم الأنصارية، زوج أوس بن الصامت ، المجادلة.
روى عنها: أبو العالية ، ويوسف بن عبد الله بن سلام .
خرج لها: محمد، وأبو داود.
[خولة بنت الحارث الخزاعية]
خولة بنت الحارث الخزاعية؛ كذا في نسخة القاضي جعفر؛ والصواب جويرية، كما تقدم.
[خولة بنت حكيم]
خولة بنت حكيم، زوج عثمان بن مظعون - رضي الله عنه -؛ وهي التي وهبت نفسها للنبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، كانت صالحة فاضلة.
روى عنها: سعد بن أبي وقاص حديث التعوّذ بكلمات الله عند الزوال.
خرج لها: أبو طالب ، ومسلم، وأبو داود.
[خولة بنت عاصم]
خولة بنت عاصم، زوج هلال، التي نزلت بسببها آية اللعان، لما قذفها زوجها بشريك بن سحماء؛ رواه ابن عباس؛ كذا في الطبقات /199

(3/199)


(حرف الراء المهملة)
[رقية بنت رسول الله (ص)]
رقية بنت رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، توفيت في وقعة بدر، جاء البشير بالنصر حال دفنها؛ ولم يترجم لها في الطبقات ؛ وكأنه للاكتفاء بذكرها مع أمها - عليهما السلام -، ولعدم الرواية.
[الرُّبَيِّع بنت معوِّذ]
الربيع ـ بالتصغير، وتشديد الياء ـ بنت معوِّذ ـ بتشديد الواو وكسرها ـ ابن عفراء الأنصارية النجارية، من أهل بيعة الرضوان.
عنها: أبو سلمة، وعبد الله بن عقيل.
أخرج لها: المؤيد بالله ، والمرشد بالله، ومحمد، والجماعة.
وفي الجداول والاستيعاب أنه روى عنها ابن عباس، وابن عمر.
ولم يذكرها في الطبقات .
سُئلت عن رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، فقالت: رأيت الشمس طالعة.
(حرف الزاي المعجمة)
[زينب بنت رسول الله (ص)]
زينب بنت رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، أكبر بناته؛ ولدت سنة ثلاثين من عمره صلى الله عليه وآله وسلم، تزوجها أبو العاص بن الربيع، ابن خالتها هالة بنت خويلد ؛ وقد تقدم ذكر إرجاعها إليه في ترجمته.
توفيت سنة ثمان، ونزل أبوها - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - في قبرها ـ رضوان الله وسلامه عليها ـ وابنتها أمامة، تزوجها أمير المؤمنين - عليه السلام - بوصيّة من فاطمة ـ عليها السلام ـ وكان - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يحبها، ويحملها في الصلاة، وأهديت إليه قلادة، فقال: ((لأدفعها لأحبّ أهلي إليّ )).
فقال النساء: ذهبت بها ابنة أبي قحافة؛ فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمامة، فأعلقها في عنقها /200

(3/200)


قلت: ويحمل على أنها أحبّ ممن هو دونها في المنزلة.
وروي أن أمير المؤمنين - عليه السلام - لما حضرته الوفاة قال لأمامة: إني لا آمن أن يخطبك هذا الطاغية ـ يعني معاوية ـ فإن كان لك في الرجال حاجة فقد رضيت لك المغيرة بن نوفل عشيراً.
فلما انقضت عدتها كتب معاوية إلى مروان يأمره أن يخطبها عليه، ويبذل مائة ألف دينار؛ فلما خطبها أرسلت إلى المغيرة: إن هذا قد أرسل يخطبني؛ فإن كان لك بنا حاجة فأقبل.
فأقبل وخطبها من الحسن بن علي - عليهما السلام -؛ فزوجها منه.
أخرجه ابن عبد البر، وابن حجر.
قلت: هو المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب .
[زينب بنت أمير المؤمنين (ع)]
زينب بنت أمير المؤمنين - عليه السلام - سبطة رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - زوجها أبوها - عليه السلام - ابن أخيه عبد الله بن جعفر ـ رضي الله تعالى عنهم ـ ولها منه أولاد؛ ولها كلام ليزيد، وعبيدالله بن زياد ، يدل على بلاغة، وعلم وعقل، ورباطة جأش، وقوة جنان؛ ولا غرو فالثمرة من الشجرة ـ صلوات الله وسلامه على آبائها وعليها ـ.
ومن كلامها: أظننت يا يزيد حين أخذت علينا أقطار الأرض..إلى قولها: أنّ بنا على الله هواناً، وبكَ عليه كرامة، فشمختَ بأنفكَ، ونظرت في عطفك؟ فمهلاً مهلاً؛ أنسيت قول الله: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } [آل عمران:178].
..إلى قولها: ثم تقول غير متأثم:
لأهلّوا واستهلوا فرحاً .... ثم قالوا يا يزيد لا شلل
منحنياً على ثنايا أبي عبد الله، سيد شباب أهل الجنة، تنكثها بمخصرتك؛ وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة، واستأصلتَ /201

(3/201)


الشأفة، بإراقتك دماء ذرية محمد - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - ونجوم الأرض من آل عبد المطلب؟ وتهتف بأشياخك زعمتَ تناديهم، ولتردنّ وشيكاً موردهم، ولتودن أنك شللت وبكمت، ولم تكن قلتَ ما قلتَ؛ اللهم خُذْ بحقنا، وانتقم من ظالمنا، وأحلل غضبك بمن سفك دماءنا، وقتل حماتنا؛ وستردن على رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - بما تحمّلتَ من سفك دماء ذريته، وانتهكت من عترته، في حرمته ولحمه، وليخصمنك، حيث يجمع الله شملهم، ويلم شعثهم، ويأخذ بحقهم؛ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين؛ وحسبك بالله حكماً، ومحمد خصيماً، وبجبريل ظهيراً؛ وسيعلم من بوأك وأمكنك من رقاب المسلمين، أن بئس للظالمين بدلاً، وأنكم شر مكاناً وأضعف جنداً.
انتهى المراد من كلامها باختصار؛ وتمامه في الحدائق الوردية .
وقال في الإصابة: وكلامها ليزيد بن معاوية.
إلى قوله: مشهور، يدل على عقل وقوة جنان ـ سلام الله عليها ـ.
ولم يترجم لها في الطبقات ، والجداول؛ لعدم الرواية؛ ولكن لا يحسن إهمال مثلها.
[زينب بنت جحش ]
زينب بنت جحش الأسدية، أم المؤمنين.
قلت: زوجها الله سبحانه رسوله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - سنة ثلاث، وقيل: سنة خمس، وهي في خمس وثلاثين، وأمها أميمة بنت عبد المطلب، وأنزل الله سبحانه في تزويجها: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } [الأحزاب:40]، لأن المنافقين قالوا: حرم محمد نساء الولد، وقد تزوج امرأة ابنه.
قال ابن عبد البر: وقال الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } [الأحزاب:5]، فدعي من يومئذ زيد بن حارثة ، انتهى.
وفي خبر تزويجها: فبينا رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يتحدث عند عائشة، إذْ /202

(3/202)


أخذته غشية فسرّي عنه، وهو يتبسم، ويقول: ((من يذهب إلى زينب يبشرها ـ وتلا ـ {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ }...الآية)) [الأحزاب:37].
قالت عائشة: فأخذني ما قرب وما بعد؛ لما بلغنا من جمالها؛ وأخرى، هي أعظم وأشرف ما صنع لها، زوجها الله من السماء.
وروي عن أم سلمة أنها قالت فيها: وكانت صالحة صوامة قوامة، صناعاً، تصدق بذلك كله على المساكين. انتهى.
توفيت سنة عشرين، قال - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - لنسائه: ((أسرعكنّ لحوقاً بي أطولكنّ يداً ))، قالت عائشة: فكن يتطاولن أيتهنّ أطول يداً، فكانت زينب؛ لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق، وكان عطاؤها اثني عشر ألفاً، لم تأخذه إلا عاماً، وجعلت تقول: اللهم لا تدركني هذا المال فإنه فتنة؛ ثم قسمته في أهل رحمها، وأهل الحاجة؛ فبلغ عمر، فأرسل بألف تستبقيها؛ فسلكت بها ذلك ـ رضوان الله عليها ـ.
خرج لها: المؤيد بالله ، ومحمد، والجماعة.
[زينب بنت أم سلمة ]
زينب بنت أم سلمة المخزومية، ربيبة النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - كانت فقيهة عاقلة؛ لها رواية عن أمها أم سلمة ـ رضي الله تعالى عنهما ـ دخلت على النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وهو يغتسل، فأخذ بيده ماء فنضحه في وجهها، فلم يزل الشباب في وجهها حتى عجزت.
توفيت سنة ثلاث وسبعين.
خرج لها: المؤيد بالله ، ومحمد، والجماعة.
عنها: عروة ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن؛ كذا في الطبقات .
وفي الإصابة: وقد حفظت عن النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وروت عنه، وعن أزواجه: أمها، وعائشة، وأم حبيبة.
وعنها: ابنها أبو عبيدة.
إلى قوله: وزين العابدين /203

(3/203)


(حرف السين المهملة)
[سعدى بنت عوف]
سعدى بنت عوف بن خارجة بن سنان المزنية.
عن زوجها طلحة، وعمر.
وعنها: ابنها يحيى، والهيثم مولى سعد.
خرج لها: المرشد بالله، وابن ماجه.
[سودة بنت زمعة]
سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس القرشية العامرية، أم المؤمنين؛ تزوجها النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - بعد خديجة ـ رضي الله عنهما ـ هاجرت الهجرتين، أراد - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - فراقها لكبرها، فقالت: إني أريد أن أحشر في نسائك؛ ووهبت نوبتها لعائشة؛ وقد ذكر معنى هذا الإمام الهادي إلى الحق - عليه السلام -.
توفيت سنة خمس وخمسين على الصحيح.
روى عنها ابن عباس، ويحيى بن عبد الله الأنصاري .
خرج لها الإمامان: الهادي إلى الحق، والمؤيد بالله - عليهما السلام -، والبخاري، وأبو داود، والنسائي.
[سودة بنت مَشْرَح]
سودة بنت مشرح (بفتح الميم، ومعجمة ساكنة، ومهملتين) روي أنها كانت قابلة لفاطمة ـ عليها السلام ـ، حين وضعت الحسن - عليه السلام -، فلفته في خرقة صفراء؛ فنزعها - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، ولفه في خرقة بيضاء، وسمّاه الحسن.
ونحوه ذكر السيد أبو طالب - عليه السلام -.
[سهلة بنت سهيل]
سهلة ـ بفتح المهملة، وسكون الهاء ـ بنت سهيل بن عمرو القرشية /204

(3/204)


العامرية، امرأة أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، هاجرت الحبشة، وولَدت محمداً بها؛ ذكرها الإمام الهادي - عليه السلام -، وقال: تبنت سالماً؛ روت عنها عائشة؛ وجزم به - عليه السلام - في الرضاع؛ وقد حمل رضاع سالم ـ وهو كبير ـ على أنه رخصة خاصة لها؛ للروايات الصحيحة أنه لا رضاع بعد فصال - أي الحولين-.
ولم يذكروا لها وفاة في الطبقات ، ولا الاستيعاب، ولا الإصابة.
(حرف الصاد)
[صفية بنت حيي بن أخطب]
صفية بنت حيي ـ بضم المهملة مصغراً ـ ابن أخطب ـ بمعجمة بعد الهمزة، ثم موحدة ـ الإسرائيلية الهارونية، أم المؤمنين؛ واتفق زيد بن علي، والهادي، والمؤيد بالله، ومحمد، والبخاري، أن النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - تزوجها، وجعل عتقها صداقها.
توفيت سنة خمسين، ودفنت بالبقيع.
خرج لها: الأئمة الأربعة، والجماعة.
وروي أن رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - دخل على صفية وهي تبكي فقال: ((ما يبكيك؟))
قالت: بلغني أن عائشة وحفصة تقولان: نحن خير من صفية؛ نحن بنات عمّ رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وأزواجه.
قال: ((ألا قلت لهن: كيف تكن خيراً مني وأبي هارون، وعمي موسى، وزوجي محمد؟ )) ذكره في الاستيعاب وغيره.
[صفية بنت عبد المطلب]
صفية بنت عبد المطلب بن هاشم، عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شقيقة حمزة، وأم الزبير؛ أسلمت وروت.
روي أن رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - لما خرج إلى الخندق، جعل نساءه في حصن /205

(3/205)


يقال له: فارع، وجعل فيه حسان؛ فجاء يهودي فرقى الحصن.
قالت صفية: فأطل علينا، فقلت لحسان: قم فاقتله.
فقال: لو كان ذلك فيّ كنت مع رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
قالت: فقمت إليه فضربته، حتى قطعت رأسه، وقلت لحسان: قم فاطرح رأسه على اليهود ـ وهم أسفل الحصن ـ.
فقال: والله ما ذاك.
قالت: فأخذت رأسه فرميته عليهم، فقالوا: قد علمنا أن هذا لم يكن ليترك أهله ليس معهم أحد؛ فتفرقوا.
وهي أول امرأة قتلت كافراً.
وروي أنها جاءت يوم أحد، لتنظر إلى أخيها؛ فلقيها الزبير، فقال: أي أمَّه، إن رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يأمرك أن ترجعي.
قالت: ولم وقد بلغني أنه مُثّل بأخي، وذلك في الله؟! فما أرضاني بما كان من ذلك؛ لأصبرنّ وأحتسبن إن شاء الله.
فجاء الزبير فأخبره؛ فقال: ((خل سبيلها))، فأتت إليه واستغفرت له.
ومما رثت به صفية رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -:
إن يوماً أتى عليك ليوم .... كورت شمسه وكان مضيئاً
توفيت سنة عشرين، ولها ثلاث وسبعون سنة، ودفنت بالبقيع رضي الله تعالى عنها.
ولم يترجم لها في الطبقات .
[الصماء بنت بسر]
الصماء بنت بسر (بموحدة مضمومة، فمهملتين أولاهما ساكنة) المازنية؛ لها رواية عن النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وعن عائشة.
عنها: ابن أخيها بسر بن عبد الله، عند المرشد بالله اسمها بُهية ـ بضم الموحدة ـ ولم يذكروا لها وفاة.
(حرف العين المهملة)
[عائشة بنت أبي بكر]
عائشة بنت أبي بكر، أم المؤمنين؛ عقد بها رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - بمكة، وبنى بها بالمدينة، وهي /206

(3/206)


بنت تسع سنين، وتوفي الرسول - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وهي في ثمان عشرة سنة؛ وفيها ورد: ((أيتكن تنبحها كلاب الحوأب)) بمهملة؛ وفي رواية ((إياك أن تكونيها يا حميراء ))، فلما بلغته، سألت عنه؛ فقيل: الجوأب بالجيم؛ وكانت أول كذبة في الإسلام.
قلت: وفي الاستيعاب: بسنده إلى ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أيتكن صاحبة الجمل الأدبب، يُقتل حولها قتلى كثير، وتنجو بعدما كادت ))، وهذا الحديث من أعلام نبوته - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، انتهى.
وفي النهاية : قال لبعض نسائه: ((ليت شعري؛ أيتكن صاحبة الجمل الأدبب، تنبحها كلاب الحوأب ))، أراد (الأدبَّ) فأظهر الإدغام لأجل الحوأب؛ والأدبُّ الكثير وَبَر الوجه.
وقال فيها: الحوأب منزل بين مكة والبصرة؛ وهو الذي نزلته عائشة، لما جاءت إلى البصرة في وقعة الجمل، انتهى.
ولما نبحتها كلابه، وسمعت أنه الحوأب، قالت: رُدّوني رُدّوني.
فلفقوا لها خمسين أعرابياً؛ فحلفوا أنه ليس به.
وهي معدودة من أصحاب الألوف؛ ولما خرجت على أمير المؤمنين - عليه السلام - أسرها وأحسن أسرها ، رعاية لحق رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
قال في الطبقات ، والجداول: قال المنصور بالله وغيره من أئمتنا وشيعتهم: إنها ثبتت توبتها عن الخروج على أمير المؤمنين - عليه السلام -.
قلت: وكانت تنشر فضائل أمير المؤمنين - عليه السلام -؛ وأنا أرى لها منزلة ولطلحة والزبير؛ لأنهم لم يحدّثوا عن رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - في خروجهم، ولا في جانب أمير المؤمنين - عليه السلام - بما يخل ولو رووا لضللوا الأمة؛ لمكانهم في الإسلام؛ وهذا يدل على تحرّج وتدين؛ وأما غيرهم، فلو روى لم يُصَدَّق؛ كما قد وقع ذلك /207

(3/207)


وقد روي عن عائشة أنها منعت من دفن الحسن السبط - عليه السلام - جنب رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وروي أنها لم تمنع، وإنما منع بنو أمية؛ والله أعلم.
وأعدل الأقوال عندي، ما قاله أمير المؤمنين - عليه السلام - في شأنها: وأما عائشة فأدركها رأي النساء وشيء كان في نفسها عليَّ يغلي في جوفها كالمرجل، ولو دُعِيَتْ لتنال من غيري ما أتت إلي، لم تفعل؛ ولها بعد ذلك حرمتها الأولى والحساب على الله.
أخرجه السيوطي في جمع الجوامع ، في مسند أمير المؤمنين - عليه السلام - من طريق الإمام يحيى بن عبد الله بن الحسن ، عن أبيه (ع)؛ وهو في نهج البلاغة .
تُوفيت سنة ثمان وخمسين عن خمس وستين.
روى عنها الجم الغفير، وأئمتنا الخمسة؛ ولها ذكر في المجموع ، والأحكام، وغيرهما من كتب أئمتنا؛ وخرج لها الجماعة.
[عصمة العوسجية]
عصمة العوسجية، لها حديث وقوف الملائكة بإحصاء الذنب ثلاث ساعات.
عنها: أم الشعثاء.
قلت: معنى ما في الأمالي (ج1 ص200) أن الملك يتوقف عن كتابة الذنب ثلاث ساعات؛ فإن تاب فيها لم يوقف عليه.
وقال في الجداول : ولم أقف لها على خبر.
خرج لها: المرشد بالله.
هذه جملة ترجمتها في الطبقات .
قلت: يبحث إن شاء الله في الأمالي، ولعله وقع في اسمها غلط.
قد بحث؛ فوجد في أمالي المرشد بالله - عليه السلام - صفح 200، عن سعيد بن سنان، قال: حدثتني أم الشعثاء، عن أم عصمة العوسجية، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما من عبد مسلم يعمل ذنباً إلا وقف الملك الموكل بإحصاء ذنوبه ثلاث ساعات، فإن استغفر الله من ذنبه في شيء من تلك الساعات لم يوقفه عليه ولم يعذبه عليه يوم القيامة )).
(حرف الفاء)
[فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين (ع)]
فاطمة بنت أسد بن هاشم، أول هاشمية ولدت هاشمياً، أم أمير المؤمنين ـ عليهما /208

(3/208)


السلام ـ، ومربية رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - كانت من السابقات إلى الإسلام، بدرية، وأول مبايعة؛ أوصت إلى رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، وقبل وصيتها.
توفيت في السنة الرابعة، وكفّنها الرسول - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - في قميصه، وقال: ((إنما ألبستها لتكسى من حلل الجنة ))، وغسلها علي عليه السلام، وصلى عليها النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وكبر عليها أربعين تكبيرة، وقيل له في ذلك؛ فقال: ((كان ورائي أربعون صفاً من الملائكة، فكبرت لكل صف تكبيرة )) رواه الإمام أبو طالب - عليه السلام -.
قلت: وقد كبر - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - على الحمزة سبعين تكبيرة؛ وهذا يدلّ على أنه لا مانع من الزيادة على الخمس، كما وردت الرواية الصحيحة؛ فما روي من إجماع أهل البيت على الخمس، يحمل على منع النقص، أما الزيادة فلا؛ وهذا عارض.
قال في الطبقات : واضطجع - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - في قبرها وجزأها خيراً، وقال: ((إنه لم يكن أحد أبَرَّ بي بعد أبي طالب منها، واضطجعت في قبرها؛ ليهون عليها ضغطة القبر )).
قلت: وروى في الاستيعاب، بسنده إلى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: لما ماتت فاطمة أم علي بن أبي طالب ، ألبسها رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - قميصه، واضطجع في قبرها؛ فقالوا: ما رأيناك صنعت ما صنعت بهذه؟
فقال: ((إنه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبر بي منها؛ إنما ألبستها قميصي لتُكسى من حلل الجنة، واضطجعت معها ليُهَوَّن عليها )).
قلت: أخرج الطبراني في الكبير والأوسط ، وابن حبان، والحاكم، عن أنس، قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد، دخل عليها رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم- فجلس عند رأسها فقال: ((رحمك الله يا أمي بعد أمي )).
وذكر ثناءه عليها، وتكفينها ببرده.
قال: ثم دعا رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - أسامة وأبا أيوب الأنصاري، /209

(3/209)


وعمر بن الخطاب، وغلاماً أسود، يحفرون، فحفروا قبرها؛ فلما بلغوا اللحد، حفره رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - بيده؛ فلما فرغ دخل رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - فاضطجع فيه، ثم قال: ((الله الذي يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ووسع عليها مدخلها، بحق نبيئك والأنبياء الذين من قبلي ))، انتهى.
وهذا توسل بالأموات، ولا يمكن التحريف فيه، بأن المقصود بدعائهم؛ والأدلة على ذلك كثيرة، قد ذكرتها في مواضع، منها: شرح الزلف؛ ولكن العناد لا ينفع صاحبه شيء، والله الموفق.
[فاطمة بنت أبي حبيش]
فاطمة بنت أبي حُبَيش ـ بضم المهملة صيغة التصغير ـ واسمه قيس بن المطلب بن أسد، الأسدية، مهاجرية جليلة، وهي التي استحيضت.
خرج لها: المؤيد بالله ، وأبو داود، والنسائي.
[فاطمة بنت قيس]
فاطمة بنت قيس، عنها: أبو بكر بن عبد الله بن أبي الجهم؛ أخت الضحاك، من المهاجرات الأولات، وهي التي جاءت النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - مستشيرة، فقال: ((أنكحي أسامة ))، فنكحته، فاغتبطت، وكانت ذات عقل وافر.
قلت: واستدلوا بهذا على جواز الخطبة على الخطبة قبل التراضي؛ وفي الاستدلال به نظر؛ للفرق بين الخاطب لنفسه بعد الخطبة، والمستشار؛ فلا غضاضة في حقه، كما في حق الخاطب لنفسه.
وأيضاً؛ فإنه لما أشار بتركهم، أبطل خطبتهم؛ فكأنها لم تكن؛ وأيضاً، فغاية ما يمكنهم الاستدلال أن تخص مثل هذه الصورة، وهي أنها متى /210

(3/210)


استشارت جاز لمشير أن يشير عليها بترك الخاطب إن لم يكن يصلح ويخطب لغيره؛ لا أنه يجوز لكل أحد أن يخطب لنفسه أو لغيره، بعد الخطبة، قبل التراضي، على الإطلاق؛ فتأمل؛ مع أن المرؤة تأبى ذلك.
وهي التي تذكر في السكنى والنفقة للمطلقة بائناً.
توفيت بعد الخمسين.
أخرج لها: محمد، والمؤيد بالله، والجماعة.
[فاطمة بنت محمد الرسول (ص)]
فاطمة بنت محمد الرسول - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
قلت: ذكرها هنا في الطبقات ، وقد سبقت ـ عليها السلام ـ.
(حرف الميم)
[مُسَّة الأزدية]
مُسّة (بضم الميم، وتشديد المهملة، ثم هاء) أم بُسة ـ بالموحدة، مثلها ـ الأزدية.
روت عن أم سلمة حديثها في الحيض.
وعنها: أبو سهل كثير بن زياد.
خرج لها: المؤيد بالله ، ومحمد، والأربعة إلا النسائي .
[ميمونة بنت الحارث الهلالية]
ميمونة بنت الحارث الهلالية، أم المؤمنين؛ تزوجها صلى الله عليه وآله وسلم في عمرة القضاء، سنة سبع بسَرِف (بفتح المهملة، وكسر الراء، ففاء) على عشرة أميال من مكة، وبنى بها هنالك، في مرجعه من عمرته، وهما حلالان على الراجح من روايتها، وهي صاحبة القصة.
ورواية أبي رافع ، وهو السفير بينهما، خلاف رواية ابن عباس - رضي الله عنهما- المرجوحة.
قلت: والجمع بين الروايات، بأنه أراد أنهما في الحرم ـ كما يقال ـ: /211

(3/211)


متهم، ومنجد، لمن دخلهما، وكما قال: قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً؛ وهو الأولى.
توفيت بسرف أيضاً، سنة إحدى وخمسين.
عنها: ابن عباس، وعبد الله بن شداد، ويزيد الأصم.
خرج لها: الهادي إلى الحق، والمؤيد بالله، ومحمد، والجماعة.
[ميمونة بنت سعد]
ميمونة بنت سعد.
عن مولاها النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
وعنها: أيوب بن خالد، وأبو يزيد الضبي.
خرج لها: المؤيد بالله ، والبخاري في الأدب.
(حرف الهاء)
[هند بنت الجون]
هند بنت الجَون (بفتح الجيم، فواو، فنون).
عنها: عبد الله بن عمرو الخزاعي قصة الشاة والعوسجة في جلاء الأبصار للحاكم، وربيع الأبرار للزمخشري مرفوع إلى عبد الله بن عمرو الخزاعي، عن هند بنت الجون، قالت: نزل رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - خيمة خالتي أم معبد ـ وهو الصواب ـ.
وذكر القصة؛ وستأتي إن شاء الله في أم معبد، والتصويب بالنظر إلى رواية نسخة أمالي أبي طالب سقط فيها عبد الله بن عمر ، وهو ثابت.
[هرينة بنت الحارث]
هرينة بنت الحارث، أخت ميمونة (كذا وقع، بالراء، فتحتية، فنون) والصواب هزيلة ـ بزاي معجمة، وبلام بعد التحتية ـ.
خرج لها: الهادي - عليه السلام - في الطعام، في أكل الضب /212

(3/212)


(حرف الياء)
[يسيرة بنت ياسر]
يسيرة بنت ياسر.
كذا في الجداول ، ورمز أنه روى لها المرشد بالله، ولم يذكرها في الطبقات .
وفي الاستيعاب: كانت من المهاجرات الأول، المبايعات.
من حديثها عن النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - أنه قال: ((يا نساء المؤمنات، عليكن بالتهليل، والتسبيح، والتقديس، واعقدن بالأنامل، فإنهن مسؤلات مستنطقات )) عن هانيء بن عثمان، عن حميصة بنت ياسر ، عن جدتها يسيرة.
وفي الإصابة: وأخرج الترمذي ، وابن سعد، من طريق هاني بن عثمان، عن أم حميصة، عن جدتها يسيرة ـ وكانت من المهاجرات ـ قالت: قال رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((عليكنّ بالتسبيح، والتقديس والتهليل ))..الخبر.
(فصل في الكنى)
[أم أيمن]
أم أيمن، اسمها بركة، حاضنة رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - من المهاجرات الأولات، وهي التي زفت فاطمة الزهراء ـ عليها السلام ـ.
توفيت بعد الرسول - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - بخمسة أشهر.
ذكرها في الطبقات ، وأهملها في الجداول .
[أم خالد بنت سعيد بن العاص ]
أم خالد بنت سعيد بن العاص .
سمعت رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يتعوّذ من عذاب القبر.
عنها: ابن عمر /213

(3/213)


[أم الدرداء الكبرى]
أم الدرداء ـ بمهملات ـ الكبرى، زوج أبي الدرداء؛ كانت من أفضل النساء وأعقلهنّ، وذوات الرأي والنسك، قيل: اسمها خيرة (بخاء معجمة، فمثناة تحتية، فراء، فهاء).
توفيت في خلافة عثمان، قبل أبي الدرداء بسنتين.
روى عنها جماعة من التابعين، منهم: أم الدرداء الصغرى.
أخرج لها: الأخوان، والجماعة.
[أم الدرداء الصغرى]
أم الدرداء الصغرى، اسمها هجيمة ـ وقيل: بتقديم الجيم على الهاء ـ وهي زوج أبي الدرداء، ليست صحابية؛ قال في التقريب : ثقة.
خرج لها الستة.
وعنها: رجاء بن حيوة .
[أم سلمة ]
أم سلمة ، هند بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية، أم المؤمنين، رأت جبريل - عليه السلام - وهي وزوجها أبو سلمة أول من هاجر إلى الحبشة، ويقال: إنها أول مهاجرة دخلت المدينة، تزوجها الرسول - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - بعد وقعة بدر، في شوال، وقال لها: ((إن شئت سبّعت لك وسبّعت لنسائي، وإن شئت ثلّثتُ لكِ ودُرْتُ )).
وتوفيت سنة اثنتين وستين، بعد مقتل الحسين - عليه السلام - وعرفت قتله قبل وصول الخبر، بتحوّل التربة دماً، وهي التي أعطاها رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وأخبرها بذلك، وكانت من العالمات الطيبات الطاهرات، شديدة الولاء لأمير المؤمنين - عليه السلام - وأهل البيت؛ نهت عائشة عن الخروج، وذكّرتها بما سمعته من النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - في أمير المؤمنين ـ عليه /214

(3/214)


السلام ـ، وأخرجت ولدها عمر للجهاد معه، ودُفنت بالبقيع ـ رضوان الله عليها وسلامه ـ وهي آخر أمهات المؤمنين موتاً.
قال في الإصابة: وفي الصحيح: عن أم سلمة أن أبا سلمة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا أصاب أحدكم مصيبة فليقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم عندك أحتسب مصيبتي وآجرني فيها ))، وأردت أن أقول: وأبدلني بها خيراً منها، فقلت: ومن هو خير من أبي سلمة، فما زلت حتى قلتها.
وفيها: عن أم سلمة قالت: لما خطبني النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - قلت: فيّ خلال ثلاث: أما أنا فكبيرة السن، وأنا امرأة معِيل، وأنا امرأة شديدة الغيرة؛ فقال: ((أنا أكبر منك، وأما العيال فإلى الله، وأما الغيرة فأدعو الله فيذهبها عنك ))، انتهى.
روى عنها: ابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وعائشة، وولداها: عمر، وزينب، ومكاتبها نبهان، وأخوها عامر، ومواليها: عبد الله بن رافع، ونافع، وسفينة، وأبو كثير، وسليمان بن يسار، وقبيصة بن ذؤيب ، ونافع مولى ابن عمر ، والشعبي، وغيرهم.
قلت: ولحلمها وعلمها، أنه لما شقّ على رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - في الحديبية توقف أصحابه عن الإحلال؛ لأنهم كانوا يريدون دخول مكة والحرب، دخل عليها وشكى ذلك، فأشارت عليه بأن يحلق، فحلق، فحلقوا جميعاً؛ وهي موصوفة بالجمال البارع، والعقل البالغ، والرأي الصائب.
قالت أم سلمة لعائشة لما عزمت على الخروج: إنك تعرفي منزلة علي بن أبي طالب عند رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - أفأذكرك؟
قالت: نعم.
فذكرت أن رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - خلا بعلي يناجيه فأطال؛ فهجمت عائشة /215

(3/215)


عليهما، وقالت لعلي - عليه السلام -: ليس لي من رسول الله إلا يوم من تسعة أيام، أفما تدعني يابن أبي طالب ويومي؟
فأقبل رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - عليها وهو غضبان محمّر الوجه، فقال: ((ارجعي وراءك؛ والله، لا يبغضه أحد من أهل بيتي ولا من غيرهم من الناس، إلا وهو خارج من الإيمان )).
فرجعت باكية ساقطة.
قالت عائشة: نعم أذكر ذلك.
قالت: وأذكّرك أيضاً؛ كنت أنا وأنت مع رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم-...إلى قولها: فرفع رأسه وقال: ((يا ليت شعري! أيتكّن صاحبة الجمل الأدبب، تنبحها كلاب الحوأب، فتكون ناكبة عن الصراط؟)).
فقلت: أعوذ بالله وبرسوله من ذلك؛ ثم ضرب على ظهرك وقال: ((إياك أن تكونيها )).
قالت عائشة: نعم، أذكر هذا.
قالت: وأذكّرك أيضاً، كنت أنا وأنت مع رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - في سفر...إلى قولها: فجاء أبوك ومعه عمر، فاستأذنا عليه، فقمنا إلى الحجاب، ثم قالا: يا رسول الله، لا ندري قدر ما تصحبنا؛ فلو أعلمتنا من تستخلف علينا؛ ليكون لنا مفزعاً من بعدك؛ فقال لهما: ((أما إني قد أرى مكانه، ولو فعلت لتفرّقتم عنه، كما تفرّقت بنو إسرائيل عن هارون بن عمران))، فسكتا ثم خرجا.
ثم قالت: إن عائشة سألته مَنْ كان مستخلفاً عليهم - وكان علي يخصف نعله- فقال: ((خاصف النعل )).
فقالت عائشة: نعم، أذكر ذلك.
فقالت: فأي خروج تخرجين بعد هذا؟
..إلى آخر الكلام، اختصرته؛ وهو بتمامه في شرح النهج وغيره.
[أم سليم بنت ملحان]
أم سليم ـ بضم المهملة ـ بنت ملحان الأنصارية النجارية، أم أنس بن مالك ، وزوج أبي طلحة، قالت له: لا أريد منك صداقاً إلا أن تسلم؛ فأسلم، فكان صداقها أشرف صداق.
اسمها سهلة أو زميلة، أو رميثة، /216

(3/216)


أو مليكة، وتلقب بالرميصاء.
قلت: أسلمت مع السابقين من الأنصار، وكانت من فاضلات النساء، وكانت تغزو مع الرسول - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، ولها قصص مشهورة.
ومات لها ولد من أبي طلحة فكتمت موته عنه، وسأل عنه، فقالت: هو أسكن ما يكون، ثم تزيّنت له وتطيبت؛ فنام معها، فلما أصبحا، قالت: احتسب ولدك؛ فذكر ذلك لرسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - فقال: ((بارك الله لكما في ليلتكما )) فجاءت بولد، عبد الله بن أبي طلحة ؛ فأنجب أولاداً قرأ القرآن منهم عشرة.
توفيت في خلافة عثمان.
روت عنه - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - عدة أحاديث.
وروى عنها: ولدها أنس بن مالك ، وابن عباس.
خرج لها: أبو طالب ومحمد والجماعة إلا ابن ماجه.
[أم عطية الأنصارية]
أم عطية الأنصارية، اسمها نُسَيبة ـ ويقال: بفتح النون، وكسر المهملة ـ بنت كعب، وقيل: الحارث، وحديثها أصل في غسل الميتة؛ من كبار الصحابيات، وكانت تغزو مع رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وتداوي الجرحى، وتمرض المرضى.
أخرج لها: المؤيد بالله ، وأبو طالب، ومحمد.
عنها: أنس، ومحمد، وحفصة، ابنا سيرين.
[أم العلاء الأنصارية]
أم العلاء الأنصارية.
قلت: قال في الاستيعاب: من المبايعات؛ روى عنها خارجة بن زيد بن ثابت ، وعبد الملك بن عمير؛ كان رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يعودها في مرضها.
وفيه: وذكر ابن السكن أن أم العلاء، التي روى عنها خارجة بن زيد بن ثابت عن النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - غير أم العلاء التي روى عنها عبد الملك بن عمير ؛ وذكر أم العلاء امرأة ثالثة غيرهما. انتهى /217

(3/217)


خرج لها: أبو طالب ، وأبو داود.
[أم عمارة الأنصارية]
أم عمارة الأنصارية.
عنها: مولاتها.
قال في الكاشف: اسمها نسيبة بنت كعب، ولم يذكر أم عطية المار ذكرها؛ فيحقق الفرق بينهما إن شاء الله تعالى؛ كذا في الطبقات .
وأفاد في الاستيعاب أنها شهدت بيعة العقبة وأحداً، مع زوجها زيد بن عاصم، ومع ابنيها حبيب وعبد الله، فيما ذكر ابن إسحاق، وشهدت بيعة الرضوان، وشهدت مع ابنها عبد الله اليمامة، فقاتلت، حتى أُصيبت يدها، وجُرحت اثنا عشر جرحاً.
روت عن النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((الصائم إذا أكل عنده صلّت عليه الملائكة )).
وفي الإصابة: روي عنها أنها قالت: خرجت أول النهار ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - والريح والدولة للمسلمين؛ فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -؛ فجعلت أباشر القتال، وأذبّ عن رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - بالسيف، وأرمي بالقوس، حتى خلصت إلي الجراحة.
وروي عن عمر، قال: سمعت رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يقول: ((ما التفت يوم أحد يميناً ولا شمالاً إلا وأراها تقاتل دوني )).
[أم الفضل]
أم الفضل، لبابة ـ بتخفيف الموحدتين، بينهما ألف ـ بنت الحارث الهلالية، أم ولد العباس، وأخت ميمونة أم المؤمنين؛ أسلمت قديماً، قيل: إنها أول مسلمة بعد خديجة ـ رضوان الله عليهما ـ.
قلت: وأختها من أمها أسماء بنت عميس وسلمى، وكانت من أكرم الناس أصهاراً، فميمونة أم المؤمنين، وسلمى زوج الحمزة بن عبد المطلب، وأسماء زوج جعفر بن أبي طالب ، ثم أمير المؤمنين /218

(3/218)


ـ عليهم السلام ـ.
روت أم الفضل عن النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
وعنها: عبد الله، وتمام، وكريب مولاها، وآخرون.
وكان رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يزورها، وأنجبت ستة رجال لم تنجب امرأة مثلهم، وهم: الفضل، وعبد الله، وعبيدالله، ومعبد، وقثم، وعبدالرحمن؛ قال عبد الله الهلالي:
ما ولدت نجيبة من فحل .... بجبل نعلمه أو سهلِ
كستة من بطن أم الفضل .... أكرم بها من كهلة وكهلِ
عمّ النبي المصطفى ذي الفضل .... وخاتم الرسل وخير الرسلِ
الفضلان مختلفان، الأول: الاسم، والثاني: صفة؛ فلا إيطاء.
[أم كلثوم بنت الرسول (ص)]
أم كلثوم بنت المصطفى - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -.
في ترتيب ولادة بنات رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - خلاف، وقد ذكرت الراجح في شرح الزلف، والاختلاف في التاريخ كثير.
ومن أشنع الغلوّ، وأبشع الجفوة لرسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - الخارجة عن المعهود، المجاوزة للحدود، التشبث بالخيالات من التواريخ، التي لا صحّة لها ولا ثبوت، بل هي أوهن من نسج العنكبوت؛ لدفع الضروريات، المصرّح بها في الكتاب المبين، وسنة الرسول الأمين، ونقل أئمة الدين، وسائر المسلمين، في جعل هؤلاء الطاهرات ربيبات لا بنات، والله عز وجل يقول: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ } [الأحزاب:59]، وفي أخبار لا تحصى القول بأنهنّ بنات رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وقد نهى الله سبحانه أن يُدعى أحد لغير أبيه {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } [الأحزاب:5]، أينزل القرآن ويتكلّم الرسول - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -، ويُطْبق المسلمون على خلاف ما أنزل الله سبحانه؟ وكيف يتجاسر متجاسر على أن يجعل بضعة الرسول - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - لغيره؟ إنا لله وإنا إليه راجعون.
ومن هذا الغلوّ الملوم، ما يتكلّمون به في أم كلثوم بنت /219

(3/219)


أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء ـ عليهم السلام ـ؛ وما كان لمثل كلامهم السخيف هذا أن يُنظر إليه أو يُجاب عليه؛ ولكن قصدت التنبيه لئلا يغتر به جاهل أو يفتتن به غافل؛ وحسبنا الله ونعم الوكيل.
تزوجها عمر، وفي قصة العقد أخبار متضاربة؛ أما التزويج فقد وقع بلا ريب، وقد كان اعتذر أمير المؤمنين - عليه السلام - بصغرها وكبره، ثم رضي بعد ذلك قطعاً؛ وإن القول بعدم رضاه فيه من الفضاضة وانتهاك الحرمة، ونقص الدين والمروءة، أعظم وأطمّ من عدم الكفاءة المدّعاة.
وتوفيت هي وولدها زيد بن عمر في وقت واحد ـ رضي الله عنهما ـ ولم أجد لها تاريخ وفاة.
[أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط]
أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، كانت تحت الزبير، فخرج إلى الصلاة وقد ضربها الطَّلق، فقالت: طيب نفسي بتطليقة؛ فطلقها فولدت، فأتى النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - فقال: ((بلغ الكتاب أجله ))، فقال الزبير: ما لها خدعتني خدعها الله.
رواه محمد بن منصور.
هاجرت سنة سبع، فتزوجها زيد، ثم الزبير، ثم عبد الرحمن بن عوف، فروى عنها ابناه: إبراهيم وحميد، وبسرة بنت صفوان ، وميمون بن مهران.
أخرج لها: محمد، والجماعة إلا ابن ماجه .
[أم معبد بنت كعب]
أم معبد بنت كعب ـ وقيل: بنت خالد ـ اسمها عاتكة الخزاعية؛ نزل عليها رسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - فأصبح بمكة صوت عال يسمعونه ولا يرونه، يقول:
جزى الله ربّ الناس خير جزائه
هما نزلا بالبر ثم تروّحا
رفيقين حلاّ خيمتي أم معبدِ /220

(3/220)


قلت: كذا في الطبقات ، وفي الاستيعاب:
هما نزلاها بالهُدى فاهتَدَتْ به .... فأفلح من أمسى رفيق محمدِ
ليهنِ بني كعب مقام فتاتهم .... ومقعدها للمؤمنين بمرصدِ
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها .... فإنكمُ إن تسألوا الشاء تشهدِ
الأبيات بتمامها في الاستيعاب.
وقصة الشاة والعوسجة معروفة، رواها في أمالي الإمام أبي طالب عليه السلام، وفي جلاء الأبصار ، وغيرهما؛ وكنت أشرت سابقاً إلى أنها ستأتي هنا، ولم يسع الحال الإتيان بها؛ فليبحث عنها في الأمالي وغيره.
[أم الوليد بنت عمر الأنصارية]
أم الوليد ابنة عمر الأنصارية.
عنها: ابن أختها سالم بن عبد الله بن عمر .
خرج لها: أبو طالب - عليه السلام -.
[أم هاني ء بنت أبي طالب]
أم هاني بنت أبي طالب، شقيقة أمير المؤمنين - عليه السلام -، كان الرسول - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يوقّرها، وأجار من أجارت يوم الفتح، وصلى في بيتها؛ عاشت إلى بعد الخمسين.
روى عنها: ابنها جعدة بن هبيرة، وابنه يحيى بن جعدة .
خرج لها: الإمامان الأخوان، والجماعة.
قلت: وابن عمها عبد الله بن العباس، وعبد الله بن الحارث الهاشمي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وغيرهم.
قال في الإصابة: فخطبها النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - فقالت: والله إني كنت لأحبك في الجاهلية، فكيف في الإسلام؛ ولكني امرأة مصبية، فأكره أن يؤذوك؛ فقال: ((خير نساء ركبن الإبل نساء /221

(3/221)


قريش، أحناه على ولد... الحديث)).
[ابنة حمزة - عليه السلام -]
ابنة حمزة - عليه السلام -.
قال - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - لما عرض عليه أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ تزويجها: ((إنها ابنة أخي من الرضاعة )).
قيل: اسمها عمارة، وقيل: أمامة، اختصم فيها علي وجعفر وزيد، فقال علي - عليه السلام -: هي ابنة عمي، وقال جعفر - رضي الله عنه -: ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد - رضي الله عنه -: ابنة أخي، فحكم بها لجعفر، وقال - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم -: ((الخالة أم )).
[أم أيمن]
حاضنة النبي - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - وقد سبقت.
[خاتمة]
وبهذا تمّ الكلام على الجزء الأول، وهو الطبقة الأولى في ذكر الصحابة والصحابيات، ولله الحمد والمنة؛ فإن يسّر الله ومكّن، كان الإتمام.
وقد تحصّل بحمد الله بهذا الكتاب، ما فيه بلاغ لأولي الألباب، وإلى الله المرجع والمآب.
حرر بتاريخ يوم الاثنين / 17/من جمادى الأولى / سنة 1414 من الهجرة النبوية، على صاحبها وآله أفضل الصلاة والسلام /222

(3/222)


بسم الله الرحمن الرحيم
(الجزء الثاني)
(باب الهمزة)
[إبراهيم بن الحسن الشبه]
إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ـ عليهم السلام ـ، أمه فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب ـ عليهم السلام ـ؛ أشبه الناس برسول الله - صَلّى الله عَلَيْه وآله وسلّم - يقال له: الشبه، والغَمْر لجوده.
قال ابن عنبة: مولده سنة ثمان وسبعين، أو ثلاث.
روى الحديث عن أمه فاطمة بنت الحسين، وعن أبيه عن جده.
وعنه: ولده إسماعيل، والحسن المثلث، وموسى بن عبيد، وفضيل بن محمد.
توفي - عليه السلام - في سجن أبي جعفر، سنة خمس وأربعين ومائة.
قال أبو الفرج: وله سبع ـ أو تسع ـ وستون سنة، قبره بالكوفة.
خرج له: الهادي - عليه السلام - في الأحكام ، وأئمتنا الخمسة.
[إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم ]
إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ـ عليهم السلام ـ أبو الحسن، الملقب طبا طبا؛ حبسه المهدي العباسي، وبقي في السجن سبع عشرة سنة؛ ثم خرج بحيلة من بعض شيعته، وكان القاسم ولده قد نشأ؛ فوجده قاعداً بين جماعة، فسلّم عليهم، ولم يعرفه القاسم حتى عَرَّفته والدته بعلامات في صدره، وهي ضربتا سيف معترضتان، فلما تحققه اعتنقه، وقدّمه إلى أهله /224

(3/224)


قال في المقاتل: ومات إبراهيم في الحجاز بعد التسعين ومائة، وهو يروي عن أبيه عن جده، وعن الحسين بن علي الفخي ـ وكان ممن بايعه ـ.
وعنه: ولده القاسم بن إبراهيم .
خرج له: الهادي للحق، وأئمتنا الخمسة إلا الجرجاني.
[الإمام إبراهيم بن عبد الله]
الإمام إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ـ عليهم السلام ـ أبو الحسن؛ أمه هند بنت أبي عبيدة ؛ ولد سنة تسعين، كان على شاكلة أخيه محمد في الدين والعلم والشجاعة والشدة، وكان يقول شيئاً من الشعر.
قلت: ومن ذلك قوله - عليه السلام - حين بلغه استشهاد أخيه عليه السلام:
الله يعلم أني لو خشيتهم .... أو أوجس القلب من خوف لهم جزعا
لم يقتلوه ولم أسلم أخي لهم .... حتى نموت جميعاً أو نعيش معا
وبايعه علماء البصرة وفقهاؤها، ومعتزلتها وزهادها، وكان أبو حنيفة يدعو إليه؛ ولم يزل مجاهداً - عليه السلام - حتى استشهد.
روى عن أبيه عن جده.
وعنه: أولاده، والقاسم بن إبراهيم، ونافع، ومالك، ومفضل الضبي.
خرج له: السيدان، ومحمد ـ عليهم السلام ـ.
[إبراهيم بن الحسن بن إبراهيم]
إبراهيم بن الحسن بن إبراهيم بن محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ـ عليهم السلام ـ.
يروي عن حمزة بن القاسم ، وغيره.
وعنه: ولده أبو العباس الحسني /225

(3/225)


خرج له: الإمامان: المؤيد بالله ، وأبو طالب ـ عليهم السلام ـ.
لم يذكر له وفاة في الطبقات ، وأهمله في الجداول .
[إبراهيم بن محمد بن عمر]
إبراهيم بن محمد بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ـ عليهم السلام ـ.
يروي عن والده، وعن محمد بن عبد الله الشيباني .
وعنه: المرشد بالله.
ونعود إلى ترتيب الأسماء كما في الطبقات :
[أبان بن إسحاق الكوفي]
أبان بن إسحاق الكوفي، النحوي.
عنه: الصباح بن محمد، وعنه: محمد، ويعلى ابنا عبيد، وطائفة.
قال ابن معين: ليس به بأس.
وقال الأزدي: متروك.
قال الذهبي : لا يترك فقد وثقه أحمد والعجلي؛ والأزدي أسرف في الجرح.
وقال ابن حجر في التقريب : كوفي ثقة، تكلّم فيه الأزدي بلا حجة.
أخرج له: أبو طالب ، وأبو العباس، والترمذي.
[أبان بن تغلب ]
أبان بن تغلِ ب (بمثناة فوقية، ثم غين معجمة ساكنة، ولام مكسورة، فموحدة) أبو سعيد الكوفي.
يروي عن زيد بن علي، والباقر، والصادق، وأبي الجارود، والحكم بن عتيبة ، والحسن، وعمرو بن مرة حديث: ((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه )).
عنه: شعبة، ويعلى بن محمد ، وعلي بن الحكم ، ويحيى الربعي ، وسيف بن عمير ، وعباد بن العوّام ، والإمام /226

(3/226)


يحيى بن عبد الله، وغيرهم.
وثقه أحمد، وابن معين، وأبو حاتم.
قال ابن حجر في التقريب : ثقة، تكلم فيه للتشيع.
قال الذهبي ما لفظه: غلوّ التشيع، أو التشيع بلا غلو ولا انحراف، هذا كثير في التابعين وتابعيهم، مع الدين والورع؛ فلو رد حديث هؤلاء لذهب جلّة من الآثار النبوية.
إلى قوله: ولم يكن أبان بن تغلب يتعرض للشيخين أصلاً، بل يعتقد أن علياً أفضل منهما. انتهى.
توفي سنة أربعين ومائة.
أخرج له: أئمتنا الخمسة إلا الجرجاني، وأخرج له مسلم، والأربعة.
قلت: هو من الأعلام الثقات الأثبات؛ وقد سبق ذكره، والله ولي التوفيق.
ــــــــــــــــــــ

(3/227)