الكتاب : المعراج إلى كشف أسرار المنهاج المؤلف : الإمام عز الدين بن الحسن المحقق : الناشر : الطبعة : عدد الأجزاء : مصدر الكتاب : [ الكتاب ] |
كتاب المعراج إلى كشف أسرار المنهاج
القاطع بأمواس الحجاج أمراس اللجاج
الكافل لطالب علم الكلام بقضاء كل حاج
الجزء الأول
تأليف الإمام عز الدين بن الحسن
بسم الله الرحمن الرحيم. وبه نستعين وعليه نتوكل.
أما بعد.. حمداً لله على نعمه الَّتِي يجب شكرها.ولا يطاق حصرها، والثناء عليه لكماله وصفات جلاله الَّتِي يطيب نشرها. ولا يقدر قدرها. والصلاة والسلام على خاتم الرسل، وموضح السبل، وناسخ الملك ودامغ الشرك حتَّى اضمحل وبطل، وعلى عترته شموس الإسلام، وقادة الأنام ومفاتيح النهم، ومصابيح الظلم، وصحابته الأخيار الأعيان والتابعين لهم بإحسان، فإني كنت جمعت حواشي في إبان الشباب وأول رمان الدرس في العلم والإكتساب جعلتهما نصفه التعليق لكتاب منهاج التحقيق لما عز لي من الولع به والغرام والإعتناء بالفحص عن معانيه والإهتمام ولكنها عاقت عائق عن التمام وبدا لي فملت إلى الإضراب وإرتاج هذا الباب تباعداً عن مظان الإحظار، وتجنباً لمسالك العثار فنبذت تلك الكراريس وحجبتها عن مجالس الدرس والتدريس عدة من السنين تزيد على العشرين ثُمَّ أن بعض المولعين بفن الكلام وأولي الهمة في تحصيله والإهتمام بالغ في استخراج تلك الحواشي وإبراز أوراقها الخوافي وتتمتها وتكملتها وضبطها وتحصيلها فلم أجد بداً من إنصافه وتلقيه بإجابته وإشغافه مع ما في ذلك من تمام العمل وصيانته عن الإنخراط في سلك ما بطل، فما طابق منها وخلا من الخلل فبتوفيق من الله المثبت في القول والعمل، وما كان فيها من خطأ وخطل فلوضعها في تلك الحال مع عروض اشتغال وعجل؛ ولأنه لا يسلم من الزلل إلاَّ كلام الله عز وجل. وهذا حين الشروع في شرح غوامض الكتاب وتذليل معانيه الصعاب.
قال المصنف مبتدئاً (بسم الله الرحمن الرحيم) أي باسم الله ابتدئ تأليف هذا الكتاب، ومعناه: أستعين على ذلك بالتسمية ليمنها وبركتها طالباً للإستعانة، ويقدر الفعل متأخراً عنها لإفادة الإختصاص، ثم ثنى بالحمد فقال: (الحمد لله) أي الثناء الحسن والوصف الجميل ثابتٌ لله الذي من صفاته أنَّه الدال، أي فاعل الدلالة على ذاته دل عليها فعله، لابواسطة وصفاته، والذي يدل عليها أيضاً الفعل تارة بغير واسطة كدلالته على كونه قادراً، وكذلك كونه عالماً، إذ الأحكام ليس بواسطة؛ لأنَّه كيفية للفعل لا أن الفعل يدل عليه، ثُمَّ يدل على العالمية، وتارة بواسطة واحدة كدلالته على كونه حياً، بواسطة القادرية والعالمية، وتارة بواسطتين كدلالته على كونه مدركاً بواسطة كونه قادراً عالماً، ثُمَّ كونه حياً، وتارة بثلاث وسائط كدلالته على الصفة الأخص بواسطة كونه قادراً، ثُمَّ كونه حياً هكذا ذكر الأصحاب، وفيه نظر، والتحقيق أن الفعل يدل على الصفة الأخص بواسطة واحدة، وهي القادرية ووجوبها ليس بواسطة أخرى، فإنه كيفية لها ليست هي دليلاً عليه كما قلنا في الأحكام، ولا معنى لعد الحيِّيَّةِ واسطة أخرى؛ لأن القادرية كافية في الاستدلال بعجائب مصنوعاته. العجائب: جمع عجيبة وهي ما يتعجب منه. والمصنوعات: جمع مصنوع ويقال: ظاهرة لله لا تدل على ذاته وصفاته إلاَّ ما كان عجيباً من مصنوعاته، وفيه نظر، فإن كل فعل من أفعاله له مدخل في الدلالة وجوابه من وجهين أحدهما أن يكون من باب إخلاء وثبات، كان أصله بمصنوعاته العجائب، فأتى أولاه لصفة، ثُمَّ أضافها إلى الموصوف للثبات وهي صفة مدح؛ لأن كل أفعاله يتعجب منها لصدورها على مقتضى الحكمة، وما فيها من الأغراض الحسنة.
الثاني: أن يكون على ظاهره ومفهومه ويريد أن الذي يدل على الذات وجميع الصفات هو ما يتعجب منه لصدوره على جهة الأحكام لا ما ليس بمحكم منها، فإنه إنَّما يدل على الذات وبعض الصفات، والله أعلم.
تنبيه: هذا في فن البديع يسمى براعة الإستهلال، وهو أن يفتتح المتكلم خطبته أو رسالته أو مصنفه أو غير ذلك بما يدل على غرضه، ولما كان غرض المصنف الخوض في علم الكلام أتى في فاتحة كلامه بما يشعر بمراده وجعل خطبته هذه البليغة كالفهرسة لهذا الفن والإشارة إلى كثير من مسائله ومن أمثلة براعة الإستهلال قول بعض الكتاب:ـ الحمد لله الذي خلق الأنام في بطون الأنعام، حين كتب مخبراً بأن بقرة ولدت عجلاً وجهه كوجه الإنسان. الكاشف عن عدله وحكمته أي الموضح لعدله وهوكونه لا يفعل قبيحاً ولا يخل بواجب، وحكمته وهي كون كل فعل له فهو حسن، وله فيه غرض صحيح بوجوب غناه وهو كونه حياً ليس بمحتاج، ووجوب عالميته وهو كونه لا يجوز عليه الجهل بحال، فإنا علمنا عدله وحكمته بكونه عالماً بقبح القبيح غنياً عن فعله وعالماً باستغنائه عنه لا يجوز أن يحتاج إليه ولا أن يجهل قبحه ولا أن يجهل استغناءه عنه بوجه من الوجوه وإسناد الكشف إليه، مع أنَّ الوجوب ليس أمراً صادراً عنه من قبيل التجوز؛ لأنَّه لا يعلم ذلك الوجوب إلاَّ ما نصبه من الأدلة وركَّبه من العقول القادر على جميع أجناس المقدورات.
سيأتي ذكر معنى القادر والمقدور وتعداد أجناس المقدورات في موضعه من هذا الكتاب، وإنَّما قال: أجناس ولم يقل أعيان، بناء على أنَّه لا يصح مقدور بين قادرين وأن الأعيان الَّتِي تقدر عليها إنَّما بقدر الباري على جنسها فقط وسيأتي تحقيقه (العالم ےلا يعزب عنه) ـ هو ےےم الزاے وكسرےے ـ بمعنى ےا يبعد مثقال ذرة، أي مقدار أصغر نملة في الأرض ولے في السموات. (الحي الذي لا يعتريه الحال) يعني بالحال هےا ما هو علےه من ثبوت ونفي، فليس كغيره من الأحياء، فإن الحال يعتريهمےمن صغر إلى ےكبر وصحة إلى سقم وقوة إلى ضعف وغناء إلى فقر وغير ذلك. (الموجود فيما لم يزل) أي فيما مضى لا إلى أول. (وفيما لا يزل) أي وفي الحال والاستقبال. (لا إلى حد ينتهي إليه المدرك للمدركات) أي لكل ما يصح إدراكه من مرئي ومسموع وملموس ومسموم ومذوق. وسيأتي بيان المدركات؛ (لأنَّ لآلات) أي لا بحاسة وواسطة محل الحياة، إذ ليس بجسم ولا له حياة. (يحل في محل ولا له آلة، المستغني في ثبوت هذه الصفات) يعني التي مضي تعدادها وهي القادرية والعالمية والحيية والوجود والإدراك عن المؤثرات الحقيقية الَّتِي هي الفاعل والعلة والسبب، وأما ما يجري مجرى المؤثر وهو المقتضى والشرط فلا بد منه فيها على تفصيل وخلاف يأتي في مواضعه، وأما غير هذه من صفاته فمنها ما لا يفتقر إلى مؤثر ولا ما يجري مجراه كالصفة الأخص عند مثبتها ومنها ما يفتقر إلى المؤثر الحقيقي ككونه مرتداً أو كارهاً عند الجمهور، وقد أشار المصنف بقوله: المستغني في ثبوت هذه الصفات بتمامه إلى فصل الكيفية، وما تقدم فهو تنبيه على إثبات الصانع وصفاته الثبوتية، ثُمَّ أشار إلى الصفات النفيية فقال: (الواحد فلا شريك له ولا وزير)، هذه إشارة إلى مسألة نفي الثاني، والمعنى أنَّه لا مشارك له في الإلهية وفي الخلق والأمر ولا معه من هو أدنى رتبة من الشريك وهو الوزير الذي يعينه ويتحمل بعض مؤنه ويتقوى به في أمر
مملكته؛ لأنَّه سبحانه غني عن جميع ذلك. (المتعالي) أي المنزه عن المضاد. (والنظير) أي المنافي له الذي لا يجمع معه في الوجود لمعاكسته له في صفاته وعن المماثل المشابه له في ذاته وصفاته، وفي هذا إشارة إلى مسألة نفي التجسيم وما يتعلق بها؛ لأنَّه لو كان جسماً أو عرضاً كان ذا ضدٍّ ونظير. (الغني فلا يجوز عليه المنافع والمضار) أي لا يجوز أن يلحقه مضرة ولا أن يناله منفعة لوجوب استغنائه عن ذلك. وسيأتي ذكر معنى المنفعة والمضرة وأقسامها، وهذه إشارة إلى مسألة نفي الحاجة. (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) إشارة إلى مسألة نفي الرؤية بأن أدرج هذه الآية الكريمة الَّتِي هي من أدلتها في كلامه، وهذا في علم البديع يسمى الإقتباس. (العدل فليس بظلام للعبيد) إشارة إلى أم مسائل العدل وظلام مبالغة في ظالم والتكثير فيه باعتبار كثرة من يتعلق به الظلم وهم العبيد، لو كان كذلك تعالى الله عنه علواً كثيراً. (الصادق في الوعد والوعيد) أي المخير عن إيصاله الثواب إلى مستحقيه وهو معنى الوعد والعقاب إلى مستحقيه، وهو معنى الوعيد خيراً مطابقاً للمخير عنه فلا يقع خلاف ما وعد به. (الذي قضى بالحق وهدى إلى الرشاد) أي الذي ألزم وأمر بالحق وهو الرشاد بمعنى الصواب وما فيه الصلاح، وهذا بمعنى دلّ،َ وينزه عن فعل القبيح لعدله وحكمته وإرادة الفساد وهو نقيض الصلاح؛ لأن إرادته من القبيح وهو منزه عن فعلها. (وأزاح علل المكلفين بأنواع الألطاف والتمكين) أي أزال تعللهم في عصيانهم وعدم امتثالهم بأن لطف لهم بأنواع اللطف، وهي التوفيق والعصمة المطلق، وسيأتي بيان معانيها والتمكين مما كلفهم إياه بخلق القدرة عليه والآه فيه. قال.. في المعنى هذا: {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة}. (وأزهق الباطل أي أزاله وأذهبه بمترادف الحجج أي بالحجج المترادفة وهي الأدلة الَّتي ينصبها للمكلفين على ما فيه نجاتهم.(وأوضح للخلق) أي كشف لهم
وأبان. عن سواء المهج أي وسط الطريق الموصلة إلى الفوز والنجاة عند الله والطريق الموصلة إلى العقاب يوم يقف العبد بين يديه ويلقاه. (حتَّى صارت طرق الخير والشر متعتية) أي طرق الهدى والضلال متبيِّنة متميزة. (ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة) أي ليضل من ضل بعد وضوح البينة في ذلك، وقيام الحجة عليه وجعل الضلال هلاكاً لناديته إليه ويهتدي من اهتدى، كذلك عن يقين وعلم بأنه على الحق وسمى الهدى حياة من قبيل الإستعارة لإيصاله إلى الخير والتنعيم الدائم، كما أن الحياة موصلة إلى الإنتفاع وفصله إلى إدراك الملاذ، والله أعلم.
(وأشهد ألا إله إلاَّ الله شهادة إخلاص وصدق) أي إخلاص عن النفاق وعن إضمار خلاف ما وقع النطق به مطابق فيها القلب واللسان والسر والإعلان وصدق في العقيدة أو في تسميتها شهادة؛ لأنها الخبر عن يقين وتحقيق. (وأن محمداً رسوله بالهدى ودين الحق) أي بالكتاب الذي يقع به الإهتداء فبُولغ فيه بتسميته هدى والدين الذي هو الحق لا الباطل أرسله كافة للناس أن جعل كافة مفعولاً مطلقاً فالمعنى أرسله إرسالة كافة للناس، أي عامة لهم محيطة بهم، فكأنها كفتهم أن يخرج عنها أحد منهم. وقيل معناه: مانعة لهم عن الكفر، وأن جعل حالاً من المفعول كان المعنى أرسله جامعاً للناس في الإبلاغ والإنذار، والتاء للمبالغة كتاء علامة وقيل: معناه على هذا مانعاً للناس عن الكفر، وفيه وجه ثالث، وهو أنَّه حال من الناس، أي للناس جميعاً وهو مبني على جواز تقدم حال المجرور عليه كما يذهب إليه بعض النحاة. (بشيراً للمطيعين بالثواب، ونذيراً للعاصين بالعقاب، وداعياً إلى الله إلى طاعته بإذنه) أي بأمره وسراجاً منيراً، أي كالسراج المنير لما كان مجلياً لظلمات الشرك، فبلغ الرسالة هادياً للضلال وشهيداً شهد على الأمة لمن قبل بالقبول ومن رد بالرد، ثُمَّ مضى إلى دار الكرامة، كناية عن وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد بدار الكرامة الجنة أو الدار الآخرة الَّتِي تظهر فيها الكرامة بالمقام المحمود وغيره. (حميداً) أي محموداً. (فصلوات الله) أي رحمته؛ لأن الصلاة من الله بمعنى الرحمة، ومنَّا بمعنى الدعاء، ورضوانه هو ـ بضم الراء وكسرها ـ بمعنى الرضا على وجه، أراد بالوجه هنا ذاته أو أراد به الوجه المعروف؛ لأنَّه الذي يواجه بالرضا وغيره، وهو عمدة الإنسان وواسطة عقد أعضائه وما توجه إليه فقد توجه إلى الجملة كلها. (وهذا أولي الكريم) أي الشريف. (كلما طلع نجم) أي كوكب. (أو هب نسيم) ما كان من الرياح رقيقاً لطيفاً سهلاً مستطاباً. (وعلى آله) أي أهله
والمراد أهل بيته وأقاربه وهذا هو السائق إلى الأفهام، وقد يراد به الأتباع الكرام ـ جمع كريم وهو الشريف ـ البررة ـ جمع بار وهو فاعل البر خلاف العقوق ـ المطهرين عن الأرجاس والرذائل، (وعلى الصحابة) اسم جمع للصحابي وهو من صحبه صلى الله عليه وآله وسلم، واختلف في ما هية الصحبة، فقيل مجرد الرؤية كافٍ، وذهب أصحابنا أن الصحابي من طالت مجالسته له صلى الله عليه وآله وسلم متبعاً له. (والتابعين لهم) أي للصحابة في اتباع الرسول وأمتثال ما جاء به، وهذا معنى تقييد لفظه التابعين بإحسان؛ لأن المعنى اتبعوهم في إحسانهم وسلكوا مناهجهم. وقيل: هم الذين يذكرون المهاجرين والأنصار ويترحمون عليهم وينشرون محاسنهم. وقوله: (إلى يوم الدين) أراد به إفادة دخول جميع من عد الصحابة من الأمة؛ لأن لفظه التابعين في العرف مقصورة على من التجويز من الصحابة، ورأى من رأى منهم، والمراد بالدين هنا الجزاء ومثله قوله: {ملك يوم الدين}.
(أما بعد) هذه كلمة استعملتها العرب للإيذان بإرادة الأخذ في كلام غير ما سبق، فإن أهم التكليف علم العقائد، وذلك لا .... سائر التكاليف عليه، ولكون المطلوب فيه اليقين والحق فيه مع واحد ومخالفه مخطئ آثم، وقد ينتهي إلى الكفر. (وإن الظفر بالحق فيه أجل الفوائد) أي من أعظمها وأشرفها، ولو قال: وإن الظفر بالحق فيه أجل الفوائد لكان أحسن ذاته قد كثرت فيه الآراء، الضمير عائد إلى علم العقائد وإن جعل ضمير الشأن فحسن، والآراء جمع رأي، قُدِّم في الجمع العين على الفاء من قبيل القلب كما في آرام جمع رمم، والمراد بالآراء هنا المذاهب، وأما في عرف أهل أصول الفقه فقيل: الرأي بمعنى اجتهاد، وقيل: بمعنى القياس. (وأتبعت فيه الأهواء) جمع هوى مقصور وهو هوى النفس وكل هوى في القرآن فهو مذموم، وأما الهواء ممدود فهو اسم لما بين السماء والأرض والجمع أهوية. (وعدل أكثر الناس فيه عن التحقيق) أي مالوا وجاروا وسلكوا ..... الطريق عبارة عن ترك المذهب الواضح الراجح الشهير اللائح والتمسك بغيره مما لا وجه له يوضحه، ولا دليل عليه يرجحه كما يترك السالك سلوك المحجة الواضحة الكثيرة الإستعمال ويسلك ےےها يميناً أو شمالاً في طرق خفية تكاد يسير فيها من دفع عن الطريق الواضحة أو مال عنها سهواً فمن سوفسطاي نجد المشاهدات. هذا شروع في تفصيل أكثر الناس العادلين عن التحقيق السالكين لبنيات الطريق وقدم السوفسطانية وهم فرقة من فرق التجاهلية؛ لإنكارهم الضرورة ولا ضلال أعظم من ذلك والتجاهلية كل من أنكر الضرورة وهم ثلاث فرق:
السوفسطانية: منسوبون إلى سوفسطا وهي جهة لهم، وقيل: بل اسم رجل، وهم منكروا اليقين في كل شيء من المشاهدات والمعقولات، فإنهم أنكروه وجعلوه بمنزلة ما يراه النائم وكالسراب الذي يخيل أنَّه ماء، والعندية والعندي من يثبت للشيء حقيقته؛ لكنه يجعلها تابعة للإعتقاد، ولذلك سمي عنديّاً؛ لأنَّه يقول: الحقيقة تابعة لما عند المعتقد ومثلوه بالخل فإنه يعيش فيها دودها دون عصرها، واختلفت حقيقة الخل فهي محية بالنظر إلى دودها مميتة بالنظر إلى غيرها، وكما يجد العسل من به صفراء مراً ومن هو معتدل حلواً، ويقال لهم: أيضاً أصحاب العنود.
والسمنية: منسوبون إلى سمّن، وهم يثبتون الحقائق إلاَّ ما لم يشاهد بإحدى الحواس الخمس فينكرونه فأبطلوا المعقولات ومخبرات الأخبار المتواترة، وملحد ينكر الصانع، أي المختار والإلحاد لغة: الميل ومنه سمي اللحد ثُمَّ غلب الإلحاد على القول بقدم العالم ونفي الصانع المختار فيدخل في هذا الاسم الفلاسفة والïا نيے والمنجمية والطبائعية وغيرهم؛لأن اùجميع7ملحدة و صف{التأثير إلى الطبائع. أما اےےلاےفة فعن بعضهم أنّه يجعل العالم ےاےراً عن علة قديمة بالطبع ومثل ذلك نقل عن الباےےيةے وأما المنجم ة فمذهبهم قدم الأفلاك والعناصر، وجعل الحوادث اليومية صادرة عنها بالطبع، وأما المشهورون بالطبائعية فأمرهم في إضافة التأثير إلى الطبع ظاهر. وفلسفي ينفي عن الله الإختيار؛ لأنَّه يجعله علة قديمة صدر عنها عقل واحد، ثُمَّ صدر عن ذلك العقل عقل ثانٍ وفلك ونفس فلك، ثُمَّ كذلك عن العقل الثاني. والفلسفة اسم في اللغة اليوناينة لمحبة الحكمة، فالفيلسوف هو محب الحكمة، وقيل: هو مركب من فيلا وهو المحب، وسوف اسم للحكمة، فإذا قيل: فيلاسوف فمعناه محب الحكمة، وباطني يقول: بالسابق والتالي الذي حصل المتكلمون من مقالاتهم القول بأصلين روحانيين أحدهما السابق والآخر التالي، وأن السابق ظهر منه التالي ثُمَّ اختلفوا فقائل بأنهما مدبران للعالم السفليّ معاً، وقائل: بأن المدبر هو التالي فقط والسَّابق فاعل الأجسام النَّافعة والتالي فاعل الأجسام الضارة، وهذا بعينه مذهب المجوس، واختلف في تفسير السابق والتالي، فقيل: ملكان، وقيل: اللَّوح والقلم، وقيل: العقل والنفس. قيل: ولا يكاد يعرف لهم مذهب لتسترهم وإحداثهم في كل وقت مذهباً، ويعبد غير الله، ولا يبالي، أي لا يكترب، وإنَّما كانوا عابدين لغير الله؛ لأن الله عز وجل غير ما أثبتوه إلهاً وهو السابق والتالي، وقد نقل أن بعض دعاتهم ورؤسائهم عبد صبياً وألحده إلهاً وقلده مملكته. ومطرفي يقتصر تأثير
الصانع على الأصول.
المطرفية: فرقة من فرق الإسلام ينسبون إلى مطرف بن سهاجة، رجل من الزيدية أصله من بقعة بني شهاب بحيدان من بلاد خولان نشأ مذهبهم سنة خمسين وأربعمائة، والأصول عندهم أربعة: الهواء والماء والأرض والنار. وقيل: بل هي عندهم الهواء والمال والريح، ومنهم من زاد النار، قالوا: أنَّه أوجد هذه الأصول على جهة الإختبار ثُمَّ حصل العالم من هذه الأصول فهي الَّتِي يتركب منها الحوادث ولا اختار له في ذلك وهو لم يحصل من إثباته على محصول لا يهم إذا أضافوا لكثر العالم على ما فيه من إتقان وإحكام إلى الأصول الَّتِي ليست بحية ولا قادرة ولا عالمة، فقد استدت الطريق إلى كون النار حياً قادراً عالماً ,أن أثر في الأصول، وثنوي يقول: القديم الثاني.
الثنوية فرق متعددة، يأتي ذكرهم وذكر مذاهبم في مسألة. ففي الثاني أن الله وآخر يتلوه في قدم المعاني إشارة إلى الإشعرية ومن قال بقولهم في كون صفات البارئ معاني قديمة ورمز إلى مشاعيبهم للبنوية ووجه الشبه إثبات قديم مع الله سبحانه، ولهذا جعلت هذه ....... من أسباب تكفير الأشعرية وغيرهم من فرق الجبرية، وبرهمي ينفي النبوة رأساً. قيل أنهم منسوبون إلى برهام بن ےلوك الفرس ےقےون باےلے وينفونےالےسلے ےقيل: منسوبےنےإلى رجل اسمه إبراهےم. وقيل: سےوا ےےلك لاثبےتهے نبوة إبراهيم دون غےره من اےأنبيےء. ومعنى رأسےً التےبيرےعن طرح الےيے كلے مأخوذےمنےےأس ےلجسد؛ لےےَّهےإذا طرح الرأس فالبےية أجدر وهو منتصب على الحالية كجميعاً، ومثله تركه أصلاً؛ لأن أصل الشيء عمدته، وذمي لا يرى في تكذيب الرسل بأساً أي تبعه ولا عقاباً والذمي من ضربت له ذمة كالنصارى واليهود، ومجسم نسبة الله بالمحدثات، إذ جعلوا له أعضاءاً وجوارح، وثبت له الجوارح والآلات الجوارح هي الأعضاء الَّتِي تعمل مفردها جارحة ومجبر ........ للشياطين والعصاة؛ لأن حاصل قول المجبرة تمهيد عذرهم حيث يقولون: ما صدر من العصاة من قبيح وفساد فهو من الله، وذلك يقتضي عدم الحرج على العاصي، إذ لا فعل له، قال الحاكم: ويجمعهم من المذهب القول بأن الله يخلق أفعال العباد، وأنه يريد المعاصي، وإذا شاء عذب من لا ذنب له، وإن فعله ليس لغرض وأنه لا يقبح منه شيء، وأن القبائح بقضائه وقدره، وأنه يضل عن الدين ثُمَّ يعذب على الضلال ويأمر بالإيمان مع أنَّه يمنع منه وينهى عن الكفر وبخلقه وبخلقه وتزينه، ثُمَّ افترقوا فرقاً كثيرة جهمية وضرارية ونجارية وكلانية وأشعرية وبكرية وكرامية وتفاصيل مذاهبهمم، وما اختص به كل منهم في كتب المقالات ويأتي أيضاً في أثناء هذا الكتاب غيره م÷ كتے الكلام ويحمل مساوئ العباے عےى الله أي ےصنفها وينسےها إليه. وےساوئ جمع مسؤے ومرجٍùيتعلل بالأحلام
والأماني. الأحلام جمع حلم بضم الحاء واللام وهو ما يرى في النوم والأماني جمع أمنية وسمي المرجي مرجياً لتركه القطع على وعيد أهل الكبائر من أهل الصلاة والمرجئة الخالصة من جعل الفاسق راجياً للغفران ولم يؤنسه من الرحمة، ومعنى تعلله أنَّه يجعل ما يتمناه من المغفرة علة في سلو قلبه وعدم خوفه ورجال الإرجء المجبرة بأسرهم ومن غيرهم سعيد بن جبير وحماد بن أبي سليمان من التابعين ومن الفقهاء أبو حنيفة وأصحابه، ومن متكلمي العدلية محمد بن شبيب وغيلان وصالح قبة وغيرهم وينبي دينه على جرف التواني، جرف الوادي جانبه الذي يتحفر أصله بالماء وتجرفه السيول فيبقى واهياً ومعنى ذلك أنهم لا يقولون على جدٍ في العمل لما اعتراهم من الإرجاء. ورافضي ببعض شيوخ الإسلام والرافضة هم الإمامية. قيل: سموا به لرفضهم زيد بن علي عليهم السلام حين أحسن الثناء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقيل: لتركهم نصرة النفس الزكية والأول أشهر وسموا إمامية لجعلهم أمور الدين كلها إلى الإمام، وأنه كالنبي؛ لأنَّه يحتاج إليه في أمور الدين والدنيا، والمراد شيوخ الإسلام من يقعون فيه من الصحابة ويخيط من الغلو والتعصب في ظلام الغلو مجاوزة الحد وغلوهم في طرفين محبة أئمتهم وما نسبوه إليهم وذهبوا إليه في حقهم وبغض المشائخ وتكفيرهم وما ينسبوه إليهم من الإعال الَّتِي هم منزهون عنها والتعصب معروف ومعناه تكلف أن يصير كالعصبة له فهو مأخوذ من العصبة كنقيس أي أنسبت إلى قيس والظلام هنا مستعار للجهل فهذه أصول فرق الضلالة الذين تفرعت عنهم كل جهالة، يعني أن الفرق الهالكة وإن كانت كثيرة إلى نيف وسبعين فهذه الفرق المعدودة أصولها، وإنَّما تنوعت وتشعبت وتفرعت، فصارت كل فرقة فرقاً لخلاف نشأ بينهم ومقالات امتاز بها بعضهم عن بعض، وأصل الضلال والجهل ما اتفقت عليه كل فرقة منهم كل منهم بمذهبه فرح مسرور، لاعتقاده أنَّه الصواب، وأنه قد اهتدى إلى الحق
دون غيره، ورجاهم الكل على قطب الغواية تدور، هذه استعارة حسنة والرحى معروفة وقبطها الحديدة الَّتِي تدور عليها، وقد كثر استعمال القطب فيما لا يقوم الأمر إلاَّ به، كما يقال مدار الإنسان على قطبه أي على غفلة وفي إدخال حرف التعريف على كل نظر؛ لأنَّه ممتنع ولكن قد جوزه بعضهم ليس على غير الباطل يعولون التعويل مصدر عوَّل يقال: عوِّل عليّ بما سألت أي استعن بي فيه وعوّلت عليه أدللت عليه {ويوم تقوم الساعة يومئذ يحشر المبطلون} الساعة هنا القيامة وهي في الأصل اسم لجزء مخصوص من ليل أو نهار، والمراد بالمبطلين هم إلاَّ انه من قبيل إقامة الظاهر مقام المضمر للبنية على علة حشرانهم وهو إبطالهم أدرج الآية الكريمة في ضمن الخطبة العظيمة وهذا النوع يسمى في علم البديع الإقتباس وهو أن يضمن المتكلم نثره أو نظمه شيئاً من القرآن أو الحديث لا على أنَّه منه ومنه أيضاً لقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه، والمعنى صدق في ظنه وكان ظنه حين وجد آدم ضعيف العزم، قد أصغى إلى وسوسته فظن أن ذريته تكون أضعف عزماً منه فيكون منهم اتباعه. وقيل: ظن ذلك عند غخبار الله الملائكة أنَّه يجعل فيها من يفسد فيها وصاح بهم إلى مخالفة الحق فأسمعوه أي دعاهم إلى ذلك ووسوس لهم فيه فاستمعوه استماع قابلٍ ومطيع لا رادٍ واستفز بمكره منهم من استطاع يقال: استفزَّه أي استخفه والفزَّاء الخفيف، ومُثلت حال إبليس في سلطته على من يغويه برجل مغوارٍ وقع على قوم فصوت بهم صوتاً يستفزهم من أماكنهم ويقلقلهم عن مراكزهم، وأشار إلى الآية الكريمة وهي قوله: {واستفزز من استطعت..} الآية، فأدرجها مع تصريف وهو من الإقتباس، وإن لم يكن مطابقاً للتلاوة، فإنه لا بأسبتغيير يسير فيه، لكن يقال: إنَّه استفزَّا هنا، إنهم كلهم ممَّن استطاع أن يستفزُّهم وصار له من علماء السوء أتباع يقال: بل صاروا كلهم أتباعاً له إذ لا عالم سوء إلاَّ وهو من أتباع الشياطين، لكن يمكن تمشيته
بأن المعنى أن الأتباع الموصوفين بأنهم يدعون له إلى كل بدعة وضلال ويبالغون بالأقوال والأعمال هم البعض منهم لا كلهم، فلعل بعضهم غير مبالغين في ذلك، بل اقتصروا على نفس الذهاب إلى العقائد الفاسدة والدعاة هم البعض من كل فرقة، فإن المبتدعين منهم داعية وغير داعية، والبدعة ما خالف السنة والضلال ضد الهدى والمبالغة بالأقوال ظاهرة، وأما بالأعمال فنحو قيل من حالفهم فقد قيل كثير من العدلية والمبرهين عن المذاهب الردية، ووقع غير ذلك من الضرب والطرد والأسر والتقييد مما ابتلى كثير من علماء العدل والتوحيد بنصب منهم في كل فرقة أمير أي إمام لهم يرجعون إليه ويأخذون عنه ويعتزون إليه {جادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} هذا نوع من الناس كما مر. قيل: والمراد بالعلم هنا الضروري والهدى الإستدلال والنظر؛ لأنَّه يهدي إلى المعرفة بالكتاب المنير الوحي أي يجادل بظن وتخمين لا يأخذ هذه الثلاثة ويسلك بهم في كل بدعة مبيحاً المنهج الطريق والبدعة ما قامت الدلالة العقلية أو الشرعية على أنَّه ضلالة، هذا معنى البدعة المرادة هنا وهي البدعة القبيحة. قيل: ذكره الإمام يحيى. والبعدعة لها وجهان:ـ
أحدهما: القبيحة، وهي كلما ضاد السنة وكان ماحياً لآثارها ومعفناً لرسمها، ويجب على الإمام وسائر أهل الإسلام أن يدفعوا ذلك ويكفوه، ويدل في القول والفعل والمذاهب وفي الحديث من انتهى صاحب بدعة ملأ الله قلبه أمناص وغيماناً يوم القيامة وثانيهما البدعة الَّتِي ليست مضادة للسنة وهذا نحو ما يبتدع لإعراض حسنه كالموائد والمناخل والأشنان والدرر في الخياطة والكف ما نها مجد به وماكان يعرف إلاَّ الشلول، فهذه كلها مجدبة بعد النبوة لكن منها أغراض ومقاصد اقتدانا الذين يصدون عن سبيل الله، أي ممَّن تقدمهم ومضى قبلهم من أهل الضلال والإضلال والصد المنع، وسبيل الله هو الطريق إلى رضاه الَّتِي سلوكها العصمة (ويبغونها عوجاً) أي يصفونها بالإعوجاج مع استقامتها أو يطلبون أهلها أن يعوِّجوا أهلها بالكفر والإرتداد.
{شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} أراد بذلك العقائد الَّتِي استدعوا أتباعهم إليها وأنزلوهم عليها وجعلوها تحكمهم وتمنيهم علوماً ..... وعقائد صحيحة مرضية، ولم يأذن الله بها ولا رضيها وسقعوا لهم بالتمويه على كل مهواة التمويه مصدر موّه تفعيل من الماء فعال موهت الإناء أي طليته بماء الذهب أو الفضة ونحته نحاس أو حديد فضار، مثلاً يضرب في التزوير والتلبيس وأراد أنهم يزخرفه الشبهة وتنميقها كأنهم ألبسوا الباطل لبسة الحق ليظن أنَّه منه، فاستالوا نسمتهم أفئدة الطعام، الأفئدة القلوب جمع فؤاد، الطعام يطلق على الواحد وعلى الجماعة، وهم أوغاد الناس ليس له فعل ينطق به ولا اشتفاق يعرف أصله، وأنزلوا على قصيبهم جمهور العوام، أي جذبوا إلى ما قضوا به جمهور العوام وهم جلهم، والعوام: جمع عامة، ويراد بهم من ليس له محرفة ولا مذهب ينسب إليه ولا كتاب يعرف به ولا رئيس ولا يدخل في جد ولا يصدر اعتقاده عن حجة، وجعل جذبهم إياهم إنزالاً؛ لأنَّه استدعا إلى ضلاله وهي الدرجة السفلى المنحطة إلى أن صارت الطائفة المحقة فرقة من نيف وسبعين فرقة. النيف بالتنفيل ويجوز تحقيقه تستعمل لما بين العقدين من واحد إلى سبعة، وهذا إشارة إلى الخير المشهور <ستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة إلاَّ فرقة واحدة> قيل: رواه عبد الله بن مسعود وأنس وعبد الله بن عباس، قال الإمام يحيى: وتلقته الأمة بالقبول ويصدقه أن الروافض عشرون والخوارج عشرون والمعتزلة عشرون والمجئة ست والمجبرة أربع والباطنية والحلولية والثالثة والسبعون الناجية إنشاء الله هم الزيدية.
أما فرق الروافض فهم السبإية، منسوبون إلى عبد الله بن سبأ، ذهب إلى أن علياً عليه السلام إله، وزعم أصحابه أنَّه في السحاب وأن الرعد صوته، والبرق سوطه.
والكاملية: منسوبون إلى أبي كامل ذهب إلى تكفير الصحابة لتركهم بيعة علي وإلى تكفير علي بتركه طلب حقه.
والبنانية: منسوبون إلى بيان بن سمعان التميمي، ذهب إلى أن الإلهية لعلي والإمامة لولده.
والمغيرية: منسوبون إلى المغيرة بن سعيد العجلي مجسم وصف الله بالأعضاء.
والخوارج: وعم أنَّه يحيي الموتى بالاسم الأعظم، وله جهالات كثيرة.
والجناحية: منسوبون إلى معاوية ذي الجناحين، ينكرون القيامة والجنة والنار ويستحلون جميع المحرمات.
والمنصورية: منسوبون إلى أبي منصور العجلي يزعمون أن علياً عليه السلام الكسف الساقط من السماء، وكان أبو منصور من أصحاب الباقر فغلا فيه فتبرأ منه وطرده، وذهب إلى أمور كفر به كغيره.
والخطابية منسوبون إلى أبي الخطاب الأسدي، ذهب إلى أن الإلاهية لجعفر الصادق، ثُمَّ ادعا لنفسه بعده.
والغرابية: منسوبون إلى رجل يسمى غراباً ذهبوا إلى أن جبريل غلط في نزوله على الرسول، وكان مبعوث إلى علي، قالوا: وسبب غلطه أن علياً كان أشبه بالنبي من ےلغراب لغراب.ے الذميے أصحاب ےلعلياےبن ذراع ےےأسديےالذين رموا ےلنبي صلى الله عليهےوےله وسلم وزعموے أن علياً أرسله ليدعوےإليه فدعاےےلى نفسه فكان سبب الذم.
والهشاميةےےمنےوبون إلى هشاے بنےالحكم المفرطےفي ےلسببية والتجسيم.
والهشامية: الأخےى منسوبوے إلىےهشام بن ساےم اےجوالقي مجسم غالبٍےفے التجسيم.
والزرارية: أصحاب زرارة بن أعين، ذهب إلى حدوث صفات الله الَّتِي هي القدرة والعلم والحياة وسائر صفاته.
واليونيسة: منسوبون إلى يونس الذي زعم أن الملائكة تحمل ربها وصنف كتباً في التشبيه.
والشطانية: منسوبون إلى محمد بن النعمان الملقب شيطان الطاق لقبه بذلك جعفر الصادق، ذهب إلى أن الله لا يعلم الشيء حتَّى يكون، وانه خلق آدم على صورته.
والرزامية: منسوبون إلى رزام، ظهروا في زمن أبي مسلم الخراساني، قالوا بمذهب الحلولية فزعموا أن الروح الإلاهي حال في أبي مسلم، ويقولون بإمامته. والمفوضة زعموا أن الله خلق محمد وفوض إليه الخلق فهو الخالق لما في الدنيا كلها.
والبداحية: قيل: منسوبون إلى جههة تسمى البداح يذهبون إلى أن الله يجوز عليه البدل.
والكيسانية: منسوبون إلى كيسان مولى النعص بحيلة. وقيل: مولى لعلي عليه السلام. وقيل: هو المختار بن أبي عبيد الثقفي، زعموا أن الإمام بعد الحسين بن علي بن الحنفية، وأنه المهدي، وأنه لا يموت إلى آخر الدهر، ثُمَّ افترقوا، فقالت طائفة تسمى الكريبة: أن محمد بن علي حي لم يمت وطائفة تسمى الرجعية، قالت: أن َه ميت بجبال رضوى ےرجع إلى الدنيا çيبعثnقû÷ يوم القيا÷ة÷ويملك الكنيا وطائفة قالت: لا يموت حتَّى يملك الأرض ےهو الےهكي الےنتكر.
والمےاركيةے منسوبون ےےى رئيس لهم اسمه ال÷باûك، زعموا ےنےےل مےم بعد جعےر ابن ابنه محمد بنyإسےاعيلےبن جûكر.
والناوےسية: منسوبےن إلےےناووے رئيس لهم، ذهبےا إےى أن جعفر بن محمد حي، وأنه لم يمت ولا يموت حتَّى يملك الأرض، وأنه المهدي.
وأما فرق الخوارج فهي الأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق أول من أحدث الخلاف بين الخوارج؛ لأنَّه أبدع القول بالبراءة ممَّن قعد عن الحرب معهم، ومما يذهب إليه أصحابه حوار. قيل: صبيان مخالفيهم ونسابهم وغير ذلك من المذاهب الردية.
والنَّجدات: أصحاب نجدة بن عامر الحنفي، تفرد بأن ذهب إلى أن المخطئ جاهلاً معذوراً، وأنه من خاف العذاب على من اجتهد فأخطأ قبل قيام الحجة عليه فهو كافر، وأن من يقتل عن دار هجرتهم فهو منافق إلى غير ذلك من الجهالات.
والصفرية: منسوبون إلى زياد بن الأصفر. وقيل: إلى عبد الله الصفار، قالوا بأن النفية واجبة في القول دون العمل، وأن فاعل الكبيرة لا يسمى كافراً ولا مشركاً بل زانياً مثلاً، وما لا حد فيه كترك الصلاة كفر، ويجيزون مناكحة المشركين وقبول شهادتهم وغير ذلك.
والميمونية: منسوبون إلى ميمون رجل من بلح، وهم عدلية لكن يجيزون نكاح بنات البنين وبنات البنات وبنات الأخوة والأخوات ولا يجيزون إلاَّ قتال السلطان خاصة ےأعوانç؟ومن رضي ےحكمهےےمے طعن في دينهے؟
والحمزيةے منسےبونےإلى حمزة؟بن أدرد وهم كالمےےونية لكن انفردےا بأن أطفال مخالفےےےےفي النار، وأنےالعقد لإمامين وأكثر جائز في وقت واحد.
والشعيبية: منسوبون إلى شعيب بن محمد، وهم كالعجاردة إلاَّ أنهم مجبرة.
والجازمية: منسوبون إلى حازم بن علي، وهم كالشعيبية إلاَّ أنهم متوقفون عن تكفير علي عليه السلام.
والبياضية: وقد قيل أنَّه من الإباضية، لكن صحف اسمهم.
والمعلومية: قوم من الخوارج ذهبوا إلى أنَّه من علم الله ببعض أسمائه فليس عالماً به. وقيل: بل يقولون: من علم الله ببعض أسمائه فلم يجهله، ويقولون: بمقارنة القدرة بمقدورها مع تأثيرها فيه.
والمحمولية: قيل يزعمون أنَّه من عرف الله ببعض أسمائه فليس جاهلاً به، ويقولون: يخلق الأفعال، وقيل: هم القائلون بأنه من لم يعلم الله بجميع أسمائه فهو به جاهل.
والصلتية: منسوبون إلى عثمان بن أبي الصلت يقولون: إذا أسلم الرجل توليناه ويرثنا من أطفاله حتَّى حتَّى يبلغوا فيسلموا إذ لا إسلام لطفل.
والأخنسية: منسوبون إلى الأخنس بن قيس وهم كالعجاردة، إلاَّ أنهم لا يثيرون من الأطفال، ويحرمون البيات والإغتيال والقتل ےي المصر.
وےلسلمانية: أصحاب؟سلمان بن سلمةےنبےات منه الخوارج لے غائبة أنا مسلمےوےختے بقولے: أن الله لا يےلم شيئاً حتَّى يخلق لنفسه علماً وهو جهمي.
والرشيدية: منسوبےن إلى رجل سےےىےےشيداً مےا تفردوا به أن زكاة ما يسقى بالغيول الجارية نصف العشر.
والحفصية: منسوبون إلى حفص بن أبي مقدام ذهبوا دون غيرهم إلى جوار التحكم ويجعلون بين الشرك والكفر فرقاً فمن عرف الله ولو كفر بجميع ما سواه فهو كافر لا يشرك والمشرك من أنكر الله.
والمكرمية: منسوبون إلى أبي مكرم، كفروا تارك الصلاة لا لتركها، بل لجهله بالله، وكذا سائر الكبائر وهم من أهل الموافاة والعجاردة أصحاب عبد الكريم بن عجرد يوجبون دعاء الطفل إذا بلغ والبراءة منه، قيل ذلك حتَّى لا يدعى إلى الإسلام.
والأباضية: منسوبون إلى عبد الله بن يحيى بن أباض التميمي، يزعمون أن مخالفهم من أهل القبلة كافر غير مشرك، يحل مناكحته وموارثته ويجعلون حكم كفارة أهل القبلة حكم البغاة في الغنيمة ويجيزون شهادة مخالفيهم على مواليهما، قال الشيخ أبو القاسم ولم يمت ابن أباض حتَّى قد رجع إلى الإعتزال، فلذلك لا نرى أصحابه يعظمونه.
واليزيدية: منسوبن إلى يزيد بن أبي شيبة يزعمون أن الله سيبعث رجلاً من العجم ينزل عليه كتاباً يكت في السماء ثُمَّ ينزل جملة واحدة، فينزل الشريعة النبوية ويكون ملته الصابية المذكورة في القرآن، وكل دين عندهم شرك.
والبيهسية: منسوبون إلى أبي بيهس هيضم بن أبي حاجرےيقولون أن ےلسكر من كل شراب حلاے، الأصل موضوع ےےن سكے منه، وكذا ماےےع حال سكره منه.
تنبيه: كل رجل ينسب إليه فرقة من فرق الخوارج فهو إمامها يعقدون له الخلافة ويأتمون به؛ لأنهم يجيزون الإمامة في جميع الناس.
وأما فرق المجبرة فهم:ـ
الأشعرية: منسوبون إلى عمرو بن أبي بشر، وهم أكبر المجبرة وأعظمهم وتابعهم من أعيان المتأخرين الغزالي والرازي والجونني والباقلاني.
والنجارية: .... الري فرق كثيرة منها:
البرغوثية: أصحاب محمد بن عيسى البرغوث، تفردوا بأنه متكلم لذاته. ومنها الزعفرانية، والمستدركية، ذهبوا معاً إلى أن كلامه غيره، وهو مخلوق. والكرامية: وهم مجسمة بخراسان ولهم أقاويل مضطرية. والخمصية: منسوبون إلى جهم بن صفوان، وقد تفرع غيرها ولا الفرق الأربع كالضرارية: منسوبون إلى ضرار بن عمر، والكلابية: منسوبون إلى عبد الله بن سعيد بن كلاب. والبكرية: منسوبون إلى بكر بن عبد الواحد، وكل فرق المجبرة متفقون على الجبر ومختلفون في عقائد أخر ربما أفضى بهم الإختلاف إلى تكفير بعضهم بعضاً.
وأما فرق المرجئة: فهي ست فرقة تزعم أن ..... الوعيد خاصة لمسجد المحرم دون من عفله معتقداً لتحريمه، وفرقة تقول بأن ........ في حق الفساق مقدراً نحوا إن لم أعف، ويقدر ي نحو أنَّه الزانے إن لم يتطهر ونحےهے وفرقةûےجوز أن ےكون لعموم الأوامر خصوص ے كوے دلأمر العالû متناولےً لبعےàدونےےعے ےمن لم يتناولهےالأمر لم يتےاوله الأمر لم لكے؟عےصيےً بعدم الےïتثالےفلا يكون داخلاے في الوعےے، وفرقةےتجوز أن يعفوا عنûبعض مع عےے عفےه عمن صفتهےصفته. وفےقة تمےع مے أےازےه وتقول: ما ع ا عنه في حق بعض المكلفين عفا عن مثله في حق غيره، وفرقة قطعت تعفي أن ما دور الكفر وهم المقابلية، قال الشيخ أبو القاسم: وهذه لا تعد من المرجئة، وإن عدها بعض الناس منمه؛ لأن المجرئ من لم يقطع فهذه ست مقالات.
وأما فرق المعتزلة: فذكر الإمام يحيى أنَّها عشرون وأجملها ولم يفصلها، قالا الإمام المهدي: ونحن نذكر ما ذكره الحاكم وأبو القاسم ولم يذكر إلاَّ ثلاث عشرة فرقة:ـ
العيلانية: منسوبون إلى عيلان ويقولون: بالإرجاء.
والواصلية: منسوبون إلى واصل واختصوا بالتوقف في المخطئ من الفريقين يوم الجمل ويوم صفين فجوزوا كون المخطئ أمير المؤمنين، قالوا: وهو خطأ يحتمل الفسق، وكذلك قالوا في عثمان وقاتليه، وعمرو بن عبيد يقطع بفسق أحد الفريقين، وقال: لو شهد عليّ ورجل من عسكره أو طلحة ورجل ممَّن في جانبيه لم يقبل شهادتهم.
والجعفرية: منسوبون إلى الجعفر بن مبشر بن ذهبوا إلى مذهب البطام، وشاركوه فيما أخطأ فيه، وزعم جعفر بن مبشر أن في فساق الأمة من هو شر من الزنادقة والمجوس، وزعموا أن إجماع الصحابة على حد السارق خطأ؛ إذ لا حد إلاَّ بنص.
البصرية: أصحاب أبي الهذيل تفردوا بتجويز فنا القدرة في حالة العقل وبإضطرار أهل الجنة إلى أفعالهم وإن علم الله وقدرهما الله ويفرد أبو الهذيل بأن حركات أهل الجنة تنقضي ويصيرون إلى سكون دائم ويلتذون ولا يتحركون إلى غير ذلك.
والإحشيدية: منسوبون إلى أبي بكر أحمد بن علي الأحشيد.
والبعلوية: منسوبون إلى أبي علي وتفرد أبو علي وأتباعه بأن من علم الله أنَّه لا يكفر لا يجوز منه الكفر، ومن علم أنَّه يكفر لا يجوز إلاَّ يكفر.
والهشمية: منسوبون إلى أبي هاشم وتفردوا بأنه لا يقبح قليل الذم والإهانة من غير استحقاق، وأن المتوسط أرضاً مغصوبة عاصٍاسم وإن جرح، وأصحاب البطام ومما تفرد به أن الإنسان هو الروح على تفضيل له مذكور في موضعه، وأن الإنسان قادر لنفسه وان اللون والطعم وجميع ما يدعي المعتزلة أنَّه أعراض أجسام متداخلة ولم يثبت من الأعراض إلاَّ للحركة وأجاز تداخل الأجسام والظفر، وتفرد أيضاً بأن وجه الإعجاز الصرفة وغير ذلك. وأصحاب معمر بن عباد، ومما تفرد به أن الإنسان ليس بجسم ويفعل بالإختيار وليس بطويل ولا عريض ولا بذي أجزاء ولا يقال أنَّه بمكان دون مكان، وأنه لا يفعل إلاَّ الإدراك وأن الحركة سكون في الحقيقة، وأصحاب هشام الفوطي، ومما تفرد به أن الأعراض لا تدل على الله وبالقول بالمقطوع والموصول وهو أن رجلاً لو ابتدأ صلاة الظهر بنية صادقة ووضوء سابغ وهو عازم على أن يتم الصلاة ويؤديها كما أمر بها ثُمَّ قطعها أن ما مضى من صلاته معصية، ويقول: بالموافاة وهو أن عبداً لو أطاع ألف ألف سنة ثُمَّ كان آخر أمره الكفر الكفر أو الكبائر لم يزل في حال الطاعة من أهل الوعيد، وأن الله لم يعده الجنة، وكذا لو كفر ألف سنة ثُمَّ كان آخر أمره الطاعة فإنه حال كفره غير متوعد بالنار ولا من أهل الوعيد وغير ذلك، وأصحاب بسر بن المعتمر تفرد بمقالته في اللطف وهو أنَّه قادر على ما لو فعله لكان لطفاً للكفار يؤمنون عنده اختيار أو لكن لا يجب عليه فعل اللطف ثُمَّ رجع عن ذلك وتفرد بأن من الألوان والطعوم والروائح ما هو فعل للعباد وأن صحة التوبة مشروطة بألا يعود، فإن عاد عاد عقاب المعصية الأولى. وأصحاب ثمامة بن الأشرس تفرد بالقول بأن المعرفة ضرورية وأنه من لم يضطر إليها فهو مسخر كسائر الحيوان الذي ليس بمكلف، وأن العبد لا يفعل إلاَّ الإرادة وما سواها حدث لا محدث له. وأصحاب الجاحظ تفرد بأن المعرفة طباع وهي مع ذلك فعل للعارف وليست باختيار
له ويقول كثمامة لا يفعل العبد إلاَّ الإرادة لكنه ينسب سائر الإفعال إلى العباد مع كونها تجب ظناً عاماً، زاد: ولا يجوز أن يبلغ أحد التكليف وهو لا يعرف الله فهذه فرق المعتزلة المذكورة المشهورة، وذكر نبذ مما تفردوا به من المقالات الَّتِي يخشى عليها أو لبعضها الهلاك ولا يعلم من السبع الفرق الباقية من العشرين الَّتِي أجملها الإمام يحيى.
قال الإمام المهدي: أما المعتزلة فالأقرب أنَّها لا تزيد على الثلاث عشرة ويكون الموفى للثلاث والسبعين سبع فرق غير مشهورة وهم الأزلية: يزعم أن الخلق كانوا مع الله فيما لم يزل، قالوا: لأنَّه كما يعلمهم في الأزل فكذلك ينصرهم.
والبدعية: فرقة من الخوارج تزعم أن الصلاة ثلاثية ليس فيها ركعة ولا ركعتان. وقيل: يزعمون أن الصلاة ركعتان بالعشي وركعتان بالغداة لا غير، ذلك ويجيزون الحج في كل السنة، ويأمرون الحائض بالصوم.
والصباحية: ذهبوا إلى قدم الخلق مع الله، وأنه لم يزل يراهم وخطأوا أبا بكر في قتال أهل الردة وسبيهم وخطأوا علياً في قتال معاوية وزعموا أن القتل لا يحل إلاَّ بإحدى الثلاث المذكورة في الحديث،
واما الزيدية وهم الفرقة الناجية إن شاء الله فينتسبون إلى الإمام زيد بن علي الا للقول بامته وإن لم يكونوا على مذهبه في الفروع فالنسبة هنا مخالفة للنسبة في الحقيقية والشافعية لإمامهما لأجل المتابعة في الفروع ويجمعهم القول بإمامة زيد ويفضل علي عليهم وأنه أولى بالإمامة وقصرها في البطنين واستحقاقها بالفضل والطلب وتوجه الخروجه على الجائرين ثُمَّ افترقوا إلى جارودية وبترية وحريرية، وافترق متأخروا الجاردوية إلى مطرقية وحسينية ومخترعة فهذه ست فرق.
أما الجارودية فمنسوبون إلى أبي الجارود بن زياد بن منذر العبدي أثبت النص على أمير المؤمنين بالوصف الذي لا يوجد إلاَّ فيه كخصف النعل وإيتاء الزكاة حال الركوع وكوهما دون التسمية ونسبي إليهم تكفير من خالف النص، وأثبتوا الإمامة في البطنين بالدعوة مع العلم والفضل.
وأما البترية: فذهبوا إلى الإمامة شورى لا تصح إلاَّ بالعقد ويصح في المفضول، ويقولون بإمامة الشيخين، وأما عثمان فمنهم من يوقف فيه ومنهم من تبرأ عنه وسموا بترية لتركهم الجهر بالتسمية يبن السورتين، وقيل: لإنكار سليمان بن جرير النص على علي بالوصف وغيره، فسمي أبتر. قيل الإمام المهدي ومتأخروا الجارودية يخالفون هاتين الفرقتين حيث أثبتوا إمامة علي بالنص الخفي القطعي وخطأوا المشائخ لمخالفته، ولم يقطعوا بالتفسيق، واختلفوا في جواز الترضية عنهم.
وأما المطرفية فأصحاب مطرف بن شهاب لهم مقالات في أصول الدين كفرهم نسبها كثير من الزيدية.
وأما الحسينية فينسبون إلى الحسين بن القاسم بن علي العياني فاختصت بأن زعمت أنَّه لم يقتل ولا بد أن يظهر قبل موته، وقد انقرضت هاتان الفرقتان ولم يبق إلاَّ المخترعة القائلون بإمام علي عليه السلام بالنص الخفي وخطأ المشائخ بالتقدم عليه والتوقف في فسقهم وسموا مخترعة لقولهم أن يخترع الأعراض في الأجسام ولا تحصل بطباعها كقول المطرفية. هذا تلخيص ما تذكره الأصحاب في تعداد الفرق.
واعلم أنَّه لا يخلو عن نظر من وجوه أحدها أن المراد بالفرق إن كان أصولها فهي قليلة لا ينتهي إلى ثلاث وسبعين ولا إلى النصف من ذلك وإن كان المراد تفاريعها فهي أكثر مما ذكر وأكثر بلا شك ولا شبهة، فقد فرع بعضهم الباطنية إلى اثنتي عشرة فرقة وغيرها ولا الفروع وغيرهم. وثانيها أن هذا التعداد قد انطوى على ذكر تفرع الفرق المذكورة الرافضة والخوارج والمجبرة والمعتزلة والمرجئة إلى أن بلغ إلى الزيدية فعدهم فرقة واحدة مع أنهم متفرعون كغيرهم، وقد ذكرت تفاريعهم ما ذلك إلاَّ لتحكم عليهم بالنجاة ويجعلون وحدهم الفرقة الناجية وينبغي أن يجري في منهج واحد، إما بأن تد المعتزلة فرقة واحدة والمجبرة فرقة واحدة كالزيدية أو تعد الزيدية فرقاً كمن ذكر قبلهم. وثالثها أنَّه تضمن الحكم على فرق المعتزلة كلها بأنها من الفرق الهالكة فليس هكذا مقتضى المذهب فيهم، فإن أئمة الزيدية وعلمائهم يترحمون لهم ويرضون عنهم ويعتقدون نجاتهم إلاَّ من له منهم عقيدة تقتضي كفر أو فسقاً، ولم يخالف فضلاؤهم وأهل العقائد القويمة منهم الزيدية إلاَّ في مسائر الإمامة مخالفة لا تقتضي تكفيراً ولا تفسيقاً.
ورابعها: أنَّه تتضمن الحكم على الزيدية بأنها الفرقة الناجية وهم فرق تحكم لبعضها بالهلاك كالمطرفية الشقية وغيرهم، فذلك التفضيل لا يخلو عن خبط وعدم انتظام، والله أعلم.
وذهب الغزالي إلى أن الفرقة الناجية هم المتسمون بالسنة ومن مذاهبهم الجبر والباطنية يزعم أنَّها الفرقة الناجية وما أبعدهم عن النجاة، وقيل: الفرقة الناجية صالحوا كل فرقة ورجح هذا القول بعض علماء الحديث ممَّن عاصرناه وقرأنا عليه وهو شافعي المذهب وشافهنا بذلك، واحتج عليه بأنه ما من فرقة من فرق الإسلام كالزيدية والشافعية إلاَّ وفيها أهل فضل ودين ومن ظهرت له كرامات الأولياء ولو أن المذهب كان سبباً في الهلاك لكان مانعاً عن مثل ذلك، وأطال في هذا المعنى وذكر أعياناً من ائمة الزيدية وفضلاء الشافعية وظهرت براهين فضلهم، وأقول وبالله التوفيق: أما تعيين الثلاث والسبعين فرقة فمما لا ينبغي أن محاولة الواحد منا إلاَّ بتوفيق فإنه مما لا يمكن القطع به وبث الإعتقاد والعلم بما قصده النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك اللفظ من الفرق وأراد فطريق العلم بمراده بالعقل منسدة، ومن النقل غير موجودة، وكذلك الأمارات المفيدة للظن فيه غير حاصلة، وأما معرفة الفرقة الناجية فمما الطريق إليه حاصلة؛ لأن الإختلاف في الفروع لا يقضي بهلاك وفي الأصول نعلم بالعقول الراجحة الخطأ منه والصواب والمخطئ فيه إثم والإثم يختلف حاله، والمصيب فيه ناج لا محالة، وأعدل ما يقال: إن الفرقة الناجية هم الذاهبون إلى توحيد الله وتعديله ووصفه بصفات الكمال مع السلامة من كل عقيدة تقتضي كفراً أو فسقاً، والله سبحانه أعلم.
فلست تكاد ترى للحق محبساً المخاطب فيه غير معين كقوله: {ولو ترى إذ وقفوا على النار} لأن المراد في الآية أن حالتهم بتاهت في الظهور إلى أن صارت لا يختص بها مخاطب دون مخاطب، والمراد نفي مقاربة رؤية محب للحق لكثرة مخالفيه وقلة أهليه، ولا من يصغي لسماع الحجة قلباً، أي ولا من يميل قلبه إلى سماع حجة يرد عليه لتمسكه بالشبه واجرمه بخلاف الحق ولا يظفر بمتصف يناظر لله، أي ولا يفوز بمن شأنه الإتصاف وهو إطاء الحق والمناظرة مفاعة من النظر الذي هو الفكر والنحب؛ لأن المناظر ينظر فما يذكره مناظره ومناظره كذلك، والمعنى أنك لا تجد متصفاً يكون مناظرته قصد الله ولمعرفة الحق الذي يرضاه، ويقبل واضح الحق من حيث أتاه، هذا تمام لوصف المنصف الذي نفى الظفر به، أي ولا يظفر بمتصف صفته المناظرة لله وقبول الحق من حيث أتاه أي سواء أتى من قريب صديق أو من عدو سحيق.
نعم قد قام بنصره هذه الدين أي دين الحق الذي فرضه الله على الخق فريق، والفريق تستعمل لما هو أكبر من الطائفة من ذوي البصائر والتحقيق. البصائر جمع بصيرة وهي قوة تدرك بها المعقولات بمنزلة البصر للعين في إدراك المحسوسات.
وقيل: الديوان اسم لما اعتقد به في القلب من الدين وتحقيق الأمر والتحقيق الأحكام في معرفة الحق اعتمدوا فيه على الحق الواضح أي صيّروا الحق وهو نقيض الباطل كالعماد الذي ينصب لشيء يعتمد عليه وسلكوا منهاج السلف الصَّالح المنهاج الطريق وسلوكه النفوذ فيه وسلف الرجل آباؤه المتقدمون، والمراد المتقدون من صالحي الأمة وهم الصحابة والتابعون بإحسان بهم حرس الله معالم الحق. المعالم جمع معلم على وزن مفعل ـ بفتح ميمه وعينه ـ وهو الأثر الذي يستدل به على الطريق، فالمراد آثار الحق الدالة عليه وجعلهم في أرضه حجة على الخلق؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء فيرثون عنهم كونهم حجة لله على خلقه أو لكونهم شهداء على الناس فشهادتهم حجة لله على خلقه ليس تحول الشبهات بينهم وبين الصواب، اسم ليس ضمير الشأن فسر بالجملة بعده والشهاب ـ بمضم الباء وفتحها جمع شبهة وهي ما يلتبس بالدليل وليس بدليل والمعنى أن هذا حاله لا يمنعهم عن الحق واعقاده واتباعه، ولا يخدعون بلوامع السرا. السرا ما يلوح في الفلاة وقت الظهيرة سرب على وجه الأرض كانه ماء يجري فيخدع به بعض الناس بظنه ماء فيقصد إليه، قال الله: {أو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً} وهذا في معنى الكلام المتقدم؛ لأن المعنى أنهم لا يتخدعون بالشبهة استعار السراب للشبهة بظنها من لا تحقيق له حقاً ورشح الإستعارة بذكر اللمعان، يقال: لمع الشيء إذا أضاء وهو هنا من خواص المشبه به فهم أقطاب الدين وعلهيم يدور لولبه. الأقطاب جمع قطب، وهو قطب الرحا المعروف تسميته به، ما كان مداراً لأمرٍ وقاعدة له، والولب يقال للماء الكبير الذي يستدير عند خروجه من الثقب الذي لا يتسع له ويضيق به ويصير كأنه بلبل آنية (وإليهم ينتمي الحق وفي سيماهم يطلع كوكبه) ينتمي أي ينتسب، والكوكب النجم خيل أن لهم سما وأن للحق كوكباً، فطلوعه لا غيره في سمائهم لا في سما غيرهم أولئك آل المصطفى وشيوخ الأعتزال. الآل لغة
الأتباع كقوله: {ادخلوا آل فرعون أشد العذاب} وأما في العرف فقال نشوان: لا فرق، وله في ذلك شعر وهو:
آل النبي هم أتباع ملته ... من الأعاجم والسودان والعرب
لو لم يكن آله إلاَّ أقاربه ... صلى المصلي على الطاغي أبي لهب
وقيل: زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقالت الزيدية وموافقوهم من المعتزلة كأبي عبد الله والقاضي: أنهم علي وفاطمة وذريتهما لخبر الكساء وغيره، ودخول ذريتهما لورود أن أهل البيت لا ينقطعون إلى يوم القيامة، نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <إني تارك فيكم الثقلين..> الحديث. وعن الإمام يحيى أن الآل هم بنو هاشم.
قيل: والمراد على الأقوال الأخبار دون الإسرار والمصطفى المختار، وشيوخ جمع شيخ، والمراد شيوخ الإعتزال المعتزلة ويسمون أيضاً العدلية لقولهم بالعدل والموحدة لقولهم لا قديم مع الله، وأهل العدل والتوحيد يرتضون لقبهم، هذا وسائر أهل المذاهب لا يرتضون ألقابهم كالمرجئة والمجبرة، وتقول المعتزلة: ما ورد ذكر الإعتزال إلاَّ في ....... الشر كقوله: {وأعتزلكم وما تدعون من دون الله فلما اعتزلهم} {وإذا اعتزلتموهم} ويروون عن سفيان الثوري بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أبرها وأتقاها الفئة المعتزلة> ثُمَّ قال سفيان لأصحابه: تسموا بهذا الإسم لأنكم اعتزلتم الظلمة.فقيل: سبقك عنها عمرو بن عبيد وأصحابه، وأصله اعتزل عمرو وواصل حلقة الحسن واستقلالهما بأنفسهما، ولشيوخ المعتزلة ذب عن الإسلام وقيام بنصرته وغصت له، حتَّى روي عن بعض الملحدة: لولا المعتزلة لخطبنا بالإلحاد على المنابر، ولهم مصنفات في الرد على الملحدة والفلاسفة، قال الحاكم للإسلام ثغران ثغر دنيا محروس بالسيف، وثغر دين محروس بالعلم واللسان وحماة تلك الثغور المتكلمون عامة ثُمَّ المعتزلة خاصة، النافون عن علوم الديانة كل تحريف وانتحال، التحريف التغيير والتبديل. والإنتحال مصدر انتحل أي ادعى لنفسه ما ليس له من شعر أو نحوه، فجزاهم الله عن هداية خلقه من قبيل إضافة المصدر إلى المفعول أي هذا بينهم لخلقه أفضل ما جزى القائمين بحقه أي المؤدين له وبلغهم آمالهم في الخيرات أي أوصلهم ما رجوه من الخيرات في الآخرة وضاعف لهم بفضله الحساب أي مكثر لهم حسناتهم بأن تضاعفها لهم وهي طاعاتهم أضعافاً مضاعفة أي يضاعف حراها بفضله، والفضل الزيادة، ثُمَّ أنَّه يغشي على جمع هذا الكتاب أي دعاني إلى تأليفه ونظم حروفه التقرب إلى الله وطلب الثواب أي طلب القرب من الله وهو قرب المنزلة وطلب إثابته الجزيلة الجليلة لما ورد في نشر العلم
وتعليمه من الترغيب العظيم كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <حرف جد في العلم خير من عبادة مائة سنة وتفكر ساعة خير من عبادة سنة وورد ايضاً عنه صلى الله عليه وآله وسلم الكلمة الواحدة يتعلمها المسلم من أخيه المسلم أو يعلمها إياه أفضل من قيام ألف ليلة وصام ألف يوم وصدقة ألف دينار وصدقة ألف درهم وحجة مبرورة فجمعته على وفق ما وضعه الأولون أي موافقاً لما وضعه العلماء الراشدون الأقدمون من التحرير والأسلوب الذين يهدون بالحق، وبه يعدلون أي يهدون الناس إلى الحق ويدلونهم على طريقه ويعدلون بينهم بالحق ولا يجوزون تبركاً يذكر ما أصلوه أي جمعته قاصداً لنيل البركة والخير بذكرى لما أصلوه أي وضعوا أصله وقعدوا قاعدته وإن وقع مني تفريع وثنا على ذلك الأسَّ لا طلباً لتحصيل شيء أهملوه ـ يعني أنَّه لم يقصد بجميع كتابه هذا الطلب لتحصيل شيء من المسائل والفوائد أهمله العلماء المتقدمون وهذا رفع منه لشأنهم وتعظيم لأمرهم وتواضع منه وممجانبة للترفع وإن كان كناية لا تخلوا عن مزيد فوائد واقتناص شوارد واقتداء تقويم هداهم ـ يعني أن من الأعراض الَّتِي قصدها التأسي بهم والإقتداء بهداهم القويم غير المعوج في نشر العلم وتدوينه وحفظه لا طمعاً في بلوغ مداهم أي فلم أطمع في أن أبلغ معهم الغاية وأشاركهم في الفوز بالقدح المعلى فالفضل للمتقدم ورجوعاً في طلب الحق إليهم أراد لا على جهة التقليد بل لأنهم قد كانوا سبقوا إليه ووقعوا عليه فعدم الرجوع إليهم ميل عن المنهج القويم والصراط المستقيم لا استدراكاً في المسائل عليهم يعني لا أني قصدت أن أتدارك شيئاً أهملوه فأحفظه وقد أضاعوه، يقال: استدركت ما فات وتداركته، ومن ذلك تسمية الحاكم أبي عبد الله لمصنفه في الحديث لمستدرك على الصحيحين أراد أن البخاري ومسلماً تركا شيئاً مما هو صحيح على ما اشترطاه في الصَّحيح فتداركه والله أعلم.
وربما يقصد بالإستدارك الإعتراض والقدح ولا يتعدان المصنف أراد هذا المعنى؛ لأنَّه قد سبق في كلامه ما يقوم مقام المعنى الأول وتمسكاً بهديهم القويم أي بسيرتهم المستقيمة؛ لأن الهدى السيرة يقال: هدى هدي فلان أي سار سيرته لا اعتراضاً في سبيلهم المستقيم. السبيل الطريق يذكر ويؤنث وتكبيراً لسوادهم لا من قلة السواد هنا الجماعة سميت بذلك لأنها تسود البقعة الَّتِي هم فيها بمعنى أنَّه لا يرى ظاهرها وقرارها ونصر لمذهبهم لا يعد ذلة أراد أن التكبير والنصرة المقصودين لا يستلزمان تقدم قبلة وذلة فإن انضمام الواحد إلى الكبير زيادة بكثير ومناصر من هو ماهثر ومعاضدته بعد نصره، فمثل ذلك عذري أيها الصاحب أي فذلك عذري في التصدي لتصنيف هذا الكتاب واستعمال لفظ المثل كناية كقولهم مثلك لا ينحل وغيرك لا يجود، وإنَّما كان تعاطي التصنيف والقصد إلى التأليف يقتصر إلى أن يؤتى فيه تعذر لجريان العادة بذلك، فما من مصنف إلاَّ وهو يعتذر في تصنيفه بعذر ما بلسان مقاله أو بلسان حاله، فمنهم من يعتذر بأنه سئل وألح عليه، ومنهم من يعتذر بأن السلطان الفلاني ألزمه ذلك وأمره به ومنهم من يعتذر بأنه أراد أن يتحف به حضرة سلطانه وغير ذلك من الأعذار، وأكثرها مما ........ ويستنقل، وأما عذر المصنف فعذر حسن، وهكذا ينبغي أن يكون المعرض في التصنيف والداعي إليه وهو القصد لوجه الله ونيل ثوابه ومناصرة علماء الهدى والتمسك بحبلهم والإقتداء، وربما أن المحوج إلى الإعتذار في الحقيقة ما في التصنيف من الخطار والتعرض للخطأ والنقادة والإستهداف للرشق باسهام الملام في حاوي العادة.
وللداس فيما يعشقون مذاهب. هذا عجز ثبت صدره ومن مذهبي حب الديار لأهلها. ومثله :
علي لربع العامرية وفقه يمل ... علي الشوق والدمع كانت
وهما من قصيدة للأمير أبي فراس، والمعنى أن من سيرتي وطريقتي حب الديار وعشقها لأجل أهلها، وللناس فيما يعشقون مذاهب أي طرق مختلفة، وتمثل به المصنف بمعنى أن مذهبه وطريقته كون التأليف والتصنيف يفعل للوجوه الَّتِي ذكرها وإن كان غيره يعتمده لغير ذلك عصمنا الله بفضله ورحمته العصمة لغة المنع وإصطلاحاً اللطف الذي يترك المكلف ما كلف تركه لأجله والفضل الزيادة والرحمة من الله النعمة وجعلنا ممَّن يعرفه حق معرفته أي صيرنا بلطفه. ومعرفة الله حق معرفته فسرها صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الأعرابي أن يعرفه بلا مثال ولا شبيه وأن يعرفه إلاهاً واحداً أولاً آخراً ظاهراً باطناً لا كفؤ له ولا مثل.
مقدمة
هو خير مبتدأ محذوف التقدير، هذه منعدمة ومقدمة الجيش اسم للجماعة المتقدمة منه، قال بعض العلماء: يقال مقدمة العلم لما يتوقف عليه مسائلة كمعرفة حقيقته وموضوعه والغاية فيه ومقدمة الكتاب لطائفه من كلامه قدت قبل المقصود لارتباط له بها وانتفاع بها فيه سواء توقف عليها أم لا.
قلت: وهذا المعنى الأخير هو المقصود هنا، فالمعنى أن هذه مقدمة لهذا الكتاب قدمت قبل المقصود وهو الخوض في مسائل علم الكلام لارتباط له بها وانتفاع بها فيه من حيث أنَّها تتضمن التثنية على جلالة هذا الفن وعظم محله وكونه رأساً في العلوم وينطوي ذلك على الإشارة إلى موضوعه والغاية فيه، وتتضمن التثنية على ما ينبغي الإهتمام به وإمعان الفكر في طلب المقصود منه والنَّهي عن التباعد عنه وعن الإلتفاف إلى المثبطين عنه وذكر ما دعاهم إلى ذلك والإرشاد إلى ما فيه من الخطر وإلى طريق النجاة عن الهلكة فيه إن كل علم شرف يشرف معلومه، وذلك لأن العلم تاج تابع للمعلوم في أصل الحصول ويتبعه أيضاً في شرفه فيشرف علم الفقه على قدر شرف التمييز بين الحلال والحرام وشرف علم النحو على قدر شرف معرفة التكاب والسنة، وهكذا غيرهما من الفنون، ويعظم نفعه بحسب الحاجة إلى مفهومه أي بقدر الإحتياج إلى ما يحصل به فهمه وحسب ـ مفتوح السين وتسكينها ـ لغة ويعلو قدره على وفق وضاعة ضده الوقف مع الموافقة بين السنين فقال: محلوبته وَفْقَ عياله أي لبنها على قدر كفايتهم لا يفصل عنهم، والمعنى أن علو قدر كل علم بحسب وضاعة ضده وهو الجهل بمتعلقه، تقل بقلتها وتكثر بكثرتها، ويعز وجدانه على عكس دناءة فقده أي ويكرم ويشرف من العزة إصانته من وجد الضالة إذا أصبهما بقدر دناءة فقده أي خساسية على العكس، فإذا كان فقده دنيئاً أي خسيساً خبيثاً لا خير فيه بكثرة كان وجدانه عزيزاً كريما بكثرة، فمن هنا كان علم التوحيد رأس العلوم، المراد علم الكلام إلاَّ أن علم التوحيد من أسمائه وليس المراد قصره على ما يتعلق منه بذات البارري وصفاته فقط، والمعنى فمن أحل ما ذكرناه حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن هذا الفن رأس العلوم في الخير المأثور عنه وهو خير الأعرابي المتقدم ذكره؛ لأن معلومه الله الحي القيوم، يعني ولا لبس في أنَّه أشرف كل معلوم، وقد قدمنا أن العلم
يشرف شرف المعلوم؛ ولأن به يتميز الكفر من الإيمان، فمن أحاط علماً بمعلومة كان مؤمناً بالله، ومن جهل معلومة كان كافراً لمولاه ، فتبين بذلك شدة الإحتياج إلى ماهذا حاله، وبذلك ثبت عظم نفعه، قد حكم بوجوبه وجلالته العقل. وسيأتي ما يدل على العقل على وجوبه، وأما وجه جلالته فما نحن الآن بصدده فحاصل ما دل على جلالته شرف معلومة ووثاقة البرهان عليه وشدة الحاجة إليه وشدة حاجة سائر العلوم الدينية إليه؛ لأنَّه لا معنى لشيء منها إلاَّ بعد حصوله وما في ضده من الخساسة فقد يستفاد شرف الشيء من خساته ضده.
وقد قيل كل الوجوه القاضية بشرفه مرجعها إلى وجه واحد وهو شدة الحاجة إليه لجلب المنافع ودفع المضار ولا معنى للشرف سوى ذلك إذ لا شرف ضار ولا حاجة إليه وجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتأكيد ذلك القول الفضل أراد قول الحكم جل وعز، والفضل مصدر وصف به القول للمبالغة وأشار بذلك إلى نحو قوله: {فاعلم أنَّه لا إله إلاَّ الله} وقوله: {شهد الله أنَّه لا إله إلاَّ هو والملائكة وأولوا العلم} وإنَّما تكون الشهادة عن يقين. وأهل الأصول هم المعنيون بهذه الآية والمخصوصون بشرفها، ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم ما جزاء من أنعم الله عليه بالتوحيد إلاَّ الجنة، وحو ذلك فكل غافل قد أخذ بتحصيله أي كلف والزم أن تحصله لنفسه بالأنظار الصحيحة المفضية إلى حصوله، وكلف العلم بجملته وتفصيله، أي بجمله هذا الفن وتفصيله، أما الحملة فلا كلام في ذلك؛ لأن العلم بالله وصفاته جملة واجب معين على كل مكلف، وأما التفصيلي فهو إما واجب أو مندوب، والمندوب مما كلفنا به، ويعد تكليفاً على خلاف فيه، والأصح عدم وجوب التفصيلي، وإن أصحاب الحمل الذين يعتقدون الحق بطريق صحيح على وجه الجملة ناجون إن شاء الله.
ثُمَّ أنَّه لارتفاع قدرة تعز مناله أي يصعب ويتعسر إداركه من عز الشيء عزَّاً أو عزازه، إذا قلَّ، فلا يكاد يوجد؛ لأن العادة جرت بذلك، وهو أن كل أمر له خطر فلا يدرك إلاَّ بتعب ومشقة.
لولا المشقة ساد الناس كلهم ... وكذا كل يتفش هذه حاله
أي كل خيار والتفتيش الذي يتنافس فيه ويغرب ويحب ويكرم، فإن الشيء يحتسب خلاله محوصله بعظم المشقة في تحصيله، أي بقدر عظم ما يحصل منه من البقع لا يقع إلاَّ بمشقة وتعب في تناوله وعلى قدر علو مكانه يكون الإهتمام بشأنه، أي يحسب ارتفاع مكانه الإرتفاع المعنوي يبتغي أن يكون الإهتمام بشأنه كذلك اهتماماً علياً وقوياً، وهذا تنبيه على ما يتوجه من استفراغ الوسع في تحصيله فلن يظفر بفوائد علم التوحيد إلاَّ الخواص، هذا نفي على سبيل التأبيد للفوز بفوائد هذا الفن وإحرازها إلاَّ في حق الخواص من الناس جمع خاصة، والمراد بهم هنا هم أهل العقول الزاكية والأنظار الوافية والهمم العالية والأذهان الصافية وعلم التوحيد المراد به كما تقدم علم الكلام وعلم الكلام اسمه الشهير سمي بذلك؛ لأنَّه أكثر الفنون كلاماً وأوسعها أدلة وحجاجاً. وقيل: إنَّما سمي بذلك لأنَّه العلم الكلي فإنه في تقسيماته يعم جميع الموجودات والمعدومات كما لا يلتفظ اللآلي إلاَّ من خاص ستة مضمون الجملة الأولى وهو عدم الظفر بفوائد هذا الفن إلاَّ للخاصة بمضمون الجملة. الأخرى وهو عدم الظفر بالنقاط اللآلي أي يتأولها وأخذها إلاَّ لمن غاص لها في مظنتها. واللآلي جمع لؤلؤة وهي الدرة يقال في جمعها اللؤلؤ، واللآلي والغوص النزول تحت الماء، والغواص الذي يغوص في الحبر على اللؤلؤ، ولن يتمكن من اقتناص أبكاره إلاَّ من امتهرهن صافي أفكاره، هذا من قبيل الإستعارة المرشحة شنة مسائل هذا الفن وعويصاته بالإنكار لما في فهمها من الصعوبة وعدم الإنقياد، ثُمَّ رسخ الإستعارة بذكر ما هو من لوازم المشبه به وهو الإفتضاض ومعناه الإقتراع، يقال:
افتض الجارية أي اقترعها، وذكر الإمهار ثُمَّ بين أن مهر المشنة ليس كمهر المشبه به، بل صافي الأفكار أي الأفكار الصافية وهي الأنظار الخالصة عن الأكدار الَّتِي لا يشوبها ظن ولا تخمسين بل مقدماتها معلومة باليقين، فلا تصدنك عنه صعوبة مركبة أي لا يصدفنك عن تعلمه واكتسابه ما في ذلك من المشقة والتصعب وعبر ذلك بما مشقته محسوسة وهو يعسر الركوب كما يتعسر ركوب الفرس الصعب ونحوه، والمركب هنا إما بمعنى الركوب، وإما اسم لمكانه وهي طهر المركوب، فأصعب من ذلك عاقبة الجهل به؛ لأن من جهله بالكلية كان كافراً صائراً إلى النار، وأما الجهل ببعض فقد يؤدي إلى الكفر وقد يؤدي إلى الفسق، وكل ذلك عاقبته أصعب وأشق من تحصيل العلم اليقين في هذا الفن الجليل، ولا يلتفت إلى الدين يهون عن تعلمه إشارة إلى قوم يعتمدون في عقائدهم الإلاهية على ظواهر القرآن والحديث ويطرحون ما وراء ذلك ويعقتدون أن الإعتناء بهذا الفن والإشتغال به مما لا يليق وتوقع صاحبه في الخطأ ويعتقدون أن هذه الطريقة منجية وما نظروا إلى شرف هذا العلم وعظم موقعه في الإسلام فإنه يقل إن هارون لما منع عن الجدال في الدين وأمر بحبس أهل هذا الفن كتب إليه ملك السند: إنك رئيس قوم لا ينصفون وشيمتهم تقليد الرجال، فإن كنت على ثقة من دينك فوجه إليّ من أناظره فإن كان الحق معك اتبعناك وإن كان معي اتبعتني، فوجه إليه قاضياً وكان عند الملك رجل من السمنية وهو الذي حمله على هذه المكاتبة، فلما وصله القاضي أكرمه ورفع مجلسه فقال له السمني: أخبروني عن معبودك هل يقدر على أن يخلق مثله، فقال القاضي هذه المسألة من علم الكلام وهو بدعة وأصحابنا فلان وفلان وعد جماعة من الفقهاء ينكرونه فقال السمني: الآن تيقنت يعني الملك ما أخبرتك به من جهلهم وتقليدهم يكتب الملك إلى الرشيد إني كنت بدأتك بالكتاب على غير يقين مما حكى عنكم فالآن تيقنت ذلك بحضور القاضي وحكي له ما جرى فقامت قيامة
الرشيد وقال: ألاَّ مناضل عن هذا الدين فقيل: يناضل عنه الذين منعتهم عن الجدال وفي حبسك جماعة منهم، فأمر بإحضارهم وسألهم عن جواب ذلك السؤال، فقال صني منهم هذا السؤال مجال؛ لأن المخلوق محدث والمحدث لا يكون مثل القديم فقد استحال أن يقال يقدر على أن يخلق مثله أولا يقدر كما استحال أن يقال بقدر أن يكون عاجزاً أو جاهلاً ثُمَّ أنَّه أمر معمراً إلى السند ليناظرهم، فلما قرب محاق السمني الفصحة دس من سمه في الطريق.
قلت: وفي جواب الصني المذكور نظر وكان الأولى أن يقال مثل القديم لا بد أن يقدر قدمه ولا يصح أن يكون مجدثاً ومالا يصح أن يكون محدثاً فلا يصح أن يكون مقدوراً؛ لأن المقدور هو ما يصح فعله ولا بد أن يتقدم وجوده حاله عدم تثبت صحة إيجاده فيها، فإذن ليس مثل القديم مقدوراً بل هو مستحيل وما كان مستحيلاً لم يصح وصف القديم بالقدرة عليه، وقد ورد في الأثر عن أبي سعيد الخدري يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لله عباداً هم الخصماء للصادين عن دين الله يخاصمونهم بحجة الله هم قادة الحق والدعاة إلى الله والدابون عن جريمة والقائمون بأمره فمن أتبعهم سلم ومن خالفهم خسر أولئك بنيت لهم جنات الفردوس نزلاً خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً، وإذا تؤمل معنى هذا الخير عرف أن المراد بهم أهل علماء الكلام إذ تلك أوصافهم والله أعلم. ويدعون عظم الخطر في تفهمه. عُظْمِ الشيء كثرته، والخطر له معانٍ المراد منها هنا الإسراف الهلكة، ومن معانيه القدر خَطَرُ الرجل قدره، فلم يجهلوا والله قدره أي لم يحملهم على ذلك التمنِّي وتلك الدعوى جهلهم بقدر هذا الفن وعظيم نفعه، بل ما يأتي ذكره وليس هذا على عمومه فكم جاهل القدرة معتقد لضره غير مطلع على حقيقة أمره ولا جحدوا بذلك، فحده الفخر الإفتخار وعدَّ مفاخرة الآباءة وفيما ذكره بطرقائهم جاحدون لفخره لا محالة إلاَّ أن يريد به لم يحصل لهم ما حاولوه انكتام فخره وسرف محله، أو ممَّن جحدوا معنى ستروا أو غطوا ولكن رأوا بعد شأوة الروية هنا بمعنى العلم والشأو الغاية إلى فوق وعز مناله أي تصعب نيله أو مكان نيله وهو إدراكه فأظهر وانجلد إكراهه وصالة التجلد التكلف والإظهار للجلد وهو الصلابة وهو هنا مفعولا له، والمعنى أظهر وإكراهه هذا الفن والإعتلاق به، والوصال ضد المصارمة تجلداً منهم وبعداً عن الإعتراف بالعجز عن إدراكه لبعد شأوه وتكلموا فيه بلسان قاصر أي تكلموا في النَّهي عنه ودعوى
الخطر فيه والصد عن تعلمه بلسان عاجز عن بلوغ ما أراد وأمن ذلك وقلت حائر أي متحير في أمره.
فهم في ذلك كما قال الشاعر:
وثب الثعلب يوماً وثبة ... طلباً منه لعنقود العنب
ثُمَّ لما لم ينله قال ذا ... حامض ليس لنا فيه أرب
الأرب هنا بمعنى الحاجة فهو سننه حسن ملائم مطابق ولكن الحكم على المنحرفين عن علم الكلام كلهم بأن هذا هو السبب في وضعهم منه وصدهم عن ليس على عمومه، فكم في أولئك من فطن اللبيب ولفظٍ أريب متمكن من خوض غماره والإطلاع على غوامضه وأسراره والله سبحانه أعلم، نعم كما أن النفع بهذا الفن كثير فإن خطر الجهل فيه غير يسير. نعم حرف إيجاب ولها معان أقربها هنا أعلام مستجير كان سائلاً سأله فهل في هذا الفن على كثرة نفعه خطر؟ فقال: نعم كثرة خطره ككثرة النفع فيه فالمقدم عليه كراكب البحر المتلاطم أي الذي تلاطمت أمواجه؛ لأنَّه في تلك الحال ركوبه أخطر ما يكون وذلك لأن الخائض في هذا الفن لا يأمن أن يزل قدمه عن الحق فيه بألا يوفي النظر حقه فيهلك والمحجم عنه في ظلام متراكم أي في جهل متكاثر بعضه فوق بعض ومن ثُمَّ عظم التكليف به والثواب عليه أي ومن أجل كونه يصعب الإقدام عليه ويوقع الأحجام عنه في الهلكة عظم التكليف به في المشقة معظم الثواب عليه لعظم المشقة مع عظم الموقع الموجب له وهو اللطفية الَّتِي هي السبب في إدراك السعادة الأخروية، واستندت الأديان في كل زمان إليه أي ولا حل ما ذكر كامن خطر افقدام عليه والإحجام عنه استندت الأديان إليه فصار إضلالها إذ لا يصح حصولها على الوجه النافع إلاَّ مع حصوله ولهذا ألم يختلف في حق كل شيء وأهل كل سريعة وفيه نظر كأن السبب في استناد الأديان غليه ليس عظيم الخطر فيه بل كون شيء منها لا يصح إلاَّ مع حصوله سواء فرضت سهولته أو صعوبته فستنبذ العاقل أن ينظر فيه نظر متعرف لا نظر متعجرف أي فطريق العاقل الَّتِي يبتغي أن سيلكها نظره في هذا العلم نظر طالب لمعرفة الحق
فيه لا نظر متكبر عن اتباعه أنفة عن أن يكون تابعاً أو خارجاً عن مذهب سلفه أو نحو ذلك ويطلبه طلب متعرف أي طالبٌ للعون من الله لا طلب متعصب لمن سيفه من سلفه والعصب معناه أن يتكلف أن يصير لمن يتعصب له ويحتمي عليه كالعصبة الذين هم قرابة الأب ويوطن نفسه أي يلزمها ويحملها على قبول الحق من حيث ورد من صغير أو كبير فوثب أو يعتد صديق أو عدو وقد أشار إلى ذلك الخبر المآثور حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: <من أتاك بالحق فاقبله ولو كان بعيداً نعيصاً ومن أتاك بالباطل فأردده ولو كان حبيباً قريباً ولا يعتمد في أمر دينه على أحد أي لا يرتكن في شأن دينه على تقليد واحد من الناس فيكون أي فيتسبب اعتماده على التقليد إلى أن يكون قد حقب دينه الرجال أي جعل دينه من الرجال بمنزلة الحقيبة من الجمال وهو وعاء من آدم ونحوه يجعله الراكب خلفه وجمعه حقائب، وذهب معهم من يمين إلى شمال إشارة إلى الخير المأثور عنه صلى الله عليه وآله وسلم: <من أخذ دينه عن أفواه الرجال ذهبت به الرجال من يمين إلى شمال وكان من دين الله على أعظم زوال فمثله كمثل رجل خلق له عينان فأطبقهما وانخرط في سلك العميان> أي في أمر دينه على غيره تقليداً وتارك طلب اليقين بطراً واستدلالاً كمثل من له عيناه يرى بهما ويدرك المحسوسات فأطبقهما واعتمد على قائد يأخذ بيده لا يدري أيسير به في الطريق أو يرمى به في مرمى سحيق والسلك هو الخيط الذي ينظم فيه اللؤلؤ وغيره، قسم الله لنا من توفيقه الخط الأسنى. التوفيق ما لأجله مفعل المكلف ما يحلفه والخط هو النصيب والأسنى الأرفع تفصيل السني وهو الرفيع وختم لنا ولكل مسترشد بالحسنى أي وجعل خاتمة أمرنا وأمر كل مسترشد أي طالب للرشد وهو نقيس الغي، الحسنى تأنيث الأحسن أي الَّتِي هي أحن الخواتم عند الله.
الكلام في معرفة الصانع:
هذا شروع في الكلام على هذا الفن وبدا منه بالكلام في معرفة الصانع لأنها الغرض المهم من؛ إذ الكلام على ذاته وصفاته أحق بالتقديم من الكلام على عدله وحكمته وفي وعده ووعيده بلا شك لكن لا عينه عن ذكر المقدمات الَّتِي قدمها أو توقف الفن عليها أو استمداده منها ظاهر قوله لما ستعرف من أن علم التصور مقدم على علم التصديق يعني ماذا كان علم التصور متقدماً على علم التصديق، احتيج إلى تقديم معرفة ماهية العلم لتمكنك الحكم عليه بأنه واجب وغير ذلك من الأحكام ومعلوم أنَّه إذا لم يعرف ماهية العلم لم يمكن ذلك فلهذا احتيج إلى تقديم هذه المقدمة وبهذا يعلم أن معرفة الله تجب تقديم الكلام فيها على الكلام في الله قادر ونحوه؛ إذ لا يمكن الحكم بأنه قادر قبل أن تعرف ذاته وتعرف معنى القادر، وهذه قاعدة محتاجة.
قوله: والثانية في وجوب معرفة الله قد وقع في بعض كتب أصحابنا تقديم الكلام في وجوب معرفة الله .... في بعض كتب أصحابنا تقديم الكلام في وجوب النظر وإدخال الكلام في وجوب المعرفة، ضمنا في ذلك، والذي ذكره المصنف أولى لأن المعرفة للأصل في وجوب النظر.
قوله: والرابعة في الدلة لأنهما متعلق النظر لا كلام في أن النظر من التعلقات وأن متلقة الأدلة لا المستدل عليه وللنظر تعلقان:
أحدهما عام وهو تعلق التسمية وهي ما يجده الناظر من الفرق بين ماهو ناظر فيه وما ليس بناظر فيه وثانيهما تعلق خاص وهو تأثيره في كون الإعتقاد الموجب عنه علماً، وقد يوجد النظر غير متعلق، كأن ينظر في هل البقا باق أو غير باق، وحو ذلك، وسيأتي الكلام على المتعلقات.
القول في ماهية العلم وقسمته
هذا هو الكلام على المقدمة الأولى، قوله: وما يتصل بذلك، يعني من الكلام في الحد والرسم وأحكام العلم وبيان أن العلم من قبيل الإعتقاد وبيان ما يعرف به كون الإعتقاد علماً وبيان ما يعرف به سكون النفس وغير ذلك كما سيجيء. قوله: والفقه الذين يجري في كتب أصحابنا أن الفقه فهم معنى الخطاب الذي يدخله بعض غموض فتارة يقولون لغة وتارة يقولون عرفاً، قالوا: ولهذا الإنفعال فقهت أن السماء فوقي، ولا يقال للعم بمعنى قول من قال أن السماء فوقه فقه، قال السيد الإمام: والأصل أن الفقة عبارة عن فهم عرض المتكلم وقد اشار ابن مثوبة إلى ذلك، وذكر أيضاً أن الفهم علم بمعاني الكلام، وقد صار الفقه في الإصطلاح عبارة عن العلم بالأحكام الشرعية العملية المستدل على أعنانها بحيث لا يعلم ضرورة لكل أحد، ولهذا الحد يفصل موضوعه علم الأصول ومن أسماء العلم ذكاء وفطنة وتحقق ونفس وطلب ودرية، ودراية وإنَّما لم يذكرها المصنف لأن هذه الأسماء تقيد مع معنى العلم معاني أخر، قوله بدليل أنَّه لا يصح إثبات بعضها ونفي البعض إشارة إلى حجة الجمهور على أنَّها أسماء مترادفة وذهب المنطقيون وبعض المتكلمين إلى أنَّها غير مترادفة؛ لأنَّه لا يرادف إلاَّ مع اتحاد المعنى من كل وجه بغير زيادة ولا نقض، وليس هذا حال هذه الألفاظ، فإن الفقه معناه العلم بالحلال والحرام والفهم معناه سرعة العلم، والفطنة العلم بالأمور الغامضة وعلى هذا فقس، والأقوى والله أعلم، ما ينسب إلى الجويني من كونهما في الأصل مترادفة في العرف، صارت لها معانٍ مختلفة فيها اختلاف قوله، وفي الإصطلاح هو الإعتقاد، هذا جنس الحد؛ لأنَّه يدخل فيه سائر الإعتقادات من علم وجهل وتقليد وتنحيب، وهذا تحديد على غير رأي أبي الهذيل؛ لأنَّه لا يجعل العمل إعتقاداً ولا يلزم التحديد بما تشمل المذاهب بل التحديد على ما صح من المذهب وظاهر كلام ابن مثوبة المنع من تحديد العلم بالإعتقاد، قال؛ لأن الإنابة
لا تقع به؛ لأن التساوي يقع بين العلم وبين غيره في كونه اعتقاداً وهو ضعف؛ لأن الحد م نحقه أن يكون مركباً من جنس ووصل وقد حده بما هو أبعد من ذلك وهو المعنى الذي يقتضي سكون النفس، ومثل كلام ابن مثوبة. ذكر السيد الإمام فقال: الشارحون هل يريد أنَّه يبين بياناً كاملاً فمسلم لكن لا يجب عند اهل صياغة الحدود بيان كمال المعنى المحدود بأول لفظه من الحد أو يريد لا يبين بالإعتقاد بعض بيان فليس كذلك بل قد بان بذلك عن جميع سائر أجناس المقدورات. قوله: وقلنا على ما هو به الذي ذكر في لفظ الجد على ما يتناوله قال صاحب العناصة وهو اولى من أن يقال على ما هو به؛ لأن المعتقد على ما هو به، سواء كان الإعتقاد علماً أو جهلاً. قوله: وقلنا مع سكون النفس لتخرج التقليد والتنحيب يعني فإنهما إذا طابقا فسون النفس لا يحصل معهما على الصَّحيح؛ لأن سكون النفس خاصة العلم وذهب الشيخ أبو القاسم إلى أن التقليد إذا طابق الحق فهو علم. قوله: اعتقاد الشيء لمجرد أن الغير قال به. اعلم أن التقليد له حدود كثيرة، وقد قيل فيه قبول قول الغير من غير حجة ولا شبهة رائدة على حال من قلده بقوله من غير حجة احتراز من قبولنا لما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه للحجة وهي المعجزة. وقوله: ولا شبهة احتراز من اتباع المخالفين لقادتهم، فإنهم اتبعوهم لشبههم الَّتِي حرزوها فلا يعد تقليداً وقوله زائدة على حال من قلده ليدخل في التقليد اعتقاد من يتبع غيره لما يعتقده فيه من المعرفة والعفاف والفضل والمعنى مقارب. قوله: في حقيقة التنحيب هجوماً وخبطاً لا لأمر يعني لا لحجة ولا شبهة ولا لأن الغير قال به فيخرج سائر الإعتقادات، مثاله اعتقاد أن جبريل في السماء السابعة لا لأمر ونحو ذلك قوله، وأردنا بالمعتقد ما كان شيئاً إلى آخره، اعلم أن المعتقد هو متعلق الإعتقاد ولا يكون متعلقاً للإعتقاد إلاَّ ما أمكنت الإشارة غليه بعدم أو وجود، فإذا كان كذلك
فهو معتقد ومعلوم أن أوجب إعتقاده سكون النفس وما لم يمكن الإشارة غليه بعدم أو وجود فليس بمعتقد ولا معلق، والإعتقاد المتناول له غير متعلق، مثال ما لا متعلق به من العلوم العلم بأن لا ثاني للقديم، فإن هذا علم غير متعلق ولا معلوم له، وقد منعت الحشيدية من أن يؤخذ علم غير متعلق ولا معلوم له، وهو الذي يظهر من كلام أبي القاسم، قالت الأحشيدية: والعلم بأن لا ثاني علم بعدم معدوم، والمنع من وجود علم لا معلق له هو الذي يجري في كلام الإمام يحيى، ودليلهم على أن في العلوم ما لا متعلق له أن متعلق العلم بألا ثاني لا يخلوا ما أن يكون أمراً موجواً ولا معدوماً محال أن يكون موجوداً؛ لأنَّه لا وجود للثاني وهو متعلق به على النفي وليس متعلقاً بالله كما أشار إليه أبو علي في بعض أقواله؛ لأنا نعلمه على سائر أوصافه ولا نعلم هل له ثان أولا وليس له بكونه واحداً حال فيقال: يتعلق به هذا العلم على هذه الصفة، ومحال أن يتعلق بأمر معدوم، وإلاَّ كان يصح وجوده على بعض الوجوه فلم يبق إلاَّ أنَّه لا متعلق له ولا معلوم. قوله ولفظ الإعتقاد والسكون محاز. المجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة والذين وضع له الإعتقاد والسكون ما ذكره من عقد الخبط والسكون المقابل للحركة والعلاقة أن المعتقد كأنه عقد قلبه على ما اعتقده، والساكن النفس كأن قلبه سكن إلى ما اعتقده فلم يتحرك إلى غيره. قوله: لكن إضافته إلى النفس قرينة يعشر بالمراد يعني فلا يقال لم حدّ بالمجاز مع أنَّه نقض في الحد؛ لأنا نقول: إنَّما يكون نقضاً إذا لم يقترن بقرينة موضحة للمراد منه، فأما إذا اقتربت به قرينة صار كالحقيقة بل حقيقة عند بعضهم. قوله: في اعتراض خد أبي الحسين فغير صحيح أي فهذه الدعوى غير صحيحة؛ لأن أحدنا قد يكون عالماً بشيء ثُمَّ يختار الجهل به لشبهة تدعوه إلى ذلك، كما كان في حق ابن الراوندي وغيره، فضلاً عن التجويز فإن أحدنا قد تجوز خلاف ما
علمه قطعاً وفيه نظر. قوله: في المسائل الإستدلالية يحترز عن الضرورية، فإنه لا يجوز أن يختار الجهل بدلاً عن الضروري ولا يجوز خلافه. قوله: وإن أراد يمتنع أحدنا من التجويز أي لا يفعله مع القدرة عليه فغير صحيح أي فالحد غير صحيح؛ لأنَّه يدخل في العلم ما ليس منه وهو اعتقاد جهل بمعتقد اعتقد أن اعتقاده علم، وأنه صحيح، فإن مع اعتقاده هذا في اعتقاده يمتنع من تجويز خلافه مع أنَّه غير علم. قوله: حتَّى يتميز به الظهور الحقيقي وغير الحقيقي أما غير الحقيقي فهو هذا المعنى الذي استعمله فيه أبو الحسين، وأما الحقيقي فالظهور مصدر ظهر الشيء ظهوراً، أي تبين وظهرت على الرجل ظهوراً غلبته وظهرت على البنت ظهوراً أي علوته، ذكره الجوهري والأغلب في الظهور لغة أنَّه الوضوح وأنه يختص المتخيرات.
واعلم أن الإختلاف قد كثر في حد العلم، فمنهم من حده بأنه إثبات الشيء على ما هو به، وهو يبطل بالتقليد، وبان في العلوم ما لا معلوم له، والذي ذكر هذا الحد الشيخ أبو القاسم لمخالفته في هذين الأصلين، وقالت الصفاتية: العلم ما يوجب كون العلم عالماً، وقالت الأوائل: بل إدراك النفس للحق وغير ذلك، ولكها واضحة البطلان، وقد قال الإمام يحيى في التمهيد إنَّما اختلف الناس في حد العلم لبلوغه في الوضوح إلى حد لا يمكن معرفته وبيانه من وجهين:
أحدهما أنا نعلم وجود أنفسنا بالبديهة ومن علم شيئاً بالبديهية أمكنه أن يعلم كونه عالماً به بالبديهية، والعلم بكونه عالماً بذلك الشيء مسبوق بالعلم بحقيقة العلم، فإذاً العلم بحقيقة العلم سابق على علمنا البديهي، والسابق على البديهي أولى بأن يكون بديهياًن فإذاً العلم بحقيقة العلم بديهي.
وثانيهما أن ما عدا العلم إنَّما تكتشف حقيقته بواسطة العلم فما يكون كاسفاً لما عداه كيف لا يكون حقيقية منكشفة بنفسها. انتهى كلامه عليه السلام.
واعلم أن العلماء مختلفون في هل يصح تحديد العلم أو لا، فمنهم من قال لا يحد ثُمَّ اختلفوا، فقال الرازي ومحمود بن الملاحمي: لا يحد لخلائه، واحتج الرازي بالوجه الثاني من الوجهين اللذين ذكرهما الإمام عليه السلام، وقال الجويني والغزالي وغيرهما: لا يحد لغموضه والجمهور على أنَّه لم يبلغ في الجلاء والغموض إلى حد يمنع التحديد فلا بد من تحديده.
فصل
والعلم ضربان، الضرب أخفص من النوع، فالعلم نوع من أنواع الإعتقاد وهو ضربان تصور وتصديق. قوله: إنَّه يجعل في ذهن الإنسان، الذهبن لغة الفطنة والحفظ. قوله: والتصديق هو العلم بالنسب الحاصلة بين تلك المفردات بإثبات أو نفي الإثبات كقولنا العلم محدث والنفي كقولنا العالم ليس بقديم ففي الأول نسبت الحدوث إلى العالم بمعنى أضفته إليه وحكمت به عليه، وفي الثاني حكمت عليه ينفي القدم. قوله: ويسمى تصديقاً لصحة دخول التصديق في الخبر المطابق له أي المطابق للعلم التصديقي كما إذا قال العالم محدث فإن التصديق يصح دخوله على هذا الخبر.
فإن قيل: فهلا سمي تكذيباً لصحة دخول التكذيب في الخبر الغير المطابق له؟
قيل: لا اختيار الأشرف النسبيين وذلك هو الأولى في الأسماء.
تنبيه:
التصديق ضربان، تصديق باللسان وهو قول القائل للمجبر: صدقت وما كذبت ونحوهما وتصديق بالأفعال كإظهار المعجز فإنه تصديق، وكأن يقول: غلام الملك علامة صدفي، فبما قلت أن الملك ينزل من فوق سريرة أو يضح التاج فوق رأسي، ثُمَّ يفعل ذلك على ما ذكر. قوله: احترازاً من أن يفعل الله إلى آخره يعني فإنه لم فعله تعالى عن ذلك لكان اعتقاداً لا يقف على اختيار المختص به لكن يخرج بأنه لا سكون معه وإنَّما لا تحصل معه السكون؛ لأنَّه من خواص العلم وفي الحد بطر؛ لأنَّه يقال: لِمْ لَمْ تَقُل العلم الذي لا يقف على اختيار المختص به، ويكون العلم جنساً أقرب؛ لأنَّه يشتمل عليه وعلى المكتسب ولا يحتاج إلى احتراز بسكون النفس كيف والتحديد بالأبعد معيب ونقص في الحد.
فصل
وطريق اكتساب علم التصور الحد إن كان المطلوب العلم بالماهية ففصلاة الحد في اللغة بمعنى الذات، وبمعنى طرف الشيء، وبمعنى الحاجز بين الشيئين، وبمعنى المنع قال: {ومن يتعد حدود الله..} أي ما منع من،والحقيقة في اللغة بمعنى الذات، وبمعنى نقيض المجاز وهي ما استعمل فيما وضع له في الأصل، وبمعنى الراية قال: عامر بن الطفيل:
لقد علمت علياً معدٍّ بأنني ... أنا الفارس الحامي حقيقة جعفر
أي رايته وهما في الإصطلاح بمعنى واحد وظاهر كلام المصنف أن الرسمي واللفظي ليسا من أقسام الحدِّ وهو خلاف ما ذكره أهل التعاليق من الأصحاب، فإنهم بنوا على أن الرسمي واللفظي من الحد ولهذا فإنهم قسموا الحد إلى ذاتي ورسمي ولفظي، فجعلوا الحد جنساً يشتمل على هذه الأنواع، وهو كلام صاحب المنتهى فإنه قال: الحد حقيقي ورسمي ولفظي وكلام المصنف موافق لما يجري في بعض كتب المنطق كالرسالة وسرجها وغيرهما، وقد وقع بي كلامه من بعد ما يخالف قوله هاهنا فإنه قال: الحملي هو ما حصل بالحد اللفظي.
واعلم أن هذا الفضل يستدعي أموراً ثلاثة، أحدهما بيان حقيقة الحد وأسمائه وقسمته، وثانيها بيان شروطه. وثالثها بيان طرق صحته.
أما الأمر الأول، فقال المصنف: الحد قول مؤلف من ذا ثبات الشيء، وهذا بناء منه على أنَّه لا يسمى حداً إلاَّ الحقيقي، والمراد بذا بيان الشيء هاهنا ما لا يكون هو ما هو إلاَّ به، قال الحاكم: الحد عندنا هو اللفظ الذي يكون أوضح من المحدود، وتحضر فائدته، ومعناه يمنع ما ليس منه أن يدخل فيه وما هو منه أن يخرج منه وعلى هذا لا يكون اللفظي حداً، وقال بعض أهل المنطق: هو كلام وجيز جامع دال على تميَّز الشيء ما سواه، قال الحاكم، وهذا غير صحيح؛ لأن الحد قد يكون وجيزاً، وقد يكون الإهمام بكلام طويل، فلا بد من ...... في الحدود، وقال الإمام يحيى في التمهيد: الحد تعيين حقيقته متصورة في الذهن تصوراً تفصيلياً من غير أن يحكم على تلك الحقيقة بنفي ولا إثبات، وقال صاحب الغياصة: هو كل لفظ حليّ يكشف عن معنى لفظ خفي على وجه المطابقة ثُمَّ اعترضه بأنه يخرج من اللفظي وهو من أقسام الحد ومن أسماء الحد حقيقة ومعنى وماهية وما ... فسمي حداً لمنعه عن أن يدخل في المحدود ما ليس منه أو يخرج منه ما هو منه، وهذا هو وجه السنة بين اللغة والإصطلاح، وسمي حقيقة لكشفه عن ذات الشيء ومعناه وسمي ماهية للسؤال عنه بما هو وما.... للسؤال عنه بأي شيء هو ومعنىً لأنَّه يكشف عن معنى الشيء وقسمته على ما اختاره أصحابنا إلى لفظي وهو الشرع، قال المصنف: وهو إيراد لفظ مرادف للفظ آخر أجلي منه عند السائل فقوله: مرادف للفظ آخر أجيز أو من أن يكون مبائناً له كما إذا قال: ما الذابل، فقال السيف، فإنه كشف لفظه بلفظه أجلى عند السائل، لكنه مبائن له، وعن هذا وقع احتراز صاحب الغياصة بقوله على جهة المطابقة والمعتبر في الجلاء بحال السائل وسأله ما أورده في الكتاب.
واعلم أن اللفظي لا يؤتى به إلاَّ لمن عرف المعنى وجهل العبارة وهذا الحد مبني على وقوع المترادف في اللغة وهو صحيح، ووقوعه ظاهر وإن خالف فيه من أئمة اللغة تغلب وابن فارس، وقولهم هو حال عز الفائدة غير صحيح لحصول التوسعة في الروي والرنة، ونحو ذلك، ومعنوي وهو لفظ مركب يكشف عن معنى لفظ مفرد على وجه المطابقة بأن يكون جامعاً مانعاً، وينقسم المعنوي إلى: حقيقي ورسمي. والحقيقي ينقسم إلى: ذاتي، وهو ما يتناول ذاتيان الشيء المقوَّمة لماهيته كقولنا في الجسم أنَّه طويل عريض عميق وإلى ما يجري مجرى الذاتي وهو ما يناوله توابع المحدود ولوازمه الراجعة إلى غيره التي لا يكون هو ما هو إلاَّ بها. مثاله: ما يقوله في حقيقة التكليف هو إعلام الغير بأن له في في أن يفعل إلى آخرها، فهذه أوصاف راجعة إلى الغير، ولكنها أشبهت الذاتيات من حيث أنَّها لا تعقل إلاَّ بها. ومثاله: ما ذكره في الكتاب وهو ما جود من رسم الدار وهو أثرها لما كان تعريفاً بالخاصة اللازمة الَّتِي هي من آثار الشيء، والمثال الذي أورده يجعله أهل المنطق مثالاً للرسم الناقص، فأما الرسم التام فهو عندهم ما نزلت من جنس الشيء فخواصه اللازمة كالحيوان الضاحك في تعريف افنسان وإنَّما سموه تاماً؛ لأنَّه وضع فيه الجنس وقيد بأمر يختص بالمحدود وسموا ما مثل به المصنف ناقضاً لعدم ذكر بعض أجزاء الرسم التام فيه الَّتِي تقع بها المساهمة بينه وبين الحد التام. قوله: وهذه العرصات تنقسم إلى آخره لعلم ان العرصى تنقسم إلى ملازم وغير ملازم والملازم ينقسم إلى ما يلازم في الوجود والعدم كالمماثلة والمخالفة والروحية والفردية للعدد وإلى ما يلازم في الوجود فقط كالظل وغير الملازم ضربان: زائل وغير زائل. فغير الزائل كسواد الغراب، فإنه لا يزايله بعد وجوده وهو غير ملازم؛ لأنَّه يكون في الصغر ولا سواد وما هيته ترتسم في الذهن، وإن قدرنا زوالا سواده. والزائل ينقسم إلى بطئ الزوال
وسريع الزوال، فبطيء الزوال كزرقة العين وصفرة الذهب، فإنهما قد يزولان بعلاج سديد وسريع، الزوال كحمرة الحجل، هي الحاصلة عند .... أو خضر وصفرة الوحل وهو الحزن أو الجواب هذا ما ذكره بعض أصحابنا المتأخرين قوله كالولادة للإنسان والزوجية والفردية للعدد، يقال: اما الزوجية والفردية فصحيح ما ذكر به فيها إذ لا يتصور إنفكاك العدد عنها، وأما الولادة للإنسان فغير لازمة، فإنه يتصور إنفكاكه عنها، وقد وقع ذلك في آدم، وأما المر الثاني فشروطه خمسة، اثنان يعمان اللفظي والمعنوي، وثلاثة تخص المعنوي، أما اللذان يعمان اللفظي والمعنوي، فأحدهما أن يكون الحد أجلى من المحدود؛ لأن العرض بالحد هو الكشف والإبانة وثانيهما أن يكون كاشفاً عنه على وجه المطابقة، فلا يتناول غير المحدود ولا حيل بشيء منه، وأما الشروط الَّتِي تخص المعنوي وأحدها أن يكون مركباً من جنس وفضل، والجنس لفظ مقول على كثيرين مختلفين بالحقائق في جواب ما هو كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان، والفصل لفظ يقال على الشيء في جواب أي شيء هو في ذاته كالناطق بالنسبة إلى الإنسان، وجه اشتراط ذلك أنَّه يكون أقرب إلى الفهم، فيتبين به المحدود للسال درجة درجة، كما إذا سئل عن الأسد فقيل: السبع فتعرف أولاً بذلك أنَّه من نس السباع ثُمَّ تفصله للسائل بأوصافه الأخر عن سار السباع. وثانيها أن يكون مركباً من الجنس البعيد كالجسم بالنسبة إلى الإنسان ويسمى ما كان جنسه بعيداً في عرف أهل المنطق الحد الناقص وسموه ناقصاً لعدم ذكر بعض الذاتيان فيه، والأول الحد التام وسمَّوه تاماً؛ لأن الذاتيان مذكورة فيه بتمامها، ووجه اشتراطه أن الإنسان بالجنس القريب يكون أيسر للسائل وثالثها أن يكون محتناً عن التكرار في المعنى واللفظ؛ لأن الغرض في الحدود هو الإفادة ولا فائدة في التكرار بل ربما يسبق فهم طالب الحد إلى أن فيه فائدة فيكون تلبيساً، وقال بعض المتاخرين: إن هذا الشرط الثالث يعم
اللفظي والمعنوي، وفيه نظر؛ لأن اللفظي إذا كان كشف لفظه بلفظه لم يحتج إلى اشتراط هذا الشرط فيه؛ لأن في تعريفه ما يعنى عنه. وأما الأمر الثالث فاعلم أن طرق صحته ثلاث:
الأولى: أن يطرد وينعكس، قال: أصحابنا والطرد الإبيان، بلفظ المحدود إلى جانب كل، والحد بعد ذلك، والعكس عكسه، مثال الطرد كل جسم فهو طويل عريض عميق، ومثال العكس: كل طويل عريض عميق فهو حسم، فإن أطرد ولم ينعكس ككل حسم فهو طويل عريض أو انعكس ولم يطرد ككل طويل عريض عميق أسود فهو جسيم لم يكن حداً الثانية إلاَّ يثبت لفظ الحد ويبقى معنى المحدود أو يثبت معنى المحدود وينتفي لفظ الحد، فإن كان كذلك فهو غير صحيح، وإن ثبتا معاً أو انتفيا معاً فهو صحيح وصرح في المنتهى وغيره بأن هذا هو معنى الطرد والعكس التالية أن يكون الحد في كشفه عن المحدود قريباً إلى أفهام أهل الفن من علمائهم ومتعلميهم والفرق بين الطرق والشروط من وجهين أحدهما أن الشروط موضوعة تحمله أجزاء الحد المركب هو منها والطرق أمور خارجة عن الحد، وإنَّما هي معبار لطحنه كالميزان في معرفة قدر الموزون ذكر هذا الوجه بعض المتأخرين.
الوجه الثاني ذكره الفقيه محمد بن يحيى بن حنش، والفقيه قاسم أنَّه لا بد في الشروط من اجتماعها بخلاف الطرق فإن إحداها كافي.
قيل: لأنهما يستلزم ثبوت صاحبتها معها وأورد على الطرق اعتراضان:
الأول: على الأوليينِ وهو أننا نركم ما قد أطردوا بعكس، ولم يجر إثبات لفظ الحد ونفي المحدود لا العكس، ومع هذا فليس بحد، وقد قلتم أن الطريق الواحدة كافية في معرفة صحة الحد، وهو كل جسم، فقد علم الله أنَّه جسم، وكل منا علم الله أنَّه جسم، فهو جسم فنلزمكم أن يكون هذا حد للجسم. وأجيب بأنا لم نعتبر الطرق إلاَّ مع اجتماع الشرائط وهي غير مجتمعة هاهنا بل محتلة، وقيل: نحن نلتزم كون هذا حداً صحيحاً وإن كان غيره أوقع وسباق لفظه أعدت وفيه نظر، الإعتراض الثاني على الطريقة الثالثة وهو أن اعتباركم لها في معرفة صحة الحد غير صحيح؛ لأن صحة الحد وفساده تعتبر بإجماع شرائط الصحة فيه واحتلالها لا بما ذكرتموه من كونه أقرب إلى إفهام أهل ذلك الفن، فإن هذا أمر خارج عن الحد وأفهامُ ذَوي الأفهام يختلف قرب كامل الشروط من الحدود حسن التأليف متضح المعنى لا يفهمه ذو اللب السقيم كما قال المتنبي:
وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وافيه من الفهم السقيم
ويلحق بها تقدم فائدة وهي مما يحد وما لا يحد، وما يحد بهوما لا يحد به، أما الذي يحد فهو ما كان له معنى خفي. نجيب: أنَّه يعرف تأثير الحد في جلائة، فهذا يجب تحديده. وأما ما لا يحد فهو كأسماء الأعلام لأنها غير موضوعة لمعنى يصح تحديده بها، والحدود موضوعة للمعاني فلا يتصور تحديدها وهاهنا قسم وهو ما يصح أن يحد، ولكن لا حاجة إلى تحديده نحو الأشياء الطاهرة كالسماء والأرض والحجر والسحر وحو ذلك، فإن العلماء يضربون عن تحديد ما هذا سبيله لمعرفتهم بطهوره. وأما ما يحد به فهو كل لفظ جلي له معنى مفرد دل على معنى خفي. وأما ما لا يحد به فهو أسماء الأعلام.
وهاهنا قسم ثالث. وهو ما يحد به في حال دون حال، وذلك كالمجاز والألفاظ المشتركة، فإن حصلت قريبة يفهم بها المعنى المجازي أو يخصص بعض المعاني المشتركة جاز التحديد بها، وإلاَّ لم يجز.
فصل
ولا بد أن ينتهي الإكتسا إلى ضرورة في طرفي التصور والتصديق، أما التصور فلا كلام في أنَّه إذا حد المفرد بلفظ غير متصور ضرورة احتاج إلى أن يحد ذلك الحد مرة أخرى حتَّى ينهى طالب الحد إلى متصور ضروري، وأما التصديق فهو مما اختلف فيه كلام الشيوم، فالذي ذكره أبو هاشم عن نفسه عن أبيه أنَّه ليس يجب في كل علم مكتسب أن يكون له أصل ضروري، وحكى خلاف هذا عن أبي علي، والمحكى عن البغداديين وجوب أن يكون لكل علم مكتسب أصل ضروري، قال الشيخ ابن مثوبة: ....... والصحيح أن يقسم فيقول: إذا جرى في كلام شيوخنا أنَّه يجب أن يكون للمكتسب أصل ضروري فمرادهم في شيء بعينه، وإذا أجازوا خلافه ففي شيء معين أيضاً، ثُمَّ صرح بما حكاه المصنف.
واعلم أن احتجاج ابن مثوبة وهو قوله: لأن إثبات الصانع مستند إلى كون أحدنا فاعلاً لتصرفه، وأنت لا تعرف ذلك ضرورة تقضي بأن الخلاف في المسألة لا تتمحص؛ لأن لا يجهل أنَّه ينتهي إلى ضروري، وإن كثرت مراتبه، فلعله يمكن حمل كلامه على أنَّه لا يجب في الأدلة استنادها إلى أصل ضروري قريب من غير وسائط فيكون كلامه عائداً إلى ما نصره المصنف، ولهذا قال ابن مثوبة في تذكرته: ولسنا نريد أن أصول الأدلة غير معروفة ضرورة حتَّى يحوج إلى إقامة دليل على كل دليل بل أصولها معروفة باضطرار، وإنَّما الغرض هاهنا أنَّه لا يجب في كل حكم ثبت في موضع بدلالة أن يثبت نظيره في موضع آخر ضرورة وكلامه هذا صحيح متفق عليه، فلعل الخلاف لفظي والله أعلم. وقد قال بعض أصحابنا: والأقرب أن الخلاف في أقرب مقدمتي الكتسب، قال: فإنه لا بد أن ينتهي المكتسب إلى ضروري وإن بعد، وإلاَّ استحال وجودده لوقوفه على ما لا يتناهى. قوله: (وإلا لم ينقطع تنقطع المطالبة بما في التصورات ويلم في التصديقات). قال أصحابنا: أمهات المطالب أربع:
أحدها ما يتساءل بها عن المعاني المفردة وجوابها بالتحديد إذا أراد المسؤول إشغاف السائل، فإذا قال: ما الجسم؟ قال: الطويل العريض العميق.
الثانية: لم ـ وهي للسؤال عن الدليل والتعليل ـ كأن يقول قائل: لم كان الجسم محدثاً. فيقول المجيب: لأنَّه لم ينفك عن العراض المحدثة إلى آخره. ولما كان الجسم محتركاً؟ فيقول المجيب: لحلول الحركة فيه.
الثالثة: هل ـ وهي للسؤال عن المركبات، وجوابها بلا أو بنعم، وتقدرير ذلك للسائل بالدليل ـ كأن يقول: هل الله قادر؟ فيقول المجيب: نعم، ونقرره بأن يقول: لأنَّه صح منه الفعل.
الرابعة: أيّ ـ وهي للسؤال عما علمت حملته وجهل تفصيله ـ كأن يقول السائل عند علمه بأن الأسد من السباع ـ أي السباع هو؟ فيجيب المجيب بأن يقول: هو الشجاع العريض الأعالي، وما عا هذه من الألفظان الَّتِي يسأل بها عائداً إليها.
قوله: (واستدلالنا هذا لا شك مستند إلى الضرورة وهي الوجدان من النفس، فإنا حين نظرنا فيه وجدنا أنفسنا عالمة عند النظر فيه برد على هذا سؤال وهو أن يقال: أن هذا الوجدان خارج عما نحن فيه؛ لأن الكلام في منع حوار دليل لا ينتهي إلى أصل ضروري يعرفه المطالب والمجيب، وأما ما ذكرته من هذا الوجدان فهو حاصل من أول وهلة، فإنا حين نظرنا في صحة الفعل علمنا أن الله قادر ووجدنا من أنفسنا إبطال ذلك النظر لنا إلى العلم الذي حصل به سكون أنفسنا، وهذا غير محل النزاع والكلام فيه خارج عما نحن فيه، وليس ينقض لكلام ابن مثوبة والذي أوجبت أن ينهى الخصم إلى ما يعلمه ضرورة، بحيث ينقطع مطالبته بلم، وليس هذا بحاصل هنا، فإنا وإن علمنا من أنفسنا ضرورة أنا حين نظرنا حصل لنا العلم إن صح ذلك فلم يطلع المطالب على ذلك ولا حصل له هذا الوجدان فال تنقطع مطالبته.
فصل
وعلم التصور معدم على علم التصديق.
الكلام في هذا الفصل واضح فإن من لم يعلم ما هية المحدث فحقيقية ولا ماهية العالم وحقيقته ولا ما هية القديم وحقيقته، لم يمكنه أن يحكم على العالم بأنه محدث أو ليس بقديم، فإن معرفته لذلك مع جهل المغررين محال.
فصل
وينقسم علم التصديق إلى: عقلي وشرعي، هو على ما ذكر، وكما مثَّل.
قوله: (وينقسم إلى ما يحصل لا عن طريق كالبديهيَّ وعلم المنتبه) هذان مثالان أفردهما للعقلي الحاصل لا عن طريق أحدهما ضروري، وهو البديهي، وذلك كالعلم بأن العشرة أكثر من الخمسة، ومعنى كونه بديهياً أنَّه معروف ببديهة العقل من غير طريق. وثانيهما استدلاللي كعلم المنتبه من رقدية المتذكر للنظر والإستدلال فإن علمه ...... عن طريق، كما سيأتي بيانه.
ثُمَّ أورد لما يحصل عن طريق أربعة أمثلة، مثالين لما يحصل عن طريق موجبه.
أحدهما: (ضروري وهو العلم الحاصل عند المشاهدة) والمشاهدة تستعمل مفردة ومضافاً إليها، فإذا أفردت فهي الإدراك بإحدى الحواس، هذا في الأصل والأغلب إنَّما يستعمل في الإدراك بحاسة البصر، وإذا أضيف إليها العلم فقيل: علم المشاهدة فالمراد به العلم المستند إلى الإدراك بإحدى هذه الحواس، وفي الأغلب إنَّما يستعمل في العلم المستند إلى الإدراك بحاسة البصر فقط، ذكره السيد الإمام وإيجاب المشاهدة للعلم غيجاب عادي فلا يكاد العلم ينفك عنها وليس بإيجاب تأثير فإن خلق العلم متوقف على اختيار الله، ويصح ألا يوجد الله. العلم للمشاهد لكن لا يصح ذلك مع بقاء كونه عاقلاً؛ لأن من العلم لعقل العلم بالمدركات.
وثانيهما: استدلالي وهو العلم الحاصل عن النظر ولا كلام في كون النظر طريقاً موجبة للعلم وتسميته طريقاً يجوز وإلاَّ فإن من حق الطريق أن تتعلق هي والمتطرق إليه بمتعلق واحد، وليس كذلك هاهنا، فإن النظر متعلقة الأدلة ومتعلق العلم الحاصل عنه هو المستدل عليه، وأيضاً فإن الطريق في الأصل ما يتوصل به إلى الأمر من غير تأثير، ذكره بعض المتأخرين وفي الإصطلاح ما يقتضى صحيح النظر فيه إلى العلم أو الظن، ذكره المصنف في العقد فعلى هذا يكون الطريق الدليل لا النظر فيه ومثالين لما يحصل عن طريق غير موجبة: ضروري، وهو العلم الحاصل عند الدرس، فإن الدرس يسمى طريقاً غليه تجوزاً، وليس بموجب فإن منهم من يدرس الدرس الكثير فلا يحفظ فخالف المشاهدة وهي طريق عادته من حيث أنَّها مستمرة في إيصالها إلى العلم، ولا بد من ذلك مع كمال العقل بخلاف الدرس، ومثال الإستدلالي وهو العلم الحاصل عن التفصيل بالجملة إذا كانت المقدمتان استلاليتين أو أحدهما إستدلالية فإن العلمين حينئذ يدعوان الواحد منا إلى فعل علم ثالث، قال بعض أصحابنا: وأكثر العلوم الإستدلالية تحصل من هذه الجهة ومثاله أن يعلم قبح الظلم ويعلم بخبريين أو دلالة أن هذا ظلم، فإنا نختار العلم بقبحه، فأما إذا كانت المقدمتان ضروريتينفالعلم بالنتيجة ضروري، وليس العلمان الأولان بموجبين لهذا العلم الحاصل عنهما إلاَّ على مذهب أبي الحسين وتسميتهما طريقاً يجوز، وإلاَّ فالصحيح أنهما ليستا بطريقين، وسيأتي تحقيق ذلك والكلام عليه إن شاء الله تعالى.
فصل
وينقسم علم التصور إلى: جملي وتفصيلي إلى آخره.
قوله: (فقال شيخنا أبو هاشم الجملي: العلم هو التفصيلي، ولكنه لم يكن متعلقاً ثُمَّ تعلق ظاهر كلام ابن مثوبة أن لأبي هاشم في هذه المسالة قولين، قال: والصحيح هو القول الذي يوافق ما ذهب غليه أبو علي من أن علم الجملة يتعلق.
قوله: (مبني على بقاء الإعتقادات) إنَّما كان مبنياً على بقائها هو لأن القول بعدم بقائها لا يتأتى معه هذا المذهب؛ غذ ما حصل من العلم في الوقت الثاني غير ما حصل في الأول، وإذا كان مبنياً على بقاء افعتقادات، وقد ثبت أنَّها لا تبقى على ما سيأتي بطل ما بني عليه.
قوله: ويعد فإذا شاهدنا السواد علمناه على الحقيقة) أي علمنا أن هاهنا أمراً وإن لم نعلم حينئذ أنَّه جسم على ما ذهب إليه النظام أو مَزِيَّة للجسم على ما ذهب إليه أبو الحسين أو ذات زائدة على ما يذهب إليه الجمهور، ولو كان العلم الجملي هو التفصيلي إلاَّ أنَّه غير متعلق، لكنا عند حصول العلم بأن هاهنا أمر إما أن يحصل لنا العلم بالتفصيل وهو أنَّه ذات مغايرة للجسم، أو يكون علمنا هذا غير متعلق بالسواد فلا يجد نسبة التعلق بين علمنا وبينه وكل واحد من الأمرين لا يصح.
قوله: (ويعد فيعلق العلم لما هو عليه في ذاته). اعلم أنَّ العلم يتعلق م نثلاثة أوجه:
الأول: عام، وهو تعلق النسبة. والثاني ـاثيره في صحة الأحكام إذا كان المعلوم مقدوراً للعالم، يقبل الأحكام. الثالث اقتصاؤه لسكون النفس، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالىز
والذي يدل على أن تعلقه لما هو عليه، ولا نعني بذلك إلاَّ التعلقين الأولين، وأما الثالث فليس لما هو عليه في ذاته على ما سيأتي.
فاعلم أن مرادهم أولاً بما هو عليه في ذاته الصفة المقتضاة عن الصفة الذاتية وتحقيق الدليل على أن تعلقه لها أن يقال: لا يجوز أن يكون تعلقه لصفة ذاته لثبوتها في حالة العدم وتعلقه حال العدم لا يعقل؛ ولأنه لا يتعلق إلاَّ بواسطة الصفة الَّتِي يوجبها هو وتَعُلِّقِها وهو لا يوجبها في حالة العدم إذ لا اختصاص له بعالم دون عالم ولا يجوز أن يكون تعلقه بالفاعل؛ لأنَّه كان يلزم أن يقف على اختياره فيجعل العلم بأن لا يأتي متعلقاً، والعلم بالله غير متعلق وهو محال، وكان يلزم إذا كان التعلق واقفاً على اختيار الفاعل أن يصح منه جعل المعاني الَّتِي ليست بمتعلقة كالحياة ونحوها متعلقة، ولا يجوز أن يكون تعلقه لوجوده وإلاَّ لزم في كل الموجودات أن تكون متعلقة ولا يجوز أن يكون تعلقه لمعنى؛ لأن المعنى لا يختص بالمعنى؛ ولأن هذا المعنى كان يحتاج في تعلقه بالعلم حيث أوجب له التعلق إلى معنى فيؤدي إلى التسلسل، وإذا جعل اختصاصه به بأن يحل محله لزم ألا يكون بأن يوجب التعلق له أولى من سائر ما يحل محله من حياة وكون وغيرهما، وهو محال وسار ما عدا هذه الأقسام لا ...... الحال فيه من عدمه، أو عدم معنى أو حدوثه فلم يبق إلاَّ أن يكون تعلقه لصفته المقتضاة المشروطة بالوجود، فإذا احصلت أوجبت تعلقه بكل حال، هذا تلخيص ما ذكره الأصحاب، وينوه على قواعدهم في الصفات والأحكام والله سبحانه أعلم.
قوله: (وهو امر منفصل فيقدح في أن تعلقه لذاته) هكذا ذكر أصحابنا أن التعلق لا يجوز وقوعه على شرط مفصل، وإنَّما يتوقف على اختصاص المعنى المتعلق وهو غير منفصل، وهو فيه نظر فإن من قواعدهم أن المنافاة حاصلة بين الضدين لما هما عليه في ذاتيهما من الصفة المقتضاة مع أنَّها واقعة على شرط منفصل وهو مصادفة الضد في المحل، وإنَّما الذي يمتنع وقوفه على شرط منفصل هو إيجاب العلل لما كان يؤدي وجودها غير موجبة إلى ألاَّ تفرق بين وجودها وعدمها، وإلى ألا يكون إلى إثباتها طريق، وليس كذلك التعلق فحكمه حكم المنافاة، فإن قلتم: أحد تعلقات العلم سكون النفس ولا ملائمة بينه وبين المنافاة بل هو صادر عن صفة العلم الَّتِي هي بالفاعل، قلنا إن صح ذلك فأبو هاشم لا يمنع من حصول السكون حال حصول العلم الجملي وإنَّما يمنع التلعق من الوجهين الأخيرين، والله أعلم، وفي قوله لكان قد وقف تعلقه على العلم بأن هذا المعين ظلم إلى آخره نظر آخر وهو أن يقال: ورود هذا الوجه ينبني على بقاء العلم، فأما مع القول بعدم بقائه فلا يتأتى؛ لأن ذلك العلم لم يقف تعلقه على حصول شرط منفصل بل عدم في الوقت الثاني فهو غير متعلق أصلاً وأنت لا يمنع من وجود علم غير متعلق، وهذا الذي تعلق هو علم ثانٍ، والجواب بل هذا الوجه متأتٍ على القول بعدم بقاء العلم؛ لأن أبا هاشم قد جعل العلم بأن كل ظلم قبيح لا يتعلق إلاَّ إذا حصل العلم بأن هذا المعين ظلم سواه فرضنا الكلام في العلم الحاصل في الوقت الأول أو الحاصل في الوقت الثاني، وإنَّما الذي ينبني على بقاء العلم الوجه الذي أورده ابن مثوبة حيث قال: فإذا كان العلم بقبح الظلم جملة هو العلم بأن هذا يعينه قبيح فكيف يجوز إلاَّ بتعلق في الأول ويقف تعلقه على وجود علم آخر بأن هذا ظلم، ولهذا قال ابن مثوبة: وهذا الفرع يستقيم على قول من يجوز بقاء العلوم، فأما تحريرز المصنف فلا يرد عليه؛ لأنَّه لا كلام في
استلزام مذهب أبي هاشم مصير التعلق موقوفاً على شرط منفصل سواء فرضاً أن الواقف تعلقه على شرط منفصل علم باق أو حاصل في الحال.
قوله: (وبعد فلو لم يتعلق العلم الجملي لما فصل أحدنا بني العشرة الَّتِي علم كون زيد فيها إلى آخره) يعني لأن هذا الفصل هو تعلق النسبة الذي هو التعلق العام فلو لم يكن متعلقاً لم يحصل هذا الفصل؛ لأن ذلك معنى كونه غير متعلق وحصول الفصل يقضي بكونه متعلقاً.
قوله: (والجواب أن من شرط التضاد إلى آخره) اعلم أن شروط التضاد بين الإعتقادين وغيرهما من المتعلقات تعاكس التعلق مع اتحاد المتعلق، والوقت والطريقة والوجه باعتقاد قدوم قدوم زيد وقت الظهر راكباً من جملة العشرة تضاد اعتقاد أنَّه لم يقدم وقت الظهر راكباً من جملة العشرة، فأما اعتقاد قدومه وقت العصر أو غير راكب أو وحده أو قدوم زيد آخر فلا يضاده لما لم تكمل الشروط بل يصح اجتماعهما فلعدم دعاء الداعي إليهما وقد ذهب أبو يعقوب البستائي إلى أنَّه لا تضاد بين الإعتقادات ولبسط الكلام في ذلك موضع هو أخص به من هذا.
فصل
قوله: (والعلم من قبيل الإعتقاد) أي عند جمهور المتكلمين فإنهم ذهبوا إلى أنَّه ضرب من جنس الإعتقاد، وبعض من أبعاضه، وليس بجنس مستقل، وقال أبو الهذيل: العلم جنس مستقل ليس من ضرورة الإعتقاد ولا من أبعاضه.
قوله: (لصح انفصاله عنه حتَّى يكون أحدنا معتقداً ساكن النفس ولا يكون عالماً والعكس) اعلم أن المصنف في إيراد هذا الوجه سالك مسلك السيد الإمام قدس الله روحه وهو معترض بأن يقال أن سكون النفس حكم صادر عن العلم وخاصة له فكيف يصح قولكم يكون معتقداً ساكن النفس فإن الخصم لا يسلم لكم أن سكون النفس يحصل مع الإعتقاد ولا أن ساكن النفس معتقد؛ لأن الخاصة وهي سكون النفس تستلزم ثبوت ذي الخاصة، فكان الأولى في تحرير الدلالة ما ذكره ابن مثوبة من أنَّه كان يلزم ثبوت الإعتقاد على أحد الوجوه ولا يكون عالماً وأن يكون علماً من دون أن يكون اعتقاداً حاصلاً على أحد الوجوه، وقد أجاب الفقيه قاسم وغيره عن هذا السؤال بأجوبة متقاربة وحاصلها أنا قد دللنا على أن العلم هو الإعتقاد مع سكون النفسن فمن حقك إذا ثبت العلم زائداً على ما قلناه أن تريثنا ثبوت العلم مع عدم ما ذهبنا إليه، فإن لم ترنا ثبوت العلم إلاَّ مع ما ذكرنا فالذي ذكرناه العلم نفسه لا أمر زائد عليه، وهو الجواب ليس القوي؛ لأن قولهم قد دللنا على أن العلم الإعتقاد مع سكون النفس إن كان هذا الدليل فهو نفس المتنازع فيه؛ لعدم تسليم حصول سكون النفس مع الإعتقاد؛ لأن الإعتقاد عند الخصم هو الجهل والتقليد والتحيب وما ذكرتموه من الإعتقاد الذي حصل عنده سكون النفس لا يسلم لكم أنَّه اعتقاد بل يقول: هو نفس ما جعله جنساً مستقلاً غير الإعتقاد وإن كان بغيره فهو انتقال ثُمَّ ما هو وهاهنا سؤال آخر وهو أن يقال: ما أنكرتم أن العالم وإن وجب كونه معتقداً فإنما هو ليلازم يبن العلم والإعتقاد ومع التلازم لا يتأتى إلزامكم لأن يكون عالماً بغير معتقد ساكن النفس. ويمكن الجواب بأن المتلازمين لابد بينهما من تعلق يقتضي التلازم والمعقول من التعلقات ، تعلقات خمسة: تعلق العلة بالمعلول ولا يتصور هاهنا لأن العلة ذات والمعلول صفة أو حكم، والعلم والإعتقاد ذاتيان وتعلق السبب بالمسبب ولا
يصح هاهنا لأن من حق كل سبب صحة انفصاله عن المسبب لحصول مانع أو تعذر شرط اعتباراً بسائر الأسبابن فكان يلزم حصول العلم من دون الإعتقاد مع سكون النفس إن جعل العلم السبب أو العكس إن جعل الإعتقاد السبب وهو محال، وتعلق المقتضي بالمقتضى وهذا أيضاً غير متصور؛ لأن المقتضي والمقتضى ليسا بذاتيين، والعلم والإعتقاد ذاتيان وتعلق الشرط والمشروط لا يصح هنا والأصح وجود ما جعل شرطاً من العلم والإعتقاد من دون الآخر؛ غذ الشرط لا يوجب المشروط ولا يستلزم المؤثر فيه، وتعلق التضمن كما يقال في الجوهر والكون، وهو غير متصور هاهنا؛ إذ ليس أحدهما حاصلاً على صفة لا يجوز حصوله عليها إلاَّ مع حصوله على غيرها من الصفات ولا يحصل على تلك الصفة الأخرى إلاَّ مع أبحاث لا آخر لها كما في الكون والجوهر، ثُمَّ أنَّه يجوز حصول ما جعل مضمناً من دون حصول المضمن به، وإنَّما لم يجز في الكون أن يحصل من دون الجوهر لما كان نحتاج إليه في الحلول.
قوله: (لأن الضد إنَّما ينفي المثلين أو الضدين) يعني ولا ينفي المختلفين، مثال: بغية للمثلين أن نظر وجزء من السواد على محل فيه جزءان من البياض أو أكثر، فإنه أو عشر أجرا ينفيهما معاً، وكذلك ما أراد عليهما؛ لأن له حظ الظروّ، وليس ينفي البعض أولى من البعض الآخر على أنَّه كان يلزم مع نفي بعضها فقط، أن يجمع هو والبعض الآخر، فلو لم ينفها معاً أدَّى إلى اجتماع الضدين ولا حظ لها من منعه؛ لأن الباقي لا يمنع ، وقد ذهب قوم إلى أن نفي الذات الواحد لذاتين لا يصح، ولذلك منعوا من وجود المثلين في المحل الواحد؛ لئلا يلزم بقية لهما معاً أو لأحدهما ووجوده مع الآخر وكلامهم واضح البطلان، فإن المثلين يصحه الإجتماع أحق من المختلفين، ويتأتى على مذهبهم نفيه للمثلين على البدل كنفيه للضدين، ومثال نفيه للضدين السواد في بقية للبياض والحمرة، فإنا لو قدرنا اجتماعهما في محل واحد وطرأ عليهما لنفاهما، وكذلك فهو ينفيهما على البدل فما صادفه نفاه، وإنَّما لم يجز في الشيء الواحد أن ينفي شيئيين مختلفين؛ لأنَّه لا ينفيهما إلاَّ إذا ضادهما وعاكسهما في الصفة، ولهذا لما عاكس السواد البياض في الصفة دون الخلاوة نفاه دوهها، فلو بقي الواحد شيئين مختلفين لوجب أن يكون قد عاكسهما إلاَّ إذا كان له صفتان تعاكس كل واحدة منهما واحداً من المختلفين، فيؤدي إلى استحقاقه أكثر من صفة ذاتية وإلى أن الضد لو طرىعليه نفاه من وجه ولم ينفه من وجه؛ لأن ضده ليس له إلاَّ صفة معاكسة لإحدى صفتيه دون الأخرى، وذلك محال، ويكفي في مضادته للمماثلات والمتضادات صفة واحدة، فلا تنقلب علتنا، ومما يدل على ذلك أن السواد إذا طرى على محل فيه بياض وجلاوه نفي البياض دون الجلاوة، ولا علة لعدم اشتراكهما في الإنتفاء إلاَّ اختلافهما؛ غذ لو كانا مثلين أو ضدين لانتفيا به، فإذا كانت العلة الإختلاف صح أن يقاس عليها ويطرد الحكم، وقد ذهب أبو علي إلى أنَّه يصح أن ينفي
المختلفين وتضادهما ذات واحدة، وقال في إرادة السواد: إنها تنفي كراهته وإرادة البياض لما ذهب إلى أن أراد في الضدين متضادان، وكذلك أبو القاسم فإنه ذهب إلى أن السهو ينافي العلم والإرادة وتضادهما، والموت تضاد الحياة، والعلم والقدرة وما تقدم تبطل ما قالاه، ولو قدرنا ثبوت الموت معنى فنفيه للعلم والقدرة ينفي ما يحتاجان إليه، وكذلك نفي السهو إن ثبت معنى للإرادة بنفي ما تحتاج إليه من الإعتقاد.
فإن قيل: ومن أين لكم نفي الضد للإعتقاد والعلم؟
قلنا: هو ظاهر فإن أحدنا لو اعتقد تقليداً أن زيداً في الدار وقدرنا بإبقاء هذا الإعتقاد ثُمَّ علم أنَّه فيها بخير بني صادق وقدرنا بقاء هذا العلم ثُمَّ طرأ عليهما اعتقاد أنَّه ليس فيها بقاهما، وكذلك فلو لم تقدر بقاؤهما فإن حصوله يمنع من تحددهما.
فإن قيل: أليس عندكم أن السواد والجوهر ينفيهما الفناء إذا طرأ عليهما.
قلنا: مسلم ولكن نفيه للسواد ينفي ما يحتاج إليه من المحل لا لمعاكسته له فلا مضادة بينهما ولا يمكن مثل هذا في العلم والإعتقاد لما كان يحتاج غليه؛ لأنَّه ليس لمحل له ولا علة فيه ولا سبب له ولا شرط فيه، وكذلك إن جعل مضادة اعتقاد أنَّه ليس فيها للعلم وانتفاء الإعتقاد يبغ لانتفائه.
قوله: (وبعد فحال العلم تلبيس بحال الجاهل والمقلد إلى آخره فيه سؤال وهو أن يقال: أليس أبو هاشم لما احتج على أن الظن من جنس الإعتقاد بأن حال الظان يلتبس بحال المعتقد بل بحال العالم، فإن السوفسطانية اعتقدوا أن علمهم بالمشاهدات ظن لما التبس عليهم العلم بالظن، قلتم في الجواب عليه: مجرد الإلتباس لا يقتضي الجنسية كالتباس الإرادة بالسهوة والتباس السواد بمحله، فهذا وارد عليكم هاهنا.
قوله: إنَّما يلزم ذلك في كل عالم يعلم هو اعتقاد) هذا هو المعتمد في الجواب عن هذه الشبهة، وحاصله أن لفظة الإعتقاد إنَّما يجوز بها في العلم وسائر أنواع الإعتقاد، فمن كان عالماً يعلم فهو معتقد لما كان عالماً يعلم هو اعتقاد، والله عالم لا يعلم بل لذاته فلا يلزم تسميته معتقداً. وقد قيل في الإعتراض على هذا الوجه أن تسمية الواحد منا معتقداً تسمية لغوية، وأهل اللغة لا يعقلون الإعتقاد الذي هو المعنى ولا يعقلون إلاَّ صفة وهي كون المعتقد منعقداً فبان أن التسمية موضوعة لحصول الصفة، وقد حصلت في حقه وقد أجيب عن أهل الشبهة بجوابين غير هذا.
أحدهما جواب الشيخ أبي عبد الله، وقد أشار غليه المصنف آخراً بقوله: ولو قدرناه علاماً بعلم إلى آخر، وإن كان مخالفاً لجواب أبي عبد الله من وجه وتحريره أن يقال فيه: ولو قدرنا أن تسمية العالم معتقداً لمجرد الصفة، فإنما إنَّما لم نسميه تعالى معتقداً؛ لإبهامها الخطأ، والفرق بينه وبين الجواب المتقدم الذي هو جواب الشيخين والجمهور أنَّه مبني على بيوت معنى المعتقد في حقه وأن المانع من إطلاقه الإيهام، والشيخان كلامهما مبني على أن معناه غير ثابت في حقه؛ إذ هو موضوع للعالم بعلم ذكره بعض أصحابنا.
والأصح جواب الشيخ أبي عبد الله لورود الإشكال على الأول، وقد صرح بأولويته السيد الإمام وثانيهما أن يقال: هذا تعويل على إثبات الأسلم من حيث الإستنفاق، والإستنفاق لفي، وكلامنا في المعاني، فلو لم يخلق الله العرب أو خلقوا خرساً بأي شيء كنت تحتج.
وجواب آخر: وهو المعارضة بلفظ فقيه وطبيبٌ، فإن معناهما قد حصل في حقه، ولم يجز إجراؤهما عليه، فكذلك الإعتقاد. فإن قال: إنَّما امتنع تسميته فقيهاً لإيهام الخطأ.
قلنا: وكذلك يقول في تسميته معتقداً، وأما شبهة أبي الهذيل الأخرى فهي ركيكة جداً؛ إذ يلزمه أن يكون كل اعتقاد جهلاً، وكل لون سواد أو كل طعم حلاوة، وحو ذلك من المجالات ، وحاصل الجواب أنَّه لا يلزم من ثبوت العام ثبوت الخاص، ويلزم من ثبوت الخاص ثبوت العام، ولهذا لا يلزم أن يكون كل حيوان إنساناً ويلزم من ثبوت الإنسانية ثبوت الحيوانية.
فصل
والذي به يعرف كون الإعتقاد علماً هو سكون النفس عند الجمهور، وقال أبو علي: بسلامة طريقه من الإنتقاض.
قوله: (وقال الجاحظ: قد يكون الجاهل ساكن النفس) أراد فلا يكون سكون النفس أمارة لحصول العلم، ولعل الذي منع أبا علي من القول بما قاله الجمهور ما حكاه الحاكم عنه في شرح العيون من أن الملقد قد يكون ساكن النفس مع أن اعتقاده ليس بعلم ومراده بسلامة الطريق من النقض هو أن يستند دليله إلى أصول معلومه ضورورة على ما ثبت في أصول الأدلة، هذا إذا كان العلم استدلالياً، فأما إذا كان ضرورياً فإن كان حاصلاً عن مشاهدة فسلامة طريقه بأن لا يكون ثُمَّ لبسٌ كما إذا ديفَ الزعفران في اللبن فإنه إذا شوهد اللبن بعد ذلك ظن أنَّه أصفر لحصول ليس ونحو ذلك.
قوله: (إن في العلوم ما لا طريق إليه كالبديهي وغيره) يعني كعلم المنتبه من رقدته، وهذا النقض لكلام أبي علي: إنَّما يتأتى إذا جعل سلامة الطريق هي الَّتِي بها يعلم كون الإعتقاد علماً على الإطلاق ولا يعلم كونه علماً بغيرها، ولكنه إنَّما جعل ذلك طريقاً في المكتسب فقط، وكل علم مكتسب متولد كان أو مبتدأ فله طريق أي دليل، وحكاية قاضي القضاة عنه مطابقة لذلك، فإنه لم يحك عنه إلاَّ أنَّه يجعل تميز العلم المكتسب عن غيره بسلامة طريقه ودليله، وهذا الذي يتصور، فأما أن أبا علي يطرد هذه القضية في جميع العلوم مع معرفته بأن في العلوم ما لا طريق إليه فبعيد.
قوله: (وإنه إنَّما يعرف كونه علماً بأم يرجح إليه عني والسلامة من الإنتقاض الَّتِي ذكرها أبو علي راجعة إلى الدليل وإنَّما الذي يرجع إلى العلم هو السكون، إلاَّ أن هذا احتجاج ينفي المذهب.
قوله: (ذاته إنَّما تعرف بسلامة طريقه من البعض بعد أن يعرف كون افعتقاد الحاصل عنها علماً) هذا ذكره أصحابنا وإنهم حكموا بأن الذي يعلم به صحة الدليل معرفة كون الإعتقاد الموجب عن النظر فيه علماً، ولأبي علي أن يقول: بل يعرف كونه صحيحاً بأن يعرف صحة مقدماته، وكون أصوله معلومة ضرورة، وإن لم يكن قد علم ما ذكرتم وعلمه بما ذكرتم مبني على علمه بسلامة الطريق، وكلام الجمهور مبني على أنا نعلم سكون أنفسنا عند العلم ضرورة ولا يحتاج في العلم سكون النفس إلى العلم بأن الإعتقاد الحاصل علم بل هو أمر يوجد من النفس عند حصول العلم فمتى حصل علمنا أن الإعتقاد الموجب له علم وعند علمنا بكونه علماً نعلم أن طريقه سالمة من النقص.
وحجة أبي علي رحمه الله لا معنى لها، بل هي خارجة عما نحن فيه؛ لأن كلامنا فيما به يعرف أن اعتقاد نفسه علم، فأما الغير فمسلم له ما ذكره وكلامه يقضي بأنه لا يذهب هذا المذهب إلاَّ في الإستدلالي؛ إذ لا يتأتى إلاَّ فيه، فأما الضروري فمثله حاصل للغير، وهو يعلم بحصول مثله له أن الذي حصل لنا علم كالذي حصل له، وكلام الجاحظ واضح السقوط؛ لأن التفرقة الَّتِي يجدها أحدنا بين اعتقاده لكون زيد في الدار عند مشاهدته له فيها أو خبر الصادق وبين أن تخبره بذلك رجل من أفناء الناس لا يجدها الحاهل، وكذلك المقلدوإنما يتصور أن على ما ذكره المصنف تصوره ساكن النفس.
فصل
وهذا الحكم ـ أعني سكون النفس ـ الذي به فارق العلم غيره بعلم ضرورة عند الشيخ أبي عبد الله.
قوله: (إن كان المقتضى له ضرورياً) هذا تجوزاً بإطلاق لفظ المقتضى على العلم الذي هو علة في سكون النفس، وليس بمقتض حقيقي؛ لأن المقتضى الحيقي الصفة الَّتِي يوجب للمختص بها صفة أو حكماً، لكمن من عادتهم تسمية العلل بالمقتضياتي جوز إذا عرف هذا، فاعلم أنَّه يمكن إحداث مذهب ثالث غير المذهبين المذكورين، وهو دعوى أن سكون النفس معلوم بالإستدلال مطلقاً وأبطله ابن مثوبة بأنه إذا لم يكن سكون النفس معلوماً من قبل فكيف يمكن أن يستدل عليه وفيه نظر لأنا قد أثبتنا بالدلالة ما لم يكن قد عقلناه من قبل ككبير من المعاني، وكذلك صانع العلم جل وعز، فاطلولى أن يقال: إن الوجدان يدفع هذا المذهب فإنا نجد السكون من أنفسنا ويعرفه من غير دلالة لا سيما في العلوم الضرورية.
قوله: (بأنه لا يمكن الإشارة إلى أمر يجعله دليلاً على أنفسنا ساكنة) قد جعل الجمهور الدليل على ذلك عدم تأثير السبب ككل، وعدم تجويز العالم خلاف ما اعتقده، فإذا لم يوقع تشكيك الغير في نفس هذا المعتقد شكاً ولا ..... بتجويز الخلاف ما اعتقده عرف أن نفسه ساكنة.
قوله: (وبعد فكان يلزم التسلسل في الأدلة) وجه ذلك ما ذكروه، والتسلسل يرتب أمور غير متناهية، واستحالته موجودة من النفس، فإنه يستحيل دخول ما لا يتناهى في الوجود يعني لأني ما دخل في الوجود صحب الزيادة فيه والنقصان، وماكان كذلك فهو متناهٍ.
قوله: (وهلم جرا) عبارة عن لزوم التسلسل وعدم الموجوب للإقتصار، وأصله ما ذكره الجوهري في صحاحه، قال ما لفظه: ويقول: كان ذلك عام أكدا وهلم جرا إلى اليوم.
قلت: والظاهر أن جرّا منوّن مصدر كجررت الجبل أجره جراً، وذكر بعضهم أنَّه وقف عليه بخط الجوهري جراً مقصور بغير تنوين ولا مدّ.
قوله: (قيل لهم: هذا على بعده) يقال ما وجه بعده هل من حيث أنَّه يلزم توليد النظر لعلمين مختلفين، فهذا عين ما أوردته من بعد أو غير ذلك، فما هو؟
وجوابه أن مراد هذا على بعده أي استبعاد العقل له، فإنه يستبعد إن يكون العلم بالسكون الحاصل حاصلاً عن تلك الدلالة الَّتِي نظر فيها ؛ إذا لا تعلق بينها وبين السكون ولا بد بين الدليل والمدلول من تعلق على ما يستحي.
قوله: (يلزم عليه كون النظر مولداً لعلمين مختلفين فيه سؤالان:
أحدهما أن يقال: مفهوم خطابك أن العلمين لا يستحيل توليد النظر الواحد لهما إذا كانا مختلفين، وأما المثلات فيصح توليده لهما، وليس كذلك؛ لأنَّه لو تعدى من إيجاب علم إلى علم لتعدى ولا حاصر فكان يلزم توليده ما لا يتناهى من العلوم وهو محال.
والجواب: أن ذلك غير مراد له، ولكن أراد تقييد العلمين بالمختلفين لتعرف أن العلم بأمر من الأمور والعلم سكون النفس الحاصل عن ذلك العلم علمان مختلفان، لاختلاف متعلق بهما، وتلك فائدة لا بأس بالتنبيه عليها.
السؤال الثاني، أن يقال: وما المانع من توليد النظر لعلمين مختلفين فإنكم قد أخرتم في غيره من الأسباب توليده للمختلفات كالإعتماد.
والجواب: أنا قد خيرنا الأنظار وسبرناها فوجدنا النظر إذا وقع في الشيء الواحد من وجه واحد لم يولد ازيد من العلم واحداً، فإنا إذا نظرنا في صحة الفعل من زيد لم يوجب إلاَّ العلم بكونه قادراً دون غيره، وإذا نظرنا في أحكام فعله ولد العلم بكونه دون غيره، وإذا صح ذلك طرد القضية في سائر الأنظار، وعرفنا أنَّه لا يصح توليد النظر الواحد لعلمين مختلفين ولا لعلوم مختلفة، هذا حاصل كلام ابن مثوبة.
فإن قيل: فإذا تعلق نظر بشيئين او بشيء واحد من وجهين ، هل يصح توليده لعلمين مختلفين؟
قلنا: لو صح تعلقه بما ذكرت لم يمتنع توليده لعلمين مختلفين، لكن ذلك غير جائز فيه؛ لأنَّه لو تعلق بأحد ذينك المتعلقين أو بذلك المتعلق من أحد ذينك الوجهين وتعلق غيره بالمتعلق الآخر لخالفه فكان يلزم إذا تعلق أيضاً بالمتعلق الآخر الذي لأجل تعلق الغير به، خالفه ذلك الغير أو بذلك المتعلق من الوجه الآخر أن يصير نصفه مخالفة ولا يلزم مثل هذا في القدرة، وإن تعلقت بالمختلفات لما سيأتي.
قوله: (على أن أحدنا إنَّما يجد نفسهطالبة للعلم بالمدلول حال النظر ولا يجدها طالبة للعلم سكون النفس).
فيه سؤال: وهو أن يقال: إذا قدرنا صحة كون النظر سبباً في توليد العلم بسكون النفس، كما كان سبباً في توليد العلم بالمدلول فليس توليده يوافق على طلب النفس لما ذكر؛ لأن توليد الأسباب لما هي عليه في ذاتها لا لطلب الطالب، ولهذا قد يفعل أحدنا اعتماداً وهو غير طالب لشيء من مسبباته، فيقع من دون طلبه، لهذا ليس بوجه مستقل، لكن أورده رحمه الله على سبيل الإستظهار.
فصل
كل ما يعلم استلالاً يجوز أن يعلم ضرورة إلى آخره.
اعلم أن المذاهب الممكنة في هذا الفصل تستمد على إطلاقتين، وتفصيل والإطلاق، الأول لأبي القاسم وهو ما ذكره في الكتاب، الأطلاق الثاني ما حكاه المصنف عن قوم وهو جواره في الطرفين وقت كل لم يقل بهذا القول أحد، وأما التفصيل فهو مذهب الجمهور، وهو أن ما يعلم استدلالاً يجوز أن يعلم ضرورة مطلقاً، وما علم ضرورة يصح أن يعلم استدلالاً بشرطين:
أحدهما زوال العلم الضروري؛ لأن ما كان معلوماً استحال النظر فيه والإستدلال عليه؛ لأن من حق النظر التجويز.
الثاني: ألا يكون ذلك العلم ضروري من علوم العقل؛ لأنَّه إذا كان من علوم العقل استحال أن يحصل بالنظر إذ من شروط النظر اجتماع علوم العقل، مثال العلم بأحوال أنفسنا، ومثال ما لا بعد من كمال العقل فيجوز حصوله استدلالاً العلم بأن زيداً هو الذي كنا شاهدناه من قبل، فهذا يجوز أن يعلمه بالإتسدلال لما لم يكن معدوداً من كمال العقل كان يخيرنا بني صادق ذلك، والشرط الأول يشترط حيث قد حصل العلم الضروري، فأما قبل حوصه لفيصح حصوله استدلالاً من غير اشتراط، وأما الشرط الثاني فمشترط قبل حصوله وبعده؛ لأنَّه قبله لا يتمكن من النظر لعدم كمال العقل، وبعد حصوله لا يتمكن منه لعدم التجويز، وأما العلم الإستدلالي فيصح حصوله ضرورة قبل وقوعه وبعده، وحكي أيضاً عن أبي القاسم في الصحة مثل ما حكى عنه في الوقوع، وهو أن ما يصح أن يعلم استدلالاً وإن لم يكن قد علم لا يجوز أن يعلم ضرورة، وما كان يصح حصول العلم به ضرورة وإن لم يكن قد حصل لا يصح أن يعلم استدلالاً وهو قول مستبعد لظهور ضعفه.
قوله لنا: (أما الأول) يعني وهو أن ما علم استدلالاً يصح أن يعلم ضرورة.
قوله: (فالله عليه أقدر عليه أقدر يعني لكونه قادراً لذاته، ولا يصح عليه المنع وليس كذلك الحال فينا، فإنا لا نقدر في الوقت الواحد إلاَّ قدر من العلم مخصوص، ويصح أن ثمنع من العلم بفعل ضده فينا وقد استدل أيضاً بأنه إذا كان قادراً على العلوم الضرورية كعلوم العقل، كان إنصافاً دراً على أن يخلق فينا العلم بذاته وصفاته، وإذا خلفها كانت ضرورته ، وإنما وجب ذلك؛ لأن من قدر على بعض من جنس وجب أن يقدر على جميع ذلك للجنس وهذا مطرد شاهداً وغائباً فقد ثبت أنَّه يصح منه أن يخلق فينا العلم بما علمناه استدلالاً وهي المقصود.
قوله: (وأما الثاني وهو أن ما يعلم ضرورة يجوز أن يعلم دلالة بالشرطين المتقدمين.
قوله: (فلأنه إذا زال العلم إذا زال العلم بالشيء ضرورة زواله بأن لا يحدده الله تعالى أو بأن يفعل من الجهل ما يمنع تحدده إذا كان في مقدورنا من أجزائه ما يريد على ما وجد فينا من أجزاء العلم، وذلك مع انتفاء إرادة الله مغالبتنا ومنعنا وإلاَّ فمع إرادته لذلك لا يتمكن من اتحاد ما يمنع تحدده من جهته تعالى.
قوله: (لم يمكنا أن نعلمه إلاَّ بالإستدلال) يعني ولا بد من إمكان العلم به؛ غذ لا معلوم إلاَّ ويصح العلم به ولا يستحيل إلاَّ العلم باجتماع الضدين ونحوه لما كان اجتماعهما مستحيلاً، والعلم يترتب على المعلوم، فأما ما عدا ذلك فلا وجه لاستحالته، علمنا به بالدليل.
قوله: (وفي ذلك تمحيص على أهل أجل الجنة وتنفيس على أهل النار) يعني وذلك لا يجوز في حقهم على ما هو مقرر في موضعه، وقد حكي عن أبي القاسم تجويز الغمّ على هذا أهل الجنة، قيل: وهو مخالفة للإجماع، وحكى عليه الحاكم وعن الأحشيدية تجويز الفرع عليهم، وهذا باطل؛ إذ هو ضرر ولا لطف إذ لا تكليف، ولقوله: وهم من فزع يومئذ آمنون}، فأما وقع التنفيس على أهل النار بذلك، فقد قيل: تنفيس عليهم، وهم في أطباق النار يضربون بمقامعها ويتجرعون أنواع العذاب لأجل الوهم الذي لا أمارة له، وليس المنفي عنهم إلاَّ الكف عن العذاب، والتلذذ بالطعام والشراب.
قوله: (وهم عنده مكلفون، وحكي أيضاً عن المجبرة القول بأن الآخرة دار تكليف، والذي يدل على بطلان التكليف في الآخرة وجوه أحدها ما ذكره في الكتاب من لزوم أن تكون لهمم طريق إلى الإنتفاع بما كلفوه، فتؤدي إلى استحقاق أهل النار للثواب وإسقاط توبتهم للعقاب وذلك لأن وجه حسن التكليف هو التعريض للثواب على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقد قامت الدلالة على أن من تاب من أهل النار فلا خلاص له من العذاب والخصم يسلم ومن لازم التكليف قبول التوبة ويلزم أيضاً ما ذكره من استخفاف أهل الجنة للعقاب والدم أن عصوا إذ ذلك من توابع التكليف ومعلوم أنَّه لا يصح أن يستحقوا ذلك ويمكن أن يجعل الجنبة الأولى من هذا الوجه وجهاً مستقلاً يختص بأهل النار والأخرى وجهاً يختص بأهل الجنة، وثانيها ما ذكره أيضاً، ويختص بأهل الجنة وهو قوله وإن يلحقهم مشقة وتلخيص، هذا الوجه أن يقال المشقة خاصة التكليف، فما لم يكن فيه أو في سببه أو ما يتصل به مشقة لم يكن التكليف به تكليفاً، وما كان تكليفاً حقيقياً استلزم حصولها؛ لأن ثبوت ذي الخاصة يستلزم ثبوت الخاصة، وكفى بمشقة النظر الموجودة من النفس والمشقة من حقها أن لا يجامع الثواب، بل من حقه ألا تجامعه المشقة، كما سيأتي إنشاء الله تعالى.
فما أنكرتم إلاَّ يفعل الله النقرة لأهل الآخرة عما كلفهم به، فلا تحصل المشقة بفعل النظر ولا بغيره من التكاليف بل من الجائز إلتذاذهم بأن يخلق الله شهم شهوة متعلقة به، كما في شكرهم له تعالى، فإنه واجب عليهم بحكم العقل ولا يستشقونه بل يلتذون به على ما قيل، وكذلك يلتذون بتعظيم الملائكة والأنبياء.
والجواب: أن الشكر الذي ذكره السائل ليس علهيم فيه مشقة فلا يسمون مكلفين به ولابد مع حكم الخصم بأنهم مكلفون من حصول المشقة؛ إذ هي خاصة التكليف على ما تقدم، فإن اعترف بزوال المشقة فلا تكليف، وعاد الخلاف إلى الوفاق.
وثالثها: يختص أهل الجنة أيضاً وهو أنَّه كان يلزم أن يفعل أحدهم من الطاعات ما يبلغ به ثوابه ثواب بعض الأنبياء والإجماع منعقد على خلافه.
فإن قيل: مثل هذا يلزمكم في الدنيا لو كانت مدة النبي قصيرة وعمر بعض المؤمنين عمراً طويلاً مع إقباله على الطاعات.
قيل له: إنَّه وإن عمر ما عمر في الدنيا فإن أيامها قصيرة بخلاف الآخرة، فإنه لا غاية لها فيكثر ثواب هذا المطيع ويتضاعف على مرور الأزمنة فيؤدي إلى ما قلناه، وقد احتج أبو القاسم بوجهين:
أحدهما ذكره السيد الإمام وتحقيقه أن يقال: إن هذه العلوم الحاصلة لنا بديهية، وعن مشاهدة فخبرة وأخبار لا يصح من أحدنا الإستدلال عليها بلا خلاف، فكذلك يجب فيما علمناه دلالة ألا يصح أن يخلق فينا العلم الضروري به.
والجواب عليهك من وجوه أحدها أنَّه جمع بين أمرين من غير علة جامعة بل الأصل والفرع متعاكسان في العلة والحكم، فالعلة في الضروري كونه معلوماً ضرورة، والحكم ألا تعلم إلاَّ ضرورة، والعلة في الإستدلالي أنَّه معلوم استدلالاً والحكم ألا يعلم إلاَّ استدلالاً.
قيل: ولأبي القاسم أن يقول بل العلة واحدة هي كون الشيء معلوماً من جهة والحكم ألا يعلم إلاَّ من جهته تلك، وهذه العلة موجودة فيما علم ضرورة واكتساباً فيوجد الحكم فيهما على سواء.
وثانيها: أن يقال: أن المعلوم ضرورة قد يعلم دلالة كالعلم بأن زيداً في الدار بالمشاهدة وتخير بني صادق.
وثالثها: أن المعلوم ضرورة إنَّما استحال أن يعلم دلالة لا للعلة الَّتِي ذكرها، بل لأن من حق النظر التجويز والمعلوم يستحيل أن يكون مجوّزاً سواء كان معلوماً ضرورة أو دلالة.
ورابعها أن الذي ذكره من المعلومات ضرورة، والتي قاس عليها من البديهيات ونحوها إنَّما لم يصح الإستدلال عليها؛ لأن الإستدلال عليها لا يكون إلاَّ مع عدم العلم بها، ومع عدم العلم بها لا يكون عاقلاً، ومع كونه غير عاقل لا يصح منه الإستدلال، وليس كذلك ما علم دلالة فإن العلم به ضرورة لا يؤدي إلى دور وهذه الوجوه كلها أشار إليها السيد الإمام.
الوجه الثاني: مما احتج به أبو القاسم، ذكره الإمام يحيى في التمهيد وهو أنَّه لو صح أن يفعل الله فينا علماً ضرورياً بما نعلمه استدلالاً لصح منه تعالى أن يفعل فينا العلم بصفة الشيء باضطرار ويعلم ذاته بضرب من الإستدلال حتَّى يعلم وجود زيد بخير بني ويعرف كونه قادراً باضطرار، وهذا محال.
قلت: وهذا الإحتجاج مبني على أصل متفق عليه وهو المنع عن العلم بالذات استدلالاً و..... ضرورة إلاَّ ما ذكره قاضي القضاه في شرح الجامع الصغير على ما حكاه ابن مثوبة من تجويز العلم بالذات اكتساباً وبالحال ضرورة، وأبطله بأنه كان يلزم إذا ادخلنا على أنفسنا شبهة فزال عندها العلم بالذات أحد باطلين أما بقاء العلم الضروري بالحال وهو محال مع زوال العلم بالذات، وتعذره معلوم ضرورة أو انتفاء العلم الضروري بالشبهة وهو لا يصح، قال الشيوخ: ويجوز أن يعلم الذات ضرورة وصفتها ضرورة أو ضرورة وصفتها دلالة أو دلالة وصفتها دلالة.
فأجاب الإمام عن أصل الشبهة بأن العلم يكون زيد قادراً يتضمن العلم بوجوده ضرورة مستحيل حصول العلم بكونه قادراً باضطرار عند عدم العلم بوجوده ضرورة وهو جواب حسن، وأما الجمهور فيجيبون ان هاهنا ماءاً من حصول العلم الضروري بالحال مع العلم الإستدلالي بالذات وهو ما قررناه آنفاً بخلاف ما لم يحصل فيه هذا المانع كالعلم به تعالى وبصفاته ضرورة بعد العلم به، وهنا دلالة.
فائدة: قال بعض أصحابنا: هذان المذهبان لأبي القاسم وهما القول بأن ما يعلم دلالة لا يصح أن يعلم ضرورة والقول بتكليف أهل الأجرة فيهما بعد عن الصواب كثير وفسادهما ظاهر، ولا سيما القول ببقاء التكليف لأهل الآخرة، فإنه قول يعرف أن يكون خلاف إجماع الصدر الأول والتابعين وخلاف ما يعلم من الأخبار النبوية والآثار.
فصل
قوله: (وللعلم بكونه علماً حال يثبت بالفاعل) هذا ما ذكره الشيخ أبو عبد الله، وذهب إليه وصححه ابن مثوبة وكلام قاضي القضاة مختلف فبما ساعد أبا عبد الله وربما نفى هذه الحالة وأثبت له حكماً,
قوله: وقيل لا حال ولا حكم) هذا قول متأخري المتكلمين وهو المحكي عن الشيخين أيضاً، وهذا مع الإتفاق على أنَّه لا يكون علماً إلاَّ إذا فعله الفاعل عقيب أحد الوجوه المذكورة إلاَّ خلاف أبي القاسم وهو شاذ.
قوله: (ومتعلقاً لا كلام في مشاركته لها في التعلق) وهي النسبة الَّتِي يسميها المتكلمون المعلق العام ومنفرد بالتعلقين الآخرين.
قوله: (وموجباً لمن اختص به) أي كونه معتقداً كسائر الإعتقادات لكنه لا يوجب إلاَّ كونه معتقداً للشيء على ما هو به.
قوله: (لفقد الإختصاص والمخصص) أما هذا الإختصاص فظاهر؛ لأن الإختصاصات خمسة وهي منفية هاهنا وسيأتي بيانها.
وأما فقد المخصص فلأنه ليس إلاَّ الفاعل الذي تخصص هذا المعنى بهذا المحل على رأي بعضهم ولو جاز أن يوجد الفاعل معنىً وتخصصه بالعلم فيقضي العلم لأجل ذلك المعنى سكون النفس لصح أن يوجده ويخصصه بالجهل فيقتضي الجهل لأجله سكون النفس وهو محال.
قوله: ( لأنا نعلم هذه التفرقة من دون اعتبار غير ولا ما يجري مجراه) فيه سؤال وهو أن يقال: كيف يصح ذلك وأنت لا تعلم المفارقة إلاَّ بين ..... فإنه لو لم يعلم التقليد والتنحيب ونحوهما لم يعلم مشاركة العلم لهما في شيء ولا مفارقته في شيء.
والجواب: أن مراده أنا نعلم كون العلم علماً من دون اعتبار غير، والذي وقع النزاع فيه كونه علماً فمنهم من قال: أن له ـ بكونه علماً ـ حكماً ومنهم من قال: أن له ـ بكونه علماً ـ صفة، فأبطل الأول بأنا نعلم كونه علماً وهو الذي به فارق غيره من الإعتقادات، ولأجل كونه علماً اقتضى سكون النفس من دون اعتبار غير أو ما يجري مجراه، وذلك يبطل أن كونه علماً حكم؛ إذ الحكم لا يعلم إلاَّ كذلك على ما سيأتي في الصفات والحكام إن شاء الله تعالى.
قوله: (وأما صفة واجبة وهو باطل لمشاركة سائر الإعتقادات له في ذلك اراد بالصفة الواجبة الذاتية والمقتضاة، وفيه سؤال وهو أن يقال ما يريد بمشاركة سائر الإعتقادات له في الصفة الواجبة، هل في جنسها وما يماثلها فذلك يقتضي كونه مثلاً للإعتقادات أو في صفات ذاتية أو مقتضاة على سبيل الجملة من غير أن تكون هي وصفاته الذاتية والمقتضاه في حكم المتماثلة، فذلك مسلم لكن ليس يجب إذا أوجبت العلة حكماً لصفتها المقتضاة إن يوجبه ما كان من المعاني له صفة مقتضاة مطلقاً.
والجواب من وجهين أحدهما أن مراده مشاركة سار افعتقادات له في جنس صفته الذاتية وصفته المقتضاة وما يجري مجرى المماثل لهما، وذلك لأن التقليد والتنحيب إذا تعلقا بمتعلق العلم على أخص ما يمكن صارا مثلين له ولا خلاف في ذلك إلاَّ لأبي القاسم؛ لأنَّه يعتبر في المثلين أن شفعاء من كل وجه حتَّى أنَّه يقول: إن الحركة القبيحة تخالف الحسنة، وإن ..... الجهة والعلم والتقليد ليسا متفقين من كل وجه، فإذا كانا مثلين له على ما يقوله الجمهور صارا مختصين يمثل صفته الذاتية وصفته المقتضاة وحينئذ يستقيم الكلام وصح أنَّه لو اقتضى سكون النفس لصفته الذاتية أو المقتضاه وجب ذلك في التقليد المتلعلق بمتعلقه على أخص ما يمكن؛ إذ هو مختص بمثل صفته الذاتية ويمثل صفته المقتضاة.
الوجه الثاني من الجواب: أن يقال: ولو قدرنا أن الإعتقادات لم يشاركه في مثل صفته المقتضاة والذاتية فإنه يلزم أن ما أوجبه العلم لصفته المقتضاة أوجبته سائر الإعتقادات لصفاتها المقتضاة وإن كانت مخالفة لصفته المقتضاة؛ لأن الإيجاب يرجع إلى الجنس والنوع، وهو وهي من نس واحد على ما تقدم، ألا ترى أن الإعتماد لما اوجب عتماداً وكوناً وصوتاً، وكان إيجابه لذلك لأجل صفته المقتضاة، وجب في كل اعتماد أن يوجب كما أوجب وإن كان مخالفاً له لما سار له في الجنس، وكذلك القدر اشتركت في الإيجاب وإن كانت صفاتها المقتضاة مختلفة لما كانت من نوع واحد، فأما غير حبسه ونوعه فلا يلزم فيه ذلك.
قوله: (وأما صفة جائزة وهو المطلوب قد اكتفى في صحة ذلك ببطلان سائر ما يلبس الحال فيه ويتوهم أنَّه يوجب سكون النفس لأجله وإن مل يكن قسمة حاضرة، ويرد على هذه الجملة سؤال وهو أن يقال: فيلزمكم أن يكون البزاق مفارقاً لسائر التأليفات نصفه والعلم الجلي مفارقاً للخفي نصفه والثاني مفارق لما لا ينفي نصفه والألم الموجود في الحي مفارق للألم الموجود في الجماد نصفه إذ حصل التألم به دون ما في الجماد، كما أوجبتم مفارقة العلم لغيره بصفة.
والجواب: أن ما عدده السائل لم يفترق هو وما يرجع إلى نوعه إلاَّ لأمور معقولة فلا يحتاج إلى إثبات صفات لها لأجل تلك المفارقات، أما ......... فلمقارة الرطوبة واليبس له، وأما الحلى فلأمر يرجع إلى وضح طريقه فيخالف الضروري في ذلك الإستدلالي، وأما الباقي فلإستمرار صفة الوجود به، وأما الألم الموجود في الحي فحصول التألم به لمقاربة الحياة له دون الجماد. وسؤال آخر: وهو أن يقال: قولكم بأن العلم أوجب السكون لصفة جائزة تنقص أصلاً من اصولكم، وهو ان الإيجاب لا يكون إلاَّ لأجل الصفة المقتضاة، وأنه من أحكامها الخاصة لها ثُمَّ كان يلزمكم صحة أن يوجد الفاعل العلم ولا يجعله على تلك الصفة فلا يقتضى سكون النفس، فإن قلتم لا يصح منه الجماد العلم إلاَّ على أحد الوجوه، ومع وقوعه على أحد الوجوه لابد من حصول تلك الصفة له، قلنا: مسلم أنَّه لايوجد علماً إلاَّ مع وقوعه على أحد الوجوه، لكن إيقاعه له على أحد الوجوه لا يخرجه عن التخيُّر في إيقاع الصفة وعدمه؛ لأن الذي يخرج الفاعل عن الإختيار إيجاد السبب إن كان ذلك المقدور مسبباً، والوجوه ليست بأسباب وصفة العلم ليست بمسبب غذ المسبب ذات أو إيقاع المقتضى إن كان ذلك الذي يتعلق به صفة وليست الوجوه بمقتضيات لتلك الصفة على أن المقتضى لا تعلق له بافاعل على سواء كان مقتضى عن صفة بالفاعل أولا كالمعلول.
فائدة: لما ذهب الشيخ أبو عبد الله إلى إثبات هذه الحالة الجائزة للعلم جعل العلم موجباً لسكون النفس ولحصة أحكام معلومة إذا كان مقدوراً للمختص به يقبل الأحكام لأجل هذه الحالة الجائزة فانتبه موجباً لحكمين بواسطتها، وقال قاضي القضاة: يوجب السكون لحالة يرجع إليه ويصح به الفعل المحكم لكون الفاعل ساكن النفس لا لأمر يرجع إلى العلم، ولما ذهب الشيخان إلى نفي هذه الحالة جعلا إيجابه لسكون النفس لوقوعه على وجه ذكر معناه في شرح العيون.
فصل
والمؤثر في هذه الحال هو الفاعل للإعتقاد.
قوله: أما أن يكون علماً لجنسه أي لكونه اعتقاداً ـ يعني ويكون كونه اعتقاداً صفة ذاتية بأئنة لأجنسا الإعتقاد.
قوله: (أو لصفة جنسه) يعني ويكون كونه علماً مقتضى عن صفته الذاتية الَّتِي عبر عنها بصفة الجنس، وإن كانت صفة الجنس قد يطلق على الصفة المقتضاة.
قوله: (كما يقوله الشيخ أبو القاسم: هذا أصل لأبي القاسم مطرد في مواضع متعددة من الصفات والأحكام فإنه يقول: إن العلم علم لعينه وجنسه والصدق صدق لجنسه وعينه، والخبر خبراً لعينه وجنسه، وكذلك الأمر والكذب والحسن والقبيح والظلم والعبث.
قال الحاكم في شرح العيون: والخلاف قع في موضعين إن قال العلم علم لذاته كالسواد سواد لذاته فهذا خلاف معنى وإن قال: إنَّه علم لا لمعنى فنحن نوافقه فيه إلاَّ أنَّه أخطأ في العبارة والأقرب أن خلافه من هذا الوجه.
قوله: (والسابع هو المطلوب) يعني وهو أن المؤثر والحالة هو الفاعل بواسطة أحد هذه الوجوه، وقد تقدم ما في ذلك من الإشكال.
فصل
قوله: (والوجوه الَّتِي يقع عليها الإعتقاد فيصير علماً ستة ثلاثة اتفق عليها الشيخان والجمهور وهي الأولى منها، ووجهان زادهما أبو عبد الله وهما الرابع والخامس، وأما السادس فخرج على مذهب أبي هاشم، ويصح جعل الإعتقاد علماً لإيقاعه بكل واحد منها من الواحد منا ولا يصح إيقاع الله الإعتقاد علماً إلاَّ من وجه واحد وهو الوجه الثالث. فالوجه الأول وقوعه عقيب النظر والواسطة هنا أي الذي أثر الفاعل في صفة العلم بواسطته هو النظر عند القاضي وابن مثوبة وغيره من تلامذته وهو الذي يقضي به كلام السيد الإمام، قالوا: ولا مانع من أن يفارق النظر غيره من الأسباب بأن أثر في نفس المسبب وهو الإعتقاد وفي وقوعه على وجه وهو كونه علماً وأن يفارق غيره مما يؤثر في وجوه الأفعال بأنه متقدم على الإعتقاد مع إيجابه وقوعه على وجه وليس كذلك ما يؤثر في الحسن والقبيح ونحوهما من وجوه الأفعال فإنه لا بد من مقاربته، وذهب الشيخ أبو رشيد إلى أن المؤثر في كون الإعتقاد علماً كون الناظر ناظراً وهي الصفة الموجبة عن النظر، وقد جرى لابن مثوبة مثله؛ لأنَّه قال مستدلاً على أن لأحدنا بكونه ناظراً حالاً راجعه إلى الجملة وبعد، فإذا ثبت أن لكونه ناظراً تأثيراً في وقوع الإعتقاد علماً فيجب رجوعه إلى صفة الجملة، وهذا خلاف ما نص عليه.
قوله: (في حكاية حجة ابن مثوبة أن تكون قد أثرت صفة أحدنا في فعل الله إنَّما جعلها صفة للواحد منا؛ لأن النظر وإن كان من فعله تعالى على التقدير المذكور، فالصفة الموجبة عنه لا يجوز أن تكون له تعالى؛ لأن النظر علة والعلة لا يوجب إلاَّ مع الإختصاص وهو مختص بنا دونه، فكان إيجابه الصفة لنا كما لو خلق فينا إرادة فإنها توجب كوننا مرتدين لا كونه مرتداً، ثُمَّ أنَّه لا يجوز أن يكون تعالى مفكراً؛ إذ كونه مفكراً يستلزم كونه مجوزاً وهو محال في حقه تعالى، وتلخيص حجة ابن مثوبة أن يقال: إذا أحدث الله في أحدنا نظراً فلا بد أن يكون العلم الحاصل عنه من فعله تعالى؛ لأن فاعل السبب فاعل المسبب، وإذا كان ذلك من فعله تعالى لم يجز أن يؤثر فيه ضغيناً وهو كوننا ناظرين؛ لأنَّه لا يؤثر في صفة لذات من دون واسطة، معنى إلاَّ فاعلها ألا ترى أن تعالى لو أوجد صيغة الأخبار عن كون زيد في الدار لم يؤثر كوننا مرتدين في كونها خبراً عن زيد بن عبد الله دون زيد بن خالد.
قوله: (فإذاً للأولى في الإستدلال) أي لمذهب ابن مثوبة والجمهور.
قوله: (فهو مؤثر فيما تؤثر فيه الصفة إن ثبت لها تأثير) يعني لأن الأولى إضافة التأثير إلى الذوات، ولهذا أضافوا تأثير المقتضى في المقتضى إلى الذات المختصة بالمقتضى، وقالوا: إنَّما يجري المقتضى مجرى المؤثر مع أن الذات غير موجبة للمقتضى فأولى أن يضاف تأثير الصفة إلى ما هو موجب لها.قوله: (كسائر وجوه الأفعال) يعني ككون الكلام خيراً أو أمراً وكون الفعل طاعة، ونحو ذلك فإن الذي أثر في كون الكلام خبراً هو الذي أثر في ذاته وهو الفاعل لا غيره، يجيب أنَّه لا يصح من غيره التأثير في كونه خبراً، ولكنه يقال: تأثيره في كونه خبراً بواسطة كونه مرتداًن فكذكلك يكون النظر مؤثراً في كون الإعتقاد علماً بواسطة الصفة الموجبة عنه، ويجاب بأنا لو قدرنا أن النظر لا يوجب صفة لم يمتنع تأثيره في كون الإعتقاد علماً فثبت أن تأثيره في ذلك من غير واسطة، وقد أورد على مذهبي ابن مثوبة وأبي رستد سؤال وهو إن قيل: إن جعلكم للنظر أو لكونه ناظراً مؤثراً في وقوع الإعتقاد علماً يوجب عليكم أن تجعلوه هو أو الصفة الصادرة عنه مقارباً لوقوع العلم؛ لأن من حق المؤثر في وقوع الذات على وجه المقاربة، كما قلتم في الإرادة أنَّها لا تؤثر في وقوعےالكلام على وجه وهو كونه خيراً إلاَّ إذا قاربته ومعلوم أن النظر وكونه ناظراً لا يصح مقارنتهما للعلم لوجوب مقاربتهما للتجويز.
وأجيب بأن النظر سبب في العلم، وعند حصول السبب قد صار المسبب في حكم الحاصل فكان الإقتران حاصل، وكذلك كونه ناظراً لأن الصفة ثبتت حال ثبوت المؤثر فيها وهو النظر وأورد سؤال خاص على مذهب ابن مثوبة وهو أنَّه يلزمه أن يكون صفة العلم الجائزة موجبة عن النظر فيكون المعنى علة في ثبوت صفة لمعنى آخر، وهذا لا يصح.
وأجيب بأن المراد بجعله مؤثراً أنَّه كالآلة والمؤثر في الحقيقة هو الناظر لكنه جعله ابن مثوبة مؤثراً بواسطة النظر لا بواسطة كنه ناظراً والسائل توهم أنَّه جعل المؤثر النظر من غير أن يكون للناظر تأثير وليس كذلك.
الوجه الثاني: أن يقع عقيب تذكر النظر والإستدلال ومرادهم بذلك النظر العلم بأنه قد كان نظر واستدل والعلم بذلك ضروري وأن نظن مع ذلك العلم إنَّه كان معتقداً ساكن النفس ولا بد أن يكون في نفس الآمر قد كان حصل له العلم عن ذلك النظر المتذكر وقد اختلفوا في كيفية حصول العلم عن التذكر، فالذي عليه الجمهور أن التذكر على الصفة الَّتِي ذكرنا ندعوه إلى فعل اعتقاد للآمر الذي يذكر النظر المؤدي إلى العلم به، ويكون ذلك الإعتقاد علماً لحصوله على ذلك الوجه، وحكي عنه الرجوع إلى المذهب الأول، واختلفوا أيضاً فقال القاضي وهو أحد قولي أبي هاشم: يفعله بعد الإنتباه؛ إذ التذكر داع والداعي من حقه التقدم، وقال أبو هاشم في أحد قوليه: يفعله حال الإنتباه؛ لأن السهو الذي هو النوم أبطله، فلما زال في فعله الحال فينفي بناءاً على مذهبه.
قال الفقيه قاسم: ولا بد من تقدم هذا التذكر ومقارنته بتكون التذكر وهو علمه بأنه قد كان نظر وظنه؛ لأنَّه قد كان معتقداً اسكن النفس متقدمين على هذا الإعتقاد من حيث أنَّها تؤثر في وقوع الكلام على وجه، وإنَّما لم تحب تقدمها مع ذلك، ووجب تقدم التذكر مع مقارنته؛ لأنَّه أيضاً داعٍ وليست كذلك، وقد أوضح المصنف رحمه الله أن النظر لا تأثير له هاهنا، وما ذكره يمنع من تأثيره في نفس اعتقاد المتذكر، وفي كون اعتقاده علماً.
قوله: (وهاهنا أوقات كثيرة) معنى فلا يصح أن يكون النظر المتقدم مؤثراً مع تقدمه بأوقات وإلاَّ لزم صحة أن ينظر أحدنا ثُمَّ يقف سنة أو أكثر فيحصل له علم عن ذلك النظر، فكان يلزم أن لو حصلت شبهة عقيب النظر ألا يمنع من توليده للعلم؛ لأن وقت توليده له متاخر، فأما تقدمه بالوقت الأول؛ فلأنه حصل مانع من تولده ليده فيه، فجعل في الثاني ولا يتعدى إلاَّ لدليل، وإلاَّ لم يكن حصوله منه في الثالث بأولى من حصوله في الرابع، وما بعده ولا يمكن أن يدعي أن المولد للعلم حال الإنتباه نظر حال النوم؛ لأن النظر الذي يولد العلم لا يتأتى إلاَّ من كامل عقل وكمال العقل مفقود حال النوم.
قوله: (لكان علم ..... من فعل الله تعالى) يعني لأنَّه يكون التذكر سبباً فيه؛ إذ هو ذات أوجبت ذاتاً أخرى، وفاعل السبب فاعل المسبب كما سيأتي.
فكان يلزم كون علم ال...... ضرورياً مع أنَّه ليس بصفة العلم الضروري.
قوله: (ولأن الذكر قد يكون من مجموع أمور) أي مجموع علوم ظن كالعلم بأنه قد كان نظر واستدل وعلمه بالمقدمات، وقد يقترن بذلك علمه بالوقت الذي نظر فيه، والمكان وظن أنَّه قد كان معتقداً ساكن النفس، وإذا اجتمعت وحصل العلم عنها على جهة السببية يلزم أن يكون المسبب صادراً عن أسباب كثيرة؛ إذ لا مخصص لأحدها بأن يكون سبباً دون الآخر، وقد مثل الشيخ أبو علي حصول العلم عن التذكر من دون احتياج إلى نظر آخر بالمسافر إذا طلب كنا عند أن أصابة برد، فإذا وجده بسؤال أو غيره، ثُمَّ دفع إلى ذلك في وقت آخر فإنه لا يحتاج إلى الطلب الذي فعله أولاً ومثله أبو هاشم بما يقارن ذلك، وقد يعترض هذا الوجه بأمور منها أن ما يفعله أحدنا للداعي قد يجوز تغير داعيه فينصرف عن فعله ومعلوم أنَّه لا ينصرف عند التذكر من هذا العلم، وإن حصل من الصوارف أبلغها وهو اعتقاد ضرر عظيم يدخل عليه لا حل ذلك الإعتقاد مع ان من حق الصارف أن يمتنع معه حصول الفعل فلم يبق إلاَّ أحد أمرين، إما أن يجعل موجباً عن النظر أو يجعل موجباً عن التذكر لوجوب حصوله عنده، وأجيب بأن ظن الضرر لا يكون صارفاً عن الإعتقاد كاعتقاد التوحيد والعدل، فإن أحدنا وإن خشي القتل أن اعتقد التوحيد لم يصرفه ذلك عن اعتقاده وإنَّما الذي يكون صارفاً عن العلم وداعياً إلى الجهل ورود شبهة قادحة، ولوردت على المتذكر لم يفعل العلم ومنها ما أنكرتم أن هذا التذكر ليس للنظر بل لأنَّه كان عالماً بذلك المعلوم.
وأجاب ابن مثوبة بأنه ملزم أن يكون قد علم ذلك المعلوم ضرورة وهو بناء على أن لاعلم بالعلم علم بالمعلوم، وليس بصحيح على ما سيأتي.
فالأولى أن يقال: أنا فرضنا الكلام فيما إذا تذكر النظر ففعل اعتقاداً، وأما إذا تذكر العلم فسيأتي الكلام عليه.
ومنه أن المتذكر الذي صفته ما ذكرتم إذا فعل الإعتقاد الذي ذكرتم بعد التذكر لا بأس أن يكون اعتقاداً لدى فعله جهلاً؛ إذ ليس معه إلاَّ ظن أنَّه كان معتقداً ساكن النفس والظن لا يقطع، فصحة ما يتأوله فيكون إقدامه عليه قبيحاً.
وأجيب بما حاصلة أن ظنه لسكون النفس من قبل وعدم علمه في ذلك الإعتقاد لوجه من وجوه القبيح كان في حسن إقدامه عليه كما ثبت مثله في ال........... الَّتِي ينتفع بها، فإنه لما علم حصول نفع فيها كعلمه بحصول نفع في هذا الإعتقاد وهو التخلص من مسلك الشك والخبرة ولم يعلم فيها وجهاً من وجوه القبح حسن إقدامه عليها، وهذا بخلاف المجبر إذا لم يعلم كون جبره صدقاً ولم يعلم كونه كذباً، فإنه لا يجوز الإقدام عليه لجواز كونه كذباً، وهذا افعتقاد قد أمن كونه جميلاً من حيث أسند إلى ما اقتضى سكون نفسه من قبل، وفيه نظر ولم يعتبره الفقيه قاسم وغيره مع الإيراد للسؤال ولا أجابوا عنه بجواب.
واقول أن الأولى ف الجواب أن هذا السؤال غير دارد على هذا الوجه في التحقيق؛ لأن المرا هاهنا أنَّه إذا وقع هذا إليه كون فعل اعتقاد كان علماً فحد علامة العلم فيه من سكون النفس............. ذلك التذكر أولاً كلام آخر لا تعلق له بما نحن فيه.
الوجه الثالث قوله: (أن يقع من فعل العالم بالمعتقد) أي الاعتقاد فيكون علماً، له مثلان من فعله تعالى، ومن فعلها أما مثاله من فعله فالعلوم الضروريات الَّتِي يفعلها فينا فأنها اعتقادات واقعة على هذا الوجه، فكانت علوماً، وأما مثاله من فعلنا فقوله وكما إذا عفل أحدنا اعتقاداً مبتد إنَّما هو عالم به، وذلك كما إذا شاهد أحدنا زيداً في الدار، فإنه يعلم كونه فيها ضرورة فلو حصل له داع إلى أن يفعل اعتقاد كونه ف الدار ابتداءاً أو لا يصح النظر في تلك الحال ففعله، فإنه يكون علماً لوقوعه من العالم بالمعتقد، وقد منع ابن الرويدي من علم المسيء بالضرورة والإكتساب وهو باطل؛ إذ لا تضاد، ولأني على أصلان يمنعان من هذا الثال، أحدهما أنَّه يقول: لا يجوز أن يفعل أحدنا علماص بما هو عالم به ضرورة؛ لأن علمه الضروري يمنعه من الجهل، وإذا منعه من الجهل منعه من العلم؛ لأن المنع عن الشيء منع عن ضده.
الثاني أنَّه يقول: لا يجوز أن يعلم المعلوم الواحد بأكثر من علم واحد على ما سيأتي، فلا يتأتى هذا الوجه على قوله في حق الواحد منا؛ لأنَّه لابد فيه من أن يقارن علمه الأول بالمعتقد علمه الثاني الذي يكون الأول وجهاً في كونه علماً؛ إذ لا يؤثر في كونه علماص إلاَّ مع المقارنة، وذلك لا يتأتى على أصله فيكون هذا الوجه عنده خاصاً به تعالى، وإن كان قد ذكر أبو علي أن من نظر فعلم ثُمَّ حدد العلم حالاً بعد حال فاعتقاده هذا الذي يحدده يصير علماً لكونه عالماً بالمعتقد، ويبنى علهي صاحب ال..... وجعله مثالاً لما يفعله لاعالم بالمعتقد، قال قاضي الضقاة: وهذا غير صحيح؛ لأن علمه بالمعتقد إنَّما يؤثر في كون الاعتقاد علماً متى كان عالماً في الحال الذي يفعل فيه نفس الإعتقاد لا مثله، فإذا لا يصح أن يصح اعتقاده في الثاني علماً لكونه عالماً في الأول ويفارق النظر؛ لانه استحال وجوده مع العلم، قال القاضي: فإذا أتما بفعل العلم يحدده حلااً بعد حال ليذكر النظر كما يفعله المنتبه، قال الفقيه قاسم: ومجرد المقارنة كاف في وقوع الاعتقادات علوماً؛ لأن ذلك غير واعٍ بخلاف تذكر النظر.
قوله: (تأثيراً دعى أيضاً) يقال: هذا خلاف ما ذكره الفقيه قاسم وعلى هذا يجب تقدمه ومقارنته ويمكن التلفيق بينهما فيقول: لم يرد الفقيه قاسم نفي وجوب دعى العلم بالمعتقد للعالم به إلى فعل اعتقادا آخر يتعلق بذلك المعتقد، بل يجوز أن يفعل العلم بالمعتقد من دون تقدم دعى ذكل العلم له، فإن أحدنا إذا فعل اعتقاداً وحصل له العلم الضروري تلك الحال كان اعتقاده ذلك علماً، وإن لم يكن قد تقدم علمه بالمعتقد فلا يجب تقدم العلم بالمعتقد ولا يمنع منه ومراد المصنف المنع من أن يكون العلم المتقدم بالمعتقد موجباً لكون صاحبه لا يفعل إلاَّ اعتقاداً مطابقاً لذلك المعتقد، بل يجوز من جهة القدرة أن يفعل جهلاً بذلك المعتقد، كما في حقه تعالى، فإن علمه بالمعتقدات بسائق للعلوم الَّتِي يفعلها وليس بموجب لا يفعل فبينا إلى ما هو علم بل يقدم علمه بالمعتقد داع إلى أن الاعتقاد الذي يفعله فينا يكون مطابقاً، ولا يوجب التقدم لأجل أن يكون داعياً والله أعلم.
قوله: (لأن الله تعالى كما يقدر على أن يفعل فينا اعتقاداً مطابقاً يقدر على أن يفعل اعتقاداً غير مطابق)، يعني فدل على أن تقدم العلم بالمعتقد لا يوجب كون ما يفعله ذلك العالم اعتقاداً مطابقاً؛ إذ هو تعالى مع تقدم علمه بالمعتقد لا كلام في أنَّه يصح أن يفعل فينا اعتقاداً غير مطابق لولا الحكمة لجوزنا فعله.
قوله: (وإلا وجب إذا أراد أحدنا كون الجهل علماً أن يكون كذلك) يعني كما أنَّها لما كانت مؤثرة في كون الكلام خبراً اراد كونه خبراً وجب ذلك، واعلم أن الذي يؤثر في الأفعال من صفات الفاعل هي كونه مرتداً، وقد أبطل أن يكون المؤثرة في كون الاعتقاد علماً وبأمرها في وجوه الأفعال، وكونه قادراً لا يصح أن تكون هي المؤثر في كون الاعتقاد الواقع عن العالم بالمعتقد علماً؛ لانه كان يلزم تأثيرها مع عدم علمه، ويرد على هذا أن يقال: وما أنكرتم من كونه شرطاً ولأنها لا تؤثر إلاَّ في كون وقوع الفعل لا في وقوعه على وجه، وفيه نظر لا تهم، قد جعلوها مؤثرة في الأحكام والعلم شرطاً مع أنَّه وجه فعل وما ذكره المصنف وهو قوله: وإلا وجب في كل قادر أن يكون اعتقاده علماً، يعني إذا كان المؤثر كونه قادراً علىالإعتقاد في كون ذلك الاعتقاد علماً لزم في كل اعتقاد مما يؤخذه كل قادر أن يكون علماً ومعلوم خلافه، وأيضاً فإن القادرية لابد من تقدمها على الاعتقاد، فلا يؤثر في وجهه إذ ن حق ما يؤثر في وجوه الأفعال أن يقارن ولم يبق من صفات الفاعل إلاَّ كونه كارهاً وكونه عالامً مما له تأثير، وكونه كارهاً تأثيرها في كون الكلام هاهنا، وتهديداً فلم يبق إلاَّ أن يكون المؤثر في كون الاعتقاد علماً كونه عالماً بمعتقده، ويرد على هذا الوجه سؤال وهو أن يقال: يلزمكم لو قدرنا أن الله جل وعلى فعل فينا جهلاً بمعتقد أن يكون ذلك الاعتقاد علماً؛ لأنَّه من فعل العالم بالمعتقد.
والجواب: أن المراد إن علمه بالمعتقد يؤثر في كون الاعتقاد المطابق الذي يفعله علماً ولابد من اشتراط الطرفين فلو فعل فاعل اعتقاداً مطابقاً وهو غير عالم بالمعتقد أو فعل اعتقاداً غير مطابق مع أنَّه عالم بالمعتقد لم يكن ذلك الاعتقاد علماً، وهذه الوجوه الَّتِي ذكرها الشيخان واتفق عليها.
الوجه الرابع زاده الشيخ أبو عبد الله وهو إلحاق التفصيل بالجملة كمن يعلم أن كل ظلم قبيح، ثُمَّ يعلم فعل معين أنَّه ظلم فإن هذين العلمين يدعوانه إلى فعله علم ثالث يفتح هذا المعين إلحاقاً للتفصيل بالجملة، واعلم أنَّه لا بد من تقدم هذين العلمين لكونهما داعيين ومن مقارنتهما المثل ما تقدم.
قال الجمهور: يكون اعتقاده لقبحمه علماً لوقوعه على وجه وهو كونه من فعل العالم بالعلمين المتقدمين مع ترتبه عليهما، وهذا الوجه إنَّما يتصور إذا كان العلمان الأولان استدلالين أو كان أحدهما استدلالياً، فأما إذا كانا ضروريين مثل علمنا بأن الموجود لا يخلوا من قدم أو حدوث، ثُمَّ علمنا ضرورة ذاتاً موجودة، فإن النتيجة وهي أنَّها، إما قديمة أو جارية تكون ضرورية بلا كلام، ويكون علماً لوقوعها من العالم بالمعتقد.
قوله: (وهذا لا يستقيم على أصل أبي هاشم) وذل لأن أبا هاشم لما قال: إن العلم للحملي هو التفصيلي، قال: ولا علم ثالث يقع منا بعد العلمين الأولين، بل هذا الذي جعلناه علماً ثالثاً هو تعلق العلم الجملي لا أنَّه علم غيره.
قوله: (واعلم أن هذا الإلزام متوجه قد أجاب عنه ابن مثوبة بأن تغير الداعي في هذا الباب إنَّما يكون بورود الشبهة عليه، ونحن نسلم أنَّها لو وردت لم يعلم قبحه، فقد صح أنَّه لا يختار فعله على بعض الوجوه.
قوله: (إذ لا جهة له) اعلم أنَّه لا جهة لشيء منالأسبب إلاَّ الاعتماد، فإنه لا يكون إلاَّ في الجهات الست، ولا يتعقل إلاَّ كذلك ولا يوجب موجبه إلاَّ في جهته لا في غيهرا، فلما كان مختصاً بالجهة صح توليده في غير محله بشرط ماسة محله لما يولد فيه بخلاف غيره من الأسباب.
قوله: (إذ لا مقتضى لتاخره) أي لتأخر إيجابه إلى الوقت الثاني؛ لأن الذي يقتضي تأخر تأثير السبب إلى الوقت الثاني أحد أمرين، إما أن يستحيل مجامعته المسببه كالنظر فلا بد من تعدمه عليه قوت حتَّى يوجد مسببه في الوقت الثاني، وقد عدم إذ هو مما لا ينفى؛ وأما اختصاصه في التوليد بجهة، كالاعتماد ويستحيل أن يولد في الوقت الأول في الجهة الثانية؛ لأن محله في الوقت الأول في الجهة الولى، فكيف يصح أن يكون محله في وقت واحد في جهتين؛ لن في ذلك اجتماع كونين فيه ضدين أو توليد مسببه في محله، وهو في الجهة الأولى، وفي ذلك خروجه عما وجب له من الاختصاص في التوليد لجهة ولتحقق الوجوه المانعة من توليده في الوقت الأول موضع أخص به من هذا، وقد توقف أبو هاشم في توليده للصور هل تولده في الوقت الأول أو الثاني إذا عرفنا ذكر فالعلم هذا كان يجب لو كان مولداً إن تولده في الوقت الأول؛ إذ لا مانع كما أنَّه لما لم يقع مانع عن توليد الكون لما يولده في الأول كان مولداً منه.
قوله: (فليس العلم الجملي بأن تولد اعتقاداً أولى من ضده) يعني لفقد ما يخصصه بأحد الضدي دون الآخر بخلاف الاعتماد و أولد الكن في الجهة الثانية دن ضده الذي هو الون في الجهة الثالثة، فإن المخصص حاصل وهو أن من شرطه ألا يولد إلاَّ في الجهة الَّتِي تلي للجهة الَّتِي هو فيها لاستحالة الظفر على محله.
قوله: (في الاعتراض؛ لأن المولد عندي هو الجملي لا كل علم بأن هذا يحكم من غير دلالة؛ لأن توليد ما يولد لأمر يرجع إلى جنسه اعتباراً سائر المولدات فكان يلزم توليد التفصيلي؛ إذ هو من جنس الجملي، فكما لا يصح أن يقال يولد بعض الاعتماد دون بعض كذلك في العلم ثبت مولداً.
قوله: (كما لا يلزم في النظر إذا ولد العلم إلى آخره)، يجاب بأنه قد حصل المخصص في النظر، وهو تعلقه بالدليل على الوجه الذي يدل فأوجب العلم بالمدلول الذي ثبت التعلق بنية وبين تلك الدلالة دون ما يخالفه أو يضاده؛ غذ لا تعلق للدلالة الت يهي متعلق النظر به بخلاف العلم إذا جعل مولداً، فإنه لا يمكن ذكر مخصص فيه، فقد بان إذا ضعف ما ذهب إليه أبو الحسين وخلوص أدلة الجمهور عن القدح فيها على أن ما نسب إلى أبي الحسين من التوليد لا يستقيم على قاعدته في نفي المعاني إلاَّ أن يجعل على وجه الإقتصاء.
قوله: (إن لم يصح ما قاله أبو الحسين) يعني لما يرد عليه من الوجوه الفاضية ببطلانه، ومنها ما ذكره الفقيه قاسم رحمه الله، وهو أنَّه ليس بأن يتولد عن الأول وهو العلم بأن كل ظلم قبيح أولى من الثاني، وهو العلم بأن هذا ظلم، وقول أبي الحسين الأول أخص باطل؛ لأ، العلم الثاني علم بوجه القبح؛ ولأنه لا طريق إلى ما ذكره من التوليد.
قوله: (أن يكون ضرورياً من جهة الله تعالى يفعله ابتداءاً) يقال: إن أردت حيث يكون المقدميان ضروريين فلا منازع في ذلك، ولم تبتدع مذهباً وإن ازدت حيث يكونان استدلاليين أو أحديهما، فغير مسلم أن يكون العلم بالنتيجة من كما لاعقل على ما ذكرته بل ليس بضروري.
فائدة
اعلم انه مما يتعلق بهذا الوجه اخلتفاهم في هل العلمان الأولان داعيان أو طريقان إلى الثالث فمذهب أبي عبد الله والجمهور أنهما داعيان، وعليه يبنى هذا الوجه، وقال بعضهم: بل الأولان طريقان، واحتج الأولون بأنه يجب إيجاد متعلق الطريق والمتطرق إليه ومتعلق العلم الأول الذي جعلتموه طريقاًن وهو العلم بأن كل ظلم قبيح كل ظلم ومتعلق هذا الذي جعلتموه طرييقاً إليه، وهو العلم بأن هذا المعين قبيح، هذا المعين دون غيره، ولا يصح ذلك قياساً على المشاهدة، والعلم الحاصل عنها، فإنها لما كانت طريقاً إلى العلم تعلقت هي وهو بمتعلق واحد، وقال ابن مثوبة: إذا كان الثالث ضرورياً قالا: ولأن لا يصح إلاَّ أن يكوننا طريقين دون أن يكونا داعيين، فإذا جعل الكل طرقاً، وفصل الكلام في الطرق، فجعل بعضها يتعلق بما يتعلق به ما هو طريق إليه، وخولف بينه وبين غيره، كان قريباً الوجه الخامس. زاده أبو عبد الله أيضاً.
قوله: (وهذا لا يستقيم على مذهبه) يعني لا على مذهب القائلين بأن لاعلم بالعلم علم بالمعلوم؛ لأن تذكر العلم هو العلم به، فإذا كان العلم بالعلم علماً بالمعلوم كان تذكر أنَّه كان عالماً تذكراً للمعلوم، فيستغنى عن فعل اعتقاد آخر يتعلق بذلك المعلوم، وإن فعله فهو لعم لوقوعه من العالم بالمعتقد، فصح أنَّه لا يستقيم هذا الوجه إلاَّ على مذهب الجمهورن وهو الذي صححه ابن مثوبة، وذلك أن العلم بالعلم علم بذات العلم على حاليه الَّتِي أثبتها أبو عبد الله أو حكمه الذي أثبته القاضي وهو الصحيح.
قوله: (وقد ثبت أن الذكر علم ضروري فيه سؤال، وهو أن يقال: أليس الذكر قد لا يحصل إلاَّ بتقدم نظر وتفكر فكيف يكون ضرورياً، ولم انكرتم كونه موجباً عن النظر.
الجواب أن الذكر هو العلم بما كان قد نسيه، وهو وإن وقع عقيب النظر فوقوعه عقيبه بمجرى العادة، ولهذا فإن أحدنا قد ينظر فيذكر وقد ينظر فلا يذكره، وايضاً فإن أمارة الضروري حاصلة فيه فعرفياً أنَّه غير استدلالي، ولا يوجب عن النظر بل ضروري ومن الوجوه الدالة على صحة مذهب الجمهور، وهو أن العلم بالعلم ليس علماً بالمعلوم إن أخذنا قد نعلم المعلوم ضرورة، ولا يعلم في اعتقاده له أنَّه علم إلاَّ بدلالة فلو كان العلم بالعلم علماً بالمعلوم لزم كون المعلوم معلوماً ضرورة ودلالة.
تنبيه
ذكر الفقيه قاسم وغيره أن هذا الوجه يصح عل ما اختاره أبو هاشم وأبو علي من أن العلم بالعلم علم بالمعلوم، بأن يجعل التذكر هاهنا غير للعلم بالعلم ويجعل علماص بأنه كان معتقداً وظناً؛ لأنَّه كان ساكن النفس، ويكون في نفس الأمر كذلك فعند هذا يدعوه بذكره الذي هو علم ضروري بأنه كان معتقداً وظنه؛ لأنَّه كان ساكن النفس إلى اعتقاد هو علم لوقوعه على هذا الوجه، قالوا: ولا بد من التقدم والمقارنة في هذا على ما مر، وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم أن غير تذكر العلم وهو تذكر الاعتقاد بصير وجهائل لو فعل عنده الاعتقاد لم يكن علماً، ثُمَّ يقال: إن المتذكر بالمعنى الذي ذكرتم إذا فعل الاعتقاد الذي قلتم لا يأمن كونه جهلاً فيفتح منه الإقدام عليه بخلاف متذكر العلم قد صرح المهدي عليه السلام بمثل كلام المصنف فإنه ذكر أن هذا الوجه بناء على جواز كون الإنسان ذاكراً لعلمه غير عالم بالمعلوم.
الوجه السادس جرح على مذهب أبي هاشم واعلم أن ابا هاشم لما ذهبن إلى بقاء الاعتقادات كلها خرج على مذهبه هذا الوجه والمخرج هو القاضي على ما ذكره الحاكم وسله الكلام في الطرفان أبا هاشم يذهب إلى أنَّه قبيل الاعتقاد فيقال: لو ظن لأمارة أن زيداً في الدار، ثُمَّ شاهده صار ظنه حينئذ علماً لوقوعه علىوجه كالتقليد، بل يلزم أيضاً في الجهل وهو أن أحدنا لو اعتقد أن زيداً في الدار وهو ليس فيها، ثُمَّ أن زيداً دخل الدار وشاهده ذلك المعتقد يلزم أن يصير اعتقاده ذلك الجهل علماً، ويلزمه من ذلك انقلاب الجهل علماً من هذه الصورة ومن صورة أخرى يلزمه انقلاب العلم جهلاً وهو أن يخبره بني صادق بأن زيداً في الدار في الدار فينعقد ذلك واعتقاده هذا علم ثُمَّ أن زيداً يخرج من الدار ويبقى اعتقاده ذلك فيصير جهلاً وأبو هاشم بقول العلم حسن كله والجهل قبيح كله فيلزمه أن يصير القبيح حسناً والحسن قبيحاً.
فإن قيل: لا يلزم أبا هاشم أن يصير التقليد علماً ولا الظن ولا الجهل، بل يبقى هذه الإعتقادات على ما هي عليه، كما ذهب إليه أبو عبد الله، فإنه قال: لا ينقلب بل يجتمع العلم والتقليد فلهذا لم يخرج على مذهبه هذا الوجه وإن شارك أبا هاشم في القول بنفاء الاعتقادات، ويكون سكون النفس للعلم الحاصل عن المشاهدة؛ إذ لا بد من حصول علم عنها؛ إذ المشاهدة طريق موجبة والطريق لا يحصل من دون متطرق وسواء فرضنا انقلاب هذه الاعتقادات من قبيل العلوم أم لا.
قلنا: هذا يؤدي إلى أن يكون المشاهد ذها قاطعاً لحصول العلم الضروري محوراً؛ لأن من لازم المعتقد اعتقاد تقليد أو ظن أن يكون مجوزاً، وهذا محال.
قال الفقيه قاسم: ويمكن اعتراضه بأن العلم الحاصل يدفع التجويز، قال: فهذا موضع احتمال، كما ترى، وقد حكى الحاكم عن أبي هاشم التصريح بأن التقليد ينقلب علماً، قال: والإلزام حصول التشكيك فيه.
قيل: والأولى أن هذا الوجه غير صحيح، ولا متأت على أي المذاهب؛ لأن من حق ما يوتر في وقوع الفعل على وجه أن يقارن، فهذا الوجه الذي ذكرتموه وحصل في حال البقاء، ومثل هذا ذكره الحاكم.
تنبيه
ولا يمكن ادعاء جه يصير الاعتقاد لوقوعه عليه علماً زائداً على هذه الوجوه، والذي يشتبه أن يقال: إن وقوع الاعتقاد من المشاهد للأدلة وجه في كوه علماص أو أن وقوعه من فعل المدرك يكون وجهاً، والأول باطل؛ لأن العامي يشاهد الأدلة ولو اعتقد أن للعالم صانعاً من غير ترتيب دلالة وتحقيقها لم يكن اعتقاده علماً بدليل عدم سكون النفس، والثاني باطلاً؛ لأن من أدرك الشيء من بعيد فاعتقده أسود وهو أحضر لم يكن اعتقاده ذلك علماً بل جهلاً.
قوله: (وهذا مبني على مذهبه في بقاء الاعتقادات) اعلم أن الذي يذهب إليه أبو هاشم أن جميع أنواع الاعتقادات باقية وهو مذهب الشيخ أبي عبد الله وأبي لعي ابن جلاد، وقال الشيخ أبو علي: يجوز عليه البقاءفي نسه، فالضروري يبقى كله، وأما المكتسب فيبقى عند أن يمنع أحدنا من تحديده أو يعجز عن تحديده فإن تمكن فلا يبقى؛ لأن القادر بالقدرة عند عدم المنع لا يخلو عن الأخذ والترك، فلو قي المكتسب كان فاعله مدخلاً في الوقت الثاني عن فعله وفعل ضده، وهكذا قوله في الأكوان وسائر الباقيات، قال قاضي القضاة،وهذا فاسد من وجهين يعني منعه من بقاء الكتسب، لهذا الوجه مع قوله بأنه باق في جنسه أحدهما أن أصله في الأخذ الترك باطل وثانيهما أنَّه وإن صح له فائدة لا يمكن بناء هذا الفرع عليه؛ لانه اختار في الثاني ضد العلم أينفى به وإن اختار مثله نفي العلم الأول؛ لأن الشيء لا ينتفي بمثله، وفيه بطرفان أبا علي لا يمكنه أن يقول بفعل في الثني علماْ، ويبقى لعلم الأول؛ لأن العلم بالمعلوم لا يصح عنده، فهذا المانع له مما ذكره القاضي، وقد ذهب الجمهور إلى أن الإعتقادات لا تبقى وهو مذهب الشيخ أبي لاقاسم لكنه ينفي بقاء سائر الأعراض، فلم يخص الاعتقادات.
قوله: إن الباقي لا ينتفي إلاَّ بضد، أو ما يجري مجراه إنَّما وجب ذلك؛ لأن الباقي جيوز استمرار وجوده، ويجوز انتفاؤه؛ إذ ليس بواجب الوجود فلا يكون بأن ينتفي أولى من أن ينفى إلاَّ لأمر كطريقتهم في غثبات الإعراض، والذي يجري مجرى الضد ما ينفي الشيء بواسطة نفيه لما يحتاج غيله لا لمعاكسة بينهما كنفي الفناء للألوان بواسطة بغية لمحالها ونفي التفريق للحياة بواسطة بغية للبنية، وكذلك القدرة والعلم، وعلى هذا فقس.
قوله: (والشك والسهو ليسا بمعنيين) يعني فلا يقال: إنَّه إنَّما يخرج عن العلم إليهما وهما ضدان أو إلى الجهل الذي هو ضده بالاتفاق؛ لأن الشك والسهو ليسا معنيين، فضلاً عن ان يكونا ضدين للعلم، واعلم أن هذه مسألة خلاف، فذهب أبو هاشم ومن بعده إلى الشك ليس بمعنى، ومن هاهنا يتضح الحجة على أبي هاشم، قال الحاكم، وقد كان يذهب إلى أنَّه معنى، ثُمَّ رجع وقال أبو علي هو معنى تضاداً لعلم، وبه قال أبو القاسم: حجة الأولين أن المرجع بالشك إلى حظور أمر .... مع خلوه عن الظن والاعتقاد، إذ لو كان غير ذلك لصح حصوله من دون ما ذكرنا أو حصوله ما ذكرنا من دونه، لكنه يقال له: وما هذا الحظور، فإنه عين ما جعله المخالف معنى، واعلم أن حاصل كلام الجمهور أن الشك استواء طرفي التجويز، فإذا كان مجوزاً لأمرين على سواء فلم يغلب هذا ولا هذا، فهو شاك، وقد ذكر المصنف في العقد أن الظن رجوح أحد المحوزين ظاهري التجويز عند المجوز واستواؤهما شك والمرجوح، وهم وهكذا ذكره غيره، فأما ابن مثوبة فإنه مع بغيه لكونه معنى جعله مترتباً على التجويز، ويلزمه على ظاهر عبارته إتيانه معنى إذا كان غيراً للتجويز، ولاستوائه في الطرفين، والصحيح أنَّه الوقف عند اعتدال طرفي التجويز، وأما السهو فذهب الشيخ أبو إسحاق بن عباس والقاضي وهو الذي صححه المتأخرون أن السهو ليس بمعنى؛ إذ لا يوجد من النفس ولا يجد حاله أو حكماً يستدل به عليه، وإنَّما هوزوال العلم بالأمور الَّتِي جرت العادة بأن تعلم كالمدركات ونحوها، فأما من لا يعلم عدد الرمل وقطر المطر فلا يقال: سهى عنه أو لم تجر العادة بالعلم به، قالوا: فإن قوع عقيب العلم فهو نسيان، وإن قارنه طرب ونشاط فهو سكر، وإن قارنه استرخاء واستراحة فهو نوم، وإن قارنه مرض فهو إغماءٌ، وقال أبو علي وأبو هاشم وأبو القاسم وأبو عبد الله هو معنى تضاد العلم، ولأبي هاشم قول آخر وهو أنَّه فساد يلحق القلب، ثُمَّ اختلف
القائلون بأنه معنى فقال الشيخان ليس بمقدور لنا وظاهر كلام أبي القاسم أنَّه مقدور لنا لجعله السكر من فعلنا متولداً عن الشرب، واختلف كلام أبي عبد الله فتارة يجعله مقدوراً لنا وتارة يمنع من ذلك.
قوله: (وبعد فلو بقيت العلوم ملا احتاج أحدنا إلى تكرار الدرس) يعني لأنَّه أول ما يقرأ الشيء دفعة واحدة ، يعلمه وكذلك إذا سمعه من غيره مع أنا نعلم أنَّه لا يحفظه ولا يثبت علمه به إلاَّ بعد أن تكرره مراراً كثيرة في الأغلب.
قوله: (ولوجب فيمن يسمع شيئاً أن يحفظه ولا يزول عنه الحفظ) ينقسم فقد يكون حفظاً لنظم أو نثر وهو علمه بكيفته ترتيب الألفاظ والحروف ولا شك أنَّه في حال ما سمعه يحصل له ذلك العلم، فكان يحب ألا نزول وحفظاً لما ينفع وينفق من الأمور، وهو كعلمه بوقوع أمر خبر به على كيفية يحصل عليها العلم.
فصل
قد يحتاج العلم إلى العلم.
قوله: (إما لكونه أصلاً له كاحتياج العلم بالحال إلى العلم بالذات إلى آخره) اعلم أنَّه لا فرق في هذه القضية بين العلم وسائر الاعتقادات، فإن اعتقاد المعتقد جهلاً أو تقليد الصفة يحتاج إلى العلم بحلية، وكذلك حلي الحساب ودقيقه، والمعنى أنَّه لا يمكن من لا يعلم حلي الكلام أن يعلم خفيه ولا يشارك الاعتقاد هنا العلم؛ لأه يمكن أن يعتقد خفي الحساب وإن لم يعلم ولا يعتقد حليه.
قوله: (وأما لكونه طريقاً إليه الطريق هاهنا بمعنى الدليل) ولهذا لا يدخل هنا لاعلم الضروري.
قوله: ( ولهذا يصح أن يخلق الله فينا علماً ضرورياً نكونه موجوداً، وإن لم يعلم كونه قادراً.
اعلم أن أصحابنا قد ذكر وأن مالم يكن حقيقة من الصفات في صفة أخرى، ولا جار مجرى الحقيقة، فبها فإنه يصح أن يخلق فينا لاعلم بتلك الصفة فمثل العلم بتلك الَّتِي ليست حقيقة فيها ولا جارية مجرى الحقيقة، قالوا: ومثاله كونه موجوداً فإنه يصح أن يخلق فينا العلم به، قيل: العلم بكونه حياً وقيل: لاعلم بكونه قادراً وعالماً ومريداً وكارهاً،وكذلك يصح أن يخلق فينا العلم بكونه مرتداً قبل العلم بكونه كارهاً، والعكس، قالا: وكل صفة كانت حقيقة ي صفة أو جارية مجرى الحقيقة لها، فإنه لا يصح منه تعالى أن يخلق فينا العلم بتلك الصفة المحققة قبل الصفة الَّتِي هي حقيقة فيها أو جارية مجرى الحقيقة؛ لأن حقيقة الأمر نفسه ولا يصح العلم باليء مع الجهل بماهيته ومعناه مثال الصفة الَّتِي هي حقيقة في الأخرى الصفات الأربع، فإنها حقيقة في الصفة الأخص، وكذلك كل واحدة منها؛ لأن حقيقتها الصفة المقتضية للصفات الأربع المذكورة، وإن حققها بواحدة منها كفت، وكذلك كونه تعالى حياص مع الصفات الَّتِي يصححها، لأنك تقول حقيقة الحي المختص بصفة لكونه عليها يصح أن يقدر، وكذلك سائر ما يحجه كونه حياًن ومثال الصفة الَّتِي تجري مجرى الحقيقة ما يقوله في كونه قادراً عالماً من يصح منه الفعل المحكم، وفي كونه مرتداً من يصح أن يوقع أفعاله على الوجوه المختلفة، وفي كونه كارهاً من يصح أن يوقع كلامه نهياً أو تهديداً فرع على حكم كونه قادراً وهو صحة غيجاد المقدور مطلقاًن هذا ما ذكروه ووللناظر فيه نظرة.
فصل
والعلوم قد تماثل وقد تختلف ولا تتاد لاستحالة تعلق العلم بالشيء لا على ما هو به، وذلك شرط البيضاء إذ لا تضاد العلم المعلق بالشيء على ما هو به إلاَّ ما تعلق به لا على ما هو به، فأما إذا تعلق الثاني به على ما هو به فهو مثل الأول.
والأقرب أن عدم التضاد في العلوم إيقافي؛ إذ لا يجهل أحد أن من شرط التضاد ما ذكر، فأما الجهل فيضح أن تضاد الجهل كاعتقاد أن ال....... اعتقاد أنَّه لا يبقى فإنهما متضادان مع أيهما جميلان؛ غذ لا أصل للبقاء فضلاً عن أن يحكم عليه بالبقاء أو عدمه.
قوله: (بإيجاد المتعلق، والوجه والطريقة والوقت مثاله العلم بقدوم زيد راكباً من جملة العشيرة وقت الظهر فالمتعلق نفس زيد، والوجه قدومه راكباً أو ماشياً والطريقة من جملة العسرة أو وحده، والمراد بها الجملة أو التفصيل، فإذا تعلق علمان يريد على هذا الحد مهما مثلان، ودليل تماثلهما ما ذكهر من الاتفاق في أخص ما يبنى عن صفة الذات، وهو التعلق على أخص ما يمن وإنَّما كان منبياً عن صفة الذات؛ لأن يكشف عن لاصفة المقتضاة؛ إذ هو من أحكامها على ما سيأتي وهي تبنى عن مقتضيها وهي الصفة الذاتية، فإذا كان التعلقان على أخص ما يمكن كشفاً عن صفتين مقتضاتين متماثلتين هما تكشفان عن صفتين ذاتيين تماثلتين، وذلك هو معنى التماثل بين الذاتين لتماثل موجبهما وهما الصفتان الموجبتان عنهما لكن من جهل تماثل العلمين جهل تماثل الصفتين وإطلاق التماثل على الصفتين مجاز؛ إذ التماثل الحقيقي إنَّما يثبت في الذات وبقي الضد الواحد لهما ولو كانا مختلفين لم يبفهما لما تقدم ومعلوم أنَّه إذا أطرى عيهما مع حصولهما لحي واحد أو جملة واحدة تفاهما لا محالة ومن أدلة تماثلهما عدم إمكان الإشارة إلى ما يوجب اختلافهما، فإن تغائر متعلقها كالعلم بقدوم زيد والعلم بقدوم عمرو أو تغائر الوجه كالعلم بقدومه راكباً والعلم بقدومه ماشياً أو العلم بأن الله تعالى قادر والعلم بأنه عالم أو العلم بأن العالم محدث والعلم بأنه لا بدل له من محدث أو نحو ذلك أو تغايرت الطريقة كالعلم بان هذا زيد ولعلم بأنه من جملة العسرة أو تغاير الوقت كالعلم بقدومه وقت الظهر، والعلم بقدومه وقت العصر واشتراط الوقت يرجع إلى المعلوم لا
إلى العلم، فإنه لو علم قدومه وقت الظهر بعلوم في ا,قات متغايرة لم يقتض ذلك اختلافها لنك إذا علم قدومه وقت الظهر وعلم قدومه وقت العصر صار مختلفين متغاير العلمين من أحد هذه الوجوه تقتضي اختلافهما، ودليله اختلاف موجبيهما وعدم نفي الضد الواحد لهما وإمكان الإشارة إلى ما يعلق به اختلافهما وعلى هذا فقس في سائر المتعلقات من المعاني والصفات.
قوله: (ولا يشترط إيجاد الوقت بناءاً على مذهبه إلى ى×ره) اعلم ان أبا هاشم ذهب إلى أن العلم بأن الشيء كان على صفة إذا قارنه العلم بأنه لم يتغير علم أنَّه عليها في هذا الوقت بذلك العلم الأول مع اختلاف وقت المعلوم كالعلم بأنه تعالى كان عالماً في الزل والعلم بأنه لم يتغير الآن، قال: فتعلم بالعلم الأول أنَّه الآن عالم ومثاله الواضح أن يعلم أحدنا الآن أن زيداً في الدار، ثُمَّ يقف إلى الغد ويعلم أنَّه لم يخرج منها فهو يعلم بالعلم الأول أنَّه فيها اليوم، وقد خالفه المشائخ في ذلك، وقالوا: هما علمان لتغاير وقت متعلقهما، ولهذا لا ينفيهما الضد الواحد وسواء قدرنا أن العلم باق أو غير باق ففي جعل المصنف مذهب أبي هاشم، هذا مبنياً على مذهبه في بقاء الإعتقادات نظر، فإنه مذهب مستقل لا يستلزمه القول ببقائهما، ولهذا مل يوافقه فيه من يوافقه في القول ببقائها ولا هذه المقالة بتوقف على القول بنقاء الاعتقادات، فإنه يصح أن يذهب إليها على وجه من لا يقول ببقائها.
فصل
وكل علم حسن عند أبي هاشم وأبي الهذيل وخالف أبو القاسم وكذا أبو علي وقاضي القضاة على ما حكاه الحاكم عنهما، قال أبو علي ,أبو القاسم: والذي يكون قبيحاً من العلوم ما قصد به وجه قبيح، كذا قال أبو علي: إذا قصد بالنظر وجه قبيح كالنظر في السحر لتعمل به والشبهة لاعتقاد مقتضاها أو للتلبيس بها ثُمَّ ولد ذلك النظر العلم، فإن النظر يقبح لأجل القصد ويقبح العلم لقبح سببه بناءاً على أن القصد يؤثر في القبح وأن قبح السبب يؤثر في قبح المسبب يحسنه يؤثر في حسنه.
قوله: (الذي يقبح هو القصد في الأول) يعني في العلم إذا قصد به وجه قبيح ولا يقبح العلم لأجله كما قاله أبو علي وأبو القاسم؛ لأن القصد أراده ولا تأثير للإرادة إلاَّ في وقوع الكلام خبراً أو نحوه من الوجوه، فأما في كون الفعل قبيحاً فلا؛ لأنَّه إما أن يعتبر في قبح الراد مع الإرادة الوجه الذي لأجله يقبح أولاً إن اعتبر فهو المؤثر في القبح دون الإرادة، وإن لم يعتبر وجه القبح فقد جعل القبيح قبيحاً للإرادة فقط، فيلزم في كل ما تعلقت به أن يقبح، وفيه نظر، فلنتأمل وقد وافق القاضي وإن قال بأن في العلوم ما هو قبيح أبا هاشم هاهنا، واعترف بأن الذي يفتح هو القصد، ووجه قبحه كونه إرادة لقبيح، وهو التلبيس.
قوله: (والتمكين في الثاني) أراد بالثاني العلم بالصغائر والعلم بما معه ممكن المعارضة يقال أبو هاشم العلم بذلك حسن، وإنَّما لاقبيح بكبر الله تعالى من العلم باعتبار الصغائر ومن إيراد الكلام الذي يبلغ في الفصاحة رتبة القرآن.
قال أبو هاشم: فلو حصل العلم بما يمكن معه المعارضة وجب أن يصرف تعالى من حصل له ذلك عن إيراد الكلام الذي يكون معارضاً للقرآن بضرب من الصرف أو يكون خلق الله للعلم بذلك في آخر من أشل لا يتمكن من إيراد الكلام لخرسه ولا من الكتابة لشلل يده إن كان في خلق العلم فيه مع كونه على هذه الحال غرض ويمكن أن يقالك فلو خلق هذا العلم في أخرس أشل مع أنَّه لا عرض فيه أليس يكون عبثاً، والعبث قبيح، او لو علم الله أنَّه يفسد عنده أليس يكون قبيحاً؟
قوله: (ويمكن الجواب بأن العقلاء يستحسنون الإقدام على كل علم على الإطلاق، فلو كان فيها ما هو قبيح لدل عليه الشرع، هذا الجواب فيه نظر؛لأن أكثر ما فيه المنع من أن يكون في مقدرونا من العلم ما هو مفسدة ولم يجوز ابن مثوبة رحمه الله إلاَّ أن يكون في مقدوره تعالى ما هو مفسدة لا أن يكون في مقدورنا، والذي قال في تذكرته ما لفظه: وفي الجملة فغير ممتنع أن يقالك إذا علم تعالى من حال العبد أنَّه إذا فعل فيه العلم ببعض الأشياء فسد عنده أن ذلك يقبح لا محالة وإن لم يمثله بشيء، ويصح أن يمثله بتعريفه تعالى أيانا أعيان الصغائر؛ لأنَّه من أعظم المفاسد انتهى، فأما من مقدورنا فقد صر بحثل كلام المصنف هذا فقال ما لفظه: ولا يمكن أن يقال: إن فيما نقدر عليه من العلوم والحال هذه ما يقبح للمفسدة؛ لأنَّه لوكان كذلك لوجب أن نعرف حاله لنتنبه، انتهى فعرفت إذاً أن جواب المصنف على ابن مثوبة غير سديد، فإنه كالمغالطة ويمكن أن يجاب بأنه لا شيء من العلوم إلاَّ وهو داخل تحت مقدورنا إذا أجزت أن في مقدور القديم من العلوم ما هو قبيح مفسدة، فكل علم يفرض الكلام فيه نحن نقدر على جنسه، ومثله فيجب بيانه ليترز عنه عند إمكان فعله بحصول طريقه، وقد يقال: لا يلزم من كون علم من مقدورات الله لو خلقه كان مفسدة كون مثله من فعلنا وما يدخل جنسه تحت مقدورنا مفسدة، فليس ذلك من لازم التماثل ولعل المفسدة لا تحصل إلاَّ مع كون ذلك العلم يصير الذي حصل له مدفوعاً إليه، ويكون ضرورياً جلياً لا يدخل التشكيك فيه، قال ابن مثوبة رحمه الله تعالى: فيجب أن يكون حسن العلم مشروطاً بانتفاء وجوه القبح عنه، وليس يمكن ذكر وجه سواء المفسدة، فإن الظلم والعبث لا يتأتيان فيه، وإن كان يمكن أن يكون عبثاً بأن يخلق الله فينا أزيد مما نصير به ممنوعين يعني عن فعل ضده الذي هو الجهل.
قال: (أو يفعل أحدنا العلم بما شاهده) يعني يعني فإنه عبث له فائدة فيه، والعم أن الصَّحيح إمكان أنيكون في العلوم ما هو قبيح ومما احتج به أهل هذا القول ظلم العلم بالشعر والخط، ومنع العلم بوجه حاجة الحياة إلىالروح، ومنع العلم بوقت القيامة، قال المهدي عليه السلام: لكن لا يعلم قبيح قبيحهما أي العلم والنظر إلاَّ سمعاً؛ إذ لا طريق إلى المفساد سواه، وقد احتج أبو هاشم على أنَّه لا قبيح في العلوم بأنه لو قبح علمنا بشيء لكان كوننا عالمين به صفة نقص؛ لن المعنى الموجب لها قبيح ومعلوم أنَّه تعالى عالم به فيلزم أن يكون حاصلاً على صفة نقص، وأجيب بأنه لا يلزم من قبح المعنى كون الصفة الصادرة عنه صفة نقص، ولهذا لو خلق الله فينا القدرة على حمل الجبال ونحوها منالخوارق لكانت هذه القدرة قبيحة؛ لأن في ذلك بقضاء الدلالة المعجز ولا يلزم أن يكون كوننا قادرين على ذلك صفة نقص؛ لأن البارئ قادر على ذلك، فكان يلزم كونه حاصلاً على صف نقص.
فائدة
قال ابن مثوبة: بناءاً على أصل أبي هاشم ما خرج من العلوم عن الوجوب فلا يكون حسنه بمنزلة حسن المباحات بل يختص بوجه زائد، والأولى أن العلم منه واجب ومندوب وما هو بصفة المباح وما هو بصفة القبيح فلا وجه لما ذكره.
فصل
ويصح أن يعلم المعلوم الواحد بعلوم كثيرة على ما ذهب إليه الجمهور وهو بناءاًمنهم على صحة وجود المماثلات الكثيرة في المحل الواحد، وقد خالف فيه على سبيل الجملة أبو القاسم الأشعرية، ويبطل قولهم أن المثلين لا تنافي بينهما ولا ما يجري مجراه، وإذا صح وجود المختلفين في المحل الواحد لعدم التنافي فالأولى أن يصح في المثلين والذي أدَّى الشيخ أبا القاسم إلى ذلك ما ذهب إليه من أن الذات الواحدة لا يجوز أن يبقى أكثر من ذات، فألزم أن لو وجد في محل واحد خزان من البياض ثُمَّ طرأ عليهما سوادان ينفى أحدهما دون الآخر فيكون المحل أسود أبيض ثُمَّ أنَّه ليس بأن ينفي أحدهما أولى من الآخر فحينئذ قال بأنه لا يجوز أن يوجد المثلان في محل واحد.
قوله: (بناءاً على أصله في امتناع تسكين الساكن فيه نظر؛ لأن الذي أدَّى أبا علي إلى المنع من القول بصحة تسكين الساكن ما ذهب إليه من أن السكون يتولد عن حركة موجودة في محله فيستحيل ان يحصل سكوناً ثانياً إلاَّ بعد تحريك المحل وانتفاء السكون الول، ولكن يقال له: هذا المانع في السكون المتولد فما قولك في السكون المبتدأ، فإن هذه العلة لا توجد فيه، فهذه العلة لا تتأتى في العلم ولو لا ما ذكره ابن مثوبة في حق أبي علي، فحكمنا بأن قوله كقول أبي لاقاسم في امتناع وجود المثلين؛لأن طرد وذلك في مواضع كثيرة كجمع المجمع ونحوه، لكن قال ابن مثوبة: الظاهر من قول الشيخ أبي علي تجويز وجود المتماثل في المحل الواحد، بل لعلة الذي بين أصل هذا الباب.
قوله: (لأن سكون النفس لا تتزايد) هذا جاب عن سؤال مقدر تقريره أن يقال: يلزمكم على قولكم ان أحدنا يعلم المعلوم الواحد بعلوم كثيرة كونه يجد مزية لها على العلم الواحد، ومعلوم أن أحدنا لو أخبره مائة بني بأن زيداً في الدار لم يجد فرقاً بينه وبين أخبار واحد إذا لم يكن أخبارهم مستندة إلى المشاهدة، فلو حصل له عن خبر كل واحد علم على ما يذهبون إليه وجب أن يجد الفرق ومعلوم خلافه وتقريرا لجواب أن التفرقة راجعة إلى سكون النفس وهو حكم لا يتزايد بتزايد العلوم، فكان حصوله مع العلم الواحد والعلم الكثيرة على سواء، وأيضاً فإن أحدنا قد يريد الشيء بإرادات كثيرة ولا يجد فرقاً بين ذلك وبين أن يزيده بإرادة واحدة على ما نصوا عليه ويرد عليه سؤال: وهو أن يقال: إن العلم علة في سكون النفس والسكون حكم موجب عنه ومن حق العلة حصول معلولها عند حصولها، وهذا أصل متفق عليه، وعلى أن إيجابها لا يتوقف على وحدتها وعدم وجود غيرها، وإذا كان ذكلك لم كين بد من تزايد سكون النفس بتزايد العلم، وقد ذكر الشيخ الحسن في الكيفية أن ظمانيته القلب قد يتزايد لكثرة طرق العلم وخلائها وظهورها وقد يتزايد لكثرة أجاء العلوم، وهذا الطرف الآخر صحيح.
فأما قوله: (لكثرة طرق العلم) ففيه نظر؛ لأن ذلك لا يؤثر في إيجاب العلة ولو جاز أن يوجب العلم الواحد لكثرة طرقه أو خلائها أكثر من سكون واحد لتعدي ولا حاصر فكان يلزم إيجابه لما يتناهى على أصولهم، والذي أشار إليه من يزايد سكون النفس عند خلاء الطرق وكثرتها، يعبر الجمهور عنه بجلاء العلم ولا يجعلونه تزايداً في السكون.
قوله: (فأما الخلاء فالمعرجع به إلى كثرة الطرق لا كثرة العلوم) يعني فلا يتوهم متوهم ذلك ويظن أنَّه لكثرة العلم، والمراد بالخلاء ا يجده أحدنا من نفسه من التفرقة الحاصلة له بين بعض الضروريات وبين بعض وبين الضروري والمكتسب ذكره ابن مثوبة، قال: ولا عبارة عن ذلك وإنَّما يحال أحدنا على ما يعرفه مننفسه وكما لا يرجع بالخلاء إلى الكثرة في العلوم لا يرجع به إلى امتناع نفي العلم عن النفس؛ غذ الضروريات مشتركة في ذلك وبعضها أجلى من بعض.
وفي قوله رحمه الله: إلى كثرة الطرق تسامح في العبارة؛ لأن الضروري أجلى من الكتسبات وإن حصل من طريق واحدة وحصلت من طرق شتىً ثُمَّ أنَّه لا يتصور أنَّه يكون ثُمَّ علم حصل عن طرق كثيرة؛ لأنَّ كل طريق يحصل عنها علم منفرد فكان الأولى في العبارة ماق اله ابن مثوبة، فأما الجلاء في العلوم فلا يرجع به إلى الكثرة فقد يكون الجزء الواحد أحلى من الآخر الكبيرة وصار جلاؤها بحسب الطرق الَّتِي عندها يقع، فلهذا كان العلم الواقع عند الإدراك أجلى مما يقع عند الأخبار.
تنبيه
اعلم أنَّه وإن صح في بعض العلوم أن يوصف بأنه أحلى من غيره، فلا يصح أن يوصف بأنه أصح من غيره؛ لأن العلوم مشتركة في تعلقها بالشيء على ما هو به، وذلك معنى الصحة ولا تفاضل بينها في هذا.
قوله: (فمعناه في أحد قولي أبي علي كثرة علومه كقولهم أقدر) يعني فإنه يفيد كثرة قدرة لا أنَّه يفيد أنَّه يقدر على ما يقدر عليه الآخر وما لا يقدر عليه مقدور بين قادرين محال ولا يرجع به إلى أن مقدور أنَّه أكثر؛ لأن القدرة الواحدة تتعلق بما لا يتناهى فمن صار قادراً بقدرة واحدة فمقدوراته لا تتناهى، كما أن مقدورات من قبل فيه أنَّه أقدر لا يتناهى إلاَّ إذا قتل في حق الله تعالى، فالمراد كثرة مقدوراته؛ إذ ليس قادراً بقدرة، وهو تقدر بين الأجناس على ما لا يقدر عليه غيره، فالمراد كثرة مقدوراته قطعاً، ويصح أن يقصد في قولنا: زيد أقدر من عمرو، أن مقدوراته أكثر، بمعنى أنَّه يصح أن يفعل في الوقت الواحد أكثر مما يفعله عمرو.
واعلم أن هذا هو القول الأول لأبي علي، فلما رأى أن أحد العالمين إذا علم الشيء بعلم واحد ضرورة أو استدلالاً، وعلمه الآخر بعلوم كثيرة لا تأثير لهذه الزيادة في كونه أعلم، رجع به إلى كثرة معلوماته ومما يوضح ذلك أن أحدنا إذا علم شيئاً بعسرة علوم وعلمه الآخر وغيره بعلمين، كان هذا علم من ذلك مع أن ذلك أكثر علوماً، وقد أبطل قوله الثاني بأن أفعل للتفضيل، فلو علم أحدنا عشرة معلومات وعلم الآخر تسعة معلومات غير تلك المعلومات لم يصح وصف الأول بأنه أعلم وإن كانت معلوماته أكثر فيكون الأولى ما قاله أبو هاشم.
فصل
وليس يجب إذا علم أحدنا الشيء أن يعلم أنَّه عالم به بل الظن في ذلك يقوم مقام العلم خلافاً لأبي علي، وجعل ذلك وجهاً في أن أحدنا لا يقطع على أنَّه من أهل الثواب. قال: لأنَّه إذا كان من جملة تكليفه أنَّه إذا أتى بما يجب عليه من المعارف أن يعلم أنَّه عالم ولا يتمكن من معرفة أدائه لما كلفه، قال الجمهور: وهذا باطل لأن فيه تكليف أحدنا بما لا يتمكن من معرفة تحصيله، ومن شرائط التكليف تمكن المكلف من العلم بالأداء لما قد أوجب عليه إذ فعله قالوا: فحينئذ يكفي غالب الظن، وهذه منازعة له في تعليله لا في أصل المسألة، وهو كون أحدنا لا يقطع بأنه من أهل الثواب، فهو متفق عليه وإن لم يطلع على علة فيه صحيحة.
تنبيه
اعلم أن عبارة المصنف في هذا الفصل قاضية بأن أبا علي يقول: إنَّه يجب على الواحد منا أن يعلم في كل شيء علمه أنَّه عالم به، وليس بصحيح وإنَّما قال أبو علي: ذلك فيما وجب علينا العلم به كالعلم بالله تعالى، فكان الأولى في التعبير أن يقال: وليس يجب على الواحد منا عقلاً ولا شرعاً إذا علم ما كلف العلم به أن يعلم أنَّه عالم به، ومما يوهمه عبارة المصنف أن أبا علي يقول: إن ذلك يجب بمعنى لابد من وقوعه، كما قال أبو القاسم أن أحدنا إذا علم الشيء لا بد أن يعلم أنَّه عالم به من جهة الوقوع لا من جهة الوجوب، وليس ذلك من قول أبي علي، وقد أبطل الجمهور كلامه بأن السوفسطانية يعلمون المشاهدات ولا يعلمون أنهم عالمون بها ولاسمنية يعلمون مخبرات الأخبار المتواترة ولا يعلمون أنهم عالمون بها، وإذا كان كذلك فلا يعلم أنَّه عالم ألا ينظر فسنايف بأن يعرف حصول سكون النفس له، وأنه لا يحصل عن شيء من الاعتقادات سواء العلم فيعلم حينئذ أن اعتقاده علم.
فصل
والعقل عندنا مجموع علوم ضرورية، اعلم أن الكلام في العقل يشتمل على ست فوائد. الفائدة الأولى في بيان حقائقه الثابتة في بيان علومه الثالثة في الدلالة على أنَّها العقل الرابعة في ذكر الخلاف فيه وغبطال قول المخالفين. الخامسة في بيان محله. السادسة في بيان طرف مما يدل على شرفه.
أما الفائدة الأولى فله في اللغة معان كثيرة:
أحدها العلم بموارد الشيء ومصادره، وهو ضد الحمق الذي هو الجهل.
الثاني: المنع ومنه سمي عقال البعير عقالاً لما كان يمنع من الذهاب.
الثالث: الحول ومنه قول الشاعر:
سعى عقالاً فلم يترك لنا سنداً ... فكيف لو قد سعى عمرو عقالين
هكذا قيل، وفيه نظر.
الرابع رأس الشيء، ومنه سميت الجبال معاقل وسمي الوعل عاقلاً لسكونه رؤوس الجبال، ذكره بعضهم.
الخامس: الدية قتيل سميت عقلاً؛ لأن القائل يحقن بها دمه، وقتيل لما كانت الإبل تعقل في حافة ولي المقتول، وأما حقيقته اصطلاحاص فما ذكره رحمه الله، ووجه الشبه أيضاً ما ذكره.
وقوله: (إلى من اختص بها) أي إلى من اختص بها أي إلى من حصلت له، وجعلت فيه؛ لأن المراد اختص بها دون غيره.
وقوله: على بعض الوجوه احتراز من الملجي كالمحتضر وأهل الأجرة، فإن العلوم وإن حصلت لهم لم يصح بوجه التكليف إليهم؛ لأن التكليف يتنافى الإلجاء ولأن فيه تبعيضاً على أهل الآخرة وقد اعترض على هذا الحد بأن قيل: إن كما العلوم هذه هو التكليف بنفسه، فكيف يصح توجه التكليف إلى من اختص بها مع أنَّه من اختص بها قد صار مكلفاً من غير توجيه شيء آخر.
فأجيب بأن التكليف يستعمل في حصول هذه العلوم وفي الأمر والنَّهي، والمقصود هاهنا يتوجه التكليف بوجه الأمر والنَّهي وإرادة الطاعة وكراهة المعصية، وقديل قيل في حد العقل: العلوم الضرورية الَّتِي يمكن معها حصول العلوم الإستدلالية.
قيل: وهذا حد صحيح، وله شبه فاصل الوضع؛ لأنَّه يمنع العاقل من فعل القبيح بما يقع معه من الصارف عنه، ويمنع من ذهاب ما اكتسبه من العلوم وأما حقيقته في العرف فما ذكره رحمه الله، والمراد بالحقيقة العرفية ما استعمله أهل اللغة في غير ما اصطلحوا عليه في الأصل وغلب عليه وعرفهم فصار أسبق إلى الأفهام كالدابة والقارورة والوقار الحلم والرازانة.
قوله: (وعلى هذا يقال: فلان لا عقل له) يعني مع اختصاصه بالعقل الإصطلاحي وثبوته له، فإن المقصود حينئذ نفي العقل العرفي لا الإصطلاحي.
وأما الفائدة الثانية وهي في تعداد علوم العقل، فتعدادها على ما ذكره المصنف وزاد الحاكم وابن مثوبة على ذلك، قال الحاكم: وهي ـ أي تلك المزيدة ـ مستندة إلى ضرب من الاختيار، وذلك نحو العلم يتعذر حصول جسم في مكانين، وأن الجسم العظيم لا يحصل في طرق صغير، وأنه يستحيل حصول جسمين في مكان واحد، وقال ابن مثوبة: العلم باستحالة حصول الجسم في الوقت الواحد في مكانين، والعلم بأنه يتعذر عليه خاصة تحصيل جسمين في مكان واحد، قال: ويجب أن يثبت ولده أو صديقه وقد صحبهما وعاشرهما الدهر الطويل إذا غابا عنه ثُمَّ رآهما وعد ابن مثوبة وغيره من علوم العقل العلم بالأمور العظيمة قريبة العهد ولم يذكره المصنف قسماً مستقلاً من علوم العقل بل جعله من قبيل علم المشاهدة.
قوله: (العلم بأحوال أنفسنا على الجملة) يعني ولا يشترط التفصيل، وهو أن يعلم أنَّها مزايا وصفات راجعة إلى الجملة وليست بأحكام ولا راجعة إلى المحل، فذلك معلوم بالدليل وأحوال الحي عشرة، فكونه حياً وقادراً لا يوجد أن من النفس بل يعرفان بأحكمهما وما عداهما ينقسم إلى ما لا بد من أن يجده من نفسه، ولو لم يعلمه لم يكن عاولا كونه مريداً، ومنها ما يسهو عنه وإذا علمه فعلمه به ضروري ككونه مشتهياً، فإنه قد يكون مشتهياً للشيء ولا يدري حتَّى يدركه أو يذكره بخلاف كونه مريداً، وقد أشار الحاكم إلى مثل هذا التفصيل.
قوله: (ويدخل فيه الخبرة) يعني لكون العلم الحاصل بأن القطن مثلاً يحترق بالنار والزجاج ينكسر بالأحجار لا يكون إلاَّ بعد تقدم المشاهدة لذلك فكلام المصنف هاهنا يشعر بأنه يجعل المشاهدة في هذا طريقاً إلى العلم والصحيح على أصولهم أن المشاهدة ليست بطريق هاهنا، وإن علم الخيرة في حكم المبتدء وهو مذهب المتقدمين من المعتزلة، وظاهر كلام السيد الإمام؛ لأن ذلك من حق الطريق والمتطرق إليه أن يتعلقا بذات واحدة، وليس كذلك الخيرة والعلم الحاصل عقيبها، فإنا إذا شاهدنا زجاجاً ينكسر بحجراً وقطناً يحترق بنار علمنا أن كل زجاج ينكسر بالأحجار وأن كل قطن يحترق بالنار، فالعلم تعلق بكل قطن وزجاج على سبيل الجملة والمشاهدة الَّتِي هي الخيرة متعلقة بهذه العين من الزجاج ومن القطن على التفصيل والذي يذهب إليه المتأخرون أن علم التجربة عن طريق فإنه لو لا مشاهدته القطن يحترق بالنار لما علم ذلك.
قوله: (ويدخل فيه أي في العلم بالمحسوسات العلم يتعلق الفعل بفاعله) يعني بفاعله المعين فإنك لا تعلم تعلقه به إلاَّ بعد أن تشاهده يقع بحسب قصده وداعيه.
قوله: فلا وجه لعد هذه أقساماً مستقلة ـ يعني على ما يجري في كتب علم الكلام ـ لأنها تدخل تحت العلم الحاصل عن المشاهدة.
قوله: ومنها العلم بمخبر الأخبار المتواترة. اعلم أولاً أن الخبر المتواتر عبارة عن خبر جماعة يحصل العلم الضروري عند خبرهم لأجله. قلنا: الضروري؛ احترازاً عن إجماع الأمة فإنه يحصل عنه علم استدلالي فلا يدخل خبرهم بأن الواجب ما هو كذا أو غير ذلك في الخبر المتواتر. وقلنا: عند خبرهم لأجله؛ احترازاً عن أن يحصل العلم الضروري عند خبر واحد أو اثنين على ما أجازه المؤيد بالله والمنصور بالله والنظام والظاهرية فإنه لايسمى متواتراً لأنَّه وإن حصل العلم عنده فلم يحصل لأجله، وشروط حصول العلم بالخبر ألا يكون قد سبقه العلم الضروري. ذكره الرازي، وهو شرط يرجع إلى المخبر، وأن يكون في المخبرين به كثرة بحيث لايجوز تواطؤهم على الكذب.
واختلف في حدها فالصحيح أن أقلها خمسة وأكثرها لاحد له، وقيل: اثنا عشر، وقيل عشرون، وقيل أربعون، وقيل سبعون، وقيل ثلاثمائة وبضعة عشر، وإن كان المخبرون متساوي الأطراف والوسائط أو متقاربيها إذا لم يكن المخبرون هم المشاهدون، وأن يكون خبرهم مستنداً إل المشاهدة لا أن يكون خبراً عما علموه بدلالة فهذه الشروط الصحيحة لاغير، وعند حصولها يحصل العلم الضروري لأجل الإخبار، إذا عرفت هذا ففي العلم الحاصل عن الأخبار المتواترة خلاف من جهات:
الجهة الأولى: قالت السمنية لايحصل لنا العلم رأساً عن الأخبار المتواترة وأكثر الناس على خلافه. قال ابن مثويه: وهذا كخلاف السوفسطائية فلايؤثر كما لايؤثر خلافهم.
الجهة الثانية: ذهبت البغدادية وأبو الحسين والغزالي والجويني إلى أن العلم الحاصل عند الأخبار المتواترة حاصل عن النظر في أحوال المخبرين وأوصافهم من كونهم كثرة لايجوز التواطؤ وأن خبرهم مستند إلى المشاهدة وليس بضروري، وأبطله الجمهور بأن خاصة الضروري حاصله فيه وهو عدم تمكننا من نفيه بشك أو شبهة وكان يلزم على قوملهم ألا يحصل للعامي العلم بمخبر الأخبار المتواترة لعدم درايته بشروط المخبرين وما يعتبر فيهم، ولا للصبي، ولا لمن لم يختر من العقلاء النظر في أحوال المخبرين، ثُمَّ إن أحدنا لايجد نفسه ويتعذر عليها النظر في ذلك كتعذر النظر في المشاهدات.
الجهة الثالثة: اختلف القائلون بأنه ضروري وهم الأكثر فمنهم من ذهب إلى أنَّه معدود في كمال العقل، وهو مذهب أبي علي، وصححه الحاكم وظاهر كلام المتأخرين والأكثر الميل إليه، وذهب أبو هاشم إلى أنَّه غير معدود من كمال العقل إن كان قد عده في بعض كتبه من علوم العقل لكن الذي صح من مذهبه عدم عده منها، واحتج أبو علي بأن أحدنا لايصح أن يكون في بلد له جانبان فيسمع وهو في أحدهما على طول الدهر بالجانب الآخر ثُمَّ لايعلمه فيجب أن يكون هذا العلم معدوداً في كمال العقل، واعترضه أبو هاشم بأن هذا إنَّما يجب الآن لثبوت تكاليف سمعية متعلقة بالأخبار نحو العلم بمكة، والعلم بالنبي والقرآن، وليس اعتراضه هذا بواضح لأنَّه يقال: هذا يوجب حصول العلم فيما علينا فيه تكليف لا ماليس فيه تكليف ثُمَّ أنَّه متى لم يفعل في أحدنا العلم بذلك فلا تكليف عليه فيما يتعلق بمخبره كمن لم يبلغه الخبر، واحتج أبو هاشم بأنه لاوجه يقتضي المنع من حصول العلوم المتقدمة من دون العلم بمخبر الأخبار المتواترة فيجب جواز انفرادها عنه، وإذا كان كذلك لم يعد منها كما أن العلوم المكتسبة لما صح ذلك فيها لم يعد من علوم العقل، وهو احتجاج ضعيف لأن علوم العقل لايجب حصولها معاً ولايجب فيما كان منها لاينفك عن سائرها وهو معارض بعلم الخبرة فإن ما ذكره حاصل فيه، واحتج أيضاً بأنه لو كان من كمال العقل يحصل عند أول خبر ولما وقف على التكرار.
وأجاب عنه الحاكم بأن قال: ولم إذا كان يحتاج إلى تكرار لم يكن من كمال العقل ويجوز أن يكون ضرورياً ويحتاج إلى التكرار كالصنائع وكالمحفوظ وفيه نظر.
وقد أجاب ابن مثويه بهذا الجواب بعينه وهو بناء على ما صرح به في التذكرة من أن من علوم العقل أن يعلم ويحفظ عند الدرس الكثير والممارسة الطويلة، قال: فلا يجوز في كامل العقل أن يقرأة آية من كتاب الله أو بيتاً من الشعر ألف مرة فلا يحفظها أو يمارس صنعة طول عمره فلا يعرفها فإن صح أن نحو هذا من علوم العقل مع خلصته إلى التكرار صح الجواب، وإلاَّ فلا.
قوله: بخلاف الخبرة والتجرة. يعني فإن المشاهد هو الذي حصل له العلم فكان من قسم العلم بالمحسوسات.
قوله: إذا عرفت ذاتة ضرورة. يحترز من خطاب الله الجلي فإنه وإن تجلى لم يجب أن يكون العلم بقصده فيه ضرورياً لأنا لانعلم ذاته إلاَّ بالاستدلال والذات لاتعلم استدلالاً وصفها ضرورة على ما تقدم فكيف يعلم كونه مريداً ضرورة.
قوله: ومنها العلم بوجوب بعض الأفعال.. إلى آخره قد خالف في هذا الأشعرية والفلاسفة فعندهم أن هذه قضايا غير يقينية فضلاً عن أن تكون ضرورية ومن علوم العقل وقع علمنا بتعذر نفيها عن النفس وعدم الحكم على من لم يعلمها بأنه عاقل لايصح ما قالوه وسيأتي لهذا زيادة بيان إن شاء الله.
تنبيه
إن قيل: هل يجب الترتيب بين هذه العلوم وحصول بعضها متقدماً على الآخر، ووجوب تأخر البعض عن البعض أم لا؟
قلنا: الذي عليه أكثر الشيوخ أن ذلك لايجب، وأنه لابد من حصولها سواء وجدت معاً أو تقدم بعضها على بعض وظاهر كلام ابن مثويه والذي أشار إليه بعض المتأخرين أن الترتيب والسبق في أربعة منها: الأول علم الإنسان بأحوال نفسه، الثاني العلم بالمشاهدة، الثالث العلم بأنه ليس بحضرتنا غير ما نشاهده، الرابع أنَّه لو كان لرأيناه فرتبها رحمه الله على هذا الترتيب والنسق، وما عداها لم يعتبر فيه ترتيب وحكى عن قاضي القضاة أنَّه قال في المحيط: إن أول علوم العقل ثبوتاً علم المشاهدة، فقيل: إن مراده بذلك بعد العلم بأحوال النفس ويحتمل أن يجري كلامه على ظاهره لأنا نرى كثيراً من الحيوانات وصغار الآدميين يعلمون ما يشاهدونه ولاطريق لنا إلى أنَّه قد سبق لهم العلم بأحوال أنفسهم واختلف المشائخ في العلم بوجوب بعض الأفعال.
والعلم بحسن بعضها والعلم بقبح بعضها هل يجب ألا يحصل إلاَّ بعد حصول جميع سائر علوم العقل أو لا يجب ذلك. فقال أبو علي وأبو عبدالله: لايجب تأخره بل يجوز تأخره وتوسطه وتقدمه. وقال أبو هاشم وأبو علي ابن خلاد: يجب تأخره عنها كلها، وصححه ابن مثويه والحاكم، قالوا: إذا كان يلزم أن يكون في الناس من يعلم ما ذكروا لايكمل عقله واحتجوا بحجة طويلة غير طائلة والأقرب ما ذهب إليه أبو علي وأبو عبدالله.
تنبيه آخر
ذهب الجمهور إلى أنَّه يجوز حصول هذه العلزم لمن لم يحصل له شيء من أمارات الإدراك الشرعية، وذكر الغزالي أن ذلك لايجوز مع الاتفاق على أنَّه لايكون مكلفاً بالتكاليف الشرعية قبل حصول أحد تلك الأمارات، ولايلزمه العمل حتَّى يثبت فيه شيء منها.
قال الجمهور: وإذا حصلت علوم العقل قبل حصول بعض الأمارات كان مكلفاً بالتكاليف العقلية العلمية والعملية.
تنبيه آخر
قد علمت ما يقوله أصحابنا من أنَّه لايصح بوجه التكليف إلاَّ إلى من حصلت له هذه العلوم وقد علل ابن مثويه والحاكم ذلك، وحاصل كلامهما أن أحدنا لو لم يعلم نفسه لم يمكنه العلم بحدوثها ولاحدوث غيرها وهو مكلف بذلك، ولو لم يعلم صفاته لم يمكنه العلم بصفات القديم، ولو لم يعلم المدركات لم يمكنه العلم بحدوثها مع تكليفه بذلك، ولو لم يعلم بأتي الفعل منه لم يمكنه التفرقة بين القبيح والحسن والحمد والذم، ولايعلم العدل إلاَّ بعد العلم بتعلق الفعل بفاعله، ولو لم يعلم علوم القسمة لم يعلم أن العالم محدث، إذا لم يكن قديماً ولم يعلم أنَّه قديم إذا لم يكن محدثاً.
قال ابن مثويه: وإذا ادعينا الاضطرار في علوم القسمة فذلك فيما عرفنا الذات نفسها ضرورة فأما المعرفة بدلالة فلا يعلم ذلك فيها باضطرار لأنَّه يقتضي أن الفرع يصير أقوى حالاً من الأصل. قال الحاكم: وأما العلم بما طريقه الاختيار فيحتاج إليه في حدوث الأجسام والأعراض.
قال ابن مثويه: ولابد من أن يعلم استحالة كون الجوهرين في محاذاة واحدة لأن الدلالة على أن الجسم لايفعل الجسم ينتهي إلى ذلك. قال الحاكم: وأما العلم بمقاصد المخاطبين فيحتاج إليه ليعلم ما يتضمنه الخاطر، وأما العلم بالوجوب والفتح فيحتاج إليه ليعلم ما يجب فعله وما يجب تركه. هذا تحصيل ما ذكراه فليتأمل.
تنبيه آخر
قال في شرح التجريد: ولايقع في كمال العقل تفاوت حتَّى يكون عقل بعضهم أكمل من بعض، وعن بعضهم أنَّها متفاوتة، واحتج على أنَّه لاتفاوت بأن العقل عبارة عن مجموع علوم فمن حصل له جميعها صار عاقلاً ومن نقص في حقه شيء منها فهو كمن عدمها جميعاً في أنَّه لايسمى عاقلاً ولايوصف بمبدأ الوصف لأنَّه من الأسماء الَّتِي تتناول الجمل، وأيضاً فلا يثبت التكليف إلاَّ مع كمال العقل فأما مع نقص شيء منه فلا، وأيضاً فلو تفاوت لوجب أن يكون لنا طريق إلى معرفة تلك الزيادة الَّتِي يقع بها كمال العقل والذي يسيرون إليه كالحفظ والفهم والذكاء ...... العقل، وليس منه وكون بعض المكلفين أعلم وأسخى وأصبر لايدل على أن عقله أكمل من عقل غيره؛ لأن ذلك ليس من العقل في شيء ولكن ..... على توطين النفس على ما دل عليه العقل، وعلى تذكر العاقبة الحميدة كالثواب.
وأما الفائدة الثالثة: وهو أن ما تقدم تعداده من المعلوم هو العقل لا أن العقل غيره، فدليله ما ذكره رحمه الله قوله: فيصح انفصاله عنها ويجب ألا تنفيه أضدادها، أما الأول: فلأن من حق كل مختلفين أن يصح انفصال أحدهما عن الآخر ووجوده من دونه مالم يكن هناك وجه من وجوه التعلق، وليس إلاَّ أن يقال أحدهما سبب في الآخر أو أحدهما محتاج إلى الآخر، وذلك لايوجب التلازم لأنَّه يصح وجود السبب من دون المسبب والمحتاج إليه من دون المحتاج.
وأما الثاني وهو أنَّه يجب ألا تنفيه أضدادها وهي الجهالات بمعلومات تلك العلوم فلما تقدم من أن الضد لاينفي المختلفين، قوله: لوجب أن نجد من أنفسها حالاً أو حكماً نستدل بها عليه. اعلم أن من أصول أصحابنا أنَّه لايثبت من الذوات إلاَّ ما وجدنا من النفس حاله، يستدل بها عليه ككوننا مريدين فإنا وجدنا ذلك من أنفسنا فاستدللنا به على الإرادة ونحو ذلك، وكذلك الحكم بسكون النفس فإنه يستدل به على أن ما وجدناه من أنفسنا وهو كوننا معتقدين حاصل عن علم ودلالته ههنا على إثبات حكم للاعتقاد لا على ثبوت ذات فهو خارج عن هذا الباب أو علم بالمشاهدة كجسم أو لون أو علم بالاستدلال ثبوت حاله أو حكم فاستدل بذلك عليه ولاشيء من هذه الأمور بموجود فلا دلالة على أن العقل أمر غير هذه العلوم.
قال الحاكم: فإن قيل إن العقل ما ذكرتم فكيف يصح ما روي أنَّه تعالى خلق العقل فقال له: أقبل وأدبر. وقال: بك آخذ وبك أعطي؟ قلنا: ذلك توسع أريد به التنبيه على عظم شأن العقل.
وأما الفائدة الرابعة: وهي في ذكر الخلاف في العقل وإبطال قول المخالفين فهو على ما ذكره .....
قوله: ويبطله أن القوة هي القدرة. هذه مؤاخذة بظاهرة العبارة وكذلك قوله فكثير من المعقولات غير مدرك لأنهم لم يقصدوا بالقوة القدرة المعروفة ولا بالإدراك المشاهدة لكنه واخذهم بظاهر عبارتهم وما أرادوا بالقوة إلاَّ الملكة ولا بالإدراك إلاَّ حصول العلم والله أعلم.
قوله: وبعد فتجديد العقل بالمعقول إحالة أي إحالة تأخذ المجهولين وهو العقل على المجهول الآخر وهو المعقول وذلك معيب عند أهل صياغة الحدود فإن من اعتباراتهم ألا يحد الشيء بما تصرف من ألفاظه ووجهه أن الغرض بالحد هو الكشف والإبانة ومن جهل شيئاً جهل ما يتصرف منه، واعلم أن المحكي هنا عن الإمام يحيى والغزالي ما يقارب هذا المذهب المحكي عن جمهور أهل الخبر، وهو أن قالا بأن العقل قوة في القلب وأبطله بعضهم بأنهما إن أرادا بذلك ما ذكرناه من العلوم فهو خلاف في العبارة لكن عبارتنا ا>ود من عبارتهما وإن أرادا غير ذلك لم يصح إذ لاطريق إليه.
قوله: ويبطله لزوم أن يكون كل ذي قلب عاقلاً. يعني: فيلزم كون الأنعام والطيور ذوي عقول. فإن قيل: إنهم لايجعلون العقل مجرد القلب من غير اشتراط أمر آخر بل يشترطون ثبوت شكل وبنية لايوجدان في غير قلوب من يحكم عليهم بالعقل. قلنا: هذا الحكم فلا يتلتفت إليه ومما ألزمهم أصحابنا أن يكون من كبر قلبه كبر عقله فيلزم في الجمل أن يكون ذا عقل أوفر من عقول بني ىدم.
قيل: ويلزمهم في النائم ألا ينتقض وضوءه لأنَّ النوم إنَّما ينقض الوضوء لما كان يزيل العقل، وإذا كان القلب هو العقل فليس بزايل وهؤلاء المطرفية القائلون بهذا المذهب رأيهم رأينا في كثير من أحكام الشرع، ويعتمدون مذهب الهادي عليه السلام ويدعون أن مطرف بن شهاب الذي ينتسبون إليه من كبار الزيدية وعظماء شيعة الهادي عليه السلام.
قوله: إلى أنَّه جوهر بسيط. أرادوا بالبسيط الذي لايتجزى وليس بمتحيز، حكاه بعض أصحابنا فإن صح أن مرادهم ظاهر ما ذكروه وحمله عليه أصحابنا فيبطله لزوم أن تكون الجمادات عاقلة بل لزوم تكون كلها عقولاً ولزوم أن من كثرت جواهرة كثر عقله ويلزم في كل جوهر أن يكون عاقلاً لكن في ذلك نظر فقد عرف أن مرادهم بالجوهر البسيط ما لايتحيز وهذه الوجوه بناء على أنَّه هذا المتحيز فالأولى أن يقال ما ذكروه غير معقل إذ لايعقل جوهر غير متحيز ثُمَّ أنَّه لاطريق إلى ما ذكروه لو قدمها أنَّه مما يعقل قوله، ويمكن أن يقال له مع ما تقدم يعني من الدلالة على أن العقل هو تلك العلوم دون غيرها.
قوله: ويمكن أن يقال له مع ما تقدم يعني من الدلالة على أن العقل هو تلك العلوم دون غيرها. قوله: إن بنية قلب النائم صحيحة معتدلة ـ يعني في الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة واللحمية والدمية ـ وهذا هو مراد أبي الحسين بالبنية الصحيحة، وهو ألا يزيد إحدى هذه المتقابلة على ما يقابلها بل تكون على سواء في القلة والكثرة. والله أعلم.
ولأبي الحسين أن يقول: لا أسلم كون بنية قلب النائم صحيحة بل من الجائز أن يكون النوم سبباً لتغيرها أو يكون تغيرها واقعاً مع النوم، إما لحصول النوم وإما على طريق الموافقة لكنه يقال: وما الطريق إلى ما ذكرته فإنه لايجوز إثبات ما لاطريق إليه ولادليل عليه.
قوله: وبعد فقياسه للقلب على العين إلى آخره الذي يظهر من عبارة أبي الحسين أن ذلك لمجرد التمثيل لا للقياس لكنه إذا لم يكن قياساً فما دليله على ما ذهب إليه فإن مجرد التمثيل لايغني عن إيراد الدليل.
قوله: يومكن استعمالها في المدرك ضرباً من الاستعمال. اعلم أن استعمال العين في المدرك انفصال الشعاع من نقطتها وحصوله مع المدرك بحيث لاساتر بين الشعاع والمدرك ولاما يجري مجرى الساتر، والذي يجرى مجرى الساتر هو أن يكون بين الشعاع والمدرك فصل يصح وقوع ساتر بينهما فيه، وإن لم يكن حاصلاً، ولايقال: الاستعمال اتصال الشعاع بالمرئي لأن اللون مرئي ولايتصل الشعاع به إذ ليس بمتحيز فإذا قبل أو بمحله اختلف الشرط ولايجوز في الحاسة الواحدة أن يختلف الشرط في الإدراك بها قياساً على سائر الحواس، ولهذا الكلام تفصيل ليس هذا موضعه.
وقوله: ضرباً من الاستعمال أراد به أن استعمال العين ضرب من جنس وهو الاستعمال على الإطلاق بالنسبة إلى سائر الحواس فلكل حاسة استعمال فإن استعمال حاسة الذوق مماسة اللهاة لمحل الطعم واستعمال حاسة الشم مجاورتهما لمحل الرائحة إذ لابد في الشم من ذلك واستعمال حاسة السمع فتح الأذن وإصاختها للسماع لا غير ذلك، واستعمال حاسة اللمس أن يحصل محل ..... مع الملموس بحيث لاساتر ولاما يجري مجراه.
وأما الفائدة الخامسة: وهي في ذكر محله فمذهب الجمهور من أصحابنا أن محله القلب لأنَّه من جنس العلوم وقد تقرر أن محلها القلب فإنه لايصح وجودها في غيره، وذهبت الفلاسفة إلى أن محله الدماغ هذا ما حكاه أصحابنا عنهم إلاَّ أن هذه الحكاية وحكاية أنَّه عندهم جوهر بسيط غير مترابطتين فإن صح أنهم نصوا على أن محله الدامغ ففيه دليل على أنهم يجعلون العقل من قبيل العلوم لأنهم يقولون في العلوم كلها محلها الدماغ، واحتج أصحابنا على أن محله القلب بأن أحدنا يجد بعقله للأشياء وعلمه بها من ناحية الصدر وإن لم يعلم مكانه على التفصيل، وبأ،ه يحتاج إلى بنية مخصوصة لأنَّه من العلوم وقد تقرر حاجتها إلى بنية مخصوصة إذ لو لم يكن كذلك لصح من أحدنا اتخاذ العلم في يده أو رجله، والبنية حاصلة في القلب دون الدماغ، وبقوله تعالى: {لهم قلوب لايعقلون بها} {فإنها لاتعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب الَّتِي في الصدور}.
فإن قيل: إن هاتين الآيتين تدلان على مذهب المطرفية لأن فيهما تصريحاً بأن القلب هو العقل لأنَّه محله؟ قلنا: الظاهر وإن كان على ماذكرته فهو من باب تسمية الشيء باسم محله كقوله تعالى: {فليدع نادية} فأراد بالنادي أهل النادي.
واحتجت الفلاسفة بأن الدماغ إذا فسد زال العقل فدل على أنَّه محله. وأجيب بأنه قد يزول عند اجتراح بعض الأعضاء فيلزم فيما كان كذلك أن يكون محلاً للعقل والتحقيق أن ذلك لمناسبة بين القلب والدماغ واتصال فإذا فسد الدماغ فسد القلب وبفساده يزول ما يحله، فيحتاج إلى صحة الدماغ، فإن قيل: وكيف هذه المناسبة مع البعد. قلت: لاتتوقف المناسبة على الاتصال والمجاورة بل اتصال مجاري دمائهما ورطوباتهما بعضها ببعض كاف في المناسبة ألا ترى إلى المناسبة الَّتِي بين اللحية والمداك ومع التباعد وعدم المجاورة فإن المداك إذا قطعت لم تنبت اللحية، وإن كانت من قبل نابتة فإنها تتساقط ذكره بعض المتأخرين وذكر ابن مثويه أن الشعر يبقى إذا قد نبت وكان وقوع القطع عقيب ذلك.
تنبيه
قد عرفت بما تقدم أن محل العقل هو القلب، وأنه لايجوز حلوله في غيره لحاجته إلى تلك البنية وإذا تقرر ذلك فكل حيوان إذا حصلت في قلبه البنية الَّتِي يحتاج العقل في وجوده إليها صح وجوده فيه ولاعبرة بالصور والأشكال واختلافها ولذلك اشتركت الملئكة والجن والإنس في حصوله مع اختلاف صورهم وأشكالهم وعلى هذا قيل في العقل إذ قد تصدر مثله من الصبي والمجنون.
وأما الفائدة السادسة: وهي في بيان طرف من شرف العقل فقد ذكر ذلك بعض أصحابنا وحاصل كلامه أنَّه قد ثبت أن الموجودات أشرف من المعدومات لتأثير الصانع فيها ودلالتها عليه وعلى قادريته وعالميته وأن النامي من الموجودات أشرف من غيره لاختصاصه بمزيد إحكام وبديع انتظام وغرابة في خلقه وعجيبة في صنعته، وأن الحيوان أشرف من غيره من الناميات لما خصه الله به من حصول أبلغ درجات الإحكام مع ما خلق فيه من القدرة والشهة وتمكينه من الانتفاع وأن العاقل من الحيوان أشرف من غير العاقل لتمكنه بالعقل من العبادات والطاعات الَّتِي ..... إلى درجة الثواب الَّتِي لاينالها غيره من الحيوانات وليمكنه بالعقل من التفكر والنظر في ملكوت السموات والأرض وما فيهما من عجائب الصنعة وغرائب الحكمة ولمعرفته بما ينفعه ويضره من الأمور الدينية والدنيوية ولتمكنه من الاهتداء بالشمس والقمر وانلجوم في مسالكه ولأأوقات عباداته ولتمكنه به من معرفة منشأه وخلقته ولخلوصه به عن أن يكون مملوكاً متصرفاً عليه، وما نال ذلك كله إلاَّ بالعقل ولا غرو في ذلك إذ عده العلماء من أصول النعم فالحمدلله الذي جعلنا ممَّن خصه به حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
وقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه تعالى لما خلق العقل قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو عندي أشرف منك بك أعطي وبك أثيب وبك أعاقب وبك آمر وبك أنهى. إذا عرفت هذا فالمختص به ثلاثة أصناف الملائكة عليهم السلام وهم أشرف العقلاء لأنهم لايعصون الله ما أمرهم ولايرتكبون ذنباً بل يمتثلون أوامره تعالى ويحتذون ما نهى عنه وبنو آدم وهم أتم العالم السفلي وأكثرهم نعمة، قال تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم}، وقال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} والجن فإنهم ممَّن حظي بشرف العقل وثبت لهم على كثير ممَّن خلق الفضل.
تنبيه
وإذا فرغنا من الكلام في العقل فلنستو إلى أمور تنافيه وتناقضه وهي الجنون والسكر والسهو والنوم، أما الجنون فهو عبارة عن زوال العقل فقد يكون لخلل في علومه وعدم كمالها ونقصانها وقد يكون لعارض كالصرع والأكثر على أنَّه لم يعرض للإنسان فيذهب عقله كغيره من الآل وليس من الشيطان ولابسبب من الجان.
وقيل: بل من مس الشيطان ومما يشهد له قوله تعالى: {كالذي يتخبطه الشيطان من المس} والجمهور يتأولون الآية على أنَّها واردة على ما يعتقده العرب وتزعمه من ذلك، وقيل بل بدخوله الجسم وقد يتواتر أو يقارب التواتر حكايات عن المصروعين تقضي بمخالطة الجان والله سبحانه أعلم، وقد قيل: لامانع من جهة العقل أن يقع الاختلاط والدخول، وتفريق بنية العقل فيزول لولا أنَّه منع من ذلك السمع وهو قوله تعالى: {وما كان لي عليكم من سلطان}، وأما السكر فقيل أنَّه سهو يعتري الإنسان مع فرح ومسرة لا لعروض مرض أو علة، قلت: وفيه نظر ولاشك أن السكر أمر ثبوتي لايرجع إلى انتفاء العلم وذلك أمر موجود من النفس والله أعلم، وأما السهو فقد تقدم تفسيره، وأما النوم فقيل: جلس برأسه، والجمهور على أنَّه سهو يعتري الإنسان مع استرخاء في الأعضاء.
فصل
قوله: زعم أهل السفسطة والعنود إلى أنَّه لايصح العلم بشيء. عدى المصنف زعم بإلى وهو مما يتعدى بنفسه ولعله ضمنه معنى ذهب، واعلم أن أهل هذا المذهب أحقر من أن يشتبه الحال في بطلان مذهبهم وركة كلامهم ولعمري إن مذهبهم غير جدير بأن يوضع في الأوراق ويتكمل عليه علماء الآفاق وهؤلاء الذي ذكرهم المصنف يسمون أهل التجاهل لإنكارهم ما قد حصل لهم من العلوم الضرورية وتحميل أنفسهم، وقيل لارتكابهم الجهالات، وهم ثلاث فرق:
الأولى: هؤلاء الذي ذكرهم رحمه الله وسموا سوفسطائية وسوفسطية لأن السفسطة إنكار العلم بالمشاهدات وغيرها من المعلومات، حكى الحاكم عن بعض المشائخ أنَّه قال لواحد منهم: ألقولك لاحقيقة للأشياء حقيقة أم لا؟ فإن قلت: نعم ناقضت، وإن قلت: لا أثبت للأشياء حقيقة.
الفرقة الثانية: تسمى العندية والعنود لقولهم بأن حقيقة كل شيء ما كان عند الإنسان زعموا أن حقائق الأشياء تابعة للاعتقادات وليس لها في أنفسها حقيقة فمن اعتقد في العالم أنَّه قديم فهو قديم ومن اعتقد فيه أنَّه محدث فهو محدث.
الفرقة الثالثة: قالوا لاحقيقة إلاَّ لما يشاهد بالحواس دون غيره فأبطلوا سائر المعقولات غير المشاهدات وأثبتوا المحسوسات فقط، ومن المناظرات المحكية مع أهل التجاهل ما حكاه الحاكم عن أبي الهذيل رحمه الله. قال: ناظره جهم في دار المأمون فأنكر جهم في حال المناظرة سائر الأشياء فأمر أبو الهذيل بدابته فذهب بها وجيء بكلب فأقيم مقامها، فلما خرج قال: أين الدابة. فقال له أبو الهذيل: أي دابة؟ قال: ما كنت راكباً؟ قال: أبو الهذيل لم يكن لذلك حقيقة لعلك تظنه. فقال: لا بل كان لي دابة. قال: لعله هذا. قال جهم: هذا كلب. قال: لعلك تظنه كلباً وهو دابة فما زال أبو الهذيل يراجعه على هذا القياس حتَّى رجع عن مذهبه.
ودخل أبو الهذيل على صالح بن عبدالقدوس يعزيه عن ولد له جزع عليه جزعاً عظيماً، فقال: ما هذا الجزع وقد عرفت الاعتقاد. فقال صالح: ليس جزعي عليه لموته ولكني صنفت كتاباً أحب أن كان قرأه. قال أبو الهذيل: وما ذلك. قال: كتاب الشكوك. قال أبو الهذيل: وما فيه؟ قال صالح: من قرأه شك فيما كان لعله لم يكن وفيما لم يكن لعله كان. قال أبو الهذيل: فيجب إذن أن تشك لعل ابنك لم يمت وتشك لعله قرأ، فانقطع.
قوله: وكالعنبة ترى في الماء كالأجاصة، الأجاص ثمر معروف وحبته كبيرة تزيد على العنبة بشيء كثير، قوله: يرى على الشط، الشط جانب النهر، وهو يستعمل أيضاً في جانب الوادي وفي السنام فكل جانب من السنام شط والجمع شطوط، قوله: يراه راكب السفينة كأنه سائر أي سائر في خلاف جهة سيره فإذا كانت السفينة ذاهبة نحو جهة الشام رأي راكبها الشط والأشجار النابتة فوقه كأنها سائرة إلى جهة اليمين.
قوله: ونحو ذلك. يعني من شهرهم كقولهم أن الناظر في السيف يرى وجهه طويلاً وأن الشمس ترى كأنها قرصة مع أنَّها أكبر من الأرض والقمر تحت السحاب يرى كأنه يسير والسحاب واقع والأمر بالعكس، ومن أدار نفسه مراراً كثيرة رأى الأرض كأنها تدور معه وتراها كأنها تنخفش وترتفع. قوله: لأمر يرجع إلى الأشعة يعني أن الواحد لما كان لايرى الإشعاع ينفص من نقطة عينه وقد تختلف أحوال ذلك الشعاع في انعكاسه وانعراجه واستقامته وقع الغلط في المناظر فلو لم يكن أحدنا يرى بالشعاع لم يقع ذلك، وهذا جواب جملي وتفصيل الكلام في الجواب عليهم أن يقال: أما السراب ويخيل الرآي له بصفة الماء فلأنه أجزاء من بخار الأرض يرتفع ولونها شبيه بلون الماء فإذا وقعت عليه الشمس تلألأ واضطرب فظن ماءاً وأما العنبة فترى كبيرة لما جاورها من أجزاء الماء الَّتِي لم تنفصل عنها ويتصل الشعاع بها على سواء ولايقوى على تمييزها مما اتصل بها، وأما رؤية الشجرة منكسة فلأن الشعاع يتصل بالماء ثُمَّ ينعكس فيتصل أولاً بأصل الشجرة وساقها لقربة من الماء ثُمَّ يتصل عقيب ذلك بأعلاها فترى منكسة، وأما رؤية راكب السفينة للشط كأنه سائر فلأن الشعاع يتصل به وينفصل سريعاً ويتخطى عنه السفينة ويتخلف الشجر فترى كأنه يسير إلى خلف، وأما السيف فلأن الشعاع يتصل به طولاً وينعكس عنه إلى الوجه طولاً فيخيل له أن وجهه طويل وكذلك في العرض إذا رأى وجهه في سيف عريض، وأما الشمس فلاستدقاق زاوية الشعاع فما بعد
المرئي استدقت زاوية الشعاع حتَّى يقع على بعضه وسيأتي تحقيقه في مسألة الرؤية إن شاء الله، وأما القمر والسحاب فلأن الشعاع يتصل بهما فيحركه السحاب فيخيل إليه ذلك ذكره الحاكم، وقال ابن مثويه: إنَّما يرى القمر كأنه يسير عند سير السحاب لأن الشعاع متصل بالأمرين، وهذه حالة السحاب مع الكواكب وأقطار القمر والكواكب معلومة لنا مدركة دون أقطار الغيم فإذا سار الغيم رأى القمر والكواكب كأنها سائرة لاتصال الشعاع بالكل على وجه لايتميز، ولهذا لو أمكن أن يجمع شعاع أعيننا نحو القمر والكواكب لرأيناها ثابتة والسحاب سائر، وأما من أدار نفسه فإنما يرى الأرض على ما قالوه لاضطراب شعاع عينه ودورانه بدوران الواحد منا فيظن أن الأرض متحركة هذا ما ذكره أصحابنا من أسباب وقوع الغلط في المناظر فإن صح ما ذكروه، وإلاَّ قلنا ذلك مما تفرد الباري بمعرفة أسبابه ولم نقدح شبه السوفسطائية فيما يعلم ضرورة وما أبعدها عن التشكيك والقدح، لكن هذا الذي ذكره أصحابنا مبني على ثبوت الشعاع وأحكامه.
القول في وجوب معرفة الله تعالى
قوله: (ذهب الجمهور): أهل العدل من الزدية والمعتزلة، وعدلية الإمامية وأكثر فرق الإسلام.
قوله: (وقال أبو علي الأسواري والجاحظ وغيرهما: المعارف ضرورية فلا تجب) اعلم أن هؤلاء هم المسمون بأهل المعارف، قالوا: المعارف ضرورية فلا يجب علينا المعرفة على الإطلاق لافي دار الدنيا ولا في دار الآخرة لأنها من فعله تعالى فهي غير داخلة في التكليف، وحكى عنهم في سائر مسائل أصول الدين المتعلقة بالتوحيد والعدل والوعد والوعيد مثل ذلك، ثُمَّ اختلفوا فمنهم من قال: إن المعرفة تحصل إلهاماً فلا يجب النظر أيضاً، وهو قول أبي علي الأسواري، ومن تابعه، ومرادهم بالإلهام أنَّها واقعة لا لأمر ولاعند أمر وإنَّما هي كالبديهيات، ومنهم من قال بوجوب النظر لأنَّه شرط اعتيادي يفعل الله المعرفة عنده، وهو مذهب الجاحظ وأخباره صاحب الجوهرة.
قوله: (وأبو القاسم الكعبي) هم تارة يقولون البلخي نسبة إلى بلدة بلخ وهي قرية بالقرب من بغداد، وتارة الكعبي نسبة إلى قبيلته كعب، وله إطلاق تعاكس أطلاق أهل المعارف، فيقول بوجوب المعرفة في الدنيا والآخرة، وهو وإن أجاز التقليد فالتقليد عنده علم، وذهب الجمهور إلى التفصيل ولكن افترقوا في كيفية التفصيل مع اتفاقهم على أنَّها لاتجب في الآخرة فمنهم من ذهب إلى أنَّها قد تحصل ضرورة في الدنيا لبعق المكلفين كالأنبياء والأولياء فلا تجب عليهم وهم المؤيد بالله أحمد بن الحسين والمؤيد بالله يحيى بن حمزة، وحكى مثله عن الفقيه حميد بن أحمد المحلي، ومنهم من قال الحملي حاصل ضرورة فلا يجب فإنا نعلم ضرورة أن المطر لابد له من منزل، وأن السحاب لابد له من سائق، وأن النبات لابد له من منبت، وهذا مذهب ذكره صاحب المحيط، وإليه ذهب الفقيه حميد أيضاً، فله قولان، وحكى الإمام يحيى عن الصوفية القول بأن المعرفة تحصل بالتصفية للنفس عن العلائق الجسدانية والهباءات البدنية فمتى خلت عن هذه الأمور حصلت لها عقائد يقينية.
وأما التقليد ففيه إطلاقان وتفصيل.
فالإطلاق الأول للحشوية فإنهم اطلقوا جواز التقليد في الأصول والفروع، وقالوا: النظر والاستدلال محرم وبدعة.
والإطلاق الثاني لجعفر بن حرب، وجعفر بن ميسر من معتزلة بغداد قالا: لايجوز في الأصول والفروع ماكان من ذلك ظنياً أو قطعياً، وأوجبوا على العالم غطلاع العامي على الأدلة.
وأما أهل التفصيل، فاختلفوا فمذهب جمهورهم إلى أنه لايجوز في الأصول ويجوز في الفروع، ومسائل أصول الفقه ما كان من ذلك ظنياً أو قطعياً وبهذا قال الشيخ أبو علي إلاَّ فيما كان عليه دليل قطعي من الفروع وأصول الفقه فلم يجز التقليد فيه، وعكس هذا القول لعبيد الله بن الحسن العنبري فإنه أجاز التقليد في أصول الدين ومنعه في الفروع وأصول الفقه، وذهب الشيخ أبو إسحاق بن عياش إلى جواز التقليد في أصول الدين للنساء والعوام والعبيد المهملين لطريقة النظر.
وذهب القاسم عليه السلام إلى ما ذكره المصنف. قيل: وتأول كلامه صاحب المحيط بأنه أراد أن المعارف الحملية كافية وإن لم تكن من تحرير الأدلة وحل الشبه، والذي يتعلق بهذه المسألة ويتوقف عليه إبطال قول أهل المعارف نوقول من أجاز التقليد في أصول الدين، فأما ما عدا ذلك وحكم التقليد في غيره فلا تعلق له بهذا الموضع وقد بدأ رحمه الله بإبطال أقوال المخالفين وبدأ من ذلك بإبطال قول أهل المعارف، ثُمَّ عاد إلى الإستدلال على صحة ما ذهب إليه الجمهور.
وقيل: ذلك ينبغي تقديم الكلام في حد الضرورة لغة وعرفاً واصطلاحاً، أما في اللغة فالضرورة كل أمر وقع من غير اختيار والمضطر قد يسمى مكرهاً وملجأ فالمكره من جمع شرطين أحدهما أن يكون الحامل له على الفعل المضطر إليه عاقلاً عالماً، الثاني: أن يخوف المضطر بتلف النفس أو ما في معناه مع قدرة المخوف على فعل ما توعد به، فأما الملجئ فلا يعتبر فيه هذان الشرطان بل قد يكون للإلجاء من السباع وبالصواعق والأمطار ونحو ذلك ويكون من جهة النفس كشدة العطش والجوع، ويقال في جميع ذلك هو مضطر إلى الطعام والهرب إذا ألجي إليه، ومضطر إلى الخمر إذا أكره عليها.
وقد عرفت أن الألفاظ المستعملة فيما كان من غير اختيار ثلاثة إكراه وإلجاء واضطرار، وأما في العرف فلابد من اشتراط أن تكون الضرورة تفعل من جهة الغير، والمراد بالعرف عرف أهل اللغة، إذ عرف الزمان وحقيقة الضروري في العرف ما يحصل فينا لامن قبلنا واشترط أبو هاشم والجمهور في تسميته ضرورياً أن يكون جنسه داخلاً تحت مقدورنا.
وقال أبو علي: لايشترط أن يكون جنسه داخلاً تحت مقدورنا فيقال لون ضروري كما يقال حركة ضرورية. قيل: وكلام الجمهور أقرب وأصح لأن العرف له شبه بالوضع اللغوي، والضرورة في اللغة للإجاء والإكراه، وهما لايستعملان إلاَّ فيما يدخل جنسه تحت مقدورنا.
فإن قيل: كيف وقع الخلاف بين الشيخين في العرف، وعرف أهل اللغة. سنقول عنهم: وكذلك عرف أهل الأزمنة ما وقع التعارف به بينهم فكيف يتصور الخلاف في ذلك. فالجواب: انه لايمتنع أن يختلف النقل عن المتعارفين في اللغة أ, الزمان أو يكون كل واحد منهما اعتبر عرف زمنه، وأما في اصطلاح أهل علم الكلام فالضروري عندهم قسم من نوع العلم، وهو العلم الحاصل فينا لامن قبلنا.
وقيلك العلم الذي لايمكن العالم به إخراج نفسه عن استمرار كونه عالماً بمعلومه. وقال ابن الملاحمي: الضروري علم لايقف على استدلال العالم إذا كان يصح منه الاستدلال، واحترز بهذا الطرف الأخير عن كونه تعالى عالماً، والذي يقابل الضروري المكتسب وحقيقته: العلم الحاصل فينا من قبل أنفسنا. وقيل: ألعلم الذي يمكن العالم به إخراج نفسه من العلم بما تناوله. وقال ابن الملاحمي: علم يقف على استدلال العالم به. قوله: يسحب أنظارنا هذا اللفظ يحتمل وجوهاً أربعة، أحدها: أن العلم يحصل بحسب النظر أي يقل بقلته ويكثر بكثرته، بالنظر إلى مسائل متعددة وقد أشار إليه رحمه الله بقوله في الكمِيّة.
والثاني: أن المراد يقل بقلته ويكثر بكثرته بالنظر إلى مسألة واحدة. قالوا: وهذا وإن كان ممكناً فلا طريق إلى العلم بكثرة العلم في مسألة واحدة لأجل كثرة الأنظار إذ الطريق إلى العلم حكمة وهو سكون النفس وهو لايتزايد بتزايد العلوم وكذلك فلايفرق الإنسان بين أن ينظر بأنظار كثيرة في مسألة واحدة أو ينظر بنظر واحد كما لايفرق بين أن يزيد الشيء الواحد بإرادات كثيرة أو إرادة واحدة.
والثالث: أن المراد أنَّه يحصل مطابقاً له فإذا نظر الناظر في دليل مسألة الصانع حصل له العلم بالصانع دون غيره من المعلومات وقد بين المصنف أن هذا مراد له مع المعنى الأول، إذ قال في الكمية والمطابقة والرابع يحصل بسببه أي يثبت العلم بثبوته ولايحصل مع عدم حصوله وهذا المعنى صحيح وإن لم يقصده المصنف، وكذلك الثاني قوله ولايلزم مثله في اللون الحاصل عند الضرب هذا جواب عن سؤال مقدر تقريره أن يقال: فيلزمكم أن يكون اللون الحاصل عن الضرب مسبباص عن الضرب من فعل الضارب لحصوله بحسب الضرب كما قلتم في العلم والنظر.
وتقرير الجواب أن هذا ليس بلون حادث عن الضرب وإنَّما هو لون الدم انزعج بالضرب وتحقيقه أن الدم كان مستوراص بين أجزاء اللحم فوقع بالضرب افتراق بين تلك الأجزاء فجرى الدم ورئي من تحت البشرة العليا لرقتها ومما يدل على أنَّه ليس بمتولد عنه، وإنَّما هو كما ذكرناه أنَّه لو صرف الجماد أو الميت أو الجسم الثخين لماظهر لون مع احتمالها للألوان.
قال ابن مثويه: وقد يخضر موضع الضرب لاختلاط أجزاء الدم وفيه نظر لن الخضرة جنس مستقل من الألوان فكيف يحصل بالاختلاط والذي يحصل بالاختلاط كالغبرة لما لم تكن جنساص مستقلاً وقد جرى للشيخ أبي هاشم أنَّه لايمتنع أن يكون هذا اللون حادثاص بمجرى العادة، وأما أبو القاسم ومن تابعه فقد جعلوه متولداً عن الضرب من فعل الضارب فلا يرد السؤال عليهم.
فإن قيل: هب أن العلم يحصل بحسب نظركم فما فيه من دليل على أنَّه فعلكم وليس من فعله تعالى. قلنا: وقوعه بحسب النظر دليل على أن النظر مولد له، وسبب فيه، فإن قيل: هذا يعرف تأثير المؤثر وإذا كان العلم مسبباص عنه والنظر سباً له ونحن الفاعلون للنظر ففاعل السبب فاعل المسبب إذ المسبب يقف على اختيار فاعل السبب بواسطة السبب، ولأن فاعل السبب يمدح ويذم على المسبب فأما القائلون بأن النظر يقع عنده العلم بالعادة فيلزمهم جواز اختلافها وإلاَّ يتبقى ذلك العلم عن النفس بوجه من الوجوه وليس كذلك.
قوله: وبعد فالمبتدأ منها يحصل بحسب قصودنا ودواعينا المبتدأ من المعارف الاكتسابية ما فعلناه عقيب الانتباه أو الغفلة بعد أن كان قد تقدم حصوله لنا بواسطة النظر.
فإن قيل: لاوجه لتقييده بالمبتدأ إذ الحاصل عن النظر يقف على قصودنا. قلنا: إن وقوفه على قصودنا ودواعينا بواسطة النظر ويخرج عن الاختيار فيه بعد اتخاذ النظر بخلاف المبتدأ. قوله: مع سلامة الحال يعني عن أن يقارن الداعي صارف يقاومه أو يزيد عليه فإنه لايختار العلم حينئذ نحو أن يرد شبهة قادحة تصرفه عن فعل العلم وتدعوه إلى فعل الجهل.
قوله: ولايرد العلم لمخبر الأخبار المتواترة يعني فيقال يلزمكمم أن يكون من فعل المخبرين لوقوفه على دواعيهم وقصودهم لأن الذي وقف على قصودهم هو الأخبار لا العلم.
قوله: والتزام هذا كفر. أي التزام كون الكفار معذورين في عدم المعرفة يعني لا الزام الخصم ذلك لأن لاكفر لايثبت بالإلزام وقد روى ابن مثويه التزام ذلك عن أبي بكر الملقّب ببوقا.
قوله: ولايقال أن العقلاء كلهم يعرفونه إلى آخره هذا رد لما اعتذر به الجاحظ عن هذا الإلزام المتقدم. قال ابن مثويه: فإنه يخلص عن هذا الكفر يعني القول بأ،هم معذورون بجهل إضافة إلى الأول ويعني بالأول القول بأن المعارف ضرورية فزعم أن العقلاء كلهم عارفون بصحة الديانات ولكنهم يعاندون ويجحدون.
قوله: لأن الجحود إنَّما يكون مع التواطئ هكذا في النسخة الَّتِي بخط المصنف وهو وهم فإنه التواطؤ مهموزاً وتكتب الهمزة واواً لتطرفها وانضمام ما قبلها.
قوله: لكان بديهياص لتعذر ما عداه من الضروريات. البديهي هو العلم الضروري الحاصل لا عن طريق وإنَّما تعذر غيره في .... لأن الحاصل عن طريق إما أن يكون طريقة المشاهدة وسيأتي نفيها في حقه تعالى أو الخبار المتواترة ولا بد من استنادها إلى المشاهدة أو الخبرة والتجربة ولابد من مقدم المشاهدة في حصول العلم المستند إلى الخبرة فلم يبق إلاَّ أن يكون بديهياً، وفيما ذكره سؤال وهو أن يقال: ليس يجب في كل علم بديهي أن يشترك العقلاء فيه ولا البديهيات كلها معدودة في كمال العقل فإن العلم بأن زيداص هو الذي كنا شاهدناه من قبل بديهي إذ ليس بحاصل عن طريق، وذلك معنى البديهي، وليس من علوم العقل ولايجب اشتراك العقلاء فيه فهلا كان العلم بالله بديهياً، ولايجب الاشتراك فيه.
قوله: وبعد فقد مدح الله العلماء. هذا استظهار من المصنف على الخصم لتسليمه أن السمع دليل فإن كان في الاستدلال به نظر إذ لم يقع بعد العلم بما يتوقف السمع على العلم به ويمكن أن يقال: بل يمكن الاستدلال ههنا بالسمع لا .... والخصوم متفقون على حصول العلم به تعالى وبصفاته وعدله وحكمته وإنَّما وقع النزاع في هل المعرفة الحاصلة من فعلنا أو من فعله ولاتتوقف صحة السمع على صحة واحد من القولين.
قوله: وله أن يقول مسلم أن المعرفة لطف إلى آخر الاعتراض تلخيص هذا السؤال أن المعرفة وإن كانت لطفاً فالألطاف تختلف باختلاف المكلفين وأحوالهم ولهذا قد يكون لطف بعضهم في الصحة وبعضهم في السقم وبعضهم في العنا وبعضهم في الفقر وكذلك لامانع ههنا أن يكون تعالى قد علم أن لطف بعضهم في المعرفة الضرورية فيخلها له لطف، وبعضهم في الاستدلالية فيكلفه بها، وقد ذكره الإمام يحيى في مراتب التوحيد، فإنه ذكر أن من مراتب التوحيد الحصول على معرفته تعالى وصفاته بالعلم الضروري الذي لايعترضه شك ولايعتريه ريب. قال: وهذه هي درجة المقربين وقد منع منه طوائف من المتكلمين ولادليل على المنع.
وقد أجيب عن الاعتراض المذكور بأنه إذا ثبت كون المعارف ألطافاص وكانت الضرورية لطفاً لبعض المكلفين لزم كونها لطفاً لسائرهم لأن الضروري أوضح وأجلا من المكتسبن وإعراض المصنف عن ذكر هذا الجواب لما عرفه من ضعفه إذ لا دليل على صحته وإن كان قد بنى عليه ابن مثويه وتبعه المتأخرون من أصحابنا.
قوله: ما تقدم من أنَّها لو كانت ضرورية لكانت بديهية قد تقدم ما في هذا من الإشكال فلا يعوّل عليه.
قوله: وأيضاً فتجويز ذلك في حق الأنبياء والصالحين. إلى قوله: بعد ما ذكره رحمه الله يقال فيه: بل كلام المؤيد بالله عليه السلام مستقيم لأنَّه إن أراد أنَّه يحصل لهم بعد أن قد صاروا أنبياء وأولياء وبعد أن قد عرفوا الله اتسدلالاً فلا مانع منه، ولاوجه لاستبعاده فإن تلك منحة وموهبة لمستقحقها ومن لله به مزيد عناية، وإن أراد أن هذا الذي علم الله أنَّه سيكون نبياً أو ولياً لطفه في المعرفة الضرورية فيخلقها له عند بلوغه التكليف فذلك داخل في حيز الإمكان ولامانع منه ولا غبار عليه، وقد احتج الجمهور على بطلان كون المعارف ضرورية بوجوه أخر فمنها: أنَّه يلزم أن يكون من حصل له العلم الضروري ملجئ إلى ما كلفه واعترضه ابن مثويه بأنه لو ثبت الإلجاء لأجل العلم الضروري لثبت لأجل المكتسب لأنهما سيان في إيجاب القطع والبتات يبين هذا أن الإلجاء قد يثبت تابعاً للظن لأنَّه مهما غلب في ظنه أن في الطريق سبعاص يفترس صار ملجأ إلى ألا يطرف عنه كما لو علم ذلك فإذا ثبت افلجاء بالظن فالعلم المكتسب بذلك أحق، وهذا يوجب ألا يكلف اكتساب المعرفة.
قال: وإنَّما لم يثبت الإلجاء بشيء من هذه الوجوه لأن النفع والضرر متى تراخيا زال الإلجاء وكلما ازداد تراخياً فهو أبعد عن الإلجاء وإنَّما يثبت متى تعجل النفع والضر، وذلك غير ثابت في مسألتنا فالإلجاء زائل. واحتج أبو هاشم بأن قال لو قيل أن مكلفاً لايكلف بالمعرفة وإنَّما كلف بأفعال الجوارح لما صح لأن الذي يستحقه من الثواب على أفعال الجوارح قدر بحسن الابتداء بمثله والتفضل به فلا معنى لتكليفه حينئذ فيجب أن يكون مكلفاص بالنظر والمعرفة وهذا وجه ركيك وقد اعترضه ابن متويه بأن مقادير الثواب مما لايعلمه فمن أين أن القدر المستحق على أفعال اجوارح قدر يحسن الابتداء بمثله.
قلت: ووجه آخر وهو أن لاثواب سواء قل أو كثر لايحسن الابتداء بمثله على قواعدهم لأنَّه لابد أن يقارنه التعظيم وقليله ككثيره فلو قدرنا أن ثواب أفعال الخوارج كما ذكر فإن مقارنة التعظيم له يمنع من الابتداء بمثله وقد ذكر الشيخ أبو علي في كلام له أن السمع هو الدال على أن العلم بالله تعالى لايحصل ضرورية وعليه يتأول سؤال موسى عليه السلام للرؤية فقال: إنَّما سأل العلم الضروري فبين تعالى أنَّه لايعرف في الدنيا ضرورة، قال: ولو كان يعلم بالعقل أن حصول العلم الضروري في الدنيا غير جائز لما خفي على موسى ولما سأل.
واحتج الإمام يحيى لصحة ما ذهب إليه بأن الخوف من الله تعالى إنَّما هو على قدر المعرفة وتحقق ذاته ونحن نعلم تباين الخلق في الخوف من الله تعالى فخوف الملائكة والأنبياء ليس كخوف الأولياء والصالحين وخوف الأولياء والصالحين ليس كخوف سائر المكلفين فزيادة الخوف إنَّما هو لزيادة المعرفة فلا يمتنع أن يزداد الخوف بحسب ازدياد المعرفة حتَّى ينتهي إلى رتبة العلم الضروري وكلامه عليه السلام لايخلو عن نظر فإنا نقطع باختلاف المكلفين في الخوف وإن كانت معارفهم مكتسبة مع أنه لامعنى للتزايد فيها وهي مكتسبة وكذلك فقد صرح باختلاف خوف الملائكة وغيرهم ممَّن يحكم أو يجوز أن معارفهم ضرورية وأدلة الجمهور كما ترى من عدم القوة.
فالأولى أن يحكم بأ،ه لامانع من حصول العلم الضروري للأنبياء والأولياء ولا دليل على ثبوته لهم وهذا هو تحصيل مذهب السيد المؤيد بالله فإن الذي يحكى عنه أصحابنا جواز ذلك وهو الصَّحيح فأما الإمام يحيى فظاهر كلامه القطع بحصول ذلك لهم ولادليل عليه، وقد ذكر ابن متويه أن القول بأن المعرفة ضرورية في حق بعض المكلفين دون بعض خرقٌ للإجماع، فإنه منعقد على استواء حالهم في ذلك فمن قائل بأنها ضرورية في حق الجميع ومن قائل بأنها استدلالية مطلقاً، وإحداث قول ثالث خروج عن الإجماع، وفيه نظر، والصحيح أن القول الثالث في مثل هذه الصورة لايعد مصادماً للإجماع لو سلمنا بعدم الإطباق على الإطلاقين قبله.
تنبيه
أبطل الإمام يحيى عليه السلام قول الصوفية بأن العقائد الحاصلة عن ........... إما أن يكون من فعل الله تعالى ومن فعلنا، إن كانت من فعله تعالى لزم كونها ضرورية وقد تقرر فساده، وإن كانت من فعلنا فلا يخلو إما أن تكون تلك العقائد لازمة للعلوم الضرورية ومترتبة عليها فهي نظرية، أو لا معنى للعلم النظري إلاَّ ذلك فإن لم تكن تلك العقائد لازمة للعلوم الضرورية فهي عقائد تقليدية ولاعبرة بها ذكر هذا في أول كتابه التمهيد وشبه أهل المعارف على ما ذكره رحمه الله.
قوله في الشبهة الأولى: لأن من قدر على الشيء قدر على جنس ضده الكلام ههنا يقع في نكت ثلاث:
الأولى: في معنى الضد في الحقيقة والضد في الجنس.
الثانية: في وجه وجوب ما ذكره.
الثالثة: في وجه قوله: على جنس ضده. ولم يقل: على عين ضده.
أما النكتة الأولى: فاعلم أن لامتضادان على ضربين نافية وغير نافية، فالضد في الحقيقة فيما ينفي ما طرأ على ضده .... كالسواد إذا طرأ على بياض في محل نفاه، ويسمى الضد في الحقيقة وعين الضد والضد في الجنس فيما ينفي مالم ينف ولاطول على هذا الذي هو جنس ضده كسواد وبياض في محلين فإن كل واحد منهما جنس ضد للآخر لما كان كل واحد معاكساً للآخر في الصفة ولايصح اجتماعهما ولم يكن أحدهما ضداً للآخر على الحقيقة إذ لامنافاة هذا فيما يبقى وأما ما لايبقى فالضد في الحقيقة فيه ما مع ضده من الحلول في المحل أو الجملة أو سبق إلى الإيجاب لما يقع الإيجاب له كالإرادة، إذا وجدت في القلب أو لا في محل كإرادة الباري تعالى فإنها حال وجودها موجبة لمن اختصت به وتمنع ضدها من أن توجب له أو تختص به إذا كان وقت حدوثهما واحداً، إذ الأعراض الَّتِي لاتنفي تختص صحة حدوثها بوقت لايصح أن يحدث في غيره فالإرادة الحادثة لنا أ, له تعالى عين ضد وضد على الحقيقة للكراهة الَّتِي تختص ف يحدوثها بذلك الوقت الذي حدثت فيه الإرادة ولايقال الضد في الحقيقة في.... لاينفي ما طرأ على معاكسه في الصفة فنفاه كما تقدم في النافيات لأن طرو هذا عليه إن كان حال حدوثه أدَّى إلى أن يكون ثابتاً منتفياً، وإن كان في الوقت الثاني فانتفاؤه فيه واجب لأجل طرو ضده فلا ..... في حقه طرو وضد وجنس الضد في غير النافيات ما عاكسه في الصفة ولم يمنعه وذلك حيث يختلف وقت حدوثهما كإرادة قدوم زيد وكراهة قدومه إذا حصلت الإرادة في الوقت الول والكراهة في الوقت الثاني.
وأما النكتة الثانية: فاعلم أن الوجه الذي لأجله وجب فيمن قدر على الشيء أن يقدر على جنس ضده أن الدال على قدرته على الشيء وجوب وقوعه بحسب فضده وداعيه وهذه الطريقة موجودة في جنس ضد مقدور القادر بلا محالة فإن من قدر على تحريك الجسم يمنة قدر على تحريكه يسرة، وقد ثبت أن القدرة تتعلق بالضدين وكذلك .... الموجبة عنها وقد خرج عن هذه الطريقة الشيخان وأبو عبدالله في أحد قوليه لأنهم جعلوا السهو ضداً للعلم، وجعلوا أحدنا قادراً على العلم دون السهو وأجازوا أن يكون القادر قادراً على الشيء دون جنس ضده.
قوله: إذا كان له ضد يحترز مما لاضد له كالتأليف والصوت والاعتماد فإن القادر على ما هذه حاله لايقدر على جنس ضده إذ لاضد له في العين ولا في الجنس.
وأما النكتة الثالثة: فالموجب لقوله على جنس ضده وكونه لم يقل على عين ضده أن عين الضد قد يكون مقدوراً لقادر آخر فلا يصح قدره هذا عليه لاستحالة مقدور بين قادرين عندهم، مثاله: أن يوجد أحدنا كوناً للجوهر في جهة ثُمَّ يأتي الآخر فينقله من تلك الجهة ففاعل الكون الأول لم يكن قادراص على ضده بل القادر عليه الذي أوجده ولكن فاعل الأول يقدر على مثل الكون الذي نفاه مطلقاً وهو جنس ضد له.
فإن قيل: قد يكون القادر على الشيء قادراً على عين ضده وإن لم يطرد فكان الأولى أن يقول على عين ضده أو جنس ضده.
قلنا: لو قال كذلك أوهم أن قدرته على جنس الضد بدلاً عن قدرته على عين الضد وأنه إذا كان قادراص على عين الضد لم يكن قادراً على جنس الضد وليس كذلك فإنه قادر على جنس الضد مطلقاً سواء قدر على عين ضده أو لا.
فائدة: لها تعلق بما تقدم اعلم أن المقدورات المتضادة تنقسم إلى قسمين مقدورات للباري تعالىومقدورات لنا فمقدورات الباري تعالى تنقسم إلى قسمين، منها ماله ضد من جنسه، وهي الألوان والروائح والطعوم، ومنها ما ضده من غير جنسه وهي الجواهر والشهوة والحرارة والرطوبة فإن أضداد هذه من غير أجناسها إلاَّ أن تكون الرطوبة لها أنواع متضادة على ما جرى في بعض كلام أبي هاشم فلها ضد من جنسها.
ومقدوراتنا تنقسم إلى قسمين، فمنها ماله ضد من جنسه كالأكوان والاعتقادات والظنون، ومنها ما ضده من غير جنسه وهي الإرادة.
قوله بعد ذكر الشبهة الأولى والجواب إلى آخره: اعلم أن ظاهر كلام المصنف التسليم أنَّه لايصح اختيار الجهل مع حصول العلم لما ذكره من أنَّه واجب الوجود لوجود سببه فلا يصح اختيار الجهل بدلاً منه لأن الجهل لاسبب له يوجبه كما سيأتي، وإنَّما يقع بدعاء الداعي إليه وما يكون واجباً أولى مما يقع بالداعي فأما بعد ذلك الوقت فلا يتأتى هذا الجواب، إذ ليس العلم حينئذ بواجب الوجود وإنَّما يحدده الفاعل باختياره عند تذكر نظره المتقدم لا أنَّه واجب عن سبب لكن الشبهة لم ترد إلاَّ على لزوم أن يختاره في الحالة لاثانية من صحة اختياره النظر فالجواب إذاً صحيح فإن أرادوا لزوم صحة اختياره في الحالة لاثالثة من النظر أو ما بعده فهو ملتزم وقد ذهب أبو هاشم إلى أنَّه لايصح اختيار الجهل مع حصول العلم من دون عارض.
وقال أبو علي: يصح اختياره ولامانع من ذلك وهذا الخلاف فيما إذا كان العلم مكتسباص فأما إذا كان ضرورياً فالإتفاق على العلم إلاَّ عند حدوث عارض لاسيما والعلم مما يستروح إليه ويعد معداً لمنافع والعارض لاذي يعرض دون العلم ليس إلاَّ ورود شبهة يختار عندها الجهل انتهى.
وهذا الاحتجاج إن صح فأكثر ما فيه أن العالم لايدعوه الداعي إلى اختيار الجهل من دون شبهة ترد عليه فلا يختاره مع عدم الشبهة لعدم الداعي ولحصول الداعي له إلى سكون النفس لما فيه من الاسترواح فأما أن يخرج القادر عن صحة قول الجهل وعن قادريته عليه فلا وإذا كان قادراً غير ممنوع صح منه فعله إذا عرفت هذا فالأولى أن يقال أما في الوقت الثاني من وجود النظر فلا يصح اختيار الجهل لما تقدم، ولعل أبا علي لايخالف في ذلك، وأما بعد ذلك وعند فعله للعلم ابتداء غير موجب عن نظر فيصح مطلقاً سواء وردت شبهة أو لم ترد هذا من جهة القدرة وإن لم يقع فلفقد الداعي والله أعلم.
قوله في الشبهة الثانية لوجب أن يعرف صحة صفة ما كلفه. قال الفقيه قاسم: أرادوا بصفتها كونها مقدورة وكونها تقتضي سكون النفس.
قيل: وكونها اعتقاداً يتضمن إثبات الباري.
قوله: إذ لو علمها لما كلف النظر يعني لو حصل له معرفة الاعتقاد الذي هو علم يقتضي سكون النفس وهو ما كلفه كان يعرف أن الذي كلفه من العلوم اعتقادان للعالم صانعاً لما كلف النظر بل كان يفعل ذلك الاعتقاد الذي كله ابتداء.
وقد أجاب ابن الملاحمي عن هذه الشبهة بأنه لايعتبر في العلم بما كلفنا إلاَّ معرفة جنس ذلك المكلف به وأن جنسه مقدور لنا ولايعتبر معرفة عين المكلف به وأنه مقدور لنا ونحن نعلم أن العلم جنس متميز عن غيره من الأجناس مقدور لنا يحصل معه سكون النفس، وهذا كاف فيما كلفناه.
قوله: على أن معرفة شبيهاً يقوم مقام معرفتها قد ذكر الأصحاب أن المكلف به إن كان مبتدأ لا علاقة له بغيره كالإرادات والكراهات والأنظار فإنه لايكلف به حتَّى يعلم صفته وإن كان له تعلق بغيره لامن حيث أنَّه مولد له وجب العلم أيضاً بصفة المكلف به كتكليفنا بالأخبار عن كون زيد في الدار فإنه لايحسن تكليف أحد به حتَّى يعلم صفة خبره وأنه مطابق وذلك بأن يحصل له العلم بكون زيد فيها، وإن كان لما كلفه تعلق بغيره من حيث أن ذلك الغير مولد له فإن كان المكلف به مسبباص عنه غير مبراح كالتأليف مع الكون فإنه لايصح التكليف به حتَّى يعلم صفته أيضاً، وإن كان المكلف به مسبباً متراخياً عن سببه فإن أمكن معرفة المسبب فلا بد من العلم به قبل التكليف كإصابة السهم وإن كان العلم بصفته غير ممكن كانت معرفة سببه تقوم مقام معرفته كمسألتنا هذه فإنه لايمكن معرفة صفة المعرفة قبل حصولها فكفى معرفة صفة سببها.
وقد ذكر ابن متويه في التذكرة أن الذي يكلفه من الأفعال ينقسم إلى ما يكلف به، وإن لم يعلم صفته وهو العلم فيكفي في تكليفنا به علمنا بالنظر وإلى ما لابد من معرفة صفته قبل فعله ليصح التكليف به، وهو سائر مقدورات القدر وقد حكى بعض أصحابنا جواباً للغزالي عن أصل الشبهة وهو أنا قبل العلم به تعالى لانكلف العلم وإنَّما تكليفنا في الابتداء متعلق بتحصيل النظر ثُمَّ إذا ولّد العلم كلفنا بعد ذلك بتحديد ذلك العلم، وقد علمنا صفته قال: وما ذكره غير صحيح لأنا لم نكلف بالنظر إلاَّ لتحصل لنا به المعرفة الواجبة فلو لم يجب علينا المعرفة في الابتداء لم يجب علينا النظر، وهو صحيح على قاعدة العدلية لكن الغزالي بنى على أصله أن الواجب لايجب إلاَّ سمعاً، وأن المعرفة لم تجب إلاَّ سمعاً، والنظر لم يجب إلاَّ سمعاً لا لأجل وجوب المعرفة فيصح على ذلك القول بأن السمع أوجب النظر أولاً ولم يوجب المعرفة.
قوله: قلنا المشقة في سببها لا كلام في أن الفعل إذا كان مكلفاً به فلا بد من حصول مشقة لأجله إذ التكليف مأخوذ من الكلفة وهي المشقة ويجعلونها خاصة التكليف لكن لايشترط أن تكون المشقة فيه نفسه بل إن كانت فيه كالصلاة والصوم والحج وإلاَّ ففي سببه كالمعرفة فإنه لامشقة فيها بل تقع بها الاسترواح لزوال الشك عندها وطمأنينة النفس لكن المشقة في سببها وهو النظر، فإن المشقة فيه معلومة وإن لم تكن كمشقة أفعال الجوارح، أو فيما يتصل به كقراءة القرآن بالصوت الحسن فإنهما مع التكليف بها إذ هي مندوبة وواجبة في الصلاة لامشقة فيها بل يلتذ القارئ بها لكن المشقة فيما يتصل بها وهو حراسة النفس عن الرياء والعجب ومحبة السمعة وكذلك جماع الرجل لزوجته أو مملوكته فإنه قد ورد أنَّه يستحق الثواب فالمشقة في نضره لنفسه عن سواء ما يحل له ومعلوم حصول المشقة في ذلك.
فإن قيل: إنَّما يتأتى هذا الجواب في العلم المسبب عن النظر فأما العلم الذي يجده الواحد مباحاً لا يعد حال فإنه لاسبب له فيقال: المشقة في سببه.
قلنا: أما الذي يحصل مبتدأ لا عن سبب فالمشقة فيما يتصل به وهي توطين النفس على ما دفع ما يرد عليه من الشبه.
فائدة
اعلم أنَّه لافعل من أفعال القلوب يجد الفاعل له مشقة في فعله وويتبينها من نفسه إلاَّ النظر.
قال ابن متويه: ومتى ..... عن لحوق المشقة بالفكر خاصة وظهورها فيه دون غيره فلا علة يمكن ذكرها، ومن الجائز كونه معللاّ ونحن لانصل إليه أي إلى معرفة علته ومن الجائز أن يكون من باب ما لايدخله التعليل. قوله: لنهي عن الجهل يعني عن الجهل بنفس ما كلف بمعرفته لأن التكليف بالمعرفة هو الأمر بها والأمر بها يتضمن النَّهي عن ضدها فإن من قال لعبده قف في هذا المكان فقد نهاه عن الذهاب إلى غيره لا بإيراد صيغة للنهي عنه، وإذا كان هذا مرادهم على ما ذكره بعضهم فهو غير مسلم لأن الصَّحيح أن الأمر بالشيء ليس نهياً عن ضده لا لفظاً ولامعنى، وموضع ذكره أصول الفقه.
قوله: ولو عرف الجهل عرف تحقيقه أنَّه إذا نهى عن الجهل فلا بد أن يعرفه ليمكنه الاحتراز عنه وإذا عرف الجهل عرف المجهول لأنَّه إذا عرف أن اعتقاد ألاَّ صانع لعالم جهل فمعرفته لذلك لايكون إلاَّ مع معرفة الصانع فإذا اعتقد ثبوته حصل له عن هذا الاعتقاد سكون نفس عرف أن ما يضاده وهو اعتقاد ألاَّ صانع جهل قوله والكلام على أهل التقليد أي الكلام على إبطال مذهب القائلين بأنه جائز في مسائل أصول الدين، واعلم أنَّه لابد من تقديم بيان حقيقة التقليد في اللغة وفي الاصطلاح وحقيقته الاصطلاحية وإن كان قد تقدم ذكرها في المتن فذكرها ههنا أولى ليكون المطلع على الأدلة مستحضراً لها.
فنقول: أما التقليد في اللغة فهو مصدر قلد تقلد، ويستعمل في جعل القلادة في عنق الحيوان وقلادة كل حيوان بحسب ما يعتاد أن يوضع في عنقه في كل وقت وموضع، فقلادة المرأة من الحرز ونحوه وقلادة الإبل من مفتول الصوف والقطن والشعر، وقلائد الخيل من الأدم ولها هيئة مخالفة لقلائد الإبل، ونحو ذلك ذكره بعضهم. وأما حقيقة التقليد اصطلاحاً فقد تقدمت وأجود ما قيل في تحديده: قبول قول الغير من غير حجة ولاشبهة زائدة على حاله ولفظ القبول يتضمن القبول بالقول والظن والاعتقاد فأي ذلك كان فهو تقليد، وقلنا زائدة على حالة ليدخل من اتبع قول غيره لما يرى عليه من سيماء العلم والعفاف والورع فإنه يسمى مقلداً ولايصير بهذه الشبهة غير مقلد لأنها شبهة لم يرد احتجاجاً على المسألة ولاتصويراً لدليل عليها ولايكاد يتبع مذهب ذاهب إلاَّ لشبهة يرجع إلى حاله وأوصافه مع عد ذلك تقليداً وهذه الحقيقة لها شبه باللغوية لأن العالم والعامي كل واحد منهما علق ما أراد في عنق صاحبه فكل واحد منهما يسمى مقلَداً أو مقلِداص بفتح اللام وكسرها فيسمى العالم مقلَداً بالفتح لأن العام جعل ما يذهب إليه ويدين به كالقلادة في عنقه وبالكسر من حيث أنَّه جعل قوله قلادة في عنق العامي والعامي مقلِد بالكسر من حيث أنَّه جعل ما يدين به كالقلادة في عنق العالم وبالفتح من حيث أن العالم جعل مذهبه كالقلادة في عنقه والأدلة على عدم جواز التقليد ههنا ما ذكره المصنف.
قوله: أو دلالة فيبطل التقليد. فيه سؤال وهو: أن يقال ما أنكرت أن يكون الاستدلال طريقاً لبعض والتقليد طريقاً لبعض فلم حكمت لأجل ما ذكرت ببطلان التقليد.
وجوابه، من وجهين: أحدهما أن عند أكثر ........... للتقليد أن التقليد هو الطريق لكل أحدٍ وأنه لاطريق إلاَّ هو إذ صرحوا بالمنع من النظر والاستدلال وقد صح بما بينه أنَّه لابد أن ينتهي التقليد إلى من علم ما علمه عن غير تقليد.
وثانيهما: أن المراد أنَّه يبطل من حيث لم يحصل الاكتفاء به مطلقاً بل لابد من العلم على كل حال.
قوله: لكان أحق الناس بأن يقلده الأنبياء.
يقال: هل لظهور المعجز فلا كلام لكن ذلك لايسمى تقليداً أو مع عدم ظهوره فلم حكمت بأ،هم أحق فإنهم مع عدم المعجز كغيرهم إذ لامزية.
فإن قلت: أحق لعصمتهم.
قيل: لايعلم العصمة إلاَّ لظهور المعجز لكونه لايظهر على من تجوز عليه الكبائر.
قوله: إلاَّ أن الإمَّعة المحقب دينه الرجال. الإمعة والإمّع: الذي يكون لضعف رأيه مع كل أحد ولا يقال امرأة إمعة لأن ذلك لايقال للنساء. والمحقب دينه: المردف له أي الجاعل دينه محقباً أي مردفاص. وروى الإمام المنصور بالله الحسن بن بدر الدين في أنوار اليقين عن ابن عباس قال: كان أمير المؤمنين عليه لاسلام كثيراً ما ينشد:
إذا المشكلات تصدين لي ... كشفت حقائقها بالنظر
ولست بإمعة في الرجال ... أسائل هذا وذا ما الخبر
ولكنني مدرة الأصغرين ... أقيس بما قد مضى ماغبر
قوله: ونحو ذلك كثير. يعني: كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: < من أخذ دينه عن التفكر في آلاء الله والتدبر لكتاب الله والتفهم لسنتي زالت الرواسي ولم يزل ومن أخذ دينه عن أفواه الرجال وقلدهم فيه ذهب به الرجال من يمين إلى شمال وكان من دين الله على أعظم زوال> وقد أحسن القائل:
ما الفرق بين مقلد في دينه ... راض بقائده الجهول الحائر
..... رما بها أعمى على ... ...... الطريق الحائر
تنبيه
قال الحاكم في شرح العيون: قال أبو هاشم المقلد يستحق عقوبتين أحدهما لكونه أقدم على ما لايأمن كونه جهلاً، والثانية على ترك النظر وكل واحدة من المعصيتين كبيرة.
قوله: في شبههم، ولم يكن يأمرهم بطلب العلم الدقيق أي كالعلم بإثبات الأعراض والاستدلال على حدوثها وعلى أن الجسم لم يتقدمها والعلم بأن كونه تعالى قادراص صفة لاحكم أو أنَّها متعلقة بأجناس مقدورات العباد وأعيان سائر المقدورات وغير ذلك من غوامض علم الكلام قوله لأن الإكراه لايتصور في باب العقائد يعني لأن المكره على العقيدة أكثر ما يحصل من إكراهه أن يظهر أنَّه قد اعتقد وكلامه غير مقطوع بصحته ولايمكن الاطلاع على ما في قلبه وسيأتي تحقيقه في باب الأمر بالمعروف.
قوله: وبالجملة فإن الكتاب والسنة إلى آخره. لابد من بيان طرف من ذلك في باب النظر إن شاء الله تعالى.
قوله: لو كلف النساء العوام بهذه الأصول والاستدلال عليها بالدلة الغامضة إلى آخره. اعلم أن الإمام يحيى قد ذكر مراتب التوحيد في كتاب التمهيد وذكر فيه ما يقرب من كلام من أ>از التقليد في حق العوام والنساء ونحوهم وذلك أنَّه قسم التوحيد إلى أربع مراتب:
المرتبة الأولى: الإقرار بالوحدانية والأخبار بأن لا إله إلاَّ الله فهذا الخبر يوصف بأنه توحيد لا .... أن الله تعالى واحد، وزعم عباد أن قول القائل: لا إله إلاَّ الله ليس بتوحيد، قال: ولو كان توحيداً لوجب داومه لأن التوحيد يجب أن يكون مستداماً.
قال عليه السلام: وهذا خطأ لأنَّه لايمتنع أن يوصف بأنه توحيد وإن لم يكن دائماً.
ثُمَّ قال عليه السلام: وفائدة هذا الإقرار التبرؤ عن الشرك وإحراز الرقبة عن القتل وتحصين الأموال عن الأخذ إلاَّ بحقها وتثبت لقائلها أحكام الإسلام في الظاهر والسرائر علمها عند الله تعالى.
قال عليه السلام: المرتبة الثانية: اعتقادهم مضمون هذا اللفظ مجملاً تقليداص، وهذه هي حالة المقلد، ومن قصدعن بلوغ مراتب النظر وصاحبها سالم في الدارين مهما سلم اعتقلاه عن زلل، عند أكثر العلماء خلافاً لطوائف من المتكلمين فإن صاحب الشريعة كان يقبله من العراب ولو كلفهم العلم اليقين لعجزوا عن إدراكه لقصور إفهامهم.
المرتبة الثالثة: هي الوصول بمقدمات النظر إلى معرفة حقيقة ذاته تعالى وصفته وحكمته وأفعاله وأنه واحد لاشريك له وهذه هي حالة العلماء الأفاضل الذين وصلوا بحقائق الأدلة والبراهين فحصلوا على انشراح الصدور وطمأنينة الأنفس ويرد اليقين وبين هذه المرتبة والتي قبلها بون عظيم فإن هذه درجة الأولياء وتلك درجة الضعفاء وفي هذه المرتبة تفاوت درجات أهل النظر في تحصيل هذه المعارف على جهة الإجمال وعلى جهة التفصيل ثُمَّ تتفاوت درجاتهم في تفاصيلها فيتفاضلون لذلك في سرعة الوصول إلى المعرفة وحراستها عن الزلل وكل ذلك سهل ويسير على من وفقه الله تعالى وثبته.
فأما المرتبة الرابعة فقد تقدم ذكرها وهي: حصول العلم الضروري للأنبياء والأولياء.
إذا عرفت هذا ففيه طرق من يقول من أجاز التقليد كما سبق له من موافقة من أجاز حصول العلم الضروري.
وقوله عليه السلام: ولو كلفهم العلم اليقين لعجزوا عن إدراكه. هو القريب من أحوال من ذكره من الأعراب والعبيد والنساء أو أكثرهم، وإن كان الحاكم قد ذكر في (شرح العيون) أنَّه من مامن عامي إلاَّ ويمكنه أن ينظر في الدقائق ويعلمها. قال: وذلك يظهر في معاملاته وأفعاله فإن عامياً لو شاترى كوزاص واشترى غيره كوزاً مثله فقال البائع للعامي كوزه بدرهمين وقال للآخر بدرهم لم يقبله العامي بل يقول هما من جنس واحد والقدر واحد والوقت واحد والصفة واحدة فالفضل لابد أن يكون لأمر ما.
قال: وذكر الشيخ أبو رشيد أن جميع ما يتعلق بالحجاج يعرفه العامة ألا ترى من استام ثوباً فقال البايع له بعشرة فيقول المشتري لِمْ فيقول: لأني شريته بثمانية وأستربح درهمين ما لمشتري طالبَ بالوجه والثاني ..... عنه فإن قال المشتري: لم فإن سأل هذا يوجد بأقل مما ذكرت، فيقول البائع: لن هذا أجود منه فقاس المشتري على الأصل والبائع فرق وليس الحِجَاجُ إلاَّ هذا وإنَّما اشتبه الأمر لأن العوام استعلوا بأمور أخر فحققوا في ذلك ألا ترى أنهم معترفون في صناعاتهم من الدقائق مالاينقص عن المسائل الدقائق هذا معنى ما ذكره الحاكم.
قوله: وإنَّما كُلِّفوا جملة يسيرة. قال الحاكم في شرح العيون: أصحاب الجمل من يعرف الله تعالى بصفاته وعدله والنبوات والشرائع جملة لا على سبيل التفصيل ويعلم ذلك بالدلة نحو أن يعلم أن العالم محدث لأنَّه لايخلو من الحوادث وله محدث لن المحدث يحتاج إلى محدث لأجل حدوثه كما أن أفعالنا تحتاج إلينا لأجل حدوثها وهو تعالى قادر لصحة الفعل منه عالم لحصة الفعل المحكم منه حي لكونه قادراً عالماً موجود لتعلقه بالفعل وصحببة منه قديم لأن الحوادث تنتهي إليه سميع بصير تدرك المدركات لأنَّه حي لا آفة به لأن الحاجة من خصائص الجسم وعلى ها فقس، ولعل المصنف قصد بالجملة اليسيرة هذا لكن الأقرب ما ذكره الإمام يحيى من تعذر إدراك هذه العلوم وغيرها عليهم.
تنبيه
ذكر صاحب المحيط أن أبا لاقاسم أراد بما يذهب إليه في التقليد أن المعارف الجملية كافية وإن لم يتمكن من تحرير الأدلة والحجاج بل إذا حصل له العلم على الجملة كفى وهو أن يعلم أن للعالم محدثاً وأن من صح منه الفعل فهو قادر ونحو ذلك فإن صح هذا عن أبي القاسم فكلامه قريب من كلام المصنف هذا وإن كان السيد الإمام وغيره من أصحابنا المتأخرين قد ذكروا في كل مسألة من مسائل التوحيد أنَّه يلزم المكلف فيها ما يعلم أنه لم يحصل للعامي ونحوه بل هو من العلوم التفصيلية الدقيقة.
قوله: والكلام على أهل الظن.
يقال: ومن أهل الظن الذين قالوا بجواز الأخذ به في أصول الدين فإنه لم يتقدم منك ذكر لأهل الظن ولا حكاية لمذهبهم وكذلك فلم يذكر في شيء من الكتب المستعملة.
والجواب: لعله رحمه الله اطلع على هذا المذهب فقصد إلى إبطاله وإن لم يتقدم ذكره إما على طريق السهو عن ذكره في حكاية الخلاف أو اكتفاءً بذكر إبطاله عن الابتداء بذكره أو لعله قصد إبطال هذا القول وإن لم يقل به أحد على تقدير أن قائلاً قد قاله، ولعله قصد بأهل الظن الحشوية فإنهم أجروا الأصول مجرى الفروع وجعلوا حكمهما على سواء في جواز التقليد فمقتضى كلامهم جعل الظن كافياً في الأصول كما أنَّه كافٍ في الفروع فأبطله بما ذكره من إمكان العلم في مسائل الأصول إذ دليل كل مسألة مقرر في العقل ولايحتاج المكلف في تحصيل العلم إلى أكثر من النظر فقبح حينئذ الظن إذ لايعدل إلى الأخذ به إلاَّ حيث لايمكن غيره كما في مسائل الفروع فإنه لايمكن أن يكون على كل حادثة دليل قطعي من صريح كتاب أو سنة متواترة أو إجماع فعدل حينئذ إلى الأخذ بالظن وفي كلام المصنف في العقد ما يقضي بأن القائل بجواز الأخذ بالظن العنبري من غير تصريح لكن ذكر في معرض الرد عليه حيث قال: إن كل مجتهد في أصول الدين مصيب، أن الظن ههنا قبيح لإمكان العلم وصرح بذلك لامهدي في المعيار فإنه قال ما لفظه: والتحقيق أن خلافه يعني العنبري راجع إلى التكليف بالمعارف الدينية فعنده أن المطلوب الظن كالعمليات وعندنا المطلوب العلم وقد وجدت في بعض النسخ مثبتاص في حاشيته عقيب قوله: وروي عن القاسم جواز تقليد المحق مطلقاً ما لفظه: وقال قوم يكفي الظن بصانع العالم ولا حاجة إلى العلم فإن صحت هذه النسخة استقام الكلام لكن لم يثبت ذلك في النسخة الَّتِي بخطه رحمه الله.
قوله: أمر ثابت في نفس الأمر لايحصل بحسب الظن يعني بخلاف الفروع فإن الوجوب والندب والتحريم ونحوها أمور تحصل بحسب الظن فمن ثبت له الظن بوجوب شيء صار واجباً عليه وإذا حصل العين ظن تحريمه كان محرماً عليه فافترقت لاحال.
فصل
قوله: إذا بطلت هذه الأقوال فالدليل على وجوب معرفة الله تعالى أنَّها لطف للمكلفين.
لما أبطل رحمه الله أقوال الذين لم يوجبوا المعرفة عاد إلى الاستدلال على وجوبها ولم يكتف بإبطال أقوالهم واعلم أن مراد أصحابنا بكون المعرفة لطفاً في جميع ما كلفناه أنَّها لطف في جميع ما كلفناه لأمر يرجع إليه وهي الواجبات العقلية العملية فعلاً وتركاً فأما الواجبات الشرعية فقد قال أصحابنا ليست المعرفة بلفط فيها لأن من حق اللطف أن يكون زائداً على التمكين والتكاليف الشريعة لايمكن تأديتها إلاَّ بعد المعرفة فإن من المعلوم أن عبادة من لا يعرفه غير ممكنة إذ هي أقصى غاية الخضوع والتذلل للغير ولايمكن ذلك إلاَّ مع معرفته وكذلك التكالف العقلية العلمية حكمها أحكم التكاليف الشرعية وهي العلم بمسائل التوحيد والعدل فإنه لايمكن تأديتها إلاَّ مع المعرفة.
قوله: إن اللطف في الحقيقة هو: العلم بأن هذا الفعل ما يستحق عليه الثواب إلى آخره. إنَّما لم يجعل اللطف العلم باستحقاق الثواب والعقاب كما ذكره السيد الإمام لأن ذلك اعترض بأن من أصولكم أن اللطف إذا كان معلوماص فاللطف نفس المعلوم وإن كان مظنوناً فاللطف هو الظن إذ المظنون قد يكون لاثبوت له فكان الظن اللطف فيلزم على هذا الأصل أن يكون اللطف نفس الثواب والعقاب لأنهما معلومان ولايصح أن يكونا لطفاً لتأخرهما عن فعل ما كلف المكلف به، ومن حق اللطف التقدم على الملطوف، فحينئذ جعل اللطف ما ذكره ولايلزم عليه ما لزم على جعله للعلم باستحقاق الثواب.
قوله: لكن لما لم يتم إلاَّ بمعرفة المثيب المعاقب سمي الجميع لطفاً.
فيه سؤالات، أحدها: أن يقال: إذا كان اللطف عندك هو العلم بأن هذا الفعل مما يستحق عليه الثواب أو العقاب ووجوب معرفة الصانع ونحوها لكون معرفة استحقاق الثواب والعقاب على الفعل متوقفة عليها فما قولك فيما لايتوقف العلم باستحقاق الثواب والعقاب عليه من المعارف كنفي الرؤية ونفي الثاني والعلم بالإمامة والشفاعة والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وعلى الجملة فكثير من مسائل أصول الدين.
الجواب: أن ما ذكره السائل من المسائل، منها ما هو شرعي محض كالإمامة والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر والمنزلة بين المنزلتين، ومنها ما يطابق فيه العقلُ الشرعَ كنفي الثاني والرؤية فإذا صح ذلك فالوجه في وجوبها كالوجه في وجوب الواجبات الشرعية وهو كونها ألطافاً في التكاليف العقلية العملية.
السؤال الثاني: وهو أن يقال فلم أطلقتم القول بأن المعرفة والمعارف الَّتِي يتوقف العلم باستحقاق الثواب والعقاب عليها وجه وجوبها كونها لطفاً وهي لم تجب إلاَّ لكونها وصلة إلى اللطف والمصنف وإن كان قد بين المراد فأكثر كتب علم الكلام جرى فيها الإطلاق.
والجواب: من وجهين، أحدهما: ما حكاه السيد الإمام عن قاضي القضاة من أنَّه لاشيء من هذه المعارف إلاَّ وله حظ في اللطف ألا ترى أنَّه لو لم يعلم أن الله قادر لجوز ألا يقدر على عقابه مع استحقاقه لذلك ولو لم يعلم أنَّه تعالى عالم لجوز ألا يعلم أنَّه ممَّن يستحق العقاب وإن كان مستحقاً له، وكان تعالى قادر على معاقبته ونحو ذلك في سائر المسائل أو أكثرها وهو كلام حسن، وإن منع منه أكثر المتأخرين وصرحوا بأن اللطف ليس إلاَّ العلم بالثواب والعقاب.
وثانيهما: أن تسميتنا لهذه المعارف لطفاً، وإن لم تكن لطفاص على الحقيقة تسمية للشيء بما يؤدي إليه وهي تؤدي إلى العلم باستحقاق الثواب والعقاب بمعنى أنَّه لايمكن إلاَّ معها ولايلزم تسمية النظر لطفاً لأن المجاز لايقاس عليه ولأنها سميت بذلك ..... لها لتعلقها بذات الله تعالى وصفاته وعدله وحكمته ووعده ووعيده ولاكلك النظر.
السؤال الثالث: إذا كان وجه وجوب المعرفة كونها لطفاص فهلا وجب على الله تعالى فعلها لكونه المكلف واللطف يجب على من كَلَّف لإزاحة العلة مع أن الضروري أجلا وأقطع للشك.
الجواب: أنَّه لو وجب عليه تعالى لفعله إذ لايخل بالواجب ولعله علم أنَّه من فعلنا يكون أبلغ في الدعاء، وقد ذكر الشيخ أبو عبدالله أن المعرفة إذا حصلها العبد بنظر واكتساب كان إلى الثبات على ما هي لطف فيه والتمسك به أقرب من أن ينالها بلا كج ولاكلفة، ومن شأن اللطف أن يجب على أبلغ الوجوب ولاعبرة في كونه أبلغ بكونه أجلى بل العبرة بالمعنى الذي أشرنا إليه.
قال: ولمثل هذا فإن من يكسب الأموال بكلفة ومشقة يكون تمسكه بها أقرب من تمسك من ينالها بالإرث أو بالهبة ولايلحقه في تحصيلها كد ولاكلفة فإنه ربما يسخى بها ويتلفها دون الأول.
قوله: (ولأنه إن كان اعتقاداص كما يقوله أبو هاشم).
اعلم أن أبا هاشم قد ذهب إلى أن الظن من جنس الاعتقاد وقال: هو الاعتقاد الحاصل لا عن ضرورة ولاعن دلالة ولاعن شبهة، ولكن الواقع عن أمارة تقوى بقوتها وتضعف بضعفها وخالفه الجمهور وقالوا: هو تغليب بالقلب لا باللسان لأحد المجوزين ظاهري التجويز ويحترزون بذلك عن المقلد فإنه مجوز ومغلب لأحد المجوزين لكن ليسا بظاهري التجويز بل تجويزه لما لم يعتقده ليس بظاهر لتغليبه ما عداه، وقالوا: لو كان من قبيل الاعتقاد لزم قبح جميع الظنون لن الظن إما أن يكون جهلاص فهو قبيح لامحالة ولايخالف أبو هاشم في قبح كل جهل، وإن لم يكن جهلاً فالمقدم عليه لايأمن كونه جهلاص إذ لم يحصل سكون النفس والإقدام على مالايؤمن كونه جهلاً في القبح كالإقدام على الجهل. وقد ثبت أن في الظنون ما هو حسن بل واجب.
قوله: ( وذلك الاعتقاد هو التجويز).
اعلم أنَّه لاكلام في ملازمة التجويز للظن وعدم انفصال أحدهما عن الاخر فكل ظان مجوز إذ لايحصل القطع إلاَّ مع العلم ومع ذلك فالتجويز اعتقاد لايؤمن كونه جهلاً لأنَّه على ما ذكره الفقيه قاسم اعتقاد جواز ثبوت الشيء واعتقاد جواز نفيه، فالمجوز لحدوث العالم مثلاً من اعتقد جواز قدمه واعتقد جواز حدوثه، وهذان اعتقادان أحدهما جهل بلا محالة وهو اعتقاد جواز قدمه والاخر لايأمن ..... جهلاص وهو اعتقاد جواز حدوثه.
وإن كان قد ذكر الجمهور أنَّه مجموع اعتقادين علمين بأن بديهة العقل لاتحيل ثبوت الشيء ولانفيه لكن الأصح ما ذكره الفقيه قاسم وعليه ينبني كلام المصنف.
قوله: (فلأنه يجري مجرى دفع الضرر عن النفس).
إنَّما جعله جارياً مجرى دفع الضرر لأن دفع الضرر في الحقيقة فعل الطاعة وترك المعصية إذ مع حصول الفعل والترك المخصوصين يندفع الضرر، ومع زوالهما يحصل الضرر وإن حصلت المعرفة لكن لما كان لايتم فعلها طاعة وإلاَّ فصورها محكية من دون معرفة إلاَّ مع المعرفة لن فعلها طاعة يتوقف على معرفة المطاع جرت المعرفة حينئذ مجرى دفع الضرر لما كان لايمكن فعل ما يندفع به الضرر على الوجه الذي يدفعه إلاَّ معها، وتقرير أنَّه لايمكن فعلها طاعة مع عدم المعرفة أن المطيع عندنا من فعل ما أراده المطاع والطاعة فعل ما أراده المطاع مع القصد إلى طاعته ولايمكن القصد إلى طاعته إلاَّ مع معرفته.
ويمكن أن يقال: إذا فعل الطاعات لوجوبها فقد دفع لاضرر سوى قصد الطاعة أو كان جاهلاً ولم يقصد وسواء كان فعله طاعة بأن يقصد أو لا.
قوله: مظنوناص كان أو معلوماً.
إنَّما استوى الحال في المظنون والمعلوم لحكم العقل بذلك فإنه لافرق عند العقلاء بين أن يشاهدوا السم في الطعام أو يخبرهم من خبره يورث الظن في وجوب تركه وكذلك الأدوية فإنه يجب فعلها لظن الدفع وذلك أمر موجود من النفس.
قوله: وفي المظنون هو لاظن لدفع لاضرر.
إنَّما جعل الوجه ههنا ظن دفع الضرر لادفعه لن دفعه غير مقطوع به مع الظن ومن الجائز ألا يكون ثابتاً في نفس الأمر فلو جعل وجه الوجوب دفع لاضرر لا ظنه لورد أن العلم بالوجوب فرع على العلم بوجه الوجوب، أما حمله كان يعلمه وإن لم يعلم أنَّه وجه القبح أو مفصلاص بأنه يعلمه ويعلم أنَّه وجه القبح ودفع الضرر ههنا غير معلوم لامن جهة الجملة ولامن جهة التفصيل فكيف يتأتى ذلك فجعل الوجه ما هو معلوم وهو الظن فلا يرد السؤال، ودليل أنَّه وجه وجوبه أن من علم ظن دفع الضرر بالعقل علم وجوبه، ومن لم يعلمه لم يعلم وجوبه.
قوله: وهو لاجهل والظن ونحوهما.
أراد بنحوهما الشك لأنَّه عند أبي علي معنى وكذلك كل ما منع من وجودها وإن لم يكن أحد هذه الثلاثة وإنَّما جعلها تروكاً للمعرفة لأنَّه لايمكن الجمع بين واحد منها وبين المعرفة، أما الجهل فواضح، والظن كذلك طابق العلم أو لم يطابق.
ويمكن أن يريد الظن المتعلق بعكس ما تعلق به العلم فقد جعله بعضهم ضداً للعلم.
واعلم أنَّه إذا ثبت أن للمعرفة تروكاً كثيرة لم بتأت على أصل أبي هاشم أن يكون وجه وجوبها قبح تركها لأن عنده أن الواجب إذا كانت له تروك كثيرة أو تركان لم يقبح شيء منها وإنَّما يقبح إذا كان له ترك واحد لايمكنه الانفكاك من الواجب إلاَّ إليه.
قيل ي: ومثاله أن يكون المكلف بين صفحتين من حديد بينهما من الفق ما يتسع لجسمه فقط، وهو قائم مستند الظهر إلى صفيحة أخرى والواجب عليه اللبث هنالك فإنه لايمكنه فعل شيء يشتغل به عن الواجب ويكون تركاً له إلاَّ المشي أمامه لا غير فأما إذا أمكن الانفكاك من الواجب ومنه لم يقبح وهذه حال المعرفة وهذه التروك فإنه يمكن الانفكاك منها وبين كل واحد على انفراده فلا يقبح علىما قاله أبو هاشم ولكن مذهب الجمهور أن كل ترك للواجب اشتغل به عنه فهو قبيح وإن أمكن الانفكاك عنه، وعن الواجب بأن يكون للواجب تروك غيره، وقد روي الخلاف في هذه المسألة على غير هذه الصورة.
فقيل: إن كان الواجب المتروك لايمكن فعله إلاَّ بجارحة كلاكلام فإن تركه وهو السكوت يكون قبيحاص لأنَّه فعل ما لايتم الكلام معه وهو لاسكوت وإن كان يمكن فعل الواجب بجوارح كرد الوديعة فإنه يمكن ردها بجوارح ومن جهات والفعل الي يشتغل به عنها كذلك فههنا وقع الخلاف. فقال أبو هاشم وأبو عبدالله: لايكون شيء مما يشتغل به عن الرد قبيحاً. وقال أبو إسحاق وقاضي القضاة: يقبح هذه التروك جميعها وتكون بمنزلة الترك الواحد هذا مع إجماعهم على استحقاق تارك الواجب للذم به والعقاب على إخلالاه به سواء كان له ترك أو تركان أو تروك وإنَّما الخلاف في الفعل الذي يشتغل به عن أدائه الواجب هل يستحق عليه عقاباً أو لا.
تنبيه
الترك في اللغة: الامتناع من الفعل مع القدرة عليه. وقولنا: مع القدرة عليه زيادة بيان وإلاَّ فإنه لايكون ممتنعاً إلاَّ وهو قادر.
وفي الاصطلاح: الترك ولامتروك شيئان كان يقبح وجود كل منهما بدلا عن الآخر من القادر بقدرة وجد أحدهما واستحال وجود الآخر لأجل وجوده. فقولنا: شيئان جنس الحد يتناول الموجود والمعدوم إذ أحدهما موجود والآخر معدوم. وقولنا: كان يصح لن حال كونهما تركاً ومتروكاً لايصح وجود أحدهما بدلاً من الآخر إذ أحدهما وهو الموجود لايصح وجوده الذي بقي على العدم لايصح أن يكون بدلاص عما قد وجد لفوت وقته ووجود ضده فيه.
قلنا: يصح وجود أحدهما بدلاً من الآخر لأنَّه لو لم يصح ذلك قبل وجودهما لم يكن أحدهما تركاً للآخر ولم يكن استحالة وجود أحدهما لأجل وجود الآخر ولابد من ذلك فقد ثبت إيجاد وقتهما وثبوت التضاد فيهما. وقولنا: من القادر بقدرة. مبني على اصطلاح المتكلمين فمن قواعدهم أنَّه لايطلق اسم الترك والمتروك على مقدور القادر لذاته. وقولنا: وجد أحدهما؛ لأنَّه إذا لم يوجد لم يكن تركاً لأن تسمية الترك يبنى على وجوده وأمر زائد عليه، وهو منعه للمتروك عن الوجود. وقولنا: وامتنع وجود الآخر؛ لأنَّه لو لم يمتنع لم يكن متروكاص بل حاله كما كانت في صحة الوجود قبل وجود الترك.
وقولنا: لأجل وجوده؛ لأن خاصة المتروك أن يمتنع وجوده لأجل وجود غيره، وأن يكون وجود ذلك الغير محيلا لوجوده ذكر هذه الحقيقة الفقيه قاسم. قال: وهي أصح ما يذكر في حدهما.
قوله: (والترك عندي فعل).
اعلم أن مذهب أبي علي أن التروك أفعال وأنه لايمكن القادر بقدرة الخلق عن فعل الشيء وفعل ضده فمن لم يفعل المعرفة فقد فعل ضداً لها وهو المسمى بتركها وأبطله الجمهور بأن أحدنا قد لايريد تصرفات لاناس في الأسواق ولايكرهها فقد خلا عن الشيء قصده.
وأجاب بأنه لم يخل من الضد إلاَّ إلى ثالث وهو الإعراض ونقض عليه بأن الإعراض ليس بمعنى إذ لايوجد من النفس ولادليل عليه، ولما ذهب أبو علي إلى أن الترك فعل وأنه لايمكن الخلو عن الواجب إلاَّ إلى فعل ضده جعل العقاب مستحقاً على فعل الترك للواجب.
وقال الجمهور: يستحق الذم والعقاب على أن لم يفعل الواجب وإذا اشتغل عن الواجب بفعل استحق أيضاً الذم والعقاب عليه فيستحق الذم والعقاب من جهتين وأجازوا ألا يستحق الذم والعقاب إلاَّ من جهة واحدة بأن لايفعل حال امتناعه من الواجب شيئاً وسيأتي تحقيقه.
قوله: (إلا أن عدم فعله للمعرفة إثماً يقبح).
كان الأولى أن يقول: إن عدم فعله للمعرفة إنَّما يكون كالقبيح أو لايوصف الإخلال وعدم الفعل بالقبح لكنه تجوّز.
واعلم أن لأبي علي مذهباص آخر في وجه وجوب المعرفة غير ما ذكره المصنف وهو أن المعرفة وجبت لدفع ضرر العقاب وذهبت المجبرة إلى أن وجه وجوبها ورود الشرع بذلك بناء على أن وجه الوجوب الأمر ولاوجوب من جهة العقل فسيأتي الكلام عليهم إن شاء الله تعالى.
فصل: ومعرفة الله تعالى مما يجب على جميع المكلفين
أي على كل واحد منهم على انفراده فلا يقال هي فرض على الكفاية أو متعينة على البعض دون البعض لأن وجه الوجوب حاصل في كل واحد.
قوله: لأنَّه معها يكون أقرب لامحالة.
هذا الجواب أن يقال الألطاف على ضربين عقلية وشرعية فالعقلية يعتبر في وجوبها ما عند المكلف فما علم على أن له أثراً في فعل الطاعة وبعثاً عليها وجب عليه ولاغيره بما في نفس الأمر، وهذا حال المعارف الإلهية والعلم باستحقاق الثوابوالعقاب فإن كل عاقل يعلم بأنه معها أقرب إلى أداء ما كلف فيجب عليه، وإن كان في باطن المر لاحظ له في ذلك، وأما الألطاف الشرعية فلم تجب علينا إلاَّ لأنها في باطن الأمر تدعونا إلى الطاعة ويكون توقيفاً وعصمة لأنَّه تعالى أمر بها لا لعلمنا أن لها حظاً في ذلك والحكيم تعالى لايأمر إلاَّ بما هذه صفته وإلاَّ كان عبثاً لايحسن الأمر به.
قوله: وبعد ففي علمنا يكفر الجاهل بالله ضرورة من دين النبي وإجماع الأمة إلى آخره. هذا الجواب ذكر ما في معناه ابن متويه.
واعترض كيف يمكن الاحتجاج بالإجماع ونحوه ولايصح كون ذلك حجة إلاَّ بعد العلم بالله تعالى وعدله وصحة الإجماع مترتبة على ذلك وعلى صحة نبوة النبي.
وأجيب بأن توقف ذلك هو على العلم بالله ولم يستدل بذلك على الله تعالى ولاجعلناه طريقاً إلى حصول العلم به وإنَّما استدللنا بذلك على كفر الجاهل وهو يتضمن وجوب المعرفة على كل مكلف فلا دور ولاتوقف.
فائدة
ذكر بعض أصحابنا المتأخرين أن المكلف إذا فعل ما كلف فعله قبل العلم بالله تعالى من عنى قصد التقرب إلى الله تعالى بل أداه على الوجه الذي كلف أداءه عليه فإن كان من التكاليف العقلية فعلاص كرد الوديعة وتركاص كترك الظلم فإنه يستحق على ذلك الثواب إذا فعل الواجب لوجه وجوبه وترك القبيح لقبحه وإن لم يعلم الله تعالى، ولاقصد التقرب إليه بذلك؛ لأنَّه قد أدَّى ما يخلفه على الوجه الذي كلف وعلى هذا يجوز باستحقاق الجاحدين للثواب وإن كان من التكاليف الشرعية فعلاً كأداء الصلاة والزكاة أو تركاص لامتناع من شرب الخمر والزنا فالذي ذكره بعضهم أنَّه لاثواب على ذلك إلاَّ بعد العلم بالله تعالى، وقصد التقرب إليه.
قيل ي: والأصح أنَّه يستحق الثواب مع علمه بالله وإن لم يقصد التقرب به بل فعله أو تركه للوجه الذي كلف، والوجه في ذلك أنَّه أدَّى ما كلف على الوجه الذي كلف به وإن كان الثواب أكثر مع قصد التقرب، وإنَّما اشترطنا في استحقاق الثواب على الشرعيات العلم بالله تعالى وتوحيده وعدله ومعرفة صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنها لاتعلم ولايصح العلم بها إلاَّ بعد العلم بما ذكرنا إلاَّ لغير ذلك.
فصل
قوله: ويلحق بها ما يترتب عليها.
يعني في العلم لنه لايمكن العلم بالمور الَّتِي سيأتي عدها إلاَّ بعد العلم بمكان الله تعالى، وإن كانت ثابتة في نفس الآمر سواء علم أو لم يعلم.
قوله: ونشر الصحف ونحو ذلك.
يعني من المرور على الصراط والوقوف للسؤال في مواقف القيامة وخصائص ذلك اليوم نسأل الله السلامة فيه.
قوله: ونحو معرفة الطبع والختم.
الطبع والختم المذكوران في القرآن عند أصحابنا سمة وعلامة يفعلها الله في قلب العاصي لتعرفه الملائكة فلا يشتغلون بإيراد الخواطر والألطاف عليه وليتميز بها الكافر من المؤمن ففي العلم بهما لطف فهذا أحد تفسيرات الطبع والختم، ولهما تفاسير أخرى وفيهما اختلاف وموضعه أسفار التفسير.
قوله: وسماع القرآن.
أي ويلحق بالمعرفة مما يعد لطفاً وإن لم يكن مما يترتب عليها ولا من المعارف سماع القرآن ويتبع السنن والآثار الواردة بالزجر والتخويف.
قوله: واشباه ذلك.
يعني كسماع الصواعق والعلم بنزول النقمة بأهل المعاصي ونزول الفنا والأمراض وموت الأقارب وبالجملة فلا خاصة لتعيين الألطاف.
فصل
وأقل ما يجوز أن يكلف المرء علماً يعني إذا كملت له شرائط التكليف لأن مع إكمالها له لابد من تكليفه وتبقيته وقتاً يفعل فيه ما كلف أو يتمكن من فعله.
قال أصحابنا: إذ لو لم يكلفه تعالى مع إكمال الشرائط وتبقيته وقتاً يمكنه فيه تأدية ما كلف لكان بمنزلة من يصنع للغير طعاماً فلا يمكنه منه أو يتلفه قبل أن يمكنه منه ثُمَّ اختلفوا في القدر الذي لابد أن يكلفه ويبقيه الوقت الذي يسعه ثُمَّ يجوز احترامه من بعد الاختلاف الذي ذكره المصنف.
قوله: اللطف لايراد لنفسه.
أي ليس يجب لوجه يرجع إليه كرد الوديعة ونحوها بل يجب ليوصل إلى غيره أو يقرب من فعله.
فصل
قوله: والذي قد استقر عليه التكليف مع التبقية.
يعني فأما لو حصلت شرائط التكليف وقدرنا أنَّه لم يبق فليس عليه تكليف بشيء.
قوله: والشرائع.
يحتمل أنَّه أراد بالشرائع مسألة الأسماء والأحكام وما كان من مسائل الوعيد لا يوصل إليه إلاَّ بالسمع كإيصال العقوبة والخلود وكذلك الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ومسائل الإمامة.
ويحتمل أن يريد بالشرائع أصول الأحكام الَّتِي لايعذر أحد عن معرفتها كوجوب الصلاة والزكاة والحج ونحوها.
قوله: من مقدمات.
ولو لحق المقدمات النظار الَّتِي لايتوصل إلى العلوم إلاَّ بها ويحتمل أن يريد بها الأدلة وترتيب مقدماتها واللواحق المسائل المتفرعة عن كل أصل من هذه الأصول والأجوبة عن الأسئلة لاواردة على الأدلة وعن القوادح من السنة وإن كان بعض ما ذكرناه من فروض الكفاية فإنه مكلف به وقد يتعين عليه إذا لم يقم به غيره.
فصل وأول علم بالله تعالى
عند القاضي وأبي الهذيل أن يعرف أن لهذه الحوادث محدثاً لأنَّه يكون قد علمه على الجملة وها هو مذهب أبي عبدالله وابن الملاحمي وتلامذة القاضي منهم السيد الإمام.
قال ابن متويه: وبيان ذلك أنَّه إذا عرفه العالم مفصلاص فقد عرفه محدثاص لهذه الحوادث ومن حق العلم الذي هو جملة أن يطابق علم التفصيل كما أن من حق علم التفصيل أن يطابق علم الجملة.
قوله: وقال أبو هاشم أن يعرف محدثها بصفة من صفاته.
يعني أما أنَّه قادر لذاته أو عالم لذاته أو نحو ذلك.
قوله: بناء منه على أن العلم الجملي لايتعلق .
يعني فإن العلم بأن لها محدثاً علم جملي وإذا لم يتعلق لم يكن علماً بالله إذ لايكون علماً بالله إلاَّ ما تعلق به.
قوله: وقال أبو علي أن يعرف أن لها محدثاً مخالفاً لنا.
قيل: والذي أداه إلى ذلك أنَّه إذا علم أن لها محدثاص على الجملة وهو مع ذلك يجوز أنَّها أ؛دثت نفسها أو أ؛دثها بعضها لم يمكنه مع ذلك العلم بحدوثها أجمع ولا أن يعرف أن لها صانعاً لمكان ذلك التجويز.
وأجيب بأن هذا التجويز لايمنع من كون العلم الول علماًب الله تعالى على وجه الجملة وإذا اعتقد ذلك الجواز فقد جهله على طريق التفصيل.
قوله: وهو كمذهب أبي هاشم لأنَّه إنَّما يعرف أنَّه مخالف لنا إذا عرفه بصفة من صفاته.
يقال: أنَّه يجوز أن يعلمه بصفة من صفاته وإن لم يعلمه مخالفاً لنا فليس في علمه بكونه قادراً أو نحوها ما يقتضي العلم بأنه مخالف لنا إنَّما الذي يقتضي ذلك العلم به على الصفة الأخص ولم يشرط العلم به عليها أبو هاشم.
ويجاب بأنه إذا علم كونه قادراً لذاته أو عالماص لذاته علم أنَّه ليس مثلاً لنا إذ ما كان مثلاً لنا لايجوز أن يكون قادراً للذات ولا عالماً للذات.
واعترض كلام أبي علي بأن العلم بأنه مخالف لنا لايثبت إلاَّ بعد العلم بأنه ليس بجسم والعلم ينفي التجسيم لايحصل لنا مالم يحصل العلم بأنه قادر عالم موجود قديم فإن أراد أبو علي أن العلم بالله لايتعلق حتَّى يحصل هذه العلوم لم يصح فإن عند العلم بأ،ه قادر يتعلق العلم به عند جميع المتكلمين.
وأجيب بأنه ما عنى بقوله مخالف لنا إلاَّ أن العلم لايتعلق بذاته تعالى حتَّى يعلم أن الأجسام لم تحدث أنفسها أو لا أحدثها شيء من الأجسام ....... المتعلق علمنا بها في الحال.
قيل ي: والولى أن مراد أبي علي ما يقتضيه ظاهر قوله وهو أن أول علم بالله عنده أن يعلم أن لها محدثاص وأنها لم تحدث أنفسها ولا أحدثها جسم ولا بصر توقف تعلقه على العلم بنفي الجسمية وفي كلام ابن الملاحمي والمحيط ما يقضي بذلك وأن أبا علي لا يثبت العلم متعلقاص بذات الله تعالى حتَّى يعلم أنَّه لايشبه المحدثات.
قال الفقيه قاسم ما معناه: ومذهب أبي علي وإن كان أنَّه لايعلم الله إلاَّ بعد العلم بنفي التجسيم فهو تقدم الكلام في أن الأجسام لم تحدث نفسها ولايحدثها غيرها مما هو مماثل لها.
فصل
قوله: ومعرفة الله مقدورة لنا لقدرتنا على شبهها وهو النظر.
قد تقدم بيان أن النظر سبب في المعرفة وأن فاعل السبب فاعل المسبب، والفاعل من وجد من جهته بعض ما كان قادراً عليه، فأما قدرتنا على النظر فلما ذكره من وقوعه بحسب قصودنا ودواعينا وذلك دليل واضح على أنا قادرون عليه وسياتي تقريره في مسألة الأفعال.
قوله: ظاهر التهافت.
قال ابن فارس: هو تساقط الشيء شيئاً بعد شيء ومنه تهافت الفراش في النار، وكل شيء انخفض واتضع فقد هفت وانهفت.
قوله: إقرار بالجهات بالله تعالى.
لأن المعارف عنده نظرية لاضرورية يعني فإذا لم تكن المعرفة ضرورية حاصلة من جهته تعالى ولامنا لعدم قدرتنا على شبهها وعليها فقد أقر بالجهل الذي هو الجهل اللغوي وهو عدم العلم بالله تعالى لا الجهل الاصطلاحي إذ ليس يلزم فيمن لم يعلم أن يحصل له اعتقاد جهل فإن اعتقد اعتقاداً مطابقاً فليس يعلم لاعترافه بعدم حصول العلم منا إذ لانقدر عليه ولامنه تعالى إذ لايجيز المعرفة الضرورية.
فإن قيل: إن الرازي إنَّما يمنع عن أن يخلق الله فينا العم ابتداء وعن أن نفعله نحن فأما أن يخلق الله تعالى فينا نظراص يولد العلم فلم يمنع منه فلا يكون كلامه إقراراً بالجهل به تعالى.
قلنا: إذا منع حصول العلم الضروري فهو عام لما حصل فينا لامن قبلنا وسواء كان مبتدأ او مسبباً. واعلم أنَّه إذا منع كون المعارف ضرورية فإنما أراد بالضروري ما يفعله الله ابتداء وحصل فيه حقيقة الضروري ولم يكن حاصلاص بقدرة العبد وإن كانت موجبة عنده والفاعل هو الله في الحقيقة وإذا نفى القدرة على النظر والمعرفة فلعله يريد قدرة الإحداث لاقدرة الاكتساب على قواعدهم في الأفعال ولاكلام أن الرازي على ..... في العلم ومعرفته كان كثير التخبط لايحترز عن المناقضات ولاتقهقر عن المهاوي والمتالف.
قوله: مع أنَّه إنَّما يبطل النظر بالنظر هذا وجه آخر في إبطال قول الرازي وتقريره أن يقال له: هل علمت عدم القدرة على النظر والعلم بالضرورة بغير صحيح إذن لشاركناك في ذلك أو علمت ذلك بالنظر فقد أبطلت ما ذكرت من أن النظر والعلم غير مقدورين لنا.
فصل
قوله: ومعرفة الله تعالى مما يجب على العاقل في كل حال إلاَّ في حال السهو.
فيه سؤال: وهو أن يقال إن كان السهو معنى يوجده الله تعالى في أحدنا يمتنع معه العلم استقام ما ذكره من أن حاله السهو لاتكليف علينا فيها لكن ليس هذا مذهبك وإن كان السهو عدم المعرفة فلا معنى لإسقاط التكليف عنه بالمعرفة حال السهو وهو زوالها لن الواجب عليه تحديدها.
والجواب: أن المراد بالسهو زوال العلوم الضرورية إذ زوال الاستدلالي سهواً وقد صرح به بعض أصحابنا ولا كلام في سقوط تكليفه بتحديد المعرفة مع زوال العلوم الضرورية لأنَّه لايمكنه تحصيلها إلاَّ مع خلق الضرورية له الَّتِي هي علوم العقل.
واعلم أن سقوط تكليف الساهي مما يحكم به العقل ولاخلاف بين الأمة في سقوط تكليف الساهي بمعنى أنَّه لايأثم فيما أخل به أو فعله حال السهو وإن اختلفوا في الضمان.
قوله: للوجه الذي لأجله وجبت في أول أحوال التكليف.
يعني وهو كونها لطفاً إذ لافرق بين الأوقات في ذلك.
قوله: وبالاحتراز من العوارض والأضداد عند من يقول ببقائها.
اعلم أن أضدادها عند من يقوب بقائها كالشيخ أبي هاشم والشيخ أبي عبدالله الجهل والخلاف فيه والسهو عندهما وهو وإن لم يكن مقدوراً فالاحتراز عنه بأن لايفعل ما يقع عنده من شرب المسكر وأكلها والعوارض والظن سواء تعلق بمتعلقها أو بنقيضه فإنه لايجامع العلم، ولهذا قد قيل: بأنه ضد للعلم وإن تعلق بمتعلقه لامتناع اجتماعهما. حكاه الحاكم عن أبي علي وأبي إسحاق وقاضي القضاة، لكن الصَّحيح أنَّه ليس بضد وأن امتناع حصوله مع العلم لمقاربته التجويز الذي لايقارب بجامع العلم ومن العوارض الشك والتوهم والشبه القادحة والسؤالات الواردة على الدليل فكل هذه إذا عرضت للعالم نفت علمه في الغلب.
قوله: ولكن لايعلم أنَّه عالم هذا على الأصح وإن كان أبو القاسم يمنع أن يعلم أحدنا الشيء ولايعلم أنَّه عالم به على ما تقدم.
قوله: إلاَّ بتأمل مستأنف.
يعني وهو بأن يرجع إلى نفسه فيجدها ساكنة إلى المعلوم فيتأمل فيعلم أن السكون لايكون إلاَّ عن علم إذ هو حكم صادر عن العلم لايجوز صدوره عن غيره فإذا تأمل هذا التأمل علم حصول العلم له وإذا عقل لم يعلم حصوله وإن كان حاصلاً.
القول في النظر
هو مشترك بين معان ونحن نقدم مقدمة تشتمل على فوائد خمس:
الأولى: في قسمة الألفاظ وحقائق أقسامها.
الثانية: في ذكر الألفاظ ذوات المعاني.
الثالثة: في حقيقة الحقيقة والمجاز.
الرابعة: في حقيقة النظر.
الخامسة: في تعيين معانيه وحقائقها والشواهد عليها فإنها مقدمة تستدعيها ذكر معاني النظر وكونه مشتركاً ويحتاج إليها هذا الباب وغيره من ابواب الكتاب.
أما الفائدة الأولى:
فالألفاظ على قسمين مهمل ومستعمل فالمهمل مالم يوضع لمعنى ككادث ومادث والمستعمل ينقسم إلى مفيد وغير مفيد وما يجري مجرى المفيد، فالمفيد كل لفظة وضعت لماهية مخصوصة يسبق إلى الفهم تلك الماهية عند إطلاقها كأسماء الأجناس وما وضع لمعان يتردد الفهم بينها وهي اللفظة المشتركة، وما وضع لمعنى أو معان لايفهم منها شيء من ذلك إلاَّ لقرينة وهذا ما كان مجازاً مفرداً أو مشتركاً عند من يجيز الاشتراك فيه وغير المفيد مالم يوضع لماهية يسبق إلى الفهم تلك الماهية عند إطلاق تلك اللفظة كأسماء الأعلام نحو زيد وعمرون فإن زيداص لم يوضع لماهية معينة بل يصح استعماله في الرجل والبعير وغيرهما واللغة بحالها والذي يجريم جرى المفيد شيء فإنه يشبه المفيد من حيث أنَّه يفيد ما يصح العلم به والخبر عنه ويشبه غير المفيد من حيث لم يوضع لماهية مخصوصة.
وأما الفائدة الثانية:
فالألفاظ ذوات المعاني خمسة:
متباينة: وهي الألفاظ المختلفة لفظاص ومعنى كرجل وأسد، وحصان وحجر.
ومترادفة: وهي الألفاظ المختلفة لفظاص المتفقة معنى كخمر وعقار، وكأسد وغضنفر، وكذلك أسمار الريح والسيف ونحوها، وقد منع بعضهم من وقوع الألفاظ المترادفة في اللغة وادعى أن في معاني المترادف تفاوتاً وقد اختلف إذا كانت اللفظة الثانية تفيد ماتفيده الأولى وزيادة كصارم في سيف فقيل لايخرج عن كونها مترادفة، وقيل: بل تصير متباينة.
ومتواطئة: وهي اللفظة الموضوعة لمعان مختلفة من حيث اشتركت في أمر كحيوان فإنه وضع على مسميات مختلفة بالحقائق لكنه وضع لها بإزاء معنى اشتركت فيه وهو كونها أجساماً حية بحياة.
ومشتركة: وهي كل لفظة وضعت لمعنيين مختلفين فصاعداص لامن حيث اشتركا في أمر مع استواء معانيها في السبق إلى الأفهام. وقد منع ثعلب والأبهري وأبو القاسم البلخي وقوعها في اللغة لأنها تخل بالتفاهم وليس بصحيح فإن القرائن تدل على المقصود وتفهمه، وقيل: بل هي واجبة الوقوع لن لامسميات لاتنحصر والكلام من حروف منحصرة فلابد من أن يوضع للمسميات الكثيرة اسم واحد وفيه نظر، فإنه لايمكن انحصار ما يتركب من الحروف وإن كانت منحصرة وفرض ذلك لم يحصل بالاشتراك ما أراد لأن وضع الاسم لمسميين أو أكثر لايفيد شمول ما لاتنحصر من المسميات. وقال ابن الخطيب الرازي: لايقع بين النقيضين، وهو باطل فقد وقع كقرء للطهر والحيض، وشفق للحمرة والبياض، وسدفة للضياء والظلام، وجون للسواءد والبياض، وبهذا أيضاً يبطل قول من منع من الوقوع مطلقاً.
ومشكِّكة: وهي اللفظة المشبهة بالمشتركة والمتواطئة ملتبسة الحال كموجود فإنه يستعمل للقديم والحديث بإزاء أمر اتفقا فيه وهو الوجود، إلاَّ أنَّه في القديم واجب وفي المحدث جائز فشابه المشترك من هذه ...... والأولى عده في المتواطئ إذ لم يطلق عليهما إلاَّ من حيث اتفقا في نفس الوجود.
وأما الفائدة الثالثة:
فالحقيقة اللفظ المستعمل فيما وضع له، والمجاز: اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة ولابد من اشتراط العلاقة كتسمية الرجل الشجاع أسداً لعلاقة بينه وبين الأسد الحقيقي وهي الشجاعة وقد أنكر قوم وقوع المجاز وهو باطل ودليله وروده في اللغة بكثرة كالأسد في الرجل الشجاع والحمار في الرجل البليد والبحر في الرجل الكريم.
وأما الفائدة الرابعة:
فالنظر من الألفاظ المشتركة لوجود حقيقة اللفظة المشتركة فيه فإنها اللفظة الَّتِي متى أطلقت لم يسبق إلى الفهم بعض معانيها دون بعض إلاَّ لقرينة وهكذا النظر، والقرينة في أصل الغة اسم لحبل يدفن طرفاه ويمد وسطه تربط فيه لاحيوانات استعملت في عرف اللغة فيما قرن به غيره من الإبل لأنهم يقرنون لاصعب إلى الذلول ليذلل وحقيقتها في الاصطلاح: المميزة لبعض معاني اللفظة المشتركة من بعض. وتنقسم إلى لفظية ومعنوية.
وأما الفائدة الخامسة:
فتعيين معاني النظر على ما ذكره المصنف وأما حقائقها فأولها نظر العين، وقد قيل ي: وتحقيقه فتح الجفن الصَّحيح الحدقة إلى حيث تقع الرؤية للمرئي أو القصد لرؤيته إذا لم ير.
وأصحابنا يقولون تقليب الحدقة نحو المرئي .... لرؤيته.
قال ابن متويه: ولابد أن يكون الناظر بحيث يصح أن يرى فلو فتح جفنه وقلب حدقته نحو الداخل إلى بيت مظلم بحيث أنَّه لايصح أن يراه لم يكن ذلك نظراص. والشاهد على هذا المعنى قوله تعالى: {وإذا ما ا،زلت سورة نظر بعضهم إلى بعض} ومن الشعر قوله:
نظروا إليك بأعين مزورة ... نظر التيوس إلى شفار الجازر
وحقيقة نظر الرحمة: إرادة حصول منفعة للغير أو دفع مضرة عنه. والشاهد عليه من الكتاب قوله تعالى: {ولاينظر إليهم يوم القيامة}، وقوله عليه الصلاة والسلام: < من جر إزاره بطراً لم ينظر الله إليه يوم القيامة >.
وقول الشاعر:
انظر إليَّ بعين برك نظره ... فالفقر يزري والنعيم يبجل
هذا ما ذكره أصحابنا. وقيل ي: بل المراد ههنا تقليب الحدقة لكن على جهة التجوز.
وحقيقته نظر المقابلة: يحادي ..... بحيث لاساتر ولامايجري مجراه. قيل: ولاحاجة إلى هذا الاحتراز لن مع الساتر أو البعد الذي يجري مجراه لايحاذي. وقيل: بل نظر المقابلة حاصل مع البعد لأن البعد لايمنع إلاَّ من الرؤية فأما من المقابلة فلا، والشاهد عليه ما ذكره المصنف. ومن الشعر:
إذا نظرت إلى جبال أحد ... أفادتني بنظرتها سروراً
فأما الاستشهاد بقوله تعالى: {وتراهم ينظرون إليك وهم لايبصرون} فقيل: أن المراد وتراهم يقلبون أحداقهم إلى جهتك وهم لايرون وليس المراد نظر المقابلة.
وحقيقة نظر الانتظار: التوقع لحصول أمر في المستقبل خيراص كان أو شراص وشاهده من الكتاب ما ذكره المصنف، ومن الشعر:
وجوه يوم بدر ناظرات ... إلى الرحمن ياتي بالخلاص
وغير ذلك من الشواهد على ما سيأتي في مسألة الرؤية.
وحقيقة نظر الفكر وشاهده ما ذكره المصنف وكذلك قوله تعالى: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} ومن الشعر قوله:
انظر بفكرك تستبين ... المنهجا واسماؤه
ما ذكره المصنف، قيل: ومنها بحث وتروى واستدلال، وقد اختلف القائلون بأن الاشتراك في اللغة واقع في هل النظر لفظة مشتركة أو لا، فذهب جمهور العدلية إلى أنَّه مشترك بين هذه المعاني الخمسة المتقدم ذكرها آنفاً لاغير، ولبه قال بعضا لجبرية وبعضهم زاد الرؤية في معانيه، وقال الشيخ أبو عبدالله هو حقيقة في تقليب الحدقة مجاز في سائرها، وقيل: حقيقة في نظر الفكر مجاز في سائرها. وقال بعض الجبرية: حقيقة في الرؤية مجاز في سائرها، وذهب بعض متأخري أصحابنا إلى أنَّه حقيقة في الانتظار والفكر وتقليب الحدقة مشترك بينهما مجاز في الآخرين، والدليل على الأول أنَّه إذا أطلق لفظ النظر لم يسبق إلى فهم السامع بعض هذه المعاني الخمسة دون بعض إلاَّ لقرينة وهذا هو معنى اللفظة المشتركة فأما الرؤية فلا دليل على استعمال النظر فيها ولا شاهد لذلك على الصحيح.
فصل
وهو أي نظر الفكر جنس مستعمل فليس داخلاً في غيره من الأجناس وهذا مذهب جل المعتزلة، وحكى الإمام يحيى عن الشعرية أن النظر تردد في أنحاء العلوم الضرورية.
قال عليه السلام: وزعموا أن حصول العلم عقيبه بمجرى العادة، وحكى عن الفلاسفة أن النظر أسباب معدة لصيرورة النفس الناطقة مستعدة استعداداً ثابتاً لفيضان العلوم وأن حصول تلك العلوم من جهة العقل الفعال والذي حكاه عليه السلام عن أبي الهذيل وأبي الحسين واختاره أنَّه استحضار العلوم الضرورية وأنها هي الموجبة له، وحكاية المصنف تخالف ذلك من بعض الوجوه، فأما قول الإمام أنَّها هي الموجبة له فقد سبق أن العلم لايوجب العلم.
قوله: ويلحق بفعله مشقة.
يعني دون سائر أفعال القلوب والمرجع بذلك إلى الوجدان وقد وجدت المشقة فيه دون غيره.
قوله: ويوجب حالاً.
يعني وهو كون أحدنا ناظراص وذهب أبو علي إلى أنَّه لايوجب صفة وهو أحد قولي أبي هاشم واحتج الجمهور بأنه لو لم يوجب حالاً لم يحتج إلى قلب في فعله إذ مالايوجب حالاً للجملة يصح وجوده في سائر أعضاء الحي وفي الجماد ولأنه لاوجه لتعذر النظر مع سهوه عما ينظر فيه إلاَّ كونه يوجب حالاً كالإرادة فإن تعذر إرادة المسهو عنه لذلك وغير ذلك من حججهم وهي مبسوطة في اللطيف.
قوله: لأن أفعالا لقلوب كلها غير باقية.
هذا هو مذهب الجمهور، ودليل عدم البقاء فيها كلها أن أحدنا يخرج عن الاعتقاد وكذلك النظر والإرادة والكراهة والظن لا إلى ضد ولا ما يجري مجراه، ولو كان شيء منها باقياً لما جاز ذلك فيه مع أدلة خاصة فكل معنى منها مبسوطة في اللطيف.
قوله: وليس ما يتركه مما يشتهى فيلحك بتركه مشقة.
المشقة عبارة عما يلحق الحي بترك ما يشتهيه أو يفعل ما ينفر عنه، وإنَّما قال: ليس ما يتركه مما يشتهى؛ لأن عند أصحابنا أن الشهوة لايصح تعلقها إلاَّ بما يصح إدراكه وأفعال القلوب جميعها غير مدركة بشيء من الحواس، وإن خالف أبو علي في الإرادة وقال بأنها تدرك وجميع ذلك مقرر في مواضعه.
فصل
وشرط وجود النظر أن يكون القادر عليه شاكاً، وقد تقدم ذكر معنى الشك.
قوله: وقال القاضي أن يكون مجوزاً وإن رجح أحد المجوزين.
يعني أن المعتبر التجويز سواء كان شاكاص بأن يستوي المجوَّزان عنده أو ظاناص بأن يرجح أحدهما، فأجازه القاضي مع الشك والظن.
قوله: وكل هذه متقاربة لأن المقلد والمنخب غير قاطعين.
فيه نظر؛ فإن المقلد والمنخب الأغلب أنهما قاطعان أو في حكم القاطع وإن لم تسكن أنفسهما عند التشكيك وتجويزهما لغير ما يعتقد أنَّه تجويز ضعيف لايصير وجهاً لحصة وجود النظر، وقد صرح ابن متويه بإبطال صحة النظر من المعتقد الذي ليس بعالم فإنه قاطع ولم يتعذر النظر من العالم إلاَّ للقطع فكذلك من المعتقد غير العالم.
قوله: وقال أبو عبدالله يصح مع العلم.
اعلم أن حكايته هذه عن أبي عبدالله فيها نظر، والذي حكاه ابن متويه عن أبي عبدالله القول بأن النظر يصح مع القطع على المدلول مالم يكن علماً فعنده إذا اعتقد تقليداً أو منتخباً فالنظر صحيح وإنَّما يمتنع عند علمه بالمدلول، هذا لفظ ابن متويه في الحكاية عن أبي عبدالله، ولعل المصنف توهم ذلك من ظاهر الشبهة الَّتِي حكاها عن أبي عبدالله إلاَّ أن ابن متويه لم يوردها شبهة له وإنَّما أوردها سؤالاً مجملاً، أجاب بما أجاب به المصنف.
قوله: ليعلم أنَّه دليل لا ليعلم المدلول.
هذا الجواب لايتأتى على مذهب الشيخين لأن العلم بالدليل عندهما علم بالمدلول لكن يأتي على القول بأن العلم بالدليل ليس علماً بالمدلول، وهو قول أبي إسحاق وأبي عبدالله وقاضي القضاة، قالوا: وإنَّما العلم بالدليل علم بأنه مما يصح الاستدلال به، فأما أبو هاشم فيكون جوابه عدم التسليم فإنه يمنع لأجل العلم بالمدلول من النظر في الدليل. قال: لولا ذلك والأصح أن ينظر في المشاهدات ونحوها فلما لم يصح دل على أن العلم به يمنع من النظر، وحكي عن أبي علي أنَّه إذا نظر في الدليل فعلم المدلول فلا يصح نظره في دليل آخر ليعلم ولكن ليزداد علماص.
والصحيح أنَّه إذا نظر في الدليل بعد علمه بالمدلول فهو ليعلم أنَّه مما يصح الاستدلال به وأنه طريق للمعرفة وهذا أمر لم يكن قد علمه ولانظر فيه.
تنبيه
أغفل المصنف رحمه الله شرطاً في وجود النظر يذكره أصحابنا وهو حصول البنية المخصوصة ولعله اكتفى باشتراط كونه قادراً عليه لنه لايكون قادراً عليه إلاَّ مع وجود القدرة ولاتوجد القدرة عليه إلاَّ مع البنية الَّتِي يصح وجوده معها فاكتفى بذكر ذلك الشرط، ولكن هذا لايصح على أصله رحمه الله لأنَّه يجعل قدر الجوارح قدراً على أفعال القلوب والعكس، فلو قدرنا أن بعض القادرين لم يكن له قلب ولا ما يقوم مقامه مما يبنى بنيته لكان قادراً على النظر ولايصح منه إيجاده فحينئذ لابد من اشتراط لابنية.
تنبيه آخر
في بيان وجه اشتراط هذه الشروط.
أما الأول فلأن النظر فعل ولايصح إلاَّ من قادر.
وأما الثاني فلما قد تبين وصح من أن القاطع لايصح أن ينظر فمن قطع على صحة شيء أو فساده لم يصح أن ينظر فيه.
وأما اشتراط حصول البنية فلأنه لو لم يكن شرطاص وصح وجوده من دونها لزم صحة أن يفعل النظر في يده أو رجله فيجد النظر من تلك الناحية كما يجده من ناحية صدره ومعلوم خلافه، ووجه آخر يخص النظر الذي يولد العلم وهو أنَّه لايولد إلاَّ في محله إذ لاجهة له فكان يلزم لو وجد من دون بنية القلب أن يوجد العلم في محله ذلك، وقد تقرر أن العلم لايصح وجوده في غير القلب أو ما يكون مبنياص كبنيته.
فصل
والكلام في تماثل النظر واختلافه كالكلام في العلم فيتماثل النظران باتحاد المتعلق والوجه والطريقة والوقت. ودليل تماثلهما اشتراكهما في التعلق على أخص ما يمكن والاشتراك فيه يكشف عن التماثل لأنَّه أخص ما ينبي عن صفة الذات، ويعرف اختلاف النظرين باختلال أحد هذه القيود.
قوله: خلافاً لأبي علي.
اعلم أنَّه يذهب إلى أن النظرين في شيئين يتضادان سواء كان متعلقاهما ضدين أم لا، وإلى هذا ذهب أبو هاشم أولاً ثُمَّ رجع عنه.
قوله: وإن يكون التعلق منعاً يعني كتعلق العلم بشيء والجهل به فإن تعلقهما متعاكصاص فاعلم متعلق به على أنَّه موجود مثلاً والجهل متعلق به على أنَّه ليس بموجود، فأما مع عدم اتحاد المتعلق فلا تضاد.
قوله: وتعاكسه مفقود ههنا.
يعني فإن النظرين إذا تعلقا بمتعلق واحد فتعلقهما غير متعاكس بل تعلق متماثل مثاله النظر في العالم على سبيل الجملة فإن أحد النظرين إذا تعلق به على أنَّه محدث فكذلك لابد أن يكون تعلق الآخر إذا كان نظراً صحيحاً.
فإن قيل: فما قولكم إذا كان أحد النظرين صحيحاً والآخر فاسداً كالنظر في حدوث العالم والنظر في قدمه فإن المتعلق واحد والتعلق متعاكس لن أحدهما تعلق به على أنَّه محدث والآخر على أنَّه قديم، فقد حصل ما شرطتموه من التضاد من اتحاد المتعلق وتعاكسه، وحصل منهما أمارة التضاد من امتناع الاجتماع فهلا منعتم من التضاد في الأنظار الصحيحة لاغير.
فالجواب: أن النظرين اللذين ذكرتهما لايسلم امتناع اجتماعهما فلو اعتقد مثلاص أحدنا قدم العالم وحدوثه صح منه النظر في القدم والحدوث ولأنهما لو كانا ضدين لم يجز أن يحتاج أحدهما إلاَّ إلى ما يحتاج إليه الآخر لأن ذلك من حكم الضدين ومعلوم أن أحدهما يحتاج إلى اعتقاد القدم أو ظنه أو الشك فيه والآخر يحتاج إلى غير ذلك، وهو اعتقاد الحدوث أو ظنه أو الشك فيه.
قوله: واتحاد المتعلق يقتضي التماثل.
يعني إذا لم يكن التعلق متعاكساً.
قوله: فأما النظر في شيئين فلا نسلم لأبي علي امتناعه وإذا لم يثبت له امتناعه لم يستقم له الاستدلال على التضاد.
اعلم أن أبا هاشم لما منع التضاد في الأنظار قال: تارة بجواز النظر في شيئين وقال تارة بمنعه لفقد الدواعي إلى الجمع بينهما كما يمتنع فعل النظر مع كراهته لفقد الداعي لا لتضاد بينه وبين الكراهة فقد جوز ابن متويه رحمه الله أن يكون امتناع ذلك لاعتقاد سابق من الناظر لتضاد النظرين فلا يروم الجمع بينهما فلو رامه لوقع منه كما ينظر أحدنا بنظرين في خبر مخبرين أحدهما قال: إن في الطريق سبعاص، والثاني قال: لاشيء فيها. فإنه في حالة واحدة ينظر فيهما بنظرين.
فصل
والنظر يولد العلم خلافاً لأهل الحيرة القائلين بأن النظر يؤدي إلى الشك والحيرة واللبس، وللقائلين بأن أدلة أهل المذاهب المختلفة متكافئة، وللقائلين بأن الإسلام لم يرد إلاَّ بالسيف وإن النظر بدعة.
قيل: وأهل هذه المذاهب الثلاثة يقرب أن مذهبهم واحد وإن اختلفوا في التلعيل ويجمعهم القول بان النظر قبيح غير واجب. قال ابن متويه: فأما من يعتقد أن النظر يوقعه في حيرة وشبهة مع أن موضوعه في بديهة العقول أن تنكشف به للمرء الأمور الملتبسة فقد دفع ما يقتضيه عقله وأنبأ عن نقيصته وجهله فلا وجه للاشتغال بكلامه.
قوله: والنظر ليس بأن يدعو إلى اعتقاد المدلول على صفة أولى من غيرها.
يعني وإنَّما الناظر مستكشف بالنظر عن حال ما ينظر فيه ومما تبين له أنَّه ليس بداع أن الداعي اعتقاد المرء أو علمه أو ظنه أن له في الشيء جلب نفع أو دفع ضرر وليس هذا حال النظر.
قوله: ولايرد بذكر النظر.
يعني فيقال: قد جعلتموه داعياص مع أنَّه ليس بأن يدعو إلى شيء أولى من غيره.
قوله: حق الشرط المقاربة.
يعني والنظر متقدم على العلم فلا يجعل شرطاً فيه لأنَّه لاتأثير للشرط إلاَّ إذا قارب لا ما تقدم أو تأخر وذلك ظاهر بيّن.
قوله: كان يجوز اختلاف العادة فيه كالحفظ.
يعني فإن أحدنا قد يدرس فلا يحفظ أو لايحفظ إلاَّ بدرس كثير والآخر قد يحفظ من أول وهلة لما كان حصول العلم عنده بالعادة بخلاف النظر فإن الناظرين إذا نظرا على الوجه الصَّحيح واستحضرا مقدمات النظر على سواء ولّد نظرهما في الوقت الثاني.
قوله: فمن حيث يتمكن من استحضار المقدمات.
مثال ما ذكره أن ينظر ناظران في إثبات الصانع فاهتدى أحدهما أولاً إلى النظر في ثبوت الأعراض ثُمَّ في حدوثها ثُمَّ في استحالة انفكاك الجسم عنها ثُمَّ عرف حدوث الأجسام ثُمَّ نظر في أن المحدث لابد له من محدث ثُمَّ عرف حينئذ أن للعالم صانعاً فحصل له العلم في وقت يسير والآخر لم يهتد إلى ترتيب المقدمات على الفور وعرضت له مع ذلك وجوه اللبس ووردت عليه أنواع الشبه، فتأخر حصول العلم له عن حصوله للأول.
قوله: فمن حيث نظر على الوجه الصَّحيح.
مثاله أن ينظر ناظران في العالم فينظر أحدهما فيه على أنَّه محدث فيحصل له العلم بالصانع لكونه على الوجه الصحيح، والآخر اعتقد قدمه فنظر فلم يحصل له العلم لما نظر على الوجه الفاسد.
قوله: لضروب من اللبس تعرض.
اعلم أن وجوه اللبس كثيرة فقد يلتبس المدرك للمجاورة كما إذا وضع الزعفران في اللين فاعتقد المدرك له أنَّه أصفر وكمن يرى السراب مع ماصة من الصقالة واللمع فيلتبس عليه بالماء كذلك إلتباس العنبة بالأجاصة ونحو ذلك من الغلط في المناظر.
قوله: وكذلك الحساب.
يعني فقد يحتسب شخصان فيدعي كل واحد منهما في الحساب خلاف ما يدعيه الآخر ويعتقد كل واحد منهما أنَّه المصيب ثُمَّ ينكشف لأحدهما أن المصيب الآخر وقد يتبين انهما معاص مخطئان ولم يقتض ذلك أن الحساب غير موصل إلى العلم وكذلك الإدراك لايدل الإختلاف بين المدركين على أنَّه ليس بطريق إلى العلم.
قوله: وفي هذا خروجها عن كونها أدلة فضلاص عن كونها متكافئة.
يعني فلم سميتموها أدلة ووصفتموها بذلك مع أن الدليل ما أوصل إلى العلم.
قوله: وأما أن يوصل بعضها إلى العلم دون البعض. في النسخة الَّتِي بخط المصنف: وإما أن يوصل بعضها إلى البعض. لكن لايشتبه الحال في انه إلى العلم، وأن ذلك من سهو القلم.
قوله: فكلها يتضمن الحث على النظر والتفكر يعني كقوله تعالى: {أفلا ينظروا في ملكوت السموات والأرض} ونحو ذلك من الآيات الشريفة الواردة في هذا المعنى، وكقوله صلى الله عليه وآله وسلم : < من أخذ دينه عن التفكر في آلاء الله ..> الخبر، وفي دعوى الإجماع مع استقرار خلاف هؤلاء الخصوم نظر، ولعله أراد إجماع من قبلهم.
قوله: والمطالبة بالبراهين.
كقوله تعالى {قل هاتوا برهانكم} وقد ورد في القرآن الكريم المحاجة والمجادلة لأرباب الكفر، قال الحاكم: ألا ترى كيف جادلهم في البعث بقوله تعالى: {فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة} ونحوه، ثُمَّ حاجهم في الإرادة بقوله تعالى: {سيقول الذين أشركوا} الآية، وحاجهم في الرؤية: {يسألك أهل الكتاب} الآية، وحاجهم في النبوة بقوله تعالى: {وإن كنتم في ريب ما نزلنا على عبدنا} الآية، وحاجهم في النسخ بقوله تعالى: {ماننسخ من آية أو ننسها} الآيةن وحاجهم في اللطف بقوله: {ولو بسط الله الرزق} الآية.
وروى الحاكم عنه صلى الله عليه وآله وسلم: < إن لله عباداً هم الخصماء للصادين عن الله يخاصمونهم بحجة الله هم قادة الحق والدعاة إلى الله ولاذابون عن حرمه والقائمون بأمره أئمة الهدى ومصابيح الدجى> الخبر بطوله.
وروى عنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: < إن لله عباداً من أمتي قوامين بحجة الله داعين إلى الله وإلى نفي التشبيه ونفي الظلم> الخبر.
قال رحمه الله: وكلامات الصحابة وخوضهم في ها الفن كثير.
فإن عائشة أنكرت قول من أثبت الرؤية واحتجبت بالآية المعروفة وخطاب علي عليه السلام من سمعه يحلف بالذي احتجب بسبع سموات، وسياتي ذكره.
قوله: إن قام بها فالكلام كما تقدم.
يعني من أن فيها الحث على النظر والتفكر ولابد من أن يعمل بما فيها مع القول بها.
قوله: وإن لم يقل بها فليس بإمام.
يعني إن لم يقل بها بأن لايعمل بما فيها ولايعترف بأنها حجة ولايقبل ما وردت به بل أنكرها ورفضها فليس بإمام بل كافر لامحالة، وأيضاص فطريق الإمام السمع فإذا لم يقل به فما الطريق إلى أنَّه إمام.
قوله: والمنكرين للقيامة والبعث إلى آخره.
اعلم أن من أبلغ الآيات الواردة في الرد على منكري الحشر والمعاد، قوله تعالى: {أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين} إلى آخر السورة. قال الإمام المؤيد برب العزة يحيى بن حمزة: فالله تعالى حكى في هذه الآية إنكار المنكرين للإعادة وقدر وجه شبههم وأجاب عن كل واحدة منها بوجه يخصه، وهي ثلاث:
الأولى: قولهم أن العظام الَّتِي صارت رميمة كيف يمكن أن تصير حية، وهو المراد بقوله تعالى: {قال من يحيي العظام وهي رميم} ثُمَّ لما حكى شبهتهم أجاب عنها: {قل يحييها الذي أنشأها اول مرة وهو بكل خلق عليم}، وهذا هو الذي عليه تعويلا لمتكلمين من أن افعادة مثل الإيجاد ابتداء وحكم الشيء حكم مثله، فلما كان قادراًع لى ذلك الإيجاد كان قادراً على الإعادة.
الثانية: لنفاة الحشر وهي أن العظام والأبدان إذا صارت رميمة اختلطت الأجزاء بعضها ببعض فحينئذ لايمكن تميز أجزاء بدن عن بدن. وأجاب عنها بقوله: {وهو بكل خلق عليم} وهو أن الله تعالى لما كان عالماً بكل المعلومات أمكنه تمييز أجزاء كل بدن لكل حيوان عن أجزاء بدن غيره وأن ذلك إنَّما يتعذر على من لم يكن عالماً بكل المعلومات.
الثالثة: لمنكري المعاد وهي مشهورة وهي أن القول بالقيامة على ما جاءت به الأنبياء ونطقت به الشريعة محال لأن ذلك يتضمن إعدام هذا العالم الذي نحن فيه وإيجاد عالم آخر وذلك باطل لأصول كثيرة مقررة في كتبهم، وأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بإلزام المنكرين كونه خالقاً لهذه السموات والأرض ومتى سلم للخصم ذلك لزمه كونه سبحانه قادراص على إعدامها لأن ما صح عليه العدم في وقت صح عليه العدم في كل الوقات ويلزمه أيضاً تسليم كونه قادراً على إيجاد عالم آخر لن القادر على الشيء يكون قادراً على مثله لامحالة فظهر بما أشرنا إليه أنَّه سبحانه جمع في هذه الآيات بين الدليل على إثبات المعاد وبين إيراد شبههم ثُمَّ سرد الجواب عليهم على أبلغ شيء وأحسنه.
قال عليه السلام: فأما الآيات الدالة على إثبات الصانع والنبوة والرد على منكريهما فأكثر من أن تحصى وإذا كان كذلك فكيف يمكن أن يقال أن الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة كانوا منكرين للخوض في هذه الأدلة لن الله تعالى أمر نبيه بالجدل في قوله: {وجادلهم بالتي هي أحسن} وإذا ثبت هذا تقرر أن النَّهي عن الخوض في الكلام في المعقولات ما كان مطلقاً، وإنَّما ورد عن تكثير الشبه وإيراد الضلالات وهذا مما لانزاع فيه.
نكتة
ذكر في السيرة النبوية أن سبب نزول هذه الآيات الشريفة الَّتِي منها: {وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه} أن أبي بن خلف مشى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعظم بالٍ قد رفت فقال: يامحمد أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعدما أرى ثُمَّ فته بيده ثُمَّ نفخه بالريح نحو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: نعم أنا أقول ذلك يبعثه الله وإياك بعدما تكون هكذا ثُمَّ يدخلك النار، ونزلت الآيات بعد ذلك.
قوله: أو تجويزاً للتقليد ونحو ذلك مما يصرف عن النظر.
اعلم أن الأسباب الصارفة عن الخوض في هذا أن العلم والتشاغل بالنظر والتفكر كثيرة وقد ذكرها الحاكم، فمنها: ما ذكره المصنف من إيثار الدعة واللذة والتشاغل باللذات. قال الحاكم: وهذه عادة كثير من الناس وذلك مما لايخفى فساده لن صلاح أمر الدنيا لايحصل مع تلك الآفات فكيف الثواب، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: < حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات>.
ومنها: التقليد وقد ذكره المصنف.
واعلم أن التقليد الذي يصرف عن النظر والتفكر والبحث والتأمل والعلاج السديد في إدراك الحق ووجدانه على ضربين، أحدهما: تقليد الآباء والنشو على مذهبهم وموافقة أهل بلده وجهته. قال الحاكم: لأنَّه إذا اعتاد ذلك واستمر عليه يتعذر عليه مفارقته ولهذا قالوا: {إنا وجدنا آباءنا على أمة}.
وثانيهما: أن يشاهد أكثر الناس على مذهب فيعتقد أنَّه الحق لذهاب الأكثر إليه فيستكفي بذلك عن النظر المستلزم للمشقة ولاينظر إلى قوله تعالى: {بل أكثرهم لايعلمون} {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك} {وقليل من عبادي الشكور}، وقول أمير المؤمنين عليه السلام: < الحق لايعرف بالرجال > الخبر.
ومنها: أن النظر في الأدلة والخوض في ذلك قد يؤدي إلى زندقة وفساد في الدين فيجعل ذلك سبباً للامتناع عنه. قال الحاكم على ما يعتقده بعض المتفقهة وهو غلط فأحسن لأنَّه لو كان كذلك لكان الله تعالى لايدعو عباده إلى النظر.
ومنها: أن يكون له رئاسة أو يؤمل ذلك وخاف فوته إن تشاغل بالنظر وخاض في الكلام فيعدل عنه إلى غيره من العلوم والآداب. قال الحاكم: وهذه آفة اكثر المتفقهة لأنهم يؤملوا نيل رئاسة يخافون فوتها إن خاضوا في الكلام ولذلك ترى كثيراص منهم يعدل عنه مع البصيرة بأنه واجب حتَّى يتعلم سرا أو يظهر خلافه جهراً وما عليه أصحاب الحديث من أنهم لو خاضوا في علم الكلام لفارقوا طريقة السلف، ولذلك تراهم يحتجون بقول فلان وفلان ويعدلون عن الحجج.
قوله: ويصير به قدوة وإن كان باطلاً.
روي عن الأشعري أنَّه قال: أحب إليَّ أن أكون رأساً في الباطل ولا أكون ذنباً في الحق. أو كما قال.
فصل
إذا ثبت أن النظر يولد العلم فهو لايولد غيره. وقال القاضي وغيره: إن النظر في الأمارات يولد الظن هذه رواية المصنف عن القاضي، وروى ابن الملاحمي عنه في الفائق أن النظر في الأمارات لايولد الظن وإنَّما يختاره الناظر عنده كقول الجمهور.
قال ابن متويه رحمه الله: النظر في الأمارات إنَّما يختار عنده غالب الظن سواء كان نظرا في أمور الدين أو مصالح الدنيا والآراء في الحروب وغير ذلك فلا يولد النظر الظن وإنَّما يذكر المرء به الأمارة الَّتِي قد ذهل عنها حتَّى لو كان ذاكرا لها لم يحتج إلى النظر فصار للنظر في الأمارة حظان أحدهما ذكرها إذا كان ذاهلاً عنها، وثانيهما أن يعرفها أمارة إذا كان قد عرف ذاتها، وعلى كل حال فتوليده للظن محال لأنا نجد العارفين بالأمارة الواحدة ووجه كونها أمارة يختلف حالهما عند النظر فيها في حصول غالب الظن ولو كان سبباً لم يجز أن يختلف انتهى.
قوله: (وإن النظر في المقدمات المعتقدة المطابقة إلى آخره).
مثاله: أن يعتقد أحدنا أن العالم محدث وأن المحدث لابد له من محدث تقليدا لاعن يقين ثُمَّ ننظر في هاتين المقدمتين فإن القاضي يذهب إلى أنَّه يولد له اعتقاداً بأن لها محدثاً ويكون مطابقاً غير علم أيضا.
وقال الجمهور: بل يدعوه نظره في المقدمتين إلى فعل اعتقاد لا أن ثُمَّ توليداً.
قوله: (لنا أنا نعلم حسن جميع النظار).
وفي الإطلاق نظر لأن الخلاف فيه كالخلاف في العلم وقد قال الحاكم: فأما النظر فيجوز أن يقبح إذا لم يكن فيه نفع فيكون عبثاً أو ينظر فيا لدليل ليقف عليه ويطعن فيه، وبالجملة فالخلاف في قبحه والنزاع في ذلك كما تقدم في العلم.
واعلم أنَّه إذا جعل الأنظار حسنة فالمراد النظار على الوجوه الصحيحة وما في ..... أو الأمارات الصحيحة، فأما النظار على الوجوه الفاسدة فلا.
قوله: (ومعلوم أن فيها ما هو قبيح).
يعني الاعتقادات الَّتِي ليست بعلوم والظنون، أما الاعتقادات فالقبيح منها ما كان معتقده لا على ما تناوله ولا كلام فيه وظاهر كلام أصحابنا أنَّه لايحسن اٌدام على شيء منها سواء كانت مطابقة أم لا. قالوا: لأنها لاتخلو إما أن يكون معتقدها لا على ما تناولته فهي جهالات وكل جهل قبيح ولايجوز الإقدام على القبيح وإما أن تكون مطابقة فهو لايأمن كونها جهالات والأقدام على ما لايؤمن كونه جهلاً في القبح كالإقدام على الجهل.
قوله: (لأن قبح المسبب يقتضي قبح السبب).
الوجه في ذلك إنَّما أدَّى إلى القبيح فهو قبيح لامحالة ولا أبلغ من تأدية السبب فإنه موجب، وقد ذكر المصنف في المتولدات أن المسبب إذا كان كثيراً فسببه كثير.
فإن قيل: قد يكون المسبب قبيحاً والسبب حسن كمن يرمي ويقصد برميه كافراً فيصيب مسلماً فالإصابة الَّتِي هي المسبب قبيحة والرمي الذي هو السبب حسن.
قلنا: أما على مذهب الشيخين فعندهما أن هذا يجري مجرى فعل الساهي وفعل الساهي عندهما غير قبيح لأنهما يشترطان القصد، وإما على مذهب الجمهور فيقولون أن المسبب القبيح متى خطر ببال الفاعل صار السبب أيضاً قبيحاً فلو أن الرامي خطر له هذا الخاطر لقبح منه الرمي ولما لم يخطر له بل كان غالب ظنه أنه يصيب الكاف ردون غيره لم يقبح.
قوله: (فأما العلم الحاصل عند النظر في تبين مراد الغير فهو ضروري بالعادة لما بين توليد النظر للعلم وأنه لايولد غيره من جهل ولاظن ولاغيرهما).
أراد أن يبين أن من النظار ما يحصل عنده العلم وليس بمولد له وهو النظر في تبين مراد الغير بكلامه فلا يتوهم أنَّه إذا تكلم ونظر أحدنا وفكر في مراده علم مراده أن العلم متولد عن نظره فإنه ضروري بالعادة ودليل كونه ضروريا حصول علامة الضروري فيه من عدم انتفائه بالشك والشبهة ودليل كونه بالعادة أن أحدنا قد ينظر في تبين مراد الغير فيعلمه وقد لايعلمه ولو كان متولداً عنه لتولد عنه على سبيل الاستمرار ألا ترى أن النظر في الدلالة لما كان مولدا للعلم إذا وقع على الوجه الصَّحيح ولده على سبيل الاستمرار وقد ذكر ابن متويه رحمه الله في تذكرته كون هذا العلم ليس عن هذا النظر.
ويمكن أن يقال أن هذا من المصنف جواب عن سؤال يقدر تقريره أن النظر في تبين مراد الغير بكلامه بعد سماعه يحصل عنه العلم ويولده مع أن كلامه غير دليل على مراده لانتفاء الحكمة إذ لايقطع بأنه أظهر ما في نفسه ولم يلتبس إلاَّ إذا كان معصوما ولكن كلامه أمارة فقد بان أن النظر في الأمارة يولد العلم وإذا كان كذلك فأولى أن يولد النظر فيها الظن ويكون تقرير الجواب أن هذا العلم غير متولد عن النظر في كلامه فلا يلزمنا ما قلتم وإنَّما هو ضروري.
قوله: (لأنَّه لاتعلق للشبهة).
يعني مع أنَّه لامولد النظر في شيء العلم بغيره ولأنه اعتقاد إلاَّ إذا كان بين ما تعلق به النظر وبين ما ولد العلم به أو الاعتقاد تعلق وإلاَّ لم يكن بأن تولد العلم به أو الاعتقاد أولى من غيره ولاتعلق بين الشبهة وما ولد النظر فيها الجهل به إذ لو كان لها تعلق كانت دليلاً ولم تكن شبهة وسيأتي بيان التعلقات المذكورة بين الدليل والمدلول، ووجه اشتراطها إن شاء الله تعالى.
قوله: (بأن لايكون عالماً بوجه دلالته).
مثاله من نظر في العالم من حيث وجوده من دون أن ينظر في وجه دلالته وهي الحدوث.
قوله: (فأولى في النظر في الشبهة).
يعني لأن الدليل إذا كان حيث نظر فيه ولم ينظر في وجه دلالته لايولد العلم مع أن التعلق بينه وبين المدلول ثابت ونفس الأمر فأولى في الشبهة إذ لاتعلق لها معلوم ولاثابت في نفس الأمر ولاوجه دلالة.
قوله: (من الوجه الذي كانت له شبهة أن يولد الجهل لنا).
مثاله: إذا نظرنا في شبهة المجبرة وقولهم قد ثبت أن اللون والجسم اشتركا في صحة الرؤية لهما فلابد من أمر يشتركان فيه لجله اشتركا في صحة الرؤية وليس إلاَّ الوجود فيلزم مثله في حقه تعالى فمن المعلوم أنا إذا نظرنا فيها لم يولد لنا اعتقاد أنَّه تعالى يرى.
واعلم أن هذا وجه أبرزه الشيخ أبو عبدالله للشيخ أبي علي بن خلاد فارتضاه وقرره وعليه سؤالات واردة متعددة مبسوطة في التذكرة ولاحاجة إلى تعديدها إذ هي غير قادحة بل مدفوعة وإنَّما لزم ما ذكره رحمه الله لأن من حق السبب ألا يختلف توليده بحسب اختلاف الفاعلين له.
فإن قيل: فيلزمكم إذا نظر الخصم في دليلكم على الوجه الذي يدل أن يحصل له العلم متولدا عن ذلك النظر.
قلنا: إذا نظر بعين الإنصاف ولم يكابر حكم عقله ولّد ذلك النظر له العلم ونحن نلتزمه ولا نأباه.
قوله: (وقربت من هذا الكلام في الظن).
يعني في أنَّه كان يلزم فيمن نظر في الأمارة الَّتِي حصل بالنظر فيها الظن لواحد معين أن يحصل له الظن إذا كان ذلك على سبيل التوليد لأن الأسباب لايختلف توليدها على ما تقدم آنفاً، ومعلوم أنَّه قد يحصل الظن لناظر في أمارة ولايحصل لآخر دليله المسائل الاجتهادية ونحوها، فدل على أن حصول الظن بدعاء الداعي وإنَّما جعله قريبا من الأول ولم يجعله مثله لن الحال في المارة أخفى من الشبهة فقلّ من ينظر في الأمارة الصحيحة فلا يحصل له الظن بخلاف الشبهة فإن الذي ذكر فيها في غاية التجلي والله أعلم.
فصل
وإنَّما يولد العلم إذا وقع في دليل أو طريقة نظر.
قوله: (أن ينظر في ذات فيحصل له العلم بذات أخرى).
يعني كأن ينظر في العالم فيحصل له العلم بالصانع وإن كان النظر في الحقيقة هو في الحدوث على ما سيأتي ففيه نظر.
قوله: (أو في صفة لذات فيحصل له العلم بصفة لذات أخرى).
مثاله: النظر في كوننا قادرين عند صحة الفعل فإنه يحصل عنه العلم بكونه تعالى قادراً.
قوله: (أن ينظر في صفة ذات فيحصل له العلم بصفة أخرى لتلك الذات).
مثاله: النظر في كونه تعالى قادراً فإنه يولد العلم بكونه حياً.
وعقد الأول: أن يقول الدليل ما أمكن بالنظر فيه أو في صفته أو حكمه التوصل إلى العلم بغيره أو بصفة أو حكم لغيره وقد شمل هذا العقد النظر في حكم لذات فيوصل إلى العلم بذات أو حكم أو صفة لذات أخرى، والنظر في ذات فيوصل إلى العلم بصفة أو حكم لذات.
وعقد الثاني: هو ما كان النظر فيه لايفضي إلى العلم بغير المنظور فيه بل إلى العلم به إما على حال أو حكم وقد دخل فيه النظر في حكم لذات ليتوصل به إلى العلم بحكم لها أو صفة، والنظر في صفة لها ليتوصل به إلى العلم بحكم وإنَّما حصر توليد النظر للعلم على تعلقه بدليل أو طريقة نظر لنه لايمكن النظر في غيرهما إذ لايخرج النظر عن تعلقه بذات أو بذات على صفة أو بذات على حكم.
فصل
وشروط توليده للعلم أن يكون الناظر عاقلاً قد تقدم الكلام على شروط وجوده وهذا هو الكلام في شروط توليده للعلم فأما وجوده فلا يتوقف على هذه الشروط وقد تقدم بيان معنى العقل وأما وجه اشتراطه في توليد النظر للعلم فما علمناه من أن الصبيان والمجانين وإن وجد النظر من جهتهم فإنه لايولد العلم ولاوجه لذلك إلاَّ اختلال هذا الشرط في حقهم وهو العقل.
وفيه سؤال: وهو أن يقال إنَّما لم يولد نظرهم العلم لن من حق الناظر أن يعلم الدليل ووجه دلالته وذلك لايتأتى منهم فلاختلال غير العقل من الشروط لم يولد نظرهم العلم لعدم العقل.
ويمكن الجواب من وجهين أحدهما: أن العلم بالدليل ووجه دلالته إذا كان ضرورياً صح حصوله لهم فكان يلزم إذا نظروا مع حصول العلم بالدليل ووجه دلالته أن يولد نظرهم العلم ومعلوم خلافه.
الوجه الثاني: أنَّه إذا تعذر توليد نظرهم العلم لعدم علمهم الإستدلالي بالدليل ووجه دلالته فإنما عدموا العلم بذلك وتعذر التوصل عليهم إليه بالاستدلال لعدم العقل فيكون عدم توليد نظرهم العلم لاختلال العقل، وإن كان بواسطة تعذر العلم بالدليل ووجه دلالته.
قوله: (وأن يكون عالماً بالدليل).
ووجه اشتراطه ما تقدم من أن اعتقاده الذي ليس بعلم لايكفي في توليد النظر، وأنه لايتولد عنه اعتقاد ليس بعلم فضلاً عن أن يولد العلم.
قوله: (لأن ذلك يتأخر عن العلم المتأخر عن النظر).
أي علمه بأن الذي نظر فيه دليل يتأخر عن علمه بالمدلول وذلك لأن الدليل ما يوصل صحيح النظر فيه إلى العلم ولايعلم أنَّه دليل يوصل النظر فيه إلى العلم بالمدلول إلاَّ عقيب العلم بالمدلول الحاصل عن النظر فيه فإذا علم المدلول علم أنَّه دليل لحصول حقيقة الدليل فيه وهو إيصال النظر فيه إلى العلم.
قوله: (وأن يكون عالما بوجه دلالة الدليل).
وجه اشتراطه أن وجه الدلالة هو التعلق بين الدليل والمدلول والرابط بينهما فلو لم يعلمه الانظر لم يعلم العلاقة بين الدليل والمدلول ولا الرابط بينهما فلم يكن نظره بأن يولد العلم أولى من ألاَّ يولده وقد أوضحه في متن الكتاب.
قوله: (لما جهلوا وجه دلالته وهو صدوره عن عدل حكيم).
إنَّما كان وجه دلالته صدوره عن عدل حكيم لنا مالم نقطع على عدله تعالى لم نقطع على عدم وقوع الكذب ومالم نقطع على عدم وقوع الكذب لم نعلم صدق ما فيه من الأخبار وكذلك فمع عدم العلم بالعدل لايأمن أن يأمر بالقبيح وينهى عن الواجب، فلا يقع لنا العلم بأن ما أمر به واجب أو مندوب وأن ما نهى عنه قبيح أو مكروه إلاَّ أنهم يجعلون الوجوب والقبح لأجل الأمر والنَّهي فلا يرد عليهم هذا وإنَّما يتوجه على قاعدة أهل العدل وتفصيل الكلام في ذلك مختص بباب العدل.
فصل
قوله: (والنظر في الفرع يتوقف في توليده للعلم على النظر في الأصل وتوليده للعلم إذا كان الأصل نظرنا).
اعلم أن قوله يتوقف في توليده للعلم احتراز من إمكانه في نفسه فإنه يمكن حصول النظر في الفرع وإن لم يكن قد نظر في الأصل ولا ولد نظره فيه العلم إذا كان نظريا بأن يعتقده اعتقادا غير علم لكنه إذا اعتقده كذلك لم يولد نظره في الفرع العلم لأنَّه لايجوز العلم بالفرع إلاَّ مع العلم بالأصل ولايكفي اعتقاده مالم يكن علماً وإن أمكن حصول النظر في الفرع لمجرد اعتقاد الأصل فتبين أن هذا الشرط شرط في توليده للعلم لا في حصوله فهو ممكن من دون هذا الشرط.
وقوله: (إذا كان الأصل نظرياً).
احتراز عن أن يكون العلم بالأصل ضروريا فإن النظر في الدليل الموصل إلى العلم بالفرع حينئذ لايتوقف على نظر في دليل موصل إلى العلم بالأصل فإن الأصل لايحتاج إلى نظر في العلم به بل لايتأتى النظر فيه إذ هو معلوم ومعنى كون النظر في الأصل أصلاً أنَّه يجب تقدمه على النظر في الفرع وقد منع أبو هاشم من ترتب بعض الأنظار على بعض، وقال بأنه يصح الابتداء بأي نظر شاء إلاَّ أنَّه وإن صح الابتداء به فلا يولد العلم ولم يجعل المتوقف إلاَّ ما يولد العلم والله أعلم.
فصل
قوله: (وإذا نظر أحدنا فعلم ثُمَّ طرت شبهة فزال العلم فإنه إذا حل لاشبهة لم يحتج إلى تجديد النظر بل يكفي تذكره كالنائم لاستوائهما في زوال العلم).
اعلم أنَّه لافرق بين أن يحل الشبهة أو يحلها غيره أو يهملها فلا يعتبرها فلا تدعوه إلى فعل الجهل، وقد أجاز ابن متويه عند زوال الشبهة أن يحصل له العلم بالتذكر وبالنظر المستأنف إلاَّ أنَّه رجح ما اختاره المصنف من حصوله بالتذكر وحكاه الحاكم عن أبي رشيد وحكى عن أبي هاشم والقاضي وهو الذي صححه القول بأنه يجب استئناف النظر ليحصل العلم، واحتج بأن الشبهة لإزالتها العلم بالدليل أو بالوجه في دلالته قد أزالت العلم بالمدلول، وبزوال الشبهة لايعود العلم فوجه أن يستأنف النظر حتَّى يحصل عالماً لكن هذا النظر لايطول لما تقدم من الممارسة والاختبار والصحيح أنَّه لافرق بين هذا وبين النائم ولم يوجب الخصم بزوال الشبهة عود العلم بل قال: إذا تذكر النظر فعل العلم ولامانع من ذلك.
فصل
قوله: (إذا نظر أحدنا فعلم المدلول ثُمَّ سهى عن الدليل ووجه دلالته فهل يستمر كونه عالما أو لا؟).
اعلم أولاً أنَّه لافرق بين أن يسهو عن الدليل ووجه دلالته وبين أن يسهو عن وجه الدلالة فقط فسهوه عن وجه الدلالة كافٍ ولايفيد علمه بنفس الدليل.
قوله: (يتذكر النظر فيفعل العلم حالاً فحالاً).
أي يتذكر أنَّه قد كان نظر واستدل من قبل وإن لم يعلم الدليل الذي نظر فيه فذكره على سبيل الجملة أنَّه قد كان نظر كافٍ.
قوله: فقال أبو علي بنفي المكتسب إذا منع صاحبه من فعل ضده.
اعلم أن أبا علي يقول بوجوب تجديد المكتسب حالاً فحالاً وعدم بقائه لقوله بأنه لايجوز الخلو من الأخذ والترك ولكن إذا مثنِع من فعل ضد العلم الذي هو الجهل فقد صار ممنوعاً من تجديد العلم لأن المنع عن الشيء عنده منع عن ضده، ويجوز عنده حينئذ خلو القادر عن الأخذ والترك لأجل المنع وإذا كان ممنوعا من فعل العلم استمر عليه وبقي لأنَّه لامانع من بقائه حينئذ ويجب بقاؤه عنده لأن المحل لايخلو مما يحتمله أو من ضده على ما يذهب إليه وهو مما يبقى في جنسه عنده ومما يحتمله المحل الذي هو القلب هو وضده فلا يخلو منه أو من ضده وهو ممنوع من فعل ضده فيبقى هو بنفسه.
قوله: ولأنه متى شك في الدليل ووجه دلالته.
مثال شكه في الدليل أن يشك في صحة الفعل من القادر فإنه يزول علمه بكونه قادرا لما شك في الدليل، وهو صحة الفعل.
ومثال شكه في وجه دلالته أن يشك في تعذر الفعل على العاجز لأن وجه دلالة صحة الفعل على كون القادر قادرا تعذره على من ليس بقادر.
قوله: لاستوائهما في عدم العلم.
أي لاستواء الساهي والشاك المذكورين في عدم العلم بالدليل ووجه دلالته.
قوله: وقال أبو عبدالله يبقى من غير فصل.
أي يبقى العلم بالمدلول من غير فصل بين أن يكون عالماً بالدليل ووجه دلالته أو ساهيا عن ذلك.
قوله: ولكن لايعلم أنَّه عالم به أي أنَّه عالم بالدليل.
قال ابن متويه: كما أن من يدرك مدركا عند الاشتغال العظيم فإنه يعلمه عند أن يدركه ولايعلم أنَّه عالم به والحافظ لكتاب الله تعالى لايعلم أنَّه عالم بترتيب الآي ونحو ذلك وإذا أخذ في القرآن علم أنَّه عالم. إذا عرفت هذا تبين لك العلم لو كان باقياً كان الصَّحيح ما يقوله أبو هاشم من أنَّه يزول عند السهو عن الدليل ووجه دلالته.
فصل
قوله: ومتى نظر في دليل لم يجب عليه من جهة الفعل أن ينظر في دليل آخر.
الوجه في ذلك أن النظر لايجب لأمر يرجع إليه وإنَّما يجب للاتصال إلى العلم أو الظن إذا كان الواجب النظر في الأمارة وإذا كان المقصود هو العلم ولم يجب علينا النظر إلاَّ ليتوصل به إليه وكان العلم قد حصل لنا بدليل فلا وجه يقتضي وجوب النظر في الدليل الآخر إلاَّ أنَّه يحسن لما ذكره فإنه إذا طرت شبهة تقدح في دليله ومعه دليل آخر لم يزل علمه بالمدلول بل يجدده لما قد علمه من صحة الدليل ... وإذا لم يكن قد نظر فيه ولم يعرف من الأدلة إلاَّ دليلاً واحداً زال العلم بالكلية عند ورود شبهة قادحة وكذلك فقد يستعين به كما ذكره، ولهذا فإن كثيرا ما يجري ذلك إذا ورد سؤال على بعض الأدلة. ويقول أصحابنا: ليس هذا ما يقال وإنَّما هو استعانة ببعض ما يذكر في دليل آخر.
قوله: ويجوز أن يجب بالسمع لجواز أن يكون ذلك لطفاً.
يعني إذا علم تعالى أنا إذا نظرنا في دليل آخر كان مقرباً لنا إلى فعل واجب أو ترك قبيح أو جبه علينا إذ قد حصل وجه الوجوب وكان واجباً شرعيا وذلك داخل في الإمكان ولايقال إذا كان كذلك فهلا عرف كونه لطفاً بالعقل لن العقل قد لايهتدي إلى تعيين الألطاف كالواجبات الشرعيات فلا يلزم ذلك.
فصل
قوله: والنظر في معرفة الله واجب.
أي النظر الموجب لمعرفة الله.
قوله: خلافاً لأهل المعارف.
في الإطلاق نظر لن من أهل المعارف من قال بوجوبه لنه شرط اعتيادي أجرى الله العادة بأن لايفعل المعرفة إلاَّ عنده فوجب لأجل ذلك على ما تقدم.
قوله: وأهل التقليد وأهل الشك إلى آخره.
أهل التقليد المجيزون له، وأهل الشك القائلون بأن النظر يؤدي إلى الشك والحيرة، وأهل التكافئ ـ والصواب فيه التكافؤ ـ القائلون بأن الأدلة متكافئة، وأهل السمع القائلون بأنه لاطريق إلى العلوم الدينية إلاَّ السمع، وأهل الظن الذين أبطل مذهبهم ولم يتقدم له حكاية، وأهل البدعة القائلون بأن الإسلام لم يرد إلاَّ بالسيف وأن النظر بدعة.
قوله: ولنا في النظر دليلان ـ أي ولنا على وجوبه ـ الأول منهما: يسمى دليل المعرفة. والثاني دليل الخوف وهو معتمد المتقدمين. والأول ذكره المتأخرون.
قيل ي: وهما معتمدان جيدان يرجعان إلى أن وجوب النظر لدفع الضرر، وقد ذهبت الجبرية إلى أنَّه لايستدل على وجوب النظر إلاَّ بالسمع بناء على أصلهم والذي ذهب إليه أصحابنا أن الدليل على وجوبه العقل والسمع فأما السمع فيستدل به تأكيداً واستظهاراً على من خالف في وجوبه من الفرق الإسلامية إذ معرفة صحة السمع متوقف على العلم بالله تعالى وصفاته وعدله وقد تقدم بعض ما يدل عليه من السمع.
قوله: أما الأولان. يعني وهو أن معرفة الله تعالى واجبة وأنها لاتحصل إلاَّ بالنظر.
قوله: وأما الثالث. أي وهو أن مالم يتم ما هو واجب من غير شرط إلاَّ به، وجب كوجوبه وهو الذي أرادب قوله أولاً الواجب الذي هذه صفته أي الذي هو واجب من غير شرط.
قوله: وقلنا من غير شرط إلى آخره.
يعني فإنه لايجب الحج إلاَّ بالاستطاعة وكذلك لايجب على العبد صعود السطح إلاَّ إذا كان السلم منصوباً لما كان ذلك الذي يتوقف الواجب من الحج وصعود السطح عليه قد شرطه الموجب فأما لو لم يشرطه وجب تحصيله.
واعلم أنَّما كلفناه على ضربين فعل وترك ويدخل فيهما مالايتم الواجب إلاَّ به والذي لايتم الواجب إلاَّ به ينقسم إلى وصلة وغير وصلة، والوصلة تنقسم إلى موجبة وغير موجبة، فالوصلة الموجبة كأن يكلفنا الله تعالى إيلام شخص ولايمكنا إيلامه إلاَّ ...... بنيته فهذه الوصلة يجب علينا مطلقاً، ومن هذا القبيل النظر فإنه وصلة موجبة لما كلفنا تحصيله من المعرفة الَّتِي هي موجب لها ولايمكن تحصيلها من دونه، والوصلة الغير الموجبة كالاستطاعة في الحج والطهور في الصلاة فما ورد من هذا القبيل مشروطاً بوصلته لم يجب علينا فعله إلاَّ إذا حصلت لنا كالحج فإنه ورد مشروطاً بالاستطاعة فلا يجب علنيا تحصيلها بل إن حصلت وجب علينا وإن لم تحصل لم يجب علينا.
وما ورد غير مشروط بوصلته كالصلاة وجب علينا تحصيل وصلته فإذا علمنا أنَّها لاتتم إلاَّ بالطهور ووردت مطلقة غير مشروطة وجب علينا تحصيله وكما إذا قال السيد لعبده اصعد السطح فإنه يجب عليه وصلة الصعود وهو نصب السلم بخلاف ما إذا شرطه وغير الوصلة كمن عليه صلاة فائتة ملتبسة فإنه يجب عليه فعل الصلوات الخمس لما لم يتم له فعل ما وجب عليه وتحقق تأديته إلاَّ بفعلها كلها وكما يجب علينا إدخال جزء من الرأس في غسل الوجه لما لم يتم غسل الوجه إلاَّ به.
وأما الذي لايتم الترك الواجب إلاَّ به فكما إذا التبس إناء طاهر بآنية متنجسة فإنه لايتم تيقن وقوع الترك الواجب وهو ترك الآنية المتنجسة إلاَّ بترك الآنية الأخرى ونحو ذلك.
قوله: الدليل الثاني. هذا الدليل هو الذي يسميه المتكلمون دليل الخوف.
قوله: الخوف هو الظن لحصول ضرر أو فوت نفع في المستقبل.
اعلم أن هذه الحقيقة هي الَّتِي يعتمدها أكثر المتأخرين من أصحابنا. قال ابن متويه: وجعل أبو هاشم الخوف الاعتقاد أو الظن ليزول ضرر به في المستقبل أو فوات نفع عنه أما فيه أو فيمن يجري مجراه والذي يجري مجراه أن يعتقد أو يظن ذلك في بعض أحبائه وقرر ابن متويه هذه الحقيقة وجرى عليها بعض المتأخرين والمفهوم من صريح كلامهم أنهم يريدون بالاعتقاد الاعتقاد الذي ليس بعلم إلاَّ ماكان علما فلا كلام أنَّه ليس بخوف والأولى أن يزاد ما زاده بعضهم فيقال الظن أو الاعتقاد من غير سكون النفس. قال ابن متويه: وقد حكي عن أبي علي أنه أثبتهما نوعين غير الاعتقاد والظن يعني الخوف والخشية.
قوله: اتباعاً لأهل اللغة يعني لما كانوا لايسمون القاطع بحصول الضرر أو فوت النفع خائفاً.
قوله: ولايرد خوفنا للموت.
يعني فيقال: كيف قلتم أن الخوف لايكون إلاَّ ظنا مع أنا نخاف الموت ونحن عالمون بوقوعه وقاطعون به.
ويجاب بأنا لانخافه بنفسه وإنَّما نخاف وقته فهو غير مقطوع بتعينه بل نظن في أكثر الأوقات. قال بعض أصحابنا: وهذا عذر غير محكم وظاهر كلامه أنا نخاف الموت نفسه وأن الملائكة يخافون العقاب مع علمهم بأنهم لايعابون. قال: ففي اصطلاح المتكلمين نظر.
قوله: ولاخوف الملائكة. أي ولايرد اعتراضنا علينا خوف الملائكة فيقال: أنهم يخافون العقاب مع أنهم غير ظانين لحصوله بل قاطعون بأنهم لايعاقبون لما علموه من عصمتهم عما يستحق لأجله ولإخباره تعالى لهم بذلك.
قوله: والأقرب أنهم يخافون.. إلى آخره.
اعلم أن جوابه رحمه الله فيه نظر لن قوله يخافون بلفظ المضارع وهو موضوع لإفادة الحال وقد يؤتى بهذه العبارة لإفادة الاستمرار وليس مما يدل على المعنى، ومن المعلوم أنهم حال إخباره تعالى لنا عارفون له غير خائفين من ترك النظر في معرفته وإن جعل يخافون حكاية حال ماضية ولم يحمل على ظاهره في إفادة الحال فقد قال تعالى: {يخافون ربهم} وهم قبل النظر وحال الخوف الحاصل قبله غير عارفين له وذلك الخوف ليس خوفاً له.
قوله: لأن تعلقه بعكس ذلك رجاء.
اعلم أن الرجاء والطمع والأمل في مقابلة الخوف والخشية والإشفاق. وحقيقة الرجاء وما يرادفه على قياس ما ذكره أبو هاشم في الخوف والظن أو الاعتقاد من غير سكون النفس لحصول منفعة أو دفع مضرة في المستقبل للظان أو المعتقد أو من يجري مجراهما والذي يجري مجراهما أن يظن أو يعتقد ذلك لبعض أحبائه، وعلى قياس ما ذكره المصنف في الخوف الظن لحصول منفعة أو دفع مضرة في المستقبل.
قوله: لن ما قد وقع لايخاف وكذلك فلا يرجى ولايؤمل ولايطمع فيه.
تنبيه
وأما اليأس والمن فلا يكونان إلاَّ مع العلم فإذا علم فوت منفعة أو وصول مضرة في المستقبل فهو آيس وإذا علم حصول منفعة أو دفع مضرة فهو آمن، ولابد من شرط الاستقبال فيهما وأما الندم والأسف فلا يكونان إلاَّ على ما مضى من فعل نفسه فإذا اعتقد مضرة أو فوت نفع عليه لأجل فعل متقدم منه لولاه لم يكن ليلحقه ذلك فهو نادم آسف.
قوله: ولا الفعل لأجله يعني ولايحسن أن يفعل أمراً ظن وجوبه أو ندبه ظناً صادراً لاعن أمارة فأما الظن الصادر عن أمارة صحيحة فيحسن فعله والفعل لأجله كما يفعل المجتهد أفعالآ ظن وجوبها أو ندبها ظناً صادراً عن أمارة صحيحة من حيث عدل أو قياس أو نحو ذلك.
قوله: إلاَّ إذا حصل عن أمارة صحيحة. الأمارة الصحيحة ما يختار المكلف عند النظر فيها الظن ويكون حسناً ذكره بعض أصحابنا وفيه نظر لأن ابن متويه قد ذكر أن من الظن القبيح ما يفعله المرء وهو يتمكن من تحصيل العلم إذا كان من باب ما كلف أن يعلمه فلو قدرنا أنَّه فعل ظناً بالله تعالى عند أمارة صحيحة لكان قبيحاً على ظاهر كلام ابن متويه وهو الجاري على قواعدهم.
ومثال الأمارة الصحيحة أن يرى في جدر تشققاً وانتثار تراب منه ونحو ذلك فإن هذه أمارة صحيحة توصل إلى ظن خرابه وكما إذا رأى دخاناً فإنه أمارة حصول النار وكخبر العدل الذي صحت عدالته. قال الفقيه قاسم: وغير الصحيحة كأن يقف تحت جدار ولايرى شيئاً مما ذكرناه، وفيه نظر؛ لأنَّه لا أمارة ههنا فضلاً أن يقال هي صحيحة أو غير صحيحة وإذا فعل حينئذ ظناً فهو لا عن أمارة بل كظن السوداوي، وإنَّما مثال الأمارة غير الصحيحة أن يرى شيئاً على صورة الدخان وليس بدخان فيظن أن ثُمَّ ناراً ونحو ذلك.
قوله: وبهذا يفارق ظن السوداوي. أي بكونه صادراً عن أمارة فإن ظن السوداوي لاعن أمارة.
قوله: واعلم أن للخوف أسباباً.
لما بين رحمه الله ماهية الخوف وحقيقته بين أسبابه الَّتِي لابد للعاقل من أن يخاف عند حصول أحدها ليثبت الأصل الأول وهو أن العاقل عند كمال عقله لابد أن يخاف.
قوله: منها: أن ينبه من ذي قبل. أي من قبل نفسه.
واعلم أن هذا السبب لم يذكره السيد الإمام وقد قال أبو هاشم أنه لايكفي سبباً للخوف بل لابد معه من بعض الأسباب الأخر، وقال أبو علي: بل هو كافٍ فلا يحتاج معه إلى غيره، واختاره صاحب المحيط والحاكم.
حجة أبي هاشم: أن المرء لايثق بما يراه من نفسه ولهذا يألف أكثر الناس التقليد ثقة بالغير واتهاماً للنفس فإذا لم يقصد ذلك الانتباه خاطر لم تقع الثقة.
وأجيب بأنه إذا حصل من جهة نفسه الخوف فهو يكفي ويستوي فيه المظنون والمعلوم وما كان من جهة نفسه وما كان من جهة غيره.
قوله: فإن لم يحصل أحد هذه الأسباب.
اعلم أن من أصحابنا من زاد فيها أن يرى كتاباً فيه موعظة أو وعداً ووعيداً وكأنه رحمه الله اكتفى بقوله أن يسمع الوعظ والأخبار لأنَّه لافرق في ذلك بين الرؤية له في كتاب والسمع له من أحد.
قوله: وجب على الله تعالى أن ينبهه بالخاطر.
اعلم أن الكلام على الخاطر يقع في فوائد ست:
الولى: الدليل على وجوه وهو ما ذكره المصنف وتلخيصه أن المكلف إذا عدم الأسباب صار في حكم الساهي وإن لم يكن ساهياً عن جميع العلوم ولا ناسياً لشيء قد يعود حفظه ولاكلام في قبح تكليف الساهي فإن قبحه مما يعلم بضرورة العقل. قال الفقيه قاسم: ولأنه إذا كان للخوف شرطاً فيحسن التكليف حتَّى يقبح التكليف من دونه فأولى وأحرى أن يقبح تكليفه من دون الخاطر الذي هو أصل الخوف. قال بعض أصحابنا: ووجوبه مشروطاً بعدم الأسباب كلها ولايجب إلاَّ على قولنا بجواز انفال التكليفا لعقلي عن السمعي فأما من لم يجوز ذلك فدعاء الرسول ونحوه كاف.
الفائدة الثانية: في بيان جنسه فالذي ذهب إليه الجمهور ما ذكره رحمه الله من أنَّه كلام خفي يلقيه الله في باطن سمعه والمراد من داخل الصماخ للأذن. قال بعض أصحابنا: أو في ناحية صدره، ولم يذكره المصنف ولا ابن متويه، ولعلهما استبعدا أن يكون مع خفاه مسموعاً من ناحية الصدر والله أعلم. وقد خالف أبو علي الجمهور فتارة قال أنَّه من قبي الظن وتارة قال أنَّه من قبيل الاعتقاد، وإن كان أبو هاشم قد روى عنه أنَّه أقام الخاطر مقام دعا الداعي.
قال أبو هاشم: فهذا يقضي بأنه يذهب إلى أنَّه كلام. قال ابن متويه: إلاَّ أن المنصوص له خلاف ذلك، وقطع في المحيط على أن أبا علي لم يقل بأنه من قبيل الكلام وقد احتج المصنف رحمه الله على بطلان هذه الأقوال.
قوله: فيكون علماً ضرورياص. الوجه في ذلك أنَّه قد وقع على احد الوجوه المعتبرة الَّتِي وقوعه عليها يوجب كونه علماً وهو وقوعه من فعل العالم بالمعتقد.
فإن قيل: فهلا كان من فعل الملائكة فكراً كان أو ظناً أو اعتقاداً.
قلنا: إن الملك قادر بقدرة فلا يصح منه تعدية الفعل إلى غيره إلاَّ بالعتماد ولا حظ له في توليد هذه المعاني وإلاَّ لزم أن يولد وإن صدر من جهتنا.
الفائدة الثالثة: في الفرق بينه وبين الوسوسة ووجه الفرق ما ذكره المصنف. قوله: من جهة الله ويريد سواء كان من فعله أو من فعل الملك أما من فعله تعالى فلا كلام في أنَّه من جهته، وأما إذا كان من فعلا لملك فوجه كونه من جهة الله تعالى أن الملك فعله بأمره تعالى ولو لم يأمره لم يفعله وقصد بالخير الطاعة وبالشر المعصية لتأديتهما إلى الخير والشر.
واعلم أن الخاطر والوسواس لا .... بذلك إلاَّ إذا كانا كلاماً خفياً في باطن السمع أو ناحية الصدر ولهذا يلتبسان بالفكر وقد نص صاحب المحيط على أن الشياطين لايقدرون على أن يسمعوانا كلامهم جهرة إذ لو جاز ذلك لعظمت الفتنة بهم وكانوا يوقعون أسباب العداوة بين الناس بما يسمع منهم فيظن أنَّه من جهة الآدميين وكلام الملائكة كذلك إلاَّ ما كان في زمن الأنبياء على جهة المعجز.
فإن قيل: فما تقولون إذا عارضت الوسوسة الخاطرة وساوته في الدعاء إلى المعصية والتأمين من ضررها.
قلنا: الذي عليه جل أهل العدل بل كلهم أنَّه لايجوز تساويهما بل إذا تعارضا وفر الله تعالى الداعي إلى العمل بما يدعو إليه الخاطر مع أن المعلوم أن العاقل إذا عرض له سببا خوف وأمن أن سبب الخوف أكثر تأثيراً في القبول والتحرز عن المخوف كمن يكون فيه جراح فقال له طبيب: إن لم يفتقده بالدوية أهلكه، وقال له الآخر: لاضرر عليه منه، فإنه يؤثر قول من خوفه وينظر في عل ما قاله. ونظير هذا ما إذا تعارض خاطران أحدهما دعا إلى النظر والثاني دعا إلى تركه فإن الذي قاله أبو هاشم وقاضي القضاة وصححه الحاكم أنَّه لايعد داعي ترك النظر معارضاً لأن الخاطر الداعي إلى فعل النظر بين وجه الخوف إذ قد نبه على أنَّه إن لم يعرف ربه وثوابه وعقابه كان إلى الانهماك في المعاصي وترك الطاعات أقرب فيؤديه ذلك إلى العقاب الدائم وذلك مقرر في العقول بخلاف الخاطر الآخر فإنه لم يبين وجه خوف في النظر فكان وجوده وعدمه على سواء. وقال الشيخ أبو علي: بل يعد معارضاً لكنه مدفوع لأنَّه يدعو إلى خلاف ما في العقل فالأول دعا إلى النظر ليزول الخوف والآخر إلى ترك النظر والمقام على الحيرة فلا حكم له.
الفائدة الرابعة: في كيفية وروده وهي على ما ذكره المصنف إما في معنى ذلك الكلام فلا يشترط نفس اللفظ، واختلف أصحابنا هل من الواجب أن يقع في الخاطر التنبيه على الدليل كأن يقول: انظر في الأجسام والأعراض. فقال أبو علي: لابد من إرشاد الخاطر إلى الدليل، واختاره ابن متويه وصححه، وهو أحد قولي القاضي.
قال أبو علي: ومن الواجب أن ينبهه على ترتيب الأدلة لأن النظر يلزمه فيها على الترتيب والتدريج فيجب أن ينبهه على ذلك، وجوز أن ينبهه على الأدلة حالاً فحالاً، على حسب ترتيبها وأن ينبهه على ذلك في حالة واحدة لحصول المقصود بكل من الوجهين، وأوجب أبو عبدالله أن ينبهه على ذلك في حالة واحدة، وقال القاضي: إن عرف ذلك الترتيب والأدلة فلا يجب أن ينبهه الخاطر على ذلك، وإن لم يعلم الترتيب فلابد أن ينبهه وصححه الحاكم. وقال أبو هاشم ـ وهو أحد قولي القاضي واختيار أكثر المتكلمين ـ: لايجب التنبيه على الدليل بل إذا حصل الخاطر وخاف فهو مشاهد للعالم فيقع بطرفيه.
الفائدة الخامسة: ذكر في المحيط أنَّه يجوز أن يحصل أحد أسباب الخوف للمكلف قبل كمال عقله فيخاف فإذا كمل عقله استصحب ذلك الخوف فإن لم يحصل ذلك قبلك مال العقل فلا بد من حصول أحد الأسباب أو الخاطر مقارباً لأول كمال العقل.
الفائدة السادسة: قال بعضهم: لابدمن خاطرين أحدهما يأمر بالإقدام والآخر بالكف، ليصح الاختيار، وذهب الجمهور إلى أنَّه لايجب ذلك واختلف القائلون بوجوب الخاطرين فمنهم من قال كلاهما منه تعالى، ومنهم من قال خاطر المعصية من الشيطان.
حجة الجمهور أن المقصود حصول الخوف من ترك النظر وهذا قد حصل من دون الخاطر الثاني فلا حاجة إليه، ثُمَّ أنَّه لاحكم له ولاتعارض على كلام أبي هاشم ولو قدر حصوله فلايجوز أن يكون من جهته تعالى لأنَّه أمر بمعصية وذلك قبيح فأما كونه من جهة نفسه أو من الشيطان فجائز غير شرط.
قوله: وإن اختلف وجه الوجوب كما سلف.
يعني فإن كان الضرر معلوماً فوجه الوجوب هو كونه دفعاً للضرر وإن كان مظنوناً فوجه الوجوب الظن لدفع الضرر والفرق بينهما من وجهين:
أحدهما: أن المعلوم يجب دفعه لجل ذلك الضرر المعلوم والمظنون يجب دفعه لأجل الظن.
وثانيهما: أن المعلوم لايجب دفعه إلاَّ بعد العلم به ولايكفي الظن في وجوب دفعه مع التمكن من العلم به بخلاف المظنون.
قوله: وهو دور.
يعني من حيث أنا لاننظر إلاَّ بعد أن نعلم وجوب النظر ولانعلم وجوب النظر إلاَّ بعد أن نعلم استحقاق الثواب عليه، ولانعلم استحقاق الثواب عليه إلاَّ بعد العلم بالمثيب، ولانعلم المثيب إلاَّ بالنظر فهو دور بمراتب.
قوله: بل إما يقف الوجوب على العلم بوجه الوجوب.
يعني لا على العلم بوجه حسن الإيجاب أي باستحقاق الثواب عليه فإنه هو الوجه في حسن إيجابه علينا فلو لم يعلم الله تعالى أنَّه يوصل إلينا الثواب وأنا نستحقه لم يحسن إيجاب الشاق علينا وإنَّما حسن للتعريض إلى درجات لاتنال إلاَّ به ووجه وجوب النظر هو كونه نظراً يندفع به الضرر بما يحصل عنه من العلم والضرر الذي يندفع بالعلم الحاصل عن النظر ضرر العقاب لأنَّه مع المعرفة يكون أقرب إلى أداء الواجبات واجتناب المقبحات، وبذلك يندفع الضر الذي هو العقاب ويندفع أيضاً ضرر الغم الحاصل عند الحيرة والشك.
قوله: وإنَّما تختلف أحوالهم في النظار المفصلة. يعني كالنظر في معرفة الله تعالى.
قوله: إلى الجملة المقررة. يعني وهو أن كل نظر يندفع به الضرر واجب.
قوله: وإلى مضار الدنيا عن أبي علي.
اعلم أن مذهب الجمهور من أهل العدل أن كل نظر نيدفع به الضرر فهو واجب ويعلم وجوبه على الجملة ضرورة مطلقاً أي سواء كان نظراً في دفع مضرة دينية أو دنيوية، وقال أبو علي: إنَّما يعلم ضرورة على الجملة وجوب كل نظر يندفع به الضرر إذا كان الضرر دنيوياً فأما إذا كان دينياً فإنما يعلم وجوبه على الجملة بالاستدلال بأن يقول: قد ثبت أنا نعلم ضرورة أن كل نظر يندفع به ضرر دنيوي واجب وإنَّما وجب لكونه نظرا يندفع به ضرر وقد شاركه النر الذي اندفع به الضرر الديني في كونه نظرا يندفع به ضرر فيجب كوجوبه.
قوله: وسلامة الحال. يعني من الشبه الَّتِي تقدح في وجوبه وتدعو إلى اعتقاد أنَّه لايجب.
قوله: ونحو ذلك. يعني من اعتقاد أن النظر بدعة أو أنَّه يؤدي إلى الحيرة.
واعلم أنَّه يرد على ما مضى سؤال وهو أن يقال: مسلم ما ذكرته من وجوب كل نظر يندفع به الضرر ولكن إنَّما يلزم ذلك إذا كان الضرر معلوما أو مظنونا والمكلف حال حصول أحد الأسباب لايعلم الضرر ولا يظنه بل يشك فيه أو يتوهمه وأكثر ما فيه أن يستوي عنده تجويز الضرر وتجويز عدمه وما هذا حاله لايجب على المكلف دفعه بنظر ولاغيره.
الجواب: من وجوه، أحدها: أنا لانسلم أنَّه لايحصل له ظن الضرر حال السبب بل يحصل ويكون مغلباً لحصول الضرر على عدم حصوله.
وثانيها: سلمنا عدم حصول الظن وأنه لايحصل إلاَّ الوهم والتجويز فقط فإن المخوف عظيم الضرر فلعظم ضرره قام الوهم والتجويز له مقام الظن الغالب في حق غيره من المضار الَّتِي ليست كمثله.
وثالثها: ذكر معناه ابن الملاحمي وهو أن الضرر المدفوع بالعلم الحاصل عن النظر ليس المراد به ضرر العقاب وإنَّما ذلك الضرر ما يقع فهي غير العالم بالله وتوحيده وعدله ووعده ووعيده من الحيرة والغم لأجل ذلك.
فائدة
ذكر صاحب المحيط أن النظر يفارق غيره من الواجبات لأن وجوب أدائه لايكون إلاَّ مع العلم بوجوبه لامع التمكن من ذلك ففارق غيره من الواجبات فإنها يلزم أداؤها مع العلم بوجوبها ومع التمكن من العلم فالنظر مخصوص من ذلك بما ليس لغيره، والوجه في ذلك أنَّه لايجب إلاَّ لأنَّه يتوصل به إلى دفع الضرر المظنون ومع الظن للضرر قد علم وجوبه فلزم أداؤه ومع عدم الظن لذلك لايجب ولايلزم أداؤه وإن كان قد تمكن من العلم بوجوبه غذ لاوجه يوجبه مع عدم الظن للضرر.
إذا عرفت هذا فكلام المصنف مصرح بعكس هذا حيث قال آنفاً: التمكن من معرفة الوجوب كمعرفة الوجوب. يعني في النظر وكلامه أرجح لأنا نعلم أن كثيراً من العوام لايعلمون وجوب النظر عليهم لا في حال بلوغ التكليف ولا من بعد فكان يلزم أن يكونوا معذورين في تركه وذلك لايصح عند جمهور أصحابنا، منهم صاحب المحيط.
وقوله: ومع الظن للضرر قد علم وجوبه. غير مسلم لجواز أن يعرض له في تلك الحال حارض فلا يرد التفصيل إلى الجملة أو يجوز التقليد أو نحو ذلك، فليس العلم بوجوبه عند ظن الضرر ضروريا إذ لاتكون النتيجة ضرورية إلاَّ إذا كان المقدمتان ضروريتين والمقدمة الأخرى وهو أنَّه نظر يندفع به الضرر غير ضرورية فتبين ضعف ما ذكره صاحب المحيط والله أعلم.
فإن قيل: بل تلك المقدمة ضرورية لأنَّه قد وقع في ضرر الشك والحيرة وهو يعلم ضرورة أنَّه إذا نظر أوصله النظر إلى العلم اليقين الذي يزول معه ذلك الضرر.
قلنا: إن إيصاله إلى العلم معلوم بدلالة لاضرورة وفيه الخلاف المتقدم فلا يصح ذلك.
فصل
والنظر أول الواجبات، والمتكلمون مختلفون في ذلك على أقوال.
فمذهب الجمهور من أهل العدل أن النظر أول الواجبات وكان الأولون يطلقون العبارة تعويلاً منهم على تقديمه ومجيه لتوفر دواعي المكلف إلى فعله وحذراً من أن يشتغل بغيره ثُمَّ قيد المتأخرون ذلك بالقيود الَّتِي ذكرها المصنف.
وذهبت البغدادية إلى أن المعرفة أول الواجبات، وهو خلاف في عبارة إذ هم يوافقون في أن النظر هو الطريق إليها وأنه متقدم في الحصول عليها وإنما الخلاف في أيهما أحق بهذه التسمية، فقالت لابغدادية: الأحق بذلك العلم لأنَّه المقصود. وقال الجمهور: بل الأحق بذلك النظر لنه أسبق وجوبا وفعلا.
وحكي عن الشيخ أبي هاشم أنَّه جرى في بعض أقواله أن الشك أول الواجبات ولعله أراد أنَّه يجب عليه أن يفرغ قلبه من الاعتقادات والظنون المانعة من النظر، ثُمَّ يستأنف الاستدلال على معرفة الله.
وحكي عن الباقلاني القول بأن أول الأنظار أول الواجبات، وحكي عنه أيضا القول بأن القصد إلى النظر أول الواجبات وقد ذكر معنى قوله الول بعض أصحابنا فقال: إذا قلنا أن النظر في إثبات الصانع أول الواجبات فليس المراد به النظر الذي يتولد عنه العلم بالله تعالى، بل المراد بذلك أول نظر في أول مقدمات الدلالة على العلم بالله تعالى فالمقدمات الَّتِي ينبني عليها النظر في الأمر الذي يتولد عنه العلم بالله تعالى يكون النظر في اول مقدمة منها أول الواجبات، ولايبعد أن يكون هذا مراد الجمهور المطلقين لنه أول الواجبات بل لابد من القول بذلك فقد نص أبو علي أن أول ما يجب النظر فيه حدوث الأعراض.
وقال أبو هاشم والقاضي: بل أول ما يجب النظر فيه إثبات الأكوان إذ هي الدليل.
قوله: فهو يطلق على التروك مجازا.
هذا جواب عن سؤال أورده الفقيه قاسم تقريره أن يقال: لاحاجة إلى قولكم أول الأفعال لن قولكم أول الواجبات كاف إذ التروك ليست بواجبة فلفظة الأفعال حشو لافائدة فيها، فحذفها أولى لئلا توهم ثمّ فائدة.
وتقرير الجواب: أن الوجوب قد يطلق على التروك مجازاً فلا بأس بالاحتراز عنه بلفظة الأفعال.
قوله: بل قد يتقدمه بأن يطالب حال كمال العقل إلى آخره.
يعني مع أن المكلف لايجب عليه النظر إلاَّ في الحالة الثالثة من أوان بلوغ التكليف لأنَّه في الوقت الأول يحصل له السبب ويخاف في الوقت الثاني ولايعلم الوجوب إلاَّ في الوقت الثالث لن وجوب النظر يحتاج إلى نظر بخلاف ما إذا وقعت المطالبة المذكورة فإن الوجوب معلوم تلك الحال بضرورة العقل.
قوله: بأن يكون عرضهما بالملامسة مجرد قضاء الوطر.
يعني فإذا انضم إلى ذلك عدم وصول نفع إليه منهما لم يجب عليه شكرهما وقد ذكر في المحيط أنَّه لايلزمه ذلك بالنظر إلى دليل العقل، فأما السمع فقد ورد بحرمة الأبوين ووجوب حقهما وشكرهما من غير فصل لكن كلامنا في الواجبات العقلية.
قوله: سواء كان لها وجود في الخارج أم لا.
يعني سواء كان ثُمَّ نعمة يقع الكلام فيها وفي إلحاقها بالجملة المقررة من أن شكر النعمة واجب أم لا، فإن العلم حاصل غير متوقف على معرفة حصول النعمة.
قوله: في الحالة الثانية فيقول شكراً لفاعل هذه المنفعة الأولى أن يقال: شكراً لله تعالى.
إن كان قصد وجه الإحسان لن هذه الحالة كلام فيما إذا علمنا فاعلها مفصلاً فلا حاجة إلى الإجمال مع أنَّه لا خلل فيه إلاَّ أن الأولى ما ذكرناه. وقوله: المنفعة، ولم يقل: النعمة؛ لأنَّه في هذه الحالة لايعلم أن فاعلها قصد وجه الإحسان وهي لاتكون نعمة إلاَّ مع القصد بخلاف المنفعة فإنها تكون منفعة سواء قصد أم لا.
قوله: في الحالة الثالثة إن كان لها فاعل.
هذا لاحاجة إليه لأنا لانعلم منفعة إلاَّ وقد علمنا أن لها فاعلاً على سبيل الجملة، فالشرط الذي هو إن كان فاعلها قصد بها وجه الإحسان كاف، إلاَّ أن يقال: قد يجوز أنَّها قديمة أو حادثة بالطبع أو مجبة عن علة فتحتاج حينئذ إلى مجموع الشرطين.
قوله: فيكون الشرط في التأدية. أي في تأدية الشرك وهي قول الشاكر: شكرا لفاعل هذه النعمة لا في الوجوب فهو واجب علينا قبل أن يعلم الفاعل لها وقصده، ولايقف العلم بوجوبها على شرط وهذا اختيار من المصنف رحمه الله لما اختاره ابن الملاحمي من وجوب الشرك مشروطاً، فأما الجمهور من أصحابنا فذهبوا إلى أنَّه لايجب إلاَّ بعد معرفة الفاعل وقصده وصرح به السيد الإمام وصححه بعض الشارحين وعليه ينبني اعتراض الفقيه قاسم.
قوله: فيبقى الاحتراز عن شكر النعمة في القيد سليماً عن الاعتراض. يعني بالقيد، قولهم: من غير شرط أراد بالاعتراض اعتراض الفقيه قاسم.
تنبيه
اعلم أن المصنف رحمه الله لم يحتج على أن النظر أول الواجبات بل اكتفى بما يحلل من الكلام والتبيين الحسن وإبطال أن يكون غيره أول الواجبات، وقد ذكر ابن الملاحمي أن المكلف إذا عرف وجوب النظر لم يحتج إلى أن يعلم أنَّه أول الواجبات، قال: وإنَّما ذكر أهل العدل ذلك لشدة الاهتمام بتأديته و... لأنَّه واجب مضيق لايسع تأخيره فضلاً عن تركه، وذكر أصحابنا ما فيه مزيد بيان لذلك فقالوا: الواجبات ضربان شرعية وعقلية، فالشرعية لايصح العلم بها وبوجوبها إلاَّ بعد العلم بالله تعالى وتوحيده وعدله، وبنوه بنية قبلت تقدم المعرفة في الوجوب عليها لتمكن التوصل إلى معرفة وجوبها ولاكلام في تقدم النظر على المعرفة فيكون متقدماً في الوجوب على الشرعيات بلا محالة.
والعقلية ضربان: علمية وعملية
فالعلمية: المعارف الإلهية كمعرفة الصفات والعدل، ونحو ذلك، ومعلوم أنَّه لايجب فعلها إلاَّ بع العلم بالله تعالى إذ لايمكن العلم بها من دون العلم بذاته تعالى؛ لأن العلم بأوصاف الذات وأفعالها مؤخر عن العلم بها. وأما العملية فالمعرفة لطف فيها ومن حق اللطف أن يكون متقدماً على الملطوف ليثبت له حظ الدعاء إليه فقد بان أن المعرفة متقدمة في الوجوب على سائر الواجبات ولاشك في تقدم النظر عليها إذ لايوصل إليها سواه على ما تقدم وما أوصل إلى الشيء فهو متقدم عليه.
قوله: فلا يجب علينا تحصيل شرطه.
اعلم أن الشروط في الواجبات على ضربين أحدهما شرط وجوب بمعنى أنَّه لايجب علينا الواجب إلاَّ إذا حصل هذا الشرط بل لايحسن التكليف به إلاَّ مع حصوله وهذا كأن يؤمر بتأدية فعل إذا كان ما هو كذا أو دل العقل على اشتراطه في وجوب الفعل علينا كما اشترط العقل في وجوب قضاء الدين ورد الوديعة تقدم الفرض والقبض أو دل الشرع على اشتراطه في الواجب الشرعي كاشتراط النصاب في وجوب الزكاة وملك المال الذي يستطاع لأجله الحج فلا يجب علينا تحصيل ما هذه حاله من الشروط والخوف من هذا القبيل لأن العقل قد اشترطه في وجوب النظر وعلمنا أنه لايحسن تكليف من لم يخف لصيرورته في حكم الساهي فلا يجب علينا إذا تحصل الخوف وإذا لم يصح مع ذلك أن يفعله تعالى لنا وأراد تكليفنا بالنظر فعل ما يلجئنا إلى فعل الخوف.
وثانيهما: ما هو شرط في أداء الواجب فهذا يجب علينا تحصيله.
مثاله: في العقل القيام وفتح الباب، والمشي في رد الوديعة بعد أن قبضناها ونحو ذلك. ومثاله في الشرع: الوضوء وستر العورة واستقبال القبلة وطهارة البدن في الصلاة فيجب تحصيل جميع ذلك.
قوله: وجوب النظر عند الخوف معلوم ضرورة.
فيه نظر والصحيح ما تقدم من أنَّه لايعلم وجوبه إلاَّ دلالة ولو كان يعلم ضرورة لم يحتج إلى الاستدلال المتقدم على وجوبه على الخائف ولما اختلف العلماء في ذلك ولما صح قوله المتقدم أن التمكن من العلم بوجوبه قائم مقام العلم لأنَّه إذا كان لايوجبه إلاَّ مع الخوف وهو يعلم عند الخوف وجوبه ضرورة فلا فائدة في ذكر التمكن من العلم ولا حظ له.
قوله: أو بالرد إلى ما علم ضرورة.
يقال: أما هذا فمسلم بأنه إذا علم أنَّه نظر يندفع به الضرر وقد علم أن كل نظر يندفع به الضرر فهو واجب رده إليه لكن المقدمة الَّتِي هي كونه يندفع به الضرر يحتاج إلى نظر فلا يصح قوله فلا يحتاج إلى نظر.
قوله: فهو نظر في معرفة الله فلا يخرج عما قلناه.
فيه سؤال وهو: أنَّه لايسبق إلى الأفهام من النظر في معرفة الله تعالى إلاَّ أنَّه النظر في الأجسام والأعراض الموجبة للعلم بالله تعالى لا أنَّه النظر في هل النظر واجب أو لا.
والجواب: أن للنظر في وجوب النظر تعلقاً بالنظر في معرفته تعالى إذ لايعول على النظر في معرفة الله تعالى إلاَّ بعد أن قد عرف وجوب النظر عليه وما كان مقدمة للشيء فحكمه حكمه.
قوله: قلنا النظر جنس الفعل.
اعلم أن المتكلمين يقسمون الأفعال إلى قسمين، أحدهما: يسمونه فعلاً واقعاً على وجه كالكلام فإنه يقع أمراً وخبراً ونهياً وتهديداً ونحو ذلك كالسجدة فإنها قد تقع طاعة وقد تكون معصية وكالألم فإنه قد يكون نعمة وقد يكون امتحاناً ونحو ذلك مما له وجه يقع عليه ويصح أن يقع على وجه آخر.
وثانيهما: يسمونه جنس فعل ومجرد فعل والمراد به الفعل الذي لم يقع على وجه مع صحة وقوعه على غيره وإنَّما يثبت له صفة الوجود مع الذاتية والمقتضاه والنظر في معرفة الله مما لايصح أن يقع على وجه دون وجه فلو صح أن يقع غير حسن ويكون قبيحاً أو يكون غير نظر واحتاج إلى القصد لم يكن مجرد فعل، فأما وذلك لايصح فيه فإن النظر في معرفته تعالى لايكون إلاَّ حسناً بل على مذهب المصنف أن كل نظر حسن، ولايقع غير نظر فلم يحتج إلى القصد الذي يخصصه بوجه دون وجه، كما أن السجدة تحتاج إلى ذلك لما صح أن تكون عبادة لله وسجدة للشيطان وكالكلام الذي هو بصيغة الأمر فإنه يحتاج في كونه أمراً إلى القصد الذي يخصه بأن يكون أمراً دون أن يكون تهديداً ونحو ذلك.
قوله: لايحتاج في وجوده إلى كون فاعله عالماً.
أي بكيفية وجوده وترتيبه كالكتابة فإن ذلك غير محتاج لا أنَّه أراد أنَّه لايحتاج إلى كون فاعله عالماً بالدليل فإنه لابد من ذلك إذا كان نظراً صحيحاً يولد العلم فأما إن لم يكن مما يولد العلم فلا يشترط علمه بالدليل بل يشترط ألا يكون في حكم الساهي وسواء كان ظاناً له أو معتقداً أو شاكاً فذلك كافٍ.
فإن قيل: إنَّه يمكن تأدية النظر من المكلف به إلاَّ بالقصد ولايستحق من فعله ثواباً إلاَّ به فلو نظر الناظر في الأدلة الموصلة إلى العلم بالله تعالى وصفاته من دون أن يقصد بفعله وجه وجوبه لم يستحق ثواباً.
قلنا: لم يرد إلاَّ بيان أن النظر يصح أداؤه ويقع من غير قصد فيفارق القصد بذلك النظر فإنه لايصح فعل العلم من دونه فبان أن النظر لايتوقف على القصد لإمكان الإتيان به من دونه فلا وجه لجعله أول الواجبات.
تنبيه
قد تقدم ذكر ما نقل عن أبي هاشم من كون الشك أول الواجبات ويبطل ما ذكره أن أحدنا لايحتاج في ألا يفعل الظن والاعتقاد الذي لايمكن معهما النظر إلى فعل بل يكفي ألا يحددهما فأي فعل يجب عليه في ذلك يجعله أول الواجبات، وهو لايثبت الشك معنى.
فائدة
إذا كان النظر المولد للعلم بالله تعالى لايتم إلاَّ بعد النظر في أول مقدمات الدلالة ثُمَّ في ما بعدها وأحل المكلف بالنظر الول ومضت أوقات يمكن فيها فعل النظار المتأخرة وتوليدها العلوم هل يستحق العقاب على ترك الأنظار المتأخرة والعلوم المتولدة عنها حال ترك النظر الأول لأنَّه عند تركه كالتارك لها لتعذر فعل كل واحد منها في الوقت الذي يمكن فيه فعله أو لايستحق العقاب عليها إلاَّ حال إمكان فعلها. لأبي هاشم في ذلك قولان، والذي صححه بعض المتأخرين أنَّه لايستحق العقاب عليها إلاَّ في الأوقات المتأخرة عن وقت إمكان فعل النظر الأول وتوليده للعلم فيستحق على كل منها عقاباً في وقته الذي لم يفعله فيه، وكان يمكن فعله فيه لو لم يخل بما قبله من الأنظار لاقبل هذا الوقت. قال: وهو الذي صححه ابن متويه رحمه الله.
القول في الأدلة
وبيان ما يصح الاستدلال به على الله تعالى وما لايصح
وينبغي ذكر حقيقة الدليل والدلالة وأسمائهما، والدال والمدلول عليه، والمستدِل، والاستدلال، والمستدَل به، والمستدَل عليه.
أما الدليل فهو في اللغة كما ذكره وقوله على وجه يقتدى به احتراز من أن يعرّف مع عدم الاقتداء به، والنظر إلى قوله فإنه لايسمى دليلاً.
قوله: كما فعلت ابنة شعيب.
يعني فإنها كانت دليلاً لموسى مع أنَّها متأخرة عنه، وذلك أنَّها لما وصلت إليه داعية له إلى أبيها ودالّة له على الطريق، قال لها: امشي خلفي ودليني على الطريق فإنا أناس لاننظر أعجاز النساء. ففعلت ذلك.
وقيل في حقيقته اللغوية: المتقدم على وجه يقع الاقتداء به، وعليه قول رؤبة بن العجاج:
إذا الدليل أشتاف أكناف الطرق
والدليل في العرف اللغوي من أكثر من فعل الدلالة ولم يقع خلاف في صحة وصفه تعالى بأنه دليل المتحيرين، واختلفوا في وصفه بأنه دليل من غير تقييد فأجازه أبو علي ومنعه أبو هاشم لإيهام أنَّه تعالى ينظر فيه، ونقل عن أبي علي تجويزه مقيداً فقط، وعن أبي هاشم منعه مطلقاص.
وحقيقة الدلالة اللغوية: ما ذكره ولاخلاف في أنَّها والدليل في الاصطلاح بمعنى واحد. قال ابن متويه: وقد استعمل الدليل في الدلالة وهو في أصل اللغة مجاز لكنه لا يمتنع أن يصير حقيقة بالعرف لاطراده، وأراد بالعرف الاصطلاح. واستدل بالاطراد على أنَّه قد صار حقيقة في ذلك إذ المجاز لايطرد.
وحقيقة الدليل والدلالة في الاصطلاح ما ذكره إلاَّ أن السيد الإمام وابن متويه شرطا في كونه دليلاً أن يكون واضعه وضعه للدلالة ولم يقبله الشارحون ولا اعتبره المتأخرون.
قوله: احترازاً من طريقة النظر.
قد تقدمت حقيقة الطريق إذا أطلقت فأما طريقة النظر فحقيقتها كل صفة لذات أو حكم لها يوجب النظر فيها العلم بصفة لتلك الذات أو حكم لها.
ومن أسماء الدليل: برهان، قال تعالى: {قل هاتوا برهانكم}، وحجة قال تعالى: {ما كان حجتهم}، وسلطان قال تعالى: {إن عندكم من سلطان بهذا}.
وحقيقة الدال: قد تقدمت.
وحقيقة المدلول: من نصب له الدليل ليستدل به ولهذا يقال المكلف مدلول على ما يجب أن يعلمه وهو مدلول سواء استدل أم لا، وقد يستعمل لفظة المدلول في المدلول عليه تجوزاً.
وحقيقة المدلول عليه: ما يتوصل بالنظر الصَّحيح في الدليل إلى العلم به.
وحقيقة المستدل: الناظر في الدليل ليحصل له العلم بالمدلول. قيل: أو الظن للمدلول.
وحقيقة الاستدلال: النظر في الدليل. قيل: وسواء كان ذلك نظراً فيما يوصل إلى العلم أو الظن أو نظراً في شبهة فهو استدلال ولهذا يقال: استدلال صحيح واستدلال فاسد، إلاَّ أن استعماله في النظر في الشبهة تجوّز لاحقيقة.
وحقيقة المستدَل به: الدليل الذي يطلب بالنظر فيه حصول العلم بالمدلول عليه.
وحقيقة المستدَل عليه: المطلوب حصول العلم به بالنظر في الدليل.
تنبيه
ما كان من ذوات السنن كمستدل ومستدل به ونحوهما فلا يسمى بذلك إلاَّ مع وقوع الاستدلال ومالم يكن منها كدليل ومدلول ومدلول عليه فلا يعتبر في التسمية له وقوع الاستدلال بل يعتبر تهيؤ ذلك وإمكانه في نفس الآمر.
قوله: فهما يختصان ذاتاً واحدة.
فيه نظر، فإن صحة الفعل يختص الفعل والقادر به يختص بالقادر وكأنه لمح إلى أن صحة الفعل حكم للقادر ولايعلم إلاَّ بينه وبين المقدور.
قوله: (إنما هو اصطلاح مجرد). يعني لاوجه يقتضيه ولا موجب له فلو سميت طريقة النظر دليلاً لم يكن في ذلك قدح.
واعلم أن هذه عادة لأهل هذا الفن وهي أنهم قد يصطلحون في التسمية اصطلاحاً مجرداً ويفرقون في الاصطلاح بما لايوجب الفرق ومن هذا القبيل أن خصوا بالترك والمتروك أفعال القادرين بقدرة مع حصول المعنى في أفعاله تعالى، ولم يجعلوا الفرق إلاَّ أن أفعالنا تقع بالقدرة وفعله تعالى ليس كذلك وهذا فرق غير مانع من تسمية شيء من أفعاله تعالى تركاً ومتروكاً.
قوله: (فأما من جهة المعنى فلا فرق بينهما).
يعني من حيث أن الدليل وطريقة النظر كل منهما متعلقه الذات على الصفة وأن الاستدلال في الحقيقة بالصفات لا بالذوات فيهما.
قوله: (فيكون قد علمنا صفة له وهي الحدوث).
يقال: إن أردت بالحدوث الوجود فنحن عالمون له ضرورة من غير نظر وإن أردت بالحدوث وجوده بعد أن لم يكن وهو الأظهر فهذه كيفية لصفة الوجود لا صفة.
قوله: (وذلك حاصل في الصفات).
أما الشيخ أبو هاشم فقد ذهب إلى أن الاستدلال علىحدوث الجسم بغير الذات الَّتِي هي الأكوان غير ممكن وأما الذي قواه المصنف على ما سيأتي وصرح به ابن متويه فإمكانه بالصفة الَّتِي هي الكائنية من غير نظر إلى الكون.
قوله: (ومعلوم أن الذي أثر فيه هو الحدوث).
هذا بناء على أن الذوات ثابتة في حالة العدم وأن الفاعل لايؤثر إلاَّ في الوجود وفيه نزاع شديد.
قوله: (ويتوصل بها في الغالب).
احترز من نحو النظر في حدوث العالم فإنه يتوصل به إلى العلم بمجرد ذات الصانع.
قوله: (فقد ظهر أنَّه لافرق بين الدليل وطريقة النظر).
يقال: غير مسلم بل الفرق باق لأنَّه إن صح ما ذكرته فأكثر ما فيه أن الأدلة هي الصفات والحكام دون الذوات كما أن طريقة النظر هي الصفة أو الحكم ولم يجعلوا الفرق أن الدليل لايكون إلاَّ ذاتاً مجردة وأن طريقة النظرما كانت صفة فقط فيكون قد ظهر بما ذكرته إن صح عدم الفرق بل جعلوا الفرق أن طريقة النظر صفة لذات توصل إلى العلم بصفة لها، والدليل نظر في ذات أو في ذات على صفة توصل إلى العلم بذات أو صفة لذات أخرى، ولم يتبين بما ذكرته عدم الفرق بينهما من هذا الوجه، ولو ثبت اشتراطهم في الدليل أن يكون ذاتاً ممكنة فمسببه من حيث أن الصفة وإن كانت وجه الدلالة كما ذكرته في حدوث الأجسام فإن متعلق النظر هو الذات فالدليل هو الأجسام مثلاً، لكن يستدل بها على حال لها وهي الدليل في الحقيقة وحدوثها إنَّما يجعل وجه دلالة فقط بخلاف طريقة النظر فإنه لايمكن أن يجعل الدليل الذات عليها للزوم أن يكون الدليل نفس المدلول، إذ المدلول هو الذات على الصفة الَّتِي حصل العلم بها فكانت طريقة النظر الصفة فقط، ولعل المصنف واخذهم بظاهر عباراتهم لأنهم جعلوا الدليل ما يوصل إلى العلم بالغير أو بصفة أو حكم للغير ولفظة الغير يستلزم كون الدليل ذاتاً إذا لغيرية الحقيقة لايثبت إلاَّ مع كونه ذاتاً، فكأنهم قد اشترطوا كونه ذاتاً.
وإذا قيل لهم: فما عندكم في حدوث الأجسام، فإن الدليل نفس الحدوث إذ لو لم يثبت لم يدل.
قالوا: بل الدليل الأجسام وحدوثها وجه دلالتها فلا يلزمنا كون الدليل صفة ونحو ذلك، وذهب عباد إلى أنَّه يجب في الدليل أن يكون موجوداً باقياً جسماً معلوماً ضرورة فعلى مذهبه يصح الفرق بين الدليل وطريقة النظر لكن ما ذكره غير مسلم.
فصل: والأدلة خمسة
يعني الموصلة إلى العلم اليقين ولهذا لم يعد القياس والإجماع الظنيين والخبر الآحادي منها، وإنَّما لم يقيدها بالقطعية لن الظني وإن سمي دليلاً فهو على سبيل التجوّز.
قوله: (الكتاب).
الكتاب: هو المكتوب بين الدفتين المنقول نقلاً متواتراص.
قيل: والأولى في تحديده الوحي الذي جاء به جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي تعبد المكلفون بتلاوته.
واعلم أن القطعي من الكتاب ما كانت دلالته صريحة أو تعلم دلالته بنظر ودليل قاطع فأما ما كان يفتقر في دلالته إلى استدلال ولايعرف المراد به بدلالة قاطعة فهو ظني كالاستدلال بقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} على أن الاعتداد بالحيض فثبوت العدة بالأقراء الَّتِي هي الحيض غير مقطوع به لما كان دلالة الأقراء على الحيض ظنية ونحو ذلك.
قوله: ( والسنة المتواترة).
قال الحاكم: السنة ما عرف أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قاله أو فعله وداوم عليه، وإنَّما توصف أخبار الآحاد بأنها سنة على وجه التعارف لا أنا نقطع بها. انتهى.
وقريب منه ما ذكره بعض المتأخرين فإنه قال السيد في اصطلاح المتكلمين والأصوليين لايجري إلاَّ على ما كان متواتراً ومالم يكن متواتراً لم يسم سنة وإن سمي بذلك فعلى وجه المجاز ويسمى خبراً أحادياً فيما لم يحصل العلم الضروري وإن كثر المخبرون، فأما أهل الحديث فيمسونه سنة.
فما نقل من دينه صلى الله عليه وآله وسلم نقلاً متواتراً فهو دليل قاطع لصدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحصول العلم الضروري بصدوره من جهته ولابد من أن تكون دلالته صريحة أو يمكن بالنظر فيه معرفة المراد به بدليل قاطع.
قوله: (والإجماع والقياس القطعيان).
حقيقة الإجماع: اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو عترته في عصر مّا على أمر مَا. ذكره المصنف في العقد. على الخلاف في العترة. والإجماع القطعي ما علم ضرورة أن الأمة قالته أو فعلته مع معرفة الوجه الذي قصدوه بفعلهم. وطريقه: إما مشاهدتهم وسماع قولهم، أو النقل المتواتر عنهم أو عن بعضهم مع رضاء الباقين وعدم إنكارهم مع انتشاره فيهم، والقطع بأن سكوتهم لا لتقية وكونه فيما الحق فيه واحد، والمراد إجماع الأمة وفي كن الإجماع دليلاً خلاف شديد وثبوته دليلاً قطعياً بعيد ولابد من اللام على ذلك فيما بعد وموضع البسط فيه كتب الأصول والله سبحانه أعلم.
وحقيقة القياس حمل الشيء على الشيء لشبه بينهما. والقياس القطعي: ما علم أصله وعلته ومثاله شرعاً أن يرد نص صريح متواتر بتحريم الخمر ونص صريح متواتر بأن علة تحريمه إسكاره فإنا نعلم عند ذلك تحريم النبيذ قطعاً بالقياس وخالف في حجيته أهل الظاهر والإمامية والخوارج، واستدل الحاكم على صحته في العقليات بأنه لولا صحته لما صح القول بالتوحيد والعدل والنبوات والشرائع إذ لايعرف إلاَّ به.
فصول في الاستدلال بالعقل
قوله: (اعلم أن أكثر مسائل أصول الدين لامجال للسمع فيها).
أشار بقوله أكثر إلى مسألة الرؤية ونفي الثاني ونحوهما، وسيأتي تحقيق ما يصح الاستدلال عليه منها بالسمع وما لايصح قوله إلاَّ مؤكداً يعني مؤكداً لدلالة العقل فيورد للتأكيد والستظهار كما يورد في مسألة الأفعال ونحوها.
قوله: (بين مفردات متصورة).
يعني وإلاَّ فمع عدم تصور المفردات لايمكن الحكم بالنسبة، وقد تقدم تقرير ذلك ومثاله ما يحكم العقل به من نسبة الحدوث إلى العالم فإن ذلك بعد أن قد علمنا حقيقة العالم والمحدث وموضعهما.
قوله: بثبوت مثاله الحكم بأن العالم محدث، ونفي مثاله الحكم بأنه تعالى ليس بجسم، أو حسن مثاله الحكم بأنه يحسن منه التكليف، أو قبح مثاله الحكم بقبح الظلم، أو وجوب مثاله الحكم بوجوب شكر المنعم.
قوله: (بجامع الأمر الذي له تثبت النسبة في الذات الأولى).
اعلم أن من اللائق إيراد أمثلة جامع الأمر في ثبوت تلك النسب المتقدم ذكرها آنفاً من ثبوت ونفي ونحوهما فأما جامع الثبوت فقد أورد مثاله.
وأما الجامع في نسبة النفي فكما نقوله في أنَّه تعالى لايفعل القبيح فإنا نقول قد ثبت أن الواحد منها مع علمه بقبح القبيح وغناه عنه وعلمه باستغنائه عنه لايفعله ولاعلة لكونه لايفعله إلاَّ ما ذكرنا فيجب ألا يفعله تعالى لحصول الجامع وهو علمه بقبح القبيح وغناه عنه وعلمه باستغنائه عنه.
وأما جامع نسبة الحسن فكما نقوله قد ثبت أنَّه تعالى يحسن منه تكليف من المعلوم من حاله أنَّه يؤمن وإنَّما حسن لكونه تعريضاً لمنافع لاتنال إلاَّ بالتكليف فكذلك من علم من حاله أنَّه يكفر لحصول جامع الأمر وهو أنَّه بتكليفه قد عرضه لمنافع لاتنال إلاَّ به.
وأما الجامع في نسبة القبح فكما نقول قد ثبت أنَّه يقبح من أحدنا فعل الظلم وإنَّما قبح لكونه ضرراً عارياً عن نفع أو دفع ضرر أو استحقاق إلى آخر حقيقته فيجب منه أن يقبح منه تعالى لحصول جامع المر وهو كونه أيضاً ضرراً عارياً عن نفع إلى آخرها.
وأما حصول جامع الأمر في الوجوب فكما نقول قد ثبت أنَّه يجب على الواحد منا قبول عذر الجاني لأنَّه قد استفرغ وسعه وبذل جهده في تلافي ما وقع منه بندمه على ماكان وعزمه على ألا يعود فيجب عليه تعالى قبول التوبة لحصول جامع الأمر وهو أن التائب قد بذل جهده واستفرغ وسعه في تلافي ما وقع منه فيجب قبول توبته كما يجب علينا قبول الاعتذار ولهذا يُذَم على عدم القبول.
قوله: (من أحد الطرق الرابطة بين الشاهد والغائب).
الطرق الرابطة بين الشاهد والغائب أربع: علة الحكم، وطريقة الحكم، وما يجري مجرى العلة، وطريقة الأَولى. وسيأتي تحقيقها في مسألة إثبات الصانع.
قوله: (لأنه بزعمهم تمثيل للغائب بالشاهد).
يقال: هو ذكلك فما وجه الإنكار.
والجواب أن عبارتهم قاضية بأنه مجرد تمثيل للغائب بالشاهد وأنه لايستدل به ولايعول عليه إذ هو مجرد تمثيل فقط ومجرد حكم يكون الغائب والشاهد مثلين وليس كذلك فإنه تشريك بين ذاتين في حكم دل على اشتراكهما فيه دليل فليس بمجرد تمثيل ولاحكم بتماثل الغائب والشاهد لغير دليل.
قوله: (وأهل الإلحاد).
المراد بأهل الإلحاد الفلاسفة كأنه قال المسمون بالفلاسفة وأهل الإلحاد، وأراد بالإلحاد ههنا معناه اللغوي وهو الميل إلى جانب ومنه سمي اللحد لحداً، والمعنى أنهم قصدوا بذلك الميل عن الإسلام بإيراد الشبه في ضعف أدلة أهله، وقد صار الإلحاد في الشرع اسماً للكفر ويغلب عليه استعماله في جحود الصانع.
قوله: (فسموا الأقيسة).
الأقيسة: جمع قياس، والقياس في اصطلاحهم قول مؤلف من أقوال متى سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر، ومثاله: العالم متغير، وكل متغير حادث، فإنه مركب من قولين إذا سلما لزم عنهما لذاتهما العالم حادث، وليس القياس عندهم ما يصطلح عليه أهل علم الأصول لأنهم قد احترزوا عنه بقولهم لزم عنها. قالوا: فإن التمثيل وإن سلمت مقدماته لايلزم عنها شيء آخر لإمكان التخلف.
قوله: (ولاحاجة بنا إلى ذكر المغالطي والشعري إذ لافائدة فيها).
اعلم أن قياس المغلطة عندهم قياس فاسد وأيت من جهة الصورة ومن جهة المعنى، فالذي من جهة الصورة مثاله قولك لصورة الفرس المنقوش على الاحئط: هذه فرس وكل فرس صهال، لينتج أن تلك الصورة صهالة، والذي من جهة المعنى كقولك كل إنسان وفرس فهو إنسان وكل إنسان وفرس فهو فرس ينتج أن بعض الإنسان فرس قالوا: والغلط وقع فيه من حيث أن موضوع المقدمتين ليس بحاصل إذ لاشيء موجود يصدق عليه أنَّه إنسان وفرس.
وأما الشعري فهو قياس الغرض منه انفعال النفس بالترغيب أو الترهيب فيحصل للنفس منهما قبض أو بسط فينقبض أو يرغب كما إذا قيل: الخمر قوته سيالة انبسطت النفس فرغبت في شربها، وإذا قيل: العسل مرة مهوعة انقبضت النفس عنها ونفرت. قالوا: ويريد في ذلك أن يكون على وزن الشعر، كقول الشاعر:
هو البحر من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف والبر ساحله
لاسيما إذا كان إنشاده بصوت طيب.
قوله: (وإلى أن الكلام في أصول الشريعة ظني).
أصول الشرعية الصلاة والزكاة والحج والصوم وذلك لأنهم بنوا على أن الأدلة السمعية ظنية ونحن إنَّما علمنا وجوبها بالسمع فتوصلوا بكلامهم إلى أن العلم بوجوبها ظني.
قوله: (ولنورد على الشكل الأول).
اعلم أنَّه خص الشكل الول بإيراد المثال لأنه عمدة الأشكال الأربعة وأصلها والباقية راجعة إليه، وهو عندهم ما كان الحد الأوسط فيه محمولاً في الصغرى موضوعاً في الكبرى، والمقدمة الصغرى هي الولى والكبرى الثانية والحد الوسط هو ما تكر بين مقدمتي القياس وتوسط بين طرفي المطلوب.
مثال الشكل الأول: كل ح ب وكل ب. إما بحديه الوسط ههنا ب وهو محمول في المقدمة الأولى الصغرى وموضوع في المقدمة الثانية الكبرى، قالوا: فإن كان موضوعاً في الصغرى محمولاً في الكبرى فهو الشكل الرابع، مثاله: كل ح ا وكل ا ح. قالوا: وإن كان الحد الأوسط محمولاً في المقدمة الصغرى والكبرى فهو الشكل الثاني مثاله: كل ب ح ولاشيء من ا ح، قالوا: وإن كان موضوعاً فيهما فهو الشكل الثالث، مثاله: كل ب ح وكل ب د. وتفصيل ما أجمله المصنف من اصطلاحاتهم يحتاج إلى بسط كثير، وليس بمقصود ههنا إذ المقصود الرد عليهم.
قوله: (ومثالا استثنائياً).
يقال: أن الاستثنائي لايرد بصورة الأشكال بل هو نوع آخر، ولاترد الأشكال على كيفيتها المذكورة إلاَّ في القتراني ويمكن .... بأنه أراد الاستثنائي الذي يمكن رده إلى القتراني بصورة الشكل الأول وفيه تكلف.
قوله: (سواء قسنا أو لم نقس).
أراد أن ما كان من هذا الجنس فهو غني عن القياس فلا حاجة إلى ذكر ما أوردوه وإنَّما يحتاج إلى القياس ما كان نظرياً.
قوله: (وبعد فما الثمرة في أن نعلم أنه ليس شيء من الناس حجراً وأن النهار موجود حتَّى تكلفوا له فناً من أدق الفنون).
يقال: هذا حكم ببطلان فائدة علم المنطق مع إطباق الجم الغفير على إفاته والحاجة إليه وأنه قانون يعرف به صحيح الأدلة من سقيمها وغثها من سمينها، ثُمَّ أن المصنف في كلامه مناقضة فإنه ذكر في آخر كتابه هذا أن من حق المجتهد أن يكون محوذاً في علم المنطق وأشبع الفصل في ذلك كما سيأتي.
والجواب: أن هذه مؤاخذة لهم حيث قالوا أن الأدلة اليقينية ليست إلاَّ الضرورية وأن غيراه ليس بدليل ولايقيني فأراد أن الضروري لايحتاج في معرفته إلى ترتيب مقدمات ولا إلى معرفة علوم المنطق ولايتوقف عليها فإن أخذنا بعلم عند طلوع الشمس أن النهار موجود وإن لم نسمع بذكر المنطق فضلاً عن أن نحتاج إلى مطالعته في العلم بذلك وكذلك فهو يعلم أنَّه لاشيء من الناس بحجر وإن لم يستحضر مقدمات ذلك وترتيبها.
وأما إطباق العقلاء على إفادته واشتراط المصنف له وتعويله عليه على خلاف في ذلك فإنما هو بناء على أن العلوم النظرية يقينية يمكن التوصل إليها بالأدلة فعرف المنطق لئلا يشتبه عليه اليقيني بغيره ويلتبس عليه بالدليل ما ليس بدليل، ولهذا قال رحمه الله حيث اشترط لأنَّه بالنسبة إلى العلوم النظرية كالنحو بالنسبة إلى الألفاظ فأما الضروري فهو لايلتبس بما ليس بضروري ولايحتاج فيه إلى فهم ما قالوه فبان بهذا الجواب خلوص كلامه عن التناقض.
قوله: (وههنا فضيحة للفلاسفة ننبهك عليها لتعلم أن غرضهم المكر).
الفضيحة: الاسم من فضحه يفضحه فافتضح أيا نكشفت مساويه والمراد أن مساويهم وهي تغريرهم وتلبيسهم ومناقضاتهم انكشفت بما بيناه من مقالاتهم والمكر الخديعة ولا إشكاعل في قصدهم لخديعة أهل افسلام واستمالتهم عنه.
قوله: (من استقرأ الجزئيات).
الاستقراء عندهم: الحكم على كلي بشيء لوجوده في أكثر جزئياته وسموه استقرائياً لأنَّه لايحصل إلاَّ بتتبع الجزئيات فالحكم في هذا المثال الذي أورده ارسطاطاليس هو الحكم بأن صورة افنسان لاتكون إلاَّ كما شاهد في زيد وعمرو وغيرهما فهو حاصل عن تتبع الجزئيات فإنا لما لم نجد في جنس الإنسان إلاَّ من هذه صورته حكمنا بأنه لايوجد في جنسه غير هذه الصورة.
قوله: (لايفيد إلاَّ الظن).
ذكر قطب الدين صاحب شرح الرسالة الاستقراء ومثله بقولنا: كل حيوان يحرك فكه الأسفل عند المضغ لأن الإنسان والبهائم والسباع كذلك وصرح بأنه لايفيد اليقين لجواز وجود جزئي آخر لم يستقرأ أو يكون حكمه مخالفاً لما استقرئ كالتمساح.
قوله: (فسموا القضايا الَّتِي تجعل مقدمات الأقيسة).
القضايا جمع قضية وهي في اصطلاحهم بمعنى الجملة الخبرية في اصطلاح النحاة، ومقدمات القياس مثل قولهم: العالم متغير، وكل متغير حادث، ونحو ذلك فهاتان المقدمتان وما شاكلهما هي المقسومة إلى هذه الأقسام.
قوله: (وأما المأخوذات فهي ما أخذ عن العلماء وعمن يحسن الظن به وما سلمه الخصم).
اعلم أنهم يسمون هذا القبيل مقبولات ومسلمات ويقسمونه إلى هذين القسمين، قالوا فالمقبولات قضايا توجد ممَّن يعتقد فيه الصدق إما لأمر سماوي من المعجزات والكرامات كالأنبياء والأولياء وإما لاختصاصه بمزيد عقل ودين كأهل العلم والزهد.
قال صاحب الرسالة: وهي نافعة جداً في تعظيم أمر الله والشفقة على خلقه وعدها من غير اليقينيات والمسلمات عندهم قضايا تسلم عند الخصم وينبني عليها الكلام سواء كانت مسلمة فيما بينهما خاصة أو بين أهل علم كتسليم الفقهاء أصول الفقه، ومثاله أن يستدل الفقيه على وجوب الزكاة في حلي البالغة بقوله عليه السلام: <في الحلي زكاة> فيقول الخصم: هذا الخبر آحادي والآحادي ليس بحجة، فيقول له: قد ثبت هذا في علم أصول الفقه ولابد من أن نأخذ ههنا. قال صاحب شرح الرسالة: والقياس المؤلف من المشهورات والمسلمات يسمى جدلاً ، والغرض منه إفحام الخصم وإقناع من هو قاصر عن إدراك مقدمات البرهان.
قوله: (ولهذا أقسم الرازي بيمين كبيرة في محصوله).
المحصول: كتاب له في اصول الفقه قال فيه: أحلف بالله وبالأيمان الَّتِي لامخارج منها أني راجعت عقلي وذهني وطرحت الهوى والتعصب فلم أجد عقلي قاطعاً بذلك في حق من لايصح عليه النفع والضرر بل ولا ظاناً.
قوله: (ولم تجعلوا الاستدلالات يقينية).
إن أمكن حمل قولهم أن الاستدلاليات غير يقينية على أن مرادهم ليست بضرورية لأنهم ممَّن استدل وبنى مذاهبه على الاستدلال فالخلاف في عبارة وإن قصدوا أن الاستدلاليات غير معلومة فالخلاف معنوي وبطلان كلامهم يظهر بما ذكره من حصول أمارة العلم فيها لسكون النفس والمطابقة.
قوله: (ثم يقال لأهل الإسلام منهم).
أي ممَّن قال بأنها غير يقينية وهم الفلاسفة والمجبرة وهذا إنَّما يخاطب به الأشعرية أهل الإسلام فأما الفلاسفة فإنهم لايثبتون الصانع المختار أصلاً فكيف يمكن أن يراجعهم في ادلتهم عليه.
قوله: (والقسمان باطلان).
أي أن يكون متحركة أو ساكنة مع كونها أزلية ومما يعلل به بطلانهما أنَّه لايكون متحركاً إلاَّ بأن ينتقل من جهة إلى أخرى ولاساكناً إلاَّ بأن يكون لابثاً في الجهة وقتين فصاعداً.
قوله: (مما ليس بضروري وقد لاينتهي إلى أصل ضروري).
يقال: أما أنَّها ليست ضرورية فنعم وأما أنَّها لاتنتهي إلى أصل ضروري فغير مسلم ولو لم تنته إليه لم تكن معلومة وأنت تجعل هذه المسائل معلومة وقد ذكرت أنَّه لابد من الانتهاء في الأدلة إلى أصل ضروري.
قوله: (مركباً مما به المشاركة). يعني وجوب الوجود (ومما به المباينة) يعني في التعيين فإن عين هذا غير عين الآخر.
قوله: (هذا الدليل ينبني على أن الوجود زائد على الذات).
يعني حيث أثبت للوجود كيفية وهي الوجوب والكيفيات تتبع الصفات على ما سيأتي وحيث أثبته أمراً اشتركا فيه مع اختلاف عينيهما وهذا ينبني على أنَّه زائد على الذات إذ لو كان نفس الذات لم يكن أمراً مشتركاً فيه إذ لايشارك أحدهما الآخر في ذاته.
قوله: (وأكثر هذه الأصول غير صحيحة).
أراد بغير الصَّحيح كون وجوب الصفة مما به تقع المشاركة وإن اختلفت الصفة وأن التعيين مما به تفع المخالفة لأنَّه قصد بالمشاركة المماثلة ووجوب الوجود حكم لأنا ننزله في تماثل ولا اختلاف وكذلك في التعيين لايتقضي المخالفة لأن المخالفة لاتكون إلاَّ بالافتراق في الصفة الذاتية، فإننا نجرد المغايرة في العين فلا نوجب الاختلاف وكذلك قوله إن اجتماع ما به المباينة والمشاركة يقتضي الكثرة في الذات فإن أكثر ما في ذلك اجتماع صفتين تماثل بأحدهما ويخالف بالأخرى ومثل ذلك لايوجب أن يكثر الذات إذ لاتأثير للصفات في تكاثر الذوات وإنَّما الذي يلزم عليه إذا كانت الصفتان ذاتيتين مختلفتين أن تصير الذات كالمخالفة نفسها بحصولها على ما لو حصل عليه غيرها لخالفها وإن كان هذا معترضاً على ما سيأتي قوله بأن العالم ممكن الوجود لذاته المراد بهذه العبارة أنَّه غير واجب الوجود مستحيل العدم بل يجوز وجوده وعدمه.
قوله: (وقد ألزمه الفلاسفة عليه إلى آخره).
تلخيص إلزام الفلاسفة أن يقال: ليس إمكان وجود العالم بمانع عن قدمه واحتياجه إلى المؤثر لأن إمكانه وحاجته كإمكان معلول العلة وحاجته فإنه يحتاج إلى العلة حال بقائه، والعالم عندنا موجب أثر المؤثر فيه على طريق الإيجاب والمقاربة والمؤثر قديم فكذلك العالم فيكون إمكان وجوده وحاجته إلى مؤثر في حال بقائه إذ لو قدر عدم المؤثر لعدم معه ولايكون إمكان وجوده مانعاً من قدمه.
قوله: (وألزموه أن يكون الباري موجباً غير مختار) إلى آخره.
تقرير الإلزام أن يقال: إذا كنتم تذهبون إلى أن الإرادة موجبة وتقولون مع ذلك أن إرادة الله تعالى قديمة فيلزمك على هذا أن يكون كل ما تعلقت به تلك الإرادة واجباً وكذلك ما علم وقوعه ولايكون تعالى مختاراً في فعل ما تعلقت به هي والعلم بل قد صار واجب الوجود لتعلقهما به ويلزم أيضاً من قدمها تعلقها في الأزل إذ لايوجد غير متعلقة ووجوب ما تعلقت به وحصوله في الزل وهو محال.
قوله: (كما تقولونه أنتم في تأثيره على جهة الاختيار).
للرازي أن يقول: بين الموضعين فرق لأنا إنَّما قلنا بأنه يقف وجوده على حصول الوقت الذي يصح وجوده فيه لأن فاعله مختار والمختار لابد أن يتأخر عنه فعله وإذا وجب تأخره وقد ثبت أن الله تعالى قديم لزم أن يتأخر بما لو كان هناك أوقات لم ينحصر وإلاَّ لزم حدوث القديم لو انحصرت أوقات التقدم بخلاف ما إذا جعل موجباً فإنه لاوجه يقتضي التأخر والفرق بن الموضعين ظاهر.
قوله: (الذي هو من قبيل المشهورات عنده).
يقال: الأولى أن يقال: الذي هو من قبيل قياس التمثيل عنده.
قوله: (وهو لافعل له فضلاً عن أن يكون محكماً).
يعني لعدم استغنائها عن أن ترد إلى الشاهد إذ لو علمها الرازي ضرورة من غير رد لوجب أن يشاركه في ذلك ومع ردها إلى الشاهد يكون من باب قياس التمثيل على زعمه وهو لايوصل عنده إلى اليقين فيكون اعتقاد الباري وصفاته غي يقيني.
قوله: (ولم أجد لأحد من أصحابنا في الرد عليهم) إلى آخره.
أما قولهم أن الحكم يقبح الظلم والكذب ونحوهما والحكم بوجوب شكر المنعم ورد الوديعة ونحوهما قضايا مشهورة وذكرهم للأسباب القاضية بذلك فقد ذكره الإمام يحيى في التمهيد في مسألة التحسين والتقبيح ورد عليهم وأبطل كلامهم في ذلك من وجهين:
أحدهما: أنَّه إن كان الغرض بقولهم أن هذه قضايا مشهورة على معنى أن العقول قاضية بحسنها وقبحها فهو المطلوب، وإن كان الغرض بقولهم أن هذه القضايا مشهورة أنَّها اشتهرت بين العقلاء وألفتها طباعهم وانغرست في قلوبهم محبتها والميل إليها من غير علم بحسنها وقبحها فهذا هو المنكر والشناعة، فإنا على علم ويقين من حال العقلاء في رسوخ هذه القضايا في عقولهم وتحققها في أفهامهم لا لبس عليهم فيها كسائر الأمور الضرورية من النداية وغيرها مع أنا لاننكر أن العلوم متفاوتة في الظهور والخفا ولكنها مستوية في التحقيق والثبوت.
وثانيهما: أن كلامنا معهم ليس إلاَّ في بيان أن هذه القضايا مقررة في الأذهان متحققة في العقول فإذا ساعدونا على هذا التحقيق، فقولهم بعد ذلك أنَّها قضايا مشهورة وآراء محمودة وأنها تنغرس في الصبا وأوائل النشو لايضرنا بعد تسليم كونها عقلية.
قال عليه السلام: وعلى الجملة فنحن نقول أن هذه الضقايا مقررة في العقول وهم يزعمون أنَّها مشهورة ونحن نقول أن النفرة عن هذه المقبحات نفرة عقلية وهم يقولون أنَّها نفرة طبيعية مع الاتفاق منا ومنهم على أن موردها العقل ومستندها الضرورة كما ذكره المحققون من متأخريهم وأنت إذا تحققت هذا منا ومنهم عرفت أن الخلاف بيننا وبينهم في هذه القضايا يقرب أن يكون لفظياً.
قوله: (وأنه لايقدح في ذلك ما يقوله أهل الزيغ).
يريد بذلك الفلاسفة أهل الميل عن الحق القاصدين إلى القدح في الإسلام وإزاغة أهله عنه ومن تابعهم.
فصل
لابد بين الدليل والمدلول من تعلق.
قوله: (والمسبب على السبب والمقتضى على مقتضيه).
اعلم أن السبب والمقتضي كما يدخلان في قسم ما لولاه لما وجب دليله فإنهما يدخلان في باب ما لولاه لما صح لأنهما يؤثران في الصحة كما يؤثران في الوجوب بخلاف العلة فإنها لاتؤثر إلاَّ في الوجوب فقط ومعنى تأثير هذه الثلاثة في الوجوب أنَّه لايجوز تراخي وجوب تأثيرها عن جوازه وصحته بل متى جاز وجب ومتى لم يجب استحال بخلاف الفاعل فإنه يجب تقدم صحة تأثيره على وجوبه على الصَّحيح فيصح منه الفعل أولاً ثُمَّ يقع لن الفاعل يجب تقدمه، ومعنى تأثير السبب في الصحة أنَّه إذا وجد وانتفت الموانع وحصلت الشروط أصبح سببه ومتى عدم استحال حصول مسببه لأجل عدمه ولم يصح، ومعنى تأثير المقتضي في الصحة كذلك.
مثاله: الحيية فإنها متى حصلت وحصلت شروط الإدراك صح كون المختص بها مدركاً ومتى لم يحصل استحال إدراكه ولم يصح بحال بخلاف العلة فإنها لاتؤثر إلاَّ في الإيجاب والذي يؤثر في صحة موجبها غيرها فلا يوجب إلاَّ لما قد صح عليه موجبها، مثاله: الحركة فإنها لاتوجب المتحركية إلاَّ لما قد صححها له التخير وتحصل صحة موجبها مع عدمها ولو كانت تؤثر في الصحة مع الوجوب لكان يلزم أن تختص ببعض الأعراض فتصحح المتحركية له ويوجبها وهو محال وعلى ذلك فقس سائر العلل.
قوله: (إن ثبت أنهما غيران).
هذه إشارة إلى خلاف سيأتي في الدعوى الرابعة فإن منهم من ذهب إلى أنَّها هي الثالثة وإن عدم انفكاك الجسم من الحوادث وتقدمه لها ووجوب مقارنته هو معنى حدوثه وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى ويعني دخوله في باب ما لولاه لما وجب وما لولاه لما صح أن نقول: لولا حدوث الجسم لما وجبت مقارنته للحوادث ولولا حدوثه لما صحت مقارنته للحوادث وهو ظاهر، والذي في النسخة الَّتِي بخطه رحمه الله: يدخل في باب ما لولاه لصح لكنه على سبيل السهو.
قوله: (وما شابه ذلك).
يعني كدلالة التحيز في الجوهر على وجوده فإنه لولا الوجود لما وجب التحيز لأنَّه لايمكن تحيزه مع عدمه ويجب عند وجوده لحصول شرط اقتضاء مقتضيه له.
قوله: (فإنه لولاهما لما اختير).
ينبغي أن يقال: لولاهما أو أحدهما.
قوله: (وكذلك دلالة العدو في الشوك والنار على الإلجا).
يعني فإنه لولا الإلجاء إما بصاعقة أو سبع أو نحوهما لام اختير العدو على النار والشوك.
قوله: (قال أبو الحسين إلى آخره).
ذكر ابن متويه معنى كلامه وأجاب بما معناه أن كلامنا في الأدلة ودلالة كونه حياً على كونه مدركاً هو بطريقة النظر، وإن أمكن أن يقال لولا وجوب كونه مدركاً لما وجب كونه حياث فثبت فيه طريقة الوجوب وفيه نظر لأنَّه لافرق في هذا الفصل بين الدليل وطريقة النظر والاستدلال بكونه حياً وإن كان طريقه نظر فإنه لابد من أحد التعلقات وإلاَّ لم يكن بأن يدل على كونه مدركاً أولى من غيرها من الصفات.
وقوله: (لولا وجوب كونه مدركاً لما وجب كونه حياً) لاطائل تحته.
فصل
قد يكون الاستدلال بالتابع على المتبوع وقد يكون بالعكس وقد لايكون بواحد منهما.
قوله: (كدلالة الفعل ووجوهه على الفاعل وأحواله).
أما نفس الفعل فيدل على الفاعل وقادريته ووقوع الفعل على وجه الإحكام يدل على عالميته ووقوعه على الوجوه المختلفة من نحو كونه أمراً وجبراً يدل على كونه مريداً ووقوع الكلام مثلاً نهياً وتهديداً يدل على كونه كارهاً وما سوى هذه من الصفات فالفعل يدل عليها بواسطة أو بواسطتين على ما سيأتي.
قوله: (وبالمعلول على العلة).
مثاله: كونه متحركاً فإنه تابع ويدل على المتبوع الذي هو العلة وهي هنا الحركة.
قوله: (والمسبب على السبب) هو كدلالة الصوت الواقع منا على الاعتماد.
قوله: (والمقتضي على مقتضيه).
مثاله: دلالة المدركية على الحيية والتحيز على الجوهرية.
قوله: (وبوقوع الفعل من العالم المختار على الداعي).
مثاله: وقوع العالم منه تعالى فإنه يدل على حصول الداعي له تعالى لأن وقوع العالم تابع له وهو علمه بحسنه وحصول نفع للغير فيه إذ السهو والعبث غير جائزين عليه تعالى.
واعلم أن الذي يدل من الأفعال على الداعي فعل العالم المميز لفعله غير الملجئ عند الإمام يحيى وأبي الحسين وابن الملاحمي أن كل فعل يدل على الداعي حتَّى فعل الساهي والنائم إذ لافعل يصدر عندهم إلاَّ عن داع خلافاً لما ذهب إليه الجمهور.
قوله: (وباستحالة اجتماع الضدين على التضاد).
يعني فإن استحالة الاجتماع تابع للتضاد فاستحالة اجتماع السواد والبياض تابع لما بينهما من التنافي.
قوله: (وبوجوب صفات الله تعالى على أنَّها ذاتية)
يعني فلولا كونها ذاتية لم يجب له تعالى والمراد ذاتية أو مقتضاه عن الذاتية وتحرير ذلك أن يقال: قد ثبت وجوبها لله تعالى لاستحالة خلافها عند إمكانها فيجب كونها ذاتية أو مقتضاه إذ الصفة الواجبة لاتخرج عن ذلك ثُمَّ يبطل أحد القسمين ويتعين الآخر.
قوله: (على كذب المدعى).
يعني فإن عدم ظهور المعجز على ندبه تابع لكذبه إذ لولاه لظهر.
قوله: (وبظهوره على صدقه).
يعني فإن ظهوره تابع لصدقه إذ لولاه لما ظهر. مثاله: ظهور القرآن على نبينا صلى الله عليه وآله وسلم فإنه تابع لصدقه ودال عليه ويدل أيضاً على وجوب ظهوره لأنَّه مما إذا أحسن وجب وإذا لم يجب قبح وظهوره تابع للوجوب كما أنَّه تابع للحسن.
قوله: (لو قدرنا أنَّه يسبق العلم بها).
اعلم أن العلل لاتعلم بدلالة الفعل إلاَّ بموجباتها إذ لاشيء منها بمرئي فيعلم بالإدراك ويجوز أن تعلم قبل أحكامها وموجباتها على وجهين إما بأن يخلق الله فينا العلم الضروري بها أو يخيرنا صادق بذلك وحينئذ نستدل بها على تابعها الذي هو موجبها إذا كنا قد علمنا أنَّها لاتنفك عنه ولاتقف في إيجابها له على شرط.
قوله: (وكذلك الاستدلال بالسبب على المسبب).
اعلم أن الأسباب لاتعلم إلاَّ بمسبباتها إذ لاشيء منها بمدرك إلاَّ عند أبي علي في الكون وإنَّما تثبت دلالته حيث تقدم علمنا به على تابعه الذي هو مسببه بشرط أن يعلم أن مسببه لايتراخى بل يقارن كالتأليف وعلمنا أنَّه لامانع من توليده ولا اختلال في شروط توليده.
قوله: (وسائرها). يعني فيمكن الاستدلال بالمقتضي على مقتضاه إذا علمناه من قبل وحصول شرط اقتضائه إذا كان منما يقف على شرط كاقتضاء الجوهرية للتحيز والحيية للإدراك، ويستدل بحصول الداعي المكثر الحاصل للقادر الممكن من الفعل غير الممنوع على وقوع الفعل منه إذ يجب وقوعه عند حصول الداعي وجوب استمرار ويستدل بالتضاد على امتناع الاجتماع ويستدل بكون صفات الله تعالى ذاتية أو مقتضاه على أنَّها واجبة.
قوله: (الاستدلال بكونه تعالى قديماً).
يعني فإنه يدل على ما هو تابع له وهو استحالة العدم.
قوله: (وبعدم المعاني على زوال تعلقها).
يعني فإن عدمها متبوع وزوال تعلقها تابع له ونحن نستدل بالعدم على زوال التعلق على ما سيأتي تحقيقه في مسألة موجود.
قوله: (ونحو ذلك).
يعني كاستدلال بالمتبوع الذي هو الوجود على تابعه الذي هو التعلق.
قوله: (والثالث). يعني الذي لايكون استدلالاً بالمتبوع على التابع ولا بالتابع على المتبوع ولكن لضرب من التلازم وقد حصر الفقيه قاسم وغيره هذا القسم في كل أمرين ثبتا لمؤثر واحد بغير شرط أو ثبتا لمؤثر بشرط واحد أو بشرطين متلازمين.
فالذي من غير شرط ما ذكره من الاستدلال ببعض أحكام التحيز على بعض أحكامه، أربعة: صحة الإدراك بحاستين، واحتمال الإعراض، و شغله للجهة، ومنعه لغيره من أن يكون بحيث هو ويمكن جعل الحكمين الآخرين واحداً ويجعل الرابع صحة الكائنية فإن هذه الأحكام لما اقتضاها التحيز على سواء من غير شرط أمكن الاستدلال بأحدها إذا علمناه دون باقيها على سائرها وكذلك الاستدلال ببعض معلولات العلة على بعض لأنها لاتقف في باب الإيجاب على شرط فإذا علمنا وقوع سكون النفس لحي إلى معتقد علمنا كونه عالماً به لأن سكون النفس والعالمية معلولان عن علة واحدة وهيا لعلم.
والذي يشرط كالاستدلال بصحة الصفة الَّتِي هي التحيز على وجوبها فإن المؤثر في صحتها وفي وجوبها الجوهرية بشرط الوجود فإذا علمنا الصحة علمان الوجوب واستدللنا بها عليه والعكس، ومثال الحكمين اللذين يؤثر فيهما مؤثر واحد بشرطين متلازمين ما نقوله في ذات من السواد ومماثلتهما لذاتين من السواد فإن المؤثر في مماثلتها أنَّها صفتها الذاتية فههنا حكمان وهما مماثلتها لهذه ومماثلتها لتلك ولهما شرطان متلازمان وهما استحقاق هذه لمثل صفتها ومشاركتها لها فيها واستحقاق هذه لمثل صفتها ومشاركتها لها فيها لأن موافقتها لأحدهما غير موافقتها للأخرى فإذا علمنا الذاتين أولاً ثُمَّ علمنا هذه الذات وعلمنا مماثلتها لحدهما علمنا مماثلتها للأخرى لامحالة هذا تلخيص ما ذكره الفقيه قاسم.
ويخرج عن هذا الحصر ما ذكره المصنف رحمه الله من دلالة صحة الصفة الذاتية على وجوبها والاستدلال بجواز عدم الاعراض على حدوثها فإنه لامؤثر ههنا بجمع الحكمين لامن غير شرط ولابشرط ولابشرطين فالأولى أن يقال في الحصر هما كل حكمين ثبتا لمؤثر من غير شرط أو بشرط أو بشرطين متلازمين أو دل الدليل على تلازمهما وإن لم يكن المؤثر فيهما واحداً كالذي تقدم ذكره مما لم يشمله ذلك الحصر وكالاستدلال بمعلول علة على معلول أخرى إذا كانت علة هذا المعلول الذي علمناه ملازماً لعلة الأخرى. ومثاله: أن يعلم هذا كون هذا الجسم مشتهياً فإنا نعلمه حياً لما كانت الشهوة لاتحصل إلاَّ في محل فيه حياة.
فصل
قوله: (قد يجب مقارنة الدليل للمدلول).
يعني في ثبوته وأما العلم فلا بد أن يتقدم العلم بالدليل.
قوله: (وقد يجوز الأمران كمسببات الأسباب) يعني فإن فيها ما يجب مقارنته وفيها ما يجب تأخره.
مثال الول: التأليف والألم فإنه يجب مقارنتهما لسببهما.
ومثال الثاني: العلم والكون والاعتماد فإنه يجب تأخرها عن أسبابها وكذلك الصوت على رأي الأكثر وتوقف فيه أبو هاشم والمقتضيات كالمسببات فإن فيها ما يجب مقارنته لمقتضيه وهو حيث لايقف الاقتضاء على شرط كالمماثلة والمخالفة وصحة كون الشيء معلوماً فإنها تقارن مقتضيها وهي الذاتية أو تقف على شرط لكنه مقارن كالصفات لامقتضاة عن صفته تعالى الذاتية وفها ما يجبت أخره لاستحالة اقتران شرطه بمقتضيه كالتحيز وصفات الأعراض المقتضاة فإن مقتضاها وهي الجوهرية وصفات الأعراض الذاتية ثابتة على رأي مثبتي الذوات حالة العدم في الأزل ولما استحال وجود الجواهر والأعراض الذي هو شرط الاقتضاء في الأزل وجب تأخر المقتضيات وكذلك كونه تعالى مدركاً فإنه يجب تأخرها عن مقتضاها لمثل ذلك.
قوله: (وكدلالة كونه مدركاً على كونه حيا).
يعني فإن الدليل الذي هو كون المدرك مدركاً قد يجب مقارنته إذا حصلت الشروط مقارنة للمقتضي ويجب تأخره إذا لم يقارن كما في حقه تعالى وأراد بدلالة كونه مدركاً على كونه حياً في الشاهد فأما في الغائب فالأمر بالعكس وقد يجوز في حقه تعالى كما لو قدرنا خلقه العلم الضروري بكونه مدركاً قبل العلم بكونه حياً فإنا نستدل بذلك على كونه حياً وفي كثير من نسخ الكتاب وكدلالة كونه حياً على كونه مدركاً وهو غير مستقيم ولعل التقديم فيه والتأخير من سهو القلم.
فصل
قال أبو الهذيل: يعرف انتقاض المنتقض من الأدلة بأحد ثلاثة أمور.
قوله: (واعتبرت صحة دعواه وفساده بحال غيره من الأفراس).
يعني فإن وجدنا أن كل ما أجري عشرة فراسخ فاستمر فهو جواد ولايوجد فرس ليس بجواد يستمر في الجري هذا القدر عرفنا صحة دعواه من كون فرسه جواداً وإن وجدنا غير الجواد يجري ذلك المقدار ووجدنا الجواد يعتبر فيه أكثر من ذلك عرفنا فساد دعواه في فرسه والعشرة الفراسخ ثلاثون ميلاً والثلاثون ميلاً تسعون ألف ذراع، والجواد من الخيل الرايع جديد الفؤاد من جاد الفرس يجود جوده بالضم فهو جواد للذكر والأنثى من خيل جياد وأجياد وأجاويد.
قوله: (سؤالنا للثنوية عن شبح رأيناه على هيئة حصان).
اعلم أن في هاتين اللفظتين وهما شبح وحصان لبساً ولم يصح سماعهما عن المصنف فقد تروى الأولى بالشين المعجمة والياء التحتانية المثناة والخاء المعجمة وقد يروى بالباء الموحدة ولاحاء المهملة والشبح بفتح الباء وسكونها هو الشخص، واللفظة الأخرى قد تروى بالحاء المهملة والصاد المهملة والنون وقد تروى بالخاء المعجمة والصاد المعجمة والباء الموحدة ولعل المراد بكون الشيخ قاعداً على هيئة حصان وفوقه منحنياً على يديه ورجليه وبهذا يعلم جحدهم للإضطرار فضلاً عن أن يكون قاعداً على هذه الهيئة وأما إذاحكم بأن تلك اللفظة خضاب بالخاء والضاد المعجمتين والباء الموحدة فلا يتأتى إلاَّ على ما ذكره بعضهم أن في هذا المثال تصحيفاً وأن صوابه أن يقال: سؤالنا للثنوية عن شيخ رأيناه قاعداً على كفيه خضاب. وهذا أحسن ما يحمل اللفظ عليه وإنَّما عرض التباس كفيه بلفظة هيئة من حيث أن الكاتب الول كتب الكاف كاللام وكتب الفاء على أثره فاختلطت بالكاف فصار على هيئة الهاء وجعل علامة الكاف هذه صورتها ء فظنت همزة ومطابقة هذا المثال ظاهرة فإن كون شيخ قد طال عليه الزمان جاعلاً خضاباً على كفيه لايمكن أن يدعى فيه أنَّه لم يزل على هذه الحال.
وقيل: بل الذي ذكره الشيخ أبو القاسم مالفظه: عن شيخ قاد على هيئة وخضاب. أتقولون أنَّه لم يزل على هيئته وخضابه في مكانه وهو مستقيم على هذا فالخلل وقع من إهمال الواو العاطفة لخضاب على هيئة ومن تصحيف لفظة خضاب.
قوله: (أقروا بالحدوث).
يعني من حيث أن القديم لايجوز عليه التغير والتنقل من حال إلى حال لأن ذلك من حكم المحدثات.
وفيه سؤال وهو أن يقال: وهب أن ذلك يوجب حدوثه فهل قالت الثنوية أن كل شيخ قديم حتَّى يلزمهم ذلك وما وجه الإلزام.
والجواب: أنهم يذهبون أو أكثرهم إلى أن النور والظلمة قديمان وهذا الشبح الذي رأيناه هو عندهم من نور وظلمة وممتزج منهما فإذا صح حدوثه بطل قدم النور والظلمة وقد نقل عنهم القول بأن العالم وإن كان محدث الصورة فهو قديم المادة.
قوله: (من ظلم وعبث وهذيان).
الهذيان مصدر هذى في منطقه هذياناً وهو الكلام الذي فيه معنى العبث لعدم الفائدة.
قوله: وإرادة كل قبيح ونحو ذلك يعني كتجويزهم تعذيب من لاذنب له وإثابة من لايستحق وإضلال المكلفين وإزاغة قلوبهم.
قوله: (بصفات الأفعال).
يعني بذلك الوجوه الَّتِي تقع عليها من كونها ظلماً وعبثاً وهذياناً ولم يرد كونها قبيحة فإنهم لايصفون أفعاله تعالى بقبح ولاحسن.
قوله: (فتزعمون أنَّه يصح أن يقول فيما لم يكن..) إلى آخره.
إنَّما ألزمهم ذلك لأنهم لا يلتزمونه إذ لايجوزون الكذب علهي تعالى ولاتكليف الجماد ولاتكليف مالايعلم وإن أجاز بعضهم تكليف مالايطاق.
فصل
كثيراً ما يجري في كتب المتكلمين ذكر ما لاطريق إليه فمرة يقولون لايجوز إتيانه ومرة يقولون يجب نفيه.
قوله: (فلا يولد النظر العلم بشيء قط).
يقال: ليس تجويز شبه قادحة بمانع من توليد النظر لأن توليده لما هو عليه في اته فلا يقف على القطع بألا شبهة.
والجواب: أن النظر يقف في توليده على العلم بالدليل كما تقدم فإذا كان كذلك وجوز ورود ما يقدح في الدليل دعاه ذلك إلى التجويز الذي لا يجامع العلم فيتغير علمه بالدليل ويزول فلا يولد النظر فيه العلم بالمدلول لاختلال شرطه.
قوله: (فلا يصح قياس الغائب).
يعني لتجويزنا أن يكون حاجة أفعالنا إلينا لا لحدوثها بل لغير ذلك فلا يعلم احتياج العالم المحدث إلى محدث ولتجويز المؤثر في صحة الفعل وصحة الأحكام غير كوننا قادرين عالمين لأجل صحة الفعل والإحكام منه تعالى بأنه قادر عالم إذ لاقطع بأن تلك هي العلة.
قوله: (ونحو ذلك من الغيوب وذلك كتجويز موت من غاب عنا والخسف فيما بعد عنا وإنزال المطر والصواعق وغير ذلك مما لاينحصر).
واعلم أن المصنف رحمه الله قد أحسن في الكلام على هذا الفصل وفي الكشف عن مراد المتكلمين لكن قد ورد على ما تضمنه هذا الفصل أسئلة أوردها ابن الخطيب في النهاية والإمام يحيى في التمهيد، وحاصل ما أورده عليه السلام أن قولكم في الشيء لادليل عليه إما أن تعنوا به أنكم لم تعلموا دليل ثبوته وكل مالم يعرف دليل ثبوته وجب نفيه فالمقدمة الأولى حق لكن الثانية ظاهرة الفساد لنه لو كان عدم العلم بدليل ثبوت الشيء دليلاً على عدمه لزم أن يكون العوام قاطعين بنفي الأمور الَّتِي لم يعلموا دليلاً على ثبوتها وأن يكون المنكرون للصانع والتوحيد والنبوة علامين بنفيها لانتفاء علمهم بأدلتها بل يلزم أن يكون الإنسان كلما كان أقل علماً بالدلائل أن يكون أكثر علماً وهذا ظاهر الفساد.
ويمكن الجواب بأن ما ذكره المصنف من التفصيل يدفع ما ذكره عليه السلام فإنهم لايقولون بأن مالم يعلموا دليلا عليه وجب نفيه مطلقاً بل لايوجبون نفيه ولايجيزون إذا كان مما يمكن أن يكون إليه طريق ولهذا غابوا على بعض المشائخ استدلاله على نفي الثاني بأنه لادليل عليه وكل ما لا دليل عليه وجب نفيه فقالوا له إن الطريق إليه لو كان ثابتاً فعله وليس فعله بموجب عنه فلا يمتنع ثبوته وإن لم يفعل فعلاً يدل عليه أما ما ألزمه عليه السلام في العوام والمنكرين للصانع فلا يلزم على ما ذكره المصنف لأن هذه المور الَّتِي لم يعلموا أدلتها مما يمكن أن يكون إليه طريق بل طرقها حاصلة، وما أمكن أن يكون إليه طريق لايجوز نفيه وعلى تقدير لزوم ما ذكره عليه السلام في العوام لايلزم أن يكون من لم يعلم الدليل أكثر علماً ممَّن علمها بل أكثر ما فيه أن يكونا متساويين في العلوم فالذي علم الدليل علم المدلول والذي لم يعلم الدليل حصل له العلم بنفي ذلك المدلول.
قال عليه السلام: وإن عنيتم ما لادليل عليه في نفس المر كان حاصل كلامكم الشيء الفلاني لادليل على ثبوته في نفس الأمر وكل ما كان كذلك وجب نفيه لكن المقدمة الأولى لم تضمن بطلان أدلة المثبت سلمنا تضمنها لبطلانها فلا يلزم من بطلانها أن لايكون الشيء ثابتاً لجواز ثبوته بدليل غير معلوم للمثيب قدرنا أنه لادليل عليه للمثبت ولاغيره فَلِمَ يجب نفيه.
ويمكن الجواب: أما قوله عليه السلام لم تضمن بطلان أدلة المثبت فإنهم لايحكمون على الشيء بأنه لادليل عليه إلاَّ بعد معرفة بطلان أدلة مثبته إن كان له مثبت فضعفها لا أنهم يقولون ذلك مع عدم معرفة بطلانها وإذا عرفوا بطلانها بالدلة لم يقدح عدم تضمن المقدمة الأولى لذلك. وأما قوله عليه السلام فلا يلزم من بطلانها .. إلى آخره.
فلهم أن يجيبوا بأن طرق الاستدلال مضبوطة منحصرة قد قررت ولم نوجب نفيه إلاَّ بعد أن علمنا عدم تأتي إحدى تلك الطرق في حقه فتجويز طريق غيرها تعسف لايقبل ولو جاز تجويز ثبوته للزم ما أشار إليه المصنف من تجويز مانع غير هذه الموانع المعقولة ونحوه، وذلك يوجب صحة تجويز أن يكون بين أيدينا فيلة وبعران وثيران وجبال ومهاو لكن منعنا من رؤيتها مانع لادليل عليه.
واعلم أن ما كانت أدلته من قبيل الموجبات كالأسباب والعلل والمقتضيات ولاسيما العلل لتعذر وقوفها في الإيجاب على شرط فلا كلام في أن عدم وجدان ما يدل عليه من موجبه يوجب نفيه إذ لو كان حاصلاً لأوجبه.
قال عليه السلام معترضاً لما أُلزِم من تجويز المانع وما يلحقه من تجويز ما لايشاهده: عدم العلم بأنه لا جبل بين أيدينا إما أن يكون متوقفاً على العلم بأن ما لادليل عليه يجب نفيه أو لايتوقف فإن كان متوقفاً عليه لم يكن حصول العلم بأن لاجبل بين ايدينا إلاَّ بعد حصول العلم بأن ما لادليل عليه يجب نفيه وإذا كان كذلك وجب أن يكون العلم بأنه لاجبل بين أيدينا نظرنا مستفاداً من دليل فيلزم من القدح فيه القدح في العلم الضروري.
ويمكن الجواب بأنه وإن لم يكن القطع بأن العلم بألا جبل بحضرتنا متوقف على العلم بأن لادليل عليه وجب نفيه فإن القول بأن ما لاطريق إليه ولايمكن أن يكون إليه طريق لايجب نفيه يلزم منه القدح في هذا العلم الضروري الذي لايقف على غيره وهو العلم بأنه لاجبل بحضرتنا ولزوم قدحه فيه ظاهر ولا انفصال عنه وناهيك بالمذهب فساداً أن يؤدي إلى القدح في العلوم الضرورية، وأن يلزم ذلك القائل به.
قال عليه السلام: وإذا كان العلم بعدم كون الجبل بحضرتنا متوقفاً على العلم بأن ما لادليل عليه وجب نفيه وهذا القائل قد بنى قوله في أن ما لادليل عليه وجب نفيه على أن القدح فيه يفضي إلى تجويز كون الجبل بحضرتنا فحينئذ يلزم الدور.
ويمكن الجواب بأن لزوم الدور غير مسلم لأنهم لم يجعلوا أنَّه يجب نفي ما لا طريق غليه دليلاً على أنَّه لاجبل بحضرتنا فإنه ضروري غنى عن الدلالة والطالب للدلالة عليه لايستحق جواباً وإنَّما جعلوه معتمداً في الأمور الاستدلالية فإذا جوز مجوز أمراً لايعلم انتفاؤه ضرورة ولم ينفه. قيل له: هذا الأمر الذي جوزته يجب نفيه لأنَّه لادليل لك على إثباته ولايمكن أن يكون إليه دليل، ولو كان انتفاء الدليل على الشيء لايوجب نفيه مطلقاً لزم ألا يقطع بصحة الاستدلال في مسألة لجواز أن يكون على ذلك الدليل سؤال قادح وذلك يقتضي ألا نثق بصحة الأدلة والبراهين لجواز أن يكون هناك ما هو قادح فيها ومبطل لها ولزم التشكيك في العلم الضروري كالعلم بأنه لاجبل بين أيدينا بتجويز ذلك وإن لم يكن إليه طريق.
قوله: (فيقول جوز صلاة سادسة وحجاً غير هذا).
يعني إا قلت أن ما لادليل على نفيه جاز إثباته فإنه لادليل على نفي إيجاب صلاة سادسة وحج آخر.
قوله: (فعناد وهوس).
العناد مصدر عاند وأصله عند يعند بالكسر عنوداً أي خالف ورد الحق وهو يعرفه ويقال أيضاً: عند عن الطريق يعند بالضم عنوداً أي عدل، والهوس طرف من الجنون هكذا ذكره الجوهري.
فصل في الاستدلال على الله تعالى
قوله: (بأفعاله المخصوصة).
أي الَّتِي لانقدر على ما هو من جنسها أو لانقدر على إيقاع جنسها على الوجه الذي وقعت عليه فأما ما كان من أفعاله تعالى يقدر على إيجاد جنسه على الوجه الذي وقع عليه فلا يمكن الاستدلال به عليه لتجويز أن يكون من فعل القادر بقدرة.
قوله: (وصحة السمع فتوقفه على معرفته تعالى).
يعني من حيث أن وجه دلالة صدوره عن عدل حكيم ومالم يعرفه تعالى لم يمكنا معرفة عدله وحكمته فلو قدرنا جواز أن يعرف عدل من صدر السمع من جهته وعدم جواز الكذب عليه قبل معرفة الله لأمكن الإستدلال بالسمع عليه تعالى لكن ذلك غير ممكن وقد ذهبت الجبرية والحشوية إلى صحة الاستدلال عليه تعالى بالسمع وهو باطل لما ذكرناه.
قوله: (والأخبار المتواترة) إلى آخره.
فيه نظر لأنها ليست من أنواع الأدلة وإنَّما هي طريق إلى العلم الضروري وليس هذا مما ينبغي ذكره هنا.
فصل
وكما أن الدليل على ذاته تعالى هو أفعاله فهي الدليل أيضاً على صفاته.
قوله: (وليس الأحكام هنا واسطة لرجوعه إلى نفس الفعل).
هذا احتراز عن أن يقال أن دلالة الفعل على كونه تعالى عالماً بواسطة الأحكام. فأجاب بأنه راجع إلى الفعل وبيانه أنا لم نعلم الأحكام بواسطة دلالة الفعل عليه ثُمَّ دلنا الأحكام فقط على كونه تعالى عالماً إذ الواسطة ما دل على ما بعده ودل عليه ما قبله وليس كذلك ههنا وإنَّما الفعل هو الدليل فلا يلزم أن تكون الأحكام واسطة على هذه الكيفية.
قوله: (أو بثلاث وسائط كدلالته على الصفة الأخص) إلى آخره.
يرد عليه سؤالان، أحدهما: أن يقال أن وجوب كونه حياً ليس بواسطة لرجوعه إلى كونه حياً إذ الوجوب كيفية لهذه الصفة كما قلتم في الأحكام. فإن قلت: لولا الوجوب في كونه حياً لما دلت على الصفة الأخص فكان الوجوب واسطة. قلنا: وكذلك فلولا الأحكام في الفعل لما دل على كونه عالماً فيلزمك كونه واسطة.
وثانيهما: أن يقال سلمنا أن وجوب كونه حياً واسطة فظاهر كلامك يقضي بأن الصفة الأخص لايدل عليها الفعل إلاَّ بهذه الثلاث الوسائط وليس كذلك فإنه يمكن الاستدلال عليها بواسطتين وهما كونه قادراً ووجوب كونه قادراً أو كونه عالماً ووجوب كونه عالماً إذ إحدى الصفات مع وجوبها كافية في الدلالة على الصفة الأخص إلاَّ أن يريد أنَّه يمكن أن يجعل دلالة الفعل عليها بثلاث وسائط مع عد الوجوب واسطة فمسلم إلاَّ أنَّه لايمكن دلالته عليها إلاَّ بثلاث وسائط فإنه يمكن بواسطتين كونه قادراً ووجوبها بل في التحقيق بواسطة واحدة وهي كونه قادراً إذ الصح أن الوجوب ليس بواسطة.
قوله: (ثم هي واسطة في سائر صفاته).
فيه سؤال: تقريره أن قولك يقضي بأنا إذا أدركنا المتحيز علمنا تحيزه ثُمَّ استدللنا به على كونه كائناً موجوداً وليس كذلك فإنا عند مشاهدة الجسم نعلم كائنيته ووجوده ضرورة وإنَّما يتصور الاستدلال بالتحيز على الكائنية والوجود إذا أخبرنا صادق بثبوت متحيز غائب عنا فإنا حينئذ نستدل بتحيزه على ما ذكرته.
والجواب أن مراده أنَّه لولا إدراكنا للمتحيز وعلمنا بتحيزه لما علمنا كائنيته ووجوده فالادراك أصل للعلم بالتحيز وطريق إليه لا إلى الكائنية والوجود والعلم بالتحيز أصل للعلم بالكائنية والوجود والعلم بالكائنية والوجود مترتب عليه وإن لم يكن بطريق الدلالة ومعنى تضمن التحيز للكائنية أنَّه لايثبت التحيز إلاَّ مع شغل الجهة، ولايقع شغل الجهة إلاَّ مع الكائنية.
فصل
والذي يصح الاستدلال به على الله تعالى هو كل ما يختص بالقدرة عليه.
قوله: (كالجواهر والألوان ونحوهما).
المراد بنحوهما سائر الأجناس الَّتِي لايقدر عليها القادر بالقدرة كالطعوم والروائح وسائرها.
قوله: (كالألم الزائد عند لسع العقرب).
يعني فإنه وإن كان من جنس ما يقدر عليه لأن الألم من مقدوراتنا فإنه وقع على وجه وهو كثرته مع قلة التفريق بحيث أنَّه لايمكنا إيجاد مثله مع مثل ذلك التفريق.
وفيه سؤال وهو أن يقال: ما أنكرت أن هذا الألم الموجود عند لسع العقرب هو لنفرات كثيرة أكبر مما يجده الملسوع لو كان الغارز غير العقرب لا لأن الألم بلغ مبلغاً لايصح من أحدنا فعله على ذلك الوجه.
وأجيب بوجهين، أحدهما: أنا نعلم بالضرورة وجود شيء ندركه في موضع الغرز والنفرة محلها القلب فعلمنا أن هذا المر المتزايد غير النفرة، وفيه نظر من حيث أنَّه لايصح القطع بأن النفرة لاتوجد في غير القلب.
وثانيهما أنَّه يصحل بما ذكرته غرضنا لأن النفرة لايقدر عليها فحينئذ يستدل بها عليه تعالى إلاَّ أن هذا انتقال من دليل إلى دليل وقد جرى في كلام أبي القاسم ما يقضي بأنه يقول بأن جميع الآل الموجودة عند لسع العقرب متولدة عن الغرز واحتج به على توليد السبب لأكثر من مسبب من جنس واحد في وقت واحد.
فائدة
الصَّحيح أن الألم الزائد على مثل ما يعتاد من مثل ذلك الغرز من جهته وكذلك ما شاكل هذا فهل يجب على الله تعالى العوض المستحق عليه لأنَّه فعله أو يجب على العقرب لنها فعلت ما قد أجرى الله العادة بخلق ذلك الألم عنده.
قال في المحيط: عوض الألم الزائد على ما يعتاد من مثل ذلك الغرز لو صدر من غير العقرب على الله تعالى وأما ألم الغرز الذي يكون مثله من غرزنا فعوضه عليها. وقيل: بل الجميع على العقرب ويكون كمن وضع غيره في نار فإن العوض يستحق عليه لأنَّه في الحكم كأنه من جهته وفي أصل هذه المسألة خلاف يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
قوله: (وحركة المرتعش).
هو من نزلت به الحما الشديدة فحصلت فيه عندها رعشة ومن الرعشية ما يصيب الإنسان في بعض الأوقات من اهتزاز الجسد وقيام الشعر.
قوله: (والعروق الضاربة). قيل: هي عروق في الرئة ومفصل الكف من الساعد فإنها لاتزال تحترك ولاتقف.
قوله: (ونحو ذلك) يعني التأليف الموجود في النبات والحيوانات فإنه مع أن جنسه داخل تحت مقدورنا لايتأتى منا على هذا الوجه.
قوله: (لوقفت على أحوالنا). يعني فيوجد بحسب قصودنا ودواعينا وينتفي بحسب كراهتنا وصوارفنا ومعلوم أن أحدنا لو دعاه داع إلى أن يفعل لنفسه أو لغيره علماً لما أمكنه.
قوله: لكانت إنَّما تصدر عن اعتماد). يعني لن أحدنا لايقدر على تعدية الفعل عن محل قدرته إلاَّ بالاعتماد إذ لو صح فعله في الغير من دون اعتماد لكان اختراعاً فكان يلزم أن يفعل أحدنا في الأجسام النائية عنه سكوناً لايقدر معه على أن يتحرك إن كانت أحياء أو لايقدر غيرها على أن يحركها إن كانت جمادات.
قوله: (إن يتغير حاله في الاعتقاد). يعني فيحصل له بسبب ذلك الاعتماد اعتقاد لم يكن حاصلاً من قبل ومعلوم خلافه.
فإن قيل: ما أنكرتم أن اعتماده على صدره يولد العلم في قلبه بأن بعض المحال قد اعتمد عليه.
قلنا: لو صح ذلك للزم توليده له وإن كان المعتمد على صدره ساهياً فليس السهو بمانع عن التوليد إذ ليس بمعنى، وقد ذهب أبو القاسم إلى أن يفعل العلم في الغير وزعم أن علم المعتمد على صدره بأن من بعض المحال قد اعتمد عليه يتولد عن اعتماده وهو كلام في غاية الركة ويلزمه إذا رمى واحد بسهم أن يكون علمه بأن لارامي رماه متولداً عن رميه وإذا شج بحجر فكذلك ونحو ذلك.
قوله: (وإن تولد ما لايتناهى). يعني لأنَّه لا اختصاص له بتوليد بعض الاعتقادات دون بعض بخلاف النظر في توليده للعلم فإن له اختصاصاً بتوليد العلم الذي يولده من حيث تعلق بدليل معلومه دون غيره من أدلة سائر المعلومات.
قوله: (على أنَّه ليس بأن يولد اعتقاداً أولى من ضده) يعني فليس اعتماد أحدنا على صدر الغير بأن يولد اعتقاد أن بعض المحال اعتمد عليه. كما قال أبو القاسم أو غيره من الاعتقاد أولى من أن يولد اعتقاد أنَّه لم يعتمد عليه محل مثلاً إذ لامخصص وليس مطابقة أحدهما مخصصة بتوليده .
قوله: لأنَّه كان يولد لابشرط يستحيل اجتماعه فيفارق توليده للكن. هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: أليس الاعتماد في الجهة الأولى يولد الكون في الجهة الثانية ولم يلزم من توليده له أن يولد لاضدين وهما الكون في الجهة الثانية والكون في الجهة الثالثة والرابعة والخامسة مثلاً فكذلك لايلزم من توليده الاعتقاد أن يولد معه ضده وإلاَّ لزمكم في توليده للكون إذ لافرق.
وتقرير الجواب أن توليد الاعتماد للكون واقف على شرط فلا يصح توليده لكونين في جهتين لأن شرط توليده في الجهة هذه وفي الجهة الأخرى الذي يقف عليه توليد الاعتماد فيهما يستحيل اجتماعه وذلك الشرط أنَّه لايولد في جهة إلاَّ بشرط أن يكون محله في الوقت الأول في الجهة الَّتِي قبلها وهو يستحيل أن يكون في وقت واحد في الجهة الَّتِي قبل هذه، وفي الجهة الَّتِي قبل هذه بخلاف توليده للاعتقاد فإنه لايمكن الإشارة إلى بيان شرط يستحيل اجتماعه في توليده لهذا وهذا.
ويلحق بهذه الجملة تحقيق الاستدلال على الله تعالى بهذه الأفعال الَّتِي تدخل في أجناس مقدوراتنا ووقعت على وجه لايصح وقوعها عليه منا ولتفرد الكلام في واحد منها فنقول: قد ثبت أن حركة المرتعش حادثة فلا بد من أمر أثر في حدوثها وإلاَّ لم تكن بأن تحدث أولى من ألا تحدث، وإذا ثبت أنَّه لابد من مؤثر فيها فلا يخلو إما أن يكون من وجدت فيه الفاعل وليس كذلك لأنها تقع بغير اختياره أويكون المؤثر فيها غيره فهو إما عرض ولايصح لأن من حق الفاعل أن يكون حياً قادراً وليس كذلك العرض أو جماد ولايصح لما ذكرناه في العرض أو من جسم حي قادر غير من وجدت فيه ولايصح لأنَّه لايتعدى منه الفعل إلى غيره إلاَّ بالاعتماد والمرتعش لا يحس باعتماد معتمد عليه فلم يبق إلاَّ أن المؤثر فيها ليس من قبيل الأجسام والأعراض وهو صانع العالم عز وجل ، وعلى هذا فقس إلاَّ في الكلام الموجود في الحصى والشجر فإنك تقول: ولايجوز أن يكون المؤثر فيه جسم حي قادر لن من شروط صدور الكلام منه حصول آلة من فم أو ما يتشكل بشكله وليس كذلك الحصى والشجر.
فصل
قوله: (وكيفية الاستدلال بأفعاله تعالى).
يعني سواء الجسام منها والعراض فإن ترتيب دلالتها على هذا النسق.
قوله: (لأن ثبوتها ضروري جملة وتفصيلاً) . أي ثبوتها معلوم ضرورة والمراد بالجملة أن ههنا أمور أو أشياء، والمراد بالتفصيل أنَّها ذوات مستقلة بأنفسها.
قوله: (وثبوت الأعراض استدلالي جملة وتفصيلاً). العلم الاستدلالي الجملي في ثبوت الأعراض الَّتِي ليست بمدركة العلم بأن ههنا أمراً ما فإنا لانعلم أن ثُمَّ أمراً زائداً على الجسم إلاَّ بالاستدلال ولهذا خالف فيه بعضهم، وقال: ليس إلاَّ مجرد الجسم. والتفصيلي أنَّها ذوات معلومة بانفرادها وأنها ليست صفات على ما يقوله أبو الحسين.
قوله: (وتفصيلاً إذا كانت مدركة). يعني فأما على الجملة فهي معلومة ضرورة فإنا عند إدراك السواد مثلاً نعلم أن ثُمَّ أمراً بل هو ذات معلوم بانفراده عرض ليس بجسم كما يقوله النظام ولا صفة كما يقوله أبو الحسين بل هو ذات معلوم بانفراده عرض ليس بجسم كما يقوله الجمهور، وكذلك الكلام في سائر الألوان والمدركات.
قوله: (ولأن الاستدلال بالأجسام يتضمن حدوث الأعراض) وذلك لأن الاستدلال بالأجسام لايكون إلاَّ مع العلم بوجه الدلالة وهو حدوثها ومع علمنا بأن هذه الأعراض موجودة فيها نعلم حدوثها لأن حدوث المحل يتضمن حدوث الحال أي يستلزمه ولاعكس إذ حدوث الحال لايتضمن حدوث المحل إلاَّ بدليل وهو أن المحل لم يتقدمه ولم ينفك عنه ولأنا إذا استدللنا بالأجسام فلا بد من أن يستدل أو لا على حدوث الأكوان.
قوله: (ويتضمن العلم بنفي التشبيه). يعني لأنا إذا علمنا حدوث الأجسام علمنا أنَّه تعالى ليس بجسم إذ لو كان جسماً لوجب أن يكون محدثاً مثلها، وقد ثبت قدمه ومالم يعلم حدوثها لم يكن الاستدلال على نفي التشبيه بهذه الدلالة وكذلك فما لم نعلم حدوثها من جهته تعالى لم يكن لنا أن نستدل على أنَّه ليس بجسم بأن الجسم قادر بقدرة فلو كان تعالى جسماً لكان قادراً بقدرة والقادر بقدرة لايقدر على فعل الجسم دليله القادر بقدرة في الشاهد معلوم أنَّه تعالى قد أحدث الجسم فهذا معنى تضمن العلم بحدوثها للعلم بنفي التشبيه لأن المراد أنا عند العلم بحدوث الجسام نعلم أنَّه تعالى ليس بجسم فليس كذلك إذن لما جسم أحد من المعترفين بحدوثها، وفيه سؤال وهو أن يقال: وكذلك العلم بحدوث الأعراض يتضمن العلم بنفي التشبيه بهذا الاعتبار ومعناه أنا إذا علمنا حدوث الأعراض علمنا أنه تعالى ليس بعرض وإلاَّ لكان محدثاً.
والجواب من وجهين، أحدهما أن الأعراض غير متماثلة فلا يلزم من حدوث هذه أن يكون محدثاً لو كان عرضاً تعالى عن ذلك فهذه طريقة غير معتمدة بخلاف الأجسام فإنها متماثلة فلا يجوز أن تختلف في قدم ولاحدوث.
وثانيهما: أن العلم بحدوث الجسام يتضمن العلم بحدوث العراض فعند العلم بحدوثها ثبت أنَّه ليس بجسم ولا عرض وإلاَّ لزم حدوثه بخلاف ما إذا علمنا حدوث الأعراض فإنه لايستلزم العلم بحدوث الأجسام.
ومما رجح به الاستدلال بالجسام أن فيه من الفوائد وشحذ الخواطر بالأسئلة والأجوبة والمجاراة في ميدان المناظرة مالايحصل عند الاستدلال بالأعراض ورجحه قاضي القضاة بأنا إذا استدللنا بالأعراض كان لمشغب أن يشغب علينا فيقول: ما أنكرتم أنَّها حدثت بطبع المحل فيحتاج إلى إيراد الحجة على إبطال الطبع ولايرد ذلك إذا استدللنا بالأجسام.
فصل
وقيل: الاستدلال بالأجسام وغيراه يتكلم في حقيقة الشيء وأقسامه.
قوله: (لن معرفة ذلك مما يحتاج إليه). يعني لعروضه في أثناء المسائل فلا تكاد مسألة تخلو منه أو من ذكر شيء من أقسامه.
قوله: (ثابتاً كان أو مستحيلا). لابأس بزيادة: صفة كان أو ذاتاً.
قوله: (فالمعدوم هو المعلوم الذي ليس بموجود). هذا بناء على مذهب الجمهور من أن المعدوم معلوم وقد خالف في ذلك جهم وهشام بن الحكم. واحتج الجمهور بأنه لابد لكل ذات من أن يختص بصفة تبين بها من مخالفها في حالة العدم والوجود والعلم يتعلق بالشيء على ما هو به فيجب صحة أن يعلم في الحالين. واعلم أن المعدوم ينقسم إلى أصلي وهو الذي لم يتقدم عدمه وجود وفرعي وهو ما تقدم عدمه وجود.
قوله: (والموجود أظهر من أن يحد). اختلف العلماء في حاجة الموجود إلى أن يحد مع اتفاقهم على صحة تحديده فذهب السيد الإمام وغيره من العلماء واختاره المصنف إلى أنَّه لايحتاج إ‘لى تحديده إذ لايراد بالتحديد إلاَّ تجلية المحدود والموجود في غاية الجلا وكل ما يذكر في حده فهو أخفى منه.
وقال بعضهم: بل لابد من تحديد لتقع معرفته تفصيلاً. فقيل في حده: المختص لاختصاصه بصفة بها يظهر صفته المقتضاة عن الصفة الذاتية غير صفة الوجود. والاحتراز بقوله غير صفة الوجود عن صفة الوجود في حقه تعالى فإن وجوده مقتضى عن الصفة الذاتية عندهم ولا يكون شرطاً في نفسه.
قوله: (وينقسم إلى متحيز وغير متحيز) أي ينقسم المحدث.
قوله: (خلافاً للفلاسفة....).
اعلم أن الفلاسفة كما سيأتي قسموا الأشياء إلى حالٍّ لايقوم بنفسه وهي الأعراض وإلى قائم بنفسه تحله الأعراض وهي الأجسام وإلى قائم بنفسه يؤثر في الأجسام وهي النفوس وإلى قائم بنفسه يؤثر في النفوس وهي العقول وإلى قائم بنفسه يؤثر في العقول وهي العلة الأولى، فأثبتوا قسمين زائدين على الأجسام والأعراض والعلة الَّتِي هي عندهم الآلة وهما النفوس والعقول لكن فيما ذكره نظر لأنَّه جعل خلافهم في قسمة المحدث وهذه الأشياء غير محدثة عندهم فليس خلافهم إلاَّ في إثبات غير الأجسام والأعراض لا في تقسيم المحدث.
قوله: (في حقيقة المتحيز ويحتمل العرض) . يقال: قد وقع الاكتفاء في التحديد المميز له بقولك يمنع مثله من أن يكون بحيث هو فهلا اقتصرت عليه أو زدت حكم الثالث.
قوله: (فهو الجوهر الفرد). لفظ الجوهر مغني عن زيادة الفرد لكن أراد زيادة الإيضاح والجوهر في اللغة أصل الشيء وسنخه الذي يتخذ منه شاهده قولهم جوهر هذا الثوب جيد ومنه قول ابن دريد:
من الأولى جوهرهم إذا أنتموا ... من جوهر منه النبي المصطفى
وفي الاصطلاح المختص بصفة يقتضي تحيزه عند وجوده، وفي هل يقبل التجزئي أو لا خلاف، الصَّحيح أنَّه لايقبله ومذهب النظام أنَّه لاينتهي إلى حد إلاَّ ويمكن تجزئة فيه.
قوله: (وإن قبله في جهة الطول). حقيقة الطول ائتلاف الجوهرين أو الجواهر في سمت الناظر، قيل: ولايحتاج إلى أن يقال في سمت الناظر بل يكون طولاً وإن لم يكن في سمته وهو الولى وإلاَّ لزم إذا لم يكن في سمته أن يخرج عن كونه طولاً فإذا تحول عن مكانه فسامته أن يصير طولاً ولأنه يلزم أن يخرج ذلك الائتلاف عن كونه طولاً وعرضاً وعمقاً فماذا يكون فإنه لا قسم زائد.
قوله: (وإن قبله في جهة الطول والعرض) حقيقة العرض ائتلاف الجوهرين أو الجواهر عن يمين الناظر أو يساره.
واعلم أن العرض يستلزم الطول ولا عكس فلايكون عرض من دون طول، ويصح حصول طول من دون عرض ومجموعهما يسمى سطحاً كما ذكره وصفيحة.
قوله: (والعمق). حقيقة العمق: ائتلاف الجوهرين أو الجواهر من أعلى إلى أسفل مع حصول الصفيحة.
قوله: (فهو الجسم). حقيقة الجسم الطويل العريض العميق، وقد عرفت بهذا التقسيم والحقائق أن أقل ما يتركب الجسم منه ثمانية أجزاء وهو مذهب الجمهور. قالوا: لأنَّه لايرى من جميع جهاته طويلاً عريضاً عميقاً إلاَّ إذا تركت منها بأن يكون اثنان طولا واثنان عرضا وأربعة عمقا وقد وجدنا أهل اللغة لايطلقون لفظ الجسم إلاَّ على ما كان طويلاً عريضاً عميقاً وذهب أبو الهذيل إلى أنَّه يتركب من شبه اثنين طولا وواحد إلى جانب أحدهما وثلاثة فوقها عمقاً وذهب الشيخ أبو القاسم إلى أن الجسم يتركب من أربعة اثنين طولا وواحد إلى جانب أحدهما وواحد فوق أحدها وذهب الأشعري إلى أن الجوهرين جسم إذ الجسم المؤتلف مطلقا وذهب النظام والكرامية والصالحي إلى أن الجوهر الواحد جسم وذهب ضرار وحفص إلى أن الجسم من مجموع أعراض باقية كاللون والطعم والرائحة.
قوله: (هو العرض) حقيقته في أصل اللغة ما يعرض في الوجود ويقل لبثه جسماً كان أو غيره وفي الاصطلاح ما لايشغل الحيز موجوداً كان أو معدوماً مع صحة العدم عليه.
قلنا: مع صحة العدم عليه احتراز من الباري فإنه وإن كان لايشغل الحيز فإنه لايصح العدم عليه.
قوله: (وهو اثنان وعشرون جنساً).
اعلم أن في إثبات الأعراض خلافاً بين المتكلمين وبين المثبتين لها خلافاً أيضاً فالخلاف فيها من جهتين، الجهة الولى: ذهب جمهور الزيدية والمعتزلة والمجبرة إلى أنَّها ذوات مستقلة في المعلومية وذهب الشيخ أبو إسحاق بن عباس وأبو الحسين وابن الملاحمي والإمام يحيى إلى أنَّها صفات وأحوال بالفاعل وذهب بعض الفلاسفة والأصم وحفص وهشام إلى أنَّها ليست بأمور زائدة على الجسم.
الجهة الثانية: ذهب الجمهور من ثبتها إلى أنَّها اثنان وعشرون جنساً وهي الَّتِي عدها المصنف، وخالف بعضهم في الزيادة وبعضهم في النقصان، أما الزيادة فذهب أبو علي إلى أن الموت والعجز والعزم والغم والسرور والحاجة أجناس مستقلة وكذلك الشبع والري، ووافقه أبو هاشم وأبو القاسم فيهما وكذلك السهو ووافقه أبو هاشم فيه وكذلك الشك وقال: بأن الكلام جنس غير الصوت. وقال أبو الهذيل المباعدة معنى غير الافتراق، وزاد القاضي اللطافة وزاد أبو القاسم اللين والخشونة، وقال: هما غير التأليف وزاد أيضاً الخفة فجعلها معنى مقابلاً للنفل وغير ذلك من الخلاف، وأما النقصان فقال بعضهم: ليس الفناء معنى. وقال أبو هاشم: ليس الظن جنساً برأسه من قبيل الاعتقاد. وقال النظام: ليس الثوت معنى بل هو من قبيل الأجسام. قال الإمام يحيى: وهو وهم في النقل عنه وأظن أن سبب الوهم أن النظام لما كان يذهب إلى أن الصوت لايدرك إلاَّ بوصول الهواء الحاصل له إلى الصماخ ظن الناقل لذلك أنَّه يذهب إلى أنَّه جسم. انتهى.
وبعضهم يذهب إلى أن التأليف المرجع به إلى المجاورة، والبغداديون جعلوا الشهوة والإرادة جنساً واحداً والنفرة والكراهة جنساً واحداً، وللكلام في الدل على إثباتها على التفصيل وإبطال قول المخالفين في النفي والزيادة والنقصان مواضع هي أخص بذلك في فن اللطيف.
إذا عرفت ذلك فمن اللائق ذكر حقائق هذه الأجناس المذكورة وطرف من أحكام كل جنس منها على انفراده قد ذكر أصحابنا لها حقائق وضعوها للإيضاح وتقريب المعنى وإن لم تكن كلها جارية على مايعتبره أهل صناعة الحدود ولاجامعة لشرائط الحد وطرقه وهي ما نذكره الآن:
فاللون، حقيقته: المعنى الذي يكون هيئة لمحله. وقيل: المعنى المدرك بحاسة البصر، وأنواعه خمسة: أسود ويؤكد بحالك، وأبيض ويؤكد بيقق، وأحمر ويؤكد بقاني، وأخضر ويؤكد بباضر، وأصفر ويؤكد بفاقع، هذه أنواعه الخالصة ولاسادس فيما علمنا وإن كان يجوز دخوله في المقدور.
والطعم حقيقته: المعنى الذي يدرك باللهوات وأنواعه خمسة حلاوة وحموضة وهما ظاهران ومرارة كطعم الصبر وملوحة كطعم الملح وحرافة كطعم الفلفل والزنجبيل ونحوهما.
والرائحة حقيقتها المعنى المدرك بالخيشون وينقسم إلى رائحة طيبة ورائحة خبيثة ويتميز كل واحدة من الروائح بحسب ما تضاف إليه.
والحرارة حقيقتها: المعنى المدرك بمحلالحياة في غير محلها.
والبرودة: حقيقتها كذلك والتفرقة بينهما ضرورية.
فمن أحكام اللون أنَّه مدرك وذهب أبو القاسم القرميسي إلى أن الألوان غيرم دركة وإنَّما المدركة المتحيز وعاكسه الصالحي فقال المدرك اللون لا المتحيز والصحيح أنهما معاً مدركان.
وأنه باق، وأنه غير موجب، وأنه يدخل فيه التماثل والتضاد دون الاختلاف من غير تضاد وأنه لايوجد إلاَّ في محل ويشاركه في هذه الأحكام الطعم والرائحة والحرارة والبرودة.
والرطوبة، حقيقتها: المعنى الموجب انغماز المحل ومن أحكامها أنَّها باقية غير مدركة خلافاً لأبي علي موجبة لحكم يدخلها التماثل دون الاختلاف، والتضاد ذكره بعض أصحابنا واختلف كلام أبي هاشم في ذلك وتوقف ابن متويه والأقرب أنَّها مختلفة إن لم تكن متضادة ويستحيل وجودها لا في محل.
واليبوسة المعنى الموجب لنبو المحل وهي تشارك الرطوبة في تلك الحكام إلاَّ أنَّها متماثلة.
والشهوة: المعنى الموجب كون لاحي بحياة مشتهياً ومن أحكامها أنَّها غير مدركة وغير باقية وموجبة صفة للحملة ويدخلها التماثل والاختلاف، دون التضاد وتحتاج إلى محل فيه حياة مبني بنية مخصوصة كبنية القلب ولم يقطع ابن متويه على ذلك بل توقف فيه.
والنفرة المعنى الموجب كون الحي بحياة نافراً و تشارك الشهوة في تلك الأحكام.
والحياة: حقيقتها المعنى الموجب كون الواحد منا حياً أو المعنى الموجب كون الأجزاء الكثيرة في حكم الشيء الواحد ومن أحكامها أنَّها باقية غير مدركة موجبة صفة للجملة يدخلها التماثل دون الاختلاف والتضاد وتحتاج إلى محل مبني بنية مخصوصة.
والقدرة: حقيقتها: المعنى الموجب كون الحي بحياة قادراً ومن أحكامها أيضاً باقية غير مدركة موجبة صفة للجملة يدخلها الاختلاف دون التماثل والتضاد وتحتاج إلى محل مبني بنية زائدة على بنية الحياة.
والفناء: حقيقته المعنى الموجب عند وجوده انتفاء الجواهر ومن أحكامه أنَّه غير باق غير موجب ويدخله التماثل دون الاختلاف والتضاد ويستحيل وجوده في محل وتوقفوا فيه هل يصح أن يدرك أو لا.
والكون: حقيقته المعنى الموجب كون محله كائناً في جهة ومن أحكامه أنَّه باق غير مدرك خلافاً لأبي علي فإنه ذهب إلى أنَّه مدرك ويوجب لمحله صفة ويدخله التماثل والتضاد دون الاختلاف من غير تضاد ولايوجد إلاَّ في محل.
والاعتماد، حقيقته: المعنى الموجب بدافع المحل في بعض الجهات وينقسم إلى لازم ومجتلب واللازم ينقسم إلى علوي كاعتماد النار وسفلي وهو النقل كاعتماد الحجر والمجتلب يقع في الجهات الست ومن أحكام الاعتماد أنَّه غير باق في جنسه وإن صح بقاء اللازم منه لاقتران الرطوبة واليبس ولامدرك وإن خالف أبو القاسم فقال بإدراكه لمساً يوجب لمحله حكماً ويدخله التماثل والاختلاف دون التضاد ولايوجد إلاَّ في محل.
والتأليف، حقيقته: المعنى الموجب لصعوبة التفكيك عند مقارنة الرطوبة واليبوسة بحدوثه ومن أحكامه أنَّه باق غير مدرك خلافاً لأبي علي، ويوجب لمحله حكماً، ويدخله التماثل دون الاختلاف والتضاد، ويستحيل وجوده إلاَّ في محلين.
والصوت، حقيقته: المعنى المدرك بحاسة السمع ومن أحكامه أنَّه مدرك غير باق وغير موجب ويدخله التماثل والاختلاف دون التضاد ويستحيل وجوده لا في محل.
والألم، حقيقته: المعنى المدرك بمحل الحياة في محلها مع مقارنة النفرقة فإن قارنت جنسه الشهوة فهو اللذة ويشارك الصوت في تلك الأحكام إلاَّ واحداً وهو أنَّه يدخله التماثل دون الاختلاف والتضاد.
والاعتقاد، حقيقته: المعنى الموجب كون الواحد منا معتقداً وقد تقدم ذكر أنواعه ومن أحكامه أنَّه غير باق موجب لصفة ومنه ما يوجب مع الصفة حكماً، غير مدرك، يدخله التماثل والاختلاف والتضاد ، لايوجد إلاَّ في محل فيه حياة مبني بنية مخصوصة.
والإرادة، حقيقتها: المعنى الموجب كون الحي مريداً ومن أحكامها أنَّها غير باقية موجبة لصفة غير مدركة خلافا لأبي علي ويدخلها التماثل والاختلاف دون التضاد ويصح وجودها في محل وفي غير محل.
والكراهة، حقيقتها: المعنى الموجب كون الحي كارهاً وتشارك الإرادة في تلك الأحكام.
والظن، حقيقته: المعنى الموجب كون الواحد كارهاً ويشارك الإرادة في تلك الأحكام إلاَّ واحداً وهو أنَّه لايصح وجوده إلاَّ في محل.
والفكر، حقيقته: المعنى الموجب كون الواحد منا متفكراً وأحكامه كأحكام الظن.
تنبيه
قد عرف بما ذكر تسمية كل عرض معنى ولهذا جعل لفظ المعنى جنساً لحقائقها والمعنى في اللغة المراد من غنيت كذا أي أردته وفي الاصطلاح الذات استعمل أولاً في كل ذات ثُمَّ قصروه على الأعراض وعليه تثبت هذه الحقائق وقد تقصر في اصطلاح خاص على المعاني الموجبة.
قوله: (وينقسم إلى مقدور لله تعالى فقط).
وهي الاثنا عشر الأولة هذا هو الصَّحيح وذهب أبو القاسم وغيره من أصحابه إلى أن اللون والحرارة والبرودة والشهوة والنفرة من مقدورات العباد وحكى عن أبي الهذيل مثل ذلك في الحرارة والبرودة.
قوله: (وإلى مقدور للعباد).
اعلم أن المراد أنهم يقدرون عليها وليس المراد أنَّه لايقدر عليها إلاَّ هم فإن الباري تعالى يقدر من أجناسها في الوقت الواحد وفي المحل الواحد على ما لانهاية له.
قوله: (وإلى ما يوجب وهو سائرها).
اعلم أن غير المدركات منها ما يوجب صفة وحكماً وليس إلاَّ العلم فإنه يوجب سكون النفس وكون من اختص به عالماً. ومنها ما يوجب صفة فقط: وهي ما عداه من المعاني الراجعة إلى الجملة والأكوان فقط مما يرجع إلى المحل، ومنها ما يوجب حكماً فقط: وهو التأليف فإنه يوجب حكماً وهو صعوبة التفكيك والاعتماد فإنه يوجب حكماً وهو مدافعة محله لما يماسه والرطوبة فإنها توجب حكماً وهو انغماز المحل واليبوسة فإنها توجب حكماً وهو نبو المحل.
قوله: (وينقسم إلى باقٍ..) إلى آخره.
اعلم أن جميع مقدورات العباد العشرة غير باقية إلاَّ الكون والتأليف وجميع ما يختص تعالى بالقدرة عليه باق إلاَّ الشهوة والنفرة والفناء ولم يعد المصنف الرطوبة واليبوسة من الباقيات والظاهر من كلام الجمهور أنهما باقيتان لأن دليلهم على بقاءجميع الباقيات شامل لهما وإن كان قد يخص البعض أدلة على انفراده وهو عدم انتفائها إلاَّ بضد أو ما يجري مجراه.
قالوا: الاعتماد في جنسه غير باق، ولكن إذا صادف حال حدوثه حدوث الرطوبة منعته من العدم وكان اعتماداً لازماً باقياً سفليا وإذا قارنته اليبوسة كان لازماً باقياً علوياً وهذان الجنسان من الاعتماد اللازمان سفلاً وعلواً من فعل الله تعالى ويصح وقوعهما منا على ضرب من التقدير وهو أن يصادف فعلنا للإعتماد حدوث رطوبة أو يبوسة.
قوله: (إلى غير ذلك من القسمة).
اعلم أن للأعراض قسماً كثيرة موضع استيفائها علم اللطيف وقد ذكر ابن متويه رحمه الله منها كثيراً ومن ذلك انقسامها إلى شرط ومشروط فيه، وإلى ما ليس بشرط ولامشروط فيه، وإلى مشروط فيه غير شرط، وإلى شرط غير مشروط.
فالأول: كالحياة فإنها شرط في وجود العلم وغيره مشروط بالبنية.
والثاني: المعاني الراجعة إلى المحل كالأكوان والألوان.
والثالث: العلم والإرادة والكراهة ونحوها فإنها مشروطة بالحياة وهي غير شرط.
والرابع: البنية فإنها شرط في الحياة غير مشروطة بشيء.
وينقسم إلى سبب ومسبب وهو الاعتماد والكون ومسبب غير سبب وهو التأليف والصوت والألم العلم، وإلى سبب غير مسبب وهو النظر إلى ما ليس بسبب ولامسبب وهو سائرها على الصحيح.
فصل
قوله: (والمعدوم شيء عند الجمهور).
اعلم أن مذهب الجمهور من الزيدية والمعتزلة أن المعدوم شيء وأن في العدم ذوات ثابتة لا نهاية لها وخالف من شيوخ المعتزلة من ذكره المصنف ومن غيرهم الدهرية والفلاسفة المتقدمون وبعض الفلاسفة الإسلاميين وذهب من أئمتنا إلى نفيها الإمام عماد الإسلام وقال في التمهيد: ذهب المحققون من جماهير العلماء إلى أن المعدوم ليس بشيء ولا عين ولا ذات في حال عدمه وإنَّما هو نفيم حض والله تعالى هو الموجد للأشياء والمحصل لذواتها وحقائقها.
قلت: وهذا هو الحق الذي لاريب فيه ولعمري أن إثبات ذات العدم لها صفة وأحكام ويتعلق بها بعض المتعلقات مما لاينبغي أن يكون معقولاً وأنه أبعد في التعقل من الطبع والكسب ونحوهما.
وههنا جهة أخرى من الخلاف:
ذهب جمهور المثبتين للذوات في العدم إلى أن الصفات الذاتية تثبت لها في حال عدمها، وقال أبو إسحاق..... مع اعترافه بأنها أشياء وذوات لايستحق في حال عدمها شيئاً من الصفات وسيأتي تحقيق ذلك في فصل الصفات.
قوله: (وقال أبو القاسم شيء وليس بذات).
اعلم أنَّه لافرق بين قول أبي القاسم وقول من نفى الذوات في حالة العدم لن مراده أن المعدوم شيء من جهة اللغة ولاخلاف في ذلك لأنَّه ذات يصح العلم به على انفراده.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن هذه قاعدة تنبني على صحتها كثير من مذاهب البهشمية والدلة فيها متصادمة من الجانبين وكثير من الذاهبين إلى النفي يشنعون في الإثبات ويزعمون أنَّه في غاية الخطر لن فيه نفي تأثير الباري في الذوات وكثير من الصفات بل إثبات ذوات لانهاية لها معه في الأزل حتَّى أن منهم من يقول لافرق بين القول بإثبات الذوات في حالة العدم وإثبات المجبرة للمعاني القديمة في شناعة القول وخطره وظهور بطلانه.
قوله: (فإنا نعلم الجنة والنار والقيامة).
أما القيامة وما يكون فيها فلا كلام في أنَّه الآن معدوم، وأما الجنة والنار فيتأتى هذا على القول بأنهما لم يخلقا وهو مذهب بعضهم وإليه ذهب أبو هاشم وقاضي القضاة وغيرهما في جنة الخلد ونار الخلد وإن ذهبا إلى أنَّه قد وقع خلق الجنة ونار، وأما على مذهب أبي علي ومن تابعه وهو القول بأن الجنة والنار مخلوقتان فلا يتأتى ذلك.
قوله: (لاسيما على أصلك في أن العلم بأن الشيء سيوجد ليس علماً بوجوده إذا وجد).
يعني فإذا كنت تذهب إلى ذلك فأولى ألا يكون العلم بالمعدوم في حال عدمه أي العلم بصورته وماهيته علما به حال وجوده أي علماً بصورته وماهيته حال وجوده ولفظه لاسيما معناها إثبات الحكم للمذكور بعدها بطريق الزيادة في معناه مثل أحسن إلى القوم لاسيما عمرو فقد أمرت بالزيادة لعمرو ويجوز فيما بعدها الرفع والجر، قيل: والنصب وعدها بعض النحاة من الاستثناء وبعضهم قال: ليست كذلك لعدم الإخراج.
وفيه سؤال وهو أن يقال: إذا كنتم تقولون أن العلم بأن الشيء سيوجد علم بوجوده إذا وجد مع أنَّه حال وجوده لايعلم أنَّه سيوجد لنه قد وجد فأولى أن يكون العلم بصورة المعدوم وماهيته علماً بذلك عند وجوده لنه مع وجوده العلم بماهيته وصورته حاصل.
قوله: (وكما قال صلى الله عليه وآله وسلم: <فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر> .
ورد هذا في وصف الجنة وأراد المصنف أنا عند اخبار الرسول لنا بهذا نعلمه على انفراده ولايمكن ابن الملاحمي أنَّه يقول أن علمنا أنه علم بالصورة عند وجود أمثاله لن في الخبر تصريحاً بأن أمثاله لم توجد.
قوله: (ومعلوم أن صحة وجود المقدور أمر زائد على المقدور ومزية له).
أصحابنا يجعلون صحة وجود المقدور حكماً يعلم بين غير وهو ذات المقدور وما يجري مجرى الغير وهو صفة الوجود.
وفيه سؤال وهو أن يقال: إذا كان هذا الحكم معلوماً بين ذات المقدور ووجوده مع أن الوجود غير حاصل ولاثابت وقد علم بين الذات وبينه فهلا كان كذلك وإن كانت الذات غير حاصلة وقد تضمن الدليل الجواب عن هذا السؤال لأن صحة الوجود مزية قد ثبتت حالة العدم والمزايا لاتقوم بأنفسها ولاتستقل بالمعلومية وإنَّما تثبت تبعاً لغيرها فلا بد من ثبوت الذات ليقوم بها هذا الحكم.
قوله: (فإنا لم نشترط أن يكون بين غيرين حقيقتين).
أي لم يشترط أن يكون الحكم معلوماً بين ذاتين تثبت بينهما المغايرة الحقيقية بل أن يكون معلوماً بين غيرين حقيقتين أو غير وما يجري مجراه بأن نعلم بين ذات وصفة وإنَّما لم تكن الصفة غيراً حقيقيا لأن الغيرين كل معلومين ليس أحدهما هو الآخر ولابعضه وليس الصفة بمعلومة.
قوله: (وفي ذلك لزوم أن يكون يأتي القديم واجتماع الضدين ذوات).
يعني مع أنكم لاتقولون بأن يأتي القديم ذات لا موجودة ولامعدومة ومع أن اجتماع الضدين المرجع به إلى وجودهما في المحل الواحد وليس ذلك بذات.
قوله: (ولكن نقول يستحيل أن يثبت).
فيه سؤال وهو أن يقال: وما الفرق بين قولنا يستحيل أن يوجد وبين قولنا يستحيل أن يثبت؟
والجواب: أما القائلون بنفي الذوات في حالة العدم فلا يفرقون بين الوجود والثبوت بل يجعلونهما بمعنى وأماا لمثبتون لها فيجعلون الثبوت أعم من الوجود فقولنا: يستحيل أن يثبت نفي لكونه ذاتاً في العدم والوجود ويكون بمنزلة قولنا: يستحيل أن يكون ذاتاً، وقولنا: يستحيل أن يوجد لايتضمن استحالة كونه ذاتاً فإن كثيراً من الذوات تكون ثابتة عندهم مع استحالة وجودها كالذي يقضي وقت إمكان وجوده من مقدورات القدر ولم يوجد فيه وكالذي لايبقى في الأوقات الَّتِي بعد وقت وجوده أو إمكان وجوده.
قوله: (فلا تكون الاستحالة حكماً).
في هذا المكان يقال: بل القرب أنَّها ليست بحكم مطلقاً لأن المرجع بها إلى نفي الصحة والنفي لايكون حكماص.
قوله: (ولهذا جعل أصحابنا نفي الثاني مما يستحيل على الله).
أي حكموا بأن مسألة نفي الثاني من صفات الله بالمعنى الأعم الَّتِي هي مستحيلة عليه لا أن المراد أن نفس نفيه مما يستحيل عليه تعالى فذلك غير صحيح بل المستحيل ثبوته فلا يؤاخذ بظاهر العبارة.
قوله: (فهي تستند إلى ذواتهما وصفاتهما).
يعني فإذا علمت استحالة اجتماع الضدين فقد علمت تلك الاستحالة بين ذاتي ذينك الضدين وصفتيهما المقتضاتين اللتين لجلهما استحال اجتماعهما.
قوله: (فلا بد أن يكون المقدور ذاتاً أو صفة ليعلم الحكم بينه وبين القادر).
يقال: ليس من شرطه أن يكون ذاتاً أو صفة في الحال كما ذكرته فإن صحة وجود المقدور حكم علم بينه على ما تقدم وبين الوجود مع عدم ثبوت الوجود في الحال.
قوله: (يوضحه أنَّه قد وقع الاتفاق على صحة إعدام المكلفين وعلى صحة إعادتهم).
فيه نظر لأن الاتفاق لم يقع على ذلك بل ذهب أبو الحسين والفلاسفة والكرامية إلى أنَّه لايصح من القديم تعالى ولاغيره إعادة شيء مما عدم ولابد لهم من ذلك مع القول بنفي الذوات في حالة العدم، قالوا: وإذا عدمت صارت نفياً محضاً غير متعينة في أنفسها ولا متميزة في ذات بينها ولهذا ذهب أبو الحسين إلى أنَّه لايجوز منه تعالى إعدام المكلفين ويجعل الفنا يبدد أجزاءهم كما سيأتي، والإعادة جمعها وضم بعضها إلى بعض وإن كان ابن الخطيب الرازي مع قوله بنفي الذوات في حالة العدم قد ذهب إلى صحة الإعادة فالدليل قائم عليه والأظهر أنَّه لايمكنه الجمع بين القولين.
قوله: (ونحو ذلك).
يعني مما يقضي من السمع بكون المعدوم شيئاً نحو {إنما أمره إذا أراد شيئاً}، {إن زلزلة الساعة شيء عظيم). واعترضه الرازي من قبيل تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه كما سمى زلزلة الساعة شيئاً عظيماً ولايمكن أن يكون عظيماً في حالة العدم وإنَّما المعنى أنَّها تكون شيئاً عظيماً إذا وجدت ويؤول إلى ذلك ولكن لايثبت له التأويل إلاَّ بعد أن يثبت له عدم الشيئية في العدم إذ لايوجب تأويل الدليل السمعي إلاَّ مصادمة البرهان العقلي لكن لهم أن يعارضوا تلك الأدلة السمعية بنحو قوله تعالى: {ولم يك شيئاً}. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <كان الله ولاشيء ثُمَّ خلق الذكر>. وتأويلهما أيضاً ممكن بتقدير وصف محذوف أي ولم يك شيئاً موجوداً، أو معتداً به، أو مذكوراً، ويقدر في الحديث: كان الله ولاشيء موجود فالمعتبر البراهين القاطعة وما إخال شيئاً من أدلتهم جميعاً بدليل قاطع ولاببرهان ساطع والله أعلم.
قوله: (وهو الجواب على اليهود السائلين عن قصة أصحاب الكهف).
فيه نظر لأن السائلين له صلى الله عليه وىله وسلم قريش، وإنَّما اليهود المرشدون لهم إلى السؤال والقصة في ذلك أن قريشاً لما عظم عليهم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشق عليهم ما جاء به من عند الله أرسلوا النظر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى اليهود بالمدينة يسالانهم عن أمره صلى الله عليه وآله وسلم فقال اليهود لهما: سلوه عن ثلاث إن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإن لم يفعل فهو متقول سلوه عن فتية ذهبوا في أول الدهر وما كان أمرهم يعنون أهل الكهف، وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان خبره، وسلوه عن الروح ما هو فأقبل النضر وعقبة حتَّى قدما على قريش وأخبراهم بما قيل لهم فأقبل قريش إليه صلى الله عليه وآله وسلم وسألوه عن ذلك فقال لهم صلى الله عليه وآله وسلم: أخبركم بما سألتم عنه غداً ولم يستثن بإن شاء الله فانصرفوا عنه فمكث صلى الله عليه وآله وسلم خمس عشرة ليلة لم ينزل عليه في ذلك وحي فأرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غداً واليوم خمس عشرة ليلة فأحزنه صلى الله عليه وآله وسلم مكث الوحي عنه وشق عليه ما تكلموا به ثُمَّ جاءه جبريل بسورة الكهف وفيها خبر ما سألوا عنه من الفتية والرجل الطواف وأما الروح فاقتضت الحكمة عدم الإخبار به، فقال تعالى: {قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلاَّ قليلا}، وقال تعالى لرسوله: {ولاتقولون لشيء إني فاعل ذلك غداً إلاَّ أن يشاء الله}، وفي الكشاف أن اليهود بعثوا إلى قريش أن سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح، فإن أجاب عنها أو سكت فليس بنبي وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي فبين لهم القصتين وأبهم الروح وهو مبهم في التوراة فندموا على سؤالهم.
قوله: (وكذلك قولهم علمت شيئاً معدوماً) يعني ظاهره يقتضي الرجوع إلى شيء معين ومما يمكن الاستدلال به لصحة مذهب المثبتين أنا إذا أردنا إيجاد شيء فإرادتنا متعلقة ولابد من تعلقها بأمر متميز عن غيره يقتضي ثبوته في تلك الحال.
واعلم أن للنافين حججاً وقد ذكرها الإمام يحيى في التمهيد وغيره، فمنها: إن قالوا أن الذوات المعدومة إما أن تكون متناهية أو غير متناهية إن قلتم هي متناهية لزمكم أن تكون مقدورات الباري تعالى متناهية ثُمَّ أنَّه لاقدر يصح الوقوف عليه من ذلك، وإن قلتم غير متناهية فغير متأت لكم لأن الله تعالى لما خلق العالم لم يكن بد من أن تكون الجواهر المعدومة أقل مما كانت فإنا لو صممنا حمله من الذوات إلى جملة أخرى لكان حال تلك الجملة مع غيرها ليس كحالها بانفرادها بل لابد من ظهور التفاوت في زيادتها ونقصانها وكل ما دخلته الزيادة والنقصان فهو مبناه وهذه حجة قوية لايمكن دفعها إلاَّ بما لايخلو عن تكلف كان يبجي الجمهور بأني قولوا بل هي غير متناهية ولانسلم أن يخلق العالم ينتقص الجواهر المعدومة لما ذكرته من أن ما لايتناهى لايدخله الزيادة والنقصان والمثال الذي أوردته إنَّما يتصور ويصح بضم جملة إلى جملة فيما يتناهى وكلامنا فيما لايتناهى، فإن فرضت الكلام فيه لم يسلم ما ذكرته وفيه نظر.
ومنها: أن السواد إذا طرى على البياض فإما أن يبطل ذاته أو يبطل وجوده إن قلتم يبطل ذاته فهو الذي نقول وإن قلتم يبطل وجوده لا ذاته فإما أن يبطله بوجوده وهو محال لأن الوجود لايضاد الوجود أو يبطله بسواديته فيلزمكم أن تكون السوادية مضادة للوجود فيستحيل في السواد أن يوجد لأن ساوديته يجب أن تضاد وجوديته إذ لافرق بين وجود ووجود ولعل الجمهور يجيبون بأنا قنلو بمضاده هية السواد الَّتِي هي صفة مقتضاه له يقتضي جمع الشعاع لهيئة البياض الَّتِي تقتضي تفريقه فطرو السواد لايبطل ذات البياض ولكن يبطل صفته المقتضاه الَّتِي هي الهيئة وإذا بطلت بطل الوجود أو يستحيل ثبوته وثبوت المقتضي هيئة مع عدم حصولها لأن حصو لالمقتضي والشرط وعدم المقتضي محال، وإذا كان كذلك وجب انتفاء الوجود لئلا يؤدي استمراره إلى ما لايجوز من ثبوت المقتضي والشرط مع عدم المقتضي وهذا فيه تعسف ويؤدي إلى أن عدم الشرط مسبب عن عدم المشروط وتابع له وهو عكس ..... الشرط والمشروط فلا يصح.
ومنها: أن مقالتكم هذه تمنع من كون الباري تعالى موجداً للموجودات وهذا خطأ لأنكم إن جعلتم تأثيره في الذوات فهي عندكم ثابتة في الأزل غنية عن التأثير فيها، وإن جعلتم التأثير في الوجود فغير صحيح لأنَّه عندكم صفة والصفات لاتوصف بأنها مقدورة ولامعلومة ولعلهم يجيبون بأنا لانسلم ذلك بل نقول يختص تأثيره تعالى بإخراجها من العدم إلى الوجود وإكساب هذه الذوات هذه الصفة ولامانع من ذلك فإن من مذهبكم أن الأعراض وصفات الأجناس صفات بالفاعل يؤثر فيها القديم تعالى.
وأما قولكم أن الصفات غير مقدورة فذلك لاغرض لكم فيه يجعل المقدور نفس الذات الَّتِي يصح إكسابها صفة الوجود إذ حقيقة المقدور ثابتة فيها ويلزم على قولكم هذا ألا يكون للعباد مقدور لأنكم تجعلون الأعراض صفات ولا تثبتون إلاَّ ذات القديم وذات الجوهر وقد قلتم بأن الصفة غير مقدورة وأما قولكم أنَّها غير معلومة فإن أردتم قبل إيقاع الذات عليها فمسلم ولا مانع من ذلك، فإنكم مع نفي ثبوت الذوات وقولكم بأن تأثيره تعالى في نفس الذات لابد لكم من القول بأنها غير معلومة قبل الإيجاد وإن لم يسلموه فهو لازم لكم كما تقدم وإن أردتم أنَّها غير معلومة بعد إيقاع الذات عليها فلا ..... لكم في ذلك مع أنَّها بعد حصولها يعلم الذات عليها.
ومنها: أن الوجود لو لم يكن نفس الذات وكان صفة ومزية لها على ما يقولونه لكان العلم بوجود الأشياء نظرياً لاضرورياً وهذه سفسطة، وإنَّما قلنا أنه يلزمكم ذلك لأنَّه إذا كان صفة زائدة كان يلزم عند مشاهدة الذات أن يتوقف العلم بوجودها على اكتساب تصور الوجود واكتساب التصديق باتصاف الذات به فيكون العلم بوجود الأشياء نظرياً، وإنَّما قلنا بأنه ضروري لأنا إذا شاهدنا جسماً أو عرضاً علمنا ضرورة وجوده، والذي علمناه حصوله وثبوته.
ويمكن الجواب بأن العلم بالشيء تفصيلاً على جهة الاكتساب لايمنع من علمه على سبيل الجملة ضرورة، ونحن نقول: بأنا عند مشاهدة الجسم نعلم ضرورة وجوده على سبيل الجملة ونعلم حصوله على صفة الوجود واختصاصه بها لكونه متحيزاً وقد علمنا أن شرط التحيز هو الوجود ولامانع من ذلك فإنا عند مشاهدة الجسم ذي اللون نعلم لونه على سبيل الجملة ضرورة مع أنا لانعلم أن لونه ذات مستقلة إلاَّ بالاستدلال وكذلك لايعلمونه صفة بالفاعل إلاَّ بالاستدلال وكذلك المدعي لكونه بعض الجسم فهلا علمنا الوجود على الجملة ضرورة وإن لم نعلم أنَّه صفة زائدة أو نفس الذات إلاَّ بالاستدلال وقول الإمام يحيى عليه السلام في هذه الحجة لأنا إذا شاهدنا جسماً أو عرضاً إلى آخره يلزم منه كون العرض ذاتاً وهو لايقول به.
ومنها: أن قولكم هذه تقتضي أن يكون مع الله تعالى في الأزل أشياء وهو خرم لقاعدة التوحيد، وأجاب الحاكم بأنا نقول أنَّه تعالى يعلم الأشياء ولايقول معه أشياء لأن مع للمقارنة فيقتضي الوجود.
ومنها: قوله تعالى {وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً}، وقوله عليه الصلاة والسلام: <كان الله ولاشيء ثُمَّ خلق الذكر>.
وأجاب أصحابنا بأن هذا معارض للدلالة القاطعة فيجب تأويله فنقول: أما قوله تعالى: {ولم تك شيئاً} فالمراد ولم تك شيئاً موجوداُ ينتفع أو ينتفع به لأن ذلك من توابع الوجود أو يكون المراد لم تكن شيئاً مذكوراً كما قال في آية أخرى وذلك لن الكلام ورد للامتنان ولا منه في أن يسمى شيئاً وكذلك الحديث إن صح فالمراد ولاشيء موجود ولامانع من أن يورد الإسم لبعض ما يستعمل فيه.
فصل
قوله: (إذا ثبت أن المعدوم شيء فكلما كان من الألفاظ لايفيد الوجود لفظاً).
يعني كموجود ولامعنى يعني كمحدث وقديم وباق ومعاد فإن هذه تفيد الوجود مع وجه زائد فمحدث يفيد الوجود بعد عدم وقديم يفيد الوجود في الزل وباق يفيد استمرار الوجود وقتين فصاعداً، ومعاد يفيد حصول وجوده بعد عدم تقدمه وجود.
قوله: (جاز إطلاقه عليه في حال العدم) كقولنا جوهر ولون ونحو ذلك من الأسماء الَّتِي لاتفيد إلاَّ بأنه نوع من نوع ككون وطعم ورائحة وتأليف وحياة وشهوة وقدرة وبالجملة كلما كان من أسماء الأجناس لايفيد الوجود لأن قولنا: جوهر لايفيد إلاَّ أنَّه شيء متحيز عند الوجود وكذلك قولنا: لون لايفيد إلاَّ أنَّه شيء يكون هيئة لمحله عند وجوده وكذلك قولنا كون لايفيد إلاَّ أنَّه يوجب كون محله في جهة عند وجوده وكذلك سائرها بخلاف ما كان من أسماء الأجناس يفيد الوجود على وجه فإنه لايجوز إجراؤه حال العدم نحو قلنا في التأليف البزاق ومماسة وصكة وخشونة ولين وفي الشهوة جوع وعطش وعشق وكقولنا قدرة على الكون فإن تعليقها بالكون يفيد وجودها، إذ لايتعلق بالكون إلاَّ بعد الوجود وكقولنا جسم فلا يجوز إجراؤه على مسماه حال العدم، لأن الجسم لا بد فيه من تأليف مخصوص بأن يكون في جهة الطول والعرض والعمق، وكذلك شخص ونحوه: كجرم وجائي وذاهب وآكل وشارب.
وقد ذهب أبو الحسين الخياط إلى أن المعدوم يجوز تسميته جسماً وحكي عن قوم أنَّه يوصف في حال العدم بأنه جسم وجرم ويوصف بالمجيء والذهاب والأكل والشرب، وهذا إفراط في إثبات الذوات في العدم وعلو جاوز الحد، وأعظم من ذلك تجويز بعضهم رجلاً راكباً على فرس في العدم، فأما أبو القاسم فقد ذهب إلى أنَّه لايسمى في حال العدم جوهراً ولاعرضاً بل يسمى شيئاً ومعلوماً ومخبراً عنه ومقدوراً ونحو ذلك، وكلامه أرجح وأوضح والله أعلم.
الكلام في التوحيد
قوله: (والتحريك ليس عبارة عن الحركة وإنَّما هو عبارة عن فعل الحركة).
فيه سؤال، من وجهين:
أحدهما أن يقال: ظاهره إثبات قسم غير الحركة والمتحرك والمحرك، وهو التحريك الذي جعلته فعل الحركة فما أردت به؟
ويجاب عنه: بأن المراد به إيجاد الحركة.
وثانيهما: أنا لانسلم فرق أهل اللغة بين التحريك والحركة لأنهم لايعقلون كون الحركة معنى ولايفصلون بينهما والحد لغوي لا اصطلاحي.
قوله: (وفي اصطلاح المتكلمين هو العلم بالله). أي بذاته حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه وإلاَّ فإن كل واحد من علوم التوحيد علم بالله تعالى.
وقوله: (وما يجب له من الصفات) تشمل الصفات الذاتية كالصفة الأخص والمقتضاة ومن جملتها كونه تعالى مدركاً لأنها واجبة مقتضاة وإن كان وجوبها عقيب استحالة ويخرج بهذا القيد كونه مريداً وكارهاً لنهما جائزتان في حقه تعالى وقد جعلهما رحمه الله من مسائل التوحيد اللهم إلاَّ أن يكون مراده وما يجب إثباته له تعالى من الصفات فهما يدخلان على هذا.
وقوله: (وما يستحيل عليه منها). يدخل فيه العلم بنفي أضداد الصفات الثابتة له تعالى عنه ونفي الحاجة والجسمية والرؤية.
قوله: (وأنه لاثاني له يشاركه في ذلك) أي في صفاته الإثباتية ...
وقوله: (على الحد الذي يستحقه) يحترز من مشاركة الواحد منا له تعالى في نفس القادرية والعالمية والحيية والوجود فإنه وإن شاركه فيها فلم يشاركه فيها على الحد الذي يستحقه وهو الوجوب.
واعلم أن التوحيد فيحق الله تعالى بالنظر إلى ما وضع له في اللغة ليس إلاَّ نفي الثاني لكنه قد صار بالاصطلاح موضوعاً لما ذكره كله، ومن أصحابنا من جعل صدر الحقيقة ألا ثاني له تعالى، وهو السيد الإمام ومنهم من جعله آخر الحقيقة وقربه بعبارة توهم أنه غير أصل في التوحيد، وإنَّما يدخل فيه وينضم إليه وهو الشيخ أحمد بن الحسن، واختار المصنف جعله آخر الحقيقة لتأخره في العلم، وعلى حسب ترتيب المسائل وحذف تلك العبارة الموهمة.
فصل
قوله: (ومضمون هذا الباب) إلى آخره.
يعني باب التوحيد وهذا الفصل يشتمل على تعداد مسائل هذا الباب وتعيينها وذكر طرف من الخلاف فيها وترتيبها.
أما تعدادها فهي خمس عشرة مسألة.
وأما تعيينها فقد عين المصنف منها أحد عشر مسألة وأهمل أربعاً كونه موجوداً لدخولها في مسألة قديم والصفة الأخص وكونه مريداً وكارهاً وهما جائزتان غير واجبتين إلى ... لكونها تتصل بالصفات الأربع المقتضاة عنها وتتبعها وكان الأولى ذكرها.
قوله: (وما يتصل بكل واحد من هذه المعارف). يعني من حكاية مذهب أو ذكر شبهة أو سؤال وجواب أو إدخال فائدة أو تقعيد قاعدة كالكلام في الصفات والأحكام أو تفريع كالكلام في جيري عليه تعالى من الأسماء ويقيد الصفات المذكورة.
وأما الخلاف في تعداد هذه المسائل فقد ذهب الجمهور إلى أن صفات الإثبات ثمان وهي كونه قادراً وعالماً وحياً ومدركاً وقديماً ومريداً وكارهاً والصفة الأخص وأما كونه موجوداً فداخل في كونه قديماً وكونه سميعاً بصيراً راجع إلى كونه حياً وإنَّما يفيد زيادة قيد وهو كونه لا آفة به وذهب أبو علي إلى أنَّها سبع لنفيه الصفة الأخص.
وقال أبو القاسم: بل صفات الإثبات أربع وحذف الصفة الخص وكونه مدركاً مريداً كارهاً.
وقال أبو الحسين وابن الملاحمي: بل صفاته الإثباتية ثلاث كونه حياً وقادراً وعالماً، وإن كان هذه الصفات الثلاث المرجع بها عندهما إلى أحكام كما سيأتي، فالأحكام صفات بالمعنى الأعم وإنَّما اقتصرا على هذه الثلاث لأنهما لايثبتان الصفة الأخص والوجود عندهم نفس الذات وكونه مدركاً المرجع به عندهما إلى كونه حياً وكونه مريداً وكارهاً المرجع بهما عندهما إلى الدواعي والصوارف فهما من باب العالمية.
فأما مسائل النفي فهي أربع باتفاق بين العدلية وهي المذكورة في الكتاب، وأما أضداد صفات الإثبات فهي لاتفتقر إلى أفرادها بالذكر لأن أدلة الصفات الثابتة كافية في نفي ما عاكسها.
وأما ترتيبها فاعلم أن مسائل الإثبات مقدمة على مسائل النفي لأن الإثبات أهم من النفي وأحوج إلى الإستدلال فلا بد لكل مثبت من دليل علىما أثبته ونجد كثيراً من المنفيات لايحتاج إلى دليل ولأن في مسائل الإثبات ما هو الأصل في مسائل النفي كمسألة إثبات الصانع فإن من لم يعلمه تعالى لم يمكنه نفي صفة عنه وفيها ما هو دليل عليها فإنا إذا أردنا الاستدلال على أن الله تعالى غني قلنا: قد ثبت أنَّه تعالى حي لس بمحتاج، ومسألة حي من مسائل الإثبات وإذا أردنا الاستدلال على أنَّه لايشبه المحدثات قلنا لو أشبهها تعالى عن ذلك لكان محدثاً مثلها وقد ثبت أنَّه تعالى قديم وكونه قديماً من مسائل الإثبات، وإذا أردنا الاستدلال على أنَّه تعالى لايرى قلنا لو صحت رؤيته في حال من الأحوال لرايناه الآن لأنَّه موجود والحواس سليمة والموانع مرتفعة وكونه موجوداً من مسائل الإثبات، وإذا أردنا الاستدلال على أنَّه لا ثاني له. قلنا: لو كان معه تعالى ثان لشاركه في القدم وكونه قديماً من مسائل الإثبات.
فقد عرفت دلالة كونه حياً وموجوداً وقديماً على مسائل النفي وتوقف مسائل النفي عليها، فيجب تقدمها عليها، وكذلك كونه قادراً وعالماً يجب تقدمهما من هذا الوجه لأنهما دليل كونه حياً وموجوداً، وإذا وجب تقديم الدليل فأولى ما يدل عليه وما عدا هذه المسائل من مسائل الإثبات فهذا الوجه لايشملها ولأن الصفات الإثباتية صفات بالمعنى الأعم والمعنى الأخص، وصفات النفي جميعها صفات بالمعنى الأعم فقط، فتكون مسائل الإثبات أجدر بالتقديم من مسائل النفي للوجوه المذكورة وأما ترتيب صفات الإثبات بعضها على بعض وصفات النفي كذلك فسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
القول في أن للعالم صانعاً
لاكلام في وجوب تقديم هذه المسألة على سائر مسائل الإثبات إذ الكلام على كل واحدة منها لايتأتى إلاَّ بعد تحقيق هذه المسألة فإنه قد تقرر وثبت أنَّه لايمكن العلم بالحال إلاَّ مع العلم بالذات والمراد بالعالم المخلوقات من السموات والأرض والحيوانات وغيرها.
قال الجوهري: العالم الخلق والجمع العوالم، والعالمون: أصناف الخلق.
قلت: أراد بالخلق المخلوق.
قوله: (قد اتفق الناس على أنه لابد من مؤثرٍ ما. اختلفت أصحابنا هل من العقلاء من ينكر أن للعالم مؤثراً ويزعم أنه حاصل لاعن تأثير، مؤثراً ولايوجد في ذلك مخالف على الجملة وإنما الخلاف في التفصيل وهو هل هو المؤثر فاعل مختار أو موجب، فقال قاضي القضاة: لايوجد من قال بنفي المؤثر في العالم جملة وتفصيلاً، وقال القول بنفي المؤثر جملة تشبه مذهب السوفسطائية خلا أنه حدث جماعة من الوراقين وضعوا مقالة لم نذهب إلياه أحد فقالوا: بأن العالم قديم ولامؤثر فيه و.... هذا القول ... وابن الروندي وهكذا ذكر الفقيه حميد وابن الملاحمي وأشار إليه صاحب المحيط وبنى عليه المصنف والذي عليه الجمهور أن الخلاف واقع في المؤثر جملة كما أنه واقع فيه تفصيلاً وأن من الناس من لم يثبت مؤثراً قط فقد روى نفي المؤثر عن الملحدة والدهرية والفلاسفة المتقدمين والطبايعية، وقال القاضي: لم ينف الفلاسفة القدماء إلا المؤثر المختار دون الموجب.
قوله: (وبعض عباد الأصنام). هؤلاء فرقة منهم أقرت بالله تعالى وبالبعث والرسل وعبدوا الأصنام معتقدين أن عبادتها تقربهم إلى الله.
قوله: (فقال أهل النجوم التأثير لها ولحركاتها).
اعلم أن القائلين بتأثير النجوم فرقتان، أحدهما: هؤلاء الذين ذكر المصنف وهم فرقة من الفلاسفة وغيرهم وخلاصة مذهبهم القول بقدم النجوم وتأثيرها في جميع ما تحدث في العالم من حياة وموت وآلام ونبات وأمطار وحر وبرد ونحو ذلك ثم افترقوا فمنهم من قال على جهة الإيجاب وهي غير حية ولاقادرة وإنما يصدر ذلك عن طبائعها وهم الأكثر ومنهم من قال على جهة الصحة والاختيار وهي حية قادرة مدركة عالمة.
والثانية: أقروا بالصانع المختار، وقالوا: بأنه أحال التدبير إلى هذه النجوم وأن المتولي للعالم سبعة منها زحل والمشتري والمريخ والزهرة والشمس وعطارد والقمر وقيل في حصرها مرتبة على مراتبها في الارتفاع والعلو.
زحل شري مريخه من شمسه ... فتزهرت بعطارد أقمار
فهي عندهم في طبقات السموات على هذا الترتيب ولهم أقوال، وتفاصيل في مذهبهم يطول شرحها.
قوله: (وقالت الدهرية). هو بفتح الدال على قياس التشبه نسبوا إلى الدهر لقولهم بقدمه ونسبتهم التأثير إليه وأنه يعقب ما أبلاه بما يجدده، قيل: وقد صار بالاصطلاح اسماً لمن نفى الصانع المختار سواء أثبت مؤثراً غيره أو لا.
قوله: (وقالت الطبايعية بالطبع). اعلم أنهم يزعمون أن الأفلاك قديمة متحركة لذواتها وحين تصادمت حدث من تصادمها العناصر التي هي الهوى والماء والأرض والنار.
قوله: (الأربعة الأصل المذكورة) يعني في مقالة المطرفية.
قوله: (بحسب الاعتدال وعدمه وقوته وضعفه) قالوا: فالحيوان يحصل عن اعتدال المزاج حيث تم الاعتدال والنبات يحصل عن الامتزاج المتوسط ويحصل عما دون ذلك المعادن ونحو ذلك من خرافاتهم.
قوله: (وقالت الفلاسفة). أراد الفلاسفة الإسلاميين وسموا إسلاميين لحدوثهم وتجدد مقالاتهم بعد بعثة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وإقرارهم بشيء من الإسلام كالتصديق بالله والقول بحدوث العالم وإن خالفوا من جهة المعنى ولم يزد المتقديمن لأن المحكي عنهم نفي المؤثر رأساً والله أعلم.
قوله: (وحية أيضاً) يعنون السبع السموات التي هي الإلاك فهي حية عندهم لأنهم يجعلون لها نفوساً لاحتراكها.
قوله: (هذه المادة القابلة للكون والفساد) يعني الأجسام وغيرها الصادرة عن العقل الفعال هي القابلة للكون والفساد.
قوله: (من ضلالاتهم وهو سهم الذي يطول ذكره.
اعلم أن مذاهب الفلاسفة وغيرهم من هذه الفرق متضربة غير منحصرة وحكايات الأصحاب عنهم مختلفة ومذاهبهم أقرب إلى الالتباس والاشتغال بها لا ثمرة له وقد حكى بعض أصحابنا عنهم أباطيل ومقالات ركيكة لاسيما عن الباطنية وكلها من باب الهوس الذي هو ضرب من الجنون.
قوله: (والدليل على صحة ما يقوله أهل الإسلام) وهو قول من تابعهم من أهل الكفر مبني على القول بالصانع المختار وهذه الدلالة التي شرع في تحريرها تسمى دلالة الأكوان وطريقة الدعاوى، وأول من حررها ولخصها الشيخ أبو الهذيل وتابعه عليها من بعده من المعتزلة وذكر الشيخ أحمد بن محمد الرصاص أن أول من أشار إليها إبراهيم صلى الله عليه كما حكى الله عنه في أنه الأفول، وهي قوله تعالى: {فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي}، والكوكب قيل المشتري، وقيل الزهرة والقائل هذا ربي إبراهيم، قال: وقوله على جهة الاستهزاء بما كان يعتقده أبوه وقومه ولهذا حقق الاستهزاء بقوله: {لا أحب الآفلين}.
وقال جار الله: هو قول من منصف خصمه مع علمه أنه مبطل فيحكى قوله كما هو غير متعصب لمذهبه لأن ذلك أدعى إلى الحق وأنجى من العنت ثم نكر عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة، قال صاحب الجوهرة: فجعل ينقل النيرات دلالة حدوثها وأنها غير قديمة وإن لم يكن في كلامه تصريح بذكر الأكوان لكن الأفول ينقل والتنقل لايكون إلا بالأكوان.
وقال جار الله: أراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال ويعرفهم أن النظر الصحيح مود إلى أن شيئاً منها لايصح أن يكون إلاهاً لقيام دليل الحدوث فيها وأن وراءها محدثاً أحدثها وصانعاً صنعها ومدبراً دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها.
وقيل: بل أول من ابتدأها أبو الهذيل، وكلام إبراهيم عليه السلام غير قاض بذلك لا بإشارة ولاتصريح. وعن المؤيد بالله عليه السلام أن الصحابة كانوا يستدلون بالتأليف فيقولون: العالم مؤلف وكل مؤلف وله مؤلف.
وقيل: كانوا يقولون كون السماء والأرض والأشجار ونحوها على هذه الهيئة التي يعجز عن تركيبها البشر وتقصر عنها الآلات تدل على أن لها صانعاً غيرنا.
قوله: (وهذه الدلالة تنبني على أربع دعاوى). حقيقة الدعوى: الخبر الذي لايعلم صحته ولافساده إلا بدليل مع خصم منازع، فقولنا إلا بدليل ليخرج قول القائل السماء فوقي والأرض تحتي، لن هذا مما يعلم صحته لابدليل فلا يسمى دعوى ولو وقع فيه نزاع وإنما هو خبر فقط، وقولنا: مع خصم منازع. لأن الدعوى لاتسمى دعوى إلا مع حصول النزاع خلافاً للرازي فقال: بل يسمى دعوى وإن لم يكن ثم نزاع. قيل: وهو مخالف للغة لأن للدعوى عندهم أربعة أركان عدوى ومدع ومدعَى عليه ومدَّعى فيه، والمذهب يخالف الدعوى من وجهين أحدهما: أنه لايشترط فيه النزاع والثاني أنه يكون بالخبر والاعتقاد والظن والدعوى لاتكون إلا خبراً فعلى هذا يكون أعم منها من الوجهين فكل دعوى مذهب وليس كل مذهب دعوى.
واعلم أن الدعاوى أربع وتعيينها على ما ذكره في الكتاب فأما ترتيبها فالواجب تقديم الأولى منها لأنها كلام في إثباتها والبواقي كلام في أوصافها ولايمكن معرفة وصف الشيء إلا بعد معرفة ذاته كما مر غير، وأما الثانية والثالثة فقد قال السيد الإمام: لاترتيب بينهما وحدوثها وجب تقديم الثانية كما وجب تقديم الأولى وذلك كأن يقول: لأن الأجسام لم يحل من ههذ الأكوان المحدثة وإن لم يكن فيها إشارة إلى حدوثها لم يجب تقديمها وإن كان أولى لأنها كلام في صفة الأكوان يخصها، والثالثة: كلام في حكم لها مع الجسم ، وأما الرابعة فالظاهر من كلام أصحابنا وجوب تأخيرها، وقيل: إن كانت واردة على كيفية تتضمن الإشارة إلى سائر الدعاوى بأن يقال: الجسم لم يحل من هذه الأكوان المحدثة ولم يتقدمها فوجب أن يكون محدثاً مثلها وجب تأخرها لأن في ذلك ذكر الأكوان، والحكم عليها بالحدوث والمقارنة فيجب تقديم تلك الدعاوى والدلالة عليها، وإن لم تكن واردة على ذلك الوجه بأن يقال فيها لاجسم إذا لم يحل من المحدث ولم يتقدمه وجب أن يكون محدثاً مثله لم يجب تأخيراه إذ لايترتب ذلك على الدعاوى الثلاث الول والذي يجري في كتب الأصحاب هو الكيفية الأولى فيجب تأخرها لنها كلام في حكم الجسم مع الكون بعد الحكم عليه بالحدوث والمقارنة فلا بد من تقدمها عليها ولاكلام في حسن تأخرها على الإطلاق.
قال المصنف رحمه الله: (أما الدعوى الأولى) إلى آخره.
اعلم أن الكلام في الدعوى الأولى يقع في ثلاثة مواضع الأولى في حكاية المذهب وذكر الخلاف، الثاني في فوائد تتعلق بالأكوان، ألثالث في الدلالة على صحة المذهب.
أما الموضع الأول: فالخلاف كما ذكره من جهتين، قوله: (والأصم وحفص وهشام).
الأصم من النواصب وحفص من المجبرة وهشام من المجسمة، وقد وسط رحمه الله إبطال مذهب المخالفين في الجهة الولى بين حكاية مذهبهم وحكاية مذهب المخالفين في الجهة الثانية لأنه قول ضعيف وليس الذي يفتقر إلى بسط في الدلالة إلا إبطال قول المخالفين في الجهة الثانية.
قوله: (وحصولها في الجهات يتضاد الدليل على تضاده) امتناع اجتماعه فلا يمكن أن يكون الجوهر في وقت واحد في جهتين ولايمكن صرف تلك الاستحالة إلا إلى التضاد.
قوله: (لأنه غير مقدور لنا) سيأتي الدليل على ذلك في مسألة نفي التجسيم فأما هذا الجسم الذي فرض الكلام فيه فيخصه وجه آخر وهو أنه موجود اصل وما كان كذلك فليس بمقدور.
قوله: (ولأنه موجود قبل التحريك) يعني فإذا عرف أنه كان موجوداً من قبل فاتحاد ما هو موجود وحاصل محال فلابد من أن يكون هذا الأمر الذي علمنا ضرورة حصوله ووجوده أمراً غير الجسم.
قوله: (فكأنك تقول لاشيء) يعني حد الزاني (يزيد على لاشيء| يعني حد القاذف، وإنما لزمه ذلك لنه إذا قال في العشرين أنها لاشيء فلا فرق بينها وبين المائة والثمانين في ذلك.
قوله: (وبعد ففيها) الضمير عائد إلى الأعراض جملة.
قوله: (وإنما يرجع الاستدلال إلى التفصيل) يعني لايقال إذا كانت تعلم ضرورة للعلم بحسن كثير منها وقبح كثير فلم احتجتم إلى الاستدلال على أن ههنا أموراً زائدة فإنا إنما نستدل على التفصيل وهو أنها ذوات فليست بصفات ولا أحكام ولا أجسام فأما أن ههنا أموراً زائدة فيعلم ضرورة.
قوله: (وبعض المتأخرين) لعله أراد الإمام يحيى بن حمزة لأنه يذهب إلى مذهب أبي الحسين في ذلك بل في أكثر المسائل ومن الباقين لكونها ذواتاً. ابن الخطيب وغيره من أصحابه.
تنبيه
اعلم أن المسمين بنفاة الأعراض هم المخالفون من الجهة الولى لأن أ÷ل الخلاف في الجهة الثانية يعترفون بثبوتها وإ، حكموا بأنها صفات.
وقد قيل: لا قائل بالنفي من كل وجه إذ الصفات معلومة ضرورة وههنا جهة أخرى من الخلاف فإن النظام لم يثبت من الأكوان بل من الأعراض إلا الحركة.
وأما الموضع الثاني ففيه ثلاث فوائد:
الفائدة الأولى
في حقيقة الكون وأقسامه وما يتصل بذلك فحقيقة الكون: ما يوجب كون المتحيز في جهة ما والكائن هو الثابت في جهة ما على وجه الاستقلال، وقلنا: على وجه الاستقلال ليخرج العرض لأنه عند المتقدمين في جهة، وحقيقة الكائنية كون المتحيز في جهة ما.
وأما قسمته فهو ينقسم إلى حركة وسكون واجتماع وافتراق وكون مطلق.
وأما حقائق أقسامه فحقيقة الحركة: الكون الموجب كون المتحيز في جهة عقيب كونه في جهة أخرى بلا فصل. قلنا: بلا فصل احترازاً من أمرين أحدهما أن يكون الجوهر في جهة ثم ينقل إلى أخرى ويلبث فيها إلى الوقت الثاني فإنه في الوقت الثاني لايسمى حركة لأنه تخلل بين كونه في الجهة الأولى وبين كونه في الثانية في الوقت الثاني فصل وهو الوقت الأول وثانيهما من أن يوجد الله تعالى جوهراً في جهة ثم يعدمه ثم يعيده في جهة غير تلك الأولى فلا يكون الكون الذي فيه في تلك الجهة الخرى حركة لحصول الفصل بين كونه في الجهة الأولى وفي الجهة الثانية.
وحقيقة المتحرك: الكائن في جهة عقيب بلا فصل وحقيقة كونه متحركاً كونه كائناً في جهة عقيب كونه في أخرى بلا فصل، وحقيقة السكون الكون الموجب كون المتحيز في جهة وقتين متصلين فصاعداً أو الموجود بعد مثله مالم يعدم ذلك المثل.
قلنا: متصلين احترازاً من أن يوجد الله تعالى جوهراً في هة كائناً فيها يكون ثم يعدمه ثم يعيده ويعيد فيه ذلك الكون في تلك الجهة فإن هذا الكون وإن أ,جب كون الجوهر كائناً في جهة في وقتين فليس بسكون لعدم اتصال الوقتين وكذلك لو أوجد الله تعالى كوناً في جوهر في جهة ثم نقله منها ثم رده إليها بذلك الكون بأن يعيده فيه فإنه لايكون سكوناً لما تقدم. وقلنا: والموجود عقيب مثله ليدخل ما إذا أوجد الله تعالى أو الواحد منا كوناً في جوهر في جهة وبقي كائناً فيها بذلك الكون وقتين فصاعداً ثم أوجد فيه حال كونه فيها كوناً آخر لن تسكين الساكن جائز على الأصح، فإنه سكون وإن قدرنا أنه لم يوجب كون المتحيز في جهة في وقتين بل انتقل ذلك المتحيز ثاني وجوده فيه، وقلنا مالم يعدم ذلك المثل احترازاً من أن يوجد تعالى جوهراً في جهة ثم ينقله إلى أخرى ثم ينقله في الوقت الثالث إلى الجهة الأولى فهذا الكون قد وجد عقيب مثله فليس بسكون لما كان قد عدم ذلك المثل وحقيقة الساكن الكائن في الجهة وقتين متصلين فصاعداً، وحقيقة كونه ساكناً كون المتحيز في جهة وقتين متصلين فصاعداً وحقيقة الاجتماع الكونان الموجبان كون المتحيزين كائنين في هتين على جهة المماسة ولى هذا فقس.
حقيقة المجتمع وكونه مجتمعاً، وحقيقة الافتراق الكونان الموجبان كون المتحيزين في جهتين على جهة المباينة وعلى هذا فقس، حقيقة المفترق وكونه مفترقاً.
تنبيه
قد عرفت من معنى الحقيقة المذكورة أن الاجتماع كونان وهو الذي يذكره الأصحاب في كتبهم وكذلك الافتراق. وقيل: الأجود أن الاجتماع كون واحد وكذلك الافتراق ولكن يشترط في تسميته اجتماعاً أن يماس محله جوهراً ىخر، وفي الافتراق أن يبيان محله جوهراً آخر فعلى هذا يكون في الجوهرين المتماسين اجتماعان وفي المتبياينن افتراقان، والمعنى واحد، وإنما الفائدة هل يسمى كل واحد من الكونين المذكورين اجتماعاً أو اسم الاجتماع يشملهما وكذلك الافتراق فهو خلاف في العبارة وحقيقة الكون المطلق الكون الموجب كون المتحيز في جهة ما عند ابتداء حدوثه وعلى هذا فقس وحقيقة الكون المطلق الكون الموجب كون المتحيز في جهة ما عند ابتداء حدوثه وعلى هذا فقس، حقيقة الكائن يكون مطلق وكونه كائناً يكون مطلق.
واعلم أن هذا الكون إن لبث به الجسم في الجهة وقتين فصاعداً عاد سكوناً وإن وجد في جوهرين على سبيل القرب كان اجتماعاً أو على سبيل البعد كان افتراقاً وقد يكون حركة على ضرب من التقدير، وهو أن يوجد الله الجوهر في جهة ثم ينتقل ثاني وجوده فيعدم الكون المطلق ثم ينتقل إلى الجهة الأولى بذلك الكون المعدوم بأن يعيده فيه الله تعالى فقد أوجب كون المتحيز في جهة عقيب كونه في أخرى بلا فصل فيصير حركة ولايسمى كوناً مطلقاً لأنه لايسمى بذلك إلا الحاصل في المتحيز عند خروجه من العدم إلى الوجود والكون المطلق مما يختص تعالى بالقدرة عليه لأنه لايمكنا تعدية الفعل إلى الغير، وفعل كون فيه إلا بالاعتماد الموجود في الوقت الأول في محل ذلك الكون وفي الوقت الأول الجسم معدوم وظاهر كلام الجماهير من أصحابنا أنه لايتشرط فيه أن يكون في جوهر خلقه الله ولم يخلق معه غيره.
وقال الفقيه محمد بن يحيى بن ...: لابد من ذلك. واعترضه بعضهم بأنه يلزم عليه ألا يصح وجوده من الله تعالى لأنه تعالى لايخلق شيئاً إلا بعد خلقه من الأحياء من ينتفع به وذلك الحي لايكون إلا متركباً من جواهر متعددة وكلام المتكلمين مصرح بأن الكون المطلق فعل الله وله أن يقول: أكثر ما يقتضيه ما قلته أنه لم يوجد فأما أنه لايصح وجوده فلا لأنه يصح منه تعالى خلق جوهر منفرد ولا كلام في قدرته على ذلك، وإن قيل أنه لايصح منه فعله فمن جهة الحكمة لامن جهة القدرة مع أنه يصح من جهة الحكمة بأن يعلم الله أن في خلق هذا الجوهر المنفرد وتقديمه على سائر الأحياء والجمادات لطفاً لمن سيكلفه في المستقبل فيكون ذلك وجهاً في جواز تقديمه، وإذا تأملت لم تجد خلافاً له فائدة وإنما هو في العبارة فقط وهل يسمى كونه مطلقاً مع كونه اجتماعاً وافتراقاً أو لا.
واعلم أنه إذا وجد جوهر مع وجود جوهر آخر فالكون الذي فيه يسمى اجتماعاً أو افتراقاً ولايسمى حركة ولاسكوناً فيكون مطلقاً بالنسبة إلى الحركة والسكون غير مطلق بالنسبة إلى الاجتماع والافتراق والذي سمى هذا الكون بالكون المطلق هو الشيخ أبو هاشم وإنما سماه بذلك لأن لفظة الكون أعم ولحالات الجسم أشمل والمراد بقوله: مطلق أنه لم يقيد بقيد زائد على مطلق الكونية.
إذا عرفت ما مضى وأردت حصر الأكوان قلت: الكون إما أن يوجب كون المتحيز ف يجهة عند ابتداء حدوثه أولاً إن كان الأول فهو الكون المطلق وإن لم يكن كذلك فلا يخلو إما أن يصير به الجسم إلى جهة عقيب كونه في أخرى بلا فصل أو لايكون كذلك، إن كان الأول فهو الحركة وإن كان الثاني وهو أن يلبث به المتحيز في الجهة وقتين فصاعداً من غير فصل أو يوجد في متحيز لابث في الجهة وقتين أو أكثر فهو السكون ثم لايخلو الكون إما أن يوجب كون المتحيز في جهة مع حصول كون غيره في متحيز مماس له أولاً إن كان الأول فهو الاجتماع وإن لم يكن كذلك بل أوجب كون محله في جهة مع حصول آخر في متحيز مباين له فهو الافتراق.
الفائدة الثانية
اعلم أن الأكوان لاتتضاد إلا بحسب اختلاف الجهات وقول المتكلمين الاجتماع ضد الافتراك والحركة ضد السكون ليس على ظاهره، بل قد تكون الحركة سكوناً فإن الكون الذي ينتقل به الجوهر إلى جهة يسمى في الوقت الول حركة وفي الثاني يسمى ذلك الكون بنفسه سكوناً لحصول حقيقة السكون فيه وكذلك فإذا كان المتحيزان متماسين فإن الكونين اللذين فهما اجتماع فإذا بان أحدهما مع بقاء الآخر في جهته صار الكون الذي في هذا الباقي في جهته يسمى هو والكون الذي في الباين عنه افتراقاً وقد كان يسمى هو والكون الذي كان في الباين عنه اجتماعاً، فعرفت أن تضادها لاختلاف الجهات وإن اتفقت أسماؤها فالسكون في هذه الجهة يضاد السكون في غيرها، والحركة في جهة يضاد الحركة في غيرها وكذلك الاتجماع والافتراق ودلالة تضادها بحسب اختلاف الجهات استحالة أن يجتمعلمتحيز واحد كونان في هتين في وقت واحد وكذلك فيماثلها بحسب إيجاب الجهة وإن اختلفت في الأسامي وقد ذهب أبو علي إلى أن الحركة تضاد السكون مطلقاً وإن كانت الجهة واحدة، وذهب أبو القاسم إلى أن الحركة القبيحة غير مماثلة للحركة الحسنة بل مخالفة لها، وحكى عنه الإمام يحيى القول بأن الحركة التي يفعلها العبد لاتكون مماثلة للحركة التي يفعلها الله تعالى وإن اتحدت الجهة، واحتج بأن فعل العبد إما سفه أو تواضع و يستحيل أن يكون مقدوره تعالى كذلك فإذن الله تعالى غير قادر على مثل مقدور العبد.
وقد أجاب الجمهور عن ذلك بأن يكون فعل العبد سفهاً أو عبثاً أو تواضعاً اعتبارات عارضة بسبب قصد العبد وداعيه والاختلاف في العوارض المفارقة لايوجب اختلافاً في الحقيقة والماهية.
الفائدة الثالثة:
اعلم أنه قد ورد إشكال في الحركة فقيل: متى يحل في المتحرك الذي ينتقل بها. إن قيل: تحله في الجهة الأولى التي كان فيها فتنقله عنها فذلك يوجب أن يوجب له كونه متحركاً في تلك الجهة دون غيرها، ودون أن تنقله عنها، وإن قيل: يوجد فيه بعد انتقاله عن تلك الجهة في الجهة التي انتقل إليها اقتضى ذلك أن الجوهر انتقل من غير حركة ومثله يرد في كل ضدين كالسواد والبياض فيقال: هل وجد السواد في محل البياض قبل زواله ففيه اجتماع الضدين أو بعد انتفائه ففيه انتفاؤه من دون ضد. وقيل: طرو ضده ويجري في كلام أصحابنا أن وجود الحركة حال الانتقال وأن وجود الضد حال زوال ضده وهو كلام لاطائل تحته لأنه لا قسم ثالث بل إما أن يوجد قبل زوال ضده أو بعده وكذلك الحركة إما في الجهة الأولى أو في الثانية، وإنما هذه منهم مدافعة لفظية والأولى الرجوع إلى أن نقول: ألمضادة إذا كانت معلومة وزوال أحد الضدين عند طرو ضده معلوماً فلا يقدح عدم تمخض وقت المنافاة بينهما فيما قد علم ويجري مثله في شأن الحركة والله أعلم.
وأما الموضع الثالث: وهو في الدلالة على أن هذه الأكوان ذوات فليست بصفات كما ذهب إليه الشيخ أبو الحسين وأصحابه، فهي على ما ذكره المصنف وقد أحسن في سياق الدلالة ولابد من كشف ما يحتاج إلى الكشف والإيضاح من كلامه.
واعلم أولاً أن الذاهبين إلى أن الأكوان ذوات مختلفون نوعاً من الاختلاف فذهب الشيخ أبو علي إلى أن الأكوان تعلم ضرورة بالمشاهدة بناء على قوله أن الأكوان مدركة. وقال الشيخ أبو هاشم: تعلم ضرورة لا بطريق المشاهدة فليست بمدركة عنده، ثم رجع عن ذلك إلى مذهب الجمهور في أنها تعلم بالدلالة وإنما المعلوم ضرورة هي الكائنية وبه قال محمود بن الملاحمي، فإنه ذهب إلى أن العلم بأن كون الجسم كائناً في بعض الجهات أمر زائد ضروري على الجملة وإنما يحتاج إلى الدلالة على التفصيل وهو أن ذلك الأمر ذات أو صفة وهو الظاهر من كلام أكثر أصحابنا.
قوله: (أما الأصل الأول) وهو أنه حصل كذلك مع الجواز (فهو دون ما غاب عنا) السيد الإمام وهو مذهب قاضي القضاة وأطلق العلم بذلك ضرورة الشيخان أبو علي وابن الملاحمي والباقون يستدلن على ذلك بما ذكره من بعد.
قوله: (وفيما غاب عنا بجامع التحيز).
اعلم أن الجمع بين الأجسام الحاضرة والغائبة في ذلك بجامع التحيز صورته أن يقال إنما كان الجواز في الحاضرة لتحيزها والتحيز ثابت في الغائبة فوجب ثبوت الجواز فيها والذي يدل على أن الجواز في الحاضرة لتحيزها أنه إما أن يثبت لأمر أو لغير أمر، والثاني باطل لأنه لو كان كذلك لم يكن بأن يثبت أولى من ألا يثبت ولأن عدم الأمر حاصل في الأجسام الغائبة فيحصل الجواز وإن كان لأمر.
فأما أن يكون لذات الجسم وهو باطل لن الجواز حكم ولا ذاتي في الأحكام كما سياي، ولو صح ذلك لحصل منه غرضنا إذ الأجسام الحاضرة والغائبة مشتركة في الذات فليشترك فيما يجب لها أو لذات أخرى وهو باطل لأن تلك الذات الأخرى إما فاعل أو علة وباطل أن تكون لفاعل إذ لو كان له تحيز في ذلك لصح منه أن يفعل ما كان جائزاً غير جائز وما ليس بجائز جائزاً، ولأن الذي يؤثر فيه الفاعل يكون تأثيره فيه على سبيل الصحة والجواز وهذا الحكم جواز والجواز لاجواز له ولأنه حكم ثابت للجسم في حالة البقاء ولايؤثر الفاعل إلا في حالة الحدوث فيا لحدوث ويوافقه فقط، وباطل أن يكون لعلة لصحة عدمها فيلزم عدم الجواز عند عدمها وأيضاً فتأثيرها فيما ثد ثبت جوازه والجواز لا جواز له فنفي أن ذلك الجواز لصفة للجسم وباطل أن يكون لصفة من صفات الجملة لثبوته في الجماد وباطل أن يكون لصفته الذاتية وإلا لزم ثبوته في حالة العدم ولا لصفة الوجود وإلا لزم في كل موجود ومعلوم عدم ثبوته للأعراض وباطل أن يكون المؤثر فيه الكائنية لحصوله قبل ثبوتها والأثر لايتقدم على المؤثر ثم كيف تؤثر في حكم لنفسها فلم يبق إلا أن يكن المؤثر فيه التحيز وهو حاصل في الأجسام الغائبة عنها فثبت كونها كائنة مع الجواز.
قوله: (لاستحال خروجه عنها ولوجب مشاركة جميع الأجسام له في ذلك لأن حصوله فيها يكون لأمر يرجع إلى ذاته).
اعلم أن حصول الجسم في الجهة المعينة لو كان واجباً لم يخل عن أحد أمرين إما أن تكون صفة ذاتية أو مقتضاة إذ الصفة الواجبة لاتنفك عن ذلك والمقتضاة ههنا لايتصور إلا أن تكون مقتضاة عن الذاتية ومع كونها كذلك يلزم استحالة خروج الجسم عنها في حال بقائه لما قد تقرر من أن الذاتية والمقتضاة لاتخرج عنهما المنصف بهما في حال بقائه ويلزم اشتراك الأجسام فيهما لكونها مما يرجع إلى الذات وذاتية الأجسام واحدة ومما يلزم على كونها واجبة عدم وقوفها على قصدنا ودواعينا ولأن للجسم صفة ذاتية وهي الجوهرية ومقتضاة وهي التحيز ومحال استحقاقه لصفتين ذاتيتين أو مقتضاتين عن ذاتية واحدة أو عن ذاتيتين لتأدية ذلك إلى مخالفته لنفسه أو صدور أكثر من صفة مقتضاة عن الذاتية فيلزم التعدي ولا حاضر ويلزم على كونها ذاتية الثبوت في العدم وعلى كونها مقتضاة أن يدرك عليها كما يدرك على التحيز.
قوله: (وأما الأصل الثاني وهو أن الحال واحدة والشرط واحد). الكلام من الحال والشرط يقع في فوائد خمس:
الفائدة الأولى
في حقيقتهما على الإطلاق وبالنسبة إلى الصفة المعنوية أما حقيقة الحال على الإطلاق فسيأتي في باب الصفات وأما بالنسبة إلى الصفة المعنوية فحقيقتتها ما ذكره المصنف وهي ما يصحح الصفة المعنوية ونقيضها إذا كان لها نقيض والأولى أن يقال وما يجري مجرى الضد لها إذا كان لها ما يجري مجرى الضد، فإطلاق لفظ النقيض على الضد أو ما يجر يمجراه يجوز. وقولنا: إذا كان لها ما يجري مجرى الضد ليدخل ما لا ضد له كالقادرية فإن كون الحي حياً يصحح القادرية ولا ضد لها من الصفات.
وأما الشرط فحقيقته اللغوية العلامة ومنه أشراط الساعة أي علاماتها ومنه سمي الشرطي شرطياً وهو الرئيس الذي يكون مؤمراً على جنود من له سلطان فإنه سمي بذلك لما كانت له علامة يتميز بها عن غيره وعليه قول ابي الأسود:
فإن كنت قد أزمعت بالصرم بيننا ... فقد جعلت أشراط أوله تبدو
قال المصنف في العقد: والمراد العلامة التي لها تعلق لامجرد العلامة فإن الميل المنصوب علماً للطريق لايقال أنه من أشراط الطريق وهو في اصطلاح النحاة ما كان بعد أدوات الشرط كإن وإذا ومتى ونحوها وفي اصطلاح المتكلمين ما وقف عليه غيره وليس بمؤثر فيه ولامؤثر فيما يؤثر فيه وحقيقته بالنسبة إلى الصفة المعنوية ما صحح المصحح للصفة المعنوية أو كان شرطاً في تصحيحه لها أو في صحته، مثال المصحح للمصحح التنبيه في الأجزاء التي يصح حلول الحياة فيها فإنها مصححة لكون أحدنا حياً، وكون أحدنا حياً هو المصحح لصفات الحمل فكانت البنية شرطاً في صفات الحمل وقد قيل: إن المصحح لكون أحدنا حياً التحيز بشرط البنية.
وقال الشيخ أبو الحسن: بل المصحح لكونه حياً الأمور التي تحتاج الحياة إليها من بنية ورطوبة وتخلخل وروح ومثال ما هو شرط في تصحيح المصحح بنية القلب فإنها شرط في تصحيح كوننا أحياء لكوننا مريدين وكارهين ومعتقدين ومشتهين ونافرين وظانين وناظرين، فتكون بنية القلب شرطاً فيها لأن كونه حياً لايكون حالاً أي مصححاً لهذه الصفات إلا إذا حصلت البنية ومثال ما هو شرط في صحة المصحح الوجود فإنه شرط في صحة المصحح للصفات الراجعة إلى المحل وهو التحيز فيكون الوجود شرطاً فيها لذلك فقد ظهر لك أن الحال في صفات المعاني الراجعة إلى المحل هو التحيز وأن الشرط فيها الوجود وأن الحال في الصفات الراجعة إلى الجملة كون الحي حياً وأن الشرط فيها اجمع هو البنية التي تحتاج الحياة إليها لأنها مصححة لمصححها وكذلك بنية القلب في كثير منها وهو ما لايصح حلول عليه إلا في القلب لما كانت شرطاً في تصحيح مصححها وكذلك البنية الزائدة التي تحتاج إليها القدرة إن صح حاجتها إلى بنية زائدة، وكذلك فالحال في كونه تعالى قادراً عالماً كونه حياً والشرط الوجود، وقيل: بل الشرط الصفة الأخص ولابأس بذلك لأن الوجود شرط في صحة المصحح والصفة الأخص مصححة للمصحح وإن كان لايكاد يستعمل الحال والشرط إلا في الصفات المعنوية بل هما من خواصها.
الفائدة الثانية
في معنى كون الحال واحداً والشرط واحداً. هو كما ذكره المصنف.
الفائدة الثالثة
في فائدة ذكر الحال والشرط، واعلم أن في ذكرهما فائدتين أحدهما ما ذكره المصنف بقوله: فيعلم بذلك أنه لاتأثير لهما.. إلى آخره. الثانية: أن فيه إشارة إلى أن هذه الصفة معنوية لأن من خواص الصفة المعنوية التي يتميز بها عن الواجبة والتي بالفاعل اعتبار الحال والشرط وثبوتهما فيها.
الفائدة الرابعة
في الدليل على أن الحال واحدة والشرط واحد والدليل على ذلك يتناول طرفين، أحدهما: أن حال كونه كائناً في هذه الجهة وشرطها هو حال كونه كائناً في غيرها وشرطها والدليل عليه أنه لو لم يكن واحداً للزم في بعض المتحيزات أن يصح كونه كائناً في هذه الجهة ولايصح كونه كائناً في تلك الجهة الأخرى لعدم احلها وشرطها وللزم فيما ليس بمتحيز أن يصح كونه كائناً في هذه الجهة لحصول حالها وشرطها فيه ولأنه لو لم يكن حالهما وشرطهما متحداً للزم أن يحتاج أحد الضدين إلى غير ما يحتاج إليه الآخر، وهو محال، وإلا لزم إذا زال أحدهما عند طرو ضده أن يكون لزوال حاله وشرطه لا لمضادة الآخر له وذلك يقدح في العلم بالتضاد.
الطرف الثاني: أن الحال الذي هو التحيز والشرط الذي هو الوجود ثابتان حال ثبوت كونه كائناً في هذه الجهة فحال ثبوت كونه كائناً في جهة أخرى وحال انتفائها والذي يدل عليه أنه لو لم يكن كذلك للزم في الجسم إذا انتقل من جهة كان فيها إلى غيرها أن يخرج عن كونه متحيزاً موجوداً وهو محال.
الفائدة الخامسة
في الدليل على أن الحال في صفات المعاني الراجعة إلى المحل والمصحح لها هو التحيز لا غير وذلك أنه لايخلو إما أن يصح على الجوهر لمجرد كونه ذاتاً فيلزم أن يصح على الأعراض وهو باطل أو يصح عليه لصفته الذاتية فيلزم صحتها عليه في العدم لحصولها في تلك الحال وهو باطل أو يؤثر في تلك الصحة له الفاعل وهو باطل وإلا لزم ألا يجدد الصحة له حال البقاء لأن ما أثر فيه الفاعل هو تابع لحالة الحدوث، ومعلوم أن كونه كائناً في هذه الجهة تتجدد صحتها له في حال بقائه فإنه حال كونه كائناً في جهة لايصح عليه في تلك الحال كونه كائناً في أخرى ثم يصح عقيب ذلك حال انتقاله عن تلك وكان يلزم أن يجعل الفاعل هذه الصحة للأعراض ويسلبها عن الجواهر لأن ما كان من تأثيره فهو واقف على اختياره ولأنه يؤثر على سبيل الصحة والصحة لاصحة لها أو يؤثر فيها معنى وهو باطل وإلا احتاج الجوهر إلى مصحح آخر يصحح له حصول هذه ..... من هذا المعنى لأن الصفات والأحكام المعنوية لابد لها من مصحح فيؤدي إلى التسلسل فلم يبق إلا أن يكون المصحح ههنا هو الصفة المقتضاة وهي التحيز وعلى هذه الكيفية يستدل على أن كونه حياً هي المصححة لصفات المعاني الراجعة إلى الجملة ولايقال هلا كان المصحح لها البنية أو التحيز ويكون كونه حياً شرطاً في التصحيح لأن البنية والتحيز راجعان إلى المحل وكونه حياً راجع إلى الجملة فكان كونه حياً هو المصحح لما يرجع إليها دون ما ليس براجع إلى الجملة وهو البنية والتحيز ولايلزم من كون الحيية هي المصحح التسلسل لكونها معنوية متحاجة إلى مصحح لأنها وإن احتاجت إلى مصحح فمصححها هو البنية ومصحح البنية التحيز والتحيز لايحتاج إلى حال فلا تسلسل.
قوله: (فقد قيل يعلم ذلك ضرورة). هذا قول ابن الملاحمي.
قوله: (وقال أصحابنا يعلم بأدنى تأمل) صرح بذلك السيد الإمام في شرحه والشيخ ابن متويه في تذكرته فإنه قال: يعلم ذلك بالضرورة أو بأدنى تأمل.
واعلم أنه لايصح ادعاء الضرورة فيما ذكر إلا مع كون العلم بحصول أمر زائد على الجسم وكون حصوله على سبيل الجواز ضرورياً فأما إذا كان استدلالياً فلا يصح ذلك.
قوله: (أو لما هو عليه في ذاته) أراد بذلك الصفة المقتضاة.
قوله: (وهذه الأقسام) هي التي يشتبه الحال فيها يعني فلا يحتاج إلى إبطال أن يكون مجتمعاً للعلة والفاعل معاً أو للصفة الذاتية والمقتضاة معاً ونحو ذلك لظهور بطلانه إذ لايجتمع مؤثران على التأثير في أثر واحد ولأن قولنا حصل للفاعل يقتضي أنه مقصور عليه وكذلك قولنا حصل للعلة يقتضي قصر التأثير فيه عليها فإذا قلنا حصل للعلة وللفاعل أدى إلى أن يكون مقصوراً على العلة غير مقصور مقصوراً على الفاعل غير مقصور، وعلى هذا فقس في كل إبطال لإضافة أثر إلى مؤثرين.
قوله: (أما الأولان فباطلان بما تقدم من أنها حاصلة مع الجواز) يعني فلو كانت صفة ذاتية او مقتضاة لم يجز ذلك بل تكون حاصلة مع الوجوب لأن الوجوب كيفية لهما وكيفية الصفة لاتفارقها.
قوله: (ويلزم أن تستمر هذه الصفة ما استمر الوجود) فيه سؤال وهو: أن يقال: لايلزم استمرار كونه مجتمعاً ما استمر الوجود لأنه وإن كان مقتضياً لكونه محتجاً فهو مشروط بانضمام جوهر آخر إلى هذا الجوهر الموجود فلا يقتضي كونه موجوداً كونه مجتمعاً إلا مع حصول الشرط وهو الانضمام ولا مانع من وقوف المقتضي في تأثيره على شرط كما يقولونه في كثير من المقتضيات.
والجواب: أن ما ذكرته لايتأتى إلا على جعل الوجود مقتضياً للكائنية ولو كان كذلك للزم أن يقتضي للأعراض كونها مجتمعة.
فإ، قيل: لايلزم ذلك لأنه يقف على شرط وهو التحيز.
قلنا: فيلزم صحة التحيز للأعراض لأنه لايجوز أن يحصل المقتضي ويستحيل شرط الاقتضاء على الإطلاق ومعلوم استحالة حصول التحيز للأعراض مطلقاً فتبين أن كونه موجوداً ليس بمقتضٍ ويمكن إفراد هذا الجواب وجهاً مستقلاً في إبطال تأثير الوجود في الكائنية بأن يقال: لو كان مؤثراً فيها لم يتصور ذلك إلا بطريقة الاقتضاء إذ هو معنى تأثير صفة في صفة ولايصح أن يكون مقتضياً لما ذكره فكذلك في الحدوث.
قوله: (ويلزم ألا تجدد له هذه الصفة حال البقاء).
الوجه في ذلك أن الأثر لايتجدد إلا بتجدد المؤثر ولايجدد للحدوث حال بقاء الجسم وعبارة المصنف هذه حسنة فلا يرد عليها ما ورد على عبارة السيد الإمام حيث ألزم ألا يستمر كونه مجتمعاً إذا كان المؤثر الحدوث فقد اعترض بأنه لامانع من استمرار الأثر وإن فقد المؤثر كالفعل والمسبب فإنهما يستمران وإن عدم الفاعل والسبب فهذا الاعتراض ساقط عن عبارة المصنف لأنه ألزم أن لايتجدد وذلك صحيح لما تقدم، وإن كان قد أجيب عن ذلك الاعتراض بأن الحدوث لو كان مؤثراً لكان من قبيل المقتضيات إذ هو صفة ومعلوم أن المقتضي يزول بزوال المقتضي ولايستمر مع زواله فكان يلزم إذا زال الحدوث أن يزول كونه مجتعماً ولايحصل بعد ذلك بخلاف الفاعل والسبب، فليس حكمهما حكم المقتضي في ذلك.
قوله: (وبهذا الأخير يبطل الخامس) أراد بالأخير لزوم ألا يجدد هذه الصفة حال البقاء، ونظير ذلك الحسن والقبح فإنهما لما كانا لحدوث الفعل على وجه لم يتجددا حال بقائه في حالة واحدة ولأنه لايعقل في تأثيره إلا طريقة الاقتضاء فكان يلزم أن يكون واجباً، وقد ثبت أنه جائز فالخامس يبطل لهذين الوجهين كما يبطل بهما الثالث والرابع.
قوله: (باطل). يعني وهو أن يكون الجسم مجتمعاً لعدمه بنفسه لا لعدم معنى فبطلانه سيأتي والدليل على بطلان السادس ما ذكره ولم يبطله بأنه لايصح أن يكون مجتمعاً إلا وهو موجود، ومحال أن يكون معدوماً مجتمعاً لأنه يرد عليه أن يقال: ما أنكرتم أن تأثير العدم في حال كونه موجوداً لا في حال عدمه فيكون عدمه في الوقت لاذي قبل وجوده مؤثراً في اجتماعه في الوقت الثاني وهو حال وجوده كما أن النظر يؤثر في الوقت الثاني، وإن كان قد أجيب عنه بأنه قد ثبت بطريقة السبر أن ما أثر في أمر لم يحله في حالة ما وقد ثبت أن العدم في وقته يحيل كونه مجتمعاً ولأن من حق المؤثر إذا لم يكن فاعلاً ولاسبباً أن يقارن أثره فلا يصح كون العدم المتقدم مؤثراً في كون الجسم مجتمعاً بعد الوجود فأما النظر فهو سبب فصح فيه ذلك ومما يبطل أن يكون اجتماعه لعدمه أن تأثير العدم لايعقل إلا أن يكون من باب الاقتضاء ومن حق المقتضي أن يكون أمراً ثابتاً والعدم نفي.
قوله: (لأن المصحح لهذه الصفة هو التحيز وهو مشروط بالوجود) يعني وإذا كان شرطاً في مصححها كان شرطاً فيها وإذا كان الوجود شرطاً استحال أن يكون العدم مؤثراً لامتناع أن كون المؤثر مؤثراً.
قوله: (لأن المعنى المعدوم لايختص رأساً) يعني وإذا لم يوجب لأن العلة لاتوجب إلا بشرط الاختصاص فإذا زال الشرط زال المشروط وفيه فوائد:
الفائدة الأولى
في تعدادات الاختصاصات وهي خمسة:
الأول: اختصاص الشيء بالشيء بأن يحله فيوجب له كاختصاص الكون بالجوهر.
الثاني: اختصاص الشيء بالشء بأن يحل بعضه فيوجب لجملته كاختصاص القدرة والعلم ونحوهما بالواحد منا.
الثالث: اختصاص الشيء بالشيء بأن يوجد على حد وجوده فيوجب له أو ينفيه كاختصاص الإرادة بالباري تعالى واختصاص الفناء بالجواهر، ومنهم من عد هذا الاختصاص اختصاصين.
الرابع: اختصاص الشيء بالشيء بأن يحله فيلتبس به كاختصاص اللون بمحله.
الخامس: اختصاص الشيء بالشيء بأن يوجد في محله فينفيه كاختصاص السواد بالبياض وكذلك جميع المتضادات الباقية الراجعة إلى المحل.
الفائدة الثانية
في الدليل على أن المعدوم لايختص وأن العدم مقطعة الاختصاص والدليل على ذلك أن الاختصاصات المذكورة مفسرة جميعها بالوجود أو ما يتفرغ عليه فإن الوجود مذكور في بعضها والحلول في بعض والحلول يتفرع على الوجود.
الفائدة الثالثة:
أن العلة لاتوجب إلا بشرط الاختصاص والذي يدل على ذلك أنها إذا لم تختص فهي مع جميع الذوات التي يصح موجبها عليها على سواء فلم تكن بالإيجاب لهذه أولى من هذه ومحال إيجابها لأكثر من معلول وذلك كالإرادة المعدومة فإنها ليست بأن توجب للباري أولى من أ؛دنا ولا لزيد أولى من عمرو بخلاف ما إذا وجدت في قلب زيد فقد صارت بأن توجب له أولى لاختصاصها به دون غيره، وكذلك إذا وجدت لا في محل فإنها بأن توجب للباري تعالى أولى لاختصاصها به تعالى.
الفائدة الرابعة
أنه إذا زال الشرط زال المشروط، والدليل عليه أن الشرط ما وقف عليه ثبوت أمر آخر وليس بمؤثر فيه ولا فيما يؤثر فيه فلو حصل مشروط من دونه لم يكن شرطاً لعدم وقوفه عليه فوضح لك عدم صحة إيجاب المعنى المعدوم.
ويلحق بما تقدم من إبطال تلك الأقسام إبطال أن يكون مجتمعاً لوجود الاجتماع ومفترقاً لعدم الاجتامع أ, العكس وذلك بأن يقال: إن في هذا إقرار بثبوت المعاني وهو مرادنا ثم يلزم عليه تأثير الاجتماع في صفتين كونه مجتمعاً وكونه مفترقاً أثر في أحدهما لوجوده وفي الأخرى لعدمه وذلك محال، وأيضاً فلا يجوز تأثير الأمر العدمي في الأمر الثبوتي ويلزم أيضاً مع وجود الاجتماع وإيجابه لكونه مجتمعاً أن يوجب أيضاً كونه مفترقاً لأنه إذا أوجب ال اعدمه فوجوده إن لم يحصل لأجله الإيجاب لم يزل فكان يلزم إذا وجد الاجتماع أن يكون مجتمعاً مفترقاً.
قوله: (والذي يشتبه من هذه الأقسام أن يكون مجتمعاً بالفاعل).
فيه سؤال تقريره: أنك قد ذكرت أن هذه الأقسام جميعها هي التي يشتبه الحال فيها فلم قصرت ههنا الاشتباه على هذا القسم.
والجواب: أن اشتباه ما عدا هذا القسم هو بالنظر إلى مالم يذكره من الأقسام التي هي واضحة البطلان واشتباه الحال في هذا القسم هو بالنظر إلى هذه الأقسام المذكورة وكان الولى أن نقول: والأشد استثناها من هذه الأقسام.
قوله: (واحتياجه إلى محل إنما يعلم بدليل منفصل). يعني فلا يقال أنه لايعلم على انفراده وإنما يعلم محله عليه، لأنا إذا سمعنا كلاماً علمناه بانفراده ولايعلم أنه سمع من محل إلا بدليل منفصل وهو ما دل على أنه لايصح وجوده إلا في محل.
قوله: (فليست ذات الجسم كما يقوله النظام).
اعلم أولاً أن مذهب الجمهور أن الكلام من قبيل الأصوات ولكن المرجع بالكلام إلى صوت له صفة مخصوصة من تقطع الحروف وتميز بعضها من بعض وأن الصوت عرض وذهب أبو علي والكلابية والأشعرية إلى أن الكلام ليس من جنس الصوت بل جنس مستقل وأبطل ذلك بلزوم حصول الأصوات المقطعة ولاتكن كلاماً أو حصول الكلام من غير أصوات مقطعة إذ تلازم بينهما من وجه معقول، وذهب الشيخ أبو الحسين محمد بن علي وأصحابه إلى أنه صفة بالفاعل وإبطاله بما تقدم من أنه يعلم على انفراده ولما كان النظام من القائلين بأنه من جنس الأصوات وهو يذهب إلى أن الصوت جسم قال بأن الكلام جسم وإبطاله بما ذكره المصنف من تماثل الأجسام واختلاف الحروف والأصوات وأكثر ما يتبين الاختلاف في الحروف فيعلم مخالفة الرا للزاي ومنهم من قال بتضاد الحروف والأصوات وأبطل أبو هاشم كلام النظام بأنه لو كان جسماً لوجب صحة أن يبنى منه حائط وأبطله أبو علي بأنه يلزم لعدم سمعنا له مستمراً أن يكون كامناً في الجسم الذي سمع منه كالنار في المقدحة فيلزم تجويز أن يتنهي إلى حد لايتمكن من الكلام بأن ينفذ ويفرغ كما قد ينتهي إلى حد لاينقدح معه النار من المقدحة لنفاداه وقد تقدم ذكر تصريح الإمام يحيى تأتي هذه الحكاية عن النظام وهماً وأن النظام لما كان يذهب إلى أنه لايسمع الصوت إلا بانتقال الهوى الحامل له إلى الصماخ ظن الناقل أنه يذهب إلى أنه جسم.
قوله: (وأما أن للكلام بكونه خبراً صفة).
اعلم أولاً أن هذه مسألة خلاف وفي الخلاف إطلاقان وتفصيل، الإطلاق الأول للجمهور من أصحابنا فإنهم ذهبوا أن للكلام بكونه خبراً صفة وكذلك بكونه أمراً ونهياً وسائر أنواع الكلام.
والاطلاق الثاني: لإمامنا المنصور بالله قدس الله روحه وللشيخين أبي الحسين وابن الملاحمي وأصحابهما فإنهم ذهبوا إلى أنه لاصفة له بكونه خبراً ولا أمراً ولا نهياً ولا غير ذلك من أقسامه وهو مذهب الأشاعرة.
وذهب الشيخ الحسن إلى التفصيل فقال: أما الخبر فله بكونه خبراً صفة وأما الأمر فليس له بكونه أمراً صفة وكذلك النهي، والأغلب أنه ينفي الصفة عن سائر أنواع الكلام كما نفاها عن الأمر والنهي ووجه فرقه بين الخبر وبين الأمر والنهي أنه جعل تميز الأمر والنهي عن غيرهما بإرادة المأمور به وكراهة المنهي عنه فاتكفى بذلك عن إثبات صفة لهما بخلاف الخبر فإنه لايصح أن يتميز بإرادة المبخر عنه إذ قد يكون باقياً وماضياً وقديماً لكنه يقال له: فهلا جعلت تميزه بإرادة كونه خبراً عما أخبر به عنه.
قوله: (لأن الخبر غير واقف على أحواله) أراد أحوال المخبر عنه وهي إرادته ودواعيه، وقد اعترض كلام أصحابنا في إثبات صفة للخبر باعتراض ذكره الإمام يحيى وغيره وهو أن هذه الصفة إما أن تكون ثابتة لمجموع الحروف أو لكل حرف من حروف الصيغة، والأول باطل لأن مجموعها لا وجود له في وقت واحد، وإنما الموجود منها حرف واحد، فإن جملة حروف الخبر لاتجتمع في وقت واحد فيلزم أن تكون الصفة ثابتة لمعدوم وهو محال، ويلزم منه قدرتنا على صفة لذات ونحن لانقدر على تلك الذات وهي ما قد عدم من حروف الخبر إذ قد خرجت بعدمها عن كونها مقدورة فينتقض الدليل بنفسه.
قوله: (فلأنها تقف على أحوالنا ثبوتاً ونفياً).
يعني فإن أردنا كون الكلام خبراً عن هذا المعين ودعانا الداعي إلى ذلك كان خبراً عنه، وإن لم يرد وحصل الصارف عن ذلك لم يكن خبراً.
قوله: (والمدح والذم وغيرهما) يعني الأمر والنهي فإنا نمدح على جعل الكلام خبراً عن هذا، ونذم عليه ونؤمر به وننهى عنه.
قوله: (وأما إن قدرتنا عليها علة في القدرة على إيجاد الذات).
اعلم أن هذه هي طريقة المتقدمين من المتكلمين فإنهم جعلوا القدرة على الصفة علة في القدرة على الذات والمراد علة كشف لا علة تأثير ودليل ذلك ما ذكره رحمه الله وهي الطريقة هي التي ذكرها في المحيط واعترضها صاعد من المتأخرين بالاعتراض الذي ذكره الفقيه قام وأخبار صاعد جعل القدرة على الذات أصلاً في القدرة على الصفة قال: لن القدرة على الذات أصل متبوع والقدرة على الصفة فرع تابع.
قوله: (فهي كجعلنا صحة الفعل علة في كونه قادراً). يعنيمع أن كونه قادراً هو الأصل في صحة الفعل ولم يمنع ذلك من جعل صحة الفعل علة فيه لما كان المراد أنها علة كشف.
قوله: (ينبغي أن يكون اعتراضاً عليه فيما اختاره).
ظاهر هذه العبارة أن الفقيه قاسم اختار طريقة صاعد وهو جعل القدرة على الذات هي العلة في القدرة على الصفة وليس كذلك فإنه قد اعترض طريقة صاعد بالذي ذكره المصنف.
قوله: (بخلاف العكس) يعني فإنه لايجب في العلل الكاشفة واعتراضكم هذا إنما هو بعدم حصول العكس فيها وهو وجوب ألا يقدر على الذات إلا من قدر على الصفة.
قوله: (لأنه قد يوجد الحكم مع فقد العلة).
مثاله ما نقوله في قبح الفعل إذا كان ظلماً أن علة قبحه كونه ضرراً عارياً عن نفع إلى آخره، ثم قد يوجد الحكم الذي هو القبح مع فقد تلك العلة كقبح الضد فإن علة قبحه كونه عارياً عن عرض مثله وذلك حين خلفت تلك العلة علة أخرى.
إذا عرفت هذا فاعلم أن طريقة المتقدمين أصح لأنها طريقة تطرد ولاتنتقض وإن كانت غير منعكسة وطريقة صاعد طريقة عكس تنعكس ولاتطرد وقياس الطرد أصح عند الأصوليين وليس كون القدرة على الذات أصلاً يوجب أن يكون علة بل الواجب التعليل بما يسبق العلم بكونه علة وبكون العلم به أ>لى والقدرة على الصفة كذلك فإنا نعلم صفة الكلام وهي كونه خبراً ونحوها، وإن لم نعلم كونه ذاتاً ولهذا نعلم صفته من نفي كونه ذاتاً.
قوله: (وقد ذكر عن المتأخرين طريقة ثالثة).
تحرير هذه الطريقة التي سلكها المتأخرون أن يقال: من قدر على الصفة قدر على الذات لأن القدرة على الذات شرط في القدرة على الصفة وإذا حصل المشروط دل على حصول شرطه قياساً على الكلام فإن من قدر على صفاته قدر على ذاته.
قال الفقيه قاسم: وهذا وإن أوصل إلى العلم فليس بطريقة قياس إلا بتأويل وهو أن يعلل ذلك بأن يقال إنما كانت القدرة على الذات شرطاً في القدرة على الصفة لأن ثبوت الصفة تبع لوجود الذات وقد شاركت الأجسام الكلام في أن ثبوت الصفات فيها تبع لوجود الذات فيجب أن تكون القدرة على جعلها على الصفات مشروطة بالقدرة على إيجاد الذات. انتهى.
وفي هذا التعليل نظر لأن تبعية الصفة للذات لايقتضي أكثر من أن الصفة لاتثبت ولايصح حصولها إلا بعد حصول الذات وذلك لايوجب كون القدرة على الصفة مشروطة بالقدرة على الذات، وقد صار الجسم موجوداً فلا مانع من أن يكسبه القادر صفة من دون معنى إذا لم تكن العلة إلا ذلك والذي ذكر هذه الطريقة صاحب الواسطة واعترضها بعضهم بأنه لايلزم من حصول الشرط حصول المشروط لأن الشرط ليس بمؤثر ولكنه يجري مجرى المؤثر وهذا الاعتراض في غاية الركة ولعله وهم فيه فإنهم إنما ألزموا من حصول المشروط حصول الشرط إذ لو لم يحصل لم يحصل المشروط لا العكس وإنما كان هذا الاعتراض يتأتى لو جعلوا القدرة على الصفة شرطاً في القدرة على الذات.
وههنا طريقة أخرى للشيخ أبي علي بن خلاد، قيل: وقد استجادها المتأخرون. وقال الفقيه قاسم: هي أحسن الطرق، وهي: أن نجعل عدم القدرة على الذات علة في عدم القدرة على الصفة فمن لم يقدر على الذات لم يقدر على الصفة، ودليله أن أ؛دنا لما لم يقدر على ذات كلام الغير لم يقدر على جعله على صفة فكذلك إذا لم يقدر على فعل الجسم لم يقدر على جعله على صفة وينبني على أصل وفرع وعلة وحكم ويأتي فيها قياس الطرد.
وقد استجاد بعض المتاخرين طريقة التابع والمتبوع وهي جعل القدرة على الصفة تابعة للقدرة على الذات فإذا بطل المتبوع بطل التابع، وكل هذه الطرق يحصل منها ما قاله المصنف من أن القدرة على الصفة ملازمة للقدرة على الذات.
قوله: (في حال كونه غيرم قدور). يعني وهو حال بقائه لأنه في حال البقاء غير مقدور لنا، ولا للباري فيكون الدليل ثابتاً في حقنا وحقه تعالى وشاملاً لجميع حالات الجسم إلا أول أوقات حدوثه فلا يثبت ذلك في حقه تعالى لأنه مقدور له فقط في تلك الحال.
قوله: (ونحو ذلك من وجوه الأفعال). يعني ككون الكلام استخباراً أو عرضاً أو تمنياً وكون الخبر صدقاً أو كذباً.
واعلم أن هذه الوجوه كلها تسمى وجوه الأفعالوهي أحكام مستحقة بالفاعل وتنقسم فمنها ما هو حكم حقيقي ككون الكلام خبراً وأمراً وكون الفعل طاعة ومنها ما ليس بحقيقي وإنما سمي حكماً على ضرب من التوسع ككون الفعل ظلماً وعبثاً لأن المرجع بذلك إلى النفي وهو لايتعلق بالفاعل ولكن أضيف كونه ظلماً وعبثاً إلى الفاعل لأنه إذا أراد جعله غير ظلم ولاعبث أمكنه قوله في اعتراض ابن الملاحمي ككون الكلام خبراً فلا يصح إلا في حال الحدوث.
اعلم أن ما كان كيفية في الصفة فهو يتبعها ولا يتجدد إلا بتجددها ولايحصل إلا بحصولها فلو ثبت لابن الملاحمي أن كون الكلام خبراً كيفية في حدوثه لكان ذلك هو العلة في استحالة حصوله حال البقاء لو قدر وجوب حصوله حال الحدوث ولم يكن لنا أن نقيس عليه الكائنية إذا لم يكن كيفية مثله لكن كونه خبراً غير كيفية كما ذكره المصنف من بعد.
قوله: (لأن الحدوث كيفية في الوجود).
اعلم أن كيفيات الوجود كثيرة فمنها: الحدوث والقدم، لأن الوجود لايكون إلا حدوثاً أو قدماً.
ومنها: الحلول فيما يستحيل وجوده لا في محل كالسواد فإن حلوله كيفية في وجوده ولايوجد غير حال وكعدم الحلول في الفناء فإنه لايوجد إلا غير حال لما كان وجوده لا في محل كيفية في وجوده وسميت الكيفية كيفية لأنها الوصف المعين الذي يسأل عنه بكيف.
قوله: (ولأن الكيفية لاتفارق ما هي كيفية فيه) هذا الذي ذكره ظاهر فيما قد ذكرنا من الكيفيات وكذلك سائر الكيفيات ككون الصفة واجبة أو جائزة فإن الذاتية والمقتضاة لاتفارق واحدة منهما كيفيتها وهي كونها واجبة وكذلك التي بالفاعل والمعنوية لاتفارق أيهما كيفيتها وهي كونها جائزة.
قوله: (لما صح وجوده إلا خبرا).
فيه سؤال، وهو أن يقال: أليس عندكم أن الحدوث كيفية في الوجود، وقد يفارق الوجود فيكون على كيفية أخرى وهي العدم فكذلك يكون الخبر كيفية للكلام وإن انفك عن كونه خبراً إلى كيفية أخرى من كونه أمراً أو نحوه؟
ويجاب بأن الوجود وإن انفك عن إحدى كيفيتيه فلم ينفك عنها إلا إلى الأخرى فالعدم والحدوث له كالكيفية الواحدة فلا شك في استحالة انفكاكه عنهما بخلاف الصوت أو الكلام فإنه قد ينفك عن جميع هذه الوجوه من كونه أمراً وخبراً وغيرهما، أما الصوت فظاهر وأما الكلام فبأن يتعرى عن القصد فلا يصح أن يجعل ما ذكره كيفيات له.
قوله: (من كونه أسود وحلوا على مذهب الخصم).
يعني أبا الحسين وأصحابه فإنهم يجعلون المدركات صفات بالفاعل كقولهم في غيرها وعند الجمهور أنها ذوات كغيرها، وليست بموجبة لصفة ولاحكم.
قوله: (ولايلزمنا مثله في القدرة على بعض الذوات).
يعني يقال: يلزمكم فيمن قدر على بعض الذوات أن يقدر على سائرها فيلزم من ذلك القدرة على مقدور الغير وأن يقدر على ما اختص الله تعالى بالقدرة عليه وكله محال كما أنكم ألزمتم من القدرة على بعض الصفات القدرة على سائرها.
قوله: (فإنا وجدنا القدرة على بعضها يلازم القدرة على البعض). تلخيص هذا الوجه أن يقال: إنا قد بينا أن القدرة على صفة من صفات الذات يلازمها القدرة على سائر صفات تلك الذات وعلمنا ذلك بطريق الاستقراء أو التتبع، وعلمنا أن القدرة على صفة لذات هي العلة في القدرة على سائر صفات تلك الذات لدوران الحكم معها ثبوتاً وانتفاء بخلاف القدرة على ذات من الذوات فإنا لم نجدها علة في القدرة على سائر الذوات ولا وجدنا القدرة على الذوات متلازمة بل علمنا ضرورة الفرق بين ما يتعلق بنا من الذوات وما لايتعلق.
قوله: (لأن كثرة المدافعة تحتاج إلى كثرة الجهات).
المدافعة: هي الاعتماد والمراد أن كثرة اعتمادات الجسم وتهاديها في حال لايكون إلا مع كثرة الجهات التي يهوى فيها ذلك الجسم فإذا هوى من شاهق فاعتماداته ومدافعته لما يقع عليه يكون أكثر من اعتماداته إذا هوى من دونه لنه إذا كان في هذا الجسم الذي هوى مثلاً عشرة أجزاء من الثقل لازمه باقية ففي الوقت الثاني من هويه يولد تلك العشرة عشرة اعتمادات مجتلبة غير باقية وفي الوقت الثالث تولد العشرتان عشرين وتعدم إحدى العشرتين المولدتين وهي المجتلبة فتكون الاعتمادات ثلاثين، وفي الوقت الرابع يولد الثلاثون ثلاثين فتكون جملة الاعتمادات أبعين وهلم جراً فما كثرت الجهات كثرت الاعتمادات والمدافعات وما قلت الجهات كانت الاعتمادات أقل، وفي كلام المصنف نظر لن ابن الملاحمي قصد أن تعذر ثقله لكثرة الاعتمادات ولا كلام في كثرتها عند أن يسكنه الواحد منا لأنه يسكنه باعتماد يوجده فيما سكنه به من يد أو غيرها فيوجد فيه اعتمادات بعدة ما أوجد فييده لأن الاعتماد يولد الاعتماد ويوجد فيه سكون متولد عن الاعتماد، لأن الاعتماد يولده إذا منع مانع من توليده للحركة.
تنبيه
اعلم أن من أصول الجمهور أن الاعتماد لايمنع بنفسه وإنما يمنع بموجبه وهو الكون.
قالوا: فإاذ سكن أحدنا جسماً فالمانع عن تحريكه ما تولد فيه من السكون عن الاعتماد لأن المنع لايكون إلا بضد أو ما يجري مجراه وليس الاعتماد ضد للحركة ولا جاري مجراه مع أن الذي يجري مجرى الضد لابد إذا كان منعاً من وقوعه على وجه كالتأليف فإنه لايمنع عن التفريق الذي يجري مجرى الضد له إلا إذا وقع على وجه من كونه التزاقاً فعرفان أن المانع من تحريك الجسم وتنقيله حدوث سكون فيه ..... في تلك الجهة. وقد عرفت أنا أبا علي يمنع من تسكين الساكن وتزايد السكون فلا يتأتى هذا على أصله.
قوله: (فدليله صفة الوجود والوجوه التابعة له).
اعلم أن مذهب الجمهور أن الوجود لايتزايد وأن الموجود لايستحق من الوجود أكثر من صفة وسياتي إن شاء الله في باب الصفات وكذلك مذهبهم في الوجوه التابعة له نحو كون الكلام خبراً وذكر الشيخ الحسن في الكيفية أن كون الكلام خبراً يتزايد المريد به فإذا أراد كون الكلام خبراً بإرادات كثيرة تزايد كونه خبراً لن كل إرادة لابد أن تؤثر في صفة ولايجوز أن تؤثر صفاته الكثيرة بكونه مريداً في حكم واحد للكلام بكونه خبراً، وقد أبطل ما قاله بأن المؤثر في كونه خبراً هو الفاعل وليست المريدية هي المؤثرة وإنما هي شرط في تأثير الفاعل، فكان يلزم على ثبوت حكمين للكلام بكونه خبراً أن يعلق الإرادة بأحد الحكمين والكراهة بالآخر فيريد كون الصنعة خبراً عن زيد، ويكره كونها خبراً عنه، وذلك محال.
قوله: (كالعلة).
اعلم أن العلة لاتؤثر للذات الواحدة إلا في حكم واحد أو صفة واحدة إذ لو بعدت لتعدت ولا .... فقاس أصحابنا عليها وقالوا: إذا لم يتعد تأثيرها إلى أكثر من صفة للذات الواحدة فكذلك الفاعل في تأثيره في صفة الوجود للذات وفي الكائنية لو كان هو المؤثر فيها، قالوا: ولايقال أن الفاعل يؤثر في صفات كثيرة لذوات كثيرة بخلاف العلة فهلا فارقها بالنظر إلى ذات واحدة. قالوا: لأن هذا فرق من وراء اجتماعهما وإنما صح ذلك منه دونها لأن هذه الذوات معه على سواء بخلاف العلة فإنها تختص بذات واحدة.
قوله: (الوجه الخامس) إلى آخره.
اعلم أن هذا الوجه استدلال على أن القدرة معى فليست كما يذهب إليه أبو الحسين ومحمود وأصحابهما فإنهم ذهبوا إلى أن المرجع بها إلى صحة البنية وأنها ليست بمعنى ولاصفة زائدة على ذلك ويرجعون بما يحصل لمن صح منه ما تعذر على الآخر إلى أن يثبته أصح وأن جسمه أحصف بمعنى أصلب وأصح كما سيأتي، وليس هذا الوجه بدليل على ما نحن فيه من إثبات الكون ذاتاً لأنهم ولو سلموا الاحتياج إلى زيادة قدَر يقولون بأنه يحتاج إليها ليفعل بها كائنيات فإن كل صفة تحتاج إلى زيادة قدرة ولهذا فإن الذي يؤثر فيه أحدنا عند الجمهور هو صفة الوجود فقط، وأما الذوات فهي ثابتة من قبل مع أنه يحتاج في تحصيل صفات لاوجود الكثيرة إلى زيادة قدر ولكنه إذا ثبت أن القدرة معنى ثبت أن الكن معنى ولو سلم أبو الحسين أن القدرة معنى سلم ذلك في الكون أيضاً، فإن قصد المصنف الاستدلال بهذا الوجه على ثبوت الكون معنى ورد عليه مثل ما أورده المصنف على الوجه الذي قبله، وهو أنهم يقولون يحتاج إلى زيادة القدر التي هي عندهم صحة البنية ليفعل صفات كثيرة كما يقولون يحتاج إلى زيادة القدر التي هي عندكم معاني ليفعل أكواناً كثيرة.
قوله: (ليفعل أكواناً واعتمادات) الذي يؤثر في حمل الثقيل الأكوان ولكن احتياجه إلى فعل الاعتمادات ليولد الأكوان لأنها لاتصح منا ههنا إلا بتولده عن الاعتمادات.
قوله: (لحصول كونه قادراً واحتمال المحل في الموضعين).
يعني حصول القادرية التي كانت ثابتة له حال تمكنه من حمل الخفيف واحتمال المحل أي محل الحمل للحمل في الموضعين أي في الثقيل والخفيف لن الثقيل يحتمل الحمل كما يحتمله الخفيف.
قوله: (فكان يلزم لو أخذ الضعيف عوداً صليباً) إلى آخره.
يقال: ذلك ملتزم فإنه يتأتى من الأضعف أن يحرك بالعود ما يحركه الأقوى بيده ولكن ذلك لايتأتى في حق كل ضعيف وقوي بل إذا كان قوة الضعيف دون قوة الأقوى بيسير والكلام متوجه إلى من دونه بكثير.
تنبيه
قيل: إن من أقوى ما يستدل به على أبي الحسين وأصحابه أن يقال: إذا كنت تجعل الكون صفة فهو قبل حصوله لاشيء فإن الصفة قبل حصولها لاشيء بلا كلام فتعلق قدرة الفاعل بها يكون إذاً تعلق شيء بلا شيء ومن المحال أن يتعلق شيء بلا شيء فيكون إذا تعلق قدرة الفاعل بها محالاً.
فإن قيل: وله أن يقول مثل هذا وارد على الجمهور في تعلق قدرة الفاعل بصفة الوجود.
قلنا: إن قدرة الفاعل تتعلق بالذات وهي عندهم ثابتة في العدم وإنما يرد ذلك على من نفاها في حالة العدم.
فإن قيل: وله أيضاً أن يقول إن جعلتم القدرة متعلقة بالذات فهو باطل إذ هي عندكم غير مقدورة أو بمجرد الصفة فهو باطل أيضاً للزوم ما ألزمتم من تعلق شيء بلا شيء أو بالذات على الصفة فباطل كذلك لأن الصفة لم يثبت لها تعدد.
قلنا: بل نقول يتعلق بالذات وقولكم أنها غير مقدورة لانسلمه إذ المقدور المعدوم الذي يصح إيجاده وهذا حال هذه الذات.
تنبيه آخر
أو قيل: قد أبطل المصنف كل واحد من الأقسام إلا وجود معنى وذلك لايكفي في صحته مالم يات مع ذلك بدلالة على أنه كان مجتمعاً لوجود معنى وإلا فأكثر ما عرف من استدلاله بطلان سائر الأقسام.
قلت: بل قد كفى استدلاله على بطلان سائراه فيا لعلم بأن كونه مجتمعاً حصل لوجود معنى لأنا قد علمنا وثبت لنا أن الحكم معلل ثم ذكر ما يمكن أن يعلل به وأبطل تلك الأقسام إلا واحداً فوجب أن يتعين تعليل الحكم به مع عدم الدليل على بطلانه وإلا اقتضى انفلات ما علم ضرورة أو بأدنى تأمل من أنه لابد من أمر لأجله كان الجسم مجتمعاً جهلاً وهو محال.
واعلم أن القسمة التي أوردها المصنف في تعليل كونه مجتمعاً إحدى ثلاث قسم:
قسمة تذكر ويراد بها إبطال سائر المقسومات كما يأتي في نفي كونه تعالى مشتهياً.
وقسمة تذكر ويراد بها إثبات جميع المقسومات كقسمة الموانع بأن نقسمها إلى قرب وبعد ونحوهما ثم نثبتها الجميع.
وقسمة تذكر ويراد بها تصحيح البعض وإبطال البعض كهذه القسمة فإنا أبطلنا فيها بعضاً وهو أكثر الأقسام وصححنا بعضاً وهو أنه مجتمع لمعنى.
فصل
وأما الدعوى الثانية وهي أن الأعراض محدثة فقد خالف في ذلك فرقة من الفلاسفة زعموا أنها قديمة ولكنها تكمن وتظهر وإنما قالوا بالكمون والظهور لئلا يلزمهم من عدمها عدم قدمها وهؤلاء فرقة غير النافين لها وقد ذهبت المطرفية إلى أن الأكوان وغيرها لاتوصف بأنها محدثة وإن وجدت بعد أن لم تكن بناء على أصلهم من أنه لافاعل لها وإنما حدثت بالفطرة التي فطرت الأجسام عليها.
قالوا: ولكن تسمى حادثة وحدوثاً وقد بنوا أيضاً على أنها ليست بذوات بل صفات.
قوله: (فقد ادعى فيه كثير من الناس الضرورة) والأكثر على أنه يعلم دلالة ولايتأتى على كلام مثبتي المعاني إلا أن يعلم دلالة إذ ذواتها معلومة بالاستدلال فلا يعلم الفرع ضرورة.
قوله: (وهو حاصل فيما غاب عنا).
يعني التحيز الذي ثبت لأجله جواز أن يحترك الساكن ويسكن المحترك ويفترق المجتمع ونحوه كما تقدم أن جواز ذلك للتحيز فيجب أن يكون المتحيز الغائب كذلك لحصول ما لأجله يجوز ذلك عليه.
قوله: (لم يخل الاجتماع إما أن يكون باقياً أو متنقلاً أو معدوماً).
دليل أنه لايخلو من هذه الأقسام أنها قسمة دائرة بين النفي والإثبات لأنك تقول الاجتماع بعد طرو الافتراك عليه لايخلو إما أن يبقى بصفة الوجود أو لا، إن لم يبق فهو معدوم وإن بقي اختص بصفة الوجود، فأما أن يكون في محله أولاً إن كان في محله فهو الباقي فيه، وإن لم يكن فهو المنتقل عنه.
قوله: (لتأديته إلى أن يكون الجسم مجتمعاً مفترقاً دفعة واحدة).
الوجه في لزوم ذلك أن الاجتماع إذا كان بقاياً علىما زعموا وقد ثبت أنه يوجب كونه مجتمعاً وأنه علة له وإنما يوجبه لما هو عليه في ذاته من صفته المقتضاة وما هو عليه في ذاته حاصل بعد طرو ضده لزم أن يوجب كونه مجتمعاً لحصول ما يؤثر في الإيجاب وعدم وقوفه في الإيجاب على شرط إذ هو علة والعلة لاتقف على شرط وهذه الجملة تشتمل على أبحاث:
البحث الأول
أن الاجتماع وغيره من المعاني يوجب ما يوجبه لما هو عليه في ذاته من صفته المقتضاة والدليل على ذلك أنه قد ثبت إيجابه وباطل أن يكون لغير أمر إذا لم يكن بالإيجاب أولى من عدمه، ولا كانت المعاني الموجبة بأن يوجب أولى من غيرها مما لايوجب وكان يلزم استمرار الإيجاب في حالتي عدمه ووجوده وإذا أوجب لأمر فهو لايخلو إما أن يكون خارجاً عن الذات أو راجعاً إليها، والخارج عنها ليس إلا الفاعل أو العلة وباطل أن يكون إيجابه للفاعل للزوم أن يوجده ولا يجعله موجباً وأن يوجد ما لايوجب فيجعله موجباً لن ما كان بالفاعل فهو واقف على اختياره، وباطل أن يكون لعلة لأن المعنى لايختص بالمعنى إذ لايصح حلوله فيه، وإذا وجد في محله فليس بأن يوجب ذلك الإيجاب لبعض المعاني الموجودة في ذلك المحل أولى من البعض بل كان يلزم أن يوجب الإيجاب للمحل نفسه ولأنه كان يلزم منه التسلسل فيحتاج هذا المعنى في كونه موجباً للإيجاب إلى معنى وهلم جراً.
فبقي أن يكون الإيجاب لأمر يرجع إلى الذات وباطل أن يكون لمجرد الذات للزوم الإيجاب في كل ذات ولزوم أن يوجب في حالة العدم ولأن الأحكام لاتجوز أن تكون ذاتية وباطل أن يكون لأجل الصفة الذاتية للزوم أن يحصل الإيجاب في حالة العدم لحصولها في تلك الحال.
فإن قيل: إن إيجابها مشروط بالوجود.
قلنا: قد قال أصحابنا لايجوز تأخر إيجابها إلا إذا كان صحة لصفة أو كيفية لها فتأثيرها في صحة الصفة المقتضاة ووجوبها الذي هو كيفية لها مشروط بالوجود وما عدا ذلك من تأثيرها لايشترط فيه الوجود كإيجابها للمماثلة والمخالفة وصحة كون الشيء معلوماً.
إذا ثبت ذلك فمعلوم أنه لايصح الإيجاب في حالة العدم إذ لاطريق إليه ويلزم عليه كون الأجسام مجتمعة كلها حال العدم لإيجاب المعاني المعدومة مع عدم الاختصاص وكونها لاتتناهى وباطل أن يكون الإيجاب لأجل الوجود للزوم الإيجاب في كل موجود وباطل أن يكون للحدوث لمثله فلم يبق إلا أن يكون للصفة المقتضاة.
البحث الثاني
في الدليل على أن عليه الافتراق في ذاته حاصل بعد طرو الاجتماع على تسليم بقائه وعدم انتفائه ويدل عليه ما يعلمه من حصول مقتضيه وهي الصفة الذاتية وشرط اقتضائها وهو الوجود ولا يجوز حصول المقتضي والشرط مع تخلف المقتضي وإلا لقدح في كونه مقتضياً.
البحث الثالث
في أن إيجاب الاجتماع وسائر العلل لايقف على شرط سوى وجودها واختصاصها والدليل عليه أن تجويز شرط منفصل يلزم منه تجويز أن يكون في الجسم معان كثيرة موجبة لكن لم يحصل شرطها وتجويزه يفتح باب الجهالات والتحيرات.
قوله: (لأن الافتراق هو الطارئ فله حط الطرو).
اعلم أن من أصول أصحابنا أن الحادث له حط الحدوث، ومعنى ذلك أنه إذا حدث سواد في جسم فيه بياض باق فطرأ عليه ذلك السواد فإنه ينفيه لأن له حظ الطرو حتى لو كان في المحل عشرة أجزاء من البياض لنفاها الجزء الواحد الطارئ من السواد وذلك لأن الباقي لاحظ له في المنع بخلاف الحادث.
دليله ما نعلمه من أن الواحد منا إذا سكن جسماً فمن كانت قدرته دون قدرة المسكن له لايتمكن من تحريكه حالة التسكين فإذا رفع المسكن ما كان مسكناً به ذلك المسكن ونحن نقطع ببقاء ما كان قد فعله فيه من السكون إذ السكون من الباقيات تأتَّى من الضعيف حينئذ تحريكه لما كان الذي فيه من السكون حينئذ بقاياً، واستدلوا أيضاً بما ذكره المصنف من أنه إذا كان له حالة حدوث كان أولى بالوقوع والإيجاب من ضده لأنها حالة وجوب وقوعه من فاعله بخلاف ما كان باقياً فلذلك ينتفي.
قوله: (وإن سلمنا أنه طار). يعني ويكون طروه ههنا بمعنى ظهوره بعد كمونه.
قوله: (وأما الكمون والظهور فغنما يعقل في الأجسام). ينبغي أن يقول في المتحيز ليشمل ما عدا الجسم كالجوهر ونحوه، وإنما كان غير معقول فيما عدا ذلك لأن الكمون حقيقته اختفاء المتحيز بعد أن كان ظاهراً وحقيقة الظهور أن يبدو المتحيز بعد أن كان خافياً ثم أن القول الكمون هنا إثبات ما لاطريق إليه وذلك لايجوز.
قوله: (لما كان إلى وجودها طريق).
يعني لأن الطريق إليها ليس إلا حصول موجبها.
قوله: (ما هو المعقول من أنه تفريغ جهة وشغل أخرى).
يعني فلا يعقل من معنى الانتقال غير هذا ولم يضعه أهل اللغة إلا لما هذه صفته، وقال: تفريغ جهته وشغل أخرى ليشمل ما انتقل من مكان ومن فراغ إلى فراغ فهو أولى مما قاله السيد الإمام أنه تفريغ مكان وشغل مكان.
قوله: (وإلا لم يصح اجتماع الأعراض الكثيرة في المحل الواحد).
يعني لاستحالة التداخل في المتحيزات فإنا نعلم ضرورة استحالة أن يكون المتحيزان في جهة واحدة أو مكان واحد ومعلوم أن كثيراً من الأعراض فوجد في المحل الواحد كالأعراض التي في حبة الرمان من لون وكون وطعم ورائحة وتأليف واعتماد ورطوبة فإن هذه حاصلة في كل جزء منها.
قوله: (وكان يجب أن تتكاثف وتعظم) أراد الأعراض وذلك بأن تجتمع فتتكاثف كما أن الأجسام كذلك لما كانت متحيزة ومما يبطل به تحيز الاجتماع وحده أنه يلزم منه أن يكون مجتمعاً أو مفترقاً فيؤدي إلى التسلسل.
قوله: (لأن حلول العرض في محل معين كيفية في وجوده).
المتكلمون يذهبون إلى أن كل معنى وجد في محل فإنه لايصح أن يحل في غيره لاقبل وجوده ولابعده وكذلك فما كان من الأجناس يصح حلوله ووجوده لا في محل كالإرادة فما صح من أفرادها أن يوجد في محل استحال أن يوجد لا في محل مع استحالة أن يوجد في محل غير ذلك المحل المعين، وما صح أن يوجد لا في محل استحال أن يوجد في محل للدلالة التي ذكرها المصنف من أن ما يحل محلاً لو جاز حلوله في غيره إلى آخرها.
قوله: (لما سلف من أنه لايحتمل الذات على صفة ) إلى آخره.
يقال: ليس حلوله في المحل صفة له فكيف يكون كما تقدم؟
والجواب: أنه لافرق بين الصفة والوجه والمفارقة فلا يجعل الذات على صفة أو وجه أو مفارقة إلا من قدر على تلك الذات والحلول وإن لم تكن صفة للحال فإنه وجه يقع عليه ومفارقة يفارق بها تلك الذات مالم يحل محلها والدليل على ذلك ما تقدم فإنه يمكن طرده في جميع ما ذكر.
قوله: (ولأنه ليس بأن يوجب حلوله في محل أولى من غيره).
هذا الوجه لايتصور إلا في إبطال أن يحل أن يحل في محل بعد أن كان حالاً في غيره لمعنى وتلخيصه أن يقال: هذا المعنى الذي قيل با،ه يوجب حلوله في محل غير محله الذي هو فيه لايخلو إما أن يحل محله فليس بأن يوجب انتقاله من ذل المحل إلى محل معين أولى من غيره إذ سائر المحال التي يصح انتقاله إليها على سواء معه فلا يكون بأن يوجب انتقاله إلى بعضها أولى من الآخر أو يحل في المحل الذي يوجب انتقاله إليه فليس بأن يوجب انتقاله إلى محله أولى من غيره من المعاني التي في المحال إذ لا اختصاص له به دونها.
قوله: (وعلى الجملة فإما أن يكون الانتقال على سبيل الجواز أو الوجوب وكلاهما باطل).
أما على سبيل الجواز فهو ما كان بالفاعل أو العلة وقد تقدم إبطال ذلك، وأما على سبيل الوجوب فالذي يدل على بطلانه أن الذي يجب لايكون إلا للذات أو لصفتها فكان يلزم منه أن يكون منتقلاً مستمراً وألا يلبث في محل واحد وقتين فصاعداً لحصول ما يوجب انتقاله في سائر الأوقات وذلك محال ويلزم أن يكون منتقلاً حاله العدم.
قوله: (وكلاهما باطل كما سيأتي).
يعني من أن القديم لايجوز أن يكون قديماً بالفاعل ولا لعلة.
قوله: (الوجه الثاني أن القديم باق) إلى آخره. الكلام من هذا الوجه يقع في ثلاث فوائد:
الفائدة الأولى
في حقيقة الباقي وبيان أن القديم باق أما حقيقته فالباقي ما استمر له في الوجود وقتان فصاعداً أو ما يجري مجرى الوقتين. وقلنا: ما يجري مجرى الوقتين لأن القديم تعالى فيما لم يزل باق وإن لم يكن ثم وقت إذ المرجع به إلى حركات الأفلاك لكنه يجريمجرى الوقت وسيأتي حقيقة الوقت في فصل الآجال إن شاء الله تعالى. وأما الدليل على أن القديم باق فلأن المرجع بالقدم إلى حصول الوجود في الأزل واستمراره وعدم تحدده وذلك يتضمن معنى البقاء.
الفائدة الثانية
أن الباقي لاينتفي إلا بضد أو ما يجري مجراه.
واعلم أولاًت أن الذي يجري مجرى الضد هو ما نفى غيره لا لتضاد بينهما وتعاكس في صفتهما بل لبقية ما يحتاج إليه كما يقوله في الافتراك فإنه يجري مجرى الضد لما يحتاج إلى التجاوز وهو التأليف لما كان نفي التجاوز، وبنفيه ينتفي التأليف وكذلك فهو يجري مجرى الضد لما يحتاج إلى البنية كالحياة والعلم والقدرة لنفيه ما يحتاج إليه وكذلك الفناء فإنه يجري مجرى الضد لما يحتاج إلى المحل من المعاني لنفيه ما يحتاج إليه وإنما سمي ما هذه صفته بالجاري مجرى الضد لأنه أشبه الضد من وجه ولم يشبهه من آخر فأشبهه من حيث أنه ينفى كما ينفى الضد ولم يشبهه من حيث أنه لم يعاكس في الصفة فإنه لولا نفيه ما يحتاج إليه لصح اجتماعهما، والدليل على أن الثاني لاينتفي إلا بضد أو ما يجري مجراه ما ذكره المصنف.
قوله: (لأنه إذا انتفى مع جواز أن ينفى) خرج بقوله مع جواز أن ينفى ما ينتفي لكونه مما لايبقى فإنه لايحتاج في انتفائه إلى أمر لأنه ينتفي مع الوجوب ولايصح تعليل انتفائه كما سيأتي.
قوله: (لم يكن بد من أمر). يعني كطريقتنا في إثبات العراض فإن الحال كالحال.
قوله: (ولا اختيار للفاعل في ذلك عدم اختياره ظاهر فإن أ؛دنا إذا أوجد كوناً ثم أراد انتفاءه ودعاه الداعي إلى ذلك فإنه لايقع انتفاؤه مالم يفعل ضده.
الفائدة الثالثة
أن القديم لاضد له ولاما يجري مجراه، ودليله ما ذكره.
قوله: (وقد ثبت أن العدم صفة مقتضاة). يعني ثبت بدليله وسيأتي في موضعه وإن لم يكن قد ذكره.
قوله: (لأن التضاد من أحكام الصفة المقتضاة). الدليل على أنه من أحكامها يجري الكلام فيه على قريب من الكلام في الدليل على أن الإيجاب من أ؛كامها فقس عليه.
قوله: (أن يكون هذا الضد معدوماً لما هو عليه في ذاته). وفي ذلك بطلان تأثيره في نفي القديم، فيه أسئلة ثلاثة:
الأول: أن القدم على رأي أبي علي صفة ذاتية فلا يجب المعاكسة فيها إذ لايجب إلا في الصفة المقتضاة.
والجواب: أنه بنى ذلك على رأي أبي هاشم والذي صححه هو وغيره ولو سلم فإن الضدين لابد أن يتعاكسا في الصفة الذاتية كتعاكسهما في المقتضاة إذ لو لم يتعاكسا فيها لم يتعاكسا في المقتضاة.
السؤال الثاني: سلمنا لزوم التعاكس في الذاتية والمقتضاة ووجوب التعاكس هنا في القدم فإن العدم ليس بصفة أصلاً فضلاً عن أن تكون ذاتية أو مقتضاة لن المرجع به إلى النفي وهو زوال صفة الوجود.
والجواب: أنه إذا سلم ذلك اتضح بطلان كلامهم لأنه يلزم مما ذكره كونه صفة وليس بصفة وأن تكون ذاتية أو مقتضاة لأنه في مقابلة الوجود الذي هو صفة ذاتية أو مقتضاة فمن حق ما يقابله من الأوصاف ويضاده أن يكون ذاتياً أو مقتضى.
السؤال الثالث: لانسلم أن في ذلك بطلان تأثيره في نفي القديم بل نثبت المضادة وإن كان معدوماً لذاته.
والجواب: أن ذلك لايصح لعدم الطريق إلى منافاته في حال عدمه بل إلى ثبوته إذ لاطريق إليه ثم أنه يلزم من ذلك أن يعود القديم معدوماً لنفي هذا الضد له ويخرج ذلك الضد إلى الوجود إذ لايصح أن يكونا معدومين معاً وأيضاً فلا يصح منافاة القديم له وهو في حالة العدم لأن المنافاة فرع على الوجود ولو ثبتت وصحت المنافاة والحال ما ذكر لم يكن أحدهما بأن يبقى الآخر أولى من العكس فإذا لايجوز إثباته لأنه لو ثبت لزم منه أحد باطلين إما المنافاة وذلك باطل لما تقدم آنفاً أو عدم المنافاة وذلك يبطل كونه ضداً إذ قد حصل القديم وهذا الضد المعدوم لذاته على ما هما عليه من الصفات التي يتعاكسان لأجلها واختص كل واحد بالآخر غاية ما يمكن من الاختصاص فيلزم من ذلك وقوع المنافاة.
قوله: (فلأن القديم لايحتاج في وجوده إلى شيء). الدليل على ذلك أن هذا المحتاج إليه إن كان محدثاً فباطل حاجة القديم ف يوجوده إليه لأنه يقتضي الا يوجد إلا بوجود ما يحتاج إليه وذلك المحتاج إليه محدث فيوجب حدوثه وإن كان ذلك المحتاج إليه قديماً فليس أحدهما بأن يحتاج إلى الآخر أولى من العكس وتامم الاستدلال بهذا الوجه أن يقال: فإذا ثبت أن القديم لاينتفي ولا يعدم وقد ثبت عدم الأكوان بطل أن تكون قديمة وإذا لم تكن قديمة كانت محدثة.
قوله: (الوجه الثالث أن القديم قديم لذاته).
في سؤال وهو أن يقال: إن مجرد القدم ليس بصفة وإن سلمنا كونه صفة فليست بذاتية بل مقتضاة كما قدمته آنفاً.
والجواب: أن القدم قد صار معناه متضمناً لمعنى الصفة لا ثبوت الوجود للموجود فيما لم يزل.
وأما الجواب عن الثاني فبأن نقول: أما على مذهب أبي علي فلا كلام لأنه يقول: ألقدم صفة من صفات الذات وأما على مذهب أبي هاشم ومن تبعه فهو وإ، لم تكن صفة ذاتية فهو مقتضى عنها وموجب عما يرجع إلى الذات والمقصود هو إبطال أن تكون لأمر خارج عنها.
قوله: (أن يتقدم على فعله). كان الولى أن يقال يتقدم على ما يؤثر فيه لأن لاقدم لا يوصف بأنه فعل ولو قدر أنه بالفاعل.
قوله: (إلا إذا كان قادراً على تلك الذات). يعني وذات القديم غير مقدورة لأن المقدور المعدوم الذي يصح وجوده ولو كان له حالة عدم لم يكن قديماً.
قوله: (وفي ذلك استغناؤه عنها لوجوبه) فلا يبقى إلى إثباتها طريق الوجه في استغنائه عنها أن حاجة المعلول إلى العلة لايكون إلا مع جوازه فثبوته بعد أن لم يثبت والحال واحدة والشرط واحد وإذا حصلت الصفة في الأزل فقد خرجت عن الحصول مع الجواز لأن ما يثبت في الأول فهو واجب الثبوت، وكذلك فلا يدل عليها لأنها لا تدل إلا مع حصولها على سبيل الجواز والحال واحدة والشرط واحد، ومع عدم دلالتها عليها لا يبقى إلى ثبوتها طريق.
قوله: (وفي ذلك وجوب معلولها). يعني في الأزل ومع وجوبه في الأزل يثبت استغناؤه عنها كما تقدم في العلة المعدومة.
قوله: (ولأنها ثابتة لا لأمر يخصصاه بحال دون حال).
قد قيل: إن هذا أقوى الأدلة على أن الذات لايجوز خروجها عن صفتها الذاتية وتلخيصه: أن الصفة الذاتية ثابتة لا لأمر وما ثبت لا لأمر لايصح اختصاص حصوله بوقت دون وقت إذ التخصص من خيص مخصص محال فيجب ثبوته واستمراره في سائر الأوقات.
قيل: ومالم يرجع إلى هذا الدليل فللقدم مجال فيه.
قوله: (فكما لايزايلها معولها كذلك لايزال الذات صفتها). قالوا: والقياس في معلول العلة وصفة الذات يكون بطريقة الأولى فياقل إذا كان معلول العلة الذي هو صفة جائزة موجبة لايزول ما دامت الذات التي هي علة فيه فأولى بذلك الصفة الواجبة غير الموجبة والجامع بينهما ما ذكره من عدم افتقارهما إلى غير الذات والعلة، وافتقار الصفة الذاتية إلى الذات من حيث أن الصفة لايجوز أن تثبت إلا لذات ولايجوز استقلالها بنفسها لا كحاجة المعلول إلى العلة.
قوله: (وتحقيق هذه الجملة) أي القول بأن القديم لايجوز خروجه عن القدم الذي هو صفة ذاتية أو أن الذات على سبيل الجملة لاتخرج عن صفة ذاتها.
قوله: (لأن في ذلك خورجه عن صحة كونه معلوماً). الوجه في ذلك أن صحة كون الشيء معلوماً من أحكام الصفة الذاتية فإذا زال ما يوجبه زال إلا أن من التزم خروج الذات عن صفتها الذاتية فهو يلتزم خروجها عن صحة كونها معلومة، وإن كان خروجها عن صحة كونها معلومة أوضح في البطلان لأن في ذلك خروجاً عن حقيقة الذات.
قوله: (فيؤدي إلى اجتماع صفتين ذاتيتين) يعني إذا قيل أن هذه الصفة التي خرج إليها يستحقها قبل خورجه عن تلك أو يستحقها على حد استحقاق تلك، وفي حال استحقاقها ولكن يقال: وما المانع من ذلك.
والجواب: أن تلك الصفة الثابتة إن كانت مماثلة لتلك الصفة الأخرى التي فرضنا الكلام في خروجه عنها لزم أن يكون مماثلاً لنفسه لحصوله علىما لو حصل عليه غيره لماثله وإن كانت مخالفة لها لزم أن يكون مخالفاً لنفسه لحصوله على ما لو حصل عليه غيره لخالفه وكون الشيء مماثلاً لنفسه أو مخالفاً لها محال وسيأتي تحقيق ذلك في مسألة الصفة الأخص.
قوله: (وذلك يبطل كونها ذاتية). يعني تجددها وذلك لأن تجدد الصفة الذاتية لايجوز لأن الصفة الذاتية لو تجددت لكانت إما أن تتجدد لأمر أو لا لأمر وباطل أن يكون تجددها لا لأمر لأنها لو تجددت لا لأمر لم يكن بأن تتجدد أولى من ألا تتجدد ولا بأن تتجدد في وقت أولى من غيره، وباطل أن يكون تجددها لأمر لأنه إما أن تكون الذات أو غيرها باطل أن يكون تجددها للذات لنها لاتدخل في كونها ذاتاً إلا لأجل اختصاصها بهذه الصفة، وباطل أن يكون لأمر خارج لأن ذلك يبطل كونها ذاتية، إذ معنى كونها ذاتية أنها لم تحتج في ثبوتها إلى أمر خارج عن الذات.
قوله: (إذا ثبت هذا). يعني أن القدم صفة ذاتية وكذلك إذا كان صفة مقتضاة كاشفة لمجردها عن الذاتية فإنه لافرق.
قوله: (فيلزم إذا طرأ عليها الضد) يعني وقدرنا أن لها ضداً فإنه وإن لم يثبت ذلك فإن التقدير ههنا يقوم مقام التحقيق.
قوله: (إن ننفيها من حيث هي متماثلة ولاننفيها من حيث هي مختلفة) قد تقدم أن الضد لاينفي المختلفين وأما لزوم نفيها من حيث هي متماثلة فلعلمنا بأن السواد إذا طرأ على محل فيه أجزاء كثيرة من البياض فإنه ينفيها لما كانت متماثلة إذا ثبت هذا فمعنى منافاته لها أن يخرجها من الوجود إلى العدم ومعنى عدم منافاته لها ألا يؤثر في وجودها فلا يزيله فكان يلزم ما ذكره من كونها معدومة موجودة دفعة واحدة وكون الشيء موجوداً معدوماً في حالة واحدة محال.
تنبيه
إذا تقرر لك بما تقدم من الأدلة أن الأكوان بل الأعراض لأن الطريقة في الكل واحدة غير قديمة وجب أن تكون محدثة لأنها قسمة دائرة بين نفي وإثبات فلا يجوز متوسط بينها.
وبيانه أنك تقول: الأعراض إما أن يكون لوجودها أول أو لا، إن لم يكن لوجودها أول فهي القديمة وإن كان لوجودها أول فهي المحدثة، وهذه قسمة صحيحة ويلحق بها في الصحة قسمة الأول والأكثر والمساوي نحو أن تقول: هذا العدد لايخلو إما أن يكون أقل من هذا العدد أو أكثر منه أو مساوياً له، وكذلك قولك: هذه الذات إما أن تكون موجودة قبل هذه أو بعدها أو معها، فأما القسمة الدائرة بين إثباتين كقولك: زيد إما في الدار أو في المسجد، فهي غير صحيحة لجواز أن يكون في السوق وغيره فإنه يمكن دخول متوسط وكذلك لاقسمة الدائرة بين نفيين كقولك: زيد إما ألا يكون في الدار وإما ألا يكون في المسجد فإنه يجوز دخول متوسط.
تنبيه آخر
ما تقدم من حكاية قول المطرفية يدل على بطلانه وجوه:
أحدها: أنهم إذا سلموا حصولها بعد أن لم تكن فذلك معنى كونها محدثة فقولهم ليست بمحدثة مناقضة وكذلك وصفهم لها بأنها حادثة غير محدثة لأن معناهما واحد.
وثانيها: أنهم إذا بنوه على أنها صفات وليست بذوات على ما حكاه عنهم بعض أصحابنا فذلك أصل قد تقرر بطلانه في الدعوى الأولى.
وثالثها: أنهم بنوا على ما لايعقل من القول بالفطرة وهو القول بالطبع.
فصل
قوله: (أما الدعوى الثالثة وهي: أن الجسم لم يحل من الأعراض المحدثة).
ضرب غير باق فيجوز خلو الجسم عنه بكل حال يعني قبل وجوده فيه وبعد وجوده، وقد ذهب من خالف في الدعوى الثانية إلى أنه لايجوز خلو الجسم عن الأعراض كلها بل هي موجودة فيه فما ظهر أوجب وما كمن لم يوجب وذهب أبو علي وأبو القاسم والأشعرية إلى أنه لايخلو الجوهر مما يحتمله أو من ضده فإن لم يكن له ضد لم يخل منه أصلاً وأما من خالف في هذه الدعوى فقد ذهبوا إلى جواز خلو الجسم عن جميع الأعراض وأراه الذي لاينفي الاعتماد والصوت والألم ونحوها فأما كلام أهل لاكمون والظهور فقد تقدم بطلانه وهو بناء على قدمها وأما قول أبي علي ومن تابعه فهو أيضاً واضح البطلان فإنا نعلم خلو كثير من المحال عن الصوت مع أن مذهبهم يقتضي ألا يخلو المحل عنه وقتاً واحداً وكذلك نعلم خلو المحال عن كثير من المتضادات.
قوله: (وضرب باق فيجوز خلو الجسم عنه).. إلى آخره.
مثاله: اللون فإنه يجوز ألا يوجد الله تعالى في الجسم الذي جعله لوناً، فقد حاز ذلك الجسم عن اللن مطلقاً، وإذا أوجد في سوادً مثلاً لم يحل ذلك الجسم عن جنس من أجناس اللون، وإن حاز خلوة من السواد، وذلك لأن اللون الذي وجد فيه باق، والباقي لا ينفى إلاَّ بضد أو ما يجري مجراه على ما تقدم، وضده من نوعه، فإن الذي ينفي السواد إما بياض أو حمرة أو نحوهما، وهما وغيرهما مما ينفيه من جنس للون.
فإن قيل: هلا خلا عن الباقي بعد وجوده فيه وعن خلسه، فإن ينتفي بما يجري مجرى الضد فقد أجزتم انتفاء الباقي، بذلك قلنا: أما الباقيات الَّتِي لا يوجد في الآحاد كالتألف والحياة والقدرة، فمسلم ابتغاؤها بما يجري مجرى الضد، وخروج الجسم عنها إلاَّ إلى ما هو من جنسها، فإنه لا ضد لها لا من جنسها ولا من غير جنسها، وأما الَّتِي توجد في الآحاد ولا تحتاج إلى أكثر من جزء في وجودها كاللون والطعم ونحوهما، فليس الذي يجري يجري مجرى الضد لها إلاَّ الفناء لنفيه ما يحتاج إليه من المحال وهو لاينفها إلى مع نفيه الجسم وكلامنا هو في حال بقاء الجسم فقد ثبت أنَّه لايخلو عنها بعد وجودها فيه.
إذا عرفت هذا فالأولى أن يقال: الأعراض تنقسم إلى ثلاثة أقسام، قسم يجوز خلو الجسم عنه مطلقاً وهو ما لايبقى أو يبقى ولاضد له قبل وجوده، وقسم لايجوز خلوه عنه مطلقاً وهو الأكوان، وقسم يجوز خلوه عنه قبل وجوده فيه ولايجوز بعد وجوده فيه أن يخلو عنه إلاَّ إلى جنسه وهو ما يبقى ولاينتفي إلاَّ بضد كالألوان.
قوله: ( لا لأمر يرجع إلى الجسم).
يعني فلا يكون كاستحالة خلوه عن الكوان فإنه لأمر يرجع إليه وهو كونه مصمتاً بالكون.
قوله: (وإن أمكن الاستدلال به على حدوث الجسم). الضمير في (به) عائد إلى ما عدا الكون المطلق من الأكوان وذلك هو الكون الواقع في الوقت الثاني وهو إما حركة بأن ينتقل الجوهر في الوقت الثاني من وجوده أو سكون بأن يبقى في تلك الجهة وهو نفس الكون المطلق إلاَّ أنَّه في الوقت الثاني يسمى سكوناص.
قوله: (لنه لم يسبقه إلاَّ بقوت واحد يعني فلو كان الجسم قديماً لوجب أن يتقدم على هذا الكون المحدث الحاصل ويأتي حال وجوده بما لو كانت هناك أوقات لكانت بلا نهاية ولأنه إذا لم يسبقه إلاَّ بوقت فقد صار يمكن الإشارة إلى وقت وجد فيه وحدث وذلك يبطل قدمه.
قوله: (لأن الجسم لايحصل إلاَّ في محاذاة).
اعلم أن الجهة والمحاذاة والحيز في اصطلاح المتكلمين بمعنى واحد والمرجع بها إلى الفراغ.
قوله: (وبجامع التحيز فيما غاب عنا).
يعني فنقول: إنَّما وجب حصول هذا الجسم الحاضر في جهة لتحيزه والتحيز ثابت فيما غاب عنا فيجب حصوله في الجهة وإبطال أن يكون لغير التحيز من الأقسام على نحو ما مضى ونظائره.
قوله: (وسواء حصل حال الحدوث أو حال البقاء).
يعني الكون المطلق بالنسبة إلى الاجتماع والافتراق فإنه مطلق مهما لم يوجد غير ذلك الجوهر فإذا قدرنا أن الله تعالى خلق جوهراً واحداً فقط وبقي ذلك الجوهر أوقاتاً لاشيء معه من الجواهر فإن الذي يوجد فيه من الكوان وسواء تنقل في الجهات أو بقي في جهة واحدة مطلق بالنسبة إلى الاجتماع والافتراق بمعنى أنَّه لايسمى اجتماعاً ولا افتراقاً حتَّى يوجد غيره فإن ضامّه ذلك الغير فالكون الذي فيه حينئذ اجتماع وإن باينه فافتراق بخلاف المطلق بالنسبة إلى الحركة والسكون فإنه لايسمى مطلقاً إلاَّ حال الحدوث، وفي الوقت الثاني إن بقي في جهته تلك فسكون وإن انتقل عنها فحركة.
قوله: (لو جاز خلوه عن الأكوان فيما مضى من الزمان لجاز الآن).
اعلم أنَّه يحتاج إلى أن يراد بعد ذلك بأن يبقى على ما كان عليه من الخلو لئلا يرد أن يقال: أليس الجسم ذو اللون يجوز عندك خلوه عن اللون فيما مضى ولايجوز خلوه عنه الآن ومع تلك الزيادة يسقط الاعتراض فإن اللون وإن لم يجز خلو الجسم عنه الآن فهو يجوز بأن يبقى على ما كان عليه من الخلو فكان يلزم جواز وجود جسم لا كون فيه بأن يبقى على ما كان عليه من الخلو عن الكون ومعلوم خلافه.
قوله: (لم يتغير عليه إلاَّ مرور الزمان).
يقال: لِمَ لم يقل: والمكان، كما هو مذكور في بعض كتب هذا الفن.
والجواب: أن مرور الزمان عليه متيقن وأما اختلاف المكان فإنه غير متيقن، وإذا قال لم يتغير عليه إلاَّ مرور الزمان والمكان فقد قطع باختلاف المكان عليه ثُمَّ أن عدم تأثير المكان في تغير أحوال الجسم أظهر من عدم تأثير الزمان ولهذا وقع الخلاف في الزمان دون المكان.
واعلم أن هذا الدليل لايتم إلاَّ مع العلم بأن الجسم لايوجد إلاَّ متحيزاً وأن تحيزه غير متجدد كما ذكره المصنف وأما مع تقدير وجوده غير متحيز كما ذهب إليه المخالف وبنى كلامه عليه فله أن يقول بل تغير عليه غير الزمان وهو التحيز فإنه قد كان غير متحيز فلم يصح حلول الأكوان فيه وبعد تحيزه حلته كما هو مذهبهم لكن سيأتي بطلان وجود الجسم غير متحيز.
قوله: (فيما يجب للجسم أو يجوز أو يستحيل).
مثال ما يجب له الكون في جهة فإنه لما كان لايوجد إلاَّ متحيزاً ولايكون متحيزاً إلاَّ وهو كائن في جهة ولايكون كائناً في جهة إلاَّ بكون كان واجباً له في كل وقت.
ومثال ما يجوز عليه هو التنقل فإنه يجوز عليه في كل وقت أن ينتقل من الجهة الَّتِي هو فيها إذ ليس كونه فيها لما هو عليه في ذاته ولايجب انتقاله إلى غيرها إذ ليس لأمر يرجع إلى ذاته.
ومثال ما يستحيل عليه كونه كائناً في جهتين في وقت واحد فهذه الأمثلة المذكورة لاتتغير وجوبها ولااستحالتها بمرور الأزمنة ولا اختلاف الأمكنة.
فإن قيل: لِمَ لم يقل المصنف مما يكون وجوبه وجوازه واستحالته راجعاً إلى الذات على ما ذكره غيره ويحترزون بذلك عما يكون وجوبه أو جوازه أو استحالته مما لايرجع إلى الذات كوجوب كوننا مدركين عند كوننا أحياء وجواز كوننا عالمين عند ذلك واستحالة كوننا عالمين وجاهلين دفعة واحدة، فإن لمرور الأوقات واختلاف المكان أثراً فيه لما لم يكن وجوبه وجوازه واستحالته للذات بل لكونه حياً فلولا كونه حياً مع الشرائط لم يجب كونه مدركاً ولولا كونه حياً لم يجز كونه عالماً ولاتثبت استحالة كونه عالماً جاهلاً في وقت واحد إلاَّ للحي لا لغيره.
قلنا: ترك ذلك لوجهين، أحدهما: أن كونه كائناً وجواز تنقله واستحالة كونه في جهتين ليس براجع إلى الذات، أما استحالة كونه في الجهتين فهي راجعة إلى استحالة اجتماع الضدين، وأما وجوب كونه كائناً فهو راجع إلى وجود الكون وإن كان ذلك بطريقة التضمين وأما جواز التنقل فهو وإن كان لجل التحيز فإنه لايطلق عليه أنَّه راجع إلى الذات وإن كان ذلك يتمشى فيه.
وثانيهما: أن وجوب كونه مدركاً وجواز كونه عالماً ونحوه واستحالة كونه عالماً جاهلاً وإن جاز زوال هذا الوجوب والجواز والاستحالة لما لم يكن راجعة إلى الذات فلا حاجة إلى هذا الاحتراز لأنَّه لم يؤثر في زوال ذلك الوجوب والجواز والاستحالة مرور الزمان فإنه لاتأثير له في شيء من ذلك وإنَّما الذي أثر في زوالها زوال كونه حياً فإن بزواله تزول الأحكام المذكورة لا مرور الزمان فعرفت حينئذ عدم الحاجة إلى هذا الاحتراز.
قوله: (فكيف يحترك مالم يكن ساكناص). كان الأولى أن يقول: فكيف يحترك مالم يكن كائناً من قبل في جهة لن الحركة هي الانتقال من جهة إلى جهة فإن احتراك مالم يكن ساكناً جائز فإنه تعلق خلق جوهراً ثُمَّ نقله في الوقت الثاني إلى جهة ثانية فإنه قد صار محتركاً بعد أن لم يكن ساكناً، فكذلك لو نقل أحدنا جوهراً إلى جهة ثُمَّ نقله في الوقت الثاني إلى أخرى فقد صار في هذا الوقت محتركاً بعد أن لم يكن ساكناً بل بعد أن كان محتركاً، وكذلك فقد يكون ساكناً بعد أن لم يكن محتركاً بأن يخلق تعالى جوهراً ثُمَّ يبقى في جهته تلك بأن لاينقله فإنه يصير في الوقت الثاني ساكناً بعد أن لم يكن محتركاً ولكنه تساهل في العبارة.
قوله: (واعلم أن هذا الدليل مبني على أن التحيز ليس بمتجدد). .... إنَّما كان مبنياً على ذلك لنه لو ثبت وجوده غير متحيز لكان للخصم أن يقول: قد كان الجسم فيما لم يزل غير متحيز ثُمَّ لما تحيز وجد فيه الكون وذلك الكون الذي وجد فيه أول أوقات تحيزه عندي هو الكون المطلق الذي يوجد فيه عند حدوثه عندكم فلو ثبت أنه كان غير متحيز ثبت له ذلك ولاكلام فيه لكن قد تقرر أن الجسم لايوجد إلاَّ متحيزاً لن مع وجوده يكون قد حصل مقتضى التحيز وهي الجوهرية وشرط اقتضائها له وهو الوجود فلا بد من حصوله وسيأتي إيضاحه في فصل الصفات، وبالجملة فهذه الدعوى مبنية على أن الأجسام لاتوجد غير متحيزة وإلاَّ فلو سلمنا لهم أنَّها توجد غير متحيزة لسلمنا لهم انفكاكها من الكوان ولو لسلموا أنَّها لاتوجد غير متحيزة لسلموا أنَّها لاتنفك عنها ولم يجدوا بداً من تسليم ذلك فيعود الخلاف إلى الصل.
قوله: (ولأنهما حاصلان في جهتين).
يقال: أما مع عدم القول بتحيزها فالخصم لايسلم ذلك؟
والجواب بأحد وجهين، إما أن يكون المصنف عرف من مذهبهم أنهما في جهتين قبل تحيزها فألزمهم على ذلك ملازمة الكون لهما إذ لايكون الشيء في جهة على وجه الاستقلال إلاَّ إذا كان كائناً فيها ولا يكون كائناً فيها إلاَّ بكون وإما أن يكون مؤاخذاً لهم بتسميتهما جسمين وإن لم يكونا عندهم متحيزين لأن الجسم لايكون إلاَّ في جهة والجهة من خواصه.
قوله: (ولأن من أصولهم أن الجزء يتجزأ).
اعلم أن مذهب الفلاسفة والنظام أن الجزء يتجزأ بمعنى أنَّه لاينتهي إلى حالة إلاَّ ويصح تجزئته فيها إلاَّ ما لايتناهى وإن كان من أصحابنا من ظن ببعض الفلاسفة أنهم يقولون بتجزئة تخريجاً من مقالات لهم دون أن يصرحوا بذلك، والمصرحون بتجزئة منهم من قال يتجزأ بالفعل بمعنى أنَّه في ذاته غير متناهي العدد، ومنهم من قال يتجزأ بالقوة بمعنى أنَّه وإن كان شيئاً واحداً فإنه يصح في الفاعل أن يجعله أشياء كثيرة.
قال الشيخ ابن متويه: ويبعد في قائل هذا القول ألا يكون معتقداً فيه أن أ>زاءه ثلاثمائة فيصير قوله والقول الأول سواء ووجه ما قاله رحمه الله أنهم إذا أجازوا في الفاعل أن يجعله أشياء كثيرة فإنه لايصح ذلك إلاَّ إذا كان الجزء كذلك في ذاته، ومما يبطل به أصحابنا كلام أهل الهيولى والصورة أن الحلول كيفية في الوجود وكيفية الوجود تلازمه كما أن كيفية كل صفة تلازمها فكيف يثبت وجودهما في الأزل عندهم ويتأخر الحلول عنه ثُمَّ أن حلول إحداهما في الأخرى إما أن يكون علي سبيل الوجوب فيلزم ملازمته للوجود لنه إما أن يكون للذات أو لصفتها ومع كونه كذلك ليس الصورة بأن يحل الهيولى أولى من العكس لاشتراكهما في الذاتية والمقتضاة واستوائهما فيهما أو على سبيل الجواز فهو إما لفاعل وهو باطل إذ لاتأثير له في الحلول ويلزم منه أن يكون قادراً على ذاتيهما إذ لايقدر على حكم لذات من دون معنى إلاَّ من قدر عليها فيلزم كون وجود الصورة بالفاعل وهي قديمة عندهم أو لعلة وهي إما معدومة فلا يختص أو موجوده فلا اختصاص لها بالصورة فيوجب حلولها دون الهيولى إذ لايختص بها إلاَّ إذا حلتها ولا تحلها إلاَّ مع تحيزها ولايتحيز إلاَّ بعد أن تحل الهيولى فتؤدي إلى التوقف ثُمَّ أنَّها مع الصورة والهيولى على سواء فلم تكن بأن يوجب حلول أحدهما في الأخرى أولى من العكس.
فصل
وأما الدعوى الرابعة وهي أن مالم يحل من المحدث فهو محدث، فالخلاف فيها من ثلاث جهات.
قوله: (قال أبو رشيد العلم بالرابعة ضروري مطلقاً). يعني سواء قيل فيها مالم يحل من حادث معين ولم يتقدمه فهو محدث مثله أو قيل مالم يحل من المحدث فهو محدث على سبيل الجملة من غير إشارة إلى الكوان ولا الصفات الصادرة عنها لكنها تدخل في ذلك لأن الجسام لم يحل عنها وقد حكي قوله هذا عن أبي علي بن خلاد والفقيه حميد وابن الملاحمي وصاحب الإكليل.
قوله: (وقال القاضي إلى آخره).
اعلم أن تلخيص مذهب القاضي وتلامذته أنه إذا كانت صورة هذه الدعوى أن مالم يحل من حادث معين ولم يتقدمه فهو محدث مثله فهي ضرورية.
قيل: وينبغي أن تكون وفاقية وفي المحيط ما يقضي بأنها استدلالية في هذه الصورة إلاَّ إذا علم ثبوت ذلك المعين وحدوثه وعدم الخلو منه ضرورة فهي حينئذ ضرورية كما أشار إليه المصنف آخرا في هذه الجهة.
قال القاضي وتلامذته: وإن كانت الصورة بالجسم إذا لم يحل من املحدث ولم يتقدمه وجب أن يكون محدثاً فهي استدلالية إذ لو كانت ضرورية لم يخالف فيها ابن الروندي ومن تابعه.
وأجيب بأن ابن الروندي ومن تابعه لابد أن يعتقدوا في واحد منها أنَّه قديم وإلاَّ لم يتصور خلافهم وههنا صورة أخرى لهذه الدعوى وهو أن يقال: الأجسام لم تحل من هذه الأكوان ولم يتقدمها فيجب أن تكون محدثة.
قيل: فهذه تكون استدلالية اتفاقاً لتوقفها على ثبوت الأكوان وحدوثها وأن الجسم لم يخل منها وكلها استدلالية وما توقف على الاستدلالي فهو مثله وقد أشار إليه المصنف أيضاص.
قوله: (زعم ابن الروندي وبعض الفلاسفة).. إلى آخره.
تحقيق مقالتهم أن قالوا أن الجسام لم تخل من حادث وقيل الحادث حادث أما لا أول له والجسم وإن قارن بحمله هذه الحوادث فلا أول لها فكذلك لا أول له فكان قديماص.
تنبيه
اعلم أن الفلاسفة لما نقوا لاصانع المختار وقالوا بقدم العالم وكان هذا الدليل المبني على هذه الدعاوى أبلغ أدلة أهل الإسلام على حدوث العالم وثبوت الصانع المختار جعلت الفلاسفة تحتال لإبطاله بكل حيلة وتدخل له من كل مدخل وافترقوا للخلاف في هذه الدعاوى الأربع وتقسموه لنه متى ثبت إفساد أحدها بطل الدليل لانبنائه على كل واحدة منها فخالف بعضهم في الأولى واستضعف بعض خلافهم فخالفوا في الثانية واستضعف بعض آخر منهم خلاف الفرقتين الولتين فخالفوا في الثالثة واستضعف بعض خلاف الجميع فخالفوا في الرابعة خديعة منهم وإلحاداً في الدين ويأبى الله إلاَّ أن يتم نورهولو كره المشركون وما أجدرهم بقوله تعالى: {هل أنبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسنون صنعاً}.
قوله: (فقد صار وجوده معها أو بعدها).
يقال: أخللت بقسم ثالث وهو أن يكون وجوده قبلها.
والجواب: لا إخلال مع بنائه على أن الجسم لم يخل من المحدثات ولو كان وجوده قبلها لكان خالياً عنها وكلامه مبني على عدم الخلو الثابت بالدلالة.
قوله: (لأنه إذا كان كل واحد من هذه الحوادث له فاعل يعني لما تقرر من أن الحادث لابد له من محدث على ما سيأتي.
قوله: (وبعد فهذه الحوادث قد حصرها الوجود..) إلى آخره.
تلخيصه أني قال: أن مع دخول هذه الحوادث في الوجود لابد أن يكون قد حصرها ومع حصره لها لاتكون غير متناهية فإنه لايصح أن تدخل في الوجود ما لانهاية له إذ ما دخل فيه جاز دخول الزيادة والنقص فيه وما كان كذلك فهو متناه لأنَّه يكون مع تلك الزيادة أكثر منه مع عدمها ولا كلام في تناهي ما يكون أكثر مع تقدير زيادة عليه فإن ما لايتناهى لايكون غيره أكثر منه فلا يكون هو مع تقدير أكثر منه من دون ذلك التقدير ولا يمكنهم المنع من جواز دخول الزيادة في هذه الحوادث بل هم يحكمون بتزايدها في كل وقت.
قوله: (ظاهر التناقظ ظهور تناقضه في المعنى وفي اللفظ).
أما من جهة المعنى فلأنهم وصفوا كل ذات من الأكوان بأنها محدثة ثُمَّ قالوا لا أول لها وهذا هو معنى القديم وأما من جهة اللفظ فلقولهم آحادها محدثة وجملتها قديمة وجملتها مجموع آحادها هكذا ذكر بعض المتأخرين.
قوله: (لن الحدوث ثبت لآحادها من غير شرط..) إلى آخره، تلخيص هذا الوجه أن يقال: الحكم باعتبار الآحاد والجملة على أربعة أضرب:
أحدها: ما يثبت للآحاد من غير شرط فيجب ثبوته للجملة كثبوت السواد للزنج فإنه ثبت لكل واحد منهم من غير شرط مفقود في جملتهم فيجب ثبوته لجملتهم وهذا أوزان مسألتنا فإن الحدوث لكل واحد من الأكوان لم يثبت بشرط لم يوجد في جملة الأكوان فلا يصح أن يحكم به على الآحاد دون الجملة.
وثانيها: ما يثبت للآحاد مشروطاً بشرط لم يثبت في الجملة كثبوت جواز الخطأ على كل واحد من الأمة فإنه ثبت لهم بشرط عدم الاتفاق ولم يوجد في جملتهم.
وثالثها: ما ثبت للجملة من غير شرط كسواد جملة الزنج فإنه يثبت لآحادهم لعدم اشتراط ثبوته للجملة بشرط مفقود في الآحاد.
ورابعها: ما يثبت للجملة بشرط مفقود في الآحاد كالعصمة للأمة فإنها تثبت لهم بشرط الاجتماع وهو مفقود في آحادهم.
قوله: (على أن أبا الهذيل قد كان التزم) إلى آخره.
روي هذا المذهب عن النظام ويحيى بن بشر وهو القول بتناهي حركات أهل الجنة وأهل النار أيضاً قالوا: فينتهون إلى سكون دائم يلتذ به أهل الجنة ويتألم به أهل النار وقد روي عن أبي الهذيل أنه رجع عن ذلك.
واعلم أن مما يجاب به عن هذه الشبهة أنا لم نرد بقولنا حوادث أهل الآخرة لاتتناهى وجود ما لايتناهى فذلك مما لايجيزه وإنَّما أردنا أن محدثيها لايزالون يجددون منها شيئاً بعد شيء.
قوله: (ولايكون حادثاً الآن).
يعني لأن الحدوث يختص بأول أوقات الوجود.
قوله: (لأنه لايلزم من جوازه قدم الجسم) أي من جواز أن يقارن الجسم لافيما لم يزل حادث ولايكون لاجسم حادثاً في تلك الحال.
قوله: (على أنا نلتزم أن يكون محدثاً الآن لحصول حقيقة المحدث فيه). يعني وهو أنَّه موجود لوجوده أول. وقد أجيب عن هذه الشبهة بجواب آخر يقبل أنا لم نقتصر في دلالتنا على القول بأن الجسم لم يخل من الأعراض. بل قلنا ولم يتقدمها والحوادث الموجودة فيه الان قد تقدمها فلم يلزم أن يكون حادثاً معها.
قوله: (وإن كان المقدر مستحيلاً) . يعني في الوجهين وهو ثبوت ثان مما نع للقديم وتقدم القديم للمحدث بأوقات لانهاية لها.
قوله: (تنبيه: اعلم أنَّه كما يصح الاستدلال بطريقة المعاني يصح أيضاً بطريقة الأحوال).
يعني فيقال: الجسم لم يخل من الكائنية الحاصلة بعد أن لم يكن ولم يتقدمها ومالم يخل من الحاصل بعد أن لم يكن ولم يتقدمه كان حاصلاً مثله بعد أن لم يكن وإذا كان كذلك كان محدثاً وقد منع الشيخ أبو هاشم من ذلك وقال: لايصح العلم بحدوث الأجسام إلاَّ على تقدير إثبات الأكوان.
قال ابن متويه: والأقرب خلافه.
قوله: (وأنها هي الطريق إلى المعاني) يعني فالاستدلال بالطريق أوضح من الاستدلال بالمتطرق إليه وفيه نظر.
قوله: (وأن النظر في الحقيقة إنَّما هو في الأحوال) هذا بناء على ما قدمه في باب الأدلة لكن الذي ذكره هناك أن النظر في الحقيقة إنَّما يقع في الحدوث لكن لا يعد ذلك مرجحاً لطريقة الأحوال فإن النظر في الحدوث إنَّما يتأتى في الذوات فأما الصفات فإنها لاتوصف بالحدوث.
قوله: (حاكياً عن أبي الحسين وليس يمكن إثبات المعاني) إلى آخره. يعني فلا يقال قد دلت الدلالة على أن ذلك الأمر الذي لأجله احتراك الجسم ليس إلاَّ المعنى فإذا نفاه ناف كان عنده محتركاً لا لأمر فإنه لايمكن ذلك إلاَّ بعد إبطال أن يكون بالفاعل.
قوله: (حاكياً عن القاضي ينبني على صحة خروج الموصوف منها إلى غيرها). يعني فإنه لايعرف ثبوتها بعد أن لم تكن ثابتة إلاَّ بذلك كما أنَّه لايعرف حدوث الكوان إلاَّ بجواز العدم عليها.
قوله: (والعكس). يعني ثبوت المعاني مع عدم ثبوت موجبها.
واعلم أن هذا الترجيح الآخر الذي اورده القاضي إنَّما هو ترجيح لطريقة المعاني على طريقة الأحوال إذا قيل أنَّها بالفاعل لأنها إذا جعلت بالفاعل فما كان بالفاعل لم يستحل بقاؤه مع عدم الفاعل ولا وجب ثبوته بثبوته بل ما كان من الصفات بالفاعل فإنه لايتجدد حال البقاء كالوجود، وأما إذا جعلت الكائنية صفة معنوية فحكمها جواز خروج الموصوف عنها إلى غيرها ويستقيم الاستدلال كما في المعاني.
قوله: (في حكاية قول ابن الملاحمي لنه جعلا لعلم باستحالة أن تكون هذه الصفة ذاتية متوقفاً على العلم بإثبات المعان). أراد حيث قال القاضي: وإنَّما يعلم صحة خروج الموصوف عنها بإثبات المعاني وإذا كان كذلك بصحة خروج الموصوف عنها هو معنى استحالة كونها ذاتية مع أنَّه لايمكن إثبات المعاني إلاَّ بعد العلم بأنه يجوز خروج الموصوف عنها إلى غيرها فإنا مالم نعلم ذلك لم نعلم أنَّها ليست بذاتية ومع عدم العلم بأنها ليست بذاتية لايعلم أنَّها معنوية.
فصل في شبه القائلين بقدم الأجسام
قوله: (ضرب يقدح بأن يرد على أركان الدليل). قال ابن متويه: وجملة القول في الشبهة أنَّها تنقسم إلى قادحة وغير قادحة وهي في الحقيقة لاتقدح وإنَّما الغرض أن معها لايسلم علم المرء بذلك المدلول.
ومثال ما يرد على أركان الدليل في مسألتنا وهي العلم بحدوث الأجسام أن يرد شبهة على الدعوى الأولى أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة فإن هذه تقدح في الدليل بالمعنى الذي ذكره ابن متويه لترتب صحته على صحدة مقدماته ومع قدحها فيه يقع القدح في العلم بالمدلول لن طريق العلم به هو الدليل فإذا حصل لبس أو شك فيه انتفى العلم بمدلوله.
قوله: (فيكون العلم بحله من فروض الأعيان) لاكلام في ذلك فأما أن نفس حله من فروض العيان فليس كذلك بل فرض كفاية وهذا مع حصول الشك في الدليل فأما لو قدرنا أن شبهة وردت على ركن من أركان الدليل ولم يقع لأجل ورودها شك في الدليل ولا قدحت في العلم به بحيث أنَّه لاينصرف عن تحديد العلم بالمدلول لأجل ورودها لم يكن العلم بحلها فرض عين وإنَّما يكون فرض كفياة وقد قيل أن معارضة الدليل مما يقدح في العلم وينزل منزلة ما يرد على أركانه.
مثاله: قولهم قد ثبت أنَّه قادر عالم والقادر العالم لايكون إلاَّ جسماً معارضة لقولنا قد ثبت أنَّه تعالى قادر عالم والقادر العالم لايكون إلاَّ حياً فيكون العلم بحل هذه المعارضة ونحوها من فروض العيان لحصول الشك معها.
قوله: (فيكون العلم بحلها من فروض الكفاية). الوجه في ذلك أن الدليل باق على صحته وإفاته للعلم ويكون وجوب ذلك كفاية تحرراً عن أن يدعو إلى اختيار الجهل إذ لايؤمن ذلك فيكون حلها صارفاً عما يدعو إليه.
قوله: (لو كان العالم محدثا) إلى آخره. مرادهم بالعالم السموات والأرضون وما بينهما والحديث المروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أن لله ثمانية عشر ألف عالم الدنيا وما فيها عالم واحد يدل على أنَّه اسم لجميع المخلوقات وقد قيل أن العالم اسم لمن يعلم لانه مشتق من العلم فيكون اسماً للملائكة والثقلين.
قيل: وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة عند ذكر مريم عليهما السلام: (تلك سيدة نساء عالمها وأنت سيدة نساء العالمين). يدل على أن العصر يسمى عالماص.
قوله: (في حكاية الشبهة وذلك المر محدث) يعني لنه لو كان قديماً لكان العالم حاصلاً في الأزل ولم يكن فاعله فاعلاً بعد أن لم يكن.
قوله: (والحوادث اليومية كيفية). المعارضة لهم بها أن يقال قد ثبت أن الذي أثر في هذه الحوادث اليومية كالنبات والثمار وما شاكلها سواء كان موجباً أو مختاراً قد حصل مؤثراً بعد أن لم يكن فلا بد من أمر وذلك المر محدث فالكلام فيه كالكلام فيها وإن شئت جعلت كيفية المعارضة أن يقال قد ثبت أن هذه الحوادث اليومية محدثة بالاتفاق ففاعلها قد حصل فاعلاً بعد أن لم يكن فلا بد من أمر كما ذكروه في الشبهة.
قوله: (على أنا نقول ذلك الأمر هو كونه قادراً والداعي). يقال: إن كونه قادراصوالداعي قد حصلا في الأزل وحصوله فاعلاً بعد أن لم يكن يقتضي تجدد أمر له إذ لو لم يكن إلاَّ ما هو حاصل في الأزل لوجب أن يحصل التأثير في الأزل.
والجواب أنَّه وإن كان كذلك فالمؤثر على موجب لأجلهما وهما غير موجبين بل مؤثران على طريق الصحة فلا يلزم ذلك فإن قيل: فقد حصل مؤثراً لأجلهما بعد أن لم يكن مؤثراً لأجلهما فلا بد من أمر.
قلنا: ليس كونه مؤثراً مما يعلل إذ ليس له بكونه مؤثراً حال.
قوله: (وكلاهما غير محدث في حق صانع العالم) يعني بل هما صفتان ثابتتان في الأزل أما القادرية فذلك ظاهر فيها وأما الداعي فلأنه من قبيل عالميته تعالى.
قوله: (قلنا يجوز أن يكون هذا الحكم مما يعلل). أراد بالحكم الاستحالة وإنَّما لم يجب تعليلها لما ذكره من كونها نفياً والتعليل بالمؤثرات وما يجري مجراها لايكون إلاَّ للأمور الثابتة وإنَّما كانت نفياً لن المرجع بها إلى عدم الصحة.
قوله: (والمخير ذلك من الوجوه المانعة من التعليل كالحلول وغيره). يعني حلول الحال في المحل المعين فإن تعليل.... ممنوع مع أنَّه أمر يتأتى. قال أصحابنا: لنا إن جعلناه حالاً في هذا المحل بالفاعل لزم ... إذا وقف على اختياره صحة أن يجعله حالاً في محلين وإن يوجد غيره حال لن من حق ما كان بالفاعل أن يقف على اختياره وإن جعلناه لمعنى فذلك المعنى يحتاج في حلوله إلى معنى فيؤدي إلى التسلس ثُمَّ أنَّه يلزم إذا وجد أمثال للمعنى الموجب للحلول في محال كثيرة أن يوجب كل واحد منها كون ذلك المعنى الذي فرضنا الكلام فيحلوله حالاً في محله فيؤدي إلى حلوله في المحال الكثيرة وهو محال وإن جعلناه لصفته الذاتية أو المقتضاة لزم فيما شاركه فيهما أن يحل ذلك المحل بعينه فكان يلزم وجود السوادات كلها في محل واحد وكذلك البياضات ونحوها فوجب ألا يعلل هذا الحكم وقد ذهب الشيخ الحسن إلى تعليل الحلول بالفاعل حتَّى أنَّه لمبالغته في ذلك أمر بأن يكتب على ما بلغ في حجر قبره وفعل ذلك واحتج بأن الحلول كيفية في الوجود والوجود بالفاعل فكذلك كيفيته والأقرب صحة ما قاله.
فأما قولهم: يلزم أن يوجده غير حال فجوابه: أنكم قد صرحتم بأن كونه مما يحل على سبيل الجملة واجب لصفته المقتضاة فكيف يصح منه إيجاده مع ذلك غير حال وإلزامكم أن يوجده في محلين لايتأتى فإن العلم باستحالة ذلك لايتوقف على العلم بأن الحلول ليس بالفاعل وكما لايلزم أن يصح من الفاعل جعل الجوهر في جهتين مع أن الكون وإيجاده متعلق باختياره فكذلك ههنا وأشار المصنف بقوله وغيره إلى عدم بقاء غير الباقي في الوقت الثاني فإنه لايعلل أيضاً.
قال أصحابنا: لأنا إن جعلنا عدمه في الوقت الثاني لذاته أو لما هو عليه في ذاته لزم في مثله ألا يوجد في ذلك الوقت أيضاً للمشاركة في الصفة الذاتية والمقتضاة اللتين أوجبتا أو أحدثهما عدم وجوده في ذلك الوقت وإن جعلناه باختيار الفاعل لزم أنَّه إذا لم يختر عدمه أن ينفي وإن جعلناه لمعنى فالمعنى لايختص بالمعنى فإن جعل اختصاصه به حلوله في محله لزم أن يوجب لجميع ما في ذلك المحل العدم في الوقت الثاني لعدم اختصاصه به دون سائر ما فيه وإن جعلناه لوجوده أو حدوثه لزم ذلك في كل موجود أو محدث فوجب حينئذ ألا يعلل فأما البقاء فهو مما يعلل بالجنس ولكن لايعلل استمرار البقاء قدراً مقدراً ومما لايعلل ثبوت الصفات الذاتية واختصاص كل ذات بذاتيتها.
فائدة
قد يستوي في عدم التعليل ثبوت الشيء وانتفاؤه كمسألة الحلول فإن الحال لايعلل حلوله في هذا المحل ولا عدم حلوله في غيره وقد يعلل الأمران كحدوث ما ينفى يعلل بالفاعل وانتفاؤه يعلل بطرو ضد أو ما يجري مجراه وتعلق المتعلق فإنه لما هو عليه في ذاته وزوال تعلقه لعدمه وقد تعلل الإثبات دون النفي كما في حدوث ما لاينفى وانتفائه وقد يكون بالعكس كاستحالة كون السواد بياضاً فإن ذلك لما هو عليه في ذاته ولايعلل كونه سواداً لأن الصفة الذاتية لايعلل والله أعلم.
قوله: (في الشبهة الخامسة الباري تعالى جواد لم يزل). أرادوا وإذا كان جواداً لم يزل لزم فعله للجود فيما لم يزل وهو الإكثار من فعل الإحسان والتفضل من جاد بماله يجود جودا وذلك يستلزم حصول من يجود عليه في الزل.
قوله: (لايسلم كونه تعالى جواداً لم يزل بهذا المعنى). يعني بل بمعنى أنه قادر على فعل الجود وأنه سيفعله وإن كان أصحابنا قد نصوا على أنَّه لايسمى جواداً في الأزل لما كان صفة فعل فلا يثبت له إلاَّ بعد فعل الجود وأما النجارية فقد ذهبت إلى جواز وصفه بذلك في الزل بمعنى نفي البخل قالوا إذ لو لم يكن جواداً في الزل لكان بخيلاً وهو محال وهذه المقالة أحدثها حسين النجار وسبب قوله هذا: ورود هذه الشبهة وكلامهم باطل لأن الجواد فاعل الجود إذ لو كان الجواد الذي لايبخل للزم أن يوصف الجمادات بذلك لحصول المعنى في حقها ذكره أصحابنا ولهم أن يقولوا أن معناه الذي لايبخل مع تمكنه من الفعل الذي يجود به.
قوله: (إخلال مخصوص) يعني يختص بأنه إخلال بواجب إذ قد يكون الإخلال إخلالاً بمندوب وبمباح.
قوله: (بواجب مخصوص) يعني ما يتعلق بالحقوق كالصدقات والنذور وسائر الحقوق الواجبة ولهذا فإن الإمام لايسمى بخيلاً إلاَّ إذا منع الحقوق من مستحقها فأما افخلال بغير ذلك من الواجبات كالصلاة والحج فلا يسمى بخلاً إلاَّ تجوزاً.
قوله: (قالوا إذا وجد العالم في وقت صح أن يتوهم وجوده قبل ذلك) إلى آخره.
لهذه الشبهة تحرير آخر ذكره في التذكرة. قال ابن متويه: قال ابن الروندي أصح العلوم ما تقرر في الوهم وقد ثبت تقرر قدم الجسم في الوهم لأنَّه يجوز أن يعتقد أنه لا حال يشار إليها في الأجسام إلاَّ وقد كانت موجودة قبلها ثُمَّ كذلك لا إلى أول فيجب كونها قديمة. قال ابن متويه: وهي ركيكة ضعيفة جداص. وقد قال الشيخ أبو علي لابن الراوندي: أخطأت في قولك أصح العلوم فإن العلم لايكون أصح من علم آخر لاشتراك الكل في اقتضاء سكون النفس وفي تعلق الشيء علىما هو به وعلى أن الوهم ظن مخصوص فكأنه قال: أصح العلوم ما يظن ولايجب من حيث يصح ظن الظان لقدم الأجسام أن يكون قديمه.
قوله: (يجب إذا رأينا داراً مبنية وشيخاً قاعداً على سرير) إلى آخره.
هذا مأخوذ من كلام الشيخ أبي الهذيل عارض به من أورده على هذه الشبهة فقال: يجب إذا رأينا شخصاً قاعداً على كرسي ولا حال يشار إليها إلاَّ ويصح أن يعتقد أنه كان على هذه الصورة فيها فيجب لأجل هذا أن يعتقد أنَّه كان كذلك لم يزل.
قوله: (قلنا أتريدون يستحيل وجود شيء لامن فاعل) إلى آخره.
قد أجيب بجواب آخر هو أقطع للجاجهم وهو أن يعكس كلامهم ويقال: بل بديهة العقل يحكم بأن حدوث شيء من شيء غير منصور لن معنى ذلك أن يصير بعض الشيء شيئاً آخر وذلك لايعقل لن ذلك الشيء إن بقي على حاله فلم يصر بعضه شيئاً آخر وإن لم يبق على حاله فقد عدم هو وحدث شيء آخر.
قوله: (لكن فيه حدوث الهيولى).
يعني لنها شيء وليست بفاعل مختار وهو يجب صدور كل شيء ليس بفاعل مختار عن فاعل مختار ومع صدورها عن فاعل مختار يثبت حدوثها.
قوله: (وقدم الباري). يقال: من أين أن في ذلك ما يوجب قدم الباري فكان الأولى أن يقول: وثبوت الباري.
قوله: (فاختلف وجه الحاجة فلا توقف). يعني وإنَّما التوقف لو اتحد وجه الحاجة كأن يحتاج شيء إلى شيء في وجوده وذلك الشيء يحتاج إليه أيضاً في وجوده وكذلك لو احتاج كل واحد منهما إلى الاخر في العلم به.
قوله: (احتياج كل واحد من العلة والمعلول إلى صاحبه) يعني فإن العلة تحتاج إلى المعلول في العلم بها إذ لايمكن معرفتها إلاَّ به ويحتاج هو إليها في ثبوته وحصوله فلم يلزم التوقف لما اختلف وجه الحاجة فكذلك في مسألتنا.
قوله: (واحتياج كل واحدة من الحياتين إلى الأخرى).
اعلم أنَّه قد تقرر أن الحي لايجوز أن يكون جزءاً واحداً ولابد من أن يكون مبنياً بنية مخصوصة فإذا قدرنا مثلاً أنَّه بني من جزئين فهو يحتاج في كونه حياً إلى حياتين. قال أصحابنا: ولايجوز وجود حياة واحدة فيه لأنها إن وجدت في كلا الجزئين لزم أن يكون مثلاً للتأليف وهو محال وإن وجد في أحد المحلين فباطل لأنها حينئذ لاتوجب إلاَّ لمحلها فيلزم صحة وجود الحياة في محل واحد واختصاصها به فتخرج عن كونها موجبة للجملة ولايمكن أن يقال بل يوجد في أحدهما ويوجب لهما لأنها لاتجوز أن توجب للجزء الذي تحله إلاَّ بعد أن تدخل في جملة الحي وهو لايدخل في جملة الحي إلاَّ بحياة توجد فيه إذ لو دخل في جملة الحي بغير حياة موجودة فيه وصح إيجابها له كونه حياً ولا حياة فيه لكان يلزم أن يوجب ما فينا من أجزاء الحياة لما كان متصلاً بنا من شعر وظفر ونحوهما، ويلزم من وجود حياة واحدة في أحد الجزئين ألا يصح الإدراك بالجزء الذي لم يوجد فيه لأن الإدراك لايكون إلاَّ بمحل فيه حياة ولهذا فإنا ما علمنا أنه يدرك به علمنا أن فيه حياة وما لم يقع الإدراك به علمنا ألا حياة فيه وأنه غير حي فقد بان أنه لايجوز أن يوجد في أحد الجزئين حياة من دون أن يوجد في الآخر حياة أخرى وبهذا يعلم حاجة إحدى الحياتين إلى الأخرى مع أنَّه لايؤدي ذلك إلى توقف كل واحدة منهما على الأخرى توقفاً يقتضي الدور والتعذر.
وقد ورد على ما ذكر أنَّه يلزمكم حاجة كل واحدة من الحياتين إلى الأخرى في وجه واحد وهو الوجود فيلزم حاجة الشيء إلى نفسه ويلزم الدور لأن هذه لاتوجد حتَّى توجد تلك وتلك لاتوجد حتَّى توجد هذه.
وأجيب بأن وجه الحاجة مختلف فإحداهما تحتاج إلى الأخرى في وجودها والمحتاج إليها في الوجود تحتاج إلى تلك في أن يدخل محلها في جملة الحي ليوجب له إذ لايوجد موجبة لجزء واحد فإذا اختلف وجه الحاجة لم يلزم الدور.
قال الشيخ ابن متويه: إلاَّ أنَّه يبقى للسائل أن يقول فليست هذه بأن يحتاج في وجودها إلى تلك أولى من أن تحتاج إليها تلك ولا هذه بأن يحتاج إلى تلك في أن يدخل محلها في جملة الحي أولى من خلافه. قال: فإذا حققنا فذلك يقتضي رجوع الحاجة إلى الحي فنقول: احتاج في كونه حياً إلى هذه الجزاء من الحياة أجمع لا أن مرجع الحاجة إلى الحياة بعضها مع بعض.
واعترض بأن قيل ما أردت بقولك أن الحي يحتاج في كونه حياً إلى هذه الأجزاء أتريد أنَّه يحتاج في حصول صفة واحدة له إليها فغير مسلم لأن الحي يثبت له صفات كثيرة بعدد أجزاء الحياة لا أنَّه يحصل له صفة واحدة عن مجموعها وإن أردت أنَّه يحتاج في مجموع الصفات إلى مجموع هذه الجزاء من الحياة فمسلم ولكن ما أنكرت أن تحصل له صفة واحدة لحصول حياة واحدة.
فالولى أن يقال: قد علمنا أن الحياة الواحدة لاتوجب الصفة لغير الجزء الذي هي فيه إلاَّ إذا كان فيه حياة وإلاَّ لزم أن يوجب للشعر كونه حياً وهذا الحكم لايعلل بأي شيء علل فسد.
إذا عرفت هذا فكلام المصنف ليس بسديد لأنَّه جعل حاجة كل واحدة من الحياتين إلى الأخرى نظيراً لمسألتنا وليس كذلك إلاَّ لو كانت أحدهما تحتاج إلى الأخرى في وجودها والخرى تحتاج إليها في دلالتها عليها وليس كذلك إلاَّ أن يكون مراده أنه نظير لمسألتنا في مجرد الحاجة وعدم التوقف على سبيل الجملة فهو يتمشى.
قوله: (قلنا الداعي إنَّما يدعو إلى ما يصح ووجود العالم في الأزل مستحيل) إلى آخره.
اعلم أن جواب المصنف عن هذه الشبهة جواب جيد ولم يذكره أصحابنا وفيه ما لايجري في كلامهم من اشتراط الإمكان في الداعي بل قد صرح ابن متويه بأن أحدنا قد يدعوه الداعي إلى أمر مستحيل وهو الذي يقتضيه حقيقة الداعي.
وقدأجاب الشيخ أبو القاسم عن أصل الشبهة بأن الله تعالى خلق الحياء في أول أوقات إمكان خلقهم ولايلزم للداعي حصول المستحيل، وأجاب أبو الحسين بأن له تعالى داعياً إلى إحسان ما فأي وقت خلق الأحياء فيه فقد فعل ما دعاه الداعي إليه. وأجاب ابن الملاحمي بأن له تعالى صارفاً فيما يزل عن خلق العالم وهو علمه باستحالة وجوده في الأزل والذي اعتمده الجمهور في الجواب أنَّه تعالى وإن كان له داعي حكمه إلى خلق الحياء وهو الإحسان إليهم إلاَّ أنَّه لايجب حصول ما دعا إليه داعي الحكمة عند حصوله فإن أحدنا يتصدق على فقير بدرهم لداعي حكمة ولايتصدق على الاخر بمثله مع حصول الداعي فكذلك ههنا.
قوله: (لأن هذه سبيل داعي الحكمة ألا ترى أن أحدنا إلى آخره).
هذا كالقياس لأفعاله تعالى الَّتِي يدعو إليها داعي الحكمة على أفعالنا في صحة التقديم والتأخير وفيه نظر وأجود منه أن يقال فإذا حصلت الحالة الَّتِي يمكن خلق العالم فيها ولم يخلقه تعالى فيها أو لم يخلقه دفعة واحدة علمنا أنه تعالى علم أن الصلاح في ذلك فلو علم أن الصلاح في إيجاده دفعة واحدة لفعله وهذا مغن عن القياس فإن أحدنا وإن تصدق على فقير دون فقير وفي وقت دون وقت فإنه ليس من اجل كونه علم أن الصلاح في ذلك بخلافه تعالى فإن تقديمه وتأخيره لعلمه بالصلاح.
فصل وأما الركن الثاني وهو أن المحدث لابد له من محدث.
قوله: (فقد اتفق العقلاء على أنَّه لابد من أمر).
هذا ما ذكره قاضي القضاة كما تقدم واختاره المصنف وأكثر أصحابنا يحكمون بعدم الاتفاق ووقوع الاختلاف.
قوله: (قيل والعلم بذلك ضروري) هذا القول للشيخ أبي القاسم فإنه ذهب إلى أن العلم بأن العالم لابد له من محدث ضروري على سبيل الجملة لايحتاج إلى نظر واستدلال.
قال: ولهذا فإن كل من رأى بناء فإنه يعلم أنَّه لابد له من بان وصانع حتَّى أنَّه لو جوز أنَّه لامحدث له لعد غير عاقل، وذهب الجمهور إلى أنَّه استدلالي جملة وتفصيلاً ولو كان ضرورياً لكان بديهياً لأن الضروري الحاصل عن طريق ليس إلاَّ عن المشاهدة أو الأخبار المتواترة أو عن الخبرة والتجربة على قول ولاشيء من هذه الطرق بحاصل ههنا ومع كونه بديهياً يجب اشتراك العقلاء فيه وهذا ثمامة يقول: لامحدث للمتولدات مع اعترافه بحدوثها وعوام الملحدة يعترفون بحدوث الدجاجة والبيضة ولايثبتون لهما محدثاً وكذلك سائر الحوادث اليومية ولأبي القاسم أن يقول: أليس العلم بأن زيداً هو الذي كنا شاهدناه ضرورياً حاصلاً لا عن طريق مع أنَّه لم يجب اشتراك العقلاء فيه، وقيل: ينبغي التفصيل فإن علم بالضرورة أن المحدث حدث مع الجواز فالعلم بأن له محدثاً ضروري وإن كان العلم بأن حدوثه مع الجواز استدلالياً كالعلم بحدوث العالم فالعلم بأن له محدثاً استدلالي وخلاف ثمامة في المسببات لما كان العلم بحدوثها استدلالياً ونظير ما تقدم الخلاف في العلم بقادرية المؤثر في العالم بعد العلم به فإن أبا القاسم ذهب إلى أن العلم بالقادرية لذلك المؤثر بعد العلم به ضروري. وقال الجمهور: بل استدلالي إذ من المعلوم صحة دخول التشكيك فيه بمقالة أهل الطبع والنجوم وغير ذلك فعلى قول أبي القاسم يكون العلم بأن للعالم محدثاً وأنه قادر ضرورياص.
قوله: (وفي كليهما) أي القول بأنه حدث مع الوجوب أو مع الجواز من غير مؤثر.
قوله: (لصح أن تجتمع ألواح في البحر وتتركب منها سفينة) إلى آخره.
يقال: على سبيلا لمعارضة ولو كان ذلك لايتأتى إلاَّ من محدث للزم أن يصح منه إيجاد ألواح في البحر وجمعها وتركيب سفينة منها فإن التزمته فالخصم يلتزم حصول ذلك لا عن محدث فكان الأولى أن تقول: لوجب أن تجتمع ألواح في البحر إلى آخره فههنا لاتتأتى المعارضة لن ما كان من تأثير لفاعل فهو غير واجب.
قوله: (أما الأولان فتقدما في الدعوتين الأولتين). يعني وهو أن لنا أفعالاً وأنها محدثة، وفيه سؤال وهو أن يقال الذي تقدم في الدعوى الأولى ثبوت نفس الأفعال والاستدلال عليها وإن لم يتقدم التصريح بأنها أفعال لنا وأنا نحن المحدثون لها لكن ذلك ثابت في موضعه بدليله وقد أشار إليه المصنف حيث قال: وبعد فإذا حرك أحدنا الجسم بعد سكونه علمنا ضرورة أنَّه قد حصل أمر لم يكن ونحو ذلك مما ورد في أثناء كلامه في تلك الدعوى مام يدل على أن الأكوان المثبتة قد تكون أفعالآ لنا.
قوله: (من كوننا قادرين ومريدين ونحوهما) أما تأثير كننا قادرين ففي حدوث الفعل وأما تأثير كوننا مريدين ففي وقوع الأفعال على الوجوه المختلفة وأما نحوهما من الصفات المؤثرة فكوننا كارهين فإنها تؤثر في كون الصيغة نهياً وتهديداً وكوننا عالمين فإنها تؤثر في الأحكام إذا كان المعلوم مقدوراً لنا يصح أحكامه.
واعلم أن إضافة التأثير إلى هذه الحوال إنَّما هو على سبيل التوسع والمجاز وإلاَّ فالمؤثر في الحقيقة هو الفاعل لكنه لما كان لايؤثر إلاَّ بحصول هذه الصفات سميت مؤثرة على سبيل التجوز وقد اختلف في كيفية تأثير هذه الصفات فقيل: كونه قادراً هو المؤثر في الأحداث والأحكام والوقوع على الوجوه المختلفة ولكن تأثيرها في الأحكام بشرط العالمية وفي الوقوع على الوجوه المختلفة بشرط المريدية.
قال الشيخ ابن متويه: يمكن الفرق بين كونه مريداً وكونه عالماً فيجعل التأثير في وقوع الإعال على الوجوه المختلفة لكونه مريداً أو القادرية شرط وأما العالمية فشرط في تأثير القادرية في الأحكام وقد يقال أن التأثير للعالمية في الأحكام كالمريدية ولعل وجه فصل ابن متويه بينهما أن تأثير كونه مريداً على سبيل الإيجاب وكونه عالماً على سبيل التصحيح ومع إيجاب المريدية لايصح كونها شرطاً إذ الشرط غير موجب وإن كان مصححاً.
قوله: (تحقيقاً أو تقديراص) التحقيق في فعل العالم المميز لفعله فإنه لايصدر منه الفعل مع علمه به وسلامة الأحوال إلاَّ بقصده وداعيه وكذلك لاينتفي إلاَّ بحسب صارفة وكراهته والمراد بالانتفاء ههنا عدم الإيجاد لها وإن كان لايكاد يستعمل إلاَّ في عدم الباقي بعد وجوده والتقدير في فعل الساهي والنائم فإنا لو قدرنا أن لهما ضداً وداعياً لما وجد فعلهما إلاَّ بحسب قصدهما وداعيهما وإن كان مذهب أبي الحسين ومتبعيه أن لهما داعياً محققاً بناء على أن الفعل لايوجد من دون داع وأن الداعي شرط في وجوده.
قوله: (مع سلامة الحال) يعني سلامة الداعي من صارف يقابله أو يزيد عليه ومن حصول مانع أو ما يجريم جراه وسلامة الصارف من حصول داع يقابله أو يزيد عليه ومن إلجاء ملج.
قوله: (حدوثها أو حدوثها على وجه). يعني فحدوثها يقف على كوننا قادرين وحدوثها على وجوه مختلفة أو على وجه الإحكام يقف على كوننا مريدين عالمين.
قوله: (ولأنه كان يلزم إذا مات الكاتب والباني أن تزول الكتابة والبناء).
فيه سؤال وهو أن يقال: إن موتهما لايقتضي عدمهما بل هما باقيان فلا يلزم عدم ما يحتاج إليهما في وجوده إذ لم يزل وجودهما.
والجواب: أن حاجة الباقي لو تثبت وكذلك الحاجة في الحدوث على ما نقوله إنَّما تثبت لكون المحتاج إليه على تلك الأحوال إذ لو كان جماداً لما احتاج شيء من الأفعال إليه وحال موت المحتاج إليه قد خرج عما يحتاج الباقي إليه لأجله لو كان محتاجاً وهو كونه قادراً وغيره من صفاته فلزم عدمه.
قوله: (أو لأجل حدوثها وهو المطلوب).
يقال: ليس إبطال أن يحتاج إلينا لعدمها ولبقائها مع ثبوت احتياجها إلينا في حدوثها يكفي في الدلالة على أن العلة في الحاجة هي الحدوث فينبغي أن يقال فإذا ثبت احتياجها إلينا في حدوثها لا في غيره ولا علة للحاجة إلاَّ الحدوث لدوران الاحتياج معه ثبوتاً وانتفاء.
قوله: (قلنا أنَّها علة كاشفة إلى آخره).
قد أجيب عن هذا السؤال بجواب آخر وهو أن العلة في الحقيقة كون هذا الشيء مما إذا وجد كان محدثاً وذلك سابق على الحدوث ومقارن لحاله احتايجه إلى المحدث فلا يلزم كون العلة في الاحتياج متأخرة عنه.
قوله: (فإن قال هلا كانت العلة في الاحتياج هو الحدوث مع الجواز).
قد أجيب عنه بأه وإن كان حدوثها مع الجواز هو العلة في الحاجة ولولا الجواز لما كان الحدوث علة في الاحتياج لكن لايجعل الجواز جزءاً من العلة وإن كان معتبراً على وجه الشرط كما أنا عند العلم بالمتحركية نعلم الحركة وإن لم نعلم حصول المتحركية على سبيل الجواب مع أنَّه هو الدليل الموصل إلى العلم بالحركة والفرق بين هذا الجواب وجواب المصنف أن في هذا تسليم أن ذلك من تمام وجه الحاجة والمصنف أنكر ذلك.
قوله: (لمشابهتها العلة الحقيقية).
اعلم أولاً أن العلة في اللغة تطلق على أمور علة بمعنى السقم ولامرض ومنه فلان عليل وفلان به علة، وعلة بمعنى العذر ومنه ما علة فلان في كذا وبما يعتل أي ما عذره وبما يعتذر.
وعلة بمعنى الحال وعليه قول زهير:
إن البخيل ملوم حيث كان ... ولكن الجواد على علاته هرم
أي في سائر حالاته من شدة ورخاء، وأما في الاصطلاح فالعلة الحقيقية حقيقتها: كل ذات أوجبت لغيرها صفة أو حكماً زائدين على الموجود وهي تنقسم:
فمنها ما يوجب صفة وحكماً وهو العلم.
ومنها ما يوجب صفة فقط وهو سائر المعاني الراجعة إلى الجملة والأكوان مما يرجع إلى المحل.
ومنها ما يوجب حكماً فقط وهي الرطوبة واليبوسة والتأليف والاعتماد فأما العلة المقصودة هنا المشبهة بالعلة الحقيقية فحقيقتها الَّتِي تعلق بها أمراً جزء إثباتاً أو نفياً مع كونها ليست بمعنى موجب للمعلق به ومما يتجوزون بإطلاق لفظ العلة عليه السبب كقولهم الافتراق علة في الألم والمقتضي. يقال: الجوهرية علة في التحيز والداعي. يقال: فعل فلان كذا لعلة أي لغرض وداعي، والشرط يقال: زال السواد عن المحل لعلة ويعنون بها البياض وطروه شرط في نفيه لا علة والحلول يقال: حلول السواد علة في تسمية المحل أسود.
واعلم أن الفرق بين العلة الحقيقية والعلة الكاشفة المشبهة بها من وجوه:
الأول: أن العلة الحقيقية تؤثر في معلولها بخلاف الكاشفة.
والثاني: أن المؤثرة من حقها أن تكون أمراً ثابتاً مؤثراً في أمر ثابت بخلاف الكاشفة فقد تكون كذلك كما فيم سألتنا وقد تكون نفياً في نفي كعدم الإرادة فإنه علة في زوال تعلقها وقد تكون إثباتاً في نفي كجعل العلم يقبح القبيح والعلم بالاستغناء عنه علة في ألا يفعله وقد يكون نفياً في إثبات كتعليل كون الضرر ظلماً بكونه لايقع فيه ولادفع ضرر ولا استحقاق.
والثالث: أن المؤثرة لاتكون إلاَّ ذاتاً واحدة تعلق بها حكم أو صفة بخلاف الكاشفة فقد تكون أموراً كثيرة تعلق بها أمر واحد وقد تكون أمراً واحداً تعلق بها أمور كثيرة.
والرابع: أن المؤثرة يجب مقارنتها بخلاف الكاشفة فلا يجب فيها ذلك بل يجوز تقدمها وتأخرها وإنَّما شبهت بالمؤثرة لما ذكره المصنف من حصول الحكم عندها لامحالة وهذا من خصائص المؤثرة.
قوله: (وإن حصل الشبه المتقدم).
يعني من حصول الحكم عندها لامحالة.
قوله: (لئلا يوهم أن صحة الفعل هي المؤثرة في كونه قادراص) يقال: فقد حصل الإيهام في الأولى فهلا امتنعت من تسميتها علة.
والجواب أن الإيهام وإن حصل فيها فهي على ما يتوهم فإن وجوب الحاجة إلى محدث هو لأجل الحدوث ويجب حصول الحاجة لأجله كما يجب عند العلة حصول المعلول فإنه لولا الحدوث لما احتاجت أفعالنا إلينا كما أنَّه لولا العلة لما حصل المعلول بخلاف طلايقة الحكم فلم يحصل فيها خاصته العلة لأنها غير موجبة لكون القادر قادراً بل المر بالعكس كما أشار إليه المصنف وحصل فيها خاصته الطريق لأنها توصل إلى كونه قادراً ويدل عليه فسميت طريقة الحكم وكونه قادراً وإن كان صفة فهو حكم بالمعنى الأعم.
قوله: (وإنما لم تسم علة لمثل ما تقدم) يعني من عدم حصول خاصة العلة فيها من التأثير فإن الأمر بالعكس .
قوله: (ولا سميت طريقة ) إلى آخره. إنَّما كان ذلك مانعاً من تسميتها طريقة لأن به نعرف عدم حصول خاصة الطريق فيها من الاتصال إلى المتطرق إليه في كل حال.
قوله: (لعارض من العوارض) يعني من إكراه أو يوصل إلى نفع أو دفع ضرر أو نحو ذلك فمع عدم الحكمة لايؤمن ذلك ومع حصولها يقع الأمان عنه لأنها تمنع من التلبيس والتغرير.
فإن قيل: إذا لم تشبه العلة ولا الطريقة فلم سميت بما يجري مجرى العلة ولم تسم بما يجري مجرى الطريقة؟
قلنا: أماتسميتها بما يجري مجرى العلة فلحصول شبه أوجب ذلك وهو أن عند وقوع أفعاله تعالى على الوجوه المختلفة يجب ثبوت كونه تعالى مريداً وكذلك من ثبتت عصمته كما يجب عند حصول العلة حصول المعلول ويتوقف ثبوت كونه تعالى مريداً عندنا على ذلك كما يتوقف ثبوت العلة على المعلول، وأما المانع من تسميتها بما يجري مجرى الطريقة فذكر بعضهم أن المانع من ذلك أن الطريق إلى الأمر قد تكون ثابتة ولايتوصل بها أحد إلى المتطرق إليه لعدم الداعي إلى ذلك في كل متطرق إليه ولاكذلك وقوع الفعل على أحد الوجوه المختلفة فإنه يثبت أنَّه تعالى مريد وفي حق المعصوم. انتهى بلفظه، وليس بالواضح.
إذا عرفت هذا فاعلم أن هذه العلل الأربع قد اشتركت في أنَّها علل غير موجبة لما علق بها وأنها كاشفة عما علق بها وقاضية به ويتجوز في الثلث الآخر بما ذكره من تسميتها بعلة الحكم وقد شملها جميعاً الحقيقة الَّتِي ذكرناها للعلة الكاشفة.
تنبيه
اعلم أن الأدلة على صحة هذا الركن الثاني وهو أن المحدث لابد له من محدث كثيرة إن لم تكن معلوماً ضرورة على ما قاله الشيخ أبو القاسم. قيل: ومن أقوى الأدلة ما ذكره بعض مشائخ المعتزلة وبعض الشاعرة وتحريره أن يقال: قد ثبت أن العالم حدث مع الجواز فلا بد من مؤثر فيه إذ لو لم يكن مؤثر لم يكن بأن يحدث أولى من أن لايحدث كطريقتنا في إثبات العراض إما أنَّه حدث مع الجواز فلأنه لو حدث مع الوجوب لم يكن بأن يحدث في وقت أولى من وقت إذ لامخصص فيلزم من ذلك قدمه وقد تقرر حدوثه ولنه لو حدث مع الوجوب لزم أن يكون من جنس واحد فلا يكون مختلف الجناس والصفات ومعلوم اختلافه فإن بعضه جماد وبعضه حيوان والجماد بعضه أرض وبعضه سماء وبعضه جبال والحيوان بعضه فرس وبعضه إنسان ونحو ذلك من الاختلاف فثبت أنَّه حدث مع الجواز ومع حدوثه مع الجواز يعلم أنَّه لابد من مؤثر بأدنى تأمل وإلاَّ لم يكن بالوجود أحق منه باستمرار العدم ثُمَّ لايجوز في المؤثر فيه أن يكون تعالى حياً قديماً أو بتعدد ما لاستلزام قدمه ولامحدثاً إذ الكلام فيه كالكلام في العالم فلم يبق إلاَّ أن المؤثر فيه فاعل مختار على ما سيأتي تلخيصه.
فصل: وأما الركن الثالث وهو أن محدثها لس إلاَّ الفاعل المختار جل وعز
قوله: (لاستحالة تأخر المعلول عن العلة).
يقال: ليس هذا من قبيل العلة والمعلول لأن العلة ذات تؤثر في صفة أو حكم والمؤثر فيه ههنا ذوات فهو بالسبب أشبه والسبب يجوز تراخي أثره ومسببه عنه وقد أشار الفقيه قاسم إلى أن ذلك بالعلل أشبه لأن الأسباب ليس لها تأثير حقيقي إنَّما التأثير فيها للفاعل.
قوله: (لأن ليس بعضها يوجب كون الماء ماء إلى آخره). يعني ليس بعض الموجبات.
وفيه سؤال وهو أن يقال: إنَّما فرضت الكلام في موجب واحد فلم عدلت إلى الكلام على موجبات كثيرة.
والجواب: أن هذا منه رحمه الله التفات إلى مذهب القائلين بالمؤثر الموجب لنهم يجعلونها موجبات كثيرة فالطبائيعية والمطرفية يجعلون التأثير للأصول الربعة والفلاسفة للعقول والأفلاك والباطنية للسابق والتالي ومع فرض أنَّه موجب واحد يكون الكلام أظهر فإنه ليس بأن يوجب كون بعض هذه الأشياء على صفة أولى من العكس.
قوله: (وكذلك الكلام في فقد الشرط) يعني أن الكلام فيه كالكلام في ثبوت المانع لكن ما قيل هناك في ثبوت المانع قيل هنا في فقد الشرط، وجعل فقد الشرط مكانه وجعل الجواز في فقد الشرط بدل الحدوث في المانع.
قوله: (فيقال لهم أي شيء العقول والنفوس).
اعلم أن الفلاسفة يقسمون جائز الوجود إلى جوهر وعرض ويجعلون الجوهر أربعة أنواع فنوع لايكون إلاَّ حالاً وهو الصورة وهو يشمل الصورتين وهما نوع واحد عندهم ونوع لايكون إلامحلاً وهو الهيولى وذلك لأن كل جسم عندهم مركب من ثلاثة جواهر: حل اثنان منهام في الثالث يسمى أحد الحالين صورة جسمية وهي الَّتِي بها صار الجسم متحيزاً والاخر صورة نوعية وهيا لتي بها صار الجسم مختصاً بجهة دون جهة ويسمون المحل هيولى وهو مادة الجسم وأصله وهو قابل للاتصال والانفصال ولحلول الصورتين فيه فالصورتان عندهم نوع والهيولى نوع، والنوعان الثالث والرابع لايكونان حالين ولامحلين فأحدهما له اشتغال بالتدبير والتصرف وهو النفس والآخر ليس كذلك وهو العقل ويريدون بالنفس النفس الناطقة الَّتِي هي ثابتة عندهم للأفلاك وللإنسان والنفس والعقل عندهم لايكونان إلاَّ بسيطين دائماً والجسام إنَّما تتركب من الهيولى والصورة وأما العرض عندهم فهو تسعة أجناس ويسمونها مقولات وهي الكم والكيف والين ومتى والإضافة والملك والوضع والفعل والانفعال فقد بانن بذكر هذه الخرافات مرادهم بالنفس والعقل.
قوله: (وتقريب من هذا يبطل قول الباطنية). يعني لأن مذاهبهم تضاهي مذاهب الفلاسفة لإثباتهم علة قديمة صدر عنها سابق وعن السابق تالي وعن التالي نفس كلية كما أن الفلاسفة أثبتت علة قديمة وصدور عقل عنها فالكلام متقارب وإن اختلفت العبارات.
قوله: (وأما الطبائعية فيبطل قولهم أن الطبع غير معقول).
اعلم أن هذا الوجه يشمل إبطال قول كل قائل بالطبع على اختلاف كلامهم وظاهر كلام أصحابنا أن الطبائعية فرقة واحدة ويحكون عنهم القول بالطبع جملة، وقال الإمام يحيى: زعموا أن الأجسام قديمة وأنها متحركة لذواتها ثُمَّ اتفق في حركاتها أنَّها تصادمت فحصل منها هذا العالم وقالوا: بأن حصول الألوان والأشكال تابع لامتزاج العناصر الأربعة النار والهوى والأرض والماء، وذكر بعض أصحابنا أن الطبائيعية ليست فرقة واحدة بل هم فرقة كثيرة فكل من أثبت الطبع فهو طبائعي فمنهم من جعل العالم صادراً بطبع العلة القديمة وهم بعض الفلاسفة والباطنية والعالم عندهم قديم و.... حادثاً لوجوده من جهة غيره ومنهم من يجعله صادراً بطبع الإلاك وهم المنجمة ومنهم من يجعل الحوادث اليومية كالنبات والمولودات والحياة والموت والآلام حادثة بالطبائع الحاصلة في الأجسام ولاتأثير للقديم فيها أصلاً وهم المطرفية والفرق بينهم وبين من تقدم ذكره أنهم يقرون بحدوث العالم وثبوت الصانع المختار بخلاف من ذكر أولاً من الطبائعية ولهذا قيل المطرفية أسوأ حالاً من الطبائعية الجاحدين للصانع المختار لأنهم اعترفوا بالصانع ثُمَّ أضافوا التأثير إلى غيره والطبائعية لما نفوا الصانع لم يكن لهم بد من إضافة ذلك إلى أمر ما ومن الوجوه الفارقة بينهم أن المطرفية يقولون: الأجسام والأعراض حدثت بالفطرة والتركيب وأن الله تعالى هو الذي فطرها وركبها على أن يكون طبعها وعادتها الكون على ما كانت عليه والطبائعية يضيفون المور كلها إلى الطبع وقد قيل للمطرفية أن الطبع إذا كان موجباً عندكم
فالموجب لايتراخى عن موجبه فالمخلوقات مترتبة في الوجوب شيئاً بعد شيء فكيف تكون حادثة بالطبع ثُمَّ أن الطبع إن كان عندكم قديماً فهو باطل لنه تابع لوجود الجسام وقد ثبت حدوثها وما تفرع على المحدث فهو أولى بالحدوث وإن كان محدثاً، وأما أن يكون محدثه طبعاً فيلزم التسلسل أو فاعلاً مختاراً فيجب أن يقضى بأنه المؤثر في الأجسام والعالم كله فلا تثبت طريق إلى إثبات واسطة.
واعلم أن من المعتزلة من أثبت الطبع وقال به وهم الذين زعموا أن المتولدات حادثة بطبع المحل كما سيأتي، القائلون بأن تركيب الإنسان وغيره من التراكيب الحادثة حاصلة من تركيب الطبائع الأربع مع أن الله قادر على أن يبتدئ الخلقة من غير تركيب وهذا قول الشيخ أبي القاسم البلخي وقد قيل أن الأصل في مقالة المطرفية لأن مطرف بن شهاب قال به أولاً ثُمَّ لم تزل مقالته ومقالة متابعيه من بعده تزداد حتَّى أفضت إلى الأمور الشنيعة في أكثر المسائل.
فإن قيل: قولكم الطبع غير معقول يفيد أنَّه لفظ لامعنى له ومعلوم أنَّه موجود في كلام العرب فيقولون طبع الماء البرودة وطبع النار الحرارة ونحو ذلك كقولهم طبع فلان كذا وطبع فلان كذا وذلك يقضي بأن له معنى.
قلنا: إن الطبع الذي جعلناه غير معقول ولامعنى له وهو ما ينسب إليه التأثير فإن من حق ما ينسب إليه التأثير أن يكون أمراً متميزاً موجوداً فأما الطبع الذي أثبته أهل اللغة فهو وإن كان معقولاً فليس بأمر وجودي بل أمرا عتباري ومعناه العادة والسجية فمرادهم بقولهم طبع فلان كذا أي عادته وسجيته وكذلك فمرادهم بقولهم طبع النار الحرارة أي عاتها أنَّها تكون حارة فإن الأجسام وإن كانت متماثلة فقد أجرى الله العادة بأن يخلق في بعضها الحرارة وفي بعضها البرودة ونحو ذلك وقد تأول كلام أبي القاسم على أن هذا مراده حيث قال بتركيب الحوادث اليومية من طبائع الأجسام وكذلك كلام الجاحظ ومن معه حيث قالوا أن المتولدات حادثة بطبع المحل كما سيأتي.
قوله: (القسمة الأولى بعينها).
يعني في أول الفصل حيث قال لأن ذلك الموجب إن كان محدثاً إلى آخره.
قوله: (وأما أصحاب النجوم).
اعلم أن أصحاب النجوم القائلين بتأثيرها فرقة من الفلاسفة وغيرهم كما تقدم والذي ذهب إليه المسلمون أنَّها جمادات يسخرها الله بأمره ويدبر حركاتها بمشيئته خلقها تعالى حكمه منه لمنافع عبيده ولما فيها من الألطاف لهم فمن منافعها ما ذكره تعالى في القرآن الكريم من كونها زينة للسماء ورجوماً للشياطين المسترقين للسمع وعلامات يهتدى بها.
قوله: (فيبطل قولهم أنَّها غير حية) أي قول من جعلها فاعلة مختارة لن الفاعل المختار لابد أن يكون حياً قادراً فأما قول من جعلها موجبة بالطبع فقد تقدم إبطاله بأنه غير معقول وكفى بالمذهب فساداً ألا يعقل.
واعلم أن كلام المصنف موافق لكلام أبي علي فإنه ذهب إلى أنا نعلم أنَّها غير حية بالعقل فإنا قد علمنا أن الحياة تحتاج إلى رطوبة وهي غير حاصلة فيها لحرارتها كما لايحصل في النار.
قال: ومعلوم أن الشمس أشد حراً من النار ولو قرب أحدنا إليها لأثرت فيه أكثر من تأثير النار ولو بعد أحدنا عن النار لما أثرت فيه كتأثير الشمس فإذا استحال في الشمس أن تكون حية فأولى في سائرها وأما أبو هاشم فقال: لانعلم أنَّها غير حية إلاَّ بالسمع فإنا نعلم ضرورة من الدين أنَّها مسخرة مدبرة غير حية ولا قادرة وأن حركاتها غير اختيارية.
قوله: (ولاستمرار حركاتها على وتيرة واحدة).
يعني مع أنا قد علمنا أن كل حي تصرفه تختلف بحسب اختلاف أغراضه ولا يوجد تصرفه على وتيرة واحدة في اليوم الواحد والليلة الواحدة وإذا كان كذلك علمنا أن استمرار حركات هذه النجوم على وظيفة واحدة على مر الدهور وتوالي الأعوام والشهور هو لأنها مسخرة مدبرة لامتصرفة متخيرة، فأما اختلاف مطالعها ومغاربها في الصيف والشتاء فلا تقدح فيما ذكره المصنف من استمرار حركاتها على وتيرة واحدة فإن ذلك عادة لها مطردة.
قوله: (ولأنها لاتدرك والفعل لايصح إلاَّ من حي). يعني ولو كانت حية لأدركت فإذا لم تدرك عرفنا أنَّها غير حية والفعل لايصح إلاَّ من حي لكنهم لايسلمون أنَّها لاتدرك وبطلان إدراكها ليس بأوضح من بطلان كونها حية.
قوله: (ولأنها إن كانت قديمة لزم قدم العالم). هذا إنَّما يلزم من قال بأنها موجبة منهم فأما من قال بأنها فاعلة مختارة فلا تلزمه.
الكلام في الصفات والأحكام
قوله: (الصفة في اللغة قول الواصف).
لافرق عند أهل اللغة بين الوصف ولاصفة كما لافرق بين الوعد والعدة هكذا قيل وقته نظر فإن بين الوعد والعدة فرقاً يعرفه أهل العربية من حيث أن الوعد مصدر وعد فهو اسم لفعل الواعد وإذا ذكر مع الفعل نحو وعد وعداً أفاد التأكيد فقط والعدة للنوع نحو عدة حسنة وعدة قبيحة.
قوله: (وفي العرف هو الإلزام). قد قيل: أن هذا حقيقته في الشرع.
قوله: (وندب ونحو ذلك) يعني وإباحة وكراهة وصحة وفساد.
واعلم أن حقيقة الحكم على رأي الأصوليين ما استفيد من جهة الشرع أما بنقله عن أصله في العقل وإما بتقريره على حكم العقل على وجه لو صدر منه نقله بدلاً عن إقراره إياه لقبح. فقولهم: ما استفيد من جهة الشرع يخرج الحكام العقلية كالمخالفة والمماثلة ونحو ذلك. وقولهم من جهة الشرع ولم يقولوا من جهة السمع لتشمل الأحكام الشرعية تثبت بسمع من أدلة الشرع أو لا بسمع كالقياس وقولهم أما تنقله عن أصله يعنون كإباحة ذبح البهائم وقولهم أو تقريره على حكم العقل يعنون كتحريم ذبح ما لايؤكل لحمه فإن الشرع في ذلك طابع العقل، وقولهم على وجه لو نقل لصح احتراز مما ورد به الشرع من تحريم الظلم ونحوه فإن هذه لاتكون أحكاماً شرعية لأن الشرع لا يصح أن يرد بخلاف ذلك وأما تحريم ذبح ما لايؤكل لحمه فإنه لو ورد بخلافه لصح.
قوله: (كالمماثلة والمخالفة ونحو ذلك) يعني كالمضادة الحقيقية وتعلق القدرة بالمقدور.
فصل والصفة
قوله: تعلم بين ذات... وبين صفة القادر) فيه نظر والصحيح أن هذا الحكم مما يعلم بين غيرين ذات الفعل وذات القادر فالأولى التمثيل بصحة أن يقدر ويعلم فإنه معلوم بين الحي وبين كونه قادراً عالماً.
فصل والصفة ضربان
قوله: (يستحيل خلافها عند إمكانها).
يعني بذلك أنَّه يستحيل ألا تحصل عند إمكانها وأن صحتها تقترن بوجوبها فلا يجوز تراخي الصحة فيها عن الوجوب فإن الذاتية لما صحت حالة العدم وجبت في تلك الحالة والمقتضاة تنقسم فمنها ما يصح في الأزل فتجب حينئذ كصفاته تعالى المقتضاة عن صفته الذاتية.
ومنها ما لايصح إلاَّ بعد حدوث ما هي صفات له ووجوده وحينئذ تجب كصفات المحدثات المقتضاة عن صفاتها الذاتية فإنها تصح وتجب في حالة واحدة وهي حالة الوجود.
قوله: (أي لاتجب كائنية معينة) يعني لاتجب أن يكون الجوهر في جهة معينة وذلك لأن تحيزه يصحح له كونه في جميع الجهات ولايوجب له كونه في واحدة منها ... إلاَّ الكون ولايستحيل خروجه عن الكائنيات كلها إلاَّ لتضمن التحيز الكون.
تنبيه
نعلم انحصار الصفات في الاوجبة والجائزة بأن نقول: الصفة إما أن يستحيل خلافها عند إمكانها على التعيين أو لا، إن كانت كذلك فهي الواجبة وهي لاتخلو إما أن تجب للذات لاختصاصها بصفة أخرى أو لا إن كانت كذلك فهي المقتضاة وإن لم تكن فهي الذاتية وإن لم يستحل خلافها عند إمكانها على التعيين فهي الجائزة وهي لاتخلو إما أن تثبت لمؤثر علىجهة الإيجاب أو لا، إن كانت كذلك فهي المعنوية وإن لم تكن كذلك فهي الَّتِي بالفاعل.
فصل والأحكام ثلاثة
قوله: (فالمقتضي كأحكام التحيز) أورد رحمه الله للمقتضي من الأحكام مثالين مثالاً للمقتضي عن الصفات المقتضاة وهو أحكام التحيز ومثلها صحة أن يقدر تعالى وصحة أن يعلم وصحة أن يريد فإن هذه أحكام مقتضاة عن صفة له مقتضاة وهي كونه حياً ومثالاً للمقتضي عن الصفات المعنوية وهو صحة أن يريد فإن هذه أحكام مقتضاة عن صفة له مقتضاة وهي كونه حياً.
ومثالاً للمقتضى عن الصفات المعنوية وهو صحة الفعل منا فإنه مقتضى عن كوننا قادرين وأما في حقه تعالى فمقتضى عن صفة مقتضاة.
قوله: (وما شابه هذا من الأحكام) يعني كصحة الأحكام والصحح الصادرة عن كوننا أحياء كصحة كوننا قادرين وصحة كوننا عالمين فهذه أحكام مقتضاة عن صفات معنوية يستدل بها على مقتضاها وللأحكام المقتضاة مثالان آخران لم ينص عليهما فمثال للمقتضاة عن الصفات الذاتية كالمخالفة والمماثلة والصحح الصادرة عن صفته تعالى الذاتية، ومثال للمقتضاة عن الأحكام الَّتِي بالفاعل نحو القبح في الكذب فإنه حكم مقتضى عن حكم بالفاعل وهو كون الكلام كذباً ونحو ذلك.
قوله: (والمعنوي كسكون النفس) هذا حكم معنوي صادر عن معنى يوجب للجملة وهو العلم، فأما الأحكام الصادرة عن المعاني الَّتِي هي تختص المحل فكالمرافعة وصعوبة التفكيك وانغماز المحل ونبوه وإن كان يرد على شيء منها إشكالات ليس هذا موضع ذكرها.
واعلم أن حصر الأحكام هو بأن نقول الأحكام لاتخلو إما أن تكون واجبة أو لا إن كانت واجبة فهي لاتخلو إما أن يكون وجوبها عقيب استحالة أو لا، إن كان وجوبها عقيب استحالة فهي لاتخلو إما أن تكون واقفة على شرط متجدد أو لا إن كانت واقفة على شرط متجدد فهي الأحكام المقتضاة عن صفات المحدثات الذاتية بشرط الوجود كصحة التحيز مثلاً ووجوبه وإن لم تكن كذلك فهي الأحكام الواقفة على مقتض متجدد وهي لاتخلو إما أن يكون مقتضيها واجباً أو لا إن كان مقتضيها واجباً فهي الأحكام المقتضاة عن صفات المحدثات المقتضاة كأحكام التحيز والأحكام الصادرة عن صفات المعاني المقتضاة كالتعليقات والإيجابات وإن لم يكن مقتضيها واجباً فهي لاتخلو إما أن تكون مقتضاة عن مقتض حاصل على سبيل الجواز والحال واحدة والشرط واحد، أو لا، إن كان الول فهي الأحكام المقتضاة عن الصفات المعنوية كصحة الفعل منا وصحة الأحكام وإن لم تكن كذلك فهي الأحكام الصادرة عن الأحكام الَّتِي بالفاعل وإن لم تكن وجوب الحكام عقيب الاستحالة فهي لاتخلو إما أن تكون مقتضاة عن صفة ذاتية من غير شرط أو لا إن كان الول فهي المماثلة والمخالفة وصحة كون الشيء معلوماً وإن لم تكن كذلك فهي الأحكام المقتضاة عن صفته تعالى، المقتضاة نحو صحة الفعل وصحة الأحكام وإن لم تكن الأحكام واجبة فهي جائزة وهي لاتخلو إما أن يكون المؤثر فيها مؤثراً على سبيل الصحة والاختيار أو لا، إن كان الول فهي الأحكام الَّتِي بالفاعل ككون الكلام أمراً وخبراً، وإن لم تكن كذلك فهي الأحكام المعنوية كسكون النفس وانغماز المحل ونحوهما.
قوله: (أما أن يصح العلم بأحدهما دون الآخر وهذا يبطل كون المصحح لكونه معلوماً). إنَّما كان ذلك مبطلاً لما ذكره لأن الذات لاتعلم إلاَّ على المزية الَّتِي أوجبت صحة كونها معلومة فإذا علم أحد الغيرين اللذين اقتضى الحكم كون كل واحد منهما معلوماً دون الاخر فالعلم بذاته تستلزم العلم به على ذلك الحكم ألا ترى أنا إذا علمنا الجوهر علمنا كونه جوهراً وإذا علمنا السواد علمنا كونه سواداً لكون الجوهرية والسوادية هما الموجبتين لصحة كون الجوهر والسواد معلومين فإذا علم إحدى الذاتين اللتين يعلم الحكم الذاتي بينهما دون الخرى تضمن ذلك العلم بالحكم فيكون الحكم قد علم من دون غير ولاما يجري مجراه وذلك يبطل كونه حكماً كما ذكره المصنف.
قوله: (وما عدا ذلك من الذاتيات تابع له) يعني بالحكم هو الأصل في إيجاب صحة كون الذاتين معلومتين وإذا كان للذاتين صفات ذاتية غير الحكم الذاتي فهي تبع للحكم في إيجاب صحة كونهما معلومتين فلا يقال أن الذاتين وإن تلازم العلم بهما لأن المصحح لكونهما معلومين حكم واحد فإن ذلك لايقتضي أن يكونا معلوماً واحداً ولايبطل غيريهما لأن لكل واحدة منهما صفة ذاتية هي الأصل في تصحيح كونها معلومة وفي المخلافة والمماثلة كما ذكره المصنف من بعد في الاعتراض.
قوله: (ولقائل أن يقول أن الحكم إنَّما يكون ذاتيا لذات واحدة لا للذاتين) فيه نظر لأن الحكم إذا لم يعلم إلاَّ بين ذاتين لم يصح جعله ذاتياً لأحدهما دون الأخرى فليس بأن يجعل ذاتياًلهذه أولى من هذه وإنَّما يتأتى هذا إذا كان معلوماً بين غير وما يجري مجراه فإنه بأن يكون ذاتياً للذات أولى.
قوله: (وبالجملة فبينهما تلازم يرجع إلى ماهية الحكم أو دلالته) أي بين العلمين بالذاتين اللتين يثبت الحكم لهما تلازم لأمر يرجع إلى أن من حق الحكم ألا يعلم إلاَّ بين غيرين أو لأمر يرجع إلى أن الحكم إذا علم دل عليهما.
قوله: (يوضحه أن العلم بالمتحيز يلازم العلم بالكون على الجملة).
يعني فلو علمنا صادق مثلاً بوجود متحيز فإنا نعلم وجود كون فيه ونعلم حصوله لذلك المتحيز على سبيل الجملة لا أنا نعلم حصول كون له معين في جهة معينة إلاَّ أن للشيخ الحسن أن يقول: قد يصح العلم بالمتحيز من دون العلم بالكون ولهذا فإن نفاة المعاني إذا علموا متحيزاً لم يحصل لهم علم بالكون فلم يلزم من تلازم العلم بهما في موضع كونهما ليسا بغيرين بخلاف الذاتين اللتين أوجب صحة كونهما معلومتين حكم واحد فإنهما لايعلمان إلاَّ معاً ولايحصل العلم بأحدهما من دون العلم بالخرى إذ الحكم لايعلم إلاَّ بينهما وذلك يخرجهما عن كونهما معلومتين وغيرين كما تقدم ونحو هذا الفرق صح في المتضايفين بل هو أوضح فيهما فإنه يصح العلم بالأب وجده والعلم بالابن وجده وكذلك المالك والمملوك والوديعة والمودع.
قوله: (فلم يدل تلازم العلم بالذات والعلم بصفتها على أنهما معلوم واجب).
يقال: إن ههنا وجهاً في تلازم هذين العلمين غير كونهما معلوماً واحداً وهو أن الذات لاتعلم إلاَّ على الصفة الَّتِي صححت معلوميتها والصفة لاتعلم إلاَّ على الذات بخلاف الذاتين إذا لم يعلما إلاَّ معاً فإن ذلك يقتضي كونهما معلوماً واحداً إذ لاموجب غير ذلك لتلازم العلم بهما.
قوله: (بل لكل واحد من الغيرين ذاتية في حكم المغايرة لذات أخرى) أي صفة ذاتية في حكم المغايرة لصفة الآخر الذاتية وإنَّما جعلها في حكم المغايرة لن المغايرة الحقيقية لاتثبت إلاَّ بين الذوات والمعنى أن الصفتين لو كانتا ذاتين لكانتا متغيرتين.
قوله: (ولهذا لو لم يخلق الله إلاَّ ذاتاً واحدة لصح العلم بها وإن لم يوجد هذا الحكم المذكور) يعني فدل هذا على أن الصفة هي الأصل من حيث أنَّه تعالى إذا خلق ذاتاً واحدة فقط فالحكم لايثبت لها إذ لو ثبت لها لكان قد علم لا بين غيرين ومع ذلك فقد صح كون تلك الذات معلومة وأيضاً فإنه لايصح أن يحصل لها الحكم من دون صفة فتعلم عليه ولايحتاج في العلم بها إلى الصفة فكانت الصفة أقوى في إيجاب هذا الحكم الذي هو صحة كون الذات معلومة من الحكم الذاتي ويكون الحكم تابعاً للصفة لا أنَّها تابعة له كما أشار إليه الشيخ الحسن.
قوله: (كما أن التحيز أخص من صحة كون للجوهر معلوماً قاس الصفة والحكم الذاتيتين على الصفة والحكم المقتضيتين والمعنى أنا لو قدرنا ثبوت حكم ذاتي لكانت الصفة الذاتية أخص منه ومعنى أخص بها أناه الأصل في تصحيح معلومية الذات فإنها مقصورة على الذات والحكم معلوم بينها وبين غيرها من الذوات فهي أخص من الحكم كما أن التحيز الذي هو صفة مقتضاة للجوهر عن الجوهرية أخص بالجوهر من صحة كونه معلوماً مع أنَّه ثابت له ومقتضى عن الجوهرية ودليل أن التحيز أخص أنَّه لايثبت إلاَّ للجوهر وصحة المعلومية تشاركه فيها كل ذات.
قوله: (في الوجه الثاني لأن من حق الاختلاف ألا يختص أحدهما بما اختص به الاخر ولابما يماثله). يعني وههنا قد اختص أحدهما بما اختص به الآخر وهو هذا الحكم الذاتي الثابت لهما فلم يكونا مختلفين.
قوله: (خرجا عن كونهما مثلين أو مختلفين وهو محال) إنَّما كان خروج الذاتين عن كونهما مثلين ومختلفين محالاً لأن كل ذات لابد أن تختص بصفة ذاتية فالذات إذا اختصت بصفة ذاتية فإما أن تكون مشاركة للأخرى في ذاتيتها فهما متماثلتان أو غير مشاركة لها فهما مختلفتان ولاقسم ثالث.
قوله: (فلا يقتضي هذا الحكم تماثلاً ولا اختلافاً). فيه نظر لأنه لم يقتض تماثلاً أو اختلافاً فليس بذاتي إذ اقتضاء التماثل والاختلاف خاصة ما يثبت للذات فأي صفة أو حكم يقتضهما فليس بذاتي.
قوله: (فلا يستقيم قوله أن الذي ثبت لإحدى الذاتين هو الذي ثبت للأخرى) يعني فإنه لم يثبت إلا لذات واحدة فأما الأخرى فإنما اعتبرت في العلم به لا أنه ثابت لها على حد ثبوته للأخرى.
قوله: (فالإشكال أظهر) يعني لأن الصفة لاتعلم على انفرادها ولاتثبت فيها مخالفة ولامماثلة فلا يحال حينئذ عدم اقتضاء الحكم للتماثل والاختلاف وقد اعترض الوجه الثاني بوجه آخر غير ما أورده المصنف وهو أن قيل إنك قد اشترطت في المخالفة ألا تثبت لإحدى الذاتين ما يثبت للأخرى ولا ما تماثله فهلا اعتبرت في المماثلة أن تثبت لإحدى الذاتين ما تثبت للأخرى أو ما يماثله لأن المماثلة نقيض المخالفة وإذا كان كذلك لم يلزم ما ذكرته من ألا يكونا مثلين ولامختلفيت بل يكونان مثلين لأنه قد ثبت لأحدهما ماثبت للآخر إلا أن للشيخ الحسن أن يقول إني اعتبرت في المخالفة ألا تثبت لإحدى الذاتين ما ثبت للأخرى لامن حيث أن ثبوته للأخرى نقيض المماثلة أو أن ذلك شرط في المخالفة بين الغيرين فيشترط في المماثلة عكسه بل لأنه إذا ثبت لأحدهما ما ثبت للأخرى اقتضى كونهما معلوماً واحداً وأخرجهما عن كونهما معلومين ومع كونهما معلوماً واحداً لا مخالفة وفيه رجوع إلى الوجه الأول.
تنبيه
اعلم أن إبطال الشيخ الحسن للحكم الذاتي ليس مصروفاً إلى حكم معين وإنما هو كلام على أنه لايصح أن يكون في الأحكام ذاتي ومنع من صحة ذلك وإن كان لانزاع في حكم معين ولا قائل بأن شيئاً من الأحكام ذاتي والمصنف لم يقصد باعتراضه لاستدلال الشيخ بصحيح كون حكم معين ذاتياً فإنه لاشيء من الأحكام يشتبه الحال في كونه ذاتياً إلا أن يقال صحة الصفة الذاتية أو وجوبها، وقد قال الشيخ الحسن ما معناه: إن صحة الصفة الذاتية وجوبها كالكيفيتين لها إذ لايعقلان ولايثبتان من دونها بل يثبتان معاً لها ولايكون لها ثبوت ولا حكم بانفرادهما فهما كالصفة مع الذات فكما أن الصفة لايحكم لها بما يحكم به للذات من الوجود وكيفيته فكذلك حكم الصفة معها لاحكم له بما يحكم به لها ولايلزم من ثبوت كيفية لها ثبوت كيفية له فلا يكون حكم الصفة ذاتياً إذا كانت ذاتية.
فصل
قوله: (قد عرفت بما سلف أن الصفات أربع). يعني في الفصل الذي قسم فيه الصفات إلى واجبة وجائزة والواجبة إلى ذاتية ومقتضاة والجائزة إلى معنوية وبالفاعل فإنه يعرف منه أن الصفات أربع ذاتية ومقتضاة ومعنوية وبالفاعل.
قوله: (وأن الذوات ثلاثة) هذا عرف مما سلف متقداً من تقسيم الذوات.
قوله: (كالهيئة مثلاً) هذا مثل للصفة المقتضاة عن الذات الثابتة للأعراض على سبيل الجملة والهيئة صفة اللون المقتضاة التي بها يتضاد الألوان فيما بينها ولأجلها يصح إدراكها ولم يقصد بها اللتي يثبت لأجلها التعلق والإيجاب فإن الألوان لا توجب ولاتتعلق وإنما توجب لمن اختصت به التعلق والإيجاب والتضاد من صفات الأعراض صفة العلم المقتضاة ونحوه ولا صفة مقتضاة من صفات أجناس الأعراض تقتضي صحة الإدراك والتضاد والتعلق مقابل ما اقتضى مناه التعلق والإيجاب لم يقتض صحة الإدراك، وما اقتضى صحة الإدراك لم يقتض التعلق والإيجاب.
تنبيه
سائر ما ذكره المصنف في هذا الفصل واضح وصحيح على قواعدهم ونحن نلحق به الكلام في فائدتين إحداهما في ذكر خواص كل واحد من هذه الصفات الأربع والثانية في ذكر الأحكام التي توجبها الذاتية والمقتضاة.
أما الفائدة الأولى
فاعلم أن خواص الصفة الذاتية خمس:
الأولى: أنها ثابتة للمحدثات في حالتي الوجود والعدم وسيأتي بيان ذلك.
الثانية: أنها لاتفتقر في ثبوتها للذات إلى التي تؤثر ولاما يجري مجراه.
الثالثة: أنه لايجوز استحقاق جنسها ومثيلها مع الجواز.
الرابعة: أنه لايجوز استحقاق الذات الواحدة لأكثر من صفة ذاتية واحدة.
الخامسة: أن الموصوف بها يستحيل خروجه عنها على سبيل الإطلاق.
وخواص الصفة المقتضاة أيضاً خمس:
الأولى: أنها ثابتة على سبيل الوجوب ومع ذلك يجوز استحقاق جنسها وقبلها مع الجواز.
الثانية: أنها لاتحتاج في ثبوتها إلى مؤثر خارج عن الذات قط.
الثالثة: أنها تنقسم إلى ما يستحيل تجدده وزواله في حالة بقاء الموصوف به وهو ما كان منها مقتضى عن صفة ذاتية كصافته تعالى المقتضاة ما خلا كونه مدركاً والتحيز وصفات الأعراض المقتضاة وإلى ما يصح تجدده وزوال في حالة بقاء الموصوف به وهو ما كان منها مقتضى عن صفة معنوية أو مقتضاة كالمدركية في حقنا وحقه تعالى.
الرابعة: أن قبليته ينقسم إلى ما يجب عقيب استحالة وإلى ما يجب لابعد استحالة فالأول ما كان مشروطاً بشرط متجدد كالتحيز وصفات الأعراض المقتضاة، والثاني ما لايقف على شرط متجدد ولامقتض متحدد كصفات الباري تعالى الأربع المقتضاة عن صفة ذاته تعالى.
الخامسة: أن مجرد الذات غير كاف في ثبوتها ولايحتاج في ثبوتها إلى مؤثر حقيقي.
وخواص الصفة المعنوية خمس أيضا:
الأولى: أنها ثابتة على سبيل الجواز والحال واحدة والشرط واحد.
الثانية: أنه لايستحقها إلا ما يجوز عليه البقاء.
الثالثة: أن من حقها أن يكون المؤثر في صحتها أمراً زائداً على المؤثر في وجوبها.
الرابعة: أنه لايجوز ثبوتها إلا للمتحيزات.
الخامسة: أنه يجوز تجددها للذات وزوالها عنها في حال بقائها هكذا ذكروا. وفي الخاصة الرابعة نظر على قاعدتهم في أن كونه تعالى مريداً وكارهاً صفتين معنويتين.
وخواص الصفة التي بالفاعل خمس أيضاً:
الأولى: أنها تستحق على سبي الجواز من غير حال وشرط.
الثانية: أن من حقها أن تتقدم جوازها على حصولها.
الثالثة: أنه يستحيل خروج الموصوف عن كل صفة منها معينة اتصف بها ما دام باقياص.
الرابعة: أنه يستحيل تجدد كل عين من أعيانها حال البقاء.
الخامسة: أنها ليست إلا صفة واحدة في حكم المتماثلة في سائر الذوات.
وأما الفائدة الثانية
فالأحكام التي توجبها الصفة الذاتية المماثلة والمخالفة، واعلم أن إيجابها للماثلة يحتمل وجوهاً:
أحدها: أن توجب المماثلة للذات المختصة بها ولما يماثلها ويكون الحكم الصادر عنها ثابتاً للذاتين كليهما.
وثانيهما: أن تكون صفة هذه الذات موجبة للحكم الذي هو المماثلة للذات المختصة بها فقط وصفة تلك الذات توجب المماثلة لها فقط.
وثالثها: أن تكون موجبة للحكم الذي هو المماثلة للذات المختصة بها فقط بشرط ثبوت ذات أخرى واختصاصها بصفة في حكم المماثلة لها وصفة تلك الذات الأخرى كذلك أيضاً، والكلام في إيجابها للمخالفة واحتمال هذه الوجوه كالكلام في إيجابها للمماثلة ذكر هذا التفصيل بعض أصحابنا.
وتوجب الصفة الذاتية أيضاً صحة كون الشيء معلوماً وصحة وجوده في نفسه عند المتأخرين وذلك أنهم يثبتون للمقدور صحتين صحة وجوده في نفسه وهي مقتضاة عن صفة ذاتية وصحة وجوده من جهة القادر عليه وهي مقتضاة عن كونه قادراً فأما المتقدمون فلا يثبتون إلا صحة وجوده من جهة القادر عليه وتوجب أيضاً صحة الصفة المقتضاة ووجوبها بشرط الوجود.
والأحكام التي توجبها الصفة المقتضاة الإيجاب فيما يوجب، والتضاد في المتضادات، وصحة الإدراك في المدركات، وصحة البقاء في الباقيات، والتعلق في المتعلقات، والحلول على سبيل الجملة فيما يحل.
فصل
والذي يدل على أن للجوهر بكونه جوهراً حالاً وجوه ثلاثة:
قوله: (واعترضه أصحاب أبي الحسين بأنهما اشتركا في أمر جملي).
اعلم أن أصحابنا جميعاً يطلقون على صحة كون الشيء معلوماً أنه حكم جملي لعدم اختصاً ذات به دون أخرى ولهذا لايقتضي تماثلاً ولا اختلافاً وتشترك فيه الذوات المتماثلة والمختلفة.
قوله: (لايصح لوجهين أحدهما أن أنفسهما تصح كونها معلومة) إلى آ×ره.
تلخيص هذا الوجه أن جعلكم لذلك الافتراق افتراقاً في أنفسهما وليس بافتراق في أمر زائد لايصح لأن أنفسهما أي نفسي الجوهر والسواد يصح كونهما معلومين على الانفراد إذ المراد بالنفس ههنا الذات ونحن علمنا افتراقهما في أمر لايعلم على انفراده وهو كون أحدهما جوهراً والآخر سواداً وكون الشيء جوهراً وسواداً مما لايعلم على انفراده بل يعلم تبعاً للذات فلا يعلم كون الشيء جوهراً إلا بعد أن يعلم ذات ذلك الشيء، وكذلك لايعلم كون الشيء سواداً إلا بعد أن يعلم ذلك الشيء، فكيف يرجع بافتراقهما فيما لايعلم على انفراده إلى افتراقهما فيما يعلم على انفراده.
قوله: (الثاني أه قد تعقل ذات الجوهر والسواد من لايعقل كونه جوهراً وسوادا).
تلخيص هذا الوجه: أن القول بكون التفرقة الحاصلة بكون إحدى الذاتين جوهراً والأخرى سواداً راجعة إلى نفس الجوهر والسواد غير صحيح بل رجوعها إلى كون أحدهما جوهراً والآخر سواداً ويجب كونهما مرتبتين إذ لو كانت تلك التفرقة راجعة إلى نفس الجوهر والسواد للزم فيمن عقل ذات الجوهر حين شاهدها أن يعلم كونها جوهراً إذ المرجع بكونه جوهراً إلى نفس الجوهر وقد عقل نفس الجوهر وعلمه، ونحو هذا في السواد ومعلوم أنه يدرك الجوهر ويعقله من لايعقل معنى كونه جوهراً ولا يميزه هذا حال أكثر الناس وكذلك كون الذات سواداً. فعلمنا حينئذ أن كون الجوهر جوهراً مزية زائدة على الذات فقد تعقلها من يعقل الجوهر وقد لايعقلها وكذلك كون السواد سواداً.
قوله: (لأن كون الصفة صفة هو من توابع تجردها). يعني فلأجل ذلك تأخر العلم بكونها صفة عن العلم بمجردها بخلاف علمنا بأن الجوهر ذات فإنه متقدم على العلم بكونه جوهراً إذ كونه جوهراً من توابع الذات لا أن الذات من توابع كونه جوهراً فكان الافتراق ههنا بعد الاشتراك والاشتراك هناك بعد الافتراق وإذا كان الافتراق قبل الاشتراك لم يجب تعليله فإنهم لم يوجبوا إلا تعليل الافتراق بعد الاشتراك لا عكسه على ما سيأتي كاشتراك الجملتين في كونهما حيين وافتراقهما في أن أحدهما يصح منها الفعل والأخرى ليس كذلك.
قوله: (اولمراد قبلية الدهر لا قبلية الزمان) يعني فالذهن يقضي بأن الافتراق بين الصفتين في كون أحدهما جوهرية والأخرى سوادية متقدم على اشتراكها في كونهما صفتين لا أن ههنا تقدماً في الزمان فإن ثبوت كونهما صفتين وكون أحدهما جوهرية والأخرى سوادية حاصل في حالة واحدة وهي فيما لم يزل على رأي الجمهور وكذلك فكون الجوهر ذاتاً متقدم في الذهن على كونه جوهراً لا أن ثم تقدماً في الزمان.
قوله: (لأنا قد نعلمه ذاتاً ولانعلمه جوهراً). يعني فلو كان العلم بكونه جوهراً علماً بذات الجوهر لكان العلم بذات الجوهر علماً بكونه جوهراً ولو كان كذلك لزم فيمن علم ذاته أن يعلم كونه جوهراً وقد تقدم قريباً أنه قد يشاهده ويعلمه من لايعلم كونه جوهراً بل لو أخبرنا صادق أن الله تعالى قد أوجد ذاتاً وتلك الذات جوهر في نفس الأمر فإنا قد علمنا ذات الجوهر وتعلق علمنا بها ولم نعلم كونها جوهراً ولاتعلق علمنا بذلك.
قوله: (لأن كونه جوهراً واجب) يعني فكيف يكون معنى كونه جوهراً ثبوت معنى له يتعلق به علمنا بكونه جوهراً مع أن كونه جوهراً واجب له بكل حال فلا يصح ألا يكون جوهراً وثبوت المعنى له غير واجب بل إيجاده واقف على اختيار الفاعل وهذا الوجه يذكر في إبطال أن يكون كونه جوهراً صفة معنوية فيقال إن كونه جوهراً واجب ولو كان صفة معنوية لكانت حافزة.
قوله: (ولأن ذلك المعنى لايختص به إلا بأن يحله ولايحله إلا بعد أن يتحيز ولايتحيز إلا بعد كونه جوهراً).
يعني فكيف يكون كون الجوهر جوهراً نفس المعنى الاحصل للجوهر مع أنه لايحصل له ويحله إلا بعد كونه جوهراً.
قوله: (لأنا نعلم المفارقة بين الجوهر وغيره من دون اعتبار غير ولا ما يجري مجراه).
يقال: هذه مناقضة لأنك قلت نعلم المفارقة بين الجوهر وغيره، ثم قلت: من دون اعتبار غير. والجواب: أن مراده بالتفرقة هي كون الجوهر جوهراً لما تقدم من أنه شارك اللون في كونه ذاتاً وفارقة بكونه جهراً فكونه جوهراً هو الذي يفارق به اللون في نفس الأمر وليس بحكم يعلم بينه وبين اللون ولو كان حكماً للزم عند العلم به العلم بغير معين كما في المماثلة فإنا لانعلم أن هذه الذات مماثلة إلا مع علمنا بغير معين يسد مسدها فيما يكشف عن الصفة لاذاتية على التفصيل.
قوله: (لأن كيفية الصفة تابعة للصفة) يعني فلا يجوز أن يكون كونه جوهراً كيفية صفة من دون صفة تثبت لها تلك الكيفية لأن الكيفيات تتبع الصفات فمتى اعترف الخصم بثبوت كيفية لزمه الاعتراف بصفة تثبت الكيفية لها وهو الغرض المقصود.
قوله: (كالحدوث والعدم) يعني فإنهما لما كانا من كيفيات الوجود كانا تابعين له فأينما ثبت العدم أو الحدوث كان الوجود ثابتاً فلا يثبت القدم ولا الحدوث للمعدوم لانتفاء الصفة التي هما تابعان لها عنه.
قوله: (أو كونه سواداً) يعني حيث يكون الخبر الثاني أن تلك الذات سواد.
قوله: (لن كونها ذاتاً موجودة ليس هو صحة العلم بها على انفرادها) يعني والذي علمناه أولاً هو أن هنا ذاتاً موجودة فقط فكيف يقولون أنه تعلق بأنها يصح العلم بها على انفرادها مع أن صحة العلم بها على انفرادها ليس هو كونها ذاتاً موجودة بل هو حكم يكشف عن كون المختص به ذاتاً لا صفة فإن الصفة لايصح العلم بها على انفرادها، وإذا كان صحة العلم بها على انفرادها حكماً تابعاً لكونها ذاتاً لا أنه كونها ذاتاً فكيف يكون العلم بكونه ذاتاً علماً به إلا أن لهم أن يقولوا أنا عند علمنا بالمتبوع بعلم التابع فعند أن أخبرنا بوجود ذات علمنا أنه يصح العلم بها على انفرادها لما كان من حق كل ذات أن يصح العلم بها على انفرادها.
قوله: (وكونها موجودة ليس هو كونها ذاتاً). يعني فكيف تفيد الأخبار بوجود ذات العلم بكونها ذاتاً مع أن كونها ذاتاً ليس هو كونها موجودة.
قوله: (وإن لم يعلم ذاتاً أخرى يخالفها الجوهر) تقريره أن يقال: إذا قلتم أن متعلق هذا العلم أنه ذات يخالف السواد أو غيره من الذوات مع تقدير أنا لم نعلم ذاتاً غير الجوهر إما بأن نذهب إلى أن هذه الذوات صفات أو أنها لا ذوات ولا صفات ولايخطر لنا ذكرها في تلك الحال على بال لزمكم ألايكون علمنا ثابتاً قد تعلق بغير ما تعلق به علمنا أولا.
قوله: (لأن صحة إدراكه بحاستين يعتبر فيه الإدراك والحاستين) إلى آخره.
تلخيصه أن جعلهم للمخالفة بين الجوهر والسواد راجعة إلى أن الجوهر يدرك باحستين والسواد هيئة تجمع الشعاع ومعلوم أن العلم بهذه الأمور غير معتبر في العلم بأن الجوهر يخالف السواد فدل على أنه ليس معنى المخالفة راجعاً إلى ذلك وكان يلزم أيضاً على قولهم ألا يصح العلم بأن الجوهر يدرك بحاستين إلا مع العلم بالسواد لأن معنى كونه مدركاً بحاستين أنه مخالف للسواد والعلم بأن هذه الذات مخالفة لتلك لايثبت إلا مع العلم بتلك الذات الأخرى فكان يلزم على هذا أن يعتبر في العلم بأن الجوهر يدرك بحاستين العلم بالسواد ومعلوم أنه غير معتبر فإنه تعالى لو خلق جوهراً ولم يخلق سواداً لعلمنا إدراكه للسواد إلا مع علمنا بالسواد ونحو هذا يجري الكلام في أن معنى مخالفة السواد للجوهر أنه يئة تجمع الشعاع.
قوله: (إذ المرجع به إلى أنه لايسد مسده عندنا والمرجع به إلى أنه ليس كالسواد عندهم).
يقال: وما الفرق بين الكلامين؟ والجواب: أن الفرق يعرف من تتمة كلام الجمهور التي لم يذكرها المصنف وهو أنه لايسد مسده فيما يكشف عن الصفة الذاتية على التفصيل وهم لايثبتون صفة ذاتية ولاكاشفاً عنها.
قوله: (فليست أيضاً هي كونه جوهراً لمثل ما تقدم) يعني فيبطل قولهم أن علمنا بكونه جوهراً علم بأنه مما يصح إدراكه بحاستين.
وقوله: (لمثل ما تقدم) يعني من أن العلم بكونه جوهرا لايعتبر فيه الإدراك بحاستين بل نعلم جوهراً وإن لم يخطر على بال العالم بكونه جوهراً أنه يدرك بحاستين وصحة إدراكه بحاستين يعتبر فيه ذلك.
قوله: (ومعلوم أن صحة إدراكه بحاستين ومخالفته لغيره ونحو ذلك مزايا). يعني فكيف فسرتم ما هو عندكم نفس الذات بمزايا لها وأشار بنحو ذلك إلى مخالفته للبياض ومماثلته لجوهر آخر والمزية تعم الصفة والحكم وأراد بكونها مزايا أنها أحكام فصحة الإدراك بحاستين من أحكام التحيز والمخالفة من أحكام الصفة الذاتية.
قوله: (يوضحه أنهم فسروا كونه جوهراً بهذه الأشياء ولم يفسروه بكونه ذاتاً). هذا كلام فيه التباس وركة وإذا جعل راجعاً إلى ما يتصل به من الكلام لم يستقم فإن ظاهره أن المراد توضيح ما ذكرنا من أن عندهم أن كونه جوهراً هو نفس ذاته وليس كذلك فإنما ذكره يوضح أنه ليس عندهم نفس ذاته حيث فسروه بمزايا والذي يتقوم به الكلام أن يكون مراده توضيح ما يقوله من أن كونه جوهراً أمر زائد على الذات ومزية ثابتة لها، وأن علمنا ثابتاً بكونه جوهراً قد تعلق بغير ما تعلق به علمنا أولا بنفس الذات أنهم فسروا كونه جوهراً بصحة إدراكه بحاستين وهو مزية ولم يفسروه بنفس الذات على ما يذهبون إليه فدل على أنه أمر زائد على الذات، لكن رد الضمير في توضحه إلى ما ذكر فيه بعد ورجوع إلى كلام قد مضى ووانقضى وتعقبه كلام طويل ثم ما معنى قوله: ولابكونه جوهراً فإنه يكون المعنى يوضحه أنهم لم يفسروا كونه جوهراً بكونه جوهراً وكيف تفسير الشيء بنفسه فالكلام محتل ولعل فيه سهواً وأن أصله ولا فسروا كونه ذاتاً لكونه جوهراً.
قوله: (وأشف ما أوردوه في إبطال هذه المسألة ونظائرها) أي وأقوى ما أدلوا به في إبطال هذه المسألة التي هي إثبات الجوهرية وكذلك سائر ذاتيات الذوات ونظائرها من إثبات التحيز صفة مقتضاة وسائر المقتضيات وكذلك الوجود والكائنية على ما سيأتي.
قوله: (لم يجز أن نعلم وجودها وكوناه ذاتاً إلا تبعاً للعلم بمجردها) يعني ونحن قد علمنا كونها ذاتاً ووجودها بالخبر الأول فيكون علمنا بمجردها قد حصل في الخبر الأول فلا يقال أن العلم لاذي حصل بالخبر الثاني هو العلم بمجردها كما قاله في الصفة علمنا مجردها بالخبر الأول وعلمنا بالثاني غير ما علمناه بالخبر الأول.
قوله: (عن بعض لوازمها وتوابعها المضافة إلى الذات) يعني من كونها ثابتة للذات ومزية لها ولازمة لها فإن كونها صفة ثابتة من لوازم مجردها أيم جرد الصفة المضافة إلى الذات لا كيفيتها بل يلزم من مجردها سواء كانت ذاتية أو مقتضاة أو معنوية أ, جائزة أو ذاتية أو مقتضاة أو غير ذلك فإنا لانعلمها عند الإخبار بأن ههنا صفة.
قوله: (وجائز أن يعلم بعض لوازم الصفة وإن لم يعلم مجردها).
يعني بخلاف الذوات فإنه لايجوز أن تعلم لوازمها ومزاياها قبلها إذ هي لاتستقل بالمعلومية ولاتعلم إلا تبعاً لها فأما لوازم الصفة فتعلم قبلها ويكون العلم بها تبعاً للعلم بالذات لا العلم بمجرد الصفة.
قوله: (كالوجود) يعني فإنه ليس بصفة مشتملة على جنس وفصل بخلاف الكائنية فإنها جنس ولها أنواع كالمتحركية والسكونية ونحوهما.
قوله: (فلا بد أن يحصل خبره الثاني في هذه الصورة غير ما حصل أولا من التوابع واللوازم).
يعني فإذا قال أولا هان صفة فالعلم يحصل بلوازمها المضافة إلى الذات، فإذا قال: هي كائنية حصل علم آخر بتوابع ولوازم للصفة التي هذه سبيلها وإن لم تكن تلك اللوازم مضافة إلى الذات وهي أن ههنا صفة تتركب من جنس وفصل وتشتمل على أنواع وتنقسم إلى أقسام كثيرة ولا يكون العلم بمجردها حاصلاً إلا بخبر ثالث أما بأنها متحركية أو ساكنية، فأما الوجود فيحصل بالخبر الثاني والعلم بمجرد الصفة وبشيء من لوازمها وهو أنها حقيقة مفردة لاتتركب من جنس وفصل ولا تتنوع إلى أنواع وضروب.
قوله: (ولكن يعلمها بالأول جملة وبالثاني تفصيلاً) يعني يعلم بالخبر الأول أنها ذات وهذا علم جملي إذ لايفيد إلا أنها من جملة الذوات وبالثاني أنها جوهر مثلاً وهو تفصيلي إذ قد علمها مفصلة وميزها عن غيرها من الأجناس، وإن كان علماً جملياً أيضاً من وجه وهو بالنظر إلى أنه لم يعلم به ذلك الجوهر بعينه بل علم به أنه من جملة الجواهر وعلى نحو هذا يجري الكلام في الصفة.
قوله: (على أنه فرق من وراء اتفاقهما فيما جعلتموه دليلاً على ثبوت المزية).
حاصله: أن الذي جعلتموه دليلاً على ثبوت المزية في حق الذات وهو أن علمنا ثانياً قد تعلق بغير ما تعلق به علمنا أولاً حاصل في الصفة فإن علمنا ثانياً قد تعلق بغير ما تعلق به علمنا أولا فيجب ثبوت المدلول فيها كما ثبت في الذات وفرقكم بأن العلم الول في الصفة متعلق بلوازمها فرق من وه آخر غير ما وقع الاتفاق فيه بين الذات والصفة من تعلق العلم ثانياً بغير ما تعلق به أولاً لكنه يقال: لو صح ذلك الفرق ووضح لم يقدح فيه ما ذكره المصنف من كونه فرقاً من وراء اتفاقهما بل يكون فرقاً ثانياً يستقيم به الدليل وينتفي به المعارضة.
قوله: (وقولكم بتسلسل اللوازم في الحقائق المركبة) يعني حيث جعل الشيخ الحسن الخبر الأول مفيداً للعلم بلوازم الصفة المركبة المضافة إلى الذات، والخبر الثاني مفيداً للعلم بلوازمها الراجعة إليها من كونها مركبة مشتملة على جنس وفصل ومتنوعة إلى أنواع كثيرة.
قوله: (حاصل في الحقائق المفردة). يعني فإنه يمكن أن يقال فيها والخبر الثاني متعلق بلوازم أخر غير اللوازم التي أفادها الخبر الول من كونها حقيقة مفردة غير متركبة من جنس وفصل ولامتنوعة وبالجملة فقد أفاد الخبر الثاني فيها غير ما أفاده الأول كما في الذات والصفات المركبة.
قوله: (إلا ويمكن تركيبه من جنس وفصل) يعني فالوجود وإن كان من الحقائق المجردة فتركيبه من جنس وفصل ممكن. فيقال في حده: الصفة التي يظهر عندها الصفات والأحكام المقتضاة عن الصفة الذاتية فقولنا الصفة جنس وتتمة الحد فصل.
قوله: (ويفصلها عما عداها نوعها وقبيلها).
اعلم أنه كثيراً ما يجري في كتب المتكلمين ذكر الجنس والنوع والقبيل في المعاني والصفات وذكرها في الصفات تبع لذكرها في الذوات فلنبينها واحداً واحداً ليكون ذلك قاعدة نبني عليها فهم ما يجري ذكره فيها.
أما الجنس فلهم فيه اصطلاحان، الأول: أنهم يطلقونه على المتماثل والمختلف والمتضاد وعلى المتماثل والمتضاد وعلى المتماثل والمختلف، فالأول: كالاعتقادات والثاني كالألوان، والثالث كالاعتمادات. الاصطلاح الثاني: أنهم يستعملونه فيما يشتمل على المتماثل فقط فيقولون: الحياة جنس والتأليف جنس والألم جنس وهذا الاصطلاح الثاني أكثر في الاستعمال.
وأما النوع فيستعملونه في المختلف فقط فيقولون القدرة نوع لما كانت جميع القدر مختلفة وقد يستعملونه في البعض مما اشتمل عليه جنس مخصوص فيقولون: الحركة نوع من جنس الأكوان.
وأما القبيل فيستعملونه في كل ما عد قسماً على حدة من الأعراض وإن اشتمل على المتماثل والمتضاد كالألوان والأكوان أو على المختلف والمتماثل كالاعتماد أو على التماثل فقط كالحياة أو على المختلف فقط كالقدر والصفات تجري على هذا القياس هذا ما فهمناه من صاطلاحهم بعد استقراء ما ذكروه وما يجري في أثناء كلامهم وقد صرح الشيخ الحسن في الكيفية بأن النوع من الصفات ما كان مختلفاً كالقادرية وأن الجنس منها ما كان متماثلاً كالحيية.
قوله: (وهلم جرا) هذه كلمة تستعمل في معنى الاستمرار وعدم الاقتصار، وهلم: اسم فعل بمعنى أقبل. قال الله تعالى: {هلم إلينا}. وجراً: مصدر منتصب على أنه مفعول مطلق. وفي بعض حواشي الصحاح أن جرا اسم مقصور لاتنوين فيه ولامد، أصل معنى جرا أن يترك الإبل والبقر ترعى وهي تسير من دون قصر لها. قال بعض أهل اللغة: معنى هلم جرا سيروا على هيئتكم فلا تشقوا على أنفسكم وركابكم ثم استعملت في هذا المعنى وهو عدم الاقتصار على غاية ومنع الحصر. قال الجوهري: يقول كان ذلك عام كذا وهلم جرا إلى اليوم.
قوله: (على هذا المنوال) يقال لقوم إذا استوت أخلاقهم هم على منوال واحد، والمنوال في الأصل الخشبة التي يلف الحابك ثوبه الذي ينسجه عليها قليلاً قليلاً ليتمكن من نسج البقية.
قوله: (في أن كل خبر خاص يفيد لازماً من لوازم ما أفاده العام). الخبر العام كالخبار بأن هنا ذاتاً والخبر الخاص نحو أن تلك الذات جوهر وفي الصفة الخبر العام أن هنا صفة والخاص نحو هي جوهرية والذي يفيده الخاص في الإخبار عن الذات أن لها صفة هي الجوهرية وفي الإخبار عن الصفة أنها ذاتية وأنها لاتثبت إلا للجوهر وأنها تقتضي التحيز ونحو ذلك.
فصل
وقريب مما تقدم الاستدلال على أن للجوهر بكونه متحيزاً حالا وبكونه موجوداً فنقول فيه: لو أخبرنا مخبر بأن ههنا ذاتاً ثم أخبرنا بأنها متحيزة أو موجودة فقد تعلق علمنا ثانياً بغير ما تعلق به أولاً إلى آخر الدلالة.
قوله: (وإن كان الكلام في هذا الفصل آكد من حيث قد ثبت أن المعدوم شيء). يعني فإذا كان في حال العدم شيئاً وذاتاً وعرفنا حصول التحيز والوجود من بعد ذلك وتجددهما عليه لم يمكن أن يقال هما نفس الذات لأن نفس الذات ثابتة حال العدم والتحيز والوجود تجدد من بعد ولأنه لابد من أمر تعلق به قادرية القادر الموجد بخلاف الجوهرية ولعله لو سلم الخصم أن المعدوم ذات لسلم أن التحيز صفة بخلاف الجوهرية فإنه لو اعترف بثبوت المعدوم شيئاً لأمكنه أن يبقى على منازعته في كونها صفة.
قوله: (لنا أن التحيز واجب والوجود جائز).
اعلم أن أبا إسحاق مع جعله لهما صفة واحدة لابد له من القول بأنها جائزة ثابتة بالفاعل، وإن ينازع في كون التحيز واجباً فاستدلال المصنف فيه نظر فإنه إنما يثبت أنه واجب إذا ثبت أنه غير الوجود فحينئذ نقول: قد ثبت استحالة ألا يكون الجسم متحيزاً مع وجوده فدل على وجوب التحيز له.
قوله: (فالجوهر يضاد الفناء بشرط الوجود) أي وجود الجوهر والفناء ودليل شرطية الوجود أن الجوهر في حال عدمه لاينفيه الفناء ولايضاده ولاينفي الفناء ولايضاده.
قوله: (والتضاد مقتضى عن التحيز). الدليل على ذلك أن الفناء قد ثبت مضادته للجوهر على ما سيأتي فلا يخلو إما أن يضاده لمجرد الذات أو لوجوده أو لحدوثه أو لحدوثه على وجه أو لمعنى أ, لذاته أو للتحيز على ما نقوله، والأول باطل وإلا لزم مضادة الفناء لكل ذات وفي حالة العدم، والثاني باطل للزوم مضادته لكل موجود وهو محال، والثالث باطل للزوم مضادته لكل محدث وألا يضاده حال البقاء ومعلوم أن نفيه للجوهر يكون حال البقاء، والرابع باطل لأنه لاوجه معقول ويقتضي ألا يضاده حال البقاء، والخامس باطل لأن مضادته له واجبة، وما كان لمعنى فهو جائز ويلزم إذا لم يوجد ذلك المعنى إلا متنافياً، والسادس باطل للزوم المضادة حال العدم ومضادته له حال العدم محال فلم يبق إلا أنه يضاده للتحيز الحاصل حال الوجود.
قوله: (لكان الشيء شرطاً في نفسه) كان الولى أن يقول لكان الشيء شرطاً في اقتضائه نفسه لما يقتضيه قوله لتماثل الوجود أي لكونه في حكم المتماثل إلا أنه مع جعله لوجود الجوهر نفس التحيز لانسلم تماثل الوجود لكن الدليل قائم على تماثل الوجود وهو اشتراك صفات الوجود في أخص أحكامها وهو ظهور الصفات المقتضاة عن صفة الذات عندها.
فصل
والذي يدل على أن له بكونه كائناً حالا أنه يستحيل كونه في جهتين في حالة واحدة ولاوجه لهذه الاستحالة إلا حصوله على صفتين ضدين.
واعلم أنه قد اختلف كلام أصحابنا في هل تعلل هذه الاستحالة بالكائنية التي هي الصفة كما ذكره المصنف أ, بالكون والأولى تعليلها بالكائنية كما ذكره رحمه الله ووجهه أن هذه الاستحالة معلومة ضرورة فلا تعلل بما يعلم دلالة جملة وتفصيلاً وهو الكون بل بالكائنية فإنها معلومة على سبيل الجملة ضرورة.
فإ، قيل: ما أنكرتم أن العلة في الاستحالة هو التحيز؟
قلنا: لايصح ذلك لأن التحيز مصحح لكونه في الجهات كلها فلو أحال كونه في جهتين لكان محيلاً لشيء مصححاً له وهو محال وقد كان الشيخ ابن متويه أجاز أن يضاف إلى هذه العلة في الاستحالة علة أخرى وهو أن كونه في جهتين يؤدي إلى أن يكون شاغلاً لأكثر من قدره ثم ضعف هذه العلة بما حاصله أن الطريق إلى تضاد الأكوان هو استحالة حصول الجوهر في جهتين فإذا جوزنا أن العلة في ذلك كونه يؤدي إلى أن يكون شاغلاً لأكثر من قدره لم يبق لنا طريق إلى العلم بالتاضد وكلامه ضعيف لأن القائل بعدم تضاد الأكوان هو الشيخ أبو يعقوب البستاني ، وبان فيها المتماثل والمختلف فقط يقول عدم وجدانك للطريق إلى تضادها لايلحق منه خلل وإياه أريد فالولى في تضعيف تلك العلة أن يقال: إن المرجع يشغله لأكثر من قدره إلى كونه في جهتين أو أكثر فكيف يجعل ذلك هو العلة في استحالة كونه في جهتين أو أكثر فإنه تعليل للشيء بنفسه وقد ضعفت بأنه لو لم تكن العلة إلا استحالة كونه شاغلاً لأكثر من قدره فإن ذلك لايستحيل على البدل وكذلك على الجمع إلا أنه يمكن فيه المعارضة فيقال: وكذلك لايستحيل كونه كائناً في جهتين على البدل فكذلك على الجمع.
قوله: (فلا بد من أمر يعلل به كما سيأتي) يعني في بيان ما يجب تعليله وما لايجب في مسألة إثبات القادرية.
قوله: (لأن التفرقة ضرورية دون الكون) يعني فكيف يرجع بما يعلم ضرورة إلى ما لايعلم إلا دلالة فالأولى أن يرجع به إلىما يعلم ضرورة على سبيل الجملة وهي الكائنية.
قوله: (لأن عدم المعنى مع الجهتين على سواء فكان يلزم حصوله فيهما دفعة واحدة).
هذا الوجه ليس هذا موضعه وإنما موضعه لو قيل بأن الجوهر حصل في الجهة لعدم معنى، فكان الولى أن يقال لأن عدم المعنى مع الجهتين على سواء فكان يجب ألا يفرق بين كونه في جهة وكونه في أخرى.
قوله: (ولأن عدم المعنى يترتب على ثبوته) يعني فما لم يوجبه المعنى مع وجوده
فأولى ألا يعلق به مع عدمه إذ هو مع الوجود أقوى حالاً من العدم أو أراد أن ذلك المعنى إذا لم يكن قد ثبت له وجود وعرف لم يمكن أن يعلل ما نحن فيه بعدمه.
وقوله: (على ثبوته) أراد به وجوده تساهلاً وإلا فالثبوت عندهم يعم الموجود والمعدوم بناء على ما مر من ثبوت الذوات في حالة العدم.
قوله: (ولأن الأمور الثابتة لاتعلل بالنفي) هنا يعني تعليل تأثير فأما تعليل الكشف فجائز كما تقدم.
قوله: (وأما إلى كيفية صفة) هي الوجود أي تلك الصفة هي الوجود.
قوله: (لأن كيفية الصفة تتبعها) فكان يلزم ألا يتحدد كونه كائناً في الهجة إلا إذا تحدد وجوده، هذا يصلح دليلاً على أن الكائنية على الجملة وذكر أنه لايمكن الرجوع بتلك التفرقة إلا إليها فكان الملائك لذلك أن يقول: وإما أن يرجع بتلك التفرقة إلى كيفية صفة هي الوجود فكان يلزم ألا نعلم التفرقة إلا مع تحدد الوجود لأن كيفية الصفة تتبع تحددها وأنت إذا تأملت كلام المصنف في هذا الفصل وجدته متضرباً فأحسن تأمله.
قوله: (على أن الوجود صفة متماثلة والكائنية تتضاد). معنى تماثل صفة الوجود أنها لاتختلف باختلاف الذوات الثابتة هي لها وذلك لأتفاقها في أخص أحكامها وهي ظهور الصفات المقتضاة عن صفات الذوات عندها ومعنى تضاد الكائنية أنه لايمكن اجتماع صفتين منها باعتبار جهتين فلا مكن أن يكون كائناً في هذه الجهة وكائناً في هذه ف حالة واحدة وكلام المصنف هذا مختل من وجوه:
أحدها: أنه الآن في الاستدل على ثبوت الكائنية صفة وهذا إنما يستقيم بعد ثبوت ذلك فإذا ثبت أنها صفة وأنها تتضاد ثم قيل بأن المرجع بها إلى صفة الوجود وليست مغايرة لها حسن مثل هذا.
وثانيها: أنه في إبطال أن تكون التفرقة بين كون الجوهر كائناً في هذه الجهة وكونه كائناً في جهة أخرى كيفية للوجود وهذا الكلام الذي ذكره لا يلائمه ولايناسبه.
ثالثها: أنا إذا نقلنا الكلام إلى أن الكائنية ليست كيفية في الوجود كما بنى عليه وإن لم يسق كلامه من أول الوجه هذا المساق فليس تضاد الكيفية تستلزم تضاد الصفة التي تلك الكيفية كيفية لها ألا ترى أن الحدوث والقدم كيفيتان للوجود وهما متناقضان والوجود لاتناقض فيه ولو أنه جعل الكلام من أصله مسوقاً في أنا نعلم ثبوت الكائنية جملة ضرورة فأام أن يرجع بها إلى كذا أو كذا مما ذكره لاستقام الكلام لكنه جعله مسوقاً في التفرقة فلم يلتئم والله سبحانه أعلم............... نقص في الهامش ...........
فصل
قوله: ولايثبت للذات في حالة العدم من هذه الصفات). يعني الأربع التي هي الذاتية والمقتضاة والمعنوية والتي بالفاعل.
قوله: (إلا الصفة الذاتية) في ذلك خلاف أبي إسحاق كما تقدم فإنه ذهب إلى أن الذات لايستحق شيئاً من الصفات حالة العدم.
قوله: (لبطلان سائر وجوه التعليل). يعني فلا يصح تعليلها بالمؤثرات ولا ما يجري مجراها ولايقبل التعليل بذلك وبيانه بأن نقول لو كان يستحقها لمعنى أو بالفاعل لخرجت عن كيفيتها وهي وجوبها وعن اقتضائها للمماثلة والمخالفة لأن المماثلة والمخالفة لايستحقان إلا بصفة ذاتية ولو استحقها مقتضاة عن صفة أخرى لبطل كونها ذاتية لأن معنى الذاتية أنها لاتفتقر في حصولها إلى أمر آخر سوى الذات ثم أن مقتضيها أما أن يكون مقتضى فيؤدي إلى التسلسل أو ذاتياً فيجب الاقتصار على المحقق المعلوم دون المقدر المفروض وإذا بطل أن يكون مقتضاه وبالفاعل بطل أن يكون مشروطه بشرط إذ الشرط لايستقل ولايثبت إلا مع ثبوت مؤثر أو مقتض.
قوله: (وهو محال لاشتراك الذوات كلها في ذلك).
يعني فكان يلزم أن يثبت المماثلة والمخالفة في حق كل ذات فتكون كل ذات مماثلة للأخرى مخالفة لها وهو محال.
قوله: (وهذا قد أورده أصحابنا دليلاً مستقلاً ). يعني ما تقدم من الذوات لابد أن يتماثل أو تختلف وإذا ثبت ذلك فالمماثلة والمخالفة إما أن يثبتا لمجرد الذات إلى أن يقولوا فلم يبق إلا أن يثبت المماثلة والمخالفة لصفة زائدة على الذات ولنسب إلا الجوهرية فأما التحيز فإنه لا يثبت إلا حال الوجود والمماثلة والمخالفة ويثبتان في الحالتين معا.
قوله: (لأن المماثلة الحقيقية لاتثبت إلا في الذوات).
يعني لأنها هي أن تسد إحدى الذاتين مسد الأخرى ولايتصور إلا في الذوات ولكن قد يقال في الصفات متماثلة ومختلفة على سبيل التجوز.
قوله: (ومعنى قول أصحابنا أن الصفات تجري مجرى المتماثلة إلى آخره). لقولهم: أنها تجري مجرى المتماثلة معنيان أحدهما: ما ذكره والثاني أن بعضها يقوم مقام البعض فيما يقتضيه من الصفات والأحكان، وكذلك ولقولهم في الأحكام أنها تجري مجرى المتماثلة معنيان أحدهما: أنها لو كانت ذواتاً لكانت متماثلة بأن يسد بعضها مسد البعض فيما يكشف عن الصفة الذاتية على التفصيل وأنها مشتركة في الحد والحقيقة ومعنى قولهم في الصفات والأحكام أناه تجري مجرى المختلفة أنها لو كانت ذواتاً لما سد بعضها مسد البعض فيما يكشف عن الصفة الذاتية على التفصيل وأن بعض الصفات لايقوم مقام البعض فيما يقتضيه من الصفات والأحكام، وأن بعض الأحكام لايقوم مقام البعض في الحد والحقيقة ذكره الشيخ الحسن في آخر الكيفية.
قوله: (لأن المعنى لايختص بالمعدوم).
يعني لأن اختصاص المعنى هو إما بطريقة الحلول فيه أو حلول محله أو الوجود على حد وجوده وكل ذلك لايتصور إلا مع وجود المختص والمختص به فكان يلزم ألا يثبت المماثلة في حال العدم، وليس كذلك فإن الذاتين في حال العدم إما أن تسد إحداهما مسد الأخرى أو لا، والأول التماثل والثاني الاختلاف.
قوله: (ولأن ما أثر فيه المعنى فهو جائز). يعني والمماثلة في حق المتماثلين واجبة.
قوله: (وتقدم أنه لاذاتي في الأحكام). يقال بل تقدم لك عدم المنع من أن يكون فيها ذاتي.
والجواب: أنه وإن منع من عدم جوازه فلم يقل ثبوته هو ولاغيره.
قوله: (حيث أثبت التحيز ونفي الجوهرية). يعني وجعل التحيز هو الصفة الذاتية.
قوله: (إلا أن الشيخ أبا عبدالله يقول أنها هي التحيز) إلى آخره.
مذهب أبي عبدالله وأبي إسحاق متفق من حيث نفيا كون الجوهرية صفة ولم يثبتا إلا التحيز ومن حيث جعلا التحيز صفة ذاتية لكنهما اختلفا من وجه آخر، فقال أبو عبدالله: هي ثابتة في العدم أي الصفة التي هي التحيز. وقال أبو إسحاق: بل لاتثبت إلا حال الوجود ويلزمه من القول بتجددها احتياجها إلى مؤثر أو ما يجري مجراه وبطلان كونها ذاتية، ومن الذاهبين إلى أن الجوهرية هي التحيز وأنهما صفة واحدة أبو يعقوب الشحام.
قوله: (حقيقة في التحيز). يعني لأن حقيقة التحيز الصفة التي توجب لمن اختصت به شغله للجهة واحتماله للأعراض وصحة إدراكه بحاستين وإذا بان أنها حقيقة في التحيز لم يجز مفارقتها لها لأن الشيء لايحقق إلا بما يكون عليه مستمراً كتحقيقنا للقادر بأنه الذي يصح منه الفعل فلا يثبت قادر لايصح منه الفعل إلا أن الشيخ أبا عبدالله يريد في الحقيقة عند الوجود.
قوله: (وفي ذلك كونه غيراً للجوهرية) يعني لنا ثابتة حالة العدم لما تقدم فإذا كانت ثابتة في تلك الحال والتحيز غير ثابت ولايثبت إلا حال الوجود صح ما قاله.
فائدة
اعتبر أبو القاسم في المثلين أن يتفقا في جميع الصفات والأحكام الذاتية والمقتضاة والتي بالفاعل والمعنوية حتى أنه حكم باختلاف الحسن والقبيح ويبطل ما قاله وجوه:
أحدها: أنه يؤدي إلى أن لايتماثل شيء من الذوات فإن كل ذاتين لابد أن يكون لأحداهما من الحكم ماليس للأخرى وإلا لم تكونا غيرين.
وثانيهما أن ما يقع به الخلاف والوفاق لابد من أن يكون أمراً لازماً لاخروج عنه وإلا أدى إلى أن يكون موافقاً في وقت مخالفاً في وقت بأن يخرج عن ذلك الأمر.
وثالثها: أن التماثل إنما يقع بما يتفرع على العلم بالتماثل عليه، إما جملة أو تفصيلاً وقد صح أنه يعلم تماثل الذاتين وإن لم يعلم اشتراكهما في سائر الوجوه، وحكي عن الناسي أن المماثلة تقع بالأسماء وتلك جهالة منه وإلا لزم ألا تعلم المماثلة إلا بعد العلم باللغات وكان يلزم في بعض الأجسام أن يخالف البعض بالافتراق في الأسماء ولعله يلتزم ذلك، ولكن بطلان كلامه ظاهر.
فصل
قوله: (ولايتزايد من هذه الصفات إلا المعنوية) يعني الأربع الثابتة للجوهر وهي الجوهرية والتحيز والوجود والكائنية.
اعلم أولاً أن معنى التزايد أن يثبت للذات أكثر من صفة واحدة من الجنس الواحد أمام الصفة الذاتية أو الصفة المقتضاة أو الصفة التي بالفاعل ويعد تزايداً إلا مع تماثل الصفات.
قوله: (فلأنها لو تازيدت للزم أن تكون الذات مماثلة لنفسها يعني إذا حصل للذات صفتان ذاتيتان أما جوهريتان أو سواديتان وسيأتي ما في هذا الوجه في مسألة إثبات الصفة الأخص.
قوله: (كالمعنوية) يعني فإنه يصح تزايدها لتزايد المؤثر فيها لأن تزايده ممكن فإذا أوجد القادر في الجوهر كونين في جهة واحدة تزايدت صفته المعنوية وهي الكائنية.
قوله: (أويتزايد المقتضي لها) وهي الحيية (أو يتزايد شرط اقتضاء الحيية لها) وهو وجود المدرك فما وجد من مدرك آخر تزايدت صفة المدرك بكونه مدركاً. واعلم أنه لاخلاف بينهم في تزايد كونه مدركاً بتزايد شرط اقتضائه بها وهو وجود المدرك وإن لم يتزايد المقتضي وهو كونه حياً وإنما الخلاف في تزايد كونه مدركاً مع أن المدرك واحد بأن يتزايد مقتضيها فذهب القاضي وهو الذي قواه ابن متويه إلى أن كونه مدركاً يتزايد بتزايد كونه حياً وإن لم يتزايد وجود المدرك واحتج بأن الإدراك بالعينين له مزية على الإدراك بعين واحدة فدل على أن كونه مدركاً يتزايد بتزايد كونه حياً والذي عليه الجمهور أن كونه مدركاً لايتزايد إلا مع تزايد شرط الاقتضاء وتردد الحاكم في ذلك.
قوله: (ولكلهما يبطل تزايد الوجود) أي لكل الوجوه التي ذكرت في منع تزايد الذاتية وفيه تساهل فإن الوجه الأول في إبطال تزايد الذاتية لايتأتى في الوجود، ولايقال أنه أراد ولكل الوجوه المبطلة لتزايد التحيز لأنه لم يتقدم لها ذكر فيعود الضمير إليه وإن صح فالوجه الآخر الذي خص به التحيز لايثبت وجهاً ههنا إلا أن يقال يلزم من تزايد الشرط تزايد المشروط فلو تزايد الوجود لتزايد ما هو مشروط به وهو التحيز وهذا وجه آخر فلا يستقيم ذلك.
قوله: (ولأنه كان يصح أن يثبت للسواد وجهان في الوجود يقابلان وجهي البياض ثم كان يصح حصوله على أحدهما فلا يبقى البياض على الإطلاق) أي فلا يكون نفي السواد للبياض مطلقاً بل في حال وهو شيء حصل له وجهان في الوجود أي وجودان ومتى حصل على أحدهما فقط لم ينفه مع علمنا بأن السواد ينفي البياض مطلقاً وهذا الوجه ذكره أبو هاشم ويمكن اعتراضه بأن يقال: أليس عندكم أن الجزء من السواد لو طرأ على عشرة أجزاء من البياض لنفاها لأن للطارئ حظ الطرو فأكثر ما فيه أن يقام هذا الوجود الزائد في البياض مقام جزء زايد منه فلا يمنع من أن يثبت للسواد حظ الطرو ثم أن المضادة لاتقع بالوجود وكثرته بل تثبت للصفة المقتضاة فأما الوجود فلأنا ننزله إلا في ظهور الصفة المقتضاة عن الصفة الذاتية عنده وهي لاتتزايد بتزايده فحصلها مع وجود واحد ومع وجودين على سواء ولعل هذا هو السبب في أن جعل ابن متويه الوجه الثاني المذكور بعده وهو قوله: ولأنه لو صح في حال الحدوث لصح في حال البقاء أوضح منه وإن كان المصنف قد اعترض الوجه الثاني في مسألة مقدور بين قادرين بأن قال أن ما يتعلق بالقادرين يتبع حالة الحدوث فلا يصح تزايد الوجود حال البقاء.
قوله: (لصح مثله في تأثير العلة فكان يصح أن يمنع أحدنا سكتات كثيرة بحركة واحدة لها وجودات كثيرة) كان الجاري على القياس أن يقول: فكان يلزم أن يمنع أحدنا من تسكين الجسم بسكتات كثيرة بحركة واحدة توجب له بكونه متحركاً صفات كثيرة بعدد الصفات التي أوجبتها له السكتات الكثيرة، فأما قوله: فكان يصح إلى آخره فهو وجه مستقل يمنع من تزايد الوجود ولعل الأصل وكان يصح ويكون إبدال الواو فاء من سهو القلم.
قوله: (ليتزايد مقتضيه إذا تزايد شرط الاقتضاء). ظاهر كلام المصنف هنا يقتضي بأن كونه مدركاً لابد في تزايده من تزايد شرط الاقتضاء كما هو مذهب الجمهور وهو خلاف ما تقدم.
فصل
عند الجمهور أن التحيز صفة واجبة مقتضاة عن الجوهرية.
قوله: (فكان يصح حلول المعاني فيه عني في حال عدمها).
وقوله: (فيثبت فيها التضاد) يعني في حال عدمها لأن تضادها على المحل وقد يثبت حاله حال العدم، وهذا وجه ضعيف لأنه لايلزم من تحيز الجوهر في حال عدمه حلول المعاني فيه حال عدمها وما وجه لزوم ذلك بل الذي يلزم صحة حصولها مع وجودها فأما أن يلزم حلولها مع عدمها فلا لأن حلولها كيفية في وجودها فلا تفارقة ولو لزم ذلك لم يلزم منه ما ذكره من كونه لايصح عدم الضدين ولم لايصح تقدير أن يكون لكل واحد محل غير محل الآخر.
قوله: (ويتعذر ملاقاة الجوهر لستة أمثاله عند الوجود).
اعلم أن معرفة صحة هذا الإلزام لايقع إلا بعد ذكر قاعدة ينبني هو عليها وهي أن من مذهب أصحابنا أن الجوهر الذي هو جزء واحد لايتجزأ إذا شبه بشيء من الأشكال فهو أقرب إلى شكل المربع فيختص من بين سائر الأشكال بأن تتساوى جوانبه وأطرافه.
قالوا: ولايجوز أن يكون بهئية المثلث لأنه كان يجب أن يكون من أحد جوانبه أكثر من الآخر فيؤدي إلى صحة تجزئة ونحن فرضنا الكلام في الجزء الواحد ولو كان مثلثاً لكان لايصح تركيب الجواهر إلا على جهة التضريس دون الاستقامة ذكره ابن متويه ولكنه لايلزم ذلك إلا إذا ضم دقيق جوهر إلى دقيق الآخر وعريضه إلى عريضه فأما إذا عكس فلا يكون على حد التضريس. قالوا: أو لايجوز أن يكون على شكل المدور لأنه كان يجب ألا يصح تآلف الأجزاء على حد الاكتناز فإنك إذا ضممت مدورة إلى مثلها حصلت بينهما فرجة فلم يبق إلا أن يكون بشكل المربع وإذا كان كذلك صح فيه ملاقاة شبه أمثاله من الجهات الست المعروفة وقد حكي عن عباد أنه منع من صحة تلاقي الأجزاء.
وقال: إن الجزء لا يلاقي غيره. فقال له أبو هاشم: إن من ذهب إلى أن الجسم من مجموع أجزاء لا بد له من أن يذهب إلى تلاقيها وقد أجاز بعض الفلاسفة ملاقاة الجوهر لأكثر من ستة أمثاله فقال لهم أصحابنا: لايتصور جهة سابعة يصح أن يلقاه سابع منها.
إذا عرفت هذه القاعدة عرفت توجه إلزام المصنف لأن الجوهر إذا كان متحيزاً حال عدمه لزم ألا تطرد صحة ملاقاته لسته أمثاله من الجواهر الموجودة لجواز أن يلقاه من الجهات أو من بعضها أجزاء متحيزة معدومة فيمتنع ملاقاته للأجزاء الموجودة أو بعضها لأن بداخل المتحيزات لايصح.
وقوله: (عند الوجود) أي عند وجود الجوهر.
قوله: (لمثل ذلك) أي لمثل ما قيل في إبطال أن يتحيز لوجوده فإنه ياتي مثله في تحيزه لحدوثه لأن الحدوث وجود سواء جعلناه الوجود بعد أن لم يكن موجوداً أو الوجود في الوقت الأول فقط.
قوله: (وللزم ألا يتحير حال البقاء) يعني لأن الحدوث إذا كان المؤثر في تحيره فتأثيره تأثير المقتضي لا غير ومعلوم أن المقتضي إذا زال زال ما هو مقتضى عنه، والحدوث يزول بزوال أول أوقات الوجود إذ هو عبارة عن الوجود فيه فقط.
قوله: (لأنه لاوجه يشار إليه هذه حالة بخلاف وجوه القبح) أراد بقوله: هذه حالة كونه يوجب التحيز بخلاف نحو ما إذا قلنا أن الظلم قبح لحدوثه عللى وهج فإن الإشارة إلى وجه هذه حالة ممكنة.
قوله: (ولأن المعنى إنما يوجب لصفته المقتضاة) قد تقدم الدليل على ذلك.
قوله: (والكلام فيها كالكلام في التحيز) يعني لأن الكلام في صفات الذوات يجري على طريقة واحدة في الذواتية والمقتضاة إذ الدلالة معناها واحد وإن اختلف التعبير بحسب ما يتكلم فيه منها فإذا لم يثبت أن التحيز مقتضى عن الذاتية لم يثبت أن للمعاني صفات مقتضاة وإذا بطلت صفات المعاني المقتضاة بطل إيجابها إذ هو مقتضى عنها.
فإن قيل: إذا قلنا بأن هذه الصفات التي تذهبون إلى أنها مقتضاة معنوية فهلا ثبت لها ما أثبتم للمقتضاة من الإيجاب وغيره من الأحكام؟
قلنا: إن صح ذلك ففي حق الجواهر فقط فأما المعاني فإنه لايجوز أن تستحق صفات معنوية لأن المعنى لايختص بالمعنى.
قوله: (ولايجوز أن يتحيز لعدم معنى أولى وأحرى). إنما كان أولى لأن المانع من أن يكون المعنى الموجود هو الموجب ثابت في المعنى المعدوم ويختص بوجوه من المنع لاتثبت في المنع من إيجاب المعنى الموجود وهو أن العدم مقطعة الاختصاص فلا يختص أصلاً ولو اختص لما كان بأن يوجب التحيز للجواهر أولى من غيرها من الموجودات ولأن الإيجاب صادر عن الصفة المقتضاة وهي مشروطة بالوجود وإن كان هذا الوجه الأخير لا منتهياً ههنا للزوم الدور.
قوله: (وخالف فيه الشيخان أبو الحسين وابن الملاحمي) ذهبا إلى أن التحيز وسائر صفات الأجناس المقتضاة ثابتة بالفاعل، وقد ذهب إلى ذلك الإمام يحيى بن حمزة وسائر نفاة الأعراض وفرقة من الفلاسفة ونفاة كون المعدوم شيئاً والمجسمة.
واعلم أن خلافهم يحتمل أحد وجهين أن يثبتوا التحيز صفة ويجعلوه بالفاعل وأن يجعلوه نفس الذات ونفس الذات عندهم بالفاعل وقد صرح الإمام يحيى في التمهيد بأن التحيز نفس الذات وليس بأمر زائد وبه يقضى كلام المصنف من بعد حيث قال: (واعترض الشيخ محمود هذا الدليل باعتراضات) كلها مبني على أن المعدوم ليس بذات وأن وجود الشيء هو نفس ذاته فأما مجاراة أصحابنا لهم فيقضي بأنهم يجعلون التحيز صفة بالفاعل.
قوله: (كما صح أن يوجد الكلام ولايجعله خبراً) يعني لما كان كونه خبراً بالفاعل.
قوله: (بل يصح أن يجعله سواداً بدلاً من تحيزه) وذلك لأن كونه سواداً عندهم بالفاعل فإذا كان كونه متحيزاً وكونه سواداً بالفاعل صح منه أن يكسب الجوهر أيهما شاء كما أن كون الكلام أمراً وكونه نهياً لما كان بالفاعل صح منه أن يجعل الكلام على أيهما شاء، وهذا الوجه لايستقيم إلا إذا جعلوا التحيز والسوادية صفتين بالفاعل وأما إذا قالوا بأنهما نفس الجوهر ونفس السواد فلا يستقيم.
قوله: (بل كان يصح أن يجعله سواداً متحيزاً) إنما لزم ذلك لأن شروط صحة الجمع بين الصفتين قد حصلت ههنا وهي أربعة:
أحدها: أن تكون الذات متعلقة بالفاعل ومقدورة له وهذا الشرط ثابت عند الجميع فإن الجوهر مقدور له تعالى.
وثانيها: أن تكون الصفتان متعلقتين به ومقدورتين له والأمر كذلك عند المخالف.
وثالثها: ألا تقف الصفتان على أمر واجب ليست تلك الذات عليه وهذا مما يسلمه المخالف فليس يقف عنده التحيز على أمر واجب يقتضيه كما يذهب الجمهور إليه من أنه يقف عل الجوهرين الواجبة فعندهم أنه لاجوهرية ولو أنهم أثبتوها لجعلوها بالفاعل لا واجبة.
ورابعها: ألا يكون بين الصفتين تناف ولا ما يجري مجراه فالتنافي كما بين هيئتي السواد والبياض والذي يجري مجراه كما بين كون الكلام أمراً ونهياً فإنه لايكون أمراً إلا بالإرادة ولا نهياً إلا بالكراهة فجرى ذلك مجرى التنافي وكما أن هذه شروط في صحة الجمع بين الصفتين فهي شروط في حق الصفة والحكم المتعلقين بالفاعل ووجه اشتراط الأول قد تقدم بيانه في أنه لايقدر على فعل صفة لذات إلا من كان قادراً على تلك الذات، وأما وجه اشتراط الثاني فلأنا لما لم يتعلق بنا صفة السواد لم يصح منا جعل ما تعلق بنا من الذوات كالكون على تلك الصفة، وأما وجه اشتراط الثالث فلأن الصفتين أو الصفة الواحدة لو وقعت على أمر واجب ليست تلك الذات عليه لم يصح جعل الذات عليها ولهذا لم يصح منا جعل الكون حيزاً لما وقعت صفة الحيز على حصول صفتي الكلام الذاتية والمقتضاة وهكذا الكلام في الحكم، وأما وجه اشتراط الرابع فلأن الجمع بين المنافيات وما يجري مجراها لايصح من أي قادر لا في أي حال.
فإذا عرفت تكامل هذه الشروط في الجمع بين الصفتين عند المخالفين لزمهم صحة ذلك فيلم عليه ما ذكره المصنف من بعد والذي يدل على أنه لاتنافي بين صفتي الجوهر والسواد اللتين هما التحيز والهيئة ولا ما يجري مجراه ما ثبت من حلول السواد في المتحيز ولو كان ثم تناف أو ما يجري مجراه لم يصح ذلك.
قوله: (في كون الكلام أمراً نهياً). يعني فيقال كونه أمراً نهياً مقدور للفاعل مع قدرته على نفس الكلام فيلزمكم صحة أن يجعله أمراً نهياً.
قوله: (لاستناد القبح إلى وجه والحسن إلى زواله وذلك وجه) لأن الحسن هو حصول عرض في الفعل وتعريه عن سائر وجوه القبح والجمع بين النقيضين محال بخلاف الجمع بين التحيز والسوادية.
قوله: (بشرط ألا يجب كونه عالماً).
اعلم أن هذا الشرط لابد من اشتراطه في تصحيح كونه حياً لكونه جاهلاً إذ لو لم يشترط لصح كونه تعالى جاهلاً لحصول المصحح في حقه وهو كونه حياً فلما لم يصح له تعالى كونه جاهلاً عرفنا أن الشرط في تصحيح كونه حياً لذلك قد عدم وكذلك فالشرط في تصحيح كونه حياً لكونه مشتهياً جواز الزيادة والنقصان ولكونه ظاناً ومفكراً صحة التجويز فلهذا لم يصحح له تعالى الحيية هذه الصفات لعدم شروط تصحيحها وقد استدل على أن التحيز ليس بالفاعل بأنه لو كان كذلك مع أن الكائنية عند الخصم بالفاعل وهي مقدورة لنا لوجب أن يقدر على التحيز لما تقدم من أن القادر على صفة من صفات الذات يجب أن يكون قادراً على سائرها.
فصل
قوله: والصفات ضربان متعلقة وغير متعلقة).
اعلم أن الصفات تنقسم إلى أربعة أقسام ذاتية وبالفاعل ومقتضاة ومعنوية، أما الصفات الذاتية فلا تتعلق مطلقاً وكذلك الصفات التي بالفاعل وليست إلا صفة الوجود فهذان الجنسان من الصفات لاتعلق ولهما قط، وأما الصفات المعنوية فتنقسم إلى متعلقة وهي صفات الجملة ما خلا كونه حياً وغير متعلقة وهي كونه حياً والصفات الراجعة إلى المحل، وأما الصفات المقتضاة فتنقسم أيضاً إلى ما يتعلق وهي صفات المعاني المقتضاة الثابتة لما توجب من المعاني صفة معنوية متعلقة، ذكره الشيخ الحسن وكونه تعالى قادراً وعالماً ومدركاً وكوننا مدركين وصفة التحيز وإلى ما لايتعلق وهي صفات المعاني التي لاتوجب صفات أو توجب صفات غير متعلقة وكونه تعالى حياً وموجوداً.
تنبيه
عند المتكلمين أن كل صفة متعلقة فالذات المختصة بها تتعلق على حد تعلقها وكذلك فكل معنى يوجب صفة متعلقة فهو متعلق كتعلقها قالوا: لأن تعلق الموجب تبع لتعلق الموجب إذا كان الموجب معنى وهذا هو الوجه في أن جعلوا صفات المعاني المقتضاة التي لأجلها توجب صفات معنوية تتعلق متعلقة مثلها.
قوله: (عند من لايجعلها تستدعي ذلك لمجردها).
يقال: إن الصحيح أنها تستدعي ذلك لمجردها لأن من أصول أهل علم الكلام المقررة أن الصفة تقتضي ما يقتضيه لمجردها على أي كيفية كانت كما في اقتضاء كونه حياً لكونه مدركاً فهو أولى من جعلها تستدعي ذلك بكيفية ثبوتها وهو كونها ذاتية وإن كان الظاهر من كلام أصحابنا أنها تستدعي ذلك بكيفيتها وأنها لو تثبت غير ذاتية لما اقتضت تماثلاً ولا اختلافاً ولا أعلم خلافاً فيه وإن كان المصنف قد أشار إليه وقد أجيب عن هذا بوجهين:
أحدهما: أن أهل علم الكلام حيث قالوا: إن الصفة تقتضي ما تقتضيه لمجردها لا لكيفيتها يعنون بذلك ما خلا ما كانت كيفيتها كونها ذاتية.
الوجه الثاني: أنهم إنما قالوا أن المقتضي يقتضي ما يقتضيه بمجرده لا بكيفيته حيث لاتكون الكيفية معتبرة في لحقيقة الحكم الذي تقتضيه الصفة فأما حيث يعتبر ذلك في حقيقته فإن المقتضي يقتضيه بكيفيته لا بمجرده والصفة الذاتية يعتبر كونها ذاتية في حد حكمها الذي تقتضيه لأنا نقول في حد المماثلة هي أن تثبت لذات صفة ذاتية في حكم المماثلة للذاتية الثابتة لذات أخرى وكذلك في حد المخالفة.
تنبيه
الوجه في اصطلاح المتكلمين على أن الذاتية لاتسمى متعلقة مع اقتضائها واستدعائها لثبوت حكم بين ما اختص بها وبين ذات أخرى وهي المخالفة والمماثلة أن الحكم إن كان المماثلة فهي إنما تقتضيها لمن اختصت به بينه وبين ذات أخرى بشرط أن تختص تلك الذات بصفة ذاتية تقتضي لمن اختصت به مثل ما اقتضته هذه الصفة لهذه الذات فلو سمى هذا تعلقاً لاقتضى أن يكون كل واحدة من الذاتين متعلقة ومتعلقاً بها ولابد في المتعلق أن يتميز من المتعلق به كما يجب مثله في السبب والمسبب والشرط والمشروط والعلة والمعلول فإنه يجب غير كل واحد منها عن الآخر وهكذا القول لو فرضنا الكلام في المخالفة.
قوله: (احترازاً من كونه حياً) إلى آخره.
قيل: لم لم تجعلوها متعلقة بالمدرك؟
قلنا: لايصح جعله متعلقاً لها لأنه يصح حصولها ولامدرك ثم حصوله بعد ذلك والصفة المتعلقة لايصح وجودها غير متعلقة ثم تتعلق بل المتعلق منها لايثبت إلا متعلقاً.
فإن قيل: فلم لم تجعلوا كون أحدنا حياً متعلقاً مع أنها توجب لمن اختصت به صحة وجود القدرة والعلم فقد استدعت بمجردها ثبوت حكم بين ما اختص بها وبين ذات أخرى.
قلنا: ذلك لايوجب تعلقها لأن من حق المتعلق أن يتعلق من غير شرط وكون أحدنا حياً لايوجب صحة وجود القدرة والعلم إلا بشرط البنية، أما في العلم فظاهر، وأما في القدرة فعلى الصحيح أنها تحتاج إلى بنية زائدة على بنية الحياة تكون شرطاً في تصحيح كونه حياً لوجود القدرة فلهذا لم تجعل متعلقة.
قوله: (احترازاً من كونه كائناً).
اعلم أن وجه اصطلاح المتكلمين على أنها ليست بمتعلقة حتى أخرجها المصنف بالقيد المذكور مع استدعائها لثبوت حكم بني ما اختص بها وبين ذات أخرى وهو ما ذكره ما تقدم من وجه اصطلاحهم على أن الذاتية غير متعلقة وهو أن هذه الكائنية التي في هذا الجوهر لاتقتضي له هذا الحكم وهو أن يكون بينه وبين غيره بون ومسافة إلا بشرط أن يكون هناك جوهر آخر مختص بكائنية توجب له مثل ما توجب هذه الكائنية لهذا الجوهر فلو جعلناها متعلقة لكانت تلك مثلها متعلقة فيلزم أن يكون كل واحد من الجوهرين متعلقاً ومتعلقاً به فلا ينفصل المتعلق من المتعلق وهذا بناء على أن المختص بالصفة المتعلقة متعلق مثلها.
قوله: (ككونه معتقداً وكونه مريداً ونحو ذلك).
سيأتي بيان ما لايكون متعلقاً من نوع كونه معتقداً ومريداً ونحوهما ككونه كارهاً.
قوله: (لكن المتعلق منها لايثبت إلا متعلقاً).
يعني فلا يقال: إذا كانت لاكائنية غير متعلقة لجواز أن توجد غير متعلقة في بعض المواضع فهلا كانت المريدية غير متعلقة لجواز ألا تتعلق في بعض المواضع كالمريديدة المتعلقة بالوبقاء ونحوه لأن بينهما فرقاً تلخيصه أن الكائنية يجوز ألا تثبت مقتضية لهذا الحكم لمن اختصت به وهو أن يكون بينه وبين غيره بون ومسافة أو لايكون بأن لايخلق الله إلا جوهراً واحداً ثم يقتضيه من بعد بأن يخلق الله تعالى جوهراً آخر بخلاف المريدية فإنها إن كانت متعلقة لم توجد إلا كذلك كما إذا أراد أحدنا ما يصح حدوثه ومالم يكن منها متعلقاً كان يريد أحدنا البقاء لم يصح أن يتعلق من بعد ذلك بل هي على طريقة واحدة في التعلق وعدمه ولايتجدد تعلقها.
واعلم أن هذا الفرق يقتضي أن تجعل الكائنية غير متعلقة لكن وقع الاصطلاح على ذلك للزوم ألا يتميز المتعلق من المتعلق إذا جعلت متعلقة وإلا فليس تقدير أن يوجد جوهر واحد فقط فلا تتعلق الكائنية التي فيه مع أن ذلك لايتحقق وقوعه بأبلغ من ثبوت صفات كثيرة من كون المريد مريداً ولامتعلق لها وكذلك في كونه كارهاً ومعتقداً.
قوله: (وهذا الاحتراز أحسن من قول أصحابنا وإن كانت مخالفة).
الذي قال ذلك وأتى به الشيخ الحسن وتابعه الفقيه قاسم، قال: وقلنا وإن كانت مخالفة احترازاً من الكائنية فإنها تستدعي ثبوت حكم بين ما اختصت به وبين ذات أخرى مماثلة فقط ثم اعترضه بأنه لاحاجة إليه لأن قولهم في الحد لمجرد ثبوتها قد أفاد أنه لايجوز ثبوتها غير متعلقة والكائنية يصح ثبوتها غير متعلقة بذلك التقدير.
ثم أجاب عنه بأن ذلك احتراز عما يستدعي بكفيفته وليس المراد به أن مجرد الصفة تقتضي التعلق من دون شرج آخر فلا بد من الاحتراز وإلا انتقض وأبدل ذلك الاحتراز بعضهم بأن قال: مماثلة كانت أو مخالفة. ثم اعترضه بأنه لاحاجة إليه فإن الكائنية لم تدخل فيحتاج إلى إخراجها بذلك القيد من حيث أنها قد ثبتت ولايثبت حكمها ومن حق الصفة المتعلقة ألا تثبت إلا كذلك لأن التعلق أخص أحكامها فلا يفارقها.
واعلم أن هذا القيد وهو قولهم وإن كانت مخالفة قصدوا به إخراج الكائينية وهو يدخلها لأنه لم يقض بأنها لا تكون متعلقة إلا إذا اقتضت الحكم بين ما اختص بها وبين ما يخالفه ولابأنها لاتكون متعلقة إلا إذا اقتضته بين ما اختص بها وبين ما يخالفه وتماثله بل حاصله أنه لابد أن تقتضيه بين ما اختص بها وبين ذات أخرى سواء كانت مخالفة أو مماثلة وهذا حال الكائينية، فهو احتراز ركيك وإنما قصدوا به إدخال العالمية إليها لأناه قد تقتضي التعلق بين ما اختص بها وبين ما تماثله ولكنها قد تقتضيه بينه وبين ما يخالفه وإخراج الكائنية لأنها لاتقتضيه إلا بينه وبين ما يماثله فركت العبارة فانعكس ما أرادوه ودخلت الكائينية.
قوله: (وقد حصل من هذا) إلى آخره. هو كما ذكر ولكن ينبغي أن يلحق به الكلام في بيان الوجوه التي منها تتعلق تلك الصفات المتعلقة ونحن نبدأ منها بالصفات المعنوية:
أما كون أحدنا قادراً فيتعلق من وجه واحد وهو أنها تؤثر في صحة وقوع مقدورها بحيث يتقدم الصحة على الوقوع.
وأما كونه معتقداً فلأن يكون موجبها واقعاً على أحد الوجوه المذكورة أم لا إن لم يكن واقعاً على أحد الوجوه المذكورة فهي لاتخلو إما أن لا يكون لها متعلق كان يعتقد البقاء معنى والإدراك معنى فهي غير متعلقة إذ لاتصح افشارة إلى شيء يجعل متعلقة به ومستدعيه للحكم بين ما اختص بها وبينه وإن كان لها متعلق فهي تتعلق به من وجه وهو النسبة التي يجدها المختص بها بينه وبين ما يعتقده ويجد التفرقة بينه وبين غيره وهذا يسمى التعلق العام الحاصل في جميع الصفات المتعلقة وقد قيل: إن كونه مبحتاً لا متعلق له أصلاً ولايستدعي ثبوت حكم بين ما اختص به وبين غيره ذكره في حواش للكيفية.
والأقرب أن حكم كونه مبحتاً حكم كونه مقلداً ولافرق بينهما وإن كان موجبها واقعاً على أحد الوجوه المذكورة فهي صفة الواحد منا يكون عالماً وهي لاتخلو إما أن يكون لها متعلق أو لا إن لم يكن لها متعلق ككون العالم عالماً بأن لايأتي للقديم ولا بقا فهي لاتتعلق من أي الوجوه إذ لايمكن الإشارة إلى شيء يجعل متعلقاً لها وإن كان لها متعلق فلا يخلو إما أن يكن متعلقها مقدوراً للمختص بها أو لا، إن كان متعلقها مقدوراً له فهو لايخلو إما أن يكون مما يصح إيقاعه مع غيره على جهة الإحكام أو لا إن كان مما يصح إيقاعه مع غيره على جهة الأحكام فتعلق العالمية به من ثلاثة وجوه:
أحدها: اختصاصها به بحيث تصح الإشارة إليه بكونه معلوماً لها دون غيره وهي النسبة التي يجدها الواحد منا بينه وبين معلوم معين فإنه يعلم أن له بهذا المعلوم من الاختصاص ما ليس له بغيره وهو التعلق العام.
وثانيها: كونها شرطاً في تصحيح كونه قادراً لإيقاع المعلوم مع غيره على جهة الأحكام.
وثالثها: أقتضاؤها لسكون النفس الذي هو حكم بين العالم والمعلوم وإن كان معلومها مما لايصح إيقاعه مع غيره على جهة الأحكام فإنها تتعلق به من الوجهين الأول والثالث وتتعلق به من الوجه الثاني على جهة التقدير وهو أن هذا المعلوم لو كان مما يصح أحكامه لكانت العالمية شرطاً لتأثير كونه قادراً عليه في إيقاعه مع غيره على جهة الأحكام وإن كان معلومها غير مقدور للمختص بها فلا يخلو إما أن يكون مما يقبل الأحكام أو لا، إن كان مما يقبل الأحكام فهي تتعلق به من الوجهين الأول والثالث، ومن الوجه الثاني على جهة التقدير، وهو أنه لو كان مقدوراً له لكان كونه عالماً به شرطاً لتأثير كونه قادراً عليه في إيقاعه مع غيره على جهة الأحكام وإن كان مما لاتصح أحكامه تعلقت به من الوجهين الأول والثالث أيضاً ومن الوجه الثاني على جهة التقدير وهو أنه لو كان مقدوراً للمختص بها ويصح أحكامه لكانت شرطاً في تأثير كونه قادراً عليه في إيقاعه مع غيره على جهة الأحكام هذا ما ذكره الشيخ الحسن في الكيفية واعترض جعله لسكون النفس من تعلقات العالمية فإنه فاسد من ثلاثة وجوه:
أحدها: أنه موجب عن المعنى الذي هو العلم لا عن الصفة فكيف يجعله تعلقاً للصفة التي هي كونه عالماً وليس بمقتضى عنها.
وثانيها: أن من حق التعلق أن يثبت للمتعلق وهو المعلوم على ما يقوله في صحة الفعل فإنه لما كان تعلقاً لكونه قادراً ثبت للمتعلق وهو الفعل كثبوته للقادر وليس سكون النفس ثابتاً للمتعلق الذي هو المعلوم بل للعالم فقط. وثالثها أنه قد يثبت مع أن الصفة غير متعلقة كالعلم بأن لايأتي للقديم فإن سكون النفس حاصل هناك ولاتعلق وقد ذكر الشيخ الحسن في معرض كلام له ما يصلح أن يكون جواباً عن الأول وحاصله أنا إنما أدخلنا سكون النفس في جملة أقسام التعلق لأنه حكم تابع لكونه عالماً وملازم له من حيث أن موجبه وموجب كونه عالماً واحد فصار شبهاً للأحكام المقتضاة عن كونه عالماً في دورانه مع كونه عالماً نفياً وإثباتاً فهو كالحكم المقتضى عنها وإن لم يكن كذلك على التحقيق.
قال رحمه الله: فمتى مر في كلامنا في هذا الكتاب يعني الكيفية أو غيره أن سكون النفس من أقسام التعلق التي يقتضيها كونه عالماً فمرادنا أنه تابع لكونه عالماً وملازم له في الثبوت لكونهما معلولين عن علة واحدة في حق العباد ومقتضيين عن مقتض واحد في حق القديم جل وعز فكونه عالماً يقتضيه اقتضاء التضمن والدلالة كاقتضاء شغل الجوهر للجهة لاحتماله للأعراض لا اقتضاء التأثير.
فإذا قلنا أنها تقتضي سكون النفس أنها تتضمنه وتدل عليه بل لايسمى بكونها عالمية ولا بأنها كونه عالماً إلا متى قارنها سكون النفس وتبعها فهو داخل في معناها وحقيقتها إذ قيقة العالم المعتقد الذي تسكن نفسه إلى أن يعتقده أو ما يجري مجراه على ما تناوله فلهذا أدخلنا سكون النفس في التعلقات الصادرة عن كونه عالماً هذا حاصل ما ذكره ولكنه يقتضي ذلك ولايصححه ولايخلص عما ورد عليه، فأما الاعتراض الثاني فيجاب عنه بعدم التسليم ولو سلم ذلك لخرجت أكثر التعلقات عن كونها تعلقات. وأما الثالث فيجاب عنه بأنا لانقول بأنه تعلق إلا مع حصول التعلقين الأولين وأما مع عدم حصولهما فليس بتعلق.
وأما كونه مريداً فهي لاتخلو إما أن يكون لها متعلق أو لا إن لم يكن لها متعلق لم تتعلق من أي الوجوه، وإن كان لها متعلق فهي لاتخلو إما أن تتعلق به على صفة الحدوث أو على الوجوه التابعة له فإن تعلقت به على صفة الحدوث فلها تعلق من جهة واحد، وهو النسبة التي يجدها أحدنا بين ما نريد حدوثه وما لانريده وللتفرقة بينه وبين غيره وهو التعلق العام وإن تعلقت به على الوجوه التابعة للحدوث فإن كانت الصفة ثابتة لنا والإرادة الموجبة لها من فعل الله تعالىفينا تعلقت به من الوجه العام وإن كانت العلة الموجبة لها من فعل المختص بها تعلقت بمتعلقها من وجهين، أحدهما: التعلق العام الثابت في كل المتعلقات والثاني تعلق خاص وهو تأثيرها في وقوعه على الوجوه المختلفة تحقيقاً أو تقديراً فالتحقيق إذا كانت الذات المختصة بذلك الوجه مقدورة للمريد والتقدير حيث تكون مقدورة لغيره ويجري على هذا القياس كونه كارهاً، وإنما قلنا أن صفة الواحد منا بكونه مريداً للوجه التابع للحدوث لاتتعلق إلا من الوجه العام حيث كانت الإرادة الموجبة لها من فعل الله لأنها لو تعلقت من الوجه الخاص وأثرت في وجه الحدوث للزم أن يكون تأثيرها غير واقف على اختيارنا مع أن التأثير في ذلك الوجه لأن تأثير كونه مريداً على طريق الإيجاب فلا يقف على اختيارنا وقد ثبت أنه لايجعل الذات على وجه أو مفارقة أو صفة إلا من قدر على تلك الذات فثبت أنه لاتأثير لكوننا مريدين إذا كانت الإرادة الموجبة لها من فعله تعالى في شيء من وجوه أفعالنا وقد خالف أبو هاشم في ذلك وذهب إلى تأثيرها وإن كان الموجد لعلمها هو الله تعالى.
قال: قيل: أليس العالمية تؤثر في أحكام الفعل من جهتك وإن كان الفاعل للعلم فيكم هو الله تعالى بل يكون .... تأثيراً.
قلنا: ولاسوى لأن العالمية تابعة للمعلوم غير مؤثرة فيه وإنما هي شرط في تأثير كونه حينئذ قادراً بخلاف المريدية فإنها مؤثرة على سبيل الإيجاب فافترقا.
وأما كونه مشتهياً فتعلقها من الوجه العام ومن وجه خاص وهو أنها تؤثر في الالتذاذ عند إدراك متعلقها.
وأما كونه نافراً فتعلق من الوجه العام أيضاً ومن وجه خاص وهو أنها تؤثر في وقوع التألم عند إدراك متعلقها.
وأما كونه ظاناً فتعلق من الوجه العام فقط.
وأما كونه متفكراً فتعلقها من الوجه العام ومن وجه خاص وهو أنها تؤثر في وقوع الاعتقاد علماً إذا كان تعلقها العام بالدليل على الوجه الذي يدل فهذه بيان الوجوه التي تتعلق منها الصفات المعنوية المتعلقة.
وأما الصفات المقتضاة فكونه تعالى قادراً تعلقها كتعلق كوننا قادرين وكونه تعالى عالماً تعلقها كتعلق كوننا عالمين والتحيز وتعلقه من وجه واحد وهو اقتضاؤه لصحة حلول الأعراض فيما اختص به لا غير فأما اقتضاؤه لمنع الغي عن أن يكون بحيث ما اختص به فليس يتعلق لمثل ما ذكرناه في منع تعلق الذاتية ولاكائنية وأما تعلق الصفات المقتضاة الثابتة للمعاني المتعلقة الموجبة لصفات فهو كتعلق الصفات الموجبة عن تلك المعاني ذكره الشيخ الحسن وليس بواضح فهذه الصفات المتعلقة المقتضاة عن صفات ذاتية فأما الصفات المقتضاة عن الصفة المقتضاة أو عن الصفة المعنوية فليس إلا كونه مدركاً فإناه تارة مقتضاة عن صفة مقتضاة وهو في حقه تعالى وتارة مقتضاة عن صفة معنوية وهو في حقنا فتعلقها من وجهين، أحدهما التعلق العام، والثاني أنها شرط في صحة الالتذاذ الذي يؤثر فيه الشهوة وفي صحة التألم الذي تؤثر فيه النفرة أما تحقيقها كأن يكون المدرك ممن يصح عليه الشهوة والنفار كالواحد منا أو تقديراً إذا كان المدرك يستحيل عليه كونه مشتهياً ونافراً وليس إلا القديم تعالى وقد اختلف كلام قاضي القضاة فتارة يقول كونه مدركاً هي المؤثرة في الالتذاذ وكونه مشتهياً شرط وتارة يقول المؤثر كونه مشتهياً وكونه مدركاً شرط وهو الذي صححه المتأخرون ودليله أن الالتذاذ يتزايد بتزايد كونه مشتهياً ولايتزايد بتزايد الإدراك فكان بأن يكون حكماً لها أولى وكذلك الكلام في الإدراك مع كونه نافراً.
قوله: (تنبيه) هذا التنبيه مشتمل على تقسيم الصفات المتعلقة باعتبار خلو بعضها عن التعلق وعدمه وباعتبار تعديها المتعلق الواحد وعدمه.
قوله: (فهذه لايوجد في نوعها شيء غير متعلق) إنما استحال أن يوجد في نوعها شيء غير متعلق لن الاقدرية مع زوال الموانع لابد لها من إيجاب صحة الفعل فإن ذلك من أخص أحكامها وإذا كان ذلك من خصائصها لم تحصل القادرية إلا وهناك ما يصح فعله من المقدورات وهذا معنى أنها لاتوجد إلا متعلقة وأما المدركية فقد علمت أن الحيية لاتقتضيها إلا بشرط وجود المدرك فإذا لم تثبت إلا وهناك مدرك فهو معنى أنها لاتثبت إلا متعلقة فإن المدرك هو متعلقها وأما كون الاحد منا مشتهياً فمعلوم أنها لاتثبت إلا وهناك ما يصح الإشارة إلى أن عند إدراكه يحصل الالتذاذ به وهو معنى كونها لاتوجد إلا متعلقة وكذلك فكونه نافراً لايثبت إلا وهناك ما إذا أدرك وقع التألم بإدراكه.
واعلم أن هذه الصفات الأربع مع اختصاصها بأنها لاتثبت إلا متعلقة مختصة أيضاً بأنها لاتتعلق إلا بالذوات.
قوله: (ومنها ما يوجد في نوعه ما لايتعلق ) إلى آخره.
أما كونه معتقداً فمثال ما يثبت من نوعها غير متعلق كونه معتقداً لأن البقاء معنى كما يذهب إليه أبو القاسم والأشعرية وكونه معتقداً للإدراك معنى كما يذهب إليه أبو علي والأشعرية وكونه عالماً بأن لايأتي للقديم بأن هذه العالمية لامتعلق لها إذ لا ذات يشار إليها يقع الفصل بينها وبين غيرها ويحكم عليها بأنها متعلقها وإن كان الإمام يحيى قد ذكر في التمهيد أن في قول أصحابنا أن العلم بأن لايأتي لامتعلق له فيه نظر لأنهم إن أراداو بأنه لامتعلق له ولامعلوم أنه ليس بموجود وليس بذات معدومة فهذا مسلم وإن أرادوا أنه ليس بمتصور فغير مسلم لأمرين: أما أولاً فلأنه لو لم يكن متصوراً لما أمكن الحكم عليه بأنه غير ثابت لأن الحكم بالثبوت وعدمه مسبوق بالعلم بتصور حقيقته وأما ثانياً فلأنا نميز بينه وبين غيره من الحقائق المتصورة ولو لم يكن متصوراً لم يمكن الحكم عليه بالتميز ثم جعل متعلق العلم بأن لايأتي ذاته تعالى على حكم سلبي.
وأام كونه مريداً فتوجد غير متعلقة إما بنحو أن يعتقد البقاء معنى وصحة حدوثه فيريده أو يعتقد في شيء أنه مما يصح حدوثه فيريده وهو في نفس الأمر قد وجد وكان يعتقد تجدد الجسم وأنه غير باق فيريد حدوثه في مستقبل الأوقات فما كان هكذا فلا متعلق له لأنها لاتتعلق إلا بالحدوث وتوابعه وهكذا الكلام في كونه كارهاً.
وأما كونه ظاناً فكأن يظن البقاء معنى أو يظن ثبوت بان للقديم.
وأما كونه ناظراً فكأن ينظر في حدوث البقاء أو حدوث الإدراك ليتوصل به إلى أمر آخر فإن كونه ظاهراً ههنا لامتعلق لها وكذلك فمع كونه ناظراً على الوجه الصحيح قد يكون غير متعلق كأن ينظر في أمر سلبي على الوجه الصحيح.
واعلم أن متعلقات هذه الخمس قد تكون ذوات أو قد تكون صفات وقد تكون أحكاماً ولايجب في متعلقاتها أن تكون ذواتاً كما يجب في الأوليات.
قوله: (واعلم أن هذه الصفات الخمس) يعني كونه معتقداً ومريداً وكارهاً وظاناً وناظراً.
قوله: (يشترك في أنها تتعلق على سبيل الجملة والتفصيل وأنها تتعدى المتعلق الواحد على الجملة ولاتتعداه على التفصيل).
أما كونه معتقداً فمثال تعلقها على سبيل الجملة أن يعتقد أن كل ظلم قبيح فاعتقاده هذا على سبيل الجملة إذ لم يختص بظلم معين وقد تعدت صفته بكونه معتقداً المتعلق الواحد ههنا فإن ضروب الظلم وأنواعه وأعتابه متعددة بخلاف ما إذا اعتقد اعتقاداً تفصيلياً فإن كونه معتقداً لايتعدى المتعلق الواحد كما إذا اعتقد أن هذا الظلم الذي هو قتل رجل معين قبيح فإن كونه معتقداً لذلك لايتعدى إلى التعلق بأن هذا الظلم الآخر الذي هو أخذ مال هذا الغير قبيح بل يكون له باعتقاده لذلك صفة أخرى وإنما امتنع تعديها لأنها لو تعلقت بأن قيل الغير قبيح وتعلقت مع ذلك بأن أخذ ماله قبيح للزم أن تكون مخالفة لنفسها لأن صفة غيرها لو كانت متعلقة بأن أخذ ماله قبيح لكانت مخالفة لها إذ المتعلقات تختلف باختلاف المتعلقات ووجوهها فتعلقها بما إذا تعلق به غيرها خالفاه يقتضي مخالفتها نفسها إذ لم تخالفها تلك إلا لنفس هذا التعلق بخلاف ما إذا تعدت في التعلق على سبيل الجملة فإن ذلك لايتوصر فيه.
وأما كونه مريداً فمثال تعلقها على سبيل الجملة أن يريد حدوث الإخبار عن زيد فإن له بكونه مريداً لذلك صفة واحدة وهي متعلقة بجملة أفعال وهي حروف الخبر فقد تعدت لما تعلقت على سبيل الجملة من متعلق وهو هذا الحرف إلى متعلق آخر وهو الحرف الآخر ولو تعلقت على سبيل التفصيل كان يريد حدوث حرف واحد لم يصح أن تتعلق بالحرف الآخر لما تقدم في كونه معتقداً وهكذا الكلام في كونه كارهاً.
وأما كونه ظاناً فمثاله أن يظن قدوم زيد من جملة العشرة أو حدوث العالم فإنه ذوات كبيرة فلو ظن حدوث هذه الذات على سبيل التفصيل لم يصح أن يتعلق بحدوث أخرى وكذلك كونه ناظراً.
مثال تعلقه على سبيل الجملة أن ينظر في حدوث العالم ومثال تعلقه على سبيل التفصيل أن ينظر في حدوث هذا الجوهر الفرد المعين.
قوله: (وأما الأربع الباقية) يعني كونه قادراً ومدركاً ومشتهياث ونافراً.
قوله: (فتشترك في أنها لاتتعلق إلا على التفصيل). يعني للرجل في تعلقها طريقة الجملة أما كونه قادراً فلأنه لامقدور لها إلا ويصح إيجاده بها من غير توقف على جملة من المقدورات ولو تعلقت على سبيل الجملة بمقدورات لوجب ألا يصح بها إيجاد بعض تلك المقدورات دون بعض بل كان يجب ألا يصح إيجادها بها إلا معاً، وكونه قادراً وإن تعلقت من المقدورات بما لايتناهى فتعلقها بكل واحد منها على التفصيل وأما كونه مدركاً فلو كان يصح تعلقها على سبيل الجملة لكان يصح مع وجود مدرك واحد ألا يكون مدركاً له بأن يكون تعلقها به وبغيره على سبيل الجملة ومعلوم خلافه.
وأما كونه مشتهياً فهي وإن تعلقت بالمتعلقات الكثيرة فهي تتعلق بكل واحد منها على التفصيل فإنه لا واحد من متعلقاتها إلا ولو أدركه منفصلاً عن غيره ومنفرداً لا ..... ولو صح تعلقها على الجملة للزم إذا تعلقت بمجموع أجزاء على سبيل الجملة وقدرنا أنه حصل له نفار عن كل واحد من مجموع تلك الأجزاء على سبيل التفصيل أن يكون ملتذاً بتلك الأجزاء عند إدراكها لتعلق الشهوة بها متألماً عند تكونه نافراً عنها لأن مع اختلاف الطريقة في التعلق لاتضاد وليس يمكن وقوع هذا الإشكال في كونه معتقداً وسائر الخمس مما يتعلق على سبيل الجملة لأنا نجوز ذلك كأن يعتقد مثلاً كون زيد في جملة العشرة ونعتقد فيه بعينه أنه ليس يزيد كما مضى ويكون أحد الاعتقادين علماً والآخر جهلاً وكذلك فيصح إرادة قدوم زيد من جملة العشرة وكراهة قدومه وحده ويصح ظن قدومه من جملتهم وظن أنه ليس هذا المعين وإن كان إياه.
قوله: (ثم تختلف) يعني الأربع الباقية التي لاتتعلق إلا على سبيل التفصيل.
قوله: (وهو كونه مدركاً يعني فإن كونه مدركاً لايتعلق إلا بمتعلق واحد إما جوهر واحد أو جزء من اللون واحد أو جزء من الطعم واحد أو نحو ذلك، فإذا أدرك أحدنا مدركات كثيرة إما جواهر كثيرة أو غيرها فله بإدراكه لكل واحد منها صفة وإنما لم يجز تعديها للزوم أن تكون بصفة مخالفتها فإن غيرها لو تعلقت بهذا المدرك الآخر لخالفتها لتعلقها به فلو تعلقت به هذه مع تعلقها بمدرك آخر لضارب بصفة مخالفتها.
قوله: (وهو كونه مشتهياً ونافراً). اعلم أن كونه مشتهياً لاتثبت إلا متعلقة بما لايتناهى من المتماثلات فإذا كان أحدنا مشتهيا بشهة واحدة للحلاوة فلا جزء من أجزائها الموجودة والمعدومة إلا وقد تعلقت به صفته تلك بدليل أن أي شيء من أ>زائها أدركه فهو يلتذ به ولايجوز اقتصار تعلقها على متعلق واحد إذاً للزم أن يلتذ بجزء من الحلاوة دون جزء ولاخلاف بين أصحابنا في ذلك لكن اختلف كلامهم في هل تعلقها بالجنس أو بالضرب فقوى ابن متويه أن يكون تعلقها بالضرب، قال: فإن أحدنا إذا اشتهى ضرباً من الحلاوة كالسكر لم يلزم تعلق شهوته بما عداه من ضروب الحلاوة كالعسل ونحوه، وقيل: بل الألى أن يكون تعلقها بالجنس فإنها إذا تعلقت بالحلاوة التي هي جنس من الطعوم فقد تعلقت بجميع ضروبها فأما من اشتهى السكر ولم يشته العسل فليس ذلك لأنها لا تعلق بالجنس بل لأنها تعلقت بالحلاوة على وجه وجد في السكر ولم توجد في العسل ولايجوز تعلق كونه مشتهيا بالمختلفات كالحلاوة والحموضة لأنها لو تعلقت مثلاً بالحلاوة وحدها فإن ذلك ممكن وتعلقت أخرى بالحموضة لكانت مخالفة لها لتعلقها بالحموضة إذ لم يشتركا في إيجاب صحة الالتذاذ بل تلك أوجبت صحة الالتذاذ بالحلاوة وحدها وتلك بالحموضة وحدها فكان يلزم أن تصير بصفة مخالفها.
لايقال: فيلزم من تعلقها بأكثر من جزء واحد أن تكون بصفة مخالفتها لأنها لو تعلقت بذلك الجزء فقط وتعلقت صفة أخرى بجزءٍ آخر وكلاهما من الحلاوة لكانتا مختلفتين لأنا نقول تعلقها بذلك الجزء وحده وتلك بذلك الجزء وحده غير ممكن بلا لابد من تعلق كل واحدة منهما بكل جزء من أجزاء الحلاوة وبذلك تكونان متماثلتين.
واعلم أن مقتضى كلام ابن متويه أنها تكون الشهة المتعلقة بضرب من ضروب الحلاوة مخالفة للمتعلقة بضرب آخر مطلقاً ولايكون مشتهياً لضربين بشهوة واحدة وعلى القول الآخر يكون مشتهياً لجميع الضروب لشهوة واحدة فإن تعلقت بالجنس على وجه فاقتصر تعلقها على ضرب كانت مخالفة لما يتعلق بذلك الجنس على وجه آخر فيكون تعلقها بضرب منه آخر وعلى هذا القياس يجري الكلام في كونه نافراً.
قوله: (وهو كونه قادراً).
اعلم أن من قواعدهم أن كونه قادراً يتعدى المتعلق الواحد في المختلفان مطلقاً سواء كان الوقت واحداً والمحل واحداً والوجه واحداً أم لا فيه تتعلق في كل حال من المختلفات بما لايتناهى بيانه أن الواحد منا في كل حال يصح أن يريد في الوقت الواحد جميع ما يصح أن يراد لأنه يريد كل مراد بإرادة منفردة وجميع ما يصح أن يراد لايتناهى فكذلك أراد أنه لايتناهى على سبيل التفصيل فإن تلك الإرادات مختلفة لاختلاف متعلقاتها ومعلوم أنه يصح منه أن يفعلها في الوقت الواحد وإ، لم يكن له إلا صفة واحدة بكونه قادراً.
لايقال: إنما يصح منه ذلك بصفات كثيرة مثل كونه قادراً فيتعلق كل واحدة من الصفات بواحدة واحدة من الإرادات.
لأنا نقول: لو كان كذلك لكان يلزم أن ينتهي أحدنا إلى حال لايصح أن يريد فيه جميع ما يراد بأن لايكون له إلا صفة واحدة ومعلوم خلافه فمتى قدرنا أنه حال صحة ذلك منه وله صفات كثيرة بكونه قادراً على الإرادات فكل صفة منها متعلقة بما لايتناهى من الإرادات المختلفة فلو لم يثبت إلا واحدة لكفت ثم ولو سلمنا أنه لايصح منه ذلك إلا وله صفات كثيرة بكونه قادراً بتعلق كل واحد منها بجانب من الإرادات التي لاتتناهى فمعلوم أنه لايصح أن يثبت له بكونه قادراً صفات لاتتناهى لتعذر حصول ما لايتناهى وإذا كانت متناهية فتعلقها ..... بما لايتناهى يصير كل واحدة منها متعلقة بما لايتناهى إذ لو كانت كل واحدة متعلقة بما يتناهى لكان مجموع متعلقاتها يتناهى وقد بينا أن تلك الإرادات الت يتتعلق بها قادرية الواحد منا لاتتناهى.
لايقال: فكان يصح إيجاد ما لايتناهى من الإرادات وغيرها إذا تعلقت القادرية به.
لانا نقول: لايلزم ذلك لأنه لايصح دخول ما لايتناهى في الوجود وليس عدم صحة ذلك يقدح في صحة التعلق بما لايتناهى وأما المتماثلات فلا يتعدى القادرية المتعلق الواحد منها إلى أكثر منه مطلقاً ولكن إذا اختلف الوقت أو المحل أو الوجه تعدت في التعلق وتعلقت من المتماثلات بما لايتناهى فمثال اختلاف الوقت أن يتعلق بأن يوجد القادر في جوهر معين كل وقت كوناً في جهة معينة منفردة ولاينتهي إلى وقت إلا ويصح منه ذلك مع التماثل وإيجاد المحل والوجه، قالوا: ولاينتقض ذلك إلا في جنس واحد وهو الإرادة فإن أحدنا إذا أراد قدوم زيد فإنه يصح منه تجديد الإرادة في كل وقت إلى أن يقدم زيد ثم لايصح منه أن يريد قدومه بعد ذلك لأنه لايصح إرادة ما لايصح حدوثه فلو اعتقد مثلاً أنه لم يقدم ففعل إرادة قدومه فليست هذه الإرادة مماثلة للأولى لأنه لامراد لها ولامتعلق وما لامتعلق له يخالف ماله متعلق فقد علمت أنه يصح تعلق القادرية بما لايتناهى من المتماثلات على مرور الأوقات وكذلك فهي تتعلق بما لايتناهى من المتماثلات إذا اختلف المحل فلا محل من المحال مثلاً إلاَّ ويصحمن القادر والوقت واحد أن يوجد فيه كوناً في جهة معينة لما اختلف المحل والكوان في جميع المحال متماثلة إذا اتحدت الجهة.
قال أصحابنا: فإن تعذر عليه ذلك فهو إما لتعد بعض الجواهر مع اشتراط المماسة أو لنقل مانع عن النقل لكن المانع إما يمنع من وقوع الفعل لامن التعلق وكذلك فالقدرة تتعدى في التعلق فيا لمتماثلات وإن اتحد الوقت والمحل إذا اختلف الوجه إلى أكثر من مقدور واحد، مثال ذلك أن يوجد أحدنا في يده اعتماداً فيولد حركة في جهة ثُمَّ يفعل مع تلك الحركة المتولدة في تلك الجهة حركة مبتدأة بتلك القدرة الَّتِي فعل بها تلك المتولدة لما اختلف الوجه فالأولى على وجه التوليد والثانية على وجه الابتداء.
واعلم أن هذه الشروط إنَّما يعتبر في قادرية الواحد منا فأما قادريته تعالى فإنها تتعلق بما لايتناهى من المتماثلات ومن غيرها مطلقاً والدليل على أنَّه لايصح تعلق قادريتنا بما لايتناهى من المتماثلات مع اتحاد الوجه والوقت والمحل أنَّه كان يلزم أن يصح من الواحد منا ممانعة القديم تعالى فإذا فعل تعالى في المحل الواحد في الوقت الواحد مائة جزء مثلاً من الحركة صح من أحدنا أن يفعل فيه بقادرية واحدة مائة جزء من السكون ومعلوم أن أحدنا لايمكنه ممانعة القديم تعالى وكان يلزم زوال التفاضل بين القادرين فكان يتأتى من الضعيف أن يحمل كما يحمل القوي لأن أقل ما في الضعيف قدرة واحدة توجب له صفة تتعلق بما لايتناهى والقوي وإن ثبتت له صفات كثيرة فأكثر ما فيه تعلقها بما لايتناهى وما لايتناهى لايزيد على ما لايتناهى.
هذا ولاستيفاء الكلام في المتعلقات وكيفية تعلقها بها واستيفاء الأدلة على ذلك مواضع أخص بها من هذا الموضع وإنَّما وقعت الإشارة إلى ذكر طرف من ذلك حسبما استدعاه المتن.
فائدة
اعلم أن أوسع الصفات المتعلقة تعلقاً كون المعتقد معتقداً لنها تتعلق بالذوات والصفات والموجود والمعدوم والباقي والماضي والقديم اولمحدث والثابت والمنتفى ويلحق بها كونه ظاناً وناظراً وما عداها من الصفات ليست كذلك أما القادرية فتتعلق بالذات المعدومة فقط وأما المدركية فتتعلق ببعض الذوات الموجودة فقط وأما كونه مشتهياً ونافراً فيتعلقان ببعض الذوات وهي المدركات منها وإن كانت تتعلق بها سواء كانت موجودة أو معدومة وتعلقها بها حال عدمها على أن يوجد وأما كونه مريداً وكارهاً فيتعلقان بالحدوث وتوابعه فقط ولايتعلقانب الماضي ولا المنفي ولا النافي وبالجملة فهي تنقسم إلى ما يتعلق بالذوات وهي كونه قادراً ومشتهياً ونافراً ومدركاً وإلى ما يتعلق بالذوات والصفات والأحكام فقط وهي كونه مريداً وكارهاً وإلى ما يتعلق بالذوات والصفات والأحكام والأمور المنفية وهي كونه معتقداً وظاناً وناظراً.
تنبيه
اعلم أنَّه كثيراً ام يجري في كتب أصحابنا المتأخرين كالغياصة وتعليق الشرح إذا ذكروا تعلق المعاني الموجبة للصفات لامتعلقة كالقدرة والإرادة وعدوا الوجوه الَّتِي منها تتعلق جعل إيجاب الصفة من تعلقات تلك المعاني فيقولون ومن تعلق الإرادة إيجابها الصفة للمريد ونحو ذلك وفيه نظر من وجهين:
أحدهما: أنَّه يلزم منه كون الحياة متعلقة وأن يعدوها من المعاني المتعلقة فإنها توجب الصفة للحي وقد عدوا الإيجاب من التعلقات وكذلك الكون ومعلوم أن المتكلمين لا يعدوهما من المعاني المتعلقة.
الوجه الثاني: أن تعلق المعاني في التحقيق تبع لتعلق الصفات لأن التعلق في الأصل للصفات ودليله أن ما وجدت فيه حقيقة الصفة المتعلقة من الصفات جعلوا المعنى الموجب لها متعلقاً ومالم يكن كذلك لم يجعلوا المعنى الموجب لها متعلقاً ولكن لما كانت المعاني مؤثرة حقيقية في تلك الصفات جعلت متعلقة لتعلقها بخلاف المقتضاة فإنها غيرمؤثرة على الحقيقة فلم تجعل متعلقة وإن تعلقت مقتضياتها ولهذا فإن التحيز متعلق ولم يحكم بتعلق مقتضيه وكونه مدركاً متعلقه ولم يقتض ذلك تعلق مقتضيها وصفاته تعالى الَّتِي هي كونه قادراً وعالماً متعلقة ولم يوجب ذلك تعلق مقتضيها لما لم تكن المقتضيات على التحقيق وإنَّما المؤثر على التحقيق الذوات المختصة بها فجعلت الذوات متعلقة على حسب تعلق تلك الصفات وإذا كان كذلك فمن المعلوم أنَّه ليس من تعلقات الصفات إيجابها الصفة لمن اختصت به فإن ذلك لايتصور وكيف توجب نفصها فلا يجعل ذلك من تعلقات الموجب لها وإنَّما تعلقه تابع لتعلقها وقد جرى في كلام ابن متويه وغيره أن تعلق الصفات تبع لتعلق المعاني لكنه يلزم عليه ألا يتعلق من الصفات إلاَّ ما كانت موجبة عن معنى متعلق فلا يعد التحيز من المتعلقات على أنَّه لو صح ذلك لم يتقض عد إيجاب الصفة من التعلق لأنَّه يجب إذا كان تعلق الصفات تبعاً لتعلق المعاني أن تكون تعلقات المعاني على سواء ومعلوم أنَّه لايتوصر أن يكون من تعلقات الصفات إيجاب الصفة وقد تم الكلام بحمد الله في الصفات والأحكام على سبيل الجملة وهو كالمقدمة للكلام في الصفات الإلهية والتمهيد لذكرها ولك مما سبق المصنف إلى الإتيان به في هذا الموضع واستيفاء الكلام عليه ولم يسبقه إليه الأصحاب فيما صنفوه من كتب علم الكلام بل يعدونه فناً آخر ويفردون الكلام عليه وأكثرهم اعتناء بذلك الشيخ الحسن الرصاص، فإنه صنف فيه كتاب الكيفية واستوفى الكلام عليه ومنهم من يضمنه علم اللطيف ويتكلم عليه في أثنائه.
وهذا حين الشروع في الكلام على صفاته تعالى الإثباتية والاستدلال على كل واحدة منها وهو المقصود المهم ولابد من تقديم مقدمتين قبله:
المقدمة الأولى
ترتيبها. واعلم أن لها ترتيباً في الثبوت وترتيباً في العلم.
أما ترتيب الثبوت فمعناه أن يعرف العقل أن بعض هذه الصفات لايثبت إلاَّ مع ثبوت البعض الآخر وما تقرر في العقل أن ثبوت غيره تابع لثبوته فذلك هو معنى تقدمه عليه في الترتيب الثبوتي وإن لم تكن متفاوتة في الزمان وعقد ترتيب الثبوت أن يقول كل صفة كانت مقتضية لصفة أو مقتضية لما تقتضيها أو مقتضية لما يثر فيما تؤثر فيها أو مصححة لها أو شرطاً في صحتها أو شرطاً في صحة مصححها أو مصححه لما يؤثر فيما تؤثر فيها فإنه يجب سبقها عليها في الثبوت زماناً أو ذهناً فعلى هذا تكون صفته تعالى الأخص متقدمة على صفاته الأربع لأنها مقتضية لها وعلى كونه مدركاً لنها مقتضية لها وعلى كونه مدركاً لأنها مقتضية لما يقتضيها وعلى كونه مريداً وكارهاً لأنها مقتضية لما يؤثر وهو كونه قادراً فيما يؤثر فيهما وهو الإرادة والكراهة، وبكون كونه حياً متقدمة على كونه مدركاً لنها مقتضية لها ومتقدمة على كونه قادراً وعالماً ومريداً وكارهاً لأنها مصححة لها وبكون كونه موجوداً متقدمة على كونه حياً لنها شرط في صحتها وعلى كونه قادراً وعالماً لأنها شرط في صحة مصححها، وبكون كونه حياً متقدمة على كونه مريداً وكارهاً من وجه آخر وهو أنَّها مصححة لما يؤثر فيما يؤثر فيهما والمراد بالتقدم ههنا التقدم الذهني لا الزماني لأن جميع هذه الصفات ثابتة على سواء من غير تقدم ولاتأخر في الزمان إلاَّ كونه مدركاً ومريداً وكارهاً فإن بقية الصفات متقدمة عليها تقدماً زمانياً ولهذه الثلاث فيما بينها ترتيب في الثبوت فكونه مدركاً ومريداً متقدمان على كونه كارهاً تقدماً زمانياً لأن كونه كارهاً لايتعلق إلاَّ بأفعال المكلفين بعد التكليف وكذلك فكونه قادراً لها تقدم على
كونه مدركاً ومريداً وكارهاً من وجه آخر وهو أنَّه لايريد ولايكره ولايدرك إلاَّ بعد فعله للإرادة والكراهة والشيء المدرك وفعل ذلك متوقف على كونه قادراً وكذلك فلكونه تعالى عالماً تقدم على كونه مريداً وكارهاً من وجه وهو أنَّه لايريد وقوع الشيء على وجه دون وجه أو يكره وقوعه على وجه دون وجه إلاَّ بعد أن يعلم ذلك الشيء وصحة وقوعه على ذلك الوجه.
وأما ترتيبها في العلم والمراد الاستدلالي لا الضروري فعقده أن نقول: كل صفة دلت على صفة أو دلت على ما يدل عليها أو جرى مجرى الدليل عليها فإنه يجب أن يسبق لنا العلم بها فعلى هذا يجب تقدم كونه قادراً وعالماً وحياً وموجوداً على كونه حياً موجوداً لأنهما يدلان عليهما وعلى كونه مدركا لأنهما يدلان على ما يدل عليها، ويجب تقدم العلم بكونه حياً على كونه مدركاً لأنها تدل عليها، ويجب تقدم العلم بكونه قادراً على كونه عالماً ومريداً وكارهاً لأن كونه قادراً يجري مجرى الدليل عليها من حيث أن حكم كونه عالماً الذي هو حقيقتها فرع على حكم كونه قادراً وكذلك حكم كونه مريداً وكارهاً.
بيانه: أن حكم كونه عالماً صحة الفعل المحكم وحكم كونه مريداً صحة وقوع الفعل على الوجوه المختلفة وحكم كونه كارهاً صحة وقوع الفعل الذي هو الكلام نهياً وتهديداً وذلك جميعه يحتاج إلى العلم بحصة الفعل على الجملة في الأصل.
المقدمة الثانية
في قسمة صفاته تعالى ولها قسم كثيرة،
فمنها: أنَّها تنقسم إلى واجبة وجائزة فالجائزة كونه تعالى مريداً وكارهاً لاغير والواجبة تنقسم إلى ذاتية ومقتضاة فالذاتية هي الصفة الأخص لاغير والمقتضاة تنقسم إلى مقتضاة عن الصفة الذاتية وهي كونه قادراً وعالماً وحياً وموجوداً ومقتضاة عن المقتضاة وهي كونه تعالى مدركاً وقد حكى عن أبي علي وأبي عبدالله القول بأن كونه تعالى مدركاً صفة ذاتية.
ومنها: أنَّها تنقسم إلى متعلقة وغير متعلقة فغير المتعلقة الصفة الأخص وكونه حياً وموجوداً والمتعلقة سائرها وهي كونه قادراً وعالماً ومدركاً ومريداً وكارهاً والمتعلقة تنقسم إلى ما يصح الاشتراك في متعلقة وإلى ما لايصح الاشتراك في متعلقة فالذي لايصح الاشتراك في متعلقة كونه قادراً والذي يصح الاشتراك في متعلقة سائرها.
ومنها: أنَّها تنقسم إلى ما يختص به تعالى دون غيره وهي الصفة الأخص وإلى ما يشاركه تعالى غيره في مجردها وكيفيتها وهي كونه مدركاً ومريداً وكارهاً وإلى ما لايشاركه غيره في كيفية استحقاقها ويشاركه في مجردها وهي كونه تعالى قادراً وعالماً وحياً وموجوداً.
ومنها: أنَّها تنقسم إلى ما تثبت له تعالى في كل حال ووقت وهي الصفة الأخص وكونه قادراً وعالماً وحياً وموجوداً وإلى ما تثبت له تعالى في وقت دون وقت وهي كونه مدركاً ومريداً وكارهاً.
ومنها: أنَّها تنقسم إلى ما يتعدد بتعدد متعلقاتها أو موجباتها فيكون صفات كثيرة ككونه تعالى مدركاً ومريدا صوكارهاً فإن كونه مدركاً يتعدد بتعدد المدركات الَّتِي هي متعلقاتها وكونه مريداً وكارهاً يتعددان بتعدد موجباتهما فكل إرادة توجب له صفة بكونه مريداً وكل كراهة توجب له صفة بكونه كارهاً وإلى ما لايتعدد بحال وهي سائر صفاته تعالى وإن كان الشيخ أبو عبدالله يذهب إلى تعدد العالمية بتعدد متعلقاتها، وسيأتي الكلام في ذلك مستوفى إن شاء الله تعالى.
القول في أن الله تعالى قادر
قد عرفت ترجح تقدمها باعتبار الترتيب العلمي وهو المعتمد ههنا وقد رجح السيد الإمام تقديم الكلام في هذه الصفة بأن الذي يدل على إثبات الصانع يدل عليها من دون واسطة بخلاف سائر الصفات وكلامه عليه السلام ينبي عن جعل الأحكام واسطة وكذلك وقوع الفعل على الوجوه المختلفة وفيه تسامح والمراد أن مجرد وجود العالم لايدل على شيء من الصفات سوى القادرية وسائر الصفات لابد في الاستدلال به عليها من زيادة ويمكن أن يوجه تقديمها بغير ذلك وهو أنَّها هي المسألة العظمى والمحجة الكبرى وعليها مدار أمر التوحيد ومدار النزاع بين المسلمين الموحدين وبين الفلاسفة والملحدين وهي الَّتِي تميز بين الفريقين لأنَّه لايكاد يعرف خلاف في ثبوت المؤثر وذلك مما ينفق عليه المسلمون والكافرون وإنَّما محط الفائدة وموضع التمييز هو إثبات قادرية المؤثر واختاره ونفي ذلك.
قوله: (مع سلامة الحال) يعني من حصول مانع أو ما يجري مجراه فإن القادر إذا منعه مانع من الفعل فذلك لايخرجه عن القادرية مع أنَّه لايصح منه الفعل والمانع ضد الفعل الذي يقدر عليه القادر، مثاله أن يحاول القادر تحريك جسم فيسكنه أقوى منه أومثله بحيث يتعذر عليه التحريك فالسكون مانع لأنَّه ضد للحركة والذي يجري مجرى المانع القيد والحبس فإنه يتعذر الخروج من الحبس والعدو على المقيد وليس الحبس والقيد بضدين فلم يكونا مانعين وإنَّما جريا مجرى المانع لتعذر الفعل معهما وقد أورد على هذا الحد الذي ذكره المصنف أسئلة كثيرة ولها أجوبة متسعة ذكرها يطول إلاَّ أنا نذكر منها اعتراضين وجوابيهما، الاعتراض الأول: ذكره ابن الملاحمي وهو أن قال: كيف قلتم فيا لحد المختص بصفة وفي الناس من يعلم القادر قادراً وإن لم يعلم اختصاصه بصفة ومن حق من يعلم المحدود أن يعلم المحد وأيضاً فقولنا قادر أجلى من هذا الحد ومن حق الحد أن يكون أجلى من المحدود.
والجواب أن الذي يأتي بالحقيقة لايلزمه أن يأتي بها على حسب ما يتفق أهل المذاهب كلهم عليه ولايلزم فيمن علم المحدود أن يعلم الحد إلاَّ حيث يعلم المحدود على التفصيل.
وقوله: إن قولنا قادر أجلى من هذا الحد لايخلو إما أن يريد على سبيل الجملة فمسلم ولكنا حددنا القادر على سبيل التفصيل وإن أراد على سبيل التفصيل فغير مسلم.
الاعتراض الثاني: أنَّه لا حاجة إلى قولكم مع سلامة الحال احتراز عن المانع فإن المانع إنَّما يمنع الحدوث والوقوع لا الصحة وأنتم حددتم بالصحة وهي سابقة على الحدوث ثُمَّ أن المنع لايكون إلاَّ بكثرة الأضداد وزيادتها على مقدورات الممنوع أو مساواتها لها والله تعالى مقدوراته غير متناهية في الوجود بل لاشيء يفعله تعالى إلاَّ وفي مقدوره الزيادة عليه فلا يتصور المنع في حقه ومن حق الحد أن يكون شاملاً.
والجواب: أما عن الطرف الأول فإن الذي يمنع من الحدوث ينكشف لأجله أن ذلك المقدور الذي منع من حدوثه لايصح من القادر فعله قبل حالة الحدوث لكن قد صرح ابن متويه وغيره من المتكلمين بأن المانع إنَّما يمنع من وقوع الفعل لامن صحته قالوا: إذ لو منع من الصحة لكان محيلاً لامانعاً فالاعتراض على هذا قادح وأما عن الطرف الثاني فهو أن الأمر وإن كان كذلك فالمنع يتصور في فعله تعالى من وجه وهو أن يريد تعالى إيجاد قدر من مقدوراته لا غير والواحد منا يقدر من أضداده على أكثر من أعداده فالواحد منا يمكنه في هذه الصورة منع فعله تعالى إلاَّ أنَّه لايقال فيه أنَّه تعالى ممنوع لإيهام الخطأ وهو أنَّه لايقدر على الزيادة.
قوله: (وقال نفاة الأحوال) إلى آخره.
يعني أبا الحسين وابن الملاحمي وأصحابهما والحد المذكور لابن الملاحمي وذكر أنَّه يتأتى على مذهبنا ومذهبهم وهو الأقرب ويتصل بما تقدم حقيقة المقدور والفاعل والفعل، أما المقدور فحقيقته المعلوم الذي يصح إيجاده والفاعل حقيقته من وجد من جهته بعض ما كان قادراً عليه والفعل حقيقته ما وجد من جهة من كان قادراً عليه والفصل بين القادر والفاعل أنا لانصف القادر بأنه قادر على هذا الشيء إلاَّ قبل إيجاده ولانصف الفاعل بأنه فاعل له إلاَّ بعد إيجاده وكذلك فالمقدور لايوصف بأنه مقدور إلاَّ قبل وجوده ولايوصف الفعل بأنه فعل إلاَّ بعد وجوده.
فصل
قوله: (ذهب أهل الإسلام والكتابيون وغيرهم إلى أن الله تعالى قادر). وأراد بغيرهم البراهمة وبعض عباد الأصنام وبالجملة فمن اعترف بالفاعل المختار ذهب إلى أنَّه قادر.
قوله: (وقالت الباطنية: لاقادر ولاغير قادر). الذي دعاهم إلى ذلك أن قالوا: إن كونه قادراً وغيرها هي من صفات المحدثات فإذا قلنا أنَّه تعالى قادر كان في ذلك تشبيه له تعالى بها، وإن قلنا: ليس بقادر كان في ذلك وصفه بالعجز وهو صفة نقص وهكذا قالوا في سائر صفاته تعالى الَّتِي نشاركه تعالى في مجردها.
قوله: (لإضافتهم التأثيرات إلى غيره يعني مع أن الذي يدلنا على قادريته إنَّما هو حدوث هذه الحوادث من جهته على سبيل الصحة والاختيار وقد جعلوها حادثة بالفطرة لامن جهته تعالى ولو أضافوا شيئاً من الحوادث إليه تعالى فليست على قود قولهم دليلاً على القادرية وإلاَّ لزم كون الأصول الأربعة قادرة لصدور الحوادث عنها.
قوله: (وقالت الفلاسفة هو قادر) إلى آخره. هكذا حكى المصنف عنهم وقد جود في النقل وبالغ في التحقيق وحكى بعض أصحابنا عنهم عكس ذلك وهو القول بأن صانع العالم الذي هو العلة عندهم لايوصف بالقادرية والعالمية لأن ذلك يقتضي النكير فيه وهو غير منكر. قال: وهكذا قالوا في سائر الصفات.
قوله: (لنا أن الفعل قد صح منه) يعني بالفعل الأجسام الَّتِي قد وجدت وأكثر الأعراض الموجودة وهي ما لايدخل جنسه تحت مقدورنا أو يدخل ولكنها وقعت على وجه لايصح وقوعها عليه من القادرين بالقدرة.
وفيه سؤال: وهو أن يقال: ما أردت بقولك أن الفعل قد صح منه هل بعد وجوده فلا نسلم صحته منه بعد وجوده أو قبل وجوده فهو لايسمى في تلك الحال فعلاً ونحو هذا يرد على حد القادر حيث قالوا: القادر الذي يصح منه الفعل.
والجواب: أن المراد أن هذا الفعل الذي قد وجد وحصلت فيه حقيقة الفعل قد صح منه قبل وجوده وأما قولهم في القادر هو الذي يصح منه الفعل فتسامح والمراد أنَّه الذي يصح منه ما إذا أوجده كان فعلاً فسموه قبل وجوده فعلاً باسم ما يؤول إليه.
قوله: (وإلا لزم حصوله في الأزل دفعة واحدة ولزم قدمه وذلك لأن المؤثر في العالم قد ثبت لنا قدمه فلو صدر عنه العالم على جهة افيجاب لاقتضى ذلك كونه علة أو سبباً أو مقتضياً لن الموجبات لاتنفك عن ذلك وفي كلها يلزم حصول العالم دفعة واحدة في الأزل لأن المعلول لايتراخى عن العلة وكذلك فالمسبب لايتراخى عن سببه ويلزم حصول المسببات دفعة واحدة إلاَّ أن يقف وجودها أو وجود بعضها على حصول شرط يقف تأثير السبب عليه ولا دلالة هنا على التوقف على شرط وكذلك الكلام في المقتضي وعدم تراخي مقتضاة عنه والقول بأن المؤثر في العالم علة أو سبب أو مقتض باطل من وجوه أخر غير هذا الوجه الذي هو لزوم قدم العالم مع تقرر حدوثه، أما بطلان كونه علة فلأن العلة لاتؤثر إلا في صفة أو حكم لذات أخرى لا في ذات ولأن العلة لاتوجب حتى تختص والعالم قبل وجوده لايجوز اختصاص علة به توجب وجوده ولأن العلة إذا كانت قديمة لزم حصولها ومعلولها في الأزل دفعة واحدة ومع حصولها ومعلولها في الأزل لاتكون بأن تكون علة فيه أولى من أن يكون علة فيها، وأما بطلان كونه سبباً فلأن الأسباب ليست إلا الثلاثة المعروفة ولاتأثير لشيء منها في الأجسام فإن أثبت سبب غيرها فلا طريق إليه وأما بطلان كونه مقتضياً فلأن المقتضي لايكون إلا صفة أو حكماً وقد ثبت أن المؤثر في العالم ذات ولأن المقتضي لايجوز تأثيره في حدوث الأجسام والأعراض لما ثبت من كونه ليس بذات.
قوله: (ونحو ذلك مما تقدم فساده) يعني في الركن الثالث وهو لزوم أن تحصل الأجسام دفعة واحدة في جهة واحدة بل في كل الجهات وأن تكون بصفة واحدة لأنه لايخصصها بوقت دون وقت وصفة دون صفة وجهة دون جهة إلا الفاعل المختار.
قوله: (بمعنى الإجزاء) هذا كما يقال: صلاة صحيحة، أي مجزئة.
قوله: (وبمعنى التأليف المخصوص) يعني التاليف الذي يصح حلول الحياة لمحله.
واعلم أن للصحة معاني غير ما ذكره المصنف فقد يستعمل في مقابلة الاستحالة يقال: العالم يصح وجوده فيما لايزال، ويستحيل وجوده في الأزل، وصحة بمعنى اعتدال المزاج فلان صحيح أي مزاجه معتدل ويراد بالمزاج ما يريده الأطباء من اجتماع الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وبمعنى وجوب القبول كما يقال: شهادة فلان صحيحة أي يجب قبولها، وبمعنى اجتماع الشرائط المعتبرة شرعاً في العقود يقال: هذا نكاح صحيح، بمعنى أن الشرائط التي ورد بها الشرع موجودة فيه.
قوله: (ويوجهون إليه المدح والذم ونحو ذلك) يعني يوجبه الأمر والنهي.
قوله: (ثبوتاً وانتفاء بخلاف الوقوع). يعني فمن ثبتت صحة الفعل منه حكمنا بأنه قادر وعلمنا ذلك من حاله ومن لا فلا بخلاف الوقوع فلا يقال: إن من وقع منه الفعل فهو قادر على الإطلاق لأن الأسباب مع وقوع المسببات عنها لا توصف بأنها قادرة، وإن كان وقوع المسببات على التحقيق من القادر وكذلك لو ثبت أن صانع العالم موجب على ما يقوله كثير من الفرق لكان وقوع هذه الأفعال التي جعلوها موجبة عنه غير دال على أنه قادر وكما أن نفس وقوع الفعل لايدل على قادرية من وقع منه فكذلك عدم وقوعه لايدل على عدم القادرية بل إذا ثبت الصحة دلت وإن لم تقع.
قوله: (وإن كان بالوقوع تعرف الصحة) يعني فلا يمكنا معرفة الصحة من دون وقوع وإن أمكن ثبوتها من دونه، وفي كلامه نظر فليس بالوقوع مطلقاً تعرف الصحة بل إذا كان وقوعاً لا على وجه الإيجاب.
واعلم أن هذا الاستدلال من أدلة إنما يدل على أن من صح منه الفعل فهو قادر على طريقة الجملة من دون أن يلحظ فيه إلى التفصيل وهو الاستدلال على أن كونه قادراً صفة لاحكم.
فصل
قوله: (وطريقة التفصيل) يعني التي يثبت بها كون القادرية صفة.
قوله: (فلحصول طريقة التعليل). اعلم أن التعليل مستلزم ثبوت معلل ومعلل ومعلل به فينبغي ذكر حقائقها أما التعليل فكان أصحابنا يقولون فيه طلب أمر معلل به ما ثبت من الصفات والأحكام واعترضه الفقيه المحقق قاسم بأنه يلزم إذا طلب الطالب أمراً يعلل به ولم يجده أن يكون ذلك تعليلاً ومعلوم خلافه.
قال: فالأولى أن يقال في حده تعليق ما ثبت من الصفات والأحكام بأمر وحقيقة المعلل هو من علق ما ثبت من الصفات والأحكام بأمر وصفات المعلل كل حكم أو صفة علق ثبوته بأمر وحقيقة اقة أيضاً ابتدأها قاضي القضاة واعتمدها المتأخرون ومثال حصول الحكم مع الجواز ما نقوله في الصفات المعنوية أنَّها حصلت مع جواز ألا تحصل، ومثال الثبوت بعد الانتفاء ما نقوله في كون الجوهر متحيزاً فإنه ثبت بعد أن لم يكن ثابتاً فلا بد من أمر يعلل به وهكذا جميع الصفات المعنوية أيضاً فيجب تعليلها من الوجهين والمراد بالانتفاء ههنا عدم الثبوت لا الانتفاء الحقيقي والفرق بين الوجهين أنا لم نوجب التعليل ههنا إلاَّ من حيث الثبوت بعد الانتفاء سواء كان الثبوت مع الوجوب كما في التحيز أو مع الجواز كما في الصفة المعنوية بخلاف الوجه الأول فإن التعليل فيه وجب من حيث كان مع جواز عدمه فافترقا ومثال ما يقع فيه افتراق بعد اشتراك في غيره فيجب تعليله مسألتنا فإن هاتين الذاتين اشتركتا في كونهما حيين ثم افترقتا فصح من أحدهما الفعل ولم يصح من الأخرى.
قوله: (وقيل هي أن يتجدد الحكم بعد أن لم يكن) إلى آخره.
هذه طريقة الشيخ ابن الملاحمي وكل هذه الطرق متقاربة كما ذكره المصنف وقد أهمل رحمه الله ذكر طريقة الشيخ أبي رشيد وهي أن كل ما كان من الأحكام إذا لم يعلل بطل القول به وجه تعليله كما في مسألتنا فإنه لو لم يكن ثم أمر يعلل به صحة الفعل من أحد الحييه الأول فإن التعليل فيه وجب من حيث كان مع جواز عدمه فافترقا، ومثال ما يقع فيه افتراق بعد اشتراك في غيره فيجب تعليله مسألتنا فإن هاتين الذاتين اشتركتا في كونهما حيين ثم افترقتا فصح من أحدهما الفعل ولم يصح من الأخرى.
قوله: (وقيل هي أن يتجدد الحكم بعد أن لم يكن) إلى آخره.
هذه طريقة الشيخ ابن الملاحمي وكل هذه الطرق متقاربة كما ذكره المصنف وقد أهمل رحمه الله ذكر طريقة الشيخ أبي رشيد وهي أن كل ما كان من الأحكام إذا لم يعلل بطل القول به وجه تعليله كما في مسألتنا فإنه لو لم يكن ثم أمر يعلل به صحة الفعل من أحد الحيين دون الآخر لم تكن بصحة الفعل منه أولى من صحته من الحي الآخر وكان عدم الأمر المعلل به عائداً على ثبوت الصحة من أحدهما دون الأخر بالنقض، وكذلك ما أشبه هذه المسألة وما كان من الأحكام إذا علل بطل القول به فإنه لايجوز تعليله كحلول المعنى في المحل المعين ونحوه مما تقدم ذكره وكل ما كان من الأحكام الثابتة لايبطل القول بثبوته علل أو لم يعلل فإنه ينظر فيه فإن كان في تعليله فائدة زائدة على معرفة التعليل جاز تعليله ولايبعد أن يجعل واجباً كتعليل حاجة أفعالنا إلينا بحدوثها فإنا لانفتقر في ثبوت حاجتها إلينا إلى ذلك فذلك مما قد ثبت لكن في تعليلها بالحدوث فائدة وهي أن قياس أفعاله تعالى على أفعالنا في حاجتها إلى محدث لاتتم إلا مع تعليلها وإن لم تكن في التعليل فائدة من كل وجه، فقيل يحسن التعليل للعلم بوجه الحكم وعلته وأقل مراتب العلم حسنه، وقيل: لايحسن إذ لا يقع فيه فائدة زائدة على ثوت الحكم المعلل وهاذ قد ثبت من قبل، ومثال ذلك: تعليل قبح الظلم بكونه ضرراً عادياً إلى آخره، فإن القبح فيه معلوم ولايستفاد بالتعليل إلا معرفة وجه القبح هكذا ذكر المتكلمون.
قيل: والأولى أن هذا مما يجب تعليله لأن به تحصل فائدة زائدة وهي أن ما هذه صفته لو وقع منه تعالى لكان قبيحاً لحصول علة القبح، ولكن المثال وإن لم يطابق فالمسألة في أصلها مفروضة تحقيقاً إن وجد لها مثال وتقديراً إن لم يوجد، وقد مثله الفقيه محمد بن يحيى والفقيه قاسم بمثال آخر فقالا: مثاله ما يقال في قبح الظلم من أن العلم بقبحه فرع على العلم بوجه القبح إما على جملة أو تفصيل بخلاف العلم بالمتحركية فإنه غير فرع على العلم بعلتها وهي الحركة، إما على جملة أو تفصيل مع اتفاق الحركة ووجه القبح في كونهما مؤثرين واتفاق القبح والمتحركية في كونهما مؤثراً فيهما فما العلة في الفرق بينهما.
وقد قيل في تعليل ذلك: إن الطريق إلى العلم بقبح الظلم العلم بوجه قبحه، وليس كذلك كونه متحركاً فهو معلوم ضرورة لايتوقف على العلم بالحركة.
قوله: (فوجدناها مما يقبل المقتضي) يعني فيجب تعليله على طريقة قاضي القضاة والمقتضي هو الصفة التي هي كونه قادراً لأن صحة الفعل مقتضاة عنها.
قوله: (فقد خالف فيه أبو الحسين وأصحابه) يعني فإنهم ذهبوا إلى أن صحة الفعل في الشاهد حاصلة للبنية المخصوصة وفي الغائب للذات المخصوصة.
قوله: (وكثير من غيرهم) أشار إلى أبي القاسم وأتباعه من البغدادية فإنهم ذهبوا إلى أن صحة الفعل منا لصحة البنية واعتدال المزاج، وبرغوث والنجار فإنهما ذهبا إلى أن الفعل صح من القادر لأنه غير عاجز لا لأمر ثابت ، والفلاسفة فإنهم ذهبوا أيضاً إلى أن صحة الفعل تثبت لاعتدالا لحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وللنجار قول آخر وهو أنه صح الفعل للقدرة لا للقادرية.
قوله: (والكلام في تلك الصحة كالكلام في هذه) يعني فإن الذي يؤثر في صحة الفعل منا إذا كان فاعلاً كالباري تعالى فهو لايؤثر في هذه الصحة. لنا: ولا في سائر ما يؤثر فيه إلا على سبيل الصحة، فهل حصلت له تلك الصحة بفاعل آخر لزم التسلسل أو لصفة فلا فرق بين الموضعين.
قوله: (ولأن هذه الصحة تتجدد) إلى آخره.
يعني فقد يصح الفعل من هذا القادر في وقت دون وقت وذاته بحالها وما أثر فيه الفاعل فهو يتبع حالة الحدوث دليله تأثيره في كون الكلام خبراً ونحوه فإنه يتبع حالة حدوثه وكذلك تأثيره في كون الفعل طاعة أو معصية ونحو ذلك.
قوله: (لأن المعنى يختص المحل والصحة حكم صدر عن الجملة) يعني فلا يجوز فيما يرجع إلى المحل أن يؤثر فيما يرجع إلى الجملة.
وفيه سؤال وهو أن يقال: أليس القدرة مع أنها راجعة إلى المحل فلا توجد إلا في جزء واحد عندكم مؤثرة في القادرية مع أنها صفة تثبت للجملة وكذلك غيرها من الصفات الراجعة إلى الجملة تؤثر فيها المعاني الراجعة إلى المحل؟
والجواب: أن بين الموضعين فرقاً فإ، صحة الفعل حكم صدر عن الجملة فيجب في المؤثر فيه أن يعود إليها بخلاف ما ذكرته فإن كونه قادراً لم يصدر عن الجملة وإنما ثبتت لها وأيضاً فإن الدليل على أن صحة الفعل تدل على أمر راجع إلى الجملة هو بطريق مفارقة هذه الجملة لجملة أخرى، وليس كذلك الدلالة على إثبات القدرة فإنه لايستدل عليها بطريقة المفارقة بل بحصول الصفة مع الجاوز والحال واحدة والشرط واحد باعتبار الجملة في نفسها لا باعتبار جملة أخرى فافترقت الحال.
قوله: (وزوال المانع لايقبله) الوجه في ذلك أنه نفي محص والنفي المحض لايقبل التزايد واحترزنا بقولنا المحض عن النفي الذي ليس بمحض كما يقال: هذا أعني من هذا، مع أن العني يرجع به إلى نفي الحاجة وإنما قيل: التزايد لأنه ليس بنفي محض إذ المرجع به إلى أن صاحبه مستغن بشيء عن شيء فقد صار المرجع بالعني عن شيء إلى وجود ما يستغنى به مع انتفاء الحاجة عنه فلهذا صح دخول التزايد فيه، وأن يقال: فلان أعني من فلان. وكذلك فهو احتراز عن قولك هذا الفعل أقبح من هذا لما اجتمع فيه وجهان من القبح، وليس في الآخر إلا وجه قبح كما لو كان أحدهما كذباً وعبثاً والآخر كذباً فقط مع أن القبيح المرجع به إلى النفي، وهو ما ليس للمتمكن من فعله أن يفعله على بعض الوجوه، ولكن صحح قولك أقبح المفيد للتزايد أنه ثبت فيه وجهان من القبح فليس بنفي محض.
قوله: (يتعذر علينا أيضاً تحريكه).
إن كان المنفي من جهة الله تعالى فلا كلام في لزوم ما ذكره لأن ما أراد وقوعه فهو بالوقوع أحق، وكذلك إذا كان من غيره تعالى وهو أكثر مما في مدقوره ويخص بهذا وجه آخر وهو أنه كان يلزم إذا كان ذلك المنع من غيره أن يحس باعتماد معتمد عليه لن غيره تعالى لايعدي الفعل إلى الغير إلا بالاعتماد ومعلوم أن هذا الحي الذي يتعذر عليه الفعل كالمريض لايحس باعتماد معتمد عليه.
قوله: (لأن البنية تأليف مخصوص) يعني البنية التي ذهبوا إلى أن صحة الفعل في الشاهد لأجلها فإنها تأليف مخصوص يختص بأن محله فيه رطوبة ويبوسة وحرارة وبرودة ولحمية ودمية.
قوله: (يوضحه أنه لابد من استعمال محل القدرة).
اعلم أن مرادهم فإنه لابد من استعمال محل القدرة إذا ورد في كلامهم أنه لايفعل عنا الفعل إلا في محلها أو بواسطة فعل في محلها فهذا هو معنى استعمال محلها ويدل على أنه لابد من ذلك أنه لو صح بها الفعل لا على هذا الوجه لكان ذلك اختراعاً، والمعلوم تعذره من جهتنا.
قوله: (والأمور الكثيرة لاتؤثر في الحكم الواحد) قال الإمام يحيى في التمهيد وهو مذهب أبي الحسين وابن الملاحمي وورد أن البنية أمور كثيرة فلا يجوز أن تؤثر في أمر واحد. وأجاب با، الحق أن يقال: إن بعض هذه الأمور التي يرجع بالبنية إليها مؤثر وبعضها شرط ولايعلم التمييز وعدم علمنا بالتمييز بين المؤثر والشرط لايضرنا في ذلك ولايخفى ما فيه من التعسف والتمحل الذي لايخلص.
قوله: (لأن عند اجتماع أجزاء رطبة وأجزاء يابسة ونحو ذلك). يعني وأجزاء حارة وأجزاء باردة.
قوله: (ونحن فرضنا الكلام في حيين اشتركا في كونهما جملتين). يعني وصح الفعل من أحدهما ولم يصح من الآخر ولو كان الفعل يصح من الجملة للجملة لم يصح ذلك الفرض فإنه يجب على هذا صحة لافعل من الجملتين معاً.
قوله: (فالكلام فيه كالكلام في البنية) يعني حيث ذكر أنها راجعة إلى الآحاد وما كان راجعاً إلى الآحاد لم يؤثر فيما يرجع إلى الجملة.
قوله: (والصوت يقف على الصلابة وهي بنية مخصوصة) أي تأليف مخصوص بأن اعتدلت رطوبة محلية ويبوستهما ، وقيل: لابد من زيادة اليبوسة في محلي التأليف الذي هو صلابة.
قوله: (ولكنه وقوف المشروط على الشرط). يقال: أما الصوت فمسلم أن وقوفه على الصلابة وقوف المشروط على الشرط لأن المؤثر فيه هو الاعتماد والصلابة شرط في تأثير الاعتماد فيه وإن كانت غير شرط في إيجاده من الله تعالى، إذا أوجده مبتدأ وأما القادر بقدرة فشرط في حقه مطلقاً لأنا لانوجده إلا بالاعتماد وتأثيره فيه مشروط بالصلابة، وقد ذهب أبو علي إلى أنه محتاج إلى صلابة المحل من أي فاعل وجد وهو أحد قولي أبي هاشم، والذي عليه الجمهور أنه يصح منه تعالى أن يفعل في الجزء الواحد أصواتاً هائلة، إذ لامانع من ذلك.
وأما قول المصنف: البنية شرط في صحة كون الأجزاء حية ففيه نظر لأنها إذا كانت شرطاً لامؤثراً فما المؤثر فإن الحياة لاتؤثر في الصحة لأنها علة وإنما تؤثر في الإيجاب ولعله يذهب إلى أن المصحح للحيية التحيز بشرط البنية فيكون التحيز حينئذ هو المؤثر في هذه الصحة والبنية شرطاً كما أشار إليه ولا مانع من ذلك كما أن كونه حياً مؤثر في صحة كونه عالماً وبنية القلب شرط في تلك الصحة فلا يلزم إذا كان أن يكون المؤثر في الصحة أموراً كثيرة.
قوله: (ثم إن سلمنا أن الوجود هو المؤثر في الحقيقة فهو لايختلف بل كل وجود يؤثر في ظهور ذلك).
يقال: إن أبا الحسين يقابل ذلك بمثله وهو التزام أن كل بنية تؤثر في صحة الفعل وتقتضيه كما التزمت أن كل وجود في ذلك الظهور.
والجواب: أن مراد المصنف أني ألتزم أن كل صفة بالفاعل تؤثر في ظهور الصفات والأحكام ولكن لا صفة عندي بالفاعل إلا الوجود فأنا التزم أن كل وجود مؤثر في ذلك، ولو كان بالفاعل صفة غير الوجود لالتزمت تأثيرها في ذلك ولايريد منك إلا التزام أن كل صفة بالافعل تؤثر في صحة الفعل ليلزمك تأثير السواد والبياض فإنه صفة بالفاعل عندك، وفيه نظر، فإنه كما لايلزم إذا أثرت صفة معنوية في أمر تأثير كل صفة معنوية فيه لايلزم إذا أثرت صفة بالفاعل في أمر أن تؤثر كل صفة بالفاعل فيه، ولو أن المصنف ذهب إلى أن ثم صفة بالفاعل غير الوجود لم يمكنه أن يثبت لها من التأثير ما أثبت للوجود.
قوله: (قيل له المرجع بالحصافة عندك إلى كثرة الأجزاء).
يقال: بل المرجع بالحصافة مع كثرة الأجزاء إلى اكتنازها وتلاصقها بحيث لايكون ثم خلل بينها.
تنبيه
ما دل على بطلان ما ذهب إليه أبو الحسين وأصحابه فهو الذي يدل على بطلان مذهب البغداديين والفلاسفة فغ، مذاهبم جمعاً متقاربة، وأما بطلان مذهب برغوث والنجار فبما تقدم من أن الحكم إلا يتأتى لايعلل بالنفي تعليل تأثير وكذلك القول بأن صحة الفعل المؤثر فيه القدرة قد تقدم بطلانه حيث أبطل أن يتكون صحة الفعل لوجود معنى من دون إيجابه صفة للجملة.
فصل
إذا ثبت أن للقادر بكونه قادراً حالاً فهي لاشك غير كونه حياً، وكونه مشتهياً.
قوله: (ونحو ذلك من صفات الجمل) يعني ككونه نافراً ومريداً وكارهاً وظاناً وناظراً ومدركاً.
قوله: (أعني ما عدا كونه حياً) يعني فلا تثبت القادرية من دونها، ولكن ليس ذلك لأمر يرجع إلى أنها المؤثرة في صحة الفعل وأن المرجع بكونه قادراً إليها ولكن من حيث أنها مصححة لها وأصل في صحتها ولايصح ثبوت صفة من دون مصححها إذا كان مصححاً على التعيين وهذا حال القادرية في حقنا فإنه لايصححها سوى الحيية.
قوله: (ولأن هذه الصفات قد تتماثل) يعني كل جنس منها قد يتماثل أفارده فكونه مشتهياً قد يتماثل هو حيث تعلقت الصفتان منه بجنس واحد كالحلاوة أو الحموضة أو غيرهما وكذلك كونه نافراً وأما الحيية فأفرادها متماثلة كلها فلا توجد صفتان بكون الحي حياً مختلفتان وكذلك فكون المعتقد معتقداً يتماثل أفرادها، إذا اتحد المتعلق والوقت والوجه والطريقة مالم يكن التعلق متعاكساً كتعلق العلم والجهل وكذلك كونه مريداً وكارهاً وظاناً وناظراً.
فأما نوع القادرية فعند أصحابنا أنه لاتماثل فيه لأن التماثل لايكون إلا مع اتحاد المتعلق وتعلق قادريتين بمقدور واحد محال، لأنه يؤدي إلى مقدور بين قادرين وما أدى إلى المحال فهو محال.
قوله: (ولأنها لاتختص فعله دون فعل غيره بخلاف القادرية).
أي ولأن سائر صفات الجملة لاتختص بفعل المختص بها دون غيره فكونه حياً لاتأثير لها ولا اختصاص فيما يرجع إلى الفعل، ويصح ا، يشتهى فعل غيره، وأن ينفر عنه، وأن يريده، ويكرهه ويظنه وينظر فيه ويدركه ولايقدر عليه فلا يرجع بما يختص بفعله إلا ما لايختص به.
فصل
قوله: (والطريق إلى هذها لحال في الشاهد وهو صحة الفعل كما علمت فيجب ثبوتها للباري تعالى لحصول طريقها في حقه).
قد تقدم أن من الطرق الرابطة بين الشاهد والغائب طريقة الحكم وهذا من أمثلتها فإن صحة الفعل طريق إلى كونه قادراً.
قال أصحابنا: وههنا أصل وقوع وطريق ومتطرق إليه، فإذا كان الباري تعالى قد شارك الأصل وهو الواحد منا في الطريقة وهي صحة الفعل وجب أن يشاركه في المتطرق إليه وهو كونه قادراً، إذ من حق الطريق أن توصل إلى المتطرق إليه.
قيل: والأولى أن يقال صحة الفعل حكم مقتضى عن كون القادر قادراً، فإذا حصل في حقه تعالى الحكم المقتضى وجب حصول ما اقتضاه في حقه لأن الأثر يدل على المؤثر فيقال: أصل وفرع ومقتضى، وهو صحة الفعل، ومقتضٍ وهو كونه قادراً، فإذا كان الفرع قد شارك الأصل في المقتضى وجب أن يشاركه في المقتضي.
قال: وكانت هذه العبارة أولى من حيث أن المقتضِي يوجب المقتضَى ويؤثر فيه، ويدل حصول الأثر على حصول المؤثر ولاكذلك الطريق فإنها ليست بأثر ولا المتطرق إليه بمؤثر ف يجميع المواضع وإنما لاطريق دالة ومعرفة والمتطرق إليه مدلول ومتوصل إلى معرفته.
ولقائل أن يقول: إن الغرض ههنا معرفة كونه تعالى قادراً وذلك يحصل وإن كان الكلام مبنياً على أن صحة الفعل طريق لا حكم مقتضَى.
وقوله: (إنما الطريق دالة ومعرفة) يقال: وهل القصد إلا الاستدلال بها والتوصل إلى معرفة كونه قادراً، وهو قولك الذي نحن بصدده لامعرفة أن صحة الفعل حكم مقتضى عن القادرية ثم أنه إذا حرر الكلام على ما ذكره لم يحتج إلى ذكر أصل وفرع إذ ليس ذلك معدوداً من طرق القياس الرابطة بين الشاهد والغائب التي يحتاج فيها إلى ذكر أركان القياس بل يقال: قد ثبت أن صحة الفعل حكم مقتضى عن القادرية وقد حصل المقتضى في حقه تعالى فيجب أن يحصل المقتضي، وذلك بعد تقديم الاستدلال على أن صحة الفعل مقتضى عن القادرية فإن هذا هو الأصل الذي ينبني عليه استدلاله.
قوله: (إن كان الأول لزم مثله في كل ذات) هذا بناء على ما ذهب إليه مثبتوا الأحوال من أصحابنا، وهو أن ذاته تعالى وسائر الذوات متساوية في أصل الذاتية وإنما تختلف باختلاف الصفات المخصوصة.
فأما أبو الحسين فإنه قد ذهب إلى أن كل موجود مخالف لغيره بحقيقة ذاته وأنه لاش اتراك بين الحقائق إلا في الأسماء اولأحكام ولايريد بقوله: أن ذاته تعالى ذات مخصوصة. أنها مخصوصة بأمر زائد عليها بل مخصوصة بمجرد ذاتيتها بناء على مذهبه.
قوله: (فما معنى كونها مخصوصة).
يقال: معناه عند أبي الحسين أنها مخصوصة بأنها ذات لها حقيقة لاتشاركها غيرها فيها لا غير ذلك مما ذكرته.
قوله: (إ، رجوع لاحالة إلى الجملة ليس هو مجرد الحالة وجنسها).
يعني فلم يلزم كون المختص بها جملة بمجردها فلو قدر حصول هذه الصفة بعينها لغير هذه الجملة لم يستلزم كونها جملة وكذلك حصول ما هو من جنس تلك القادرية ونوعها.
قوله: (لأن الحكم صادر عن للجملة) أراد بالحكم صحة الفعل.
قوله: (وهذا مفقود في حق الباري تعالى) يعني فلا تلزم دلالة صحة الفعل منه على صفة راجعة إلى الجملة لأن صحة الفعل منه لم تصدر عن جملة.
تنبيه
قد علمت دلالة صحة الفعل على القادرية وأنا لانعرفها إلا بوقوع الفعل فإذا تقرر ذلك فالوقوع إنما يدل على أنه كان يصح منه الفعل، وأنه كان قادراً ولايدل على صحة الفعل بعد وقوعه ولاحال وقوعه، وإنما يعلم أن الباري تعالى يصح منه الفعل الآن وأنه قادر في الحال مع أن الفعل الواقع منه لم يدلنا إلا على أنه كان يصح منه الفعل بدلالة أخرى وهي أن كونه قادراً إذا كانت صفة ذاتية أو مقتضاة لم يجز خروجه عنها بحال من الأحوال وثبت أنه قادر الآن وفيما لايزال.
وقد قال أبو هاشم: إذا علمنا بدلالة الأفعال أنه تعالى كان قادراً ثم علمنا استحالة التغير عليه علمنا بالعلم الول أنه تعالى قادر الآن ولانعلم ذلك بعلم ثان.
قال ابن متويه: وهذا بناء على ما نقول في علم الجملة والتفصيل. وهو باطل.
تنبيه آخر
إذا عدّت القادرية من المدلولات المتقدةم لأدلتها وعدت صحة الفعل من الأدلة المتأخرة عن المدلولات فالمراد أن الدال على الدليل الذي هو الصحة وهو الوقوع متأخر لا أنها بنفسها متأخرة فهي مقارنة للقادرية.
فصل
قوله: (وهذه الحالة التي هي القادرية معنوية في الشاهد) أي ثابتة لمعنى.
قوله: (لثبوتها مع الجواز) وذلك لأنها لو ثبتت مع الوجوب لزم استحالة الخروج عنها ومشاركة جميع الجمادات فيها لأن وجوبها إما للذات أو لأمر يرجع إليها ولو كانت للذات أو لما يرجع إليها للزم أن يقدر الواحد منا علىما لانهاية له من المتماثلات ولاوقت والوجه والمحل واحد فيصح ممانعة القديم، ولزم أن يرجع الأجزاء والأفراد فيكون الواحد منا بمنزلة قادرين كثيرين ضم بعضهم إلى بعض.
وقد ذهب النظام إلى أن الإنسان قادر لذاته إلا أن له في الإنسان ما هو تخبيط سياتي ذكره.
قوله: (والحال واحدة والشرط واحد) الحال ههنا كونه حياً لأنها التي يصححها ويتقضيها لو كان لها نقيض، والشرط أمران أحدهما البنية التي تحتاج الحياة إليها لأنها مصححة للمصحح، والثاني البنية الزائدة التي تحتاج إليها القدرة على ما ذهب إليه الشيخان لأنها شرط في تصحيح المصحح لها.
قوله: (ويختص هذا المكان حصول التزايد) يعني ومما يختص به هذه الصفة مما يدل على أنها لمعنى دون الكائنية حصول التزايد فيها وفيه نظر فإن كل صفة معنوية يحصل فيها التزايد سواء كانت قادرية أو كائنية أو غيرهما، ولعله أراد يختص هذا المكان بأن يورد فيه من الأدلة على ثبوت القدرة مالم يتقدم مثله، وهو حصول التزايد في القادرية ولم يورده في الاستدلال على أن الكائنية ثابتة لمعنى هو الكون، وفيه أيضاً نظر فإنه قد استدل بحصول التزايد في الكائنية على إثبات الكون، وإن كان الاستدلال به ههنا أظهر إذ لايرد عليه من الاعتراض ما ورد هناك.
فصل
وحكم هذه الصفة مطلقاً سواء كانت جائزة معنوية في حقنا او واجبة مقتضاة أو ذاتية في حقه تعالى.
صحة الأحداث فلا يتعلق بغير الحدوث والوجوه التابعة له خلافاً للمجبرة فتتعلق بالكسب عندهم، وتعلقها بالضدين فيصح بها إيجاد كل واحد منهما على البدل لا على الجمع فيستحيل للتضاد الحاصل بينهما.
وصحة الفعل المحكم عند ثبوت كونه عالماً.
وصحة إيقاع الفعل على الوجوه المختلفة عند ثبوت المريدية.
وصحة إيقاع الصيغة نهياً وتهديداً عند ثبوت كونه كارهاً إن صح أن التأثير في هذه الوجوه للقادرية وأن العالمية والمريدية وكونه كارهاً شروط في تأثيرها وهو الذي استقر عليه كلام ابن متويه، والظاهر من كلام غيره من أصحابنا وكذلك تأثيرها في كون الاعتقاد علماً عند كونه ناظراً.
وحكمها: إذا استحقت للذات أو كانت مقتضاة عن صفة الذات في حقه تعالى.
(صحة الاختراع) مطلقاً (والتقديم والتأخير على متعلقها) لا على الإطلاق ولكن إذا كان متعلقها مبتدأ باقياً فأما غير الباقي فلا يصح فيه التقديم والتأخير إذ لو صح ذلك لاستلزم صحة حدوثه في وقتين وذلك يستلزم صحة وجوده فيهما فيخرجه ذلك عن كونه غير باق ويعتبره نافياً، وكذلك فالمسبب لايصح فيه أيضاً التقديم والتأخير لأنه قد ثبت أن للمسبب في كل وقت مسبباً، وصح أن المسبب المعين لايجوز صدوره إلا عن سببه فإذا صح هذان الأصلان لزم إلا يصح التقديم والتأخير في المسبب مطلقاً، وإلا لزم من ذلك أن يكون للسبب في الوقت الواحد مسببان ويلزم منه تعدي السبب إلا ما لانهاية له من المسببات وهو محال.
(واستحالة انحصار متعلقها في الجنس) فلا يقتصر تعلقها على الأجناس العشرة بل يتعلق بكل جنس من أجناس المقدورات فلا مقدور إلا ويصح إيجاده بها.
(واستحالة انحصار متعلقها في العدد) فيصح أن يوجد المختص بها من الجنس الواحد في الوقت الواحد في المحل الواحد ما لايتناهى، ولهذا قلنا: أنه يصح منه تعالى إيجاد ما لايتناهى في الوقت الواحد والمراد بذلك أنه لا قدر يشار إليه إلا ويصح منه تعالى إيجاد أضعافه وأضعاف أضعافه لاأنه يصح وجود ما لايتناهى واشتمال الوجود عليه فإن ذلك يستحيل إذ كل ما دخل في الوجود فقد حصره.
(واستحالة خروج الموصوف عنها) لأنها إن كانت ذاتية فلا كلام في ذلك وإن كانت مقتضاة عن الذاتية فكذلك إذ لايجوز انفكاك المقتضى هنا عن المقتضي.
(واستحالة المنع) على المختص بها مع إرادته لئلا يمنع إيجاده بها ما لايصح من غيره معه منعه.
(ونحو ذلك) لصحة قدرته على ما يكون أصلاً من أصول النعم فيستحق به العبادة وقد دخل هذا ضمناً فيما تقدم.
(وبالعكس من هذا إذا استحقت لمعنى) فإنه لايصح بها الاختراع وإلا لزم أن يخترع الواحد منا الفعل بقدرة يمينه في يساره ونحو ذلك وإنما يصح بها إيقاع الفعل على وجهي المباشرة والتوليد، ولايصح بها التقديم والتأخير مطلقاً، أما إذا كان مقدورها متولداً أو غير باق فلما تقدم، وأما إذا كان مبتدأ باقياً كالكون في محلها فلو صح فيه التقديم والتأخير للزم أن يوجد الضعيف في نفسه من السكنات ما يمانع به أشد الناس قوة عن تحريكه بل ما يمانع به الباري تعالى بأن يقدم مقدورات قادريته فإنها على مرور الأوقات لا تتناهى ويلزم من ذلك أن خروج القادرية عن حكم قد تقرر ثبوته لها وهو أنَّه لايصح بها في الوقت الواحد في المحل الواحد على الوجه الواحد أكثر من مقدور واحد ولايستحيل أيضاً انحصار متعلقها في الجنس والعدد بل هو منحصر فيهما فلا يصح أن يفعل بها سوى الأجناس العشرة ولايتأتى بها في الوقت الواحد على الشروط المعتبرة إلاَّ مقدور واحد إذ لو تعدت لتعدت ولا حاصر فكان يلزم أن يمانع الواحد القديم تعالى ولايستحيل خروج الموصوف عنها بل خروجه عنها جائز إذ لو استحال لخرجت عن كيفيتها الثابتة لها وهي كونها جائزة وعن خاصيتها التي هي جواز تجددها للذات حال البقاء، وخروجها عنها ولايستحيل المنع على المختص بها بل إذا فعل الباري تعالى أو من هو أكثر من المختص بها قدراً في المحل من السكون أكثر مما في مقدوره من الحركة منع عن تحريك ذلك المحل لتناهَى مقدوراته بخلاف القادر للذات ولايصح أن يفعل بها ما يكون أصلاً من أصول النعم فتقرر بذلك معاكسة القادرية الجائزة للقادرية الواجبة في جميع تلك الأحكام.
فصل فيما يجري عليه تعالى من الأسماء بمعنى كونه قادراً
اعلم أن هذه الطريقة التي سلكها المصنف من ذكر ما تجري عليه تعالى من الأسماء بمعنى كل صفة من صفاته أغفلها أكثر أصحابنا في كتبهم ولها تعلق حسن بما نحن بصدده من الكلام في صفاته تعالى لنعلم معاني أسمائه وما يفيد من صفاته تعالى وفيه فوائد كثيرة منها: معرفة الأعلى قدراً منها والأبلغ معنى فيها فيضع الداعي أو المقسم بها والذاكر فيه بألفاظها والمتوسل إلى الله بتركها كل شيء منها في موضعه اللائق به، وقد ذكر الأسماء وتفصيل معانيها وتقسيمها بالنظر إلى صفاته تعالى الفقيه حسام الدين حميد بن أحمد في كتابه عمدة المتسرشدين، لكنه لم يلحق ذكر كل صفة بما يكون بمعناها من الأسماء كما فعل المصنف بل أخر الكلام فيها وجمع ذكرها وتعدادها وجعله آخر الكتاب، فأسلوب المصنف في الترتيب أولى وأبلغ، وكذلك فقد ذكر الحاكم الأسماء من غير تفصيل وتقسيم لما يكون منها بمعنى هذه الصفة وما يكون منها بمعنى غيرها في آخر كتاب التوحيد من شرح العيون.
قوله: (ولم يكن إطلاقها توهم الخطأ) يعني فإن كان إطلاقها بوهم الخطأ لم يجز إطلاقها في حقه تعالى إلا مع قيد يزيل ذلك الإيهام ويرفعه بالكلية، ومثال ما يوهم الخطأ من الحقائق التي ثبت معناها في حقه تعالى الألفاظ المشتركة بين معان بعضها يصح عليه تعالى وبعضها لايصح كاليد والوجه والقضاء والقدر والضلال، فإن هذه الألفاظ جميعها مشتركة بين معان يصح بعضها عليه تعالى ويستحيل بعضها فلا يجوز إطلاقها عليه إلا مع قرينة تعرف بها أن القصد بها المعنى الصحيح في حقه تعالى دون المعنى الآخر الفاسد في حقه تعالى، وسواء كانت القرينة مقالية أو حالية.
قوله: (وقال أكثر البغاددية لابد من أذن).
هذا مذهب أبي القاسم وأتباعه من البغداديين ذهبوا إلى أنه لاشيء من اللفاظ يجوز إطلاقه عليه تعالى سواء حصل معناه في حقه أو لم يحصل إلا بأذن سمعي وهو مذهب الأشعرية وأكثر فرق المجبرة فأسماؤه تعالى عندهم كلها توقيفية، قالوا: فلا يجوز أن يطلق عليه تعالى إلا ما أطلقه على نفسه حتى لو لم يسم نفسه بقادر وعالم لم يجز أن نطلقهما عليه تعالى، وهذا مع الاتفاق منا على جواز نفي الأسماء التي يستحيل معناها في حقه تعالى، وعدم الحاجة إلى ذلك إلى أذن سمعي، وعدم التوقف عليه كليس بجسم، وليس بعرض، وليس بمحتاج.
قوله: (ولايتم ذلك إلا بأن ندعوه بالأسماء التي ثبت معناها في حقه) يعني ومالم يتم الحسن إلا به كان حسناً كحسنه.
فإن قيل: إنه يتم ذلك بأن ندعوه بالأسماء التي قد سمى نفسه بها.
قلنا: فلو لم يرد سمع بها كيف كانت تكون الحال؟
قوله: (ولهذا قال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} هذا يشمل ما أطلقه على نفسه وما لم يطلقه) إذا أفاد معنى في حقه وكان يحصل به تعظيمه تعالى، ولهم أن يقولوا: إنما قصد إلى هذه الأسماء المعينة التي قد سمى نفسه بها.
وقد قيل: لو احتجنا في إطلاق الإسم الذي يكون معناه في حقه تعالى ثابتاً حقيقة إلى أذن لاحتاج المخالف في تركه إطلاق ذلك الإسم إلى إذنٍ وتوقيف فإنه إذا احتيج في الإطلاق مع موافقته الأصل إلى إذن فهو بأن يحتاج إليه في عدم الإطلاق مع مخالفته الأصل أولى وأحرى.
وقد قيل: إن خلاف البغدادية ومن معهم إنما هو في الأسماء، وأما وصفه تعالى صيغة الفعل نحو: يرزق ويخلق فلا يتوقفون في إطلاقه على إذن ولايوجبون ذلك فيه.
قوله: (فإنه لايجوز إجراؤه على الله تعالى إلا بإذن اتفاقاً).
يعني وإن حصل معناها في حقه تعالى كأسد فغنه يتجوز بمعناه في الرجل الشجاع ومعناه كونه لايهاب وهذا المعنى الذي وقع التجوز لأجله ثابت في حقه تعالى ولايوصف بذلك والكبحر فإنه يتجوز به في الجواد ولايجوز إجراؤه عليه تعالى مع حصول الجود في حقه بأوفاه وأكمله.
واعلم أن الحاكم قد قيد المنع من .... المجاز وإجرائه عليه تعالى بأنها من الخطأ فظاهر كلامه أن ما لا يوهم الخطأ فحكمه حكم الحقيقة ولكن الظاهر من كلام أصحابنا الإطلاق وعدم التقييد ، ومن ذهب من العلماء إلى أن المجاز عند اتصال القرينة به يصير حقيقة يجوز على قود قوله إطلاقه عليه تعالى إذا اتصلت به قرينة مانعة من إيهام الخطأ. وقد نص بعضهم على أنه يجوز إ"لاق المجاز إذا قيد بما يرفع الإيهام.
قوله: (وتقر إذن حيث ورد بها الإذن) يعني فلا تطلق إلا حيث أطلقها تعالى على نفسه.
وقال أبو القاسم: بل تطلق عليه في الموضع الذي أطلقها فيه على نفسه وفي غيره ولا خلاف أن الشرع إذا أذن بالإطلاق في كل موضع أنه يجوز مطلقاً.
قوله: (فلا تقاس عليها) يعني فإذا ورد مثلاً: {وهو خادعهم} لم نقس عليه فيقال: هو تعالى مخادع أو يخادع أو يخدع ونحو ذلك، وكذلك لايقاس على موضع ورود تلك اللفظة غيرها في استعمالها نفسها ولا يقال مثلاً الله خادع الناس ونحو ذلك.
قوله: (نحو لفظ الخداع والمكر والاستهزاء والنسيان) يعني فإن هذه ألفاظ وردت مطلقة عليه تعالى ولم يقصد بها حقيقتها فإن معناها الحقيقي غير ثابت في حقه تعالى وإنما أوردت تجوزاً واستعمالاً في غير ما وضعت له.
بيانه: أن الخداع على الحقيقة إظهار غير ما في النفس، وبه فسر قوله تعالى: {يخادعون الله} فقيل فيه يظهرون غير ما في نفوسهم. وقيل فيه: يظهرون الإيمان به وبرسوله ويبطنون خلاف ذلك، فالخداع منهم على حقيقته وهو الاحتيال والمكر، فلما كان تعالى يظهر لهم الإحسان في الدنيا ويعجل لهم النعم ويسترعيهم العذاب المعد لهم في الآخرة سمى نفسه خادعاً تجوزاً. وقد قيل: إن الخادع بمعنى الفساد فخداعهم فساد ما أظهروه من الإيمان بما أبطنوه من الكفر وهو في حقه تعالى إفساد نعيمهم في الدنيا بما يصيرون إليه من عذاب الآخرة، وأما المكر فهو أيضاً الاحتيال والخديعة فسمى تعالى جزاءه لهم على مكرهم مكراً تجوزاً من باب تسمية الشيء باسم ما يقابله، وكذلك تسميته تعالى للجزاء على استهزائهم استهزاء.
وأما النسيان فهو على الحقيقة زوال العلم، وورد في حقه تعالى مجازاً حيث قال تعالى: {نسوا الله فنسيهم} أي تركوه فتركهم.
وأما الفراغ في قوله تعالى: {سنفرغ لكم} قد قيل: إن معناه سنقصد إليكم بعد أن كنا تاركين لكم. قيل: وأصل الفراغ إخلاء الشيء عن الذي يشغله كأن يفرغ الإناء عما فيه من ماء أو غيره. وقال جار الله في قوله تعالى: {سنفرغ لكم} هو مستعار من قول الرجل لمن يتهدده: سأفرغ لك، يريد سأتجرد للإيقاع بك عن كل ما يشغلني.
قوله: (وأشباه ذلك) يعني كالظاهر والباطن ونور السموات وغير ذلك.
قوله: (وهكذا ما طريقه الألقاب المحضة) اللقب هنا: الاسم الموضوع لتعيين مسمى من غير أن تثبت فيه دلالة على معنى في ذلك المسمى ويسمونه النحاة العلم وهو كزيد وعمرو وبكر ويجعلون اللقت نوعاً خاصاً من الأعلام كزين العابدين ونحوه.
وقوله: (المحضة) لعله احترز به عن لفظة شيء، ولاوجه لذلك إذ ليس من الألقاب في شيء على ما سيأتي.
قوله: (لخروجه عن حد الإفادة) وذلك لأنه لامعنى له سوى تعيين الأشخاص وتمييز بعضها من بعض ولايطلق عليه إلا ما أفاد معنى كقادر وعالم.
وقوله: (ولقيامه مقام الإشارة) هذا وجه آخر في المنع من إجراء اللقب عليه تعالى وتلخيصه: أن اللقب إنما وضع ليفيد تمييز الغائب عن غيره كما أن الإشارة الحسية تفيد تمييز الحاضر ويكون عوضاً عنها وقد تقرر أن الإشارة مستحيلة على الله تعالى فيجب أن يستحيل ما قام مقامها ووضع عوضاً عنها وهو اللقب.
فاستدل أيضاً على منع اللقب في حقه تعالى بأنه تعالى لامشارك يشاركه في أوصافه التي يتميز بها عن سائر المحدثات من الأجسام والأعراض وإذا كان كذلك فاللقب إنما وضع للتمييز فلا حاجة إليه ف يحقه تعالى فلا يجوز إطلاقه عليه.
قوله: (وأما قولنا شيء فليس من هذا القبيل) أي من قبيل الألقاب، وهذا مذهب أبي هاشم فإنه ذهب إلى أنه يجوز تسميته تعالى شيئاً بطريق العقل على قواعد أهل اللغة وأن العقل بمجرده كاف في جواز ذلك كما في غيره من الحقائق وورود السمع به وهو الإجماع والآية الشريفة واستعماله في السنة أهل الشرع مؤكد لما حكم به العقل من الجواز، وإن كان لايفتقر في الإطلاق إليه، ولايتوقف صحته عليه.
وذهب الشيخان أبو علي وأبو عبدالله إلى أنه إنما يسمى شيئاً لورود السمع بذلك حتى لو لم يرد السمع بتسميته تعالى شيئاً لم يطلق عليه هذا اللفظ فإنه كاللقب إذ لايفيد صفة ولامعنى من المعاني، وإذا كان كذلك لم يجز إطلاقه عقلاً كما لم يجز إطلاق اللقب ولولا ورود السمع به.
ورُدَّ ما ذكراه بما نعلمه من إفادته لحكم وهو صحة العلم به تعالى على انفراده فإذا كان الشيء في اللغة ما يصح العلم به على انفراده وهو تعالى بهذا الوصف صح إطلاقه عليه تعالى إذ لامانع يمنع من ذلك، وبالجملة فهم متفقون على جواز التسمية وإن اختلفوا في جهة الجاوز هل العقل والسمع أو السمع فقط.
قوله: (بل له شبه بالمفيد).
اعلم أنه يشبه المفيد ويفارق اللقب من وجه ويفارق المفيد من وجه أما الأول فمن حيث أنه لايجوز تغييره مع بقاء اللغة بحالها الأول بحيث أنه لايقع به إبانة نوع من نوع.
وقد ذهب جهم والباطنية إلى أنه تعالى لايسمى شيئاً لأنه تعالى خالق كل شيء فلو كان شيئاً لكان خالقاً لنفسه. قال جهم: وإنما يسمى مشيئياً بمعنى أنه جعل غيره شيئاً.
وذهب الشيخ أبو محمد الناشي من المعتزلة إلى عكس ذلك وهو أنه تعالى يسمى شيئاً ولايسمى غيره شيئاً وإنما يسمى مشيَّئاً أي مجعولاً لاشيئاً. فإذا كان الشيء ما يصح العلم به والخبر عنه صح المختار من تلك المذاهب وبطل كلام المخالفين.
قوله: (وعلى هذا قال تعالى: {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله}) وجه دلالتها: أنه تعالى جعل اسمه جواباً عن السؤال بأي والجواب باسمه بعد السؤال عن الشيء بأي يقتضي أنه من الأشياء كما أن قائلاً لو قال: أي الرجال عندك؟ فأجيب بزيد اقتضى كلام المجيب أنه من الرجال.
قوله: (واستعماله في الشديد مجاز) يعني نحو قولهم في الجبل الشديد الذي تكثر فيه الصلابة أنه قوي بدليل عدم اطراده مستد صليب، وإنما سمي الجبل وما شابهه بذلك لما كان يصعب على القادر تفريقه لمكان صلابته فجرى مجرى القادر الذي يصعب على غيره منع مما يحاوله من الفعل.
قوله: (ومنها المقيت) أي المقتدر، يدل عليه قوله تعالى: {وكان الله على كل شيء مقيتا}، وقال جار الله: هو بمعنى حفيظ.
قوله: (وكأنه راعى صحة القهر لاوقوعه) وذلك لإجازته إجراءه في الأزل فإنه لم يحصل في الأزل إلا صحة القهر فأما وقوعه فلا يتصور إلا بعد وجود العالم لأن وقوع القهر لغيره يترتب على وجود ذلك الغير ومنهم من منع وصفه تعالى بذلك في الأزل. وقال: لايصح إلا بعد وجود العالم. قال: ولايقال أنه حاصل في الأزل على الصفة التل مكانها يصح أن يقهر غيره فلذلك سمي قاهراً في الأزل؛ لأن هذه اللفظة تنبي عن وجود القهر لا عن صحته وكما يوصف بأنه تعالى قاهر فكذلك يوصف بأنه قهار إلا أنه يفيد المبالغة ويتأتى فيه من المخالفة نحو ما ذكر في قاهر وإن كان منع أجزائه في الأزل أظهر والكلام في الغالب في المعنى، وفي الخلاف يجري على هذا القياس.
قوله: (كله يفيد القدرة على الكمال) أي يفيد القدرة الكاملة لأن المالك في اللغة هو من يملك التصرف الكامل من غير منع ولاعجز ولاكلام في أن هذا معنى القادر على جميع أجناس المقدورات وأنواعها الذي ليس بعاجز عنها ولاممنوع وإذا كانت هذه الألفاظ بمعنى قادر كانت من صفات الذات فيجوز إطلاقها عليه تعالى في الأزل.
وإذا قيل أنه تعالى مالك للموجودات مع أنها قد خرجت عن كونها مقدورة فالمراد أنه قادر على إفنائها وإعادتها بعد ذلك والتصرف فيها بما يريده تعالى، وقد ذهب أبو القاسم إلى أن مالكاً ليس بصفة ذات على ما يقوله الجمهور من أصحابنا بل هو صفة فعل بدليل أن الملك لايكون إلا في الأشياء الموجودة وإذا صح ذلك لم يوصف تعالى بأنه مالك في الأزل إذ لاموجود معه حينئذ يكون مملوكاً ورد بقوله تعالى: {مالك يوم الدين} فجعل يوم الدين مملوكاً مع كونه معدوماً فدل على أنه بمعنى قادر.
قوله: (لما لم يملك التصرف التام) وذلك لأن تصرفه معرض للزوال بأن يعزله الموكل وقبل عزله ليس حكمه حكم المالك من كل وجه ولهذا لاينفذ بيعه ولاشراؤه لما عين فيه فاحشاً وغير ذلك من الأحكام.
قوله: (وملك ومالك عند الشيخين على سواء) قال: ولهذا قرئ بهما، وقال غيرهما: أما من طريق اللغة فملك أبلغ إلى آخره، هذا قول لأبي القاسم وهو القائل بأن مالكاً لايستعمل إلا في الأشياء الموجودة، وقوله في ملك مأخوذ من الملك هو بضم الميم ومالك مأخوذ من الملك يعني بكسرها، وقد ذكر الفقيه حميد ما يقارب هذا القول فإنه قال: قد يمكن ثبوت تفرقة بينهما من جهة اللغة، ويكون قولنا ملك أعم من قولنا مالك لأنه لايقال في كل من يقدر على التصرف المطلق وإنما يوصف بذلك إذا قدر على تصرف مخصوص مما يتضمن الأمر والنهي، ويقال: فلان مالك الدينار والدرهم، ولايقال: ملكهما.
قوله: (ومنها الرب، معناه المالك المدبر).
اعلم أن الخلاف في رب يقرب من الخلاف في مالك فذهب الجمهور إلى أنه بمعنى مالك وقد سبق في مالك أنه بمعنى قادر فيكون معنى رب معنى قادر، وإذا كان كذلك كان صفة ذات فيجوز إطلاقه عليه تعالى في الأزل، وقال أبو القاسم: بل صفة فعل فلا يكون تعالى رباً إلا بعد وجود العالم لأنه يستلزم وجود المربوب فلا يثبت له هذا الوصف في الأزل واحتج بأن الرب صفة مشتقة من التربية نقول من ذلك: ربيت الصبي. إذا تحملت مؤنته وقمت بجميع منافعه فلما كان تعالى يربي عبده وينشئه وصف بذلك وأبطل ذلك بأنه لو كان مأخوذاً من التربية لجاز إطلاقه على غير الله تعالى فيقال فيمن ربى غيره: إنه رب. كما يجوز إطلاقه عليه تعالى، ومعلوم أنه لايجوز إطلاقه عليه تعالى، فأما على غيره فلا يجوز إطلاقه إلا مقيداً كما ذكره المصنف.
ولأبي القاسم أن يقول: وإذا كان بمعنى مالك صح أن يطلق على غيره تعالى كما في مالك.
ويجاب: بأنه بمعنى المالك المدبر وقد ذكر بعضهم أنه ليس بمعنى مالك على الإطلاق بل الربوبية ملك كامل لايشبهه ملك في الشاهد، فلهذا اختص به تعالى وذكر الفقيه حميد في العمدة أن مالكاً وملكاً كرب في عدم جواز إطلاقهما على غيره، واشترط التقييد قالك إلا أن الحال فيه أظهر فعلى هذا لا سؤال.
قوله: (ومنه قول صفوان بن أمية..) إلى آخره.
صفوان بن أمية: من أعيان قريش، قال ذلك يوم حنين والسبب فيه أنه لما انهزم أكثر المسلمين في ذلك اليوم ورأى من كان هناك من حفاة مكة تلك الهزيمة أظهر أناس منهم ما في قلوبهم من الضغن فقال أبو سفيان بن حرب: لاتنتهي هزيمتهم دون البحر، وصاح كلدة بن الحنبل وقال: الا بطل السحر اليوم. وكلدة هذا أخ لصفوان من أمه، وصفوان حينئذ مشرك فقال له صفوان: اسكت فض الله فاك فوالله لأن يربنّي رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن أي يملكني ويغلب علي.
قوله: (ومنها السيد) أي المالك قال الفقيه حميد: السيد تفيد ملكه لمن يصح أن يتصرف بتصريفه إياه، وعلى هذا نقل استعماله في الجمادات بخلاف الحي ولهذا لايقال فلان سيد الدار، ويقال: سيد العبد.
قوله: (وهو أنه مصمود إليه في الحوائج) أي مقصود لها، قال الشاعر:
ألا بكر الناعي بخيري بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
وعلى هذا المعنى لايوصف تعالى بأنه صمد فيما لم يزل لعدم الطالب في الأزل، وأما بمعنى السيد المعظم فجائز.
قوله: (فيكون من غير هذا الباب) يعني من باب الأوصاف التي تفيد الفعلية.
قوله: (وأما المتكبر فهو مبالغة في الكبير) إلى قوله: (ولهذا لايطلق عليه متحيز) بمعنى جبار الذي ذكره الفقيه حميدان المتكبر والمتجبر والمتعظم تفيد فائدة كبير وجبار وعظيم.
قوله: (ومنها المستولي) يعني وصفه تعالى بأنه مستول على الأشياء بمعنى مقتدر عليها على وجه لايتأتى منعه مما يريد إيجاده فيها.
قوله: (لإيهامه الاستقرار) أي الوقوف في المكان والجلوس عليه وذلك لايصح إلا في حق الأجسام.
قوله: (ويقر حيث ورد نحو على العرش استوى) يعني فلا يقال: على السماء استوى، أو على الأرض أو نحو ذلك بل حيث ورد به السمع وهو العرش.
قوله: (وجب التقييد) يعني بما يرفع الإيهام كأن يقول المتعالي عن صفات النقص أو عن القبيح أو نحو ذلك.
قوله: (ومثله قولنا الله..) إلى آخره.
اعلم أن العلماء مختلفون في معنى اسم الباري الذي هو الله على أنواع من الاختلاف كثيرة فالذي عليه الجمهور من أصحابنا ما ذكره في المتن وتلخيصه أن أصله الإله ثم حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى اللام قبلها وادغمت إحدى اللامين في الأخرى ثم فُخِّم إذا كان قبله ضم أو فتح ورقق إذا كان قبله كسر وهو مع ذلك باق على معنى الإله، وهو من يحق له العبادة وليس بعلم إذ الأعلام والألقاب لاتجوز عليه تعالى لما تقدم، بل هو اسم موضوع بإزاء صفات ذاتية وهي صفات الكمال التي لأجلها يحق له العبادة فإذا أطلق فهم منه تلك الصفات ولو كان علماً لم يفد معنى فإن الأعلام لاتفيد أكثر من تمييز مسمياتها.
وذهب بعض أهل العربية إلى أن الإله ليس بأصل له، والمشهور عند جميعهم والمنصوص عليه فيما بينهم أن الله والإله مختلفان في المعنى، أما الإله فمعناه: من يحق له العبادة ولهذا سموا الأصنام آلهة لاعتقاد الاستحقاق فيها، وأما الله فإنه لم يطلق في جاهلية ولا إسلام إلا على الله سبحانه فهو علم للقديم.
قال ابن مالك: هو علم دال على الإله الحق دلالة جامعة لمعاني الأسماء الحسنى كلها ما علم منها وما لم يعلم.
قالوا: إذ لو لم يكن علماً لما صح الاستثناء في لا إله إلا الله، إذ لايستثنى الشيء من نفسه ذكر هذا التفصيل والخلاف بعض أصحابنا المتأخرين.
وقد اختلف القائلون بأنه مشتق على أقوال كثيرة في أصله لا حاجة إلى إيرادها ههنا.
قوله: (ومنها المستطيع).
هذا ما اختاره أبو علي، فإنه أجاز وصفه تعالى بأنه مستطيع. قال ابن متويه: وإباه غيره ولعلهم بنوا على أن المستطيع القادر بالاستطاعة.
قوله: (لأن فائدته ترجع إلى الجهد).
يعني والجهد المشقة وهذا يستقيم إذا كان الجهد بفتح الجيم، فإنه المشقة ذكره ابن فارس وغيره، لكن يقال: ليس يرجع إلى الجهد بفتح الجيم الذي هو المشقة بل إلى الجُهد بضم الجيم وهو الطاقة.
قوله: (لأنها تفيد جواز المنع عليه) وذلك لأن معنى المطلق والمخلى: القادر الذي ارتفعت عنه الموانع الجائزة عليه.
قوله: (وقوله تعالى: {ذو القوة المتين} مجاز) قيل: المراد بذلك طريقة المبالغة في كونه قادراً، قال جار الله: المتين الشديد القوة. انتهى. وقد ورد في القرآن وصفه تعالى بأنه أشد قوة، ومعناه أقوى وورد فيه شديد المحال ومعناه قوي.
تنبيه
ومن الأوصاف التي لايجوز إطلاقها عليه تعالى وهي ترجع إلى معنى القادر:
الشجاعة لأنها تفيد الجرأة على المخاوف والإقدام عليها بقوة قلب.
والنجدة فإنها بمعنى الشجاعة وهي مأخوذة من مكان نجد أي مرتفع.
والجلد فإن الجلادة الصبر على الآلام.
والجسارة فإنها تفيد قوة القلب.
فائدة
قال الفقيه حميد: ومن الأوصاف التي تجري عليه بمعنى كونه قادراً: مجيد، قال: ويستعمل استعمال كريم. وعزيز: وهو مبالغة في قولنا ماجد. والمراد بذلك كثرة خيره وسعة جوده، وجعله من الأوصاف التي تفيد زيادة حاله تعالى في كونه قادراً.
تنبيه
أهمل المصنف ما اعتاده أصحابنا في كتبهم المستعملة من الإتيان في آخر الكلام على كل مسألة بما يلزم المكلف معرفته فيها ولعله لم يتمخض له صحة ذلك ولزومه على ما بنى عليه أصحابنا بل قد صرح في أول الكتاب حيث تكلم على وجوب المعرفة بأن معرفة الجمل كافية للعوام ونحن نورده ليعرف ما ذكره علماؤنا رحمهم الله قالوا: يلزم المكلف في هذه المسألة أن يعلم أن الله تعالى كان قادراً فيما لم يزل، ويكون قادراً فيما لا يزال، ولايجوز خروجه عن هذه الصفة بحال من الأحوال، وأنه قادر على جميع أجناس المقدورات ومن كل جنس في كل وقت على ما لايتناهى فلا تنحصر مقدوراته جنساً ولا عدداً كما سيأتي الاستدلال عليه في فصل الكيفية.
القول في أن الله تعالى عالم
ووجه تقديم هذه المسألة على غيرها واتصالها بمسألة كونه تعالى قادراً ومشاركتها إيها في كون الفعل يدل عليها بغير واسطة.
قوله: (المختص بصفة). أراد بالصفة كونه عالماً، وحقيقة كونه عالماً الصفة التي متى اختص بها الحي صح منه الإحكام تحقيقاً أو تقديراً.
قوله: (لمكانها) أي لأجل اختصاصه بها وثبوتها له.
قوله: (عقيب فعل) وذلك نحو كتابة الحرف عقيب الحرف.
قوله: (أو مع فعل) يعني كما إذا أوجد الله الفعل المحكم دفعة واحدة فالأحكام فيه إيجاد فعل مع فعل.
قوله: (ابتداء) قال أصحابنا: هو احتراز من الاحتذاء كالنقش بالطابع، والاقتداء كما إذا رأى كتابة ففعل مثلها مقتدياً بها وكذلك فهو احتراز عن إيجاد الحرف الواحد فإنه وإن كان فيه إحكام فإنه لايتعذر على كل قادر الابتداء به فالاحتذاء والقتداء وإيجاد الحرف فيها إحكام وتدخل لولا ذلك الاحتراز لأن الإحكام مطلقاً يستعمل في الائتلاف.
واعلم أن الإحكام أكثر ما يتبين في التأليف وإن كان قد يقع في غيره كالكلام وما يصنع الصانع من نجر الأعواد ونحت الأحجار فإن ذلك إحكام وليس بتأليف.
قوله: (كفعل الغير) يعني فإنا مع علمنا به لايصح منا تحقيقاً إيجاده محكماً ولا غير محكم لما لم نكن قادرين عليه.
قوله: (كالفعل الواحد) يعني كالتأليف الواحد والنطق بحرف واحد ونحو ذلك فإنه لايتأتى فيه إحكام وكما أن قوله: تقديراً. احتراز عما ذكره فهو احتراز عن الصفات والأحكام والأمور السلبية فإنا مع العلم بها لاتصح منا أحكامها فإنها لاتقبل الأحكام إذ لاتتأتى إلا بين ذاتين متحيزتين فصاعداً أو بين الحروف لكنها لو كانت مما يصح إحكامه لأحكمناه.
وقد قيل: تتمة لحد العالم: ولم يكن هناك مانع ولامايجري مجراه؛ لأن مع المانع كتسكين اليد عن الكتابة والبناء والجاري مجراه من عدم الآلة كالقلم والقرطاس أو ما يكتب منه لايتأتى منه أحكام معلومة مع كونه مقدوراً له تقبل الأحكام فأما عدم الآلة فقد صرح ابن متويه بأنها تؤثر في صحة الفعل فلا يصح الفعل مع عدمها وأما المانع فإنما يمنع عن الوقوع لا عن الصحة فلا يحتاج إلى الاحتراز عنه.
قوله: (ولأن المتبين أخفى من العالم) مثل هذا الاعتراض يورده أيضاً أبو الحسين وابن الملاحمي على حدود أصحابنا أو أكثرها فيقولون العالم والقادر والحي أظهر مما يذكرونه في تحديدكم ومن حق الحد أن يكون أظهر من المحدود.
ويجيب أصحابنا بأنكم إن أردتم أن العالم على سبيل الجملة أوضح من الحد فمسلم لكن لم نقصد تحديده جملة وإن أردتم العالم على سبيل التفصيل فلا نسلم بل الحد الذي أوردناه أجلى منه ونحو ذلك، ولهم أن يجيبوا بمثل هذا الجواب.
فصل
ذهل أهل الإسلام وأهل الكتاب وغيرهم كالبراهمة وبعض عباد الأصنام وسائر من أثبت الصانع المختار إلى أن الله تعالى عالم، وألزمت المطرفية ألا يكون تعالى عالماً إذ لم يدل على أنه عالم إلا تركيب العالم وما فيه من الإحكام في التأليف وعندهم أن كل ما فيه من تأليف وغيره بالفطرة لا باختياره تعالى فلا يبقى لهم طريق إلى معرفة كونه تعالى عالماً وإن كانوا يعترفون بذلك ويقرون به.
قوله: (فقال أوائلهم..) إلى آخره. حكى عن بعض أصحابنا القول بأنه تعالى لايعلم شيئاً أصلاً لا كلياً ولاجزئياً وإن وجد الفعل المحكم من جهته فذلك لأجل قوة لذاته وخصوصية كما أن المغناطيس يجذب الحديد لقوته وخصوصيته وإن لم يعلم الجذب وحكاية المصنف جارية على قواعدهم فأما هذه الرواية ففيها نظر لأن الفعل المحكم لم يوجد عندهم إلا من العقل العاشر إلا أن يكون هو المراد بذلك.
قوله: (وسيتضح بطلانه في آخر فصل الكيفية).
يعني عند الكلام في أنه تعالى عالم بجميع أعيان المعلومات.
قوله: (فإن ذلك من عجائب الصنعة وغرائب الحكمة ما يقصر عنه الأوصاف وتحار فيه الأفكار).
قال بعض أصحابنا: انظر إلى رفع السماء وكونها كالسقف للأرض وانظر إلى تسطيح الله تعالى للأرض وما أعد فيها من الأمواه الجارية والمستخرجة والنباتات العجيبة المستغربة والجبال الراسية والآكام والصخور العظيمة ليقصد كل حيوان إلى ما يرغب إليه من ذلك، وانظر إلى تزيين السماء بالقمرين والنجوم الثوابت وغير الثوابت والمضيئة والخفية وتعليقها في السموات كالمصابيح فالأرض كالبيت المسقوف والقمران والنجوم كالسرج والشموع المشعلة بالنار المهتدى بها إلى رؤية ما في الدار وغير ذلك، والإنسان كالمالك الذي يتصرف في بيته مع شموع مشعلة ومصابيح مسرجة فتبارك الله أحسن الخالقين.
قوله: (وأصناف الحيوانات).
اعلم أن الحيوانات أبلغ الأشياء إحكاماً لما فيها من العجائب التي لم توجد في غيرها من تركيب حواسها وأعضائها وألوانها وصورها ولاسيما الإنسان فإنه اختص بمزية على سائر الحيوانات والمخلوقات فإن كيفية تركيبه ومجاري أغذيته ونحو ذلك من خصائصه قد اشتملت على بديع الخلقة وعجيب الصنعة الباهرة.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: عجباً لابن آدم ينظر بشحم ويتكلم بلحم ويتنفس من خرم ويسمع بعظم. وإذا تفكر في كيفية خلقه بدا له من ذلك العجب وعلم أنه قد رقى من بديع الصنعة إلى أعلى الرتب ألا يرى إلى كون وجهه الذي هو أعظم أعضائه هيئة وجمالا في أعلاه والعينان في رأسه صيانة لهما عن أن ينالهما ما ينال رجليه ونحوهما من أسافله، والجفنان لهما كالغطا، فإن أحب تغطيتهما لصيانتهما أو غير ذلك تمكن منه وإذا أحب فتحهما للإحساس أو غيره تمكن منه بسهولة وإلى القلب الذي عليه المدار في جميع الأمور لكونه محلاً للأعراض التي هي الشهوة والإرادة والعلم ونحوها، ويمكنه من الإحاطة بكثير من المعلومات المعدومة والموجودة والماضية والمستقبلة الدنيوية والأخروية.
وانظر إلى اللسان ويمكنه به من البيان بأنواع الكلام، وما يحصل به من الحكم العربية وما يحصل به من الكشف عن جميع المرادات مع كونه لحمة يحصل ذلك بتقلبها وغيره من اللحم لايحصل به شيء من ذلك.
وانظر إلى الحكمة في ترتيب الأسنان فجعل تعالى مقادمها حداداً مصطفة لتكون أجمل في الخلقة وأنفع في تناول الأطعمة وأقطع في الأمور التي تحتاج إلى القطع وجعل دواخلها عراضاً مسطحة من أسفل الفم وأعلاه كالرحى المعدة لطحن ما يلقى فيها فما طحنته دفعته إلى الحلق فتصيره إلى البطن بسهولة وانظر إلى ترتيب أعضاء الإنسان وتشريخها ونفع كل عضو النفع الذي لايقوم غيره فيه مقامه والمفاصل التي لو لم تكن لتعذر الانتفاع بكثير من الأعضاء مع كون تركيبها ملائماً للطبع والنفس فلو كان الشعر في بطن الراحة مثلاً لكان فيه شناعة وتنغيص ونحو ذلك من الأمور الباهرة.
ذكر بعض العلماء أن ابن آدم يحتوي على عجائب الفلك فشخصه كُريّ كما أن الفلك كُريٌّ وفيه ما لايحصى عدده كالشعر الذي فيه كما أن نجوم الفلك لاتحصى عدداص، وفيه سبعة أنور تشبه السبعة الأملاك وهي العينان والأنفان والأذنان والفم، فالعينان كالشمس والقمر وذلك لأن العينين تصيب ببصرها وشعاعها ما وقعت عليه كما أن الشمس تشرق على ما طلعت عليه وتصيبه بشعاعها، وكذلك القمر، والأنفان كالمشتري والزهرة، والأذنان كعطارد والمريخ، واللسان كزحل لأنه محل السعد والنحس، وهكذا اللسان فإنه إن قارن أهل السعادة سعد، وإن قارن أهل النحس انتحس، وفيه عدد المنازل التي ينزل فيها القمر الثمان والعشرين وهي مفاصل يديه وعقد ظهره، وفيه عدد أيام السنة وهي ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً وهي عروقه فإنها ثلاثمائة وخمسة وستون عرقاً، فتبارك الله أحسن الخالقين.
قوله: (وتفاصيل ذلك بحسب مصالح المكلفين من غير زيادة ولانقص).
أي ومفاصل أجناس المخلوقات وذلك كتسخير الرياح وتقدير الشتاء والصيف وإنزال الأمطار في أوقاتها المعلومة وهذه وإن لم تكن دلالتها بطريقة الإحكام فهو من حيث أن وقوعها بحسب المصالح من غير زيادة ولانقص يدل على أنه تعالى عالم بمواقع المصالح وما به يكون الصلاح والفساد، ومما يدل على عالميته تعالى خلقه للعلوم الضرورية فإنه أوجدها وهو عالم بمعتقداتها قبل فعلها وهذا هو الوجه الذي لأجله كانت علوماً فالعلم يدل على عالمية فاعلة وإن لم يكن ذا تأليف وانتظام فإن وقوعه على أحد الوجوه يدل على ذلك كالمحكم من حيث أنه لايتأتى وقوعه من سائر القادرين.
قوله: (وذلك كاف في حصول الغرض).
يعني لحصول الدلالة فيه، وكون فاعله عالماً ولكنا نعلم أنه المحكم لجميع الأشياء من السموات والأرضين والأفلاك والأحياء ونحو ذلك بضرورة الدين وإن كان التأليف من جنس مقدورنا فتأليف هذه الأشياء وقع على وجه لايتأتى منا إيقاعه عليه.
قوله: (وهو ضروري على الجملة).
يعني العلم بأن من صح منه الفعل المحكم عالم على سبيل الجملة من غير نظر إلى أن كونه عالماً صفة أو حكم أو غير ذلك، فأما العلم بالتفصيل وهو أن له بكونه عالماً صفة أو حكماً أو نحو ذلك فلا يعلمه إلا الخواص بالاستدلال.
فائدة
اعلم أن الذي يدل على كون العالم عالماً هو صحة الفعل المحكم وكذلك وقوعه منه فكما أن الصحة تدل على العالمية فكذلك الوقوع من غير نظر إلى الصحة أو عدمها بخلاف ما تقدم في مسألة قادر من أن الذي بدل الصحة دون الوقوع والفرق بين الموضعين أن وقوع الواقع سواء كان ذاتاً أو صفة أو حكماً لايدل على قادرية المؤثر فيه واختياره لوقوع مثل ذلك ممن ليس بقادر فالمسببات مع كونها ذوات والمعلولات مع كونها صفات وأحكاماً وكذلك المقتضيات تقع لأجل الأسباب والعلل والمقتضيات مع أنها ليست بقادرة ولامختارة فلهذا لم يدل نفس الوقوع على القادرية بخلاف وقوع المقدور محكماً فإنه يدل على عالمية المؤثر فيه كالصحة لأن المؤثرات الموجبات لاتؤثر إلا في وجود الذوات وثبوت الأحكام والصفات ولاتأثير لها في كيفية وجود الفعل وهو إيقاعه على جهة الإحكام والانتظام ولا غيره من الوجوه.
فصل
قوله: (وطريقة التفصيل فيه) أي والطريقة التي توصل إلى إثبات العالمية صفة للجملة في حقنا وللذات في حقه تعالى مؤثرة في صحة الإحكام.
قوله: (أنا وجدنا في الشاهد قادرين) هذه عبارة جيدة وهي أولى من أن يقال: ذاتين أو جملتين أو حيين لأنه قد استغنى بإيراد هذه العبارة عن إبطال أن يكون المؤثر في صحة الإحكام كون المؤثر ذاتاً أو جملة أو حياً أو قادراً من حيث أن من تعذر عليه الفعل المحكم كالأمي بالنظر إلى الكتابة قد شارك من تأتت منه في جميع تلك الأمور ولم يصح منه الكتابة المحكمة فعلم أن التأثير ليس لشيء من ذلك.
قوله: (وتصحيح هذا يجري على نحو ما تقدم في مسألة قادر).
يعني في الاتسدلال على أن ههنا مفارقة وأنه يجب تعليلها وأنها معللة بأمر يرجع إلى الجملة ذلك الأمر كونه عالماً وأنه إذا ثبتت تلك المفارقة في حقه تعالى وجب كونه عالماً فإن تحرير الدلالة هنا يجري على ذلك القياس المتقدم ولافرق إلا في أن يجعل بدل كونه قادراً كونه عالماً.
قوله: (أبو الحسين وابن الملاحمي وغيرهما) يعني أصحابهما وكذلك فبرغوث والنجار قائلان كما قالا في مسألة قادر من أن المرجع بصحة الفعل المحكم إلى أنه ليس بجاهل، وما تقدم هناك يدل على بطلان ما قاله أبو الحسين وأصحابه وبرغوث والنجار، وتحريره ههنا أن يقال:
إن صحة الإحكام حكم صدر عن الجملة فالمؤثر فيه لابد أن يكون راجعاً إليها ولايجوز أن يكون الراجع إليها حكماً لأن صحة الفعل المحكم تعلق فلا يؤثر فيه إلا صفة ولأنا مع علمنا بذلك الأمر الراجع إلى الجملة الذي هو كوننا عالمين لانعلم غير أو لا ما يجري مجراه، وإذا ثبت أن تلك لصفة راجعة إلى الجملة، فصفات الجملة عشر، وشيء منها لايجوز أن يؤثر إلا كونه عالماً لأن الكاتب والأمي يشتركان فيما عداها من الصفات وأكثر ما يشتبه الحال في كونه مؤثراً في الإحكام غير كونه عالماً كونه ظاناً ومعتقداً ومعلوم أن الأمي قد يظن الكتابة ويعتقدها ولايتأتى منه إيجادها محكمة ، فأما في حقه تعالى فالظن والاعتقاد لايصحان عليه.
قوله: (والفرق بين كلامه وكلام الجمهور) إلى آخره.
الفرق من الوجه الذي ذكره ومن وجه ثان وهو كونه جعل الحالة للقلب فقط، والجمهور جعلوها لجملة الحي لا لبعض من أبعاضه.
قوله: (وإلا لزم أن تكون الكتابة حالة لليد) فيه نظر لأن له أن يقول: إن الكتاب لم يثبت أنها حالة في الأصل فيلزم ما ألزمته بخلاف التبيُّن فإن كونه حالة قد ثبت واتفق فكونه لايعقل من دون القلب يدل على أنه حالة له.
قوله: (وأما أنا نجد التبين في ناحية الصدر فمسلم) إلى آخره.
هو مستقيم ويقال مع ذلك لأبي الحسين الذي نجده من ناحية الصدر وهو المعنى ولا كلام في اختصاصه بالقلب وكلامنا في الحالة ولا نسلم أنها الموجودة من ناحية الصدر فلم نجدها من ناحية القلب ولاعرفنا ذلك ولاسبيل إلى معرفته فلم جعلتها حالة له دون الكبد مثلاً وسائر ما في الصدر من غيره.
قوله ـ حاكياً عن أبي الحسين ـ: (فيقال لهم: أصح منه لأنه ذات مخصوصة بكونها متبينة).
يقال له: بل لأنها ذات مخصوصة بحقيقة تخالف بها سائر الذوات على ما قلته في صحة الفعل المطلق أنه صح منه لذاته المخصوصة لابصفة ولا حكم.
قوله: (بما ذكرته عن أبي الحسين).
يعني من أن التعلق هذا الذي هو صحة إيجاد الفعل محكماً لايخلو إما أن يكون لأنه ذات مطلقة أو لأنه ذات مخصوصة أو لأن ذاته تَبَيُّنٌ للأشياء، فلابد أن تثبت له لأنه اختص بصفة.
قوله: (مع ما تقدم) يعني في أول المسألة.
قوله: (ألا ترى أن المجوز قد تعلق قلبه بالشيء على ما هو به وعلى ما ليس هو به).
يعني حيث اعتقد أن العالم مثلاً يجوز حدوثه، وأنه يجوز قدمه فقد حصل له تعلقان متعاكسان ولم يمتنع ذلك ومن المعلوم استحالة أن يكون عالماً بالشيء وجاهلاً به فدل على أن العلم غير التعلق.
قوله: (وليس له أن يفرق بسكون النفس).
يعني فيقول: أن المجوز لاسكون معه ولا يحصل السكون مع واحد من التعلقين لأن أحدهما جهل وهو اعتقاد جواز القدم في العالم مثلاً والآخر اعتقاد مطابق غير علم وهو اعتقاد حدوثه فصح لذلك اجتماعهما بخلاف العلم بالشيء والجهل به فإنهما لايجتمعان لأن العلم يستلزم السكون والجهل لايجامعه فاستحال اجتماعهما.
قوله: (ولأنه من أحكام العلم) أي هو من موجبات العلم فهو المؤثر فيه كما أنه المؤثر في الصفة فإذا كان كذلك فالخصم لايثبت العلم معنى فلا يمكنه أن يفرق بما هو من أحكامه، وفيه سؤال وهو أن يقال: ولم جعلته من أحكام العلم ولم تجعله من أحكام الصفة التي هي العالمية مع أن الشيخ الحسن قد عده من تعلقاتها فهلا كان مقتضى عنها.
والجواب: أنه لو كان الموجب له العالمية لكان يلزم إذا تعلق بمتعلقها الصفة التي هي كونه مقلداً أو منخباً أن توجبه وتقتضيه لأنها في حكم المماثلة لها لتعلقها بمتعلقها على أخص ما يمكن وبذلك يعلم التماثل بين التعلقات من الذوات والصفات.
لايقال فيلزم في التقليد إذا ماثل العلم حيث يتعلق بمتعلقه على أخص ما يمكن فإنه حينئذ يماثله أن يوجب سكون النفس كما أوجبه العلم على نحو ما ألزمتم في جعل الصفة هي الموجبة له لأنا نقول: إن العلم لم توجبه لاختصاصه بالصفة الذاتية والمقتضاة التي يشاركه التقليد فيهما إذا ماثله بل لوقوعه على وجه لم يقع عليه التقليد بخلاف الصفة فإنها تقتضي ما يقتضيه لمجردها لا لوقوعها على وجه وقد شارك المقلد العالم في حصول مجرد الصفة فكان يلزم أن تقتضي له سكون النفس، ولو سلمنا أنها تقتضي ما تقتضيه لكيفيتها لا لمجردها فكيفية العالمية حصولها مع الجواز وصفة المقلد قد شاركتها في ذلك فكان يلزم أن تشاركها في الإيجاب وأما كون الشيخ الحسن عده من تعلقات العالمية فقد تقدم ما أدلى به في ذلك مع اعترافه بأنه من أحكام العلم.
قوله: (لأن جميع هذه قد تحصل مع تعذر الأحكام).
يعني فقد يعتقد الكاتب كيفية الكتابة وترتيبها أو يظنه فلا يتأتى منه وكذلك ينظر فلا يجدي نظره ولاتتأتى منه الأحكام لأجله.
فصل
وإذا ثبتت هذه الحالة في المشاهد فهي تثبت للباري تعالى لأن الطريق واحدة فالذي دل عليها ههنا من صحة الأحكام حاصل في حقه تعالى ومن حق كل مشتركين اشتركا في طريقة صفة أو حكم أن يشتركا في المتطرق إليه صفة كان أو حكماً، فإذا كانت الطريق الموصلة إلى كون الواحد منا عالماً في صحة الفعل المحكم وكانت الأفعال المحكمة قد صحت منه تعالى ووقعت وجب أن يوصل إلى صفة هي كونه علاماً، وههنا أصل وفرع ورطيقة ومتطرق إليه على ما مضى في مسألة قادر، وإن شئت قلت: أصل وفرع وعلة وحكم فقد تقدم أن كل واحدة من الطرق الرابطة تسمى علة الحكم.
قوله: (وليس عدم الإحكام في بعض الأفعال يدل على فقد هذه الصفة). دليله ما نعلمه في الشاهد من أن الواحد منا مع علمه بالكتابة المحكمة الحسنة قد يأتي بها مجرمسة غير مرتبة ولا منتظمة لغرض من الأغراض وكان الوجه في تأتي لافعل الذي ليس بمحكم من العالم بكيفية إحكامه أن تأثير كونه عالماً في الإحكام على وجه التصحيح دون الإيجاب فهو ككون القادر قادراً فإنها تؤثر في صحة الفعل ولاتوجبه بخلاف كون المريد مريداً فإن تأثيرها في وجوه الأفعال على جهة الإيجاب.
بيانه: أن أحدنا إذا أوجد الخبر وأراد كونه خبراً عن زيد وجب كونه خبراً عنه بكل حال ولم يجز ألا يكون خبراً عنه بخلاف العالمية فإنها تقارن الكتابة ولاتوجب كونها محكمة.
تنبيه
قد يدل عدم فعل القادر للفعل المحكم على فقد صفة العالمية وذلك حيث تتوفر دواعيه إلى إيجاد الفعل محكماً وتنتفي صوارفه عنه ثم لا تتفق منه فلا شك في عدم علمه إذ لو كان عالماً لفعله محكماً كما يستدل بمثل ذلك في حق الفعل مجرداً على عدم القادرية.
قوله: (ألا ترى أن كثيراً من أفعال الله تعالى لايكون محكماً وإن كان حكمة).
اعلم أولاً أن الأفعال بحسب الحكمة والإحكام تنقسم إلى أربعة أقسام:
ما فيه حكمة وإحكام كالكتابة المحكمة في الترتيب والانتظام لنفع مسلم.
وما فيه إحكام ولاحكمة كما لو كانت في سعاية بمسلم إلى السلطان أو لم يقصد بها التقرب إلى الله تعالى بل لنفع دنيوي.
وحكمة ولا إحكام كالكتابة المخرمشة غير المنظومة إذا قصد بها التقرب إلى الله تعالى.
وما لاحكمة فيه ولا إحكام كما لو وقعت مع غير قصد التقرب أو قصد بها وجه قبيح.
هذا ما يذكره أصحابنا وفيه نظر من وجه وهو عد الكتابة المخرمشة غير محكمة لأنه لايخلو إما أن يكون مرادهم بها الكتابة الضعيفة البنا التي ليست في قالب الحسن ولا غاية الإحكام فركتها وضعفها لايخرجها عن كونها محكمة بل هي مع ذلك غير عارية عن الإحكام ولا خالية عن الانتظام وإن أرادوا بالمخرمشة التي لايفهم شيء منها ولايتعذر على سائر القادرين ابتداء فهذه ليست بكتابة أصلاً، فما وجه وصفهم لها بذلك، وما معنى كونها سعاية في مسلم فكان الأولى التمثيل بغير ذلك.
إذا عرفت هذا فالذي يدخل في أفعاله تعالى من هذه الأقسام قسمان، أحدهما ما فيه حكمة وإحكام وهذا القسم أكثر مصنوعاته تعالى وجلها كالسموات والأرضين والحيوانات والنباتات، وثانيهما ما فيه حكمة من غير إحكام وهي الأعراض وأفراد الجواهر التي لم تقتض الحكمة تأليفها وإحكامها، فأما القسمان الآخران فيتعذران في فعله تعالى فإنه يخل عن خلو أفعاله عن الحكمة والحكمة كل فعل حسن لفاعله فيه غرض صحيح.
فصل فيما يجوز إجراؤه عليه تعالى من الأسماء بمعنى كونه عالماً وما لايجوز
قوله: (ومنها العارف إذ لافرق بين العلم والمعرفة).
قد قيل: إن في جعل العلم والمعرفة لفظين مترادفين لافرق بينهما نظراً، فإن بينهما فرقاً ولهذا يقال: عرفت الله، ولايقال: علمته، وقد فرق بعضهم بينهما بأن العلم نقيضه الجهل، والمعرفة نقيضها الإنكار. وقيل: لايجوز وصفه تعالى بأنه عارف لأن المعرفة علم ناقص. وقال بعضهم: بل لايجوز لأن المعرفة هي العلم المسبوق بالجهل والله يتعالى عن ذلك، ولهذا لم ترد لفظة عارف في الأسماء الحسنى ولا وصف بها نفسه.
قوله: (فلا يقال عراف لإيهامه الخطأ).
يعني وهو كونه من جملة العرافين أهل الحرفة المسترذلة حسبما وقع الاصطلاح عليه.
قوله: (قال الشاعر:
لاهُمَّ لا أدري وأنت الداري
أصله: اللهم، فحذف حرف التعريف وقد ورد مثله كثيراً.
قوله: (ويستعمل بمعنى المحكم).
أي فعل الحكمة إذا وصف تعالى بأنه حكيم على ما جرى به التعارف في استعماله في العالم صح إجراء ذلك عليه في الأزل، فيقال: حكيم في الأزل وإن كان بمعنى المحكم أي فاعل الحكمة فهو من الأوصاف الفعلية فلا يجري عليه بهذا المعنى فيما لم يزل.
قوله: (أي العالم بكنه الشيء).
كنه الشيء: نهايته. يقال: أعرفه كنه المعرفة.
قوله: (في حكاية الشعراء: من ريحانة الداعي السميع).
معناه أهذا الداعي السميع من ريحانة المجنونة وموضعها. وعجزه: يؤرقني وأصحابي هجوع.
وحاصله أن داعي ريحانة المسمع لايزال يؤرقه، والبيت لعمرو بن معدي كرب، وقيل: إن ريحانة هذه أخت عمرو بن معدي كرب، وأن العاب بن مرداس السلمي أسرها وهو القائل:
أكر على الكتيبة لا أبالي ... أحتفي كان فيها أم سواها
فكان عمرو يجفوه المنام بسبب أسرها.
قوله: (وإ، كان أصله من الارتقاب لحال غيره) وجه الشبه بين الأصل والعرف أن من يرقب لحال غيره لم يغب عنه شيء منه فكان تعالى لعلمه بتفاصيل كل أمر كالرقيب الذي لايغيب عنه شيء.
قوله: (وإن كان يستعمل بمعنى الحافظ فيكون من صفات الأفعال).
يعني لأن لفظة حافظ تفيد دفع الآفات والمكاره عن الشيء المحفوظ فكانت من صفات الأفعال.
قوله: (مبالغة في الشاهد).
يقال: فهل يوصف بأنه شاهد كما يوصف بما هو مبالغة فيه؟
والجواب: أما الذي ذكره الفقيه حميد فإنه لايوصف بأنه شاهد إلا بطريقة التقييد كقولنا شاهد كل نحوي فلا يجوز ذلك من غير تقييد لأن أصل هذه اللفظة مأخوذ من المشاهدة التي هي نقيض الغيبة ثم هي بالعرف لمن حمل الشهادة المعروفة لغيره وكل ذلك لايجوز عليه تعالى.
قوله: (وقيل يقر حيث ورد لإيهامه المشاهدة) إلى آخره.
قال الفقيه حميد: وهذا المعنى يستحيل على الله تعالى فكانت هذه اللفظة مجازاً في حقه سبحانه ثم لما كثر استعمالها صارت بمنزلة الحقيقة في حقه تعالى.
قوله: (وقيل يقر حيث ورد لإيهامه الخطأ).
يعني وهو نقيض الضيّق.
قوله: (نحو واسع الرحمة والعطاء ونحو ذلك) يعني كواسع المغفرة على ما ورد في بعض الأدعية وما شابه ذلك.
قوله: (فنحو قولنا طبيب لأنه قد تعورف به فينم تعاطى صنعة مخصوصة).
يعني صياغة الأدوية ومعالجة الجراحات والعلل ومداواة الأسقام، وفي قوله: يتعاطى. نظر لأن المتعاطي للطب يسمى متطبباً لاطبيباً نص عليه الجوهري، ومعنى المتعاطي للشيء في الأصل الخائض فيه، وأما الطبيب فهو العالم بالطب، والطبيب أيضاً الحاذق عند العرب. وقوله: قد تعورف به. أراد والأصل أن الطبيب هو العالم بقول أهل اللغة فلان طَبّ بكذا وطبيب أي عالم وقد ذكره الجوهري، قال: ورجل طَبٌّ بالقتح أي عالم.
قوله: (فلا يستعمل إلا فيما علم بعد جهل) أي الشعور بالشيء، فإذا قلت: شعرت بشيء فمعناه علمته بعد أن كنت جاهلاً له.
قوله: (وكذلك الفطن) إلى آخره.
تحقيق المانع من إ>رائه عليه تعالى أن لفظة الفطن تفيد العلم مما يلتبس الحال فيه بعد التباسه ولهذا لايقول أحدنا: فطنت أن السماء فوقي ويقول: فطنت كلام فلان وغرضه. قال الفقيه حميد: ولايوصف تعالى بأنه فاهم لمثل ذلك.
قوله: (وكذلك لايوصف تعالى بأنه يحسن الأشياء).
يحسن بإثبات النون من الإحسان وهو الذي أراد المصنف وقد صرح بذلك في استدلاله في مسألة الأفعال بقوله تعالى: {الذي أحسن كل شيء خلقه} وقال: يوصف بأنه أحسن ولايوصف بأنه يحسن لما تقدم، يعني هنا وصُلِّح في كثير من النسخ فجعل يُحسّ من الإحساس والذي دعا إلى تصليحه هذا تعليل أبي هاشم للمنع من ذلك، وكذلك تعليل أبي علي، والأقرب أن المصنف وهم فأتى بلفظة يحسن من الإحسان ثم نقل كلامهم في يحس من الإحساس ولامدخل لما هو من الإحسان ههنا إنما الكلام في يحس من الإحساس لأنه قد ورد بمعنى العلم. قال تعالى: {فلما أحس عيسى} الآية، أي علم.
قال ابن متويه: ولكنه لايستعمل في كل علم بالمدركات، فلا يقال: أحس بالسماء وما شاكله.
قوله: (قال أبو علي) إلى آخره.
قد احتج لما ذكره بقولهم أحس بالحمأ ولايقولون في النائم أحس بقرص البراغيث لما عدم العلم، وقد بنى أبو هاشم كلامه على أن الحس والحاسة بمعنى واحد فيقال: حس البصر، وحس الذوق ونحو ذلك. وأبو علي لاينازعه في ذلك لكنه جعل من فائدة يحس ما ذكره المصنف عنه والكلام في المحسن كالكلام في يحسن.
قوله: (وكذلك الحاذق) لأنه يفيد نوع معالجة. قيل: بل المانع أنه يفيد من علم الشيء ثم يجاوزه إلى مالم يكن عالماً به، ويقال: حذلق الرجل ويحذلق إذا أظهر الحذق وادعى أكثر مما عنده.
قوله: (ولأنه في الأصل اسم للقاطع) يقال: سكين حاذق وخل حاذق شاهده قول أبي ذؤيب:
يرى ناصحاً فيما بدى فإذا خلا ... فذلك سكين على الحلق حاذق
أي قاطع.
قوله: (وكذلك الذكي) إلى آخره. قال الجوهري: الذكاء ممدوداً : حدة الفؤاد.
قوله: (وكذلك الحافظ أي العالم) يعني لايجوز إجراؤه لما تقدم فأما بمعنى دفع الآفات والمكاره فجائز عليه تعالى كقولهم حفظ الله ونحوه، وقوله تعالى له: {إنا لحافظون} أي عن الزيادة والنقصان.
قوله: (إنما سميت عقلاً لمنعها صاحبها عما تنزع إليه نفسه) أي ما تدعو إليه النفس من القبائح، وقد قيل: بل سميت بذلك لأنها تمنع العلوم الاستدلالية عن الزوال وكل واحد من المعنيين غير جائز في حقه تعالى وكما لايوصف تعالى بأنه عاقل فكذلك لايوصف بأنه غير عاقل لأنه يفيد الجنون أو فقد العلم، وذلك محال في حقه، وإنما يقال هو تعالى يعلم ما يعلمه العاقل بزيادة ذكره الفقيه حميد.
قوله: (لإيهامه الجسمية) يعني من حيث أن الإحاطة هي الاحتواء على الشيء ومنه سمي الجدار حائطاً لإحاطته بالغرس أو بالنبت فأما مع التقييد نحو {أحاط بكل شيء علماً} {وأحاط بما لديهم} فلا إيهام فيه فهو جائز وله شبه بالحقيقة من حيث أنه تعالى أحاط بأحوالهم على طريق التفصيل، ولهذا لايقال في أحدنا أنه أحاط بالله علماً لأنه وإن علمه فلم يعلم جميع معلوماته ومقدوراته على التفصيل.
قوله: (لإيهامه السكون المعاقب للحركة ولأنه مجاز). يقال: ما الفرق بين الوجهيم؟
والجواب: أن بينهما فرقاً فالأول منع من حيث إيهام الخطأ وهو السكون المقابل للحركة وسواء كان حقيقة في التفرقة التي يجدها أحدنا أو مجازاً فيها، والثاني بالنظر إلى أنه مجاز وسواء كان موهماً معنى لايصح عليه تعالى أو لا من حيث أن المجاز لايجوز إطلاقه إلا بأذن ويقر حيث ورد هذا بالنظر إلى إجراء اللفظ، وأما بالنظر إلى المعنى فيجري في كلام المشائخ أنه حاصل على مثل حكم الواحد منا بكونه ساكن النفس.
قوله: (وفيه غرابة) أي وفي الأمر الذي لم يكن عالماً به ثم علمه، وقيل: التعجب العلم بمالم يعلم سببه وأبطل بأنا وإن عرفنا السبب لم يزل التعجب، وما ورد من ألفاظ التعجب في القرآن كقوله تعالى: {فما أصبرهم على النار} فهي لاتفيد أنه تعالى متعجب بل أنهم أحِقاء بأن يتعجب منهم.
قوله: (والحسرة ونحو ذلك) يعني كالسرور والطمع واليأس والأفن والفزع لأنه الخوف.
قوله: (لنها تفيد اعتقاداً مخصوصاً) أما الغم فهو علم الحي أو ظنه أو اعتقاده بأنه علة في المستقبل فوت نفع أو حصول ضرر أو لمن يجب، وأما الندم فهو اعتقاد أن عليه ضرراً أو فوت يقع في فعل له متقدم ومثله الأسف والحسرة وقد تقدم بيان معنى السرور وهو نقيض الغم، وكذلك معنى الطمع واليأس والأمن والخوف وكذلك فمما يمتنع في حقه تعالى التخيل والتوهم لأن معناهما أن يظن أو يعتقد في الشيء أنه بصفة ما شاهده وعرفه ذكره الشيخ ابن متويه.
قوله: (يا حسرة على العباد..) إلى آخره.
قال جار الله: هو بدء للحسرة عليهم والمعنى أنهم أحقاء بأن يتحصر عليهم المتحصرون، ويجوز أن يكون على جهة الاستعارة في معنى لفظهم ما جنوه على أنفسهم وفرط الإنكار فله التعجيب منه.
قوله: (وقيل تقديره: فلما آسفوا أولياءنا).
قال جار الله: أصل آسفونا أسف أسفاً إذا اشتد غضبه والمعنى أنهم أفرطوا في المعاصي فاستوجبوا تعجيل العذاب والانتقام وإلا يحلم عنهم.
تنبيه
قال أصحابنا: يلزم المكلف في هذه المسألة أن يعلم أنه تعالى كان عالماً فيما لم يزل ويكون عالماً فيما لا يزال وأنه عالم بجميع المعلومات على الوجوه التي يصح أن تعلم عليها من مجمل ومفصل ومشروط وغير مشروط وأنه تعالى يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن وما لو كان كيف كان يكون وأنه لا يجوز خروجه عن هذه الصفة بحال من الأحوال على ما ستأتي أدلته مقررة في فصل الكيفية.
القول في أن الله تعالى حي
ووجه اتصالها بالمسألتين الأولتين ظاهر؛ لأنهما دليلها ما بعدها هي التي تدل عليه.
قوله: (لمكانها يصح أن تقدر وتعلم).
فيه سؤالات ثلاثة:
الأول: أنه يلزم دخول الصفة الأخص فيه لن لمكانها يصح في المختص بها أن يقدر ويعلم لنها مقتضية للقادرية والعالمية والمقتضي مصحح كما أنه موجب.
الثاني: أن بصحة إحدى الصفتين القادرية والعالمية يحصل العلم بالحي ويعرف معناه فزيادة الأخرى لا فائدة فيها.
الثالث: أن هذا الحد لايطرد لأنه يجوز أن يكون في الأحياء من لايصح أن يعلم بأن لايخلق الله له قلباً يحله العلم فإن بنية القلب شرط في تصحيح كونه حياً لكونه عالماً فلا تحصل الصحة من دون ما هو شرط فيها ويجوز أيضاً أن يكون في الأحياء من لايصح أن يقدر بأن لايحصل البنية الزائدة على بنية الحياة التي تحتاج القدرة في وجودها إليها على ما يذهب إليه الشيخان وغيرهما، فإن عندهم أنه لايصح وجود قدرة واحدة ولا أزيد منها في البنية التي لابد منها في وجود الحياة بل لابد من بنية زائدة، وأما الشيخ أبو عبدالله فقد أجاز وجود قدرة واحدة في البنية التي لا أقل منها في وجود الحياة وأوجب احتياج ما زاد عليها إلى بنية زائدة فالسؤال غير وارد بالنظر إلى مذهبه.
قوله: (وخصصنا أن يقدر ويعلم) إلى آخره.
هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره: إن كونه حياً كما تصحح القادرية والعالمية فهي تصحح غيرهما من الصفات فلم خصصتموهما بالتحديد دون غيرهما.
وتقدير الجواب: أن الذي أوجب خصوصهما حصول مزية لهما على سائر ما يصححه وذلك أنهما يصحان على كل حي في كل وقت أو ما يقدر تقدير الوقت وسائر ما تصححه غيرهما وهو سبع صفات منها ما يصح على كل الأحياء في بعض الأوقات وهي كونه مدركاً ومريداً وكارهاً ومنها ما لايصح إلا على بعض الأحياء وهي كونه مشتهياً ونافراً وظاناً وناظراً فلما كانت الحال في هذه الأحوال على ما ذكرناه خص بالتحديد ما يصح في كل وقت على كل حي.
هذا وقد قيل في حد الحي: المختص بصفة لمكانها يصح كونه قادراً من دون اقتضاء على بعض الوجوه كمسلم من الاعتراضات الثلاثة. وقيل: بل المختص بصفة تقتضي لمن اختص بها كونه مدركاً مع اجتماع الشرائط ويلحق بما تقدم حقيقة الحياة وهي: المعنى الذي تصير به الأشياء الكثيرة في حكم الشيء الواحد، وحقيقة الحيوان وهو الحي بحياة وبذلك يعرف أن الحي أعم من الحيوان.
فصل
ذهب أكثر المسلمون وكثير من الناس كالكتابيين والبراهمة وبعض عباد الأصنام إلى أن الله تعالى حي.
قوله: (لنا أنه تعالى قادر عالم) إنما خص الاستدلال بهاتين الصفتين على كونه حياً دون سائر الصفات التي تصححها الحيية لأن سائرها منها ما لاتصححه الحيية له تعالى وهي كونه مشتهياً ونافراً وظاناً وناظراً إذ لاتصححها إلا بشروط لم تحصل في حقه تعالى ومنها ما لايصح العلم بصحتها إلا بعد العلم بكونه حياً ككونه مدركاً ومريداً وكارهاً فلم يبق مما تصححه ما يعلم أنه يصح عليه تعالى.
قيل: العلم بكونه حياً إلا القادرية والعالمية وقد جرت عادة المتكلمين بالجمع بينهما في الاستدلال على الحيية وإلا فإحداهما كافية.
إذا عرفت هذا تقرر لك أنه لايمكن الاستدلال بغيرهما من الصفات على كونه تعالىحياً، وقد حكي عن الشيخ أبي هاشم أنه لايصح الاستدلال على كون الحي حياً شاهداً وغائباً إلا بهاتين الصفتين لأنهما اللتان تثبتان لكل حي في كل وقت بخلاف ما عداهما، وحكي عن الشيخ أبي عبدالله أنه يصح الاستدلال بكل صفة تصححها الحيية عليها إذا كان يمكن العلم بها قبل العلم بالحيية واحترز بذلك عن كونه تعالى مدركاً فإنا لانعلم صحتها إلا بعد العلم بكونه حياً فلا يصح الاستدلال بها.
قيل: والأولى أنه في الشاهد يمكن الاستدلال على كونه حياً بجميع الصفات التي تصححها كون الواحد منا حياً، فإن العلم بصحتها يقارن العلم بكونه حياً على الجملة وإنما يستدل على التفصيل وأما في حقه تعالى فالأولى ما تقدم.
قوله: (إنا وجدنا في الشاهد ذاتين).
هذه عبارة السيد الإمام. قيل: والأولى منها أن يقال: إنا وجدنا في الشاهد جسمين؛ لأن الذات الواحدة لايصح أن تقدر وتعلم فإن الجوهر الواحد يستحيل عليه ذلك بكل حال، وأيضاً فإنه إذا قيل إنا وجدنا في الشاهد جسمين لهما بنية مخصوصة من لحمية ودمية وقع الاستغناء بذلك عن إبطال كون الجسمية أو البنية المخصوصة من لحمية ودمية هي المؤثرة في هذه الصحة.
قوله: (لأن حكمها) يعني حكم كونه حياً.
قوله: (يكشف عن صفة قد تكون متماثلة).
فيه نظر لأنه يقال: ما تريد بقولك عن صفة قد تكون متماثلة، هل كونه مدركاً فإ،ها تكون متماثلة إذا اتحد المتعلق فهذا مختل، وكيف تكون صحة كونه مدركاً كاشفاً عن كونه مدركاً، فإن صحة الإدراك إنما تكشف عن كونه حياً إذ هو حكم مقتضى عنها ثم أنك في بيان أن حكم كونه حياً الذي هو صحة الإدراك تكشف عن صفة هي كونه حياً يخالف الصفة التي تكشف عنها صحة الفعل التي هي كونه قادراً، ولست في بيان أن المدركية تخالف القادرية وإن أردت تكشف عن صفة قد تكون متماثلة هي كونه حياً فإنها متماثلة بكل حال، فما معنى قولك: قد تكون متماثلة، فإن مفهومه يقضي بأنها قد تكون متخالفة وليس بصحيح.
قوله: (وكشف هذين الحكمين عن التماثل والاختلاف).
يعني في الصفتين الموجبتين لهما اللتين هما كونه حياً وكونه قادراً فإن صحة الإدراك يكشف عن صفة تكون متماثلة وصحة الفعل تكشف عن صفة مختلفة بكل حال.
قوله: (إنما هو بحسب إيجاد المتعلق وتعدده).
يعني فلما كان صحة الفعل كاشفاً عن صفة لايتحد متعلقها كان كاشفاً عن صفة تكون مختلفة بكل حال والمراد بقوله تكون مختلفة بكل حال أن صفتين من نوع القادرية لايتماثلان ولما كان صحة الإدراك تكشف عن صفة قد يتحد متعلقها كان كاشفاً عن صفة قد تكون متماثلة وقد تقدم ما فيه من الإشكال وأنه إن قصد كونه مدركاً فلا يستقيم وإن أراد كونه حياً فهو مختل من حيث أن كونه حياً ليست بمتعلقة فضلاً عن أن يتعدد متعلقها أو يتحد فتقرر بذلك ركة كلام المصنف في هذا الفرق الذي أورده بين هاتين الصفتين، وأنه في الأقرب خروج من الكلام في الحيية إلى الكلام في المدركية.
قوله: (ولايحسب كون الحكم في نفسه متماثلاً أو مختلفاً).
يعني فلا يقال: إن صحة الفعل إحكام مختلفة فكشفت عن صفات مختلفة وصحة الإدراك قد تكون أحكامها متماثلة فتكشف عن صفات متماثلة، فإن صحح الفعل جميعها أحكام في حكم المتماثلة وكذلك صحح الإدراك بل ظاهر كلام الشيخ الحسن أن جميع الصحح التي هي الإمكانات في حكم المتماثلة وإنما يكشف عن التماثل والاختلاف بحسب ما يستند إليه من أ>ناس الصفات والأحكام وأنواعها.
وتلخيص هذه الجملة التي ذكرها أن صحة الفعل لم تكشف عن صفة مختلفة لأنها حكم مختلف فإنها حكم متماثل بل لعدم شرط التماثل وحصول شرط الاختلاف وكذلك صحة الإدراك لم تكشف عن صفة متماثلة لأنها حكم متماثل فقط بل لحصول شرط ما يقضي بتماثل الصفتين وعدم شرط ما يقضي باختلافهما لأن التماثل في الصفات والأحكام يحتاج إلى مؤثر في الكشف، وشرط.
إذا عرفت ذلك فالمؤثر في كشف صحة الفعل عن صفة مختلفة الصحة نفسها وشرط كشفها عن الاختلاف اختلاف المتعلق إذ القادريتان لاتتعلقان بمتعلق واحد وكذلك فالمؤثر في كشف صحة الإدراك عن صفة متماثلة الصحة نفسها، وشرط كشفها عن ذلك إيجاد متعلق صفتي المدرك بمتعلق واحد فإنه يجوز مدرك بين مدركين والذي ذكر أصل هذه الجملة وهو أن الكشف عن التماثل والاختلاف يحتاج إلى مؤثر وشرط هو الشيخ الحسن، وهذا فيما كان من قبيل واحد من الصفات وأما ما كان من قبيلين كالقادرية والعالمية فإ،هما يختلفان اتحد المتعلق أو اختلف لاختلاف وجه التعلق.
وإذا تقرر لديك ما شرحناه في هذا الموضع فنقول: كان الأولى أن يقول المصنف ههنا كما قاله السيد الإمام فإنه ذكر ما لفظه جواباً عن سؤال من قال: إن الحكمين وإن اختلفا يرجعان إلى صفة واحدة كأحكام التحيز. قلنا: هذا غير صحيح وذلك لأن أحد الحكمين ينبي عن صفة مختلفة في الذوات، وهي صحة الفعل والحكم الآخر ينبي عن صفة متماثلة فيها وهي صحة الإدراك فلو كان المرجع بالحكمين إلى صفة واحدة لوجب في الصفة وهي واحدة أن تكون مختلفة متماثلة في الذوات وهذا لايجوز ثم شرح هذا الكلام الفقيه قاسم في التعليق الكبير بما لفظه:
يجاب عنه ـ أي عن السؤال ـ بوجوه:
أولها: ما ذكره من أن صحة الفعل تنبي عن صفة مختلفة في الذوات وهي كونه قادراً وصحة الإدراك تنبي عن صفة متماثلة في الذوات وهي كونه حياً وكانت كونه قادراً مختلفة لأن ما صح بإحدى الصفتين لم تصح بالأخرى وكونه حياً متماثلة لأن ما صح إدراكه بإحدى الصفتين صح بالأخرى، فانظر إلى قول السيد عن صفة متماثلة ولم يقل قد تكون متماثلة وإلى تفسير الصفتين لذلك بكونه حياً وفي بعض تعاليق الفقيه قاسم وكذلك تعليق الدواري أن مراد السيد بقوله عن صفة متماثلة في الذوات كونه مدركاً، ويعني بأن كونه مدركاً متماثلة في الذوات أنه يقع فيها ما يتماثل فيكون كلام المصنف موافقاً لهذا الكلام لكنه غير سديد لورود ما ذكرناه.
قد أجاب السيد الإمام عن ذلك السؤال أيضاً بوجهين آخرين وهو أنه كان يلزم لو كان المرجع بالحكمين إلى صفة واحدة فيمن صح منه الإدراك أن يصح منه الفعل وفي كل عضو صح به الإدراك أن يصح به الفعل ومعلوم خلافه فإن شحمة الأذن يتأتى بها الإدراك ولايتأتى بها الفعل ابتداء.
واعلم أن مما ذكر في الفرق بين القادرية والحيية ما ذكره ابن متويه في تذكرته وهو أن صفة الحي في الأحياء صفة واحدة وصفة القادر في القادرين مختلفة فكيف تكون أحدهما هي الأخرى. قال رحمه الله: وإنما يعرف أن صفة الحي في الأحياء صفة واحدة غير مختلفة بأن نقول: لو اختلفت لوجب أن يكون ثم وجه يقتضي الاختلاف وإذا كان الإدراك غير متناول لها ولاتوجد من النفس فيحكم باختلافها عند حصول التفرقة في الوجدان أو الإدراك ولاحكم صادر عنها يكشف عن اختلافها بطل أن تكون مختلفة، وأما كونه قادراً فيعلم اختلافها بتغاير متعلقها.
واستدل أيضاً على أن المؤثر في صحة أن يقدر ويعلم غير القادرية والعالمية وسائر صفات الجملة ما عدا كونه حياً بأن قيل: إن صحة أن يقدر ويعلم قد دلتنا على صفة أثرت فيها فكيف يجوز أن تكون الصفة هي القادرية فإن صحتها سابقة على ثبوتها ولايصح تقدم الأثر في الثبوت على المؤثر ثم أن الصفة لاتصح أن تؤثر في حكم لها وصحة أن يقدر حكم للقادرية فقد تقرر أن المؤثر في صحة أن يقدر غير القادرية وكذلك الكلام في إبطال أن يكون المؤثر العالمية وكذلك لايجوز أن يكون المؤثر في صحة أن يقدر ويعلم سائر صفات الحي الراجعة إلى الجملة غير كونه حياً وقادراً وعالماً لأن سائرها لاتثبت صحتها إلا بعد صحة القادرية والعالمية وتتفرع صحتها على صحة القادرية والعالمية فضلاً عن ثبوتها ومعلوم أن الفرع لايؤثر في الأصل.
فصل
وقد ذهب أبو الحسين وابن الملاحمي في كونه حياً إلى مثل ما ذهبا إليه في كونه قادراً فزعما أن صحة أن يقدر ويعلم في الشاهد لأجل البنية المخصوصة، وفي الغائب للذات المخصوصة لا لصفة اقتضتها، وأن المرجع بكون الحي حياً إلى أنه لايستحيل أن يقدر ويعلم ونفي هذه الاستحالة معلل في الشاهد بالبنية المخصوصة المركبة من اللحم والدم وفي الغائب بذاته المخصوصة.
قوله: (فلهذا عللنا المفارقة فيه بأمر راجع إلى الأجزاء وهو البنية).
فيه سؤال وهو أن يقال: إنه يلزمكم على هذا التسلسل فإن الأجزاء التي صح أن تحيى قد اختصت بما ذكرت دون غيرها فلا بد من أمر والكلام فيه كهذا فيلزم التسلسل؟
والجواب: أنه لايلزم التسلسل لأن تعليل المفارقات كلها تنتهي إلى أمر لايعلل، بيانه: أن من صح منه الفعل فارق من لم يصح منه بمفارقة تلك المفارقة صفة ترجع إلى الجملة وهي كونه قادراً، ومن صح أن يقدر فارق من لم يصح أن يقدر، وتلك المفارقة لصفة ترجع إلى الجملة وهي كونه حياً، ومن صح أن يحيى فارق من لم يصح أن يحيى كالعرض والجوهر الفرد والجواهر المعدومة وتلك المفارقة لصفة هي التحيز مع حصول المعاني المذكورة، ومن صح عليه التحيز فارق من لم يصح عليه وهو العرض بصفة عائدة إلى ذاته وهي الجوهرية، وحينئذ انتهى تعليل المفارقة فإن الصفات الذاتية لايصح دخول التعليل فيها لتأديته إلى بطلانها.
قوله: (للزم صحة الفعل باليد المبانة لوجود القدرة التي هي البنية فيها) يعني على ما يذهب إليه الخصم.
قوله: (وليس بداخل في جملة الحي) يعني الشعر والظفر وهذا ما صححه أبو هاشم وأكثر الأصحاب، وإن كان أبو علي قد ذكر أن جميع ما يتصل بالبدن من الشعر والظفر معدود في جملة الحي، وإن لم تحله الحياة، والخلاف عائد إلى العبارة كما ذكره ابن متويه.
قوله: (من حيث يستحق هذه الصفات لمعان تحتاج إلى بنية) يعني والبنية لاتكون إلا في مجموع اجزاء، فلذلك وجب كونه جسماً وإذا كان جسماً وجب كونه كائناً لتضمن الكائنية بالتحيز ووجب صحة كونه ملتذاً لن الحي بحياة يصح عليه الزيادة والنقصان، ويصح لأجله الحيية وحصول شرط تصحيحها كونه مشتهياً فيجب كونه ملتذاً إذا تناول ما يشتهيه، وتكون صفته الحيية جائزة لحصولها لمعنى فيجوز زوالها لأن ذلك من خواص الصفة المعنوية.
قوله: (وكذلك يحتاج إلى محل حي) يعني المعاني التي توجب له القادرية والعالمية.
قوله: (توضيحه أن العبرة بصحة أن يقدر ويعلم). أي يوضح أن التعلق ثابت بين الصفتين وكونه حياً أن العبرة في وجوب كونه حياً بصحة أن يقدر ويعلم لابصحة القدرة والعلم.
قوله: (سواء حصل قدرة وعلم أم لا). يعني فنحن عند أن نعلم أنه يصح أن يقدر ويعلم نعلم وجوب كونه حياً، وإن لم نعلم قدرة ولاعلماً ولا حصولهما له ولاعدمه.
قوله: (يصحح أيضاً كونه مشتهياً ونافراً ونحوهما) يعني بذلك كونه ظاناً وناظراً.
قوله: (بشرط جواز الزيادة والنقصان).
اعلم أن اشتراط جواز الزيادة والنقصان في تصحيح كونه حياً هو على ما ذهب إليه الشيخ أبو هاشم من كونه لايجوز الشهوة والنفرة إلا على من جازت عليه الزيادة والنقصان وسيأتي ما فيه من الإشكال في مسألة غني فلهذا زاد المصنف المنافع والمضار فإنه لاكلام في اشتراط صحة المنافع والمضار في تصحيح كونه حياً لكونه مشتهياً إذ لايصح أن يشتهى إلا من صح أن ينتفع بتناول ما يشتهيه ويتضرر قفده، وكذلك فلا يصح أن ينفر إلا من صح أن يتضرر بإدراك ما ينفر عنه فلما نفر واستحالة الزيادة والنقصان والمنافع والمضار في حقه تعالى على ما سيأتي لم يصحح كونه تعالى حياً كونه مشتهياً ونافراً كما أنه لما وجب كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات لم يصحح له كونه حياً كونه جاهلاً ولا صححت له كونه ظاناً وناظراً إذ من شرط صحتهما صحة التجويز ولايصح على العالم لذاته ولما كان كونه قادراً وعالماً صفتين غير مشروطة صحتهما بشرط مستحيل في حقه تعالى صححتهما له الحيية.
قوله: (ككونه قادراً وكونه حياً) يعني فإنه يلزم من الاشتراك في كونه قادراً والاشتراك في كونه حياً لما كانت الصفة التي هي كونه قادراً حقيقة في الصفة التي هي كونه حياً فإن حقيقة كونه حياً الصفة التي لمكانها يصح من املختص بها أن يكون قادراً.
قوله: (أو كان دليلهما واحداً) يعني ككونه عالماً وقادراً فإنه يجب من الاشتراك في العالمية الاشتراك في القادرية فإن الذي يدل على العالمية يدل على القادرية بزيادة.
وإذا تقرر لك هذا الضبط الذي أورده المصنف صح أنه لايلزم من مشاركة الباري تعالى لنا في الحيية مشاركته لنا في كوننا مشتهين ونافرين إذ ليس كونه حياً حقيقة لكونه مشتهياً أو نافراً ولا كونه مشتهياً أو نافراً مقتضية لهما ولادليل هذه الصفات واحداً، وفي كلام المصنف نظر من وجهين: أحدهما أن السائل لم يلزم مشاركة الباري تعالى لنا في كوننا مشتهين وظانين وناظرين ونافرين، وإنما ألزم المشاركة في صحة هذه الصفات لحصول المصحح في حقه ولم يلزم ثبوتها لثبوت كونه حياً، فالكلام لايخلو عن عدم المطابقة.
الوجه الثاني: أن هذا الضبط الذي أورده ليس بشامل وأشمل منه أن يقال: لايلزم من شاتراك الذاتين في صفة الاشتراك في صفة أخرى إلا إذا كانت حقيقة فيها كالتحيز فإنه حقيقة في الجوهرية لأنها الصفة التي تقتضي التحيز عند الوجود فيلزم من الاشتراك في التحيز الاشتراك في الجوهرية أو كانت مقتضاة عنها فالاشتراك في كونه مدركاً يوجب الاشتراك في الحيية لما كانت مقتضية لها أو تكون مقتضاة عما تقتضيها فإنه يجب من الاشتراك في القادرية المقتضاة الواجبة لو قدرنا أن ذاتين اشتركتا في وجوبها الاشتراك في العالمية فإنها مقتضاة عما يقتضي القادرية والمقتضي لهما وهي الصفة الأخص لاتقتضي إحداهما من دون الأخرى ولاتتوقف في اقتضائها لإحداهما على شرط لا تقف عليه الأخرى، أو تكون الصفة التي اشتركا فيها دليلاً على أخرى فيجب اشتراكهما فيها كما إذا اشتركا في القادرية فإنه يجب اشتراكهما في الحيية أو يكون ما اشتركا فيه له صفة مصححة على التعيين كالمريدية فإنه يجب من مشاركة أحدنا للآخر فيها مشاركته له فيما يصححها في حقنا على التعيين وهي الحيية أو تكون الصفة التي اشتركا فيها مشروطة بالأخرى فإنه يجب من الاشتراك فيها الاشتراك في شرطها كالتحيز والوجود.
فصل
وإذا ثبت أن للحي بكونه حياً صفة في الشاهد فكذلك في حقه تعالى لاستمرار طريقها في الموضعين وهو صحة أن يقدر ويعلم فإنه تعالى قد ثبت كونه قادراً وعالماً، ولاثبوت فرع على الصحة فإذا ثبتت صحته في حقه تعالى وجب كونه حياً لأن طرق الأدلة لا تختلف شاهداً وغائباً، وههنا أصل وفرع وطريق وهي صحة أن يقدر ويعلم ومتطرق إليه وهي ثبوت صفة هي كونه حياً فإذا شارك الفرع الأصل في الطريق وجب أن يشاركه في المتطرق إليه.
قيل: والأجود أن يقال إن صحة أن يقدر ويعلم تصححهما كونه حياً والاشتراك في المصحح يوجب الاشتراك فيما يصححه وإلا بطل كونه مصححاً له، وفيه نظر لنه إما أن يريد أن كونه حياً يصحح الصفتين اللتين هما صحة أن يقدر وصحة أن يعلم وهو ضعيف لأنها إ،ما تصحح الصفتين ومعنى تصحيحها لهما إيجابها لهاتين الصحتين، فأما أنها مصححة للصحتين فهو غير صحيح لأن ثبوت صحة للصحة يؤدي إلى التسلسل أو يريد بقوله يصححهما كونه حياً أي يصحح الصفتين اللتين هما كونه قادراً وعالماً فصحيح، ولكن كلامه لايقضي بذلك وأي وجه لأولوية ما ذكره.
قوله: (وهي معنوية في الشاهد لمثل ما تقدم في غيرها) أي كونه حياً معنوية لحصولها مع الجواز والحال الذي هو البنية والتخلخل والروح واحدة والشرط الذي هو التحيز واحد.
قوله: (وسيأتي كبقية استحقاقه للجميع). يعني من صفاته تعالى التي هي كونه قادراً وعالماً وحياً وموجوداً.
فصل
والذي يجرى عليه تعالى من الأسماء بهذا المعنى نحو قولنا: حي، ولايقال: إن هذا الإسم في الشاهد مشتق من الحياة لأن الموصوف بأنه حي هو جملة الحي والحياة تختص البعض فكيف يشتق منها لغير محلها بسبب حلولها وحصولها اسم فتقرر أن الذي لأجله سميت الجملة بأنها حية ليس إلا الصفة التي هي كونها حية لأنها أمر يرجع إلى الجملة.
قوله: (وأما قولنا حيوان وروحاني فلا يصح إجراؤه عليه تعالى لأنه يفيد الحياة والجسمية).
أما كون الحيوان مفيدا لذلك فظاهر لأنه الحي بحياة والحي بحياة لايكون إلا جسماً وأما الروحاني فيختص به من بين سائر الحيوانات الملائكة وهم أ>سام كل واحد منهم حي بحياة، فإذا قلت: روحاني دل على جسم مخصوص حي بحياة وكذلك فلا يوصف تعالى بأنه ذو روح فإن الروح هو الهواء المتردد في مخارق الحي فيفيد الجسمية.
تنبيه
قال أصحابنا: يلزم المكلف في هذه المسألة أن يعلم أنه تعالى كان حياً فيما لم يزل، ويكون حياً فيما لايزال، ولايجوز خروجه عن هذه الصفة بحال من الأحوال.
القول في أن الله تعالى سميع بصير
قد جرت عادة أصحابنا بالجمع بين الكلام في أنه تعالى سميع بصير وسامع مبصر وجعل القول في ذلك مسألة واحدة، واختار المصنف إفراد مسألة سميع بصير لأن المرجع بها إلى كونه حياً فتلحق بها وتفرد وحدها ليقع الكلام عليها وعلى ما وقع فيها من الخلاف وذكر ما يفيده قولنا سميع بصير، فأما كونه سامعاً ومبصراً فهي مسألة منفصلة عن هذه لا علاقة بينهما إذ المرجع بكونه سامعاً مبصراً إلى أنه مدرك لكونه موجوداً وقديماً.
واعلم أن حد السميع البصير على ما اختاره الجمهور: المختص بصفة لكونه عليها يصح أن يدرك المرئيات والأصوات إذا وجدت. فقولنا المختص بصفة يعني بها الحيية، وقولنا: يصح أن يدرك المرئيات والأصوات أولى من عبارة المتقدمين فإنهم يقولون: يصح أن يدرك المسموع والمبصر، لأن في ذلك تحديداً بما يتصرف من الألفاظ المحدود ومن أشكل عليه معنى الصميع البصير أشكل عليه معنى المسموع والمبصر.
وقولنا: إذا وجدت لأن الصحة لاتثبت إلا بعد وجودها إذ لو صح إدراكها قبل الوجود لوجب لأن الإدراك صفة مقتضاة فلا تنفك الصحة فيها عن الوجوب وقد قال الفقيه قاسم في الاعتراض على حد السميع البصير أنهم اقتصروا في الاحتراز على قولهم: إذا وجدا وكان من حقهم أن يقولوا وارتفت الموانع لأن وجود المدرك لايكفي في الصحة بل لابد من زوال الموانع، وكلامه واقع إلا أن زوال الموانع شرط في الصحة في حقنا فقط لا في حقه تعالى بخلاف وجود المدرك فإنه شرط فيها مطلقاً.
قوله: (المرجع بذلك عند الجمهور إلى أنه حي لا آفة به).
فهي عندنا صفة زائدة شاهداً وغائباً كما نقوله في كونه حياً، وأبو الحسين يقول فيها كقوله في كونه حياً، والنجار وبرغوث كذلك وكذلك الباطنية وقد اختلفت حكايات المذاهب في هذه المسألة، فالذي حكاه الحاكم في شرح العيون أن أبا علي ذهب إلى أن السميع البصير بكونه سميعاً بصيراً صفة زائدة. قال: واختلف قول أبي هاشم، وقالت الأشعرية: للسميع صفة والسمع معنى وللبصير صفة والبصر معنى. والذي حكاه الإمام يحيى في التمهيد أن الذي ذهب إليه الشيخان أبو علي وأبو هاشم وأصحابهما البصريون أن معنى وصفنا له تعالى بكونه سميعاً بصيراً أنه مختص بصفة لكونه عليها يصح أن يسمع المسموع ويبصر المبصر إذا وجدا وتلك الصفة هي كونه تعالى حياً بشرط أن يكون لا آفة به.
وقالوا: إن قولنا سميع بصير موضوع لهذه الصحة ولهذا يوصف النائم بأنه سميع بصير وإن كان غير سامع ولامبصر في هذا الحال لما كان يصح منه أن يسمع ويبصر على حال، وقد حكي عن أبي هاشم في بعض كتبه أن للسميع البصير حالة زائدة على كونه حياً والصحيح ما ذكره في سائر كتبه من أنه لاحالة زائدة على كونه حياً لا آفة به.
وذهب الكعبي وسائر البغداديين إلى أن معنى وصفه تعالى بكونه سميعاً بصيراً أنه عالم بكل ما يعلم غيره من جهة السمع والبصر على جهة المبالغة والمبالغة من وجهين، أما أولاً فلأن ما يدرك بهاتين الحاستين أكثر مما يدركه بسائر الحواس، وأما ثانياً فلأن بهاتين الحاستين نعلم تفاصيل الأشياء التي نقتبس منها الأدلة فلما كان المستفاد من هاتين الاستين أكبر وأغلب مما يستفاد من غيرهما من الحواس صار الوصف بالسمع والبصر مبالغة في كونه تعالى عالماً، فمتى دللنا على كونه تعالى عالماً لذاته بجميع المعلومات ثبت أنه تعالى عالم بالمسموعات والمبصرات التي يعلمها غيره من جهة السمع والبصر فكان سميعاً بصيراً بهذا المعنى.
قال عليه السلام: واعلم أن الخلاف ههنا فرع على الخلاف في كونه مدركاً فمن ذهب إلى أن كونه مدركاً أمر زائد على كونه حياً وعالماً. قال السميع البصير هو الذي يصح أن يختص بهذه الصفة عند وجود المدرك ومن ذهب إلى أن كونه مدركاً ليس أمراً زائداً على كونه عالماً قال: إن كونه تعالى سميعاً بصيراً مدركاً ليس إلا أوصافاً للمبالغة في كونه تعالى عالماً من غير أمر زائد كقولنا: عالم وعليم انتهى كلامه عليه السلام مستوفى لما فيه من تلخيص النزاع وتحقيق الخلاف.
هذا ولاخلاف بين أهل القبلة في أنه تعالى سميع بصير على سبيل الجملة وقد نطق القرآن الكريم بذلك وإنما الخلاف في التفصيل كما عرفت، والذي حكاه بعض أصحابنا أن من علمائنا من ذهب إلى أن المرجع بكونه سامعاً مبصراً سميعاً بصيراً إلى صفة واحدة وإنما اختلف التعبير عنها كما أن العلم بأن الشيء سيوجد علم بوجوده إذا وجد وإنما اختلف التعبير عنه ثم اختلف القائلون بهذا القول في هذه الصفة ما هي؟
فقالت البغدادية: هي كونه عالماً ولاصفة له بكونه مدركاً ولاسميعاً بصيراً سواها. وقيل: هي كونه مدركاً وهي ثابتة له تعالى في الأزل إلا أنها كانت غير متعلقة ثم تعلقت وهو قول أبي القاسم الواسطي وحكى قريب منه عن الشيخ أبي علي لكن قد صح رجوعه عن ذلك. وقال محمود بن الملاحمي: هي كونه حياً ويرجع بكونه حياً عنده إلى ما تقدم.
قوله: (لصح انفصال إحداهما عن الأخرى) يعني انفصال العلم بإحداهما عن العلم بالأخرى وإلا فأكثر صفاته تعالى بعضها ينفصل عن البعض الآخر.
قوله: (في نقض الأبواب) هو كتاب لأبي هاشم في علم الكلام معتمد وكثير من أدلته ومذاهبه تنقل عنه.
قوله: (وإ، لم نعلم هل هذه الصفة تقتضي صحة الإدراك أم لا؟).
يعني فلما صح العلم بكونه حياً مع عدم العلم بكونها تقتضي صحة الإدراك مع أن صحة الإدراك موضوع كونه سميعاً بصيراً فلا نعلم السميع البصير سميعاً بصيراً إلا إذا علم صحة إدراكه للمسموع والمبصر علمنا أن العلم بكون هذا حياً غير العلم بكونه سميعاً بصيراً، وإلا كان يلزم فيمن علم كونه حياً أن يعلم أنه سميع بصير بمعنى أنه يصح أن يدرك.
تنبيه
إن قيل: لم لم يستدل المصنف على كونه تعالى سميعاً بصيرا بأنه حي لا آفة به كما استدل سائر أصحابكم أو بأنه حي ليس بذي آلة على ما ذكره الإمام يحيى لئلا يرد أن عدم الآلة أعظم آفة وإن كان قد أ>ابوا بأنه إنما يكون أبلغ في حق من يصح عليه الحاسة فأما في حق من لاتصح عليه فعدمها أبلغ في إثبات الوصف له بالسمع والبصر.
قلنا: إنه رحمه الله لما بين أن معنى كونه سميعاً بصيراً أنه حي لا آفة به لأن العلم باحدهما يدور مع العلم بالآخر كفى ذلك عن الاستدلال إذ قد تقرر أنه تعالى حي والآفات مستحيلة عليه بل في استدلال أصحابنا نظر، لأنهم استدلوا بالشيء على نفسه فقالوا: الدليل على أنه سميع بصير أنه حي لا آفة به، مع أن معنى كونه حياً لا آفة به أنه سميع بصير، وكذلك العكس فكأنهم قالوا: ألدليل على أنه سميع بصير أنه سميع بصير، أو الدليل على أنه حي لا آفة به أنه حي لا آفة به، وإن كان منهم من اعتذر عن ذلك بأنا إنما استدللنا بذلك على صحة إطلاق العبارة بأنه سميع بصير عليه فدللنا بثبوت معنى الوصف على جواز إطلاق الوصف.
فائدة
اتفق علماؤنا رحمهم الله تعالى على أنه تعالى يوصف بأنه سميع بصير في الأزل، وأنه يصح أن يسمى بذلك في الأزل، أما على قول الجمهور فهي بمعنى كونه حياً لا آفة به، وهو كذلك في الأزل وأما على قول أبي القاسم الواسطي فلأنها بمعنى مدرك وهو عنده تعالى كذلك في الأزل، وأما على قول البغداديين فلأنها بمعنى عالم وهو كذلك في الأزل.
تنبيه
قال أصحابنا: يلزم المكلف في هذه المسألة أن يعلم أن الله تعالى سميع بصير فيما لم يزل وفيما لايزال وأنه لايجوز خروجه عن هذه الصفة بحال من الأحوال والكلام فيها كالكلام في كونه حياً وإنما اختلفت العبارة.
القول في أن الله تعالى مدرك
ووجه اتصالها بما قبلها ظاهر، فإن المدركية مقتضاة عن الحيية ويستدل بالحيية عليها واختار المصنف هذه العبارة وهي قوله: (القول في أن الله تعالى مدرك) على أن يقول كغيره: (القول في أن الله سامع مبصر) لأن لفظة مدرك تتناول كل المدركات والسامع المبصر لاتقع إلا على من أدرك المرئيات والأصوات، فلو ضم إلى قوله: (سامع مبصر) قوله (مدرك للمدركات) طالت العبارة والاقتصار على لفظة مدرك أولى.
قوله: (وقد اتفق المسلمون على أنه تعالى سامع مبصر) إنما لم يقل على أنه مدرك لما تقدم من شمول هذه اللفظة مع خلاف أبي القاسم بن شهلويه في إدراكه تعالى للألم واللذة ولكنه وجميع من خالف في تفاصيل هذه المسألة من المسلمين يطلقون القول بأنه تعالى مدرك إطلاقاً فلا وجه للاحتراز عن خلافه وغيره.
قوله: (لنا: أنه تعالى حي لا آفة به) قد تقدم ما ورد على قولهم لا آفة به وما أجيب به عنه.
قوله: (فلأن المدركات ثمانية أجناس وكلها موجودة) أي وكل جنس قد وجد منه الآن أجزاء كثيرة العدد والأجناس الثمانية هي الجواهر والألوان والطعوم والروائح والحرارة والبرودة والصوات والآلام وقصر المدركات على هذه الثمانية بناء على الصحيح وإن كان من العلماء من يذهب إلى أن ثم مدركات غيرها على ما تقدم.
قوله: (فدليله الشاهد وذلك ضروري) يعني فإن الواحد منا متى كان حياً والموانع مرتفعة والحاوس سليمة والمدرك موجود يصير مدركاً فإذا كان تعالى ليس بذي حاسة فيشترط في حقه سلامتها ولاتجوز عليه الموانع ولم يبق من الشروط ف يحقه تعالى إلا وجود المدرك وهو موجود وجب أن يكون مدركاً، فإن أحدنا إنما وجب كونه مدركاً لاجتماع هذه الأمور في حقه بدليل ثبوت كونه مدركاً وحصوله عندها واستحالته عند فقدها أو فقد شيء منها وليس ثم أمر يعلق به وجوب الإدراك سواها وثبوت كون أحدنا مدركاً عند حصول هذه الأمور وعدم ثبوتها عند فقدها أو فقد شيء منها معلوم ضرورة فلا يحتاج إلى دلالة وأما عدم الأمر الذي يعلق به ثبوت الإدراك عند اجتماع تلك الأمور غيرها فدليله أنه لو اكن ثم أمر غيرها لصح اجتماع هذه الأوصاف ولايدرك بأن لايحصل ما عنده نفع الإدراك أو يحصل فيدرك مع فقد تلك الأمور أو فقد بعضها والمعلوم خلافه، وسيأتي تحقيقه.
قوله: (ونحو ذلك من الآيات) يعني كقوله تعالى: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} وقوله تعالى: {والله يسمع تحاوركما}.
فصل
اختلف الناس في تفصيل كونه مدركاً.
قوله: (زائدة على الذات وعلى صفاتها) أي صفاتها المشهورة كالعالمية والقادرية والحيية.
قوله: (ولم يجبهم عنه ولاصرح بكونه مذهباً له).
الذي حكاه الإمام يحيى عن أبي الحسين أنه يقول: إن صورة المرئي تحدث في الهواء على جهة التأثير ثم يتصل الهوى بنقطة الناظر فتحدث صورة المرئي في النقطة. قال عليه السلام: واعلم أن مذهب أبي الحسين ليس شبهاً لمذهب القائلين بالانطباع لنه يشرط تأثير المدرك في الهوى ثم يحصل الهوى في نقطة الناظر لا لانطباع كما ذهبوا إليه، ويجب أن يطالب هو تحقيقه هذا التأثير.
قوله: (لو كان ذاتاً لعُلم على انفراده) ونحن لانعلم كون المدرك مدركاً إلا بعد العلم بذاته أولاً.
قوله: (لما علم إلا باعتبار غير أو ما يجري مجراه) يعني لأن هذه خاصة الحكم كما تقدم مع أنا نعلم كوننا مدركين من دون أن نعلم غيراً أو ما يجري مجراه زائداً على ما تناوله كونه مدركاً وهو المدرك.
قوله: (لأنها تتعلق دون كونه حياً) قد تقدم بيان تعلقها وعدم تعلق الحيية فلا وجه لإعادته إلا أن ذاهباً لو ذهب إلى جعلها الحيية لم يسلم كونهما صفتين فضلاً عن أن نسلم أن أحدهما متعلقة والأخرى غير متعلقة.
قوله: (ولأنها واجبة دون كونه حياً) إنما كانت واجبة لأنه يستحيل خلافها عند إمكانها ولا يتراخى وجوبها عن صحتها فإنها إنما تصح مع حصول الحيية والشرائط وحينئذ تكون واجبة ووجوبها في حقه تعالى وفي حقنا على سواء، وكون الحي حياً صفة جائزة في حقنا وإن لم تكن جائزة في حقه تعالى فكيف يرجع بما تكون واجبة مطلقاً إلى ما تكون جائزة في بعض المواضع، وإنما أطلق الكلام في أن كونه حياً صفة جائزة لأن كلامه في الشاهد ولا كلام في أنها جائزة في الشاهد لايستحيل خلافها عند إمكانها مطلقاًف إن مع حصول الأمور التي يصح معها كون الحي حياً لايجب كونه حياً بل يتوقف على حصول الحياة.
قوله: (ويدرك ما لايعلم كقرض البق والبراغيث).
البق: كبار البعوض، والبراغيث: القُمَّل. والأمر في ذلك كما ذكر فإن أحدنا يدرك ذلك القرض حال نومه ولهذا فقد يكون ذلك سبباً في انتباهه وإ، لم يعلمه وكلك فقد يدرك النائم الأصوات بحضرته حتى يكون سبباً في انتباهه مع أنه لايعلمها.
قوله: (ولأن أحدنا قد يعلم الشيء فإذا أدركه وجد مزية).
مثاله: أن يخبرنا نبي صادق بأن الله تعالى أوجد جسماً فإنا نعلمه ونعلم وجوده بذلك الخبر ثم إذا أدركناه وجدنا مزية ظاهرة لانجدها حال علمنا به قبل إدراكه.
قوله: (وكونه عالماً قد يكون جائزاً) احترز بعد من عالميته فإنها غير جائزة وإ،ما تكون العالمية جائزة في حقنا فأما كونه مدركاً فإنها واجبة في حقه تعالى وحقنا.
قوله: (مع استمرار كونه عالماً) الاستمرار في حقه تعالى على ظاهره، وفي حقنا معناه: التجدد من دون انقطاع، ومثاله: أن يشاهد أحدنا جسماً ثم يغيب عنه فإن إدراكه عند مغيبه يزول مع عدم زوال علمه به.
قوله: (والانطباع صادر من جهة المرئي).
يقال: كيف حكمت بأنه غير معقول ثم قلت: هو أمر صادر من جهة المرئي، فهذا يقضي بأنه متعقل؟
وجوابه: أنه وإن لم يكن معقولاً فقد صرحوا بنسبة الانطباع وإسناده إليه فأخذ يجيبهم على مقتضى ما حكموا به عليه، وإن لم تكن ماهية الطبع معقولة.
قوله: (ولأنا ندرك ما يعلم بالضرورة أنه لم ينتقل إلى حواسنا) من المعلوم بيننا أن الفلاسفة لم يقصدوا بالانطباع ما حكم به الأصحاب عليهم نم انتقال المرئيات فإن ذلك لايقول به من له طرف من التمييز فأولى ما يقال في إبطال مقالتهم ما بدأ به من أن الانطباع غير معقول، وكفى بالمذهب فساداً ألا يعقل، وسائر ما أورده ليس بواضح.
قوله: (هو تأثيره في حاسته) أي تأثير الصوت إلا أنه يقال: ومن أين لك أن هذا ما قصدوه بالانطباع.
قوله: (هو لأمر يرجع إلى الشعاع وافتراقه فيتخيل عند الانصراف أنه يرى الشيء).
يحتمل أنه أراد عند انصراف الشعاع إلى العين عقيب افتراقه وليس بواضح فإن ما انفصل عن العين من العشاع لم يرجع إليها على ظاهرما يقضي به كلام أصحابنا بل يستمد العين غير ذلك المنفصل إما من الأجسام المضيئة أو من الدماغ فمعلوم أنه إذا جف بطلت حاسة البصر أو بأن يجدده الله تعالى حالاً فحالاً، ذكره ابن متويه ويحتمل أن يكون مراده عند انصراف الرائي من المرئي بحيث أنه يراه لأجل الشعاع وافتراقه وهو لافرق فلا يرد عليه ذلك السؤال، وإن كان التخلص بذلك عما أوردوه ليس بواضح وبالجملة فإن فهم الوجه فيما ذكروه وإلا فهو لايقتضي صحة مذهبهم الذي لايعقل.
قوله: (مثل ما تقدم في نظائره) يقال: إنما يكون الكلام ههنا مثل ما تقدم لو كانت مقتضية لحكم صدر عن الجملة فيقال: ألمؤثر فيه لابد أن يكون راجعاً إليها.
فإن قيل: هو كذلك فإنها تؤثر في صحة الالتذاذ وهو حكم صدر عن الجملة.
قلنا: ألصحيح أن صحة الالتذاذ المؤثر فيه كون المشتهى مشتهياً وأن المدركية شرط في صحته فكان الألى أن يستدل على أنها راجعة إلى الجملة شاهداً بأن المقتضي لها وهو كونه حياً راجع إلى الجملة فلا يجوز أن يؤثر فيما يرجع إلى الآحاد كما أن ما يرجع إلى الآحاد من المقتضيات لايقتضي ما يرجع إلى الجملة فلا يجوز أن يؤثر فيما يرجع إلى الآحاد كما أن ما يرجع إلى الآحاد من المقتضيات لايقتضي ما يرجع إلى الجملة ونحو ذلك يجري في الكلام على أنها ترجع إلى الذات في حق الباري.
فائدة
الذي يصحح هذه الصفة في الشاهد ويقتضيها كونه حياً فقط أما أنه يقتضيها فسيأتي إن شاء الله تعالى، وأما أنها مصححة لها فلأن ما دخل في جملة الحي صح الإدراك به وما خرج عن جملته استحال الإدراك به ولأن المقتضي كما يؤثر في الوجوب يؤثر في الصحة.
تنبيه
اختلف المثبتون لهذه الحالة التي هي كون المدرك مدركاً، فقال القاضي بتجددها وقال أبو رشيد وهو من تلامذته: بل لايتجدد. احتج القاضي بأنه كان يلزم أن يستمر ويبقى مع فوات المدرك فلما لم يستمر مع فواته دل على أنها تتجدد، ولايقال: إن استمرارها مشروط بوجود المدرك وإلا يزول ويعدم لأن شرط البقاء لايكون أمراً منفصلاً واحتج أبو رشيد بأن الحاسة على ما كانت عليه والمدرك على ما كان والإدراك كما كان فلا معنى لقوله أنها تتجدد.
فصل
وهذه الحال تثبت للباري تعالى.
قوله: (من صحة الحاسة وزوال المانع ووجود المدرك فهو شرط).
اعلم أن المتكلمين يطلقون العبارة بأن وجود المدرك شرط وليس بشرط حقيقي وإنما الشرط ظهور صفة المدرك المقتضاة عن صفة ذاته فإن الصفة المقتضاة هي التي تدرك المدركات عليها إذ صحة إدراك الشيء من أحكام صفته المقتضاة عن الصفة الذاتية إلا أن الوجود لما كان شرطاً فيها فلا يحصل إلا عند الوجود جعلوه شرطاً تجوزاً منهم وتساهلاً في العبارة وإلا فلو قدرنا ثبوت الصفة المقتضاة التي عليها يدرك في صحة العدم صح إدراكه في تلك الحال من دون وجود وقد صرح بذلك الشيخ ابن متويه والشيخ الحسن الرصاص.
قوله: (ولأنها أمور كثيرة مختلفة فلا يصح تأثيرها في صفة واحدة).
الوجه في امتناع ذلك أنها لو أثرت لكان تأثيرها على جهة الاقتضاء لأنها صفات وأحكام، وتأثير الصفات والأحكام لايكون إلا كذلك ومع ذلك لايصح كونها جميعاً مقتضية لكونه مدركاً لأن في ذلك أثراً بين مؤثرات وهو محال.
قوله: (ولأن فيها ما يرجع إلى النفي) يعني زوال الموانع.
وقوله: (وما يرجع إلى المحل) يعني به صحة الحاسة لأن المرجع بالصحة إلى تأليف مخصوص، وحكم التأليف مقصور على المحل وليس براجع إلى الجملة لحصوله في الجمادات.
قوله: (وكونه مدركاً أمر ثابت راجع إلى الجملة) يعني فلا يجوز أن يؤثر فيه مع أنه أمر ثابت ما يرجع إلى النفي تأثيراً حقيقياً لما مضى وكذلك فلا يؤثر فيه مع كونه راجعاً إلى الجملة ما يرجع إلى المحل فإنا قد سبرنا المقتضيات وخبرناها فوجدنا ما يرجع إلى الجملة لايقتضي ما يرجع إلى الآحاد، وما يرجع إلى الآحاد لايقتضي ما يرجع إلى الجملة، فإنه لو اقتضاه لخرج عن كونه راجعاً إلى المحل.
قوله: (فلا يؤثر فيما يرجع إلى المدرك) هو بكسر الراء ويعني بما يرجع إلى المدرك صفته بكونه مدركاً، والوجه في امتناع ذلك عدم اختصاص وجود المدرَك بمدرك دون مدرك فلم يكن بأن يوجب الصفة لهذا المدرك أولى من غيره وأولى من ألا يوجب ولو كان لوجود المدرك تأثير لكان من باب الاقتضاء إذ تأثير الصفات والأحكام لايجوز فيه غير طريقة الاقتضاء ولايصح كون وجود المدرك مقتضياً لصفة المدرك من حيث أن من حق المقتضي والمقتضَى أن يختصا بذات واحدة أو جملة واحدة إلا إذا كان المقتضي تعلقاً فإنه يصح ثبوته لذات وثبوت مقتضيه لأخرى كما نقوله في تعلق القادرية فإن مقتضيه وهو القادرية مختصة بالقادر وهو ثابت للمقدور لأنه صحة إيجاده.
قوله: (وقد استدل ابن الملاحمي) إلى آخره.
هذا الاستدلال يقضي بخلاف ما حكاه عنه بعض أصحابنا على ما تقدم من أنه يجعل كونه سميعاً بصيراً مدركاً حياً صفة واحدة.
قوله: (فلأنه حي لا آفة به) فيه السؤال المتقدم وهو أنه تعالى عادم للآلة وعدم الآلة في الشاهد أبلغ في تعذر الإدراك من فسادها، وجوابه ما تقدم من أن ذلك إنما يكون أبلغ في حق من يصح عليه الحاصة.
قوله: (ولامانع له) يعني لأن المانع إنما يكون في حق الواحد منا لما كان في جهة ويرى بآلة فأما في حقه تعالى فلا يتصور.
قوله: (قلنا إ،ما يجب أن يكون شرطاً في حق الحي بحياة).
فيه سؤال وهو أن يقال: إن من حق المقتضي إذا كان متماثلاً أن يتفق شرط اقتضائه والمقتضى ههنا لكونه مدركاً وهو كون الحي حياً صفة متماثلة فلا يجوز اختلاف شرطها فكيف يجعلون الشرط في حق الغائب وجود المدرك فقط وفي الشاهد مع وجود المدرك صحة الحاسة وارتفاع الموانع.
والجواب: أنه إنما يجب في المقتضى المتماثل أن يتحد شرط اقتضائه ويتفق في جميع المواضع إذا كانت كيفية استحقاقه واحدة وليس كذلك ههنا فإن كيفية استحقاقه تعالى لكونه حياً غير كيفية استحقاقنا لكوننا أحياء فهي في حقه تعالى واجبة مقتضاة، وفي حقنا جائزة معنوية، فلذلك اختلف شرط الاقتضاء.
قوله: (فذلك غير لازم دليله الشاهد).
يعني فإن الواحد منا إذا أدرك بعد أن لم يكن مدركاً لم تصر ذاته غير ما كانت.
قوله: (قلنا إنما تكون معنوية إذا ثبتت مع الجواز وهذه تثبت مع الوجوب) تلخيص هذا الجواب أنه إنما يلزم في الصفة إذا تجددت بعد أن لم تكن أن تكون معنوية إذا ثبتت مع الجواز والحال واحدة والشرط واحد كما في المتحركية والقادرية في حقنا، وأما كون المدرك مدركاً فإنها وإن تجددت فهي ثابتة مع الوجوب.
بيانه: أنه إذا ثبت كونه حياً لا آفة به ووجد ما يصح أن يدركه وزالت الموانع عن إدراكه صح إدراكه له ووجب ولم يجز تراخي الوجوب عن الصحة ومتى لم يحصل المقتضي أو لم يحصل الشرط أو بعضها لم يصح إدراكه ولا وجب فظهر أنها غير معنوية فإن المتحركية لما كانت معنوية لم تجب عند الصحة، ولم يلزم ذلك فيها فإنها تصح مع حصول التحيز ولا تجب إلا عند حصول الحركة مع أن حصولها قد يتأخر عن التحيز فلم تقترن صحتها بوجوبها ولا استحالتها بعدم وجوبها كما في المدركية.
قوله: (كما في المباشر والمتعدي) يعني فكما أنه تعالى مع كونه فاعلاً لم يجب أن يكون فاعلاً على أحد الوجهين اللذين يفعل عليهما من مباشرة أو تعد بل لايفعل على أحد هذين الوجهين وإنما يفعل على وجه الاختراع كذلك لايجب أن يكون مدركاً على الحد الذي يدرك من لمس أو ذوق ونحوهما، ولايقدح ذلك في كونه مدركاً كما لايقدح عدم فعله على وجهي المباشرة والتوليد في كونه فاعلاً.
قوله: (وهذه موجودة من النفس).
يعني فإن أحدنا إذا أدرك المدرك وجد من نفسه اختصاصه بأمر لم يكن يجده قبل إدراكه له.
فصل
قوله: (إذا ثبت كونه تعالى مدركاً فهو مدرك لجميع المدركات).
قال أبو القاسم بن شهلويه من علماء المعتزلة: يدركها أي المدركات كلها إلا اللذة والألم فعلى هذا يكون تعالى مدركاً للأجناس المدركة إلا جنساً واحداً فإن اللذة والألم جنس واحد متماثل، وإنما يختلف الإسم عليه باختلاف ما يقارنه من شهوة أو نفرة.
قوله: (معارض بالشامّ والذائق واللامس).
يعني فكما لايجب أن يسمى تعالى مع إدراكه للرائحة والطعم والمتحيز لا على سبيل الرؤية شاماً وذائقاً ولامساً فكذلك لايسمى آلماً وملتذاً، وكان الوجه في أنه لايسمى شاماً ولاذئقاً ولا ماساً كون تلك أسماء لمن جمع بين المدرك وآلة الإدراك طلباً له، وكذلك فالوجه في أنه لايسمى بإدراكه للألم واللذة متألماً وملتذاً أنهما اسمان لمن أدرك الألم واللذة بمحل حياته كما ذكره المصنف، وليس كذلك القديم وقد احتج الشيخ أبو القاسم بغير الوجه الذي ذكره المصنف وهو أن الألم واللذة إنما يدركان بمحل الحياة في محلها، فغ، هذا هو حكمها الخاص الذي يتميز به عن غيرها وإدراك القديم تعالى لهما على ذلك الحد مستحيل فيجب ألا يدركهما تعالى.
وقد أجاب عنه الإمام يحيى بوجهين: أحدهما أن الحرارة والبرودة يدركان بمحل الحياة في غير محلها، فإذا كان القديم تعالى يدركهما ولايلزم من إدراكهما في حقه تعالى محال فكذلك الألم واللذة. وفيه نظر لأن الألم واللذة حكمهما الخاص إدراكهام بمحل الحياة فيه فيتميزان بذلك ويفارقان به سائر الأعراض، ويعرف به تماثلهما ومخالفتهما لما خالفهما فيه بخلاف الحرارة والبرودة فليس حكمهما الخاص أن يدركا بمحل الحياة في غير محلها إذ لو كان ذلك خاصيتهما لزم تماثلهما لاشتراكهما فيه فلا تصح هذه المعارضة.
الوجه الثاني: أن الشيء المدرك إنما يتميز عن غيره بحقيقته التي تدرك عليها والألم واللذة مدركان بحقيقتهما ويتميزان بها وكونهما يوجدان في محل أو لا في محل أمر وراء معقول حقيقتهما فكيف يجعل أصلاً في مفهوم حقيقتهما. انتهى.
والأولى في الجواب عليه أن يقال: لانسلم أن حكم الألم واللذة الخاص نفس إدراكهما بمحل الحياة في محلها بل صحة إدراكهما بمحل الحياة في محلها والباري تعالى وإن أدركهما لابمحل الحياة في محلها فذلك لايخرجهما عن حكمهما الخاص لهما فإنه يصح أن يدركهما غيره بمحل الحياة في محلها.
فصل
قد علمت بما سلف أن هذه الصفة مقتضاة عن كونه حياً.
قوله: (والذي يختص هذا المكان مما يؤكد ذلك) أي يؤكد كونها مقتضاة إبطال كون الإدراك معنى إذ لايلتبس الحال إلا في كونها معنوية فإذا بطل ذلك ثبت كوناه مقتضاة ولايشتبه الحال في أنها ليست بذاتية ولا بالفاعل.
قوله: (وصالح قُبَّه) إنما سمي بصالح قبه لأنه ألزم ما ذهب إليه من كون الإدراك معنى فقيل: لعلك في مكة في قبة ولاتدركها لعدم الإدراك فارتكب فلقب صالح قبه. حكاه الحاكم. وفي بعض الحواشي: أنه سمي بذلك لارتكابه أن يدخل الواحد في قبة نار ولايدرك الحرارة بأن لايخلق الله المعنى الذي يدركها به وله مداخل في ارتكاب المحالات فإنه لما ذهب إلى أن المتولدات يفعلها الله ابتداء ولا تحدث لأجل السبب.
قيل له: فلو أحرق الله أحدنا بالنار أو قطعه إرباً إرباً ولم يفعل فيه الألم أليس كان يلزم ألا يتألم فالتزم ذلك والزم أن يحمل أحدنا حملاً ثقيلاً ولايجد مشقة بأن لايخلق الله فيه النقل فالتزم ذلك.
قوله: (وهؤلاء الشيوخ يثبتونه معنى في الشهد فقط) هذا فرق بين مذهب الأشعرية ومذهب المشائخ المذكورين وبينهما أيضاً فرق من وجه آخر وهو أن الأشعرية يقولون أن كل مدرك يدرك بمعنى كان مريئاً أو غيره، وأبو علي ومن معه لايثبتونه معنى إلا في الرؤية لا غيرها حكاه القاضي عبدالله بن حسن الدواري، ويفترق مذهب البغدادية وغيرهم من الشيوخ المثبتين للإدراك معنى من حيث أن البغدادية يجعلونه مقدوراً لنا كما أنه مقدور له تعالى فيقولون أنه يكون مرة من فعلنا عند فتح الجفن ومرة من فعل غيرنا إذا حضر عندنا، ومرة من فعله تعالى إذا فعل صوتاً أو غيره ويجعلون فتح العين ونحوه سبباً في الإدراك. هذا ما ذكره ابن متويه وهو يقضي بخلاف ما حكاه الدواري من أن أصحابنا لايثبتونه معنى إلا في الرؤية فإنه قال حاكياً عن البغدادية: ومن فعله تعالى إذا فعل صوتاً فدل على أنهم يجعلون إدراكنا للصوت لمعنى وكذلك فما سبق في سبب تسمية صالح بصالح قبة يقضي بخلاف ما ذكره أيضاً.
قوله: (لنا: أن هذه الصفة تقترن صحتها بوجوبها) يعني فيصح ويجب في وقت واحد وهو عند حصول الحيية والشروط فمتى حصلت صح الإدراك ووجب بكل حال ومتى لم يحصل لم يجب الإدراك ولم يصح بل يستحيل.
واعلم أن الاستدلال على أنها ليست لمعنى وأن الحيية والشروط كافية في حصولها هو بناء على ما اختراه الجمهور من أنا إنما نعلم أن الحيية والشروط كافية في حصول هذه الصفة بالاستدلال على ما ذكره المصنف، وأما الشيخ أبو الحسين فقد قال: يعلم أنها كافية فيه ضرورة.
قال الإمام يحيى: ثم تارة يقول بأن العلم بوجوب حصول كونه مدركاً عند هذه الأمور ضروري والعلم بكونه ضرورياً ضروري وتارة يقول: العلم بكونه ضرورياً نظري. واستدل على كونه ضرورياً بأن كل عاقل خبر الأمور ويكرر إدراكه للمرئيات فإنه لايشك أنه إذا شخص يبصر إلى السماء من غير مانع فإنه يستحيل ألا يرى قرص الشمس وأن يصب الحديد المحمى على صدره فلا يدرك حرارته وأن تقطع أوصاله فلا يدرك الألم، وإن يطبق عليه في تنور مسجر فلا يدرك حرارتها ونحو ذلك.
قوله: (فكان يجوز أن يكون بين أيدينا فِيَلة ونحوها ولاندركها) إلى آخره.
أما أبو علي فقد تخلص عن هذا الإلزام بأن المحل حال حصول المدرك محتمل للمعنى الذي هو الإدراك فلا يجوز ألا يخلقه الله تعالى لاستحالة خلو المحل عما يحتمله وعن ضده إذا كان له ضد فإن لم يكن له ضد لم يخل عنه فأثبت في كل محل يدركه معنى يخصه لكن هذا التخلص مبني على مذهب قد تقرر بطلانه ولو صح ذلك لخلص عن الإلزام وأما أبو الهذيل فقد التزم أن تحصل الحيية والشروط جميعها ولايدرك لعدم المعنى وكذلك الصالحي وصالح فيه على ما تقدم.
قوله: (وهذا العلم يستند إلى أنه لو كان لرأيناه).
اعلم أنهم مختلفون في هذين العلمين وهما العلم بأنه لا فيل بحضرتنا، والعلم بأنه لو كان لرأيناه هل الأول يستند إلى الثاني أو لا، فذهب جمهور العدلية إلى أنه يستند العلم بأنه لافيل بحضرتنا ونحوه إلى العلم بأنه لو كان لرأيناه، وذهبت الأشعرية والسيد م بالله وابن الملاحمي على ما حكاه بعض المعلقين إلى أنه لا يستند إليه ثم اختلف الأولون فقال أبو الحسين المعلم: بالاستناد ضروري، ولهذا فإن أحدنا لو كان في يده شيء وصبي ينظر ثم حوله إلى غير يده ومد بيده إلى الصبي وقال له: خذه فإنه في اليد، فإن الصبي يدافعه عن ذلك، ويقول: ليس فيها ولو كان فيها لرأيته.
قال رحمه الله: والأشعرية تعلم ذلك إلا أنهم جحدوا الاضطرار.
وذهب الباقون إلى أن الاستناد معلوم بالاستدلال واستدلوا عليه بأن الأعمى لما فقد العلم المستند إليه وهو أنه لو كان عنده شيء لرآه لم يحصل له العلم المستند وهو أنه لاشيء عنده، قالوا: وإنما نوجب هذا الاستناد متى كانت الطريق إلى العلم بأنه لاشيء بحضرتنا هو الإدراك، وأما متى كانت الطريق غير الإدراك لم يجب الاستناد كأن تكون الطريق خبر صادق أو خبر متواتر، ولهذا فإن الأعمى مع تجويزه أن يكون بحضرته فيل لايراه يعلم أنه لا شيء بحضرته إذا أخبره بذلك نبي أو حصل له التواتر بذلك فلا يجب الاستناد إلا متى كانت الطريق الإدراك، وقد ورد على هذه الجملة أسئلة مشروحة في مواضعها.
منها: قولهم إن العلم بأن لاشيء بحضرتنا اجلى من العلم بأنه لو كان لرأيناه ومن حق المستند إليه أن يكون أجلى من المستند.
وأجاب أصحابنا بعدم التسليم والتزام صحة كون المستند إليه أخفى إذا تقدم العلم به.
قوله: (فيقال يلزم صحة أن يشاهده ولايخلق الله العلم).
يعني كما ألزمتم أن يكون بحضرته ولا يخلق الله الإدراك أو لايفعله يجيء على كلام البغدادية، وتلخيص الجواب عن هذا السؤال أنا إنما ألزمناكم أن يكون ولايخلق له إدراكه لأن الفاعل يص أن يفعل وألا يفعل مع سلامة الحال، ولم يحصل ما يوجب وقوع الإدراك من سبب ولا علة ولاطريقة موجبة ولامقتض بخلاف العلم فعند حصول المشاهدة قد حصلت طريق موجبة للعلم فلا يجوز مع حصول الطريق ألا يحصل المتطرق إليه على أنا نلتزم صحة ألا يخلق الله تعالى العلم ولكن مع عدم خلقه له يخرج المدرك عن كونه عاقلاً لأن من لازم العقل العلم بالمدرك.
قوله: (كل هذه علوم مبتدأه) يعني العلم بأن الله تعالى لم يخلق مكلفين يشتهبان من كل وجه وأنه لم يمت العالم الآن، ويعني بالعالم ما هو موضوع له في الأصل وهو الخلق الكثير من الأحياء وأنه لم يقم القيامة الآن ونحو ذلك كالعلم أنه لم يخلق لزيد رؤوساً كثيرة.
واعلم أن الذي هو علم مبتدأ بديهي هو أنه لم يوجد شخصان متفقان من كل وجه وأنها لم تمت الأحياء من الخلق وأنها لم تقم القيامة فأما أنا نعلم أن الله تعالى لم يفعل ذلك ضرورة فلا لأن العلم بذلك ضرورة يتفرع على العلم بذاته تعالى ضرورة، ونحن لانعلمها إلا استدلالاً.
قوله: (لكان لايتعلق على التفصيل إلا بمتعلق واحد).
يعني فإنه لو صح تعلقه بمتعلقين للزم صحة أن يكون مخالفاً لنفسه إذ لو تعلق إدراك آخر بهذا المدرك الآخر لخالفه لتغاير المتعلق وهو دليل الاختلاف بين المتعلقات فإذا تعلق هذا الإدراك بمدرك لو تعلق غيره به لصار مخالفاً له لزم أن يكون مخالفاً لنفسه لحصوله على ما لو حصل عليه غيره لخالفه كما يقوله في العلم لو تعدى المتعلق الواحد على التفصيل.
فإن قيل: أليس القدرة تجوز أن تتعدى المتعلق الواحد على التفصيل ولايلزم أن تكون مخالفة لنفسها بما أنهيتم إليه الكلام فهلا جاز مثل ذلك في الإدراك والعلم؟
قلنا: بين الموضعين فرق فإنه لايصح تعلق شيء من القدر بشيء من متعلقات هذه القدرة لاستحالة مقدور بين قادرين بخلاف الإدراك والعلم.
قوله: (لوجب أن يدرك الرقيق والمحجوب) هذا الدليل حاصله أنه لو كان الإدراك معنى لبطل القول بأن الموانع موانع، والقول بوقوف المدركية على زوالها فإن العلل لاتقف في باب الإيجاب على شرط منفصل، إذ لو وقفت عليه لجوزنا أن يكون في الجسم علل كثيرة لاطريق إليها لوقوف إيجابها على شرط منفصل وهو محال.
فإن قيل: ذلك ملتزم فقد ورد أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يرى ما وراء ظهره ومن الموانع أن يكون المرئي في خلاف جهة الرائي.
قلنا: قد أجاب أصحابنا بأن ذلك يحتمل وجوهاً إما أن يكون المراد بإدراكه صلى اللّه عليه وآله وسلم العلم أو أنه تعالى جعل له حاسة للرؤية في قفاه يدرك بها أو أنه تعالى يقلب بعض شعاع عينيه صلى اللّه عليه وآله وسلم عند إدراكه لذلك إلى خلفه ويدرك بالبعض ما هو أمامه.
فصل
والذي يجري عليه تعالى من الأسماء في هذا الباب نحو قولنا مدرك وسامع ورائي ومبصر ولايصح إجراء شيء من هذه الأوصاف إلا بعد وجود المدركات. أما الشيخ أبو القاسم الواسطي فيأتي على قوله أنه يصح وصفه تعالى بكونه مدركاً في الزل لأنه يذهب إلى أن كونه تعالى مدركاً صفة ثابتة في الأزل ولكن تعلقها مشروط بوجود المدرك والجمهور يجعلونه شرطاً في ثبوتها لا في تعلقها فقط فلا تثبت له تعالى في الأزل وإنما تثبت بعد وجود العالم، وقد أبطلوا كلامه بأن التعلق في المتعلقات حكم لها واج خاص لايزايلها ولايتجدد لها بعد أن لم يكن فلا يصح كونها في الأزل ثابتة وهي غير متعلقة مع أنها من المتعلقات وكان يلزم أن يكون كونه مريداً ثابتة في الأزل وتعلقها مشروطاً بإمكان حدوث الحوادث على أن إثبات كونه تعالى مدركاً في الأزل إثبات ما لاطريق إليه وكذلك فيأتي على قول البغداديين أنه يصح وصفه تعالى بكونه مدركاً في الأزل إذ كونه مدركاً عندهم بمعنى كونه عالماً وإن كان بعض أصحابنا قد أشار إلى أنهم وأبا القاسم الواسطي يوافقون الجمهور في أنه تعالى لايوصف بذلك إلا بعد وجود المدركات.
قوله: (وأما قولنا مشاهد فلا يصح إجراؤه عليه تعالى).
وجه ذلك ما ذكره ووجه آخر وهو أن المشاهدة في الأصل الإدراك بإحدى الحواس، وفي العرف الإدراك بحاسة البصر فكما أنه تعالى لايوصف بأنه مشاهد فلا يوصف بأنه ذائق ولا لامس ولا شام لما تقدم، وكذلك فلا يوصف تعالى بأنه ناظر إلا أن يراد بذلك نظر الرحمة مع نصب قرينة تصرف إليه، وأما من دون قرينة فإنه لايجوز وصفه بذلك.
قال الفقيه حميد: لأنه مستفاد من النظر الذي هو تقليب الحدقة السليمة في جهة المرئي طلباً لرؤيته.
تنبيه
قال أصحابنا: يلزم المكلف في هذه المسألة أن يعلم أن الله تعالى غير مدرك في الأزل وأنه مدرك فيما لايزال عند وجود المدركات وأنه يخرج عن كونه مدركاً عند انتفائها ثم عند إعادتها يجب أن يكون مدركاً، وأنه مدرك لجميع المدركات.
القول في أن الله تعالى قديم
هذه آخر مسائل الإثبات الواجبة وقد سبق وجه تقديم ما قبلها عليها، وقيل: هي مسألة مركبة من إثبات ونفي لأنها تنطوي على إثبات صفة الوجود ونفي أن يكون له أول.
قوله: (ومنه: {حتى عاد كالعرجون القديم}) أي ومن استعمال لفظ القديم بالمعنى اللغوي قوله تعالى في القمر: {حتى عاد كالعرجون القديم} شبهه تعالى في انتهائه بسعف النخل وهو العود الذي يكون رأس النخلة لأنه ينحني إذا تقادم وجوده وهو مقدار الذراع يكون حال خضرته ممتداً فإذا يبس احقوقف وصار هيئته كهيئة الهلال فشبه به في دقته وانحنائه واصفراره، وقيل في تقدير المدة التي يوصف صاحبها بالقدم سنة، وذكر بعض الفقهاء أن المدة المعتبرة في ذلك نصف سنة أخذاً له من الآية الكريمة لأن العرجون يصير إلى تلك الحالة في هذه المدة.
ولعل الأولى أنه وصف اعتباري بحسب ما يوصف به فمن الموصوفات ما يعد السنة في حقه تقادماً، ومنها ما لاتعد فيه العشرون عاماً تقادماً والله أعلم.
قوله: (أما الطرف الأول وهو أنه تعالى موجود).
اعلم أولاً أنه لاخلاف بين أهل الإسلام وكثير من الفرق الكفرية وهم المقرون بالصانع كاليهود والنصارى والبراهمة وبعض عباد الأصنام في أنه تعالى موجود فأما الباطنية فلعلهم يقولون في هذه المسألة كقولهم في سائر الصفات.
قوله: (وغائباً فقط كما تقوله الفلاسفة). ذهبوا إلى أن الوجود صفة زائدة على ذات الموجود في جميع الموجودات إلا في حق الباري تعالى الذي هو عندهم علة قديمة فإن وجوده نفس ذاته قالوا: لأن الوجود لو كان صفة زائدة في حقه لتكثرت ذاته وذلك غير جائز عليه وإلا اقتضى أن يصدر عنه غير العقل الذي صدر ويفهم من كلام المصنف أن الأشعرية يعللون المنع عن كون وجوده تعالى زائداً على نفس ذاته بهذا التعليل وفيه نظر.
قوله: (فاحتاجوا إلى الاستدلال) يعني لأن ما تقدم استدلال على ثبوت ذاته تعالى وليس ما دل على ثبوت الذات يدل على ثبوت جميع صفاتها ولايلزم حصول العلم بالصفات عند العلم بالذات.
قوله: (مبني على أن المعدوم ذات).
يعني فإنه إذا ثبت كونه ذاتاً في حال عدمه فلا كلام في أن الوجود زائد على نفس الذات لو كان مع ذلك نفس الذات للزم أن تكون الذات في حالة العدم موجودة وهو محال.
قوله: (ويزيده وضوحاً) أي ويزيد أن الوجود زائد على ذات الموجود وضوحاً.
قوله: (أن الوجود متماثل). يقال: إنهم مع جعلهم للوجود نفس الذات لايسلمون تماثله.
والجواب: أن اصحابنا يقولون ذلك موجود من النفس فإن أحدنا لايفرق بين ذات وذات في وجودهما بل يحكم عليهما بتماثل وجودهما.
واعلم أن الظاهر من كلام أصحابنا ما ذكره المصنف من أن الوجود صفة متماثلة في الذوات وقد ذكره قاضي القضاة وصرح به والدليل على ذلك أن الذي به يعرف اختلاف النوع الواحد من الصفات إذا لم يكن معلوماً من النفس اختلاف أحكام أفراد ذلك النوع والذي به يعرف تماثلها اتحاد أحكامها وعدم اختلافها وحكم صفات الوجود في الذوات واحد فإنه ظهور الصفة المقتضاة عن الذاتية عنده وبالوجود في كل موجود يحصل ذلك الحكم فإذا لم يختلف حكمها كانت متماثلة لذلك ولزوال ما يقضي بالاختلاف ويدل عليه.
قوله: (بديهي التصور لايحتاج إلى حد).
قد تقدم ذكر الخلاف في تحديده ولاخلاف في أنه من الظهور بحيث لايحتاج إلى حد.
قوله: (ما لايتصور رأساً كذات القديم).
يقال: إنه لو لم يمكن تصور ذاته تعالى لم يمكن الحكم عليه بشيء من الصفات الإثباتية والسلبية فإن علم التصور مقدم على علم التصديق فمن لم يتصور المفردات لم يمكنه أن ينسب أحدهما إلى الآخر بنفي ولا إثبات وكيف يصح قولك أن ذات القديم غير متصورة مع أن التصور هو العلم بماهية المفرد وعندكم أنا عالمون بماهيته تعالى، وإنما يصح هذا على مذهب الخصوم لأن عندهم أن ذاته تعالى لايعلم حقيقتها وماهيتها فلعله أورده على قاعدتهم إلزاماً لهم.
قوله: (وفيها ما لايتصور بالبديهة بل بالحدود). يعني بذلك ما خلا المدركات من المحدثات فإنه يحتاج في معرفة ماهيتها والعلم بها على التفصيل إلى الحدود وإ، كان شيء منها على الجملة يعلم بالوجود من النفس.
قوله: (وبعد فقد اتفق الناس) إلى آخره.
يرد عليه أن هذا يوصل بالعبارة إلى المعنى واستدلال على ثبوت صفة من الصفات بكلام صدر عمن لانظر له إلى ذلك ولا التفات.
واعلم أن لهذا الوجه تحريراً آخر وهو أن الموجودات منقسمة فمنها واجبة الوجود وهي ذات الباري تعالى، ومنها جائزة الوجود وهي سائر الذوات والوجوب والجواز كيفيتان والكيفيات إنما تثبت في الصفات لا في الذوات فدل على أن الوجود أمر زائد على الذات.
قوله: (فكيف يجوزون كونه معدوماً مع قيام الدليل على وجوده).
يمكن أن يقال: ليس قيام الدليل على شيء مؤثراً في القطع به مالم يقع النظر فيه والاستدلال به وترتيب مقدماته فهم وإن علموا الدليل على وجوده وهو كونه قادراً باقون على تجويز العدم حتى ينظروا في الدليل وكيفية دلالته إذ لو كانوا حال العلم بالقادرية والعالمية قاطعين بالوجود غير مجوزين لخلافه لما احتاجوا إلى الاستدلال.
واعلم أنه قد جرى في كلام الشيخ أبي هاشم ما يخرجه عن تشنيع الشيخ محمود، وإن كان كلام الشيخ أبي هاشم غير مرتضى عند أصحابه وذلك أنه قال: إنا عند نظرنا في دليل كونه قادراً نعلم في الوقت الثاني دفعة واحدة كونه قادراً وحياً وموجوداً. قيل: والسبب في ذلك أنه اعتبر مطابقة العلم للمعلوم فلم يجز أن يتقدم العلم بما يتأخر رتبة في الثبوت، وأوجب حصول العلوم بهذه الصفات دفعة واحدة ولم يجز مع العلم بكونه قادراً كونه معدوماً على ما شنع به الشيخ محمود.
وقد عورض الشيخ محمود بمثل تشنيعه وقيل له: وأنت تعلم ثبوت الصانع وثبوت صفاته فلا يجوز كونه معدوماً حتى تنظر وتستدل فتعلم أن الوجود نفس الموجود فتعجب من نفسك إذ كونه موجوداً لايعلم أنه نفس ذاته إلا بدليل ولايعلم ضرورة اتفاقاً.
قوله: (فلأن معنى ذلك) إلى آخره. أي معنى التعلق.
واعلم أن هذا التعلق يثبت للقادر والقدرة وكونه قادراً والعالم والعلم وكونه عالماً، فيثبت للقادر والقدرة وكونه قادراً تعلقات تعلق عام وهو تعلق النسبة وهي المزية التي نجدها بين ما هو مقدور وبين غيره، وتعلق خاص وهو ما ذكره من صحة إيجاده مع سلامة الحال يعني من الموانع أو ما يجري مجراها وإ، كان الأغلب أنها إنما تمنع من الوقوع لامن الصحة، ونظير هذين التعلقين تعلق العالم بالمعلوم وما يتبعه إلا أن الخاص صحة إيجاده تحكماً تحقيقاً، إذا كان مقدوراً له يقبل الأحكام، أو تقديراً إذا كان غير مقدور له أو مقدوراً له لكنه لايقبل الأحكام، وقد تقدم تفصيل ذلك.
قوله: (كالإرادة وغيرها).
يعني العلم والقدرة والشهوة والنفرة والكراهة.
قوله: (صحة إيقاع) المراد بها على وجه يعني من كونه خبراً أو أمراً أو نحوه إذا كان المراد كلاماً وطاعة أو معصية ونعمة أو نقمة وهذا هو تعلقها الخاص مع ثبوت التعلق العام.
قوله: (وإيجابها الصفة للمريد).
قد تقدم ذكر الإشكال في ذلك وأيضاً فمعلوم أن الإيجاب جنس من الأحكام المقتضاة منفصل عن جنس التعلق إلا أن يكون عد الإيجاب من تعلقاتها لعدم انفصال التعلق عنه وعدم انفصالها عن التعلق فكأنهما تعلقان معاً، كما أن الشيخ الحسن عد سكون النفس من تعلقات العالمية لما لم ينفصل عنها وإن لم يوجد فيه حقيقة التعلق فلا بأس بذلك.
قوله: (ولجاز أن يكون أحدنا مريداً للشيء كارهاً له في حالة واحدة).
تلخيص هذه الجملة أن الإرادة إذا تعلقت في حال عدمها ومن جملة تعلقها إيجابها الصفة للمريد لزم أن يوجب حال عدمها تلك الصفة وإذا صح ذلك فيها صح في الكراهة لأنها ضد لها فما ثبت في إحداهما ثبت في الأخرى، فإن الضدين لايفترقان إلا في تعاكس ما يوجبانه وإذا كان كذلك وفي العدم كراهة كما أن فيه إرادة لزم مع القول بصحة إيجابها في تلك الحال أن يكون أحدنا مريداً للشيء المعين كارهاً له في حالة واحدة بإراددة وكراهة له معدومتين إذ لايستحيل اجتماعهما في العدم، وإن استحال في الوجود، ومعلوم استحالة كون أحدنا مريداً كارهاً للشيء المعين في حالة واحدة، فما أدى إليه كان محالاً إلا أن هذا الوجه مبني على أن إيجابها الصفة من تعلقها ويمكن أن يورد على وجه لايكون معه مبنياً على ذلك، فيقال: إن الإرادة إذا تعلقت في العدم وثبت لها هذا الحكم الذي هو التعلق لزم أن تثبت حال عدمها إيجابها الصفة للمريد إذ تعلقها وإيجابها حكمان لاينفصل أحدهما عن الآخر بل يثبتان معاً ويزولان معاً، ثم يؤتى بآخر الكلام بعد ذلك على صفته المذكورة.
قوله: (وتعلقها بالمنقضي محال).
يعني فإذا كان تعلقها بعد عدمها بما كانت متعلقة به يؤدي إلى تعلقها بالمنقضي في بعض الأحوال كان القول به محالاً، ومثاله: أن يريد أحدنا قدوم زيد ثم تعدم الإرادة ويقم زيد فقد تقضى مرادها وهو قدوم زيد وتعلقها بالمنقضي محال على ما هو مقرر في مواضعه فإنها لاتتعلق إلا بالحدوث وتوابعه، ولو قدرنا أن مريداً أراد قدومه بعد قدومه فهذه إرادة لاتعلق لها ولامتعلق.
قوله: (لأن فيه اتصافها بصفة مخالفها).
يعني صفة مخالفها الذاتية وتحقيق هذا الوجه أن الإرادات تختلف بتعدد المتعلق واختلافه فالإرادة هذه إذا تعلقت بمتعلق ثم عدمت وتعلقت بمتعلق آخر قد تعلقت به إرادة أخرى فتلك الإرادة قد خالفتها لتعلقها بذلك المتعلق فصارت صفتها الذاتية والمقتضاة مخالفتين لصفتيها الذاتية والمقتضاة، فإذا تعلقت بهذا المتعلق الآخر لزم أن تكون بصفة مخالفتها لأنها لاتتعلق به إلا إذا ثبتت لها صفة مقتضاة توجب تعلقها به تماثل صفة مخالفتها التي أوجبت لها التعلق به، وإذا ثبتت لها تلك الصفة كشفت لها عن مثل صفة مخالفتها الذاتية فحينئذ تصير بصفة مخالفتها ويلزم أن تكون مماثلة لها ومخالفة وهو محال.
قوله: (وأيضاً فأحدنا يخرج عن كونه مريداً وعالماً حال النوم).
النوم: معروف وهو سهو يعتري الإنسان مع استرخاء في الأعضاء وما ذكره استدلال على أن الإرادة ونحوها لاتتعلق حال العدم وتحقيقه أن الإرادة والعلم لو لم يزل تعلقهما وإيجابهما عند عدمهما لما خرج الواحد منا عن كونه عالماً ومريداً حال النوم بأن توجب له الإرادة والعلم المعدومان ومعلوم أنه حال نومه لايكون عالماً ولامريداً لما لم يمكنه وهو في تلك الحال إيجاد العلم والإرادة.
قوله: (والأول باطل) يعني وهو أن زوال تعلقها لتقضي مراداه ووجه إبطاله ما ذكره فإن التزموا تعلقها في العدم إذا لم ينقض مرادها لزمهم إيجابها الصفة للمريد ونحو ذلك من المحالات كما تقدم، ويدل على أن زوال تعلقها ليس لتقضي مرادها أن الإرادة قد ينقضي مرادها ولايزول تعلقها كأن يريد أحدنا قدوم زيد ثم يقدم مع عدم علمه بقدومه، فإن الإرادة تبقى متعلقة بقدومه مع تقضي مرادها وهو القدوم، ذكره أصحابنا وفيه نظر، لأن ذلك ليس بتعلق حقيقي على أصلهم.
قوله: (والثاني والثالث باطلان).
يعني وهو أن يكون زوال تعلقها لخروجها عن الصفة المقتضاة أو لخروجها عن أن توجب الصفة للمريد وفي هذا تصريح بأن إيجابها الصفة للمريد ليس من تعلقاتها وإلا كان تقديره وباطل أن يكون زوال تعلقها لزوال تعلقها.
قوله: (لأن خروجها عن الأمرين كزوال تعلقها وليس البعض بأن يعلل بالبعض أولى من العكس).
يقال: أما خروجها عن إيجاب الصفة للمريد فمسلم أنه ليس بأن يعلل به زوال تعلقها أولى من أن يعلل هو بزوال تعلقها لأنهما حكمان صادران عن صفتها المقتضاة لها فلا تكون أحدهما بأن تكون أصلاً للآخر والآخر فرعاً له أولى من العكس، وإن كان قد قيل بل تعليل زوال تعلقها بخروجها عن إيجاب الصفة أولى لأن التعلق حكم لكون المريد مريداً وكون المريد مريداً فرع لإيجاب الإرادة وزوال التعلق فرع لزوال الصفة وزوال الصفة فرع لزوال الإيجاب، فإذا كان كذلك فالفرع أحق وأولى بأن يكون معللاً بالأصل ذكره بعضهم.
لكنه يجاب عليه بأنك صورت الكلام في تعلق الصفة وكلامنا في تعلق الإرادة، فإن التعلق كما أنه يثبت للصفة فهو ثابت للإرادة بل قد جعل ابن متويه وغيره تعلق الصفات المعنوية تبعاً لتعلق المعاني الموجبة لها، وإذا كان كذلك فتعلق الإرادة وإيجابها فرعان عنها على سواء ولايثبت لأحدهما على الآخر مزية التبع، وأما خروجها عن الصفة المقتضاة فهو أولى بأن تجعل علة في زوال التعلق من العكس لن التعلق حكم صدر عنها فزواله فرع على زوالها ولاكلام في تبعية الموجب للموجب ثبوتاً وانتفاء ولهذا فلو قدرنا ثبوت صفة الإرادة المقتضاة مع عدمها لم يكن بد من القول بثبوت تعلقها مع عدمها.
إذا ثبت هذا فالأولى أن يجعل زوال تعلقها لعدمها بواسطة خروجها عن الصفة المقتضاة لأجل العدم وقد أشار إليه السيد الإمام وبذلك يحصل الغرض في الدلالة وهو أن العدم يحيل التعلق، وإن كانت إحالته له بواسطة زوال الصفة المقتضاة عنده فلا فرق في الاستدلال بين الوجهين.
قوله: (ولأن ذلك تابع لعدمها) أي خروجها عن إيجاب الصفة للمريد وعن الصفة المقتضاة.
وإذا تمهدت هذه القاعدة علمت أن الصانع لو كان معدوماً جل وعلا عن ذلك لزم زوال تعلقه لأن كل مشتركين اشتركا في علة حكم فالواجب أن يشتركا في ذلك الحكم، وههنا أصل وفرع وعلة وحكم، فالعلة العدم بواسطة كما مر، والحكم زوال التعلق، والأصل المقيس عليه الإرادة، والمقيس القديم تعالى فلو شاركها في العلة لشاكرها في الحكم.
قوله: (دليل قد ثبت في صفات الأجناس المقتضاة) إلى آخره.
هذا دليل ذكره بعض مشائخ المعتزلة وحرره ثم هذبه الشيخ الحسن الرصاص رحمه الله وتلقب بالقطقطاني لكون فيه تكرير ما لفظه: فقط. وأصحابنا يطولون فيه ويفرعون وقد اختصره المصنف اختصاراً حسناً.
واعلم أن هذا الدليل ينبني على ستة أصول:
الأول: أن للأجناس صفات مقتضاة ثابتة لها وقد تقدم تقريره في فصل الصفات.
الثاني: أناه زائدة على الوجود وقد تقدم أيضاً ما يدل عليه ويوضحه أن الذوات متفقة في الوجود مختلفة في صفات أجناسها فبعضها يثبت له التحيز وبعضها الهيئة إلى غير ذلك.
الثالث: أنها مشروطة بالوجود ويدل عليه أنها لو لم تكن مشروطة به لوجب ثبوتها في حالة العدم لحصول مقتضياتها وهي الصفات الذاتية ولو ثبتت حالة العدم لزم ثبوت أحكامها معها إذ ليست مشروطة بشرط فيقال أنه غير ثابت حالة العدم ولو ثبتت أحكامها في حالة العدم للزم صحة أن يدرك الجوهر المعدوم بحاستين وإن يحتمل الأعراض ويشغل الجهة ومعلوم خلافه وكان يلزم أن يصح إدراك اللون المعدوم وأن يضاد مضاده في تلك الحال ونحو ذلك من المحالات كلزوم تعلق المعدومات وإيجابها.
الرابع: أنها إنما كانت مشروطة بالوجود لكونها صفات مقتضاة وقد استدل عليه المصنف بما فيه مقنع.
الخامس: أن القديم تعالى قد شارك الأجناس في ثبوت صفات مقتضاة له وذلك يثبت ببيان أن كونه قادراً وعالماً وحياً صفات مقتضاة وسيأتي تقريره إن شاء الله تعالى.
السادس: أنه تعالى إذا شارك الأجناس في ثبوت صفات مقتضاة له وجب أن يشاركها في أن الوجود شرج في ثبوتها له ويدل عليه أن من حق كل مشتركين اشتركا في علة أمر من الأمور أن يشتركا في ذلك الأمر وإلا عاد على التعليل بذلك بالنقض، وههنا أصل وفرع وعلة وحكم ويدل عليه أيضاً ما ذكره من أنه لو لم يشترط في حقه تعالى للزم خروج الشرط عن كونه شرطاً.
ويرد على هذا الدليل سؤال تقريره أنه إذا كان الوجود عندكم صفة مقتضاة لزمكم على قود قولكم هذا أن يكون مشروطاً بالوجود لحصول الوجه الذي ذكرتموه فيه وإلا فما الفرق بين الموضعين؟
وتقرير الجواب: أن ذلك إنما يشترط في الصفة المقتضاة مالم تكن هي نفس الوجود، ولايقال هذا احتراز لمجرد دفع الإلزام لأنا أخرجنا الوجود عن هذا الشرط لدليل اقتضى ذلك ومانع منع من اشتراطه فيه وهو أنا لو جعلنا الوجود شرطاً في الوجود في حقه تعالى لأنه صفة مقتضاة أدى ذلك إلى التسلسل إذ الوجود هذا الذي هو شرط لايصح إلا أن يكون مقتضى أيضاً، ولم يحصل مثل هذا المانع في غير الوجود من الصفات المقتضاة فبقيت على ما دلت عليه الدلالة ولم يخرج عن هذا الحكم وفي ذلك كله نظر، ومن هذا الوجه وغيره بالغ بعض أصحابنا المهدي عليه السلام في تضعيف هذا الدليل، وتعجب ممن استدل به على عكس ما استدل به الأصحاب لكان أولى فنقول: صفاته تعالى مقتضاة عن الذاتية فلا يكون الوجود شرطاً فيها كوجود الباري تعالى عندكم، وقد نقل عن بعض المحققين الالتجاء في هذه المسألة إلى دليل السمع وهو أنا نعلم كون الباري تعالى موجوداً بضرورة الدين وبنى على أن هذه المسألة مما يصح الاستدلال بالمسع عليه لعدم توقف دلالة الحكمة عليها، وهو لايستغني عن تأمل.
قوله: (وأما الطرف الثاني وهو أنه تعالى لا أول لوجوده) إلى آخره.
اعلم أولاً أنه لاخلاف بين المسلمين وجميع المثبتين للمؤثر في العالم في أن الله تعالى قديم ولاقائل بخلاف ذلك. قيل: ولكنه يلزم الفلاسفة والباطنية أنه تعالى غير قديم لن الوجه الذي لأجله منعوا من إثبات ما تقدم من الصفات له تعالى قائم في هذه المسألة وفيه نظر فمقالتهم صريحة بأن أصل العالم الذي هو العلة عندهم يوصف بأنه قديم.
قوله: (أو ينتهي إلى محدث قديم وهو المطلوب).
فيه سؤال وهو أن يقال: أكثر ما في هذا الباب أنه لابد من الانتهاء إلى قديم واجب الوجود وإلا أدرى إلى ما لايتناهى من المحدثين ومحدثي المحدثين ولكن ما أنكرتم أن صانع العالم الذي أثبتم له تلك لاصفات بعضها ولا المحدثين المتوسطين أو أول ما ذكر من المحدثين كما هو مقتضى سياق الكلام فلا يثبت أن الإله المستحق للعبادة واجب الوجود.
والجواب: أن هذا المحدث الذي قدرتموه صانعاً للعالم لايخلو إما أن يكون من قبيل الأجسام أو الأعراض أو المحدثات لاينفك عن هذين القسمين وسيأتي تحقيق أن الجسم والعرض لايصح منهما فعل الأجسام ونحوها، وإذا تقرر ذلك فلا بد أن يكون صانع العالم قادراً لذاته عالماً لذاته وفي ذلك نفي أن يكون محدثاً، ووجوب أن يكون قديماً وكلامنا في المحدثين وتسلسلهم إنما هو على جهة الفرض والتقدير وبيان أنه لابد من قديم وهذا الجواب وإن كان فيه استعانة بما يصلح أن يكون دليلاً مستقلاً حسن صحيح.
قوله: (لأنه حينئذ يكون قادراً بقدرة محدثة). يعني لحصوله قادراً بعد أن لم يكن، ومن كانت هذه حاله فهو قادر بقدرة.
قوله: (إن الجسم لايفعل الجسم) يعني مع أنه قد ثبت أنه تعالى فاعل هذه الأجسام وقد استدل في هذه المسألة بأنه قد ثبت أنه تعالى قادر عالم بما قدمنا وأنه تعالى قادر عالم في الأزل لما سنذكره في فصل الكيفية إن شاء الله تعالى، وقد دللنا على أن القادر العالم لايصح أن يكون معدوماً فيجب كونه موجوداً في الأزل وفي ذلك قدمه.
فائدة
لاخلاف بين المسلمين في أنه يجوز أن يوصف تعالى بأنه قديم ولكن وقع الخلاف في هل يصح وصف غيره تعالى بذلك أم لا؟
فقال أبو هاشم: يصح إطلاقه على كل ما تقدم على غيره إذ معنى القديم المتقدم على غيره في الوجود كما يقال بناء قديم ورسم قديم ونحو ذلك. ولهذا قال تعالى: {حتى عاد كالعرجون القديم}.
وقال أبو علي: لايصح أن يوصف غيره تعالى بذلك لأن القديم هو الموجود في الأزل وليس كذلك غيره تعالى فكيف يوصف غيره بالقدم وجعل قوله تعالى: {حتى عاد كالعرجون القديم} من قبيل التوسع والمجاز.
وقال قاضي القضاة: قول أبي هاشم هو الأصح في اللغة فإن القديم لغة ما تقدم على غيره أو ما تقادم وجوده فيجوز وصف غير الله بذلك الوصف، وقول أبي علي هو الأصح في عرف المتكلمين فإن القديم عندهم هو الموجود فيما لم يزل ولهذا يسبق إلى أفهامهم عند إطلاقه هذا المعنى، ويأتي على كلام القاضي أنه يصح إطلاق هذا الوصف على غيره تعالى مطلقاً إلا بين المتكلمين فمع قرينة ترفع إيهام الخطأ، وهو الوجود في الأزل ويرشد إلى المقصود من ذلك.
فصل في أنه تعالى باق وأنه لاضد له
اعلم أولا أن الباقي ما استمر وجوده وقتين فصاعداً تحقيقاً أو تقديراً، فقولنا ما استمر وجوده وقتين احتراز مما لم يوجد إلا في وقت واحد أو في وقتين تخللهما عدم. وقلنا: أو تقديراً ليدخل القديم تعالى قبل وجود العالم فإنه يحئنذ باق ولاوقت هناك لكن ما يقدر بالأوقات. قالوا: والوقت هو الحادث أو ما يجري مجراه المعلق به حادث أو ما يجري مجراه، وفي الأغلب إنما يستعمل في حركة الفلك، وقد ذهب أبو علي إلى أن الباقي ما كان موجوداً لابطريقة الحدوث فجعله حقيقة فيه تعالى مجازاً في غيره.
واعترض بإطلاق أهل اللغة لفظة الباقي على الجوهر واللون ونحوهما فلو كان حقيقة فيما ذكره لم يصح ذلك ذكره في العمدة، فإن قيل: فما حقيقة الدائم؟ قلنا: يستعمل مطلقاً فيما استمر له في الوجود أكثر من وقتين هكذا قيل. وقال ابن الأثير في نهايته: هو ما طال زمانه دهراً، وأما في حقه تعالى إذا وصفناه بأنه دائم فالمراد أنه لا انتهاء لوجوده.
قوله: (ولاينقلب علينا في التحيز وكونه كائناً) يعني فيقال: أليس من علم ذاتاً متحيزاً علمها كائنة ومن علمها كائنة علمها متحيزة فيلزمكم أن تكون الكائنية والتحيز صفة واحدة؟
وتقرير الجواب: أنه ما من كائنية معينة في جهة معينة حركة كانت أو سكوناً أو اجتماعاً أو افتراقاً إلا ويعقل التحيز من دونها بل يعقل على الجملة من دون أن تخطر الكائنية بالبال فافترقت الحال.
قوله: (لكان جنس الفعل) يعني لأنه ليس مما يقع على وجه دون وجه فيقال: إ،ه يقع على وجه لايصح حصوله عليه إلا في الوقت الثاني.
قوله: (فيكون حادثاً باقياً) فحدوثه لأنه لم يستمر وجوده وقتين فصاعداً وهم لايخالفون في أنه أول وقت حادث وبقاؤه لوجود المعنى الذي يوجب بقاءه.
قوله: (ولاينقلب علينا في السكون) يعني فيقال: هو جنس الفعل فكان يلزم صحة حصوله في أول أحوال حدوث الجوهر ومعلوم أنه لايجوز أن يكون حينئذ ساكناً ولايوصف بذلك إلا في الوقت الثاني، لكن يقال: أليس السكون جنس الفعل فإنه نوع من الأكوان واقع على وجه وهو مصير الجوهرية كائناً في جهة هو كائن فيها الوقت الأول.
قوله: (لأنا نجوز حصول ما هو من جنسه) يعني وهو الكون المطلق لأن لاصحيح أنه من جنس الحركة والسكون فقد يكون سكوناً وقد تقدر حركة وفي ذلك خلاف. فقال أبو علي وأبو القاسم: هو جنس غير الحركة والسكون، ثم قال أبو علي آخراً: هو من جنس السكون فقط، وللكلام في ذلك موضع هو أخص به.
قوله: (إلا بأن ينضم إليه مثله) كان الأولى أن يقول: إلا بأن يستمر وقتين فصاعداً، فإنه لايعتبر في كونه سكوناً أن ينضم إليه مثله.
قوله: (يتبع استحالة المعنى) يعني فإذا كان المعنى لايستحيل وجوده في ذلك الوقت إذ هو جنس الفعل فكذلك الصفة لايستحيل في ذلك الوقت أيضاً.
قوله: (فيلزم قدم الحوادث) يعني لأن هذا المعنى وهو الذي يوجب حدوثها معاً ووجودها في أول أوقات وجودها حاصل في الزل ومع حصوله في الأزل لابد من حصول موجبه.
قوله: (فيتسلسل).
أما معمر فإنه لما قال بمقالة عبادة وقال: بأن الحدوث معنى ثم قال هو محدث ألزم التسلسل فالتزمه فأوجب في كل محدث أن يحدث لمعنى وذلك المعنى يحدث لمعنى إلا ما لانهاية له لكن كلامه واضح البطلان فإنه لاشك في استحالة وجود ما لانهاية له لأن كل ما دخل في الوجود فقد حصره وأتى عليه.
قوله: (فإ، قال أن البقاء يحتاج إلى استمرار الوجود). يعني فلا يلزم وجوده حالة الحدوث.
يقال: هذا غير ملائم لما يتصل به لأن كلامه في إلزام أن يحصل الحدوث حال البقاء لا أن يحصل البقاء حال الحدوث.
وجوابه: أنه راجع إلى أول الكلام وأصل المسألة وهو إ،كار أن يكون البقاء معنى وإلزام أن يصح حصوله حال حدوث الجوهر فيكون حادثاً باقياً كما أن ما قبله من الأسئلة راجع إلى ذلك.
قوله: (وقد التزمه الأشعري) أي التزم ألا شيء من الأعراض بباق وقال بأنها كلاه غير باقية، وهو مذهب الكعبي أيضاً فإنهم لما أثبتوا البقاء معنى مع أن المعنى لايختص بالمعنى لم يجدوا بداً من القول بعدم بقاء الأعراض.
قوله: (به يعلم بقاء اللون).
يعني وهو أنه لاينتفي إلا بضد أو ما يجري مجراه، فإن هذا هو الذي به يعلم بقاء الباقيات في الأغلب إذ لو لم تكن باقية لانتفت في الوقت الثاني حصل ضد أم لا ولاكلام في أن هذا الدليل ثابت في الألوان وكثير من سائر الأعراض كثبوته في حق الجسم.
قوله: (فإن قال يختص محله).
أي يختص البقاء الذي يوجب للمعنى كونه باقياً محل ذلك المعنى الذي أوجب البقاء له.
قوله: (بقاء جميع ما يحل ذلك المحل). يعني فكان يجب في البقاء الذي يوجب بقاء اللون لحلوله في محله أن يوجب بقاء الصوت الذي في ذلك المحل أو الألم أو نحو ذلك.
وفيه سؤال وهو أن يقال: إن المعنى الذي هو البقاء وإ، وجد في محل فيه أعراض كثيرة لم يلزم أن يوجب بقاها كلها لأنه إنما يوجب ذلك لما يصح عليه منها إذ المعنى لايوجب صفة إلا لمن قد صحت عليه تلك الصفة واللون يصح كونه باقياً فيوجب له كونه باقياً دون الصوت مثلاً والألم فإنه لايصح عليهما تلك الصفة.
والجواب: أنه لايمكن الإشارة إلى مصحح حصل في اللون دون الصوت فإتيانه إثبات ما لاطريق إليه فلا يجوز ذلك ويخص إبطال كلام الأشعرية وجهان: أحدهما أن البقاء عندهم باق على ما حكى عنهم فيلزم التسلسل. الثاني: أن صفة الوجود الثابتة له تعالى واجبة في الأزل، والصفة بوجوبها يستغنى عن العلة وكذلك فيبطله سائر ما دل على بطلان كلامهم في سائر المعاني.
قوله: (ولايلزمنا فيمن علم الشيء حادثاْ أن يعلمه باقياً) يعني على قولنا بأن بقاءه وحدوثه صفة واحدة فيقال: يلزم عليه فيمن علم الحدوث أن يعلم البقاء ومن علم البقاء أن يعلم الحدوث.
قوله: (لأن العلم بالشيء على صفة) إلى آخره.
يعني فعلمنا بأنه حادث علم بأنه على صفة الوجود في أول وقت وعلمنا بأنه باق علم بأنه على تلك الصفة في الوقت الثاني وما بعده فاختلف العلمان لذلك.
فائدة
الذي يجري عليه تعالى من الأسماء بمعنى كونه موجوداً وما يتبعه قولنا قديم ولاخلاف في جواز إ"لاقه عليه تعالى وإنما الخلاف في جواز إ"لاقه في حق غيره على ما تقدم، وباقٍ ويفيد المدح لا بنفسه بل لما ينضم إليه كقولنا باق لنفسه أو باق لم يزل. ودائم لأنه يفيد إما استمرار وجوده أكثر من وقتين وإما أنه لايفنى، وكل واحد من المعنيين ثابت في حقه تعالى. وأول ويراد به أنه موجود قبل كل موجود. وآخر ويراد به أنه موجود بعد كل موجود. وقيوم: والمراد به المبالغة في قائم، ومعناه دوام الوجود وقد يفيد أنه قائم بمصالح العباد ولايطلق عليه قائم لإيهامه نقيض القعود، ولكنه يجوز مع التقييد كقائم بالقسط، وقائم على كل نفس بما كسبت أي مجاز بالثواب والعقاب.
ويوصف تعالى بأنه سابق وأسبق ومتقدم وأقدم، والمراد أنه موجود قبل كل موجود.
وقد ذهب أبو علي إلى أنه يجوز وصفه تعالى بأنه أول وسابق وأسبق ومتقدم وأقدم في الأزل.
وقال أبو هاشم: لايجوز وصفه تعالى بشيء من ذلك في الأزل لإيهامه الخطأ وهو أن في الأزل موجوداً سواه مشاركاً له تعالى في الوجود في الأزل لكنه تعالى أول وسابق وأسبق ومتقدم وأقدم وذلك الموجود الآخر ليس كذلك مع حصوله في الأزل، وذلك محال كما إذا قلت: زيد أفضل من عمرو فإنه يفيد اشتراكهما في أصل الفضل ولكن اختص زيد بزيادة فيه.
فإن قيل: فإذا قيد بما يرفع الإيهام ويقضي بأن المشاركة غير مقصودة هل يصح على مذهب أبي هاشم؟
قيل له: إذا لم يرد المشاركة كان اللفظ مجازاً لاستعماله في غير ما وضع له والمجاز لايجوز إطلاقه عليه تعالى إلا بأذن كما تقدم وقد أشار أبو هاشم إلى ذلك.
تنبيه
يلزم المكلف في هذه المسألة أن يعلم أنه تعالى كان موجوداً فيما لم يزل ويكون موجوداً فيما لايزال ولايجوز خروجه عن هذه الصفة بحال من الحوال وأنه تعالى باق دائم لايتخلل وجوده عدم ولاينتهي في وجوده إلى غاية.
فصل
وكما أنه تعالى باق فهو لاضد له.
قوله: (لأن هذه سبيل كل ضدين) أي المعاكسة في الصفات الذاتية، والوجه في ذلك أن المنافاة من أحكام الصفة المقتضاة فإذا تعاكست صفتا الذاتين المقتضاتان وجبت كل واحدة منهما منافاة المختص بها للذات الأخرى المختصة بما ينافيها وبتعاكس الصفتين المقتضاتين يحصل تعاكس الصفتين الذاتييتين فصح ما ذكره من لزوم تعاكس الضدين في الصفتين الذاتيتين على أن كونه تعالى موجوداً قادراً عالماً صفات مقتضاة فالتعاكس فيها أوضح إذ المضادة لاتكون إلا مع تعاكسها.
وبالجملة فما تقدم في الدعوى الثانية من الاستدلال على أن القديم مطلقاً لاضد له كاف ههنا إذ قد تقرر أنه تعالى قديم.
قوله: (وذلك يقدح في كونه تعالى واجب الوجود).
يعني مع جواز أن يوجد الضد بدلاً منه في الأزل إذ لو كان واجب الوجود لم يجز ذلك. ومن وجه آخر وهو أن ذلك الضد إذا كان جائز الوجود لزم ذلك في حقه تعالى لأن ما ثبت لأحد الضدين ثبت للآخر ولايتعاكسان إلا في الصفة التي يتنافيان لأجلها.
فإن قيل: الصفة التي يتنافيان لأجلاه هي صفة الوجود لأنها مقتضاة في حقه تعالى والتعاكس بين الضدين إنما يكون في الصفة المقتضاة وقد حصل التعاكس فيها فإن الباري تعالى واجب الوجود وهذا الضد جائز الوجود؟
قلنا: التعاكس في الوجود إنما يكون مع ثبوته لأحدهما وانتفائه عن الآخر فأما الوجوب والجواز فهما كيفيتان له لايقتضيان تعاكسه ويلحق بما تقدم.
فائدة
تتعلق بالصفات المتقدم ذكرها وهي: أن العلم بالله تعالى على صفاته المختلفة التي هي كونه قادراً وعالماً وحياً وموجوداً ومدركاً علوم مختلفة بالاتفاق بين الشيوخ وإن كانت صفاته تعالى هذه ثابتة لذاته تعالى المخصوصة لأنها وإن كانت ثابتة لذاته تعالى فهي في حكم المختلفة لذلك اختلفت العلوم المتعلقة بذاته تعالى عليها كما تختلف العلوم المتعلقة بالذوات المتغايرة وهذا هو وجه اختلافها عند الجمهور من المشائخ رحمهم الله.
وذهب الشيخ أبو علي إلى أن وجه اختلافها أنها تعلقت بمتعلقات الصفات الثابتة له تعالى فالعلم بأنه قادر علم عقد ورائه تعالى والعلم بأنه عالم علم بمعلوماته فلذلك اختلفت وذهب الشيخ أبو القاسم إلى أن اختلافها لاختلاف طريق ثبوتها فطريق العلم بالقادرية صحة الفعل وبالعالمية صحة الأحكام.
وقد اعترض تعليل أبي هاشم والجمهور بأنه يلزم في العلوم بصفاته تعالى اليقينية ألا تختلف إذ لاصفات يتعلق العلم بالذات عليها تكون في حكم المختلفة فتختلف العلوم لأجل ذلك.
وأجيب بأن صفات النفي صفات بالمعنى الأعم فهي كالمزايا الثابتة.
وأورد على تعليل أبي علي أنه يلزم في العلم بكونه حياً والعلم بكونه موجوداً والعلم بالصفات اليقينية ألا تختلف إذ لامتعلقات لها متغايرة فتختلف العلوم لتعلقها بتلك المتعلقات.
وأبطل تعليل ابي القاسم بأن اختلاف طرق العلوم لاتكون علة لاختلافها فإن العلم بكون زيد في الدار عن خبر نبي صادق والعلم بأنه فيها عن مشاهدة مثلاً ومع اختلاف طريقي العلمين فالأولى على هذا تعليل أبي هاشم والجمهور.
القول في الصفة الأخص
وإنما أخر ذكرها إلى ههنا وإن كانت متقدمة في الصفات طريق إليها فهي متأخرة باعتبار الترتيب العلمي وحقيقتها ما ذكره المصنف وإن شئت قلت في حدها: الصفة الواجبة فيه تعالى التي لايستحق جنسها ولانوعها إلا هو. وإن شئت قلت: الصفة الواجبة التي لايستحق جنسها وقبيلها إلا ذات واحدة. والخلاف في ثبوتها له تعالى على ما ذكره وتلخيصه:
أن أبا علي وأبا الهذيل وأبا الحسين الخياط وتلميذه أبا القاسم البلخي نفوها عنه تعالى، وكذلك أبو الحسين وابن الملاحمي ومتبعوهما كالإمام يحيى لكن بناء على طريقهم في نفي الصفات، وأبو هاشم وقاضي القضاة وتلامذته وغيرهم من المعتزلة والقاسم والهادي والناصر والمنصور والسيد الإمام والسيد الحقيني وغيرهم من أئمة الزيدية وشيعتهم أثبتوها له تعالى والظاهر من كلام مثبتيها أنه لايجب العلم بها على كل مكلف وإ، معرفتها ليست من فروض الأعيان، وإنما العلم بها من فروض الكفاية خلاف ما يقولونه في سائر الصفات وإن كانوا لايوجبون العلم بشيء من الصفات على التفصيل وهو أنها مزايا زائدة ليس مجرد الذات ولامعاني ثابتة لها ولا أحكاماً، فليس ذلك عندهم من فروض الأعيان وإنما هو من فروض الكفاية أيضاً، وإنما الواجب المعين هو العلم بها على الجملة وبأحكامها الدالة عليها كصحة الفعل وصحة الأحكام منه تعالى، وكذلك غيرهما من الأحكام الدالة على الصفات ليقع التوصل بها إليها.
والدليل على ثبوت هذه الصفة له تعالى ما ذكره المصنف وتحقيق الدليل الأول أنه قد ثبت مخالفته تعالى لسائر المحدثات من الأجسام والأعراض وعدم مماثلته تعالى لها إذ هو قديم وهي محدثة، وهو تعالى إما أن يخالفها لأمر أو لا لأمر وباطل أن يخالفها لا لأمر إذ لو كان كذلك لم يكن بأن يخالفها أولى من أن يماثلها إذ الأمر مع عدم المماثلة والمخالفة على سواء، وأيضاً فالأصل في الذوات التماثل إذ هي مشتركة في كونها معلومة وهذا حكم يشملها فلا يحكم باختلافها إلا لأمر توجبه، وإن كان لأمر فلا يخلو إما أن يكون خارجاً عن الذات أو عائداً إليها باطل أن تثبت المخالفة لأمر خارجع عنها إذ الأمر الخارج ليس إلا الفاعل أو العلة والكلام في مخالفتهما لما يخالف أنه كالكلام في مخالفته تعالى لما يخالفه ثم أن مخالفته تعالى لما يخالفه ثابتة له تعالى فيما لم يزل، وما ثبت في الأزل فهو واجب وما كان بالفاعل أو لمعنى فهو جائز، وغذا كانت مخالفته تعالى لغيره لأمر عائد إلى ذاته فلا يخلو إما أن يكون لمجرد الذات وسيأتي بطلان ذلك أو لمزية زائدة عليها من صفاته تعالى المتفق عليها وصفاته تنقسم إلى ما يثبت في الأزل وإلى ما يتجدد فما يتجدد لايصح أن يؤثر في المخالفة إذ هي ثابتة في الأزل وتقدم الأثر على المؤثر محال وأما صفاته تعالى الثابتة في الأزل فهي كونه تعالى قادراً عالماً حياً موجوداً ولايجوز أن تقع المخالفة بنفس هذه الصفات الأربع ثم على هذا السياق إلى آخر ما ذكره المصنف.
قوله: (لأنا قد شاركناه فيها) يعني فكيف يخالفنا لثبوتها له مع أنها ثابتة لنا والاختلاف لايقع مع الاتفاق في الصفة التي تؤثر في الاختلاف بل مع الافتراق فيها.
قوله: (ولأنه كان يجب أن تختلف الأجسام بحسب الاختلاف في هذه الصفات أو في أحدها).
يعني فيلزم فيما كان منها قادراً عالماً حياً موجوداً أن يخالف ما ليس كذلك كالمعدومات والجمادات وكذلك يلزم فيمن كان حياً قادراً أن يخالف الحي الذي ليس بقادر بل كان يلزم أن يختلف كل قادرين لاختصاص كل واحد منهما بقادرية في حكم المخالفة لقادرية الآخر فإن المخالفة تثبت باختلاف الصفتين اللتين يقع بهما الاختلاف مطلقاً سواء كانا من نوع واحد أو لا، ومعلوم أن جميع الجواهر والأجسام الموجودة والمعدومة الأحياء منها والجمادات متماثلة لاشتراكها في الجوهرية.
قوله: (ولايجوز أن يقع بكيفيتها وهو وجوبها كما يقوله أبو علي). قال الإمام يحيى: وهذا قول أبي هاشم أولا فإنهما كانا يذهبان إلى أن مخالفته تعالى لنا لوجوب هذه الصفات له تعالى وعدم وجوبها لنا.
قوله: (لم يصح لاشتراك الذوات في ذلك) أي في كونها ذواتاً فكان يلزم أن يقع التماثل إذا كان الاختلاف لمجرد كونها ذواتاً إذ بالاشتراك فيما يقع بالافتراق فيه الاختلاف يقع التماثل.
قوله: (فلا معنى للخصوصية إلا أن لها صفة ليست لغيرها) هذا بناء منه على مذهبه رحمه الله ومذهب الجمهور، ومن المشائخ فإنهم ذهباو إلى أن الذوات كلها مشتركة في جنس الذاتية وأن الافتراق إنما حصل بالوصف الأخص لله تعالى وبغيره في حق غيره مما يوجب التميز بعد الاشتراك وبعض المتكلمين يقول مع قوله بأن الذوات كلها متساوية أن امتياز بعضها من بعض بصفات مخصوصة فامتياز ذاته تعالى بصفات الإلاهية كوجوب الوجود فيما لم يزل وفيما لايزال وتمام القادرية وإحاطة العلم ونفوذ المشية والكمال المطلق الموجب لاستحقاق كل مدح وثنا والتنزيه من كل نقص وعيب والمفهوم من مذهب أبي الحسين أن ذاته تعالى لاتشارك ذات غيره في جنس الذاتية.
قال الإمام يحيى: بل زعم أبو الحسين أن كل موجود مخالف لغيره بحقيقة ذاته وأنه لا اشتراك بين الحقائق إلا في الأسماء والأحكام فأما نفس الحقائق فلا اشتراك فيها.
قوله: (وقد علمت بهذا بطلان ما يقول لأنه) إلى قوله: (والثاني هو المطلوب).
يقال: إذا كان كلامهما يحتمل هذا الاحتمال الثاني الذي هو المطلوب الصحيح فلم حكمت بأنه يعلم بطلان ما يقولانه في حقيقة المخالفة وإنما الذي يعلم بطلانه ما ذهبا إليه لا حقيقتهما مع الاحتمال الثاني فلا يعلم فسادها ولا بطلانها.
تنبيه
تتمة هذا الدليل أن يقال: فلم يبق إلا أن الذي أثر في مخالفته تعالى لنا صفة لم تثبت لنا هي المسماة عندنا بالصفة الأخص.
قوله: (هو الإدراك) يعني فاختلاف الذوات يعلم بحسب اختلافها عليه فيعلم اختلاف الجوهر والسواد واختلاف السواد والبياض لاختلافها على الإدراك.
قوله: (وما عداه مشيئة به) يعني في أن جعل طريقا إلى اختلافها لا لافتراق في الصفة الذاتية أو في التعلق ونحو ذلك.
قوله: (لأن غيره تعالى قد شاركه فيها).
يقال: وما في ذلك من دليل على أنه لايدرك عليها؟
والجواب: لعله أراد فلو كان تعالى يدرك عليها لأدرك ما شاركه فيها عليها ومعلوم أنا لاندرك القادرين العالمين منا على هذه الصفات وكذلك الأحياء والموجودين ألا ترى أن جوهراً إذا أدرك على التحيز وجب أن يدرك كل جوهر عليه وكذلك الألوان في إدراكها على الهيئة ونحو ذلك أو لعله أراد فإذا كان غيره قد شاركه فيها مع أنه لايجوز أن تثبت مثل الصفة التي تدرك عليها الذات لما يخالفها إذ لو ثبتت لما يخالفها لأدركت وحينئذ يجب تماثلهما إذا لم يختلفا على الإدراك ثبت أنه تعالى لايدرك عليها.
قوله: (وذلك الأمر إما مجرد الذات هو باطل بما تقدم).
يعني من أن الذوات كلها مشتركة في كونها ذوات فكان يجب أن تجب لنا لكوننا ذوات كما وجبت له تعالى لكونه ذاتاً.
قوله: (وهو أظهر فساداً).
يعني من حيث أن الكيفية التي تثبت للصفة لأجل الفاعل أو العلة هي الجواز لا الوجوب، وأيضاً فلا يجوز أن يؤثرا في كيفية لصفة إلا مع تأثيرهما فيها وهما لايؤثران في هذه الصفات ولو أثرا فيها لكانت جائزة وأيضاً فهي واجبة له تعالى في الأزل والفاعل والعلة إما محدثان فلا يتأتى تأثيرهما فيما هو ثابت في الأزل أو قديمان فيبطله أنه لاقديم سواه على ما سيأتي.
قوله: (وإما صفة ذاتية وهو المطلوب).
يقال: أخللت بقسم آخر وهو أن يكون المؤثر في وجوبها صفة مقتضاة.
والجواب: أن المقتضاة تحتاج إلى مؤثر يؤثر فيها وفي وجوبها وذلك المؤثر إما صفة مقتضاة فيتسلسل أو ذاتية فالاقتصار على المحقق المعلوم أولى من المقدر المعروض.
قوله: (وقلنا على الإطلاق) إلى آخره.
اعلم أنه احتراز عما ذكره وهو ما لايبقى وذلك أنه إذا مضى الوقت الذي يمكن وجوده فيه ولم يوجد فإنه لايمكن وجوده في غيره لأنه لايمكن وجوده أكثر من وقت سواء كان من مقدوراتنا أو مقدوراته تعالى وكذلك فهو احتراز منه وإن وجد فإنه يعدم في الوقت الثاني ولايصح وجوده بعد ذلك الوقت إذ لو صح لخرج عن كونه غير باق فقد حصل المقتضي لصفته المقتضاة بعد ذلك الوقت الذي وجد فيه، وهي صفته الذاتية واستحال شرط اقتضائها لها وهو الوجود وكذلك فهو احتراز عن المسببات مطلقاً والباقيات أيضاً من مقدورات القدر فإنها تختص في إمكان الحدوث بوقت فقط فهذه الأشياء المذكورة وإن حصل المقتضي فيها واستحال الشرط فلم يستحل على الإطلاق بخلاف الغيرية لو جعلت شرطاً في اقتضاء الصفات الذاتية المختلفة الثابتة لذات واحدة مخالفة الذات لنفسها فإن الغيرية يستحيل ثبوتها في الذات الواحدة مطلقاً فمن المحال أن تكون الذات الواحدة مغايرة لنفسها، فإذا استحالت الغيرية على افطلاق لم يكن شرطاً في اقتضاء مقتض حاصل وإذا لم تكن شرطاً لزم ما ذكره أصحابنا من مخالفة الذات او مماثلتها لنفسها عند أن يحصل لها ما لو حصل لغيرها لخالفها لأجله أو ماثلها وإنما لم يجز اشتراط اقتضاء المقتضي بما يستحيل مطلقاً لما ذكره رحمه الله وهو: أنه كان يلزم ألا يفترق الحال بين المقتضي وغير المقتضي فإن مع استحالة شرط الاقتضاء لايمكن العلم بأنه مقتض ولو جوزنا حينئذ كونه مقتضياً لجوزنا في صفات كثيرة أنها مقتضية وإن لم يعلم اقتضاها لشيء لتجويزنا أن ذلك لاستحالة شرط اقتضائها لا لأنها ليست بمقتضية في نفسها.
قوله: (هي جزء حقيقتها).
يعني فإنه يقال في حقيقة المماثلة أن تسد إحدى الذاتين مسد الأخرى وفي المخالفة ألا تسد إحدى الذاتين مسد الأخرى فقد اعتبرت الذاتان في حقيقتهما فكانت الغيرية جزءاً من الحقيقة.
فائدة
احتج الإمام يحيى لصحة ما اختاره من مذهب أبي الحسين بأن مخالفته تعالى لخلقه لو كانت بأمر زائد وإلا فذاته مساوية لسائر الذوات في كونها ذاتاً لكان اختصاص ذاته بالصفة التي خالف بها غيره لابد أن يكون لأمر وذلك الأمر إن كان جائزاً لم يكن اختصاص للقديم تعالى بالصفة واجباً لأن المعلول تابع لعلته وهو محال لأن مخالفته تعالى لغيره واجبة بكل حال، وإن كان واجباً فذلك الوجوب إن كان لأجل صفة أخرى تسلسل فإن كانت لذاته المخصوصة كانت المخالفة لنفس ذاته من غير حاجة إلى صفة وهو المطلوب. انتهى.
وقد علمت ما يقوله أصحابنا من أن تعليل اختصاص الذات بصفتها الذاتية غير جائز لأنه بأي شيء علل بطل فلا يجوز تعليله ولو علل لخرجت الصفة عن كونها ذاتية فيعود تعليلها على القول بأنها ذاتية بالإبطال وهو محال ولو وجب تعليل اختصاصه تعالى بصفته الذاتية كما ذكره عليه السلام لوجب تعليل اختصاصه تعالى بتلك الحقيقة المخالفة لسائر الذوات على ما ذكروه فيؤدي إلى التعطيل.
تنبيه
اعلم أن الصفة الأخص تقتضي له تعالى من غير واسطة أربع صفات وثلاثة أحكام:
أما الصفات: فالأولى منها كونه تعالى قادراً وهي تقتضيها بشرط الحيية. والثانية: كونه تعالى عالماً وتقتضيها أيضاً بشرط كونه حياً. وقال الشيخ الحسن في بعض كلامه: بل تقتضي هاتين الصفتين بشرط كون المقدور مما يصح وجوده وكون المعلوم مما يصح كونه معلوماً. الثالثة: كونه تعالى حياً وتقتضيها له تعالى بشرط الوجود. الرابعة: كونه تعالى موجوداً وتقتضيها بشرط كونه تعالى شيئاً، وقد وقع في كثير من كلام الشيخ الحسن أنها تقتضي كونه تعالى موجوداً لابشرط ثم ذكر من بعد أن مراده بذلك أنها تقتضي كونه موجوداً من دون صفة أخرى وحكم آخر سوى كونه شيئاً، وليس مراده بذلك أنها تقتضيها من دون كونه شيئاً وذاتاً.
قيل: وهذه الشروط التي جعلت شروطاً في اقتضاء صفته الأخص لهذه الصفات الأربع ليست بشروط حقيقية لأن توقف ثبوت هذه الصفات عليها توقف ذهني لا زماني فهي ثابتة معاً في الأزل ولاوجه لذلك فإنما ذكر لايخرجها عن كونها شروطاً حقيقية ولو كانت مقارنة الشرط للمقتضي يخرجه عن كونه شرطاً للزم في وجود المدرك وصحة الحاسة وارتفاع الموانع إذا قارنت الحيية أن تخرج عن كونها شروطاً في المدركية وليس الشرط إلا ما توقف عليه المشروط من غير تأثير فيه ومعلوم أن هذا حال هذه الشروط التي جعلت شروطاً في صفاته تعالى فلو لم يكن موجوداً لما صح أن يكون حياً، ولو لم يكن حياً لما تأتى كونه قادراً.
وأما الأحكام فأحدها: ألمخالفة فإ،ها تقتضي له تعالى مخالفته لسائر الذوات وتقتضيها بشرط الافتراق فيها ولاتقتضي المماثلة إلا تقديراً إذ يستحيل أن يكون له تعالى مثيل على ما سيأتي. وثانيها: صحة كونه معلوماً وتقتضيه له تعالى لا بشرط. وثالثها: كونه تعالى على مثل حكم الواحد منا بكونه ساكن النفس وتقتضيه له تعالى بشرط كونه عالماً وقد صرح ابن متويه وهو الجاري على قواعد المتكلمين بأن هذا الحكم الذي هو سكون النفس من توابع العلم إذ هو موجب عنه، ثم قال: الأقرب أنه تعالى على مثل هذا الحكم الذي يختص به أحدنا يعني سكون النفس لينفصل حاله تعالى عن حال المقلد والمنخب ثم لايلزم أن تكون ذاته تعالى بصفة العلم لكونها أوجبته لأن العلم يقتضيه لغيره وليس هذا سبيل ذاته جل وعز.
وأما الشيخ الحسن فقد ذكر ثبوت هذا الحكم له تعالى في مواضع كثيرة فهذه هي الصفات والأحكام التي تقتضيها الصفة الأخص لابواسطة فأما صحح الصفات مثل صحة أن يقدر وصحة أن يعلم وصحة أن يحيى وصحة الوجود فليست بمقتضاة عنها على الحقيقة وإن أوجبتها لأن من حق المقتضي أن يؤثر في صحة المقتضى ووجوبه وألا يتقدم تأثيره في الصحة على تأثيره في الوجوب، وليس للمصحح هذه صحح فيقال: بأن الصفة الأخص مقتضية لها بمعنى أنها تؤثر في صحتها ووجوبها وإلا أدى إلى التسلسل ولكن هي تجري مجرى المقتضاة إذ هي تابعة لهذه الصفة وواقعة عليها وليس كوقوف ذات على ذات فقد حصل من هذا الوجه في الصحح معنى المقتضى، وفي الصفة الأخص معنى المقتضي.
فإن قيل: من أصولكم أن المقتضي الواحد لايتعدى في الاقتضاء عن المقتضَى الواحد إلى ما زاد عليه. قلتم: وإلا لزم تعديه في الاقتضاء إلى ما لانهاية له واقتضاؤه لما لانهاية له محال وإلا لزم إذ قدرنا ثبوت مقتض آخر من جنس ذلك المقتضي إلا يكون له تأثير في زيادة المقتضيات لأن ما لايتناهى لايصح دخول الزيادة فيه وطردتم ذلك في الجنس الواحد من المقتضيات والأجناس، والنوع الواحد منها، والأنواع فكما اوجبتم ألا يقتضي الجوهرية تحيزين أوجبتم ألا يقتضي تحيزاً وهيئة ونحو ذلك من تمثيلكم وتصويركم، فإذا صح ذلك لزمكم في صفائه تعالى هذه المقتضاة إما أن تثبتوا لكل واحدة منها مقتضياً واحداً فيلزم ثبوت صفات ذاتية متعددة للقديم تعالى فيلزم منه ما ألزمتم أبا علي من أن يكون تعالى في حكم المماثل لنفسه إن كانت تلك الذاتيات متماثلة أو مخالفاً لها إن كانت مختلفة لكنها لاتكون إلا مختلفة إذ مقتضياتها مختلفة فيلزم كونه تعالى مخالفاً لنفسه أو يجعلوا مقتضيها صفة واحدة فيلزمكم إذا تعدت أن تعدى ولاحاضر فتوجب له تعالى من الصفات ما لانهاية له ويلزم إيجابها له تعالى ما يصح عليه وما يستحيل وما لانهاية له من الجنس الواحد والأجناس والنوع الواحد والأنواع من الصفات المختلفة والمتضادة والمتماثلة إذ لاحاضر معقول وهذا محال.
قلنا: إنما وجب ما ذكرته من استحالة اقتضاء المقتضي لأكثر من صفة واحدة ولزوم التعدي إلى ما لانهاية له عند التعدي من واحد إلى ما زاد عليه حيث يكون ذلك المقتضي يكشف عما يقتضيه بمجرده من دون اعتبار أمر آخر كما مثلت به في التحيز، فأما ماكان كاشفاً عن مقتضيه بكفيته فإنه يجوز في مقتضيه أن يقتضي الجناس والأنواع المتعددة ولايلزم تعديه وهذا حال صفته تعالى الذاتية، فإن ما جعلناها مقتضية له يكشف عنها بكيفيته وهو وجوبه مما دل عليه الفعل بنفسه أو بواسطة أو بواسطتين ولايلزم التعدي لحصول الحاضر ههنا فإن ههنا حاضر لمعقولا فهو أنها لاتوجب إلا ما كشف عنها بكيفيته من الصفات مما دل عليه الفعل بنفسه أو بواسطة أو بواسطتين دون ما لم يدل عليه والعبرة في اقتضائها لما تقتضيه بما ذكرناه لا بالأجناس والأنواع فما دلت عليه أفعاله تعالى من الصفات وتثبت له هذه الكيفية فيها لزم اقتضاء الصفة الذاتية له وتعديها إليه ومالم يكن كذلك لم يلزم اقتضاؤها له ولاتعديها في الاقتضاء إليه.
إذا تقرر ذلك فلم يدل عليه الفعل مما حصلت له تلك الكيفية من الصفات والأحكام إلا ما ذكرناه آنفاً فثبت اقتضاؤها له ولم يلزم تعديها إلى غيره.
فائدة
خواص الصفة الذاتية الثابتة له تعالى دون غيره أربع:
الأولى: أنه لايستحق جنسها وقبيلها غيره تعالى.
الثانية: أنها تقتضي صفات أربعاً على ما تقدم ولايثبت ذلك لغيرها من الصفات.
الثالثة: أنه تعالى لو رئي لما رئي إلا عليها ولاشيء من الصفات الذاتية يشاركها في ذلك فإنما ترى سائر الذوات المرئية على صفاتها المقتضاة وإنما اوجبنا ذلك في حقه تعالى لأن المرئي يرى على أخص أوصافه وهي أخص اوصافه تعالى فأما غيرها من صفاته تعالى فإنه لايختص بجنسها وقبيلها دون ما خالفه فأما المدركات من المحدثات فإن صفاتها المقتضاة هي مختصة بها لايشاركها في جنسها وقبيلها ما خالفها ولو كانت تدرك على صفاتها الذاتية لزم إدراكها حالة العدم وهو محال.
الرابعة: أن الذي يقتضيه من الصفات يكشف عنها بكيفيته بمجرده بخلاف سائر الصفات الذاتية فإن مقتضياتها تكشف عنها بمجردها.
فصل
قوله: (والذي يجري عليه تعالى من الأسماء في هذا الباب) إلى آخره.
وإنما خص هذا الباب بهذه الأسماء لنه كلام في الصفة التي تصير بها الذات ذاتاً وشيئاً، وهذه الأسماء بهذا الموضع اخص.
قوله: (لأنه قد جرى مجرى العلم) إلى آخره.
يعني فهو على هذا القول من هذا الباب فأما على القول بأنه بمعنى الإله وأنه ليس يعلم فهو من الأسماء التي بمعنى القادرية.
قوله: (وكذلك سبوح وقدوس) في عدهما من هذا الباب نظر لإفادتهما التنزيه فهما من باب آخر.
قوله: (للإيهام الحاصل فيهما) أما العين فإيهامها للخارجة المخصوصة وغير ذلك من المعاني التي لايجوز في حقه على ما سيأتي في مسألة نفي التجسيم وأما النفس فهي في اللغة موضوعة لمعان لايصح شيء مناه في حقه تعالى منها الروح والدم والجسد والعين، فقال: أصابت فلاناً نفس والنافس العاين، والنفس أيضاً قدر دبغه مما يدبغ به الأديم من القرظ، يقال: هب له نفساً من دباغ. ذكره الجوهري، وقد يقول المتكلمون في صفاته تعالى أو في شيء منها يستحقها لنفسه فيقيمونها مقام الذات، ولعل ذلك من معانيها إلا أن الإيهام يمنع من الإطلاق.
قوله: (تأثيراً مخصوصاً من الأعراض).
يعني بأن يكون تأثيره في ثبوت صفة أو حكم للغير ولاشك في أن ذلك لايجوز في حقه تعالى.
قوله: (تمام ووافر وكامل ونحوه). يعني كزائد وواف وما كان بهذا المعنى.
تنبيه
لايكاد الأصحاب يتعرضون في هذه المسألة لما يلزم المكلف معرفته فيها.
قيل: والعلم بها فرض كفاية لأن المتعين من المعارف ما يحصل به اللطفية وهي حاصلة بمعرفة الله وصفاته الأربع وإنام وجبت معرفتها كفاية لئلا يقطع بنفيها وهو نوع جهل بالله ونفي لما يجب له وهو محرم والتحرز عنه واجب فيكون ذلك كالعلم بحل الشبه في كونه تعالى واجباً على الكفاية.
فصل
قوله: (قد زعم ضرار بن عمرو أن لله تعالى مائية لا يعلمها إلا هو).
اعلم أن هذه المسألة من مهمات مسائل الخلاف فحكى بعض أهل المقالات عن الزيدية والمعتزلة وأكثر الخوارج والمرجئة أنهم يذهبون إلى أنه تعالى ليس بذي ماهية لايعلمها إلا هو بل ذاته تعالى وماهيته يصح أن يعلمها غيره كما يعلمها إما بأن يخلق الله له علماً ضرورياً كما في الآخرة أو بأن ينصب له دليلاً كما في الدنيا مع بقاء التكليف حتى أن الشيخ أبا هاشم رحمه الله أقسم أن الله تعالى لايعلم من ذاته إلا ما يعلمه هو والذي ذهب إليه ضرار بن عمرو وحفص والداري من علماء المجبرة أن له تعالى ماهية يعلمها. قالوا: ولايعلم كنه حقيقة ذاته إلا هو فإنما هو في علم نفسه تعالى على تلك الصفة ويراها أيضاً عليها ثم اختلفوا في رؤية المؤمنين له يوم القيامة هل يكون على تلك الصفة التي كان يختص بعلمها ويرى نفسه عليها فيدركونه تعالى عليها ويعلمونه بكنه حقيقته أو لا فمنع بعضهم من ذلك وتوقف آخرون وهو الذي يقضي به كلام ابن الخطيب والذي حكاه افمام يحيى في التمهيد أن أكثر المتكلمين من المعتزلة وغيرهم ذهبوا إلى أن حقيقة ذاته تعالى وجميع صفاته معلومة لنا كعلمه تعالى بحقيقة ذاته، وذهب بعض المتكلمين وبعض الصوفية ومحققوا الأشعرية كالجويني والغزالي والقاضي منهم إلى أن خاصة ذاته تعالى غير معلومة لنا.
قال عليه السلام: إن حقيقة ذاته تعالى وكنهها غير معلوم لنا وأما ضرار فإن قصدنا لمائيته ما يعنيه بخصوصية الذات وحقيقتها وأنه لايعلمها إلا هو فهذا جيد، وإن أراد بالمائية صفة زائدة على حقيقة ذاته كما يزعمه أبو هاشم فهذا غير سديد لأن من قال أن له تعالى صفة قال: إ،ها معلومة لنا فلا معنى لقوله لا يعلمها إلا هو. أنتهى.
وقد علمت بهذا ضعف ما حكاه بعض أصحابنا المتأخرين فإن ظاهر حكايته تقضي بالتسوية بين قول الإمام يحيى وأبي الحسين وقول حفص وضرار في أنهم جميعاً يثبتون صفة لايعلمها إلا هو تعالى، فإن الإمام يحيى ومن معه لايثبتون صفة وبهذا يعرف الفرق بين قولهم وقول ضرار، فإنه يثبت صفة لايعلمها إلا هو وهو معنى قوله بالمائية وقد ذكر بعض المتأخرين أن القول بأن حقيقة ذاته تعالى غير معلومة وأنه لايمكن العلم بكنهها هو قول أمير المؤمنين وسيد الوصيين كما قرره شارح كلامه عليه السلام في قوله كرم الله وجهه: امتنع منها بها وإليها حاكمها. أي امتنع من العقول بمعرفة العقول بعجزها عن إدراكه والإحطة به وإليها حاكمها أي جعلها محكمة في ذلك لأنه نزلها منزلة الخصم المدعي والخصم لايحكم إلا حيث يتضح الحجة ويفتضح جاحدها فلا يرضى لنفسه بدعوى ما يعلم كل عاقل كذبه فيه.
ثم قال: ولايعلم لعلي عليه السلام مخالف في الصدر الأول ولا أنكر عليه كلامه هذا أحد، وذكر ابن أبي الحديد مع اعتزاله أنه قول لم يزل فضلاء العقلاء عليه ولعبد الحميد بن أبي الحديد في التصريح بمذهبه في ذلك وهو عدم إحاطة العلم بكنه ذاته تعالى نظم متكرر فمنه:
فيك يا أغلوطة الفكر ... هام عقلي وانقضى عمري
سافرت فيك العقول فما ... ربحت إلا عنى السفر
رجعت حسرى وما وقفت ... لا على عين ولا أثر
فلجى الله الأولى زعموا ... أنك المعروف بالنظر
كذبوا أن الذي زعموا ... خارج عن قوة البشر
وله أيضاً في ذلك:
والله ما موسى ولاعيـ ... ـسى المسيح ولا محمد
عرفوا ولاجبريل وهو ... إلى محل القدس يصعد
من كنه ذاتك غير أنـ ... ـك واحد في الذات سرمد
عرفوا إضافات ويفنا ... والحقيقة ليس توجد
أشار في هذا البيت الآخر إلى ما يذهب إليه أهل هذه المقالة جميعهم من أن المعلوم منه تعالى ليس إلا الوجود والصفات السلبية نحو كونه ليس بجسيم ولا عرض ولامحتاج، والصفات الإضافية نحو قادر وعالم وحي. قالوا: العلم بهذه الأمور وإن كان مميزاً للذات وفاصلاً لها عن سائر الذوات فليس علماً بكنه تلك الذات وحقيقتها. وله أيضاً:
قد حار في أنفس كل الورى ... والفكر فيك قد غدا ضائعا
من جهل الصنعة عجزاً فما ... أجدره أن يجهل الصانعا
واختلف القائلون بهذه المقالة وهي أنا لانعلم حقيقة ذاته تعالى في الدنيا في هل يطرد المنع من ذلك فلا نعلمها في الآخرة كما لانعلمها في الدنيا أو يختص بدار الدنيا فمنهم من اطلق المنع ومنهم من خصه بالدنيا فقط ومنهم من توقف.
وقد احتج الجمهور من أصحابنا على صحة ما يقولونه وفساد ما يذهب إليه من خالفهم في ذلك أما ما احتجوا به لصحة ما ذهبوا إليه فوجوه ثلاثة:
الأول: أنه تعالى قد كلفنا معرفة وحدانيته وذلك يتوقف على معرفة حقيقته لأن من لايعلم العالم ولا الحادث مثلاً لم يمكنه العلم بأن العالم حادث فلو لم يكن لنا طريق إلى معرفة حقيقة ذاته لم تكن ممكنة عقلاً مع وجوبها شرعاً لكان ذلك تكليفاً لما لايطاق واعترض بأنا إنما كلفنا بمعرفة الربوبية والأسماء الحسنى ونفي الثانيونفي التشبيه ونفي الظلم وكل نقص وهذه كلها نعوت عرية عن معرفة الماهية وقد ذكر معنى هذا الجواب الإمام يحيى فإنه قال: والجواب عما أوردوه بحرف واحد وهو: إن العلم الجملي يكفي في العلم بالوحدانية والإلهية والعلم بالحقيقة هو أمر وراء ذلك الأمر الذي ذكروه.
الوجه الثاني: أنا نحكم على ذاته تعالى بهذه الأحكام الثبوتية والسلبية والحكم على الشيء مسبوق بمعرفة المحكوم عليه وربما يقولون للخصوم قد حكمتم على خصوصية ذاته تعالى بأنها غير معلومة والحكم على الشيء بالنفي أو الإثبات متأخر عن تصور حقيقة المحكوم عليه فإذن الحكم على تلك الحقيقة بكونها غير معلومة يتوقف على كونها معلومة وفيه تمام غرضنا.
واعترضه الإمام يحيى بأن التصور الجملي كاف في الحكم على الشيء بالنفي والإثبات والإشكال أنا نعرف حقيقة ذاته جملة وإنما الخلاف في التعيين والتفصيل.
الوجه الثالث: أن حقيقة ذاته التي ذهبوا إلى أنها غير معلومة عبارة عن الذات المقيدة بوجوب الإنصاف بهذه الصفات السلوب والإضافات ومطلق الذات معلوم وهذا القيد أيضاً معلوم فيجب إذاً أن تكون ذاته المخصوصة معلومة لامحالة.
واعترضه الإمام يحيى بأنه إنما يستقيم لو قلنا بأن ذاته تعالى مساوية لسائر الذوات في أصل الذاتية ثم أنه خالفها بهذا القيد وهو وجوب هذه الصفات السلبية والإضافة لكنا قد بينا بطلان ذلك وأن مخالفته تعالى لسائر الذوات بحقيقته المخصوصة وأنه ليس بين ماهيته وسائر الماهيات اشتراك أصلاً.
وأما ما ذكره أصحابنا في بطلان قول المخالفين فقد أبطلوا كلامهم جميعاً بأنه لا معنى لماهيته تعالى إلا أنه ذات غير ذات الجسم والعرض، وهذا قد علمناه فلم يختص تعالى بأن علم من ماهيته غير ما علمناه واستدلوا على بطلان ما قاله ضرار وحفص خاصة بما ذكره المصنف.
قوله: (فهو صحيح) يقال: كيف يتأتى ذلك مع أنك لاتقول بصحة ما يقوله أبو الحسين من أنه ذات مخصوصة تفارق بنفسها سائر الذوات.
قوله: (لأنه لايقال في الله ما هو ولا أي شيء ما هو).
يعني فيقال لأجل ذلك أن له ماهية او مائية وقد اختلف في جواز إطلاق لفظ الماهية على ذاته تعالى فمنهم من منعه وهو ظاهر كلام المصنف ومنهم من أثبته مالم يوهم الخطأ تكييفاً كان أو غيره. قيل: وهو الصحيح.
قوله: (وليس لها حكم) إلى آخره.
يقال: إنما يتأى ذلك لو عنى ضرار بتلك الصفة ما عنيتم بالصفة الأخص وأثبت من اقتضائها وأحكامها ما تثبتونه ولكن بعيد عن هذا فلا يلحظ إليه.
تنبيه
الذي احتج به المخالفون جميعاً لصحة مذهبهم وجوه ثلاثة:
الوجه الأول: أنا إذا أخبرنا أنفسنا ورجعنا إليها وجدناها لاتعلم حقيقة شيء من الأشياء مفصلاً إلا من وجهين: أحدهما الحس بحر العلم بمدركات الحواس الخمس. وثانيهما: الوجدان من النفس مثل علمنا بحقيقة الألم واللذة والجوع والعطش، فأما سائر الأشياء فلا طريق لنا إلى معرفتها إلا على الوجه الجملي، والإدراك يستحيل في حقه تعالى ويستحيل أن يجد من أنفسنا معرفة حقيقية فوجب القطع بأنا لانعلمها وهو المقصود.
الوجه الثاني: أن المعلوم لنا منه تعالى ليس إلا الصفات السلبية والإضافية وشيء منها ليس نفس حقيقته. بيان ذلك أن الذي عرفناه من الصفات الإضافية هو أنه يمكنه أن يوجد الأشياء وألا يوجدها وهو معنى القادرية وأنه يمكنه أن يوجدها محكمة وهو معنى العالمية والذي عرفناه من الصفات السلبية أنه غير متحيز ولا حال في جهة ولامحل لشيء ولا حال في شيء والموصوف بصفات الأجسام من الشهوة والنفرة والألم واللذة وكلها إضافات وسلوب فإذا تصفحنا ما علمنا منه تعالى فليس إلا هذه الأمور ونحن نعلم ضرورة أن الإضافات والسلوب لابد لها من ذات مستقلة بنفسها متقومة بحقيقتها تكون موصوفة بهذه السلوب والإضافات فإذا كنا لانعلم حقيقة الذات الموصوفة بهذه السلوب والإضافات ثبت أنا لانعرف حقيقة ذاته تعالى ذكر هذين الوجهين الإمام يحيى.
الوجه الثالث: أنه لاكلام في صحة قولنا: الله أعلم بنفسه ولايصح ذلك إلا وهو يعلم من نفسه ما لانعلمه.
وأجيب عن هذا الوجه بأن معنى ذلك أنه يعلم من تعلق ذاته وتفاصيل مقدوراته ومعلوماته ما لانعلمه وذلك خارج عما نحن فيه أو يكون المراد أن عالميته تعالى واجبة ذاتية وعالميتنا جائزة معنوية وإن كان المعلوم واحداً واحتجوا أيضاً بقوله تعالى: {ولايحيطون به علماً} وبأن موسى عليه السلام أجاب فرعون عن قوله: وما رب العالمين؟ بالنعت فقط حيث قال: {رب السموات والأرض} لتعذر الجواب بالماهية وقد قيل:
حقيقة المرء قطعاً ليس يعلمها ... فكيف ماهية الجبار في القدم
وأما الذي ذكره ضرار خاصة في الاحتجاج لمذهبه فقد استوفاه المصنف وأجاب عنه.
قوله: (أما أن يكون الطريق إليه الإساس أو تأثيره أو حكمه).
أراد بالتأثير ههنا الفعل وبالحكم الموجب سواء كان صفة أو حكماً.
قوله: (ألا ترى أنا نعلم القدرة والحياة) إلى آخره.
قد تقدم ذكر كلام الإمام يحيى وفيه تصريح بألا نعلم إلا حقيقة المدرك والموجود من النفس.
قوله: (فهو وإن علمها من نفسه ضرورة على الجملة).
يعني فأما التفصيل فلا يعلمه إلا دلالة وهو أن له مثلاً بكونه مشتهياً حالاً موجبه عن معنى ليس الإرادة ولا غيرها فإن أحدنا وإن وجد نفسه مشتهية فهو لايجد أن الشهوة ذات ليست بصفة ونحو ذلك من التفصيل.
قوله: (فغيره يعلمها بالدلالة).
أما كونه مريداً فمن أصول أصحابنا أنا لانعلم أن الغير مريد في الشاهد إلا بالضرورة أو غالب الظن، فأما بالدلالة فلا كما سيأتي، ولعل الأمر في كونه مشتهياً كذلك فإنا نعلم بالضرورة شهوة الجائع الجوع الشديد للطعام الطيب فأما بالدلالة فلا يمكن إلا أن يكون بخبر صادق والله أعلم.
قوله: (قال أليس أحدنا يجد مزية للعلم الضروري على العلم الاستدلالي).
يعني فإذا كنا نعلمه في الآخرة ضرورة كان تميز علمنا الضروري به عن علمنا الاستدلالي بأن يتعلق بماهيته أو يكون مراده فهلا كان لعلم الله تعالى الذي هو في حكم الضروري بل أعلى درجة منه مزية على علمنا به الذي هو استدلالي وجواب المصنف يقضي بأن هذا مراده.
قوله: (لأمر يرجع إلى طريقهما).
يعني فلما كانت طرق الضروري من الإدراك والأخبار المتواترة ونحو ذلك أوضح من طرق الإستدلالي من النظر وخبر الصادق كان للضروري مزية على الاستدلالي إلا أن هذا الفرق إنما يتأتى فيما كان إليه طريق.
ويلحق بما تقدم فائدة عظيمة النفع في التوحيد
وهي أنه يليق بكل ذي عقل وافر وحلم راسخ من أهل الدين المستبين والمعرفة الحقيقية واليقين عند أن يلقى إليه الشيطان نعوذ بالله منه الوسوسة ويبعثه على التفكر في ذات الباري تعالى جل وعلا ويقول له كيف هذه الذات التي أراك تعبدها وما حقيقتها وصورتها ألاّ تصغي إلى ذلك أذناً ولاتصرف إليه قلباً ولا يشتغل بما يلقى إليه من ذلك فإن هذا الوسواس أعظم ما يتوصل به الشيطان إلى ضلال المكلف وكفره وإلحاده وقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم على ما روى كثير التكرار للإقرار بالله ووحدانيته وصفاته والنظر في ملكوت الله تعالى الدالة على ذلك، وكان صلى اللّه عليه وآله وسلم كثيراً ما يأمر بالنظر فيها وينهى عن النظر في ذاته تعالى، فقد روي عنه أنه قال: (( تفكروا في الخلق ولاتفكروا في الخالق فإنكم لن تقدروا قدره )) .
وقد سلك أمير المؤمنين كرم الله وجهه هذه المحجة في أقواله فإن من كلامه عليه السلام في ذلك: (( من تفكر في خلق الله وحد ومن تفكر في الله ألحد )) . وقال عليه السلام في خطبة الأشباح وهي ما ذكره في نهج البلاغة مخاطباً لرجل أتاه فقال: يا أمير المؤمنين صف لنا ربنا لنزداد له حباً وبه معرفة فغضب عليه السلام ونادى الصلاة جامعة فاجتمع الناس حتى غص المسجد بأهله فصعد المنبر وهو مغضب فحمد الله وصلى على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم واسترسل في الخطبة إلى أن قال: (( فانظر أيها السائل فما دلك القرآن عليه من صفته فأتم به واستضيء بنور هدايته وما كلفك الشيطان علمه مما ليس عليك في الكتاب فرضه ولافي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى أثره فكل علمه إلى الله تعالى فإن ذلك منتهى حق الله عليك واعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أعياهم الإقرار بحكمة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول مالم يحيطوا به علماً وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفوا البحث عن كنهه رسوخاً، فاقتصر على ذلك ولاتقدر عظمة الله تعالى على قدر عقلك فتكون من الهالكين هو القادر الذي إذا ارتمت الأوهام لتدرك كنه منقطع قدرته فحاول الفكر المبرأ من خطر الوسواس أن يقع عليه في عميقات ملكوته فتولهت القلوب إليه لتجري في كيفية صفاته وغمضت مداخل العقول في حيث لاتبلغه الصفات لتناول عظيم ذاته ردعها عن اقتحام السدد المضروبة دون العيوب فرجعت إذ جبهت معترفة بأنه لاينال تجوز الاعتصاف كنه معرفته ولايخطر ببال أولى الرويات خاطرة من تقدير جلال عزته )) إلى أن قال: (( فصار كلما خلق حجة له ودليلاً عليه وإن كان خلقاً صامتاً فحجته بالتدبير ناطقة ودلالته على المبدي قائمة )) .
ومن كلامه عليه السلام: (( إن الله تعالى لا من شيء ولا في شيء ولا على شيء )) .
ومن كلامه عليه السلام: (( لم تحط به الأوهام بل تجلى لها بها وبها امتنع عنها وإليها حاكمها )) والأوهام ههنا العقول، وقد تقدم تفسير كلامه هذا.
ومن كلام الإمام ترجمان الدين نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم عليه السلام: (( جعل الله في المكلفين شيئين وهما العقل والروح وهما قوام الإنسان لدينه ودنياه وقد حواهما جسمه وهو يعجز عن صفتهما وماهيتهما فكيف يتعدى بجهله إلى عرفان ماهية الخالق الذي ليس كمثله شيء ومن لم يعرف عقله وروحه والملائكة والجن والنجوم وهذه مدركة أو في حكمها فكيف يرمي به نفسه المسكينة إلى معرفة القديم قبل كل موجود والآخر بعد كل شيء الذي لاتدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير )) وهذا تصريح منه عليه السلام بعدم إمكان الوصول إلى معرفة الحقيقة وكنه الذات.
وعن بعض الصالحين أنه قال في الله: (( أوحده ولا أحده أؤمن به ولاأ:يفه وما خطر على قلبي فهو تعالى خلافه )) .
وحكي عن الإمام الشافعي أنه قال: (( من انتهض لطلب مدبره فانتهى إلى موجود ينتهي إليه فكره فهو مشبه وإ، اطمأن إلى العدم الصرف فهو معطل وإن اطمأن إلى موجود واعترف بالعجز عن إدراكه فهو مصدق )) قيل: وهو معنى قول أمير المؤمنين عليه السلام:
العجز عن درك الإدراك إدراك ... والبحث عن فحص كنه الذات إشراك
فهذه الفائدة تنطوي على كلام سيد البشر وكلام وصيه الصديق الأكبر وإمام التوحيد والعدل وكلام غيرهما من أئمة الإسلام فجدير بكل عاقل الاعتماد عليها والرجوع في هذا الشأن إليها نسأل الله أن يمدنا بمواد التوفيق ويهدينا إلى سواء الطريق.
القول في كيفية استحقاقه تعالى لهذه الصفات
التي هي القادرية والعالمية والحيية والوجود فأما صفة الذات والمدركية فقد مضى ما فيه كفاية في بيان كيفية استحقاقه تعالى لهما، واعلم أن هذا الفصل لايكمل التوحيد ويتم المعرفة إلا به فإنه ينطوي على نفي المعاني القديمة والاستدلال على بطلانها وبيان أنه يستحق هذه الصفات لذاته ولذلك يثبت أنه لايجوز خروجه عنها، وأنه قادر على جميع أجناس المقدورات عالم بجميع أعيان المعلومات، وبذلك يثبت عدله وحكمته وننزهه عن القبائح لعلمه بقبحها واستغنائه عنها فظهر بذلك عظم الحاجة إلى هذا الفصل، وسمي بفصل الكيفية لأنه كلام في كيفية استحقاقه تعالى لهذه الصفات مطابقة بالإسم للمعنى ووجه اتصاله بما تقدم من الصفات ظاهر، وهو كلام في كيفية استحقاقها فهو كالجزء منها وبتمامه يتم العلم بها.
قوله: (أتفق أهل العدل على أنه يستحقها لذاته أو لما هو عليه في ذاته).
يعني فالأول كلام أبي علي ومن قبله من أهل العدل ومن تعبه ممن بعده منهم، والثاني قول أبي هاشم وجمهور المتأخرين وأبو علي وأصحابه يسلمون أنه لو لم يستحقها لما هو عليه في ذاته كما يقوله أبو هاشم دون ما يقوله أ÷ل الجبر وأبو هاشم وأصحابه يسلمون أنه لو لم يستحقها لما هو عليه في ذاته لاستحقها لذاته وهم متفقون جميعاً على أنه تعالى لايحتاج في ثبوتها إلى مؤثر إذ لايجعلونها مستحقة بالفاعل ولا لمعنى ولا لسبب وأبو هاشم وأصحابه وإ، قالوا بأنها مقتضاة فالمقتضي غير مؤثر على التحقيق.
فإن قيل: كيف قال المصنف اتفق أ÷ل العدل على أنه يستحقها لذاته أو لما هو عليه في ذاته وأبو الحسين وأصحابه النافون للأحوال غير داخلين في ذلك وهم من أعيان أهل العدل؟
قلنا: بل هم من القائلين أنه يستحقها لذاته وإن جعلوها تعلقات لا صفات فإنهم يضيفون التعلق الحاصل له تعالى بكونه قادراً وعالماً إلى ذاته من غير واسطة فهم يقولون أن القديم تعالى قادر وعالم لذاته وحقيقته المخصوصة توجب هذا التعلق من غير واسطة أمر زائد حكاه الإمام يحيى.
قال: ويمكن أن يكون هذا قول المتقدمين من المعتزلة فإنهم أطلقوا القول بأنه يستحقها لذاته ولم يخوضوا خوض المتأخرين فيجب حمل قولهم على ذلك.
قوله: (فقالت الصفاتية) يعني سليمان بن جرير الإمامي وأصحابه.
قوله: (وقال بان كلاب أزلية).
اعلم أنه لافرق بين قوله وقول الأشعري لأن الأزلي هو القديم إلا أن ابن كلاب لم يتجاسر على إطلاق القول بقدمها للإجماع على أنه لاقديم مع الله تعالى وتجاسر الأشعري على ذلك لوقاحته.
قوله: (وقال الأشعري قديمة) أي المعاني التي يستحق الباري كونه قادراً عالماً حياً لأجلها قديمة. وقد ذكر ابن الملاحمي في معتمده أنهم يقولون كذلك في كونه مريداً كارهاً سميعاً بصيراً مدركاً وأنهم يصرحون بأنه يستحق هذه الصفات جميعها لمعان قديمة.
قال الإمام يحيى: وأما الأشعرية فاتفقوا على إثبات المعاني القديمة ثم اختلفوا فنفاة الأحوال منهم يقولون العلم هو نفس العالمية والقدرة هي نفس القادرية ثم هذه الصفة عندهم معلومة بنفسها موجودة في ذاتها وهو مذهب الأشعري وابن كلاب وهو قول المتأخرين من محققيهم وأما مثبتوا الأحوال منهم فعندهم أن القادرية والعالمية والحيية صفات مضافة إلى المعاني وأنه تعالى كما هو موصوف بهذه الصفات فهو موصوف بالمعاني وهذا مذهب القاضي منهم وهو قول الكرامية.
قوله: (لم يصح المنع من وصفها).
اعلم أولاً أن مرادهم بأنها لاتوصف أنه لايعبر عنها بعبارة يكون وصفها لها وهو لايستقيم مع إثباتهم لها معاني.
قوله: (شبهتهم أنها لاتقوم بنفسها).
أي لاتستقل بمجردها من دون أن تستند إلى ذات وتثبت لها وتكون مترتبة في الثبوت عليها.
قوله: (ونحو ذلك).
يعني من وصفكم لها كقولكم أنها لاتوصف وأنها لاتقوم بنفسها.
قوله: (فإن وصفها لاتقتضي قيام).
معنى بها يعني كوصفنا لها بأنها موجودة أو معدومة أو محدثة أو باقية أو غير باقية أو غير ذلك مما نصفها به.
قوله: (ونحو ذلك) يعني كمبدئ ومعيد وموجد وما جرى هذا المجرى.
قوله: (ولنعد إلى إبطال قول الجميع) يعني جميع أهل الجبر من الكلابية والأشعرية والصفاتية والكرامية.
قوله: (لاطريق إليها) يعني وإذا لم يكن إليها طريق لم يجز إثباتها بل يجب نفيها إذا كان لايمكن أن يكون إليها طريق وهذا حال هذه المعاني، وهذا بناء على ما تقدم، وفيه من الاعتراض ما قد عرفت ومن العلماء من قال لايوجب عدم الطريق إلى الشيء نفيه إلا في ثلاثة مواضع:
أحدها: عدم المعلول فإنه يدل على ألا علة.
الثاني: عدم ظهور المعجز على مدعي النبوة فإنه يدل على بطلان نبوته.
الثالث: إذا كانت الذات لايصح خلوها عن صفتين ضدين على البدل فإن خلو الذات عن إحداهما طريق إلى ثبوت الثانية وهذا المثال الثالث ليس من هذا الباب فإيراده هنا ليس بسديد.
قوله: (لأن وجود المعاني والحال هذه كعدمها).
يعني مع كون الصفات واجبة لأن الصفة الواجبة هي التي يستحيل خلافها عند إمكانها ومع كونها كذلك لاحاجة بها إلى المعنى فثبوتها مع وجوده وعدمه على سواء.
قوله: (بأمر منفصل) يعني الذات من فاعل أو علة واحترز بقوله منفصل عن المقتضي لن لاصفة الواجبة يصح تعليلها به إلا أنه غير منفصل عن الذات بل هو صفة ثابتة لها.
قوله: (وكذلك صفات المعاني) يعني الذاتية والمقتضاة.
قوله: (وسائر صفات الأجناس) أراد به إدخال الجواهر في ذلك فإن صفاتها الذاتية والمقتضاة كصفات المعاني في أنها تستغني عن المعنى.
قوله: (وإذا كانت صفات الباري واجبة) يعني القادرية والعالمية والحيية.
قوله: (استغنت عن المعاني كالوجود وكصفات الأجناس) يعني وجود الباري تعالى وصفات الأجناس الذاتية والمقتضاة.
وقد أورد الشيخ أبو الحسين على هذا الدليل اعتراضين:
أحدهما: ما تريدون بقولكم صفات الباري تعالى واجبة هل تريدون أن مجرد ذاته كاف في ثبوتها وأنها لاتفتقر إلى غيره فهذا محل النزاع، ومسألة الخلاف، فكيف تجعلون نفس مذهبكم دليلاً أو تريدون أنها ثابتة له تعالى فليس ثبوت صفة للذات توجب استغناءها عن علة؟
والجواب: أنا لانعني بالوجوب أي الوجهين اللذين ذكرت ولكن نعني بالوجوب ثبوتها له في الأزل واستحالة انفكاكه عنها والخصم يسلم ذلك.
وثانيهما: أن قياسكم على صفات المعاني والأجناس بناء على ثبوت المعاني وثبوت صفات للأجناس وهو غير مسلم وإ، سلمناه فإن استغناء صفات الأجناس عن العلة لكون الذات كافية في ثبوتها ولم تثبت لكم الآن أن ذاته تعالى كافية في ثبوت صفاته فإن ذلك لايثبت إلا بعد إبطال أن يستحقها لمعنى.
والجواب: أنه قد تقرر ثبوت المعاني وصفات الأجناس بما تقدم، وأما قوله أن صفات الأجناس استغنت عن العلة لكون الذات كافية في ثبوتها فيقال له: ولم كانت الذات كافية في ثبوتها فإن ذلك إنما هو لوجوبها فإذا كانت صفات الباري تعالى واجبة كانت ذاته أيضاً كافية في ثبوتها له. وأام قوله: ولم يثبت لكم أن ذات الباري تعالى كافية في ثبوت صفاته. فيقال فيه: لم نستدل بأنها كافية على أنه لايستحقها لمعاني ولو كان كذلك لزمنا الدور كما ذكره لكن استدللنا باستحالة الانفكاك عنها وحصولها في الأزل على الاستغناء والعلة الجامعة بينها وبين صفات الأجناس ما ذكرناه من استحالة خلافها عند إمكانها والخصم لاينازع في ذلك.
قوله: (فالله أحق بأن لايحتاج إلى معنى).
يعني لأن ذلك يقدح فيما قد تقرر من استغنائه تعالى عن غيره ولأنه يؤدي إلى النقصان وعدم الكمال إذ الحاجة من صفات النقص وهي مستحيلة عليه تعالى فكان أحق بالاستغناء من غيره.
قوله: (بل قد وافق فيه أكثر الملحدة).
يريد بالملحدة نفاة الصانع المختار الملحدين بإ،كاره وعنى بأكثرهم من أثبت مؤثراً موجباً كالفلاسفة والباطنية فإنهم يدينون بأن المؤثر في العالم لايحتاج في وجوده إلى معنى.
قوله: (فأما بالتفسير الذي يريدونه في هذه المسألة) إلى آخره.
يعني من إيجاب الصفة لا الحلول وبالجملة فيقال لهم: إن أردتم بالقيام الحلول فهو كما يستحيل في حق المعنى يستحيل في حقه تعالى وإن أردتم به إيجاب الصفة فقط فهو كما لايستحيل عليه تعالى عندكم لايستحيل في حق المعنى فإذا أجزتم قيام المعنى ف يحقه تعالى مع أنه غير متحيز ولامحل فجوزوه في حق المعاني وإ، كانت غير محال ولا متحيزه فإن حالها في استحالة الحلول لايزيد على حاله تعالى.
قوله: (وهذا هو أصل دليل المخالف) .
يعني كما تقدم في ذكر ما استدل به الرازي على حدوث العالم فإذا كان دليلاً على حدوثه كان دليلاً على حدوث المعاني لقيامه في حقها.
قوله: (وذلك الغير ليس بمؤثر فيها عندهم).
يعني الله تعالى فإنهم لايثبتون له تأثيراً فيها لاتأثير وجوب ولاتأثير اختيار وكذلك لايثبت لغيره من المحدثين فيها تأثير.
قوله: (وأيضاً فهي ليست بأغيار لله تعالى عندهم).
يعني فكيف يكون مؤثراً فيما ليس بمغاير له فإن هذا مما لايتصور وكيف يكون ما هو واجب الوجود من غيره ممكن الوجود من ذاته ليس بغير لما هو واجب الوجود من ذاته فقط.
قوله: (لاسيما وفي ذلك مشابهة القائلين بالأفلاك والعقول).
يعني من حيث أنه جعلها واجبة الوجود من جهته تعالى كما أن أهل العقول جعلوا العقل الأول واجب الوجود من جهته تعالى حيث أثبت ذواتاً قديمة معه تعالى كإثباتهم للعقول القديمة عندهم معه تعالى فهذا وجه الشبه بين قوله وقولهم.
قوله: (طريقة أخرى قد وقع الإجماع وقامت الدلالة على أن الله تعالى ليس بمحتاج).
فيه سؤال وهو أن يقال: ألاستدلال بالسمع على أنه ليس بمحتاج لايصح لترتب صحته على عدم الحاجة ثم أن الذي قامت الدلالة عليه أنه ليس بمحتاج بمعنى الانتفاع والتضرر فأما بهذا المعنى الذي ذكرته المجبرة فلا.
والجواب: أما الاستدلال بالإجماع ههنا فهو صحيح لأنه مما يتوقف صحة السمع على نفي الحاجة بمعنى الانتفاع والاستضرار، ولو قدرنا عدم صحة الاستدلال به فالاحتجاج به ههنا من باب الاستظهار على الخصم بما لاينكر كونه دليلا. وأما قوله: أن الذي قامت عليه الدلالة.. إلى آخره. فيقال: كما قامت على نفي الحاجة بذلك المعنى فقد قامت على نفيها بهذا المعنى فإن الدليل قد دل على أنه لايحتاج في وجوده إلى غيره وإلا أدرى إلى التسلسل.
قوله: (لو انتفت عن الله تعالى ولم توجد أضدادها لكان في ذلك عدمه).
يقال: كيف اتفاقهم على هذا وإنما يتصور على قول من يجعله تعالى موجوداً لمعنى هو الوجود فأما من جعله تعالى موجوداً لذاته أو جعل وجوده نفس ذاته منهم فلا يتصور أن يكون من مذهبه أن عدم العلم والقدرة والحياة لو قدر مؤثر في عدمه تعالى.
والجواب لعل من مذهبهم أنه تعالى يستحيل انفكاكه عنها وانفكاكها عنه وحصوله موجوداً من دونها أو أضدادها وحصولها موجودة من دونه تعالى وقد فهم ذلك من قولهم لا هي الله تعالى ولا هي غيره ثم فسروا الغيرين بأنهما كل موجودين يصح وجود أحدهما مع عدم الآخر فلولا أنهم يقولون أنه لايصح وجوده تعالى مع عدمها للزمهم أن يكون غيراً لها ويكون مذهبهم في ذلك كمذهب أبي علي في الأجسام، وهو أنه لايجوز انفكاكها عما يحتمله أو ضده ولا وجودها من دون ذلك، فعلى هذا يكون من قولهم أنها لو عدمت لدل عدمها على عدمه جل وتعالى عن ذلك وإلا بطل القول باستحالة الانفكاك.
نعم الاستدلال بالإجماع إنما يستقيم على بطلان قولهم بالحاجة إليها لابنفس المعاني.
قوله: (بأن يصير ميتاً عاجزاً جاهلاً).
يعني لحصول الموت والعجز والجهل التي هي أضداد للحياة والقدرة والعلم عندهم. وقوله: ونحو ذلك. لاوجه لزيادته لأن لاذي يثبت بثبوت ضده النقض في حقه تعال هي هذه المعاني الثلاثة فأما ضد الإرادة القديمة فلا يحصل بحصوله نقص وليس هذا موضع الكلام فيه اللهم إلا أن يريد أضداد السمع والبصر والإدراك على قول من يجعله سميعاً بصيراً المعنيين إذا كانوا يقولون بأن لهذه المعاني أضداداً كأحد قولي أبي علي في إدراك الرؤية فإنه يجعل له ضدا هو العمى.
قوله: (الامتناع من إ"لاق العبارة).
يعني بأن يقولوا أنا لانقول بأنه تعالى محتاج إلى هذه المعاني بل نقول ليس بمحتاج إليها لأنهم قد أثبتوا المعاني وأثبتوا معنى الحاجة إليها فلا تعويل على العبارات كما قلنا لهم حيث ألزمناهم على نسبة أفعال العباد إليه أن يكون ظالماً تعالى عن ذلك.
قوله: (طريقة أخرى).
تلخيص هذه الطريقة أنه لابد لهذه المعاني من صفات لأجلها تخالف مخالفها وتوجب موجبها وتتعلق بمتعلقها وتضاد ضدها لما قد تقرر من أن المخالفة والإيجاب والتعلق والتضاد أحكام لاتثبت إلا لصفات وإلا لزم في كل ذات أن تكون مخالفة لغيرها على الإطلاق موجبة لحكم من الأحكام متعلقة بشيء من المتعلقات مضادة لشيء من الذوات، فأما أن يستحقها أي إما أن يستحق المعاني صفاتها التي لأجلها خالفت وأوجبت وتعلقت وصارت لمعان أخرى فيلزم التسلسل لأن هذه المعاني التي اوجبت صفات تلك المعاني لها أيضاً صفات تحتاج في ثبوتها لها إلى معان إذ لافرق أو تستحق المعاني الموجبة لصفات الله تعالى على زعمهم هذه الصفات لذاتها لا لمعنى فالله أحق أن يستحق صفاته لذاته إذ نفي الحاجة عنه تعالى واجب ولا يجب نفيها عن المعاني وهو تعالى المختص بالكمال في ذاته وصفاته ومن الكمال ألا يحتاج إلى غيره وإذا ثبت استحقاقه تعالى لصفاته لذاته فلا حاجة عند ثبوتها له ذاته إلى معان إذ معنى ثبوتها للذات أن يستغني بمجردها في حصولها له ولايحتاج فيها إلى غيرها من معنى وغيره.
ويرد على هذه الطريقة سؤال وتقريره أنه إنما وجب كون صفات المعاني التي لأجلها تخالف وتوجب وتتعلق وتضاد ذاتية لأن إيجاب تلك الأحكام المذكورة لاتكون إلا لصفات ذاتية على ما قد تقرر لا لما ذكرتموه من أن في خلاف ذلك لزوم التسلسل بخلاف صفات الباري تعالى المذكورة فإنه لم يحصل فيها من الدلالة ما حصل في صفات المعاني، ونحن نسلم أن الذي لأجله تخالف مخالفة من الصفات هو ذاتي، فأما القادرية والعالمية ونحوهما فلا وقولكم الله تعالى أحق أن يستحق صفاته لذاته غير مسلم إلا لو كانت صفاته تعالى من جنس صفاتها، فأما وهي من جنس آخر فلا.
فصل في أنه لايجوز أن يستحقها لمعان قديمة
قوله: (كما يقوله جمهور المجبرة). أراد الأشعرية والكلابية والكرامية.
قوله: (وهذا وإن كان قد دخل فيما تقدم) يعني أن إبطال أن يستحقها لمعان قديمة قد دخل فيما تقدم إذ ما تقدم من الطرق إبطال لأن يستحقها لمعان مطلقاً سواء قيل بأنها قديمة أو غير قديمة وحالة أو غير حالة فقد شمل ذلك إبطال جميع مذاهب المخالفين.
قوله: (كما سيخص غيره) يعني وهو إبطال أن يستحقها لمعان محدثة.
قوله: (فنقول لو استحقها لمعان قديمة لوجب أن تكون أمثالا لله تعالى لمشاركتها له في القدم).
اعلم أن هذا الدليل مما يعتمده أصحابنا في إبطال المعاني القديمة ولهم فيه تحريرات وتفريعات وجملة ما ينبني عليه من الأصول أربعة:
أحدها: أنه تعالى مخالف لغيره من لاذوات وهذا الأصل ظاهر لانزاع فيه.
وثانيها: أنه خالفها بكونه قديماً ودليله أن المخالفة إنما تكون بالافتراق في الصفة الذاتية والقدم صفة ذاتية على مذهب أبي علي، وأما على مذهب أبي هاشم فهو كاشف عن الصفة الذاتية وليست المخالفة بأكثر من ألا تسيد إحدى الذاتين مسد الأخرى فيما يرجع إلى الصفة الذاتية على التفصيل وصفة القدم وإن لم تكن هي المؤثرة في المخالفة على رأي أبي هاشم فيها يقع الإستدلال على الصفة الأخص وهي كاشفة عنها وهي التي وقع بها الخلاف فلما كان بها يقع الاستدلال على ما يؤثر في الخلاف أقاموا الأثر مقام المؤثر لتلازمهما.
وثالثها: أن الصفة التي يقع بها الخلاف عند الافتراق فيها هي الصفة التي يقع بها التماثل عند الاتفاق فيها. ودليله السواد فإنه لما خالف مخالفة وهو البياض للافتراق في السوادية التي لم تثبت للبياض ماثل السواد والآخر بها حيث واقفه فيها.
ورابعها: أن الاشتراك في صفة من صفات الذات يوجب الاشتراك في سائر صفات الذات ودليله ما ذكره المصنف.
فإذا تقرر هذا الدليل لزم ما ذكر من أن تكون المعاني بصفته تعالى وأن يكون بصفتها.
قوله: (لأنها قد شاركته فيما يصحح كونه حياً).
يعني في الأزل والذي يصحح كونه حياً في الأزل هو كونه موجوداً في الأزل لأن الوجود شرط في الحيية والشرط مصحح أو لعلة أراد بما يصحح كونه حياً الصفة الذاتية الأخص لأن لاقدم مقتضى عنها ودليله عليها فإثباته للمعاني يستلزم إثباتها لها وهي تصحح الحيية وتوجبها لأنها مقتضية لها.
قوله: (فأولى أن تشاركه فيما يصحح كونه حياً).
يقال: لم جعلته حياً أولى وما وجه الأولوية بل لايجب إذا شاركته فيما يصحح الحيية وهو الوجود مثلاً أن تشاركه في الحيية إذ هو مصحح لاموجب فضلاً عن أن يجب مشاركتها له فيما تصححه الحيية وأن يكون أولى.
والجواب: أنه بناء على أن القدم صفة مقتضاة عن الصفة الأخص والصفة الخص كما تقتضيه فهي تقتضي الحيية وهو شرط فيها، وإذا كان كذلك فقد حصل المقتضي والشرط، وفي ذلك وجوب كونها حية وإذا وجب ذلك وجب أيضاً حصول القادرية والعالمية لها ومشاركتها للقديم تعالى في ذلك لحصول المقتضي وهو الصفة الأخص والشرط وهو الحيية وكان أولى لأن كونه حياً أقوى في التصحيح للقادرية والعالمية من الوجود للحيية وفي هذا تكلف وتعسف ومع ذلك فلا يستقيم لأننا على أن القادرية والعالمية والحيية صفات مقتضاة عن الصفة الأخص وهو نفس المتنازع فيه، وقد عدل المصنف إلى هذا التحرير ولم يحرره على ما ذكره أصحابنا فإنهم يقولون فيلزم أن يشاركه في سائر صفاته الذاتية من القادرية والعالمية والحيية لئلا يرد عليه ذلك لكن لانسلم له أنها إذا شاركته فيما يصحح الحيية شاركته فيها وفيما تصححه هي إلا إذا ثبت كونها وكون الوجود صفات مقتضاة عن الصفة الأخص، فالتحقيق أن الذي يلزم من هذا الدليل كونه تعالى بصفتها فقط فيلزم كونه قدرة وعلماً وحياة.
قوله: (ولاننفيها من حيث كونهما مختلفين) يعني لما تقدم من أن الشيء الواحد لاينفي مختلفين غير ضدين.
تنبيه
اعلم أن الإمام يحيى عليه السلام قد جعل هذه الدلالة التي أوردها البهاشمة على نفي المعاني القديمة من مسالك المتكلمين الفاسدة وضعفها من وجهين:
أحدهما: أن المتمسك بهذه الطريقة إما أن يدعي أن المشتركين في أمر يجب اشتراكهما في كل الوجوه التي يكونا مثلين أو لايدعي ذلك فإن ادعى ذلك ظهر فساده فإن الضدين اشتركا في أن كل واحد منهما مضاد للآخر ولايلزم تماثلهما مطلقاً وكلك فإن المختلفين اشتركا في كون كل واحد منهما مخالفاً للآخر ولم يلزم تماثلهما مطلقاً، وأما أن يسلموا أنه لايلزم من اشتراكهما في بعض الوجوه تماثلهما سقط ما ذكروه بالكلية.
وثانيهما: أن صريح العقل لايستبعد وجود شيئين لا أول لكل واحد منهما مع أن حقيقة كل واحد منهما مخالفة للأخرى.
والجواب عن الأول ظاهر وهو أنا لم نوجب في كل مشتركين اشتركا في أمر ما كما مثل به عليه السلام أن يشتركا في سائر الأمور بل أوجبنا من اشتراكهما في صفة ذاتية أن يشتركا في سائر صفات الذات وأوضحنا ذلك بالأدلة المذكورة.
وعن الثاني بأن الأمر وإن كان كما ذكره عليه السلام إلا أن المرجع في ذلك إلى الأدلة وقد قام الدليل على أن اشتراك الذاتين في صفة ذاتية توجب اشتراكهما في سائر صفات الذات وإلا أدى ذلك إلى المحال المذكور ولاغيره بالاستبعاد مع قيام الأدلة على المنع وقد أورد عليه السلام هذه الطريقة التي عابها على البهشمية على وجه آخر.
فقال: لو كان تعالى يستحق كونه قادراً وعالماً ونحوهما لمعان قديمة لكانت مساوية له تعالى فين فس القدم وهو وصف كاشف عن حقيقة الذات لأنا إذا أردنا أن نميز حقيقة عن غيرها فلا يمكنا إلا بكونه قديماً والاشتراك في الوصف الخاص يقتضي الاشتراك في نفس الحقيقة لأنه لاطريق إلى تعلق تلك الحقيقة إلا بواسطة ذلك الوصف فلو كان يستحق صفاته تعالى لمعان قديمة لزم أن تكون موصوفة بالصفات المعتبرة في الإلاهية فيكون كل واحد منها إلاهاً ولايكون بأن يكون صفة أولى من أن تكون موصوفة وهذا محال فبطل القول بالمعاني القديمة هذا حاصل ما ذكره عليه السلام في تحرير هذه الطريقة، ثم قال عليه السلام بعد أن حكى أدلة أصحابنا التي يتوصلون بها إلى إبطال المعاني فهذه خلاصة أدلتهم على إبطال المعاني.
واعلم أن أقرب ما يعول عليه في إبطال هذه المعاني أن يقال: لو كانت له تعالى قدرة وعلم وحياة لكانت حقائق هذه المعاني مخالفة لحقيقة ذاته لاستقلال كل واحد من هذه المعاني بنفسه في المعلومية والثبوت وأقل مراتب المخالفة الغيرية فحينئذ يكون في الوجود قديم غير الله مخالف له في ذاته وحقيقته وبطلانه معلوم باتفاق المسلمين.
فصل في إبطال كل واحد من هذه المعاني على انفراده
قوله: (وكلامنا في جهة استحقاق الصفة لافيها) وكلامنا في الوجه الذي لأجله استحقت الصفة لا في الصفة فأما هي فلا كلام أنها لاتعلم على انفرادها.
قوله: (فيؤدي إلى التسلسل) يعني لأن هذا العلم الذي صار لأجله عالماً بالعلم الول لابد أن يعلمه أيضاً بعلم آخر وهلم جراً في كل علم لأجله صار عالماً بالعلم الذي قبله.
قوله: (ولاينقلب علينا في الصفة) يعني فيقال: لابد من أن يعلم تعالى كونه عالماً بصفة هي كونه عالماً بأنه عالم ويعلم هذه الصفة أيضاً بصفة أخرى لما ذكر من أن الصفة لاتعلم على انفرادها فلا يجب أن تعلم كل صفة بصفة، وفيه نظر فإنها وإن لم تعلم على انفرادها فالذات تعلم عليها فكان يلزم أن يعلم تعالى ذاته على هذه الصفة التي هي العالمية بصفة أخرى ويعلم كون ذاته على هذه الصفة بصفة أخرى وهلم جراً فلا فرق بين الموضعين.
إذا عرفت هذا فاعلم أن المشائخ مختلفون في تعدد هذه الصفة للباري تعالى واتحادها فذهب الشيخ أبو عبدالله إلى أن له تعالى بكونه عالماً صفات كثيرة متعددة بتعدد المعلومات مختلفة لتغاير متعلقاتها غير متناهية لعدم تناهي المعلومات. فيكون الجواب على مذهبه بتسليم أنه تعالى لابد أن يعلم كونه عالماً بهذا الشيء بصفة أخرى ويعلم هذه الصفة بصفة أخرى إلى ما لايتناهى وذهب جمهور المشائخ إلى أن له تعالى بكونه عالماً بجميع المعلومات صفة واحدة لها تعلقات كثيرة فهي تتعلق بأنه عالم بهذا الشيء وبأنه عالم بأنه عالم بهذا الشيء إلى ما لايتناهى من التعلقات وسيأتي بيان ما احتج به لصحة كل واحد من القولين وما يرد على القول بتعدد التعلقات مع اتحاد الصفة من الأشكال.
قوله: (إذا تعلق بمتعلقها على أخص ما يمكن).
يعني بأن يتحد المتعلق والوجه والطريقة والوقت على ما تقدم ودليل تماثل العلمين اللذين هذه صفتهما قد تقدم أيضاً في صدر الكتاب.
قوله: (ولاينقلب علينا في صفته تعالى).
يعني فيقال: يلزم أن يكون في حكم المماثلة لصفاتنا لمشاركتها لهن في أخص ما ينبي عن تماثل الصفات المتعلقة وهو التعلق على أخص ما يمكن لأنا نقول: إن ذلك لايقضي بتماثل الصفتين إلا إذا كان جنس المتعلق واحداً فإن ذلك من شرط التماثل وجنس المتعلق ههنا غير واحد فإن المتعلق في حقه تعالى ذاته والمتعلق في حقنا العلم وإذا كان كذلك فوجه التعلق غير متحد بل مختلف لأن تعلقه تعالى تعلق العالمين وتعلقنا تعلق العلوم ومعلوم أنه لابد من الاتفاق في وجه التعلق وأنه لايكفي إيجاد المتعلق ولهذا لو تعلقت الإرادة بمتعلق العلم على أخص ما يمكن لم يكن مماثلة له لما اختلف جنس المتعلقين ووجه تعلقهما.
قوله: (لأن دخول مالايتناهى في الوجود محال) الوجه في ذلك إنما حصره الوجود وأتى عليه صح دخول الزيادة والنقصان فيه، ولما دخلته الزيادة والنقصان فهو متناه.
فإن قيل: أليس الشيخ أبو عبدالله قد قال بثبوت صفات لاتتناهى للباري تعالى .... له؟
قلنا: فرق بين الصفة والذات فإنه لايقال في الصفة أنها مما دخل في الوجود وحصره وفيه نظر.
قوله: (لأن العلوم المتناهية إذا وزع عليها معلومات غير متناهية صار كل علم منها متعلقاً بما لانهاية له).
وزع بمعنى قسم وفرق والتوزيع القسمة والتفريق ذكره الجوهري.
لايقال: أن إلحاق المعلومات الغير المتناهية بعلوم كثيرة وإن كانت متناهية لاتقتضي ما ذكرتموه من تعلق كل علم بما لانهاية له لأن المعلومات وإن كانت جميعها على الجملة غير متناهية فلا يلزم أن يكون كل قسم منها ملحق بعلم من العلوم المتناهية غير متناه بل يصير ما ألحق بكل علم متناهياً وإلا لزم أنه لافرق بين جميعها وبين قسم من أقسامها مع كونها أقساماً كثيرة.
لأنا نقول: لو تناهى كل قسم من أقسامها المتناهية الملحقة بعلوم متناهية لزم أن يكون مجموعها أيضاً متناهياً لأن المتناهي إذا ضم إلى المتناهي لم يصر غير متناه فمع تسليم عدم تناهي المعلومات بمجموعها يلزم القول بعدم تناهي كل قسم من الأقسام الملحقة بالعلوم المتناهية إذ لو كان متناهياً لزم تناهيها على الجملة عند ضم بعضها إلى بعض ويرد على هذا الدليل سؤال، وهو أن عدم انحصار معلوماته تعالى مبني على أنه تعالى غير عالم بعلم ولاعلوم متناهية بل عالم لذاته وأنتم فلا الاستدلال على ذلك فكيف تستدلون على مذهب بما يتوقف ثبوته على صحة ذلك المذهب.
والجواب: أن كون معلومات تعالى غير متناهية مما يستلزم مخالفونا في هذه المسألة القائلون بأنه تعالى عالم يعلم فكانت الحجة مبنية على تسليمهم إلاَّ أن هذا يقتضي أن هذا الدليل غير قاطع وإنَّما هو إلزام مبني على تسليم الخصم ومذهبه.
قوله: (لايتعلق على جهة التفصيل إلاَّ بمعلوم واحد) يحترز عن تعلقه على سبيل الجملة فإنه يتعدى في التعلق إلى أكثر من معلوم واحد وإلى ما لايتناهى ولهذا يعلم ثواب أهل الجنة وعقاب أهل النار بعلمين لاغير مع أنهما غير متناهيين وهذا الذي ذكره مذهب الجمهور وقد خالف فيه أبو القاسم وقال: أنَّه يتعدى في التعلق على وجه التفصيل إلى أكثر من معلوم واحد وذهب إلى ذلك في كل معلومين لابد إذا علم أحدهما أن يعلم الآخر.
قوله: (لزم أن يكون مخالفاً لنفسه لحصوله على صفتين مختلفتين).
فيه سؤالات أربعة:
أحدها: ما تقدم في الصفة الأخص من أن الغيرية جزء حقيقة المخالفة فلا يلزم أن يكون مخالفاً لنفسه وإن حصل على صفتي مختلفيتين وهما العلماء اللذان تعلقا أو قدر تعلقهما بهذين المعلومين اللذين تعلق بهما.
وثانيها: أن يقال ما أنكرتم أن العلوم تنقسم فمنها ما لايتعلق على التفصيل إلاَّ بمتعلق واحد، ومنها ما يتعلق لذاته على التفصيل بأكثر من متعلق واحد، وإذا كان لذاته يتعلق بأكثر من معلومين لم يلزم حصوله على صفتي مختلفين.
وأجيب عن هذا أنَّه لو صح تعلق بعض العلوم بمعلومين لزم من ذلك ألا يصح العلم بأحدهما إلاَّ مع العلم بالآخر ومعلوم أنَّه مامن معلوم إلاَّ ويصح أن يعلم من دون غيره أن ما تقدم من لزوم مخالفته لنفسه باق.
وثالثها: المعارضة بالقدرة فإنها تتعلق بمقدورات متعددة ولايلزم أن تكون مخالفة لنفسها فهلا جاز مثل ذلك في العلم.
وأجيب بالفرق بين المسألتين لأن مقدورات كل قدرة مقصورة عليها ولايصح أن يتعلق بشيء منها قدرة أخرى تصير مخالفة لها لأجل تعلقها بهذا المقدور فلم تتعلق القدرة وإن كثرت متعلقاتها على التفصيل بمتعلقين يصح أن تتعلق بهما قدرتان مختلفتان ويكون قد حصلت بصفتهما لتعلقها بمجموع المقدورين فلذلك لم تكن مخالفة لنفسها وليس كذلك المعلومات فإنه مامن معلومين إلاَّ ويصح أن يتعلق بهما علمان كل واحد منهما بواحد من المعلومين ويختلفان لأجل تعلقهما بهما فإذا تعلق علم واحد بمجموع المعلومين لزم أن يكون مخالفاً لنفسه لأنَّه قد تعلق بما إذا تعلق به علمان اختلفا لأجل تعلقهما به فيكون بصفتهما. وهذا الجواب إنَّما يتأتى على قول المحيلين لمقدور بين قادرين، فأما من أجازه من الشيوخ فالمعارضة تأتيه في حقه إن كان يقول بتعلق القدرة الواحدة بمقدورات كثيرة.
وراعبها: ما أشار إليه المصنف بقوله ولاتنقلب علينا في تعلق ذات الباري، وتقريره أن يقال: أليس ذات الباري تعالى متعلقة بجميع المعلومات الغير المتناهية فيلزمكم من ذلك مخالفتها لنفسها ومصيرها بصفات مختلفين كما ألزمتمونا ذلك في علم الباري تعالى فما أجبتم به فهو جوابنا.
والجواب: بما ذكره من أن هذا التعلق ليس بأخص أحكامه فيكشف عما هو عليه في ذاته والحكم إنَّما يكشف عما عليه الذات إذا كان أخص أحكامها وههنا ما هو أخص من التعلق فيكشف عما عليه القديم في ذاته وهو اختصاصه بالصفات الواجبة الكاشفة عن الصفة الذاتية.
فإن قيل: إذا لزم ما ذكرتموه من أن يكون له تعالى علوم لاتتناهى بعدد معلوماته وكون علمه تعالى بصفات أشياء مختلفات فذلك لازم لكم في الصفة فيلزم أن يكون له تعالى بكونه عالماً بصفات لاتتناهى وإلاَّ لزم كون صفته بمنزلة صفات في حكم المختلفة.
قلنا: أام على مذهب الشيخ أبي عبدالله فلا يرد عليه هذا السؤال والإلزام لأنَّه يلتزم ذلك ويذهب إلى أن له تعالى بكونه علاماً صفات متعددة كتعدد معلوماته مختلفة لتغاير متعلقاتها ولايقال: ألستم قد قلتم لايصح التزام الخصم أن له تعالى علوماً غير متناهية متعددة بتعدد معلوماته لأن دخول ما لايتناهى في الوجود محال لحصول الفرق بين الذوات والصفات فإنه لايقال في الصفات إنها مما دخل في الوجود وأنه قد حصرها وفيه نظر لأنَّه لافرق بين الثابت والموجود في ذلك فيتأمل.
وأما على مذهب سائر المشائخ القائلين بأنه ليس للباري تعالى بكونه علماً بجميع المعلومات إلاَّ صفة واحدة فهو بأن يقال: إن تعلق العلم تعلق العلوم وتعلق صفة الباري تعالى تعلق العالمين ومعلوم أن العالم قد يكون عالماً بمعلومات كثيرة وتثبت له تعلقات كثيرة بها ولايقتضي ذلك تعدده ولا قصره بصفة أشياء مختلفات، فإذا ثبت اختلاف التعلق في حق صفته تعالى والعلم لم يقس تعلق الصفة على تعلق العلم، ولهذا فإن الشهوة تتعلق بالجنس أو لاضرب من الجنس وذواته متعددة ولم يلزم كون الشهوة مخالفة لنفسها وكذلك النفرة خلاف العلوم فإنها لاتتعلق بمتعلقات هذه الشهوة أو النفرة المعينة إلاَّ وكانت مختلفة ولايجوز في علم واحد أن يتعلق بمتعلق شهوة أو نفرة واحدة وكذلك القدرة وقد احتج الجمهور لصحة مذهبهم بأن الصفة في الشاهد إنَّما لزم ألا يتعدى المتعلق الواحد على التفصيل لما كان تعلقها تابعاً لتعلق ما يوجبها وهو العلم وتعلقه لايتعدى الواحد إلى ما زاد عليه، وأما صفته تعالى فتعلقها تابع لتعلقه وتعلقه تعلق العالمين إذ هو تعالى يستحقها لذاته لا لمعنى وتعلق العالمين لاينحصر ولايجب قصره على معلوم واحد ومعلومات متناهية بالاتفاق فإن الباري تعالى تعلقه بالمعلومات لاينحصر على كلي المذهبين وإذا كان تعلق الصفة تابعاً لتعلقه وجب أن يكون تعلقها على حسب تعلقه فيتعلق بما لايتناهى وأيضاً فلا تثبت له تعالى من الصفات إلاَّ ما دل عليه الفعل بنفسه أو بواسطة ولم تدل أفعاله تعالى على أزيد من صفة له بكونه عالماً وأيضاً فالاتفاق واقع على أنَّه ليس له تعالى بكونه قادراً إلاَّ صفة واحدة ومع ذلك تعلقت في الوقت الواحد من الجنس الواحد على الوجه الواحد بما لايتناهى مع أن ذلك غير ثابت في صفاتنا بكوننا قادرين فلو قسنا صفاته تعالى على صفاتنا للزم ألا يقدرت عالى في الوقت الواحد من الجنس الواحد على الوجه الواحد إلاَّ على مقدور واحد، أو نثبت له تعالى
في الوقت الواحد بكونه قادراً صفات لاتتناهى.
والذي يعول عليه في الاحتجاج لصحة مذهب الشيخ أبي عبدالله أنَّه لو كانت صفته القديم تعالى بكونه عالماً صفة واحدة لزم أن تكون مخالفة لنفسها لأنها قد حصلت على ما لو حصل عليه غيرها من الصفات لخالفها واعتذار من اعتذر عن ذلك وفرقه بين الشاهد والغائب بأن تعلق كوننا عالمين تعلق العلوم وتعلق صفته تعالى تعلق العالمين لا طائل تحته ولافائدة فيه لأن المرجع بتعلق العالمية إلى أنَّها شرط في صحة إيقاع معلومها محكماً تحقيقاً أو تقديراً وتعلق النسبة كون وسكون النفس تابعاً لها ولافرق في ذلك بين تعلق العالمية الَّتِي تؤثر فيها الذات والعالمية الَّتِي يؤثر فيها المعنى لأن هذا التعلق يثبت لكل واحد منهما.
وإذا صح ذلك كان قول من قال أن تعلق صفة القديم تعلق العالمين وتعلق صفاتنا تعلق العلوم غير مفيد.
قوله: (لتعدى إلى ما لانهاية له لعقد الحاضر).
اعلم أن الإمام يحيى عليه السلام قد جعل نحو هذا الاستدلال على عدم التعدي في التعلق من مسالك المتكلمين الفاسدة وأورد له مثالين:
أحدهما: احتجاجهم على أن العلم الحادث الواحد لايتعلق بأكثر من معلوم واحد بأنه لو تعلق بمعلومين لم يكن تعلقه بذلك أولى من تعلقه بثلاثة وأربعة فيلزم تعلقه بما لانهاية له إذ ليس عدد أولى من عدد وهو محال.
وثانيهما: أنهم ذكروا أن القدرة الواحدة في الجنس والوقت والمحل والوجه لاتتعلق إلاَّ بمقدور واحد إذ لو تعلقت بمقدورين للزم تعلقها بما لانهاية له من المقدورات إذ ليس عدد أولى من عدد.
قال عليه السلام: وهي طريقة ضعيفة لأن قولكم ليس عدد أولى من عدد إما أن تريدوا أنَّه ليس عند المثبت لذلك العدد المعين دليل يعلم به أن بعض تلك الأعداد أولى من بعض فهو حق لانزاع فيه ولكن لايلزم من عدم العلم بالمرجح عدم الترجيح، وإما أن تريدوا أنَّه لايمكن في العقل أن يكون أحد العددين ممتازاً عن الآخر بما لأجله يكون أولى من عدد آخر فهي دعوى لابد من تصحيحها بالدلائل فلم لايجوز أن يكون وجود الثاني حاصلا مع أن وجود الثالث يكون محالا وإن كنا لانعرف ما لأجله صح وجود الثاني وامتنع وجود الثالث، ولايقال الثالث مثل الثاني، فلو صح حصول الثاني وجب حصول الثالث لأنَّه لو كان حقاً لزم من وجوب الأول وجوب الثاني لكون الثاني مثل الأول، فإذا لم يلزم هذا لم يلزم ذلك.
ويوضحه أنَّه إذا جاز وجود علم خاصته التعلق بمعلوم واحد على التعيين جاز أيضاً بمعلومين فقط، وصريح العقل لايستبعد ذلك وأيضاً فإن العالم يصح بعدم واحد أنَّه على الوقت الذي أحدث فيه بوقت أو وقتين وبثلاثة ولايصح بأوقات لانهاية لها.
قوله: (فقد تعلق هذا العلم على التفصيل بأكثر من متعلق واحد).
ذكر مثل هذا الكلام الإمام يحيى في تضعيفه لتلك الطريقة فإنه قال: ألا ترى أن العلم المتعلق بمضادة السواد للبياض متعلق بالسواد والبياض فقد وجدنا علماً متعلقاً بمعلومين مع أنَّه لايجب أن يتعلق بجميع المعلومات.
قوله: (بل هي علوم).
يعني أنَّها علم بالسواد وعلم بالبياض وعلم بالتضاد الواقع بينهما.
قوله: (وأما العلم بالمتضايقين) إلى آخره.
هذا جواب عن سؤال مقدر تقريره: أن العلم بأن هذا أب لهذا قد تعلق بالأب والابن وبأن أحدهما أب للآخر والآخر ابن له فقد تعدى في التعلق عن المعلوم الواحد.
وتقرير الجواب: أن العلم بأن هذا أب لغيره لم يتعلق إلاَّ بمعلوم واحد كما ذكره في كونه خلق من مائه ومعنى كونه ابناً له في اللغة فأما العلم بالأب نفسه والابن وكونه ابناً له فهي علوم أخر على مثل ما تقدم في العلم بالتاضد بين السواد والبياض.
قوله: (لكان لابد أن تكون واحدة).
يعني لاستحالة وجود قدر لانهاية لها تتعلق بالمقدورات الَّتِي لانهاية لها لما تقدم في العلم من أن وجود ما لانهاية له محال.
قوله: (كما تقدم في العلم).
يعني من أنَّها قد تعلقت بما لو تعلقت به قدرتان لكانتا مختلفتين لأجل ذلك التعلق فيلزم أن تكون مخالفة لنفسها وفيه نظر لأن لهم أن يقولوا ألستم قد ذكرتم أن قدرة الواحد منا تتعلق بما لانهاية له من المتعلقات في الوقت الواحد وفي الأوقات ولم يلزم من ذلك أن تكون مخالفة لنفسها لأنَّه لايجوز أن يتعلق غيرها من القدر بمقدوراتها، فكذلك نقوله نحن في قدرته تعالى إذ لايجوز أن يتعلق غيرها من القدر بشيء من مقدوراتها لاستحالة مقدور بين قادرين فلا يلزم أن تكون مخالفة لنفسها فكان الولى أن يقال: لو كان تعالى قادراً بقدرة ومعلوم أنه تعالى يصح منه أن يوجد في الوقت الواحد على الوجه الواحد من الجنس الواحد من المقدورات ما لايتناهى فأما أن يصح منه ذلك لقدر لاتتناهى وهو محال لما تقدم فيا لعلم، وأما أن يصح منه ذلك بقدرة واحدة أو قدر متناهية فيؤدي إلى خروج القدر عن حكمها الخاص لها وهو أنه لايصح بها والوقت والجنس والمحل والوجه واحد، إلاَّ مقدور واحد ولايصح أكثر من ذلك، وهو محال، ولايلزم أن تصح منا بقدرنا مع الشروط المعتبرة ما لايتناهى من المقدورات فيصح منا ممانعة القديم تعالى، أو يلزم ألا يصح من القديم تعالى إلاَّ مقدور واحد مع الشروط المعتبرة، وهو أيضاً محال فإنه لاخلاف في أنَّه تعالى يقدر مع اجتماع الشروط على ما لايتناهى من المقدورات.
قوله: (ويلزم أن تنحصر مقدوراتها).
يعني في الجنس فلا يصح منه تعالى فعل غير الأجناس العشرة وفي العدد على ما تقدم آنفاً.
قوله: (وألا تتعلق بالأجسام ونحوها).
يعني بنحوها سائر الأجناس الثلاثة عشر وهي ما عدا الأجناس العشرة الَّتِي نقدر عليها.
قوله: (لما سيتضح).
يعني في مسألة نفي التجسيم وستأتي إن شاء الله تعالى.
قوله: (إلا بعد استعمال محلها المراد باشتراط الاستعمال في حقا لقدرة أنَّه لايصح الفعل بها إلاَّ بحيث يوجد أو سببه في محلها بعد حلولها في الحي القادر بها ولايتوهم أن المراد باستعمال محلها حركته لأنا قد نفعل بالقدرة من غير تحريك محلها كالسكون المبتدأ وأفعال القلوب.
قوله: (لأن الحياة لايصح الإدراك بها إلاَّ بعد استعمال محلها).
حاصل مرادهم باستعمال الحياة في الإدراك أنَّه لاشيء يدرك بها من المدركات إلاَّ إذا حل المدرك في محلها كالألم أو جاوز محلها كالمتحيز الملموس أو جاوز محله محلها كالحرارة والبرودة والطعوم والروائح هكذا ذكره بعضهم، وفيه نظر لانه يخرج منه استعمال محلها في لامرئيات والأصوات ومعنى استعمال محلها في المرئيات حصول قاعدة الشعاع المنفصل عن الحاسة الَّتِي هيم حلها مع المرئي بحيث لاسائر ولامايجري مجراه، وأما الأصوات فلا يحتاج في غدراكها إلى أكثر من صحة الحاصة وهي الأذن الَّتِي هيم حلها وانفتاح الصماخ بينه وبين محل الصوت فهذا معنى استعمالها في إدراك الأصوات.
إذا عرفت هذا فتلخيص هذا الوجه أن يقال: لو كان تعالىحياً بحياة وقادراً بقدرة لم يخل إما أن يصح منه الإدراك والفعل بتلك الحياة والقدرة أو لا يصح، إن لم يصح بطل حكمهما الواجب لهما عند وجودهما وهو صحة الإدراك وصحة الفعل وأحكام الذوات الَّتِي يجب لها إلاَّ يصح انفكاكها عنها في حال وجودها، وإن صح افدراك والفعل بهما من غير استعمالم حلهما خرجتا عن حكمهما الذي قامت الدلالة على ثبوتهما به، ولو صح ذلك لم يكن إدراك بعض المدركات بالحياة الَّتِي في العين مثلاً أولى من بعض ولا بأن يصح فعل بالقدرة فعل بعض الأجناس والأفعال دون بعض أولى من العكس لعدم المخصص وهو محال فتقرر أنه لايجوز أن يكون تعالى حياً بحياة ولاقادر بقدرة.
فإن قيل: لم لم تسلك هذه الطريقة في الاستدلال على أنَّه تعالى ليس بعالم بعلم؟
قلنا: لأنَّه لايعتبر في العلم أنه لايصح الأحكام به إلاَّ بعد استعمال محله في الفعل المحكم لأن العلم محله القلب ونحن لانفعل الأفعال المحكمة ولاسببها في القلب فليس محلاً لشيء من الأفعال المحكمة ولا لشيء من أسبابها.
فصل في ذكر بعض ما يلزم أهل هذه المقالة
وهم القائلون بالمعاني القديمة من المحالات.
قوله: (يوضحه أن التثليث الحقيقي إنَّما هو في العدد لا في الصفات).
فيه نظر لأنَّه ليس بإيضحا فجعل النصارى بعض الأقانيم الثلاثة صفات بل هو إيضاح لجعلهم إياها ذواتاً مستقلة.
قوله: (ولم يقل ثلاثة آلهة) يعني فدل هذا على أنهم لايقولون بأنه تعالى ثالث ثلاثة آلهة إذ لو قالوا ذلك لذكره تعالى، ولكن يقال ليس في الآية ما يدل على أنهم لايقولون بذلك وإنَّما فيها إغفال ذكر الآلهة فلا يدل على أنهم يجعلون الثلاثة آلهة ولا على أنهم لايجعلونها آلهة ولكن صريح دلالتها أنهم جعلوه تعالى ثالث ثلاثة فقط ويدل أيضاً على أنهم يجعلون الثلاثة ذوات لاصفات إذ لايدخلها العدد كما ذكره.
قوله: (وأما قوله تعالى: {وما من إله إلاَّ اله واحد}) أورد هذا لئلا يقال: إن قوله تعالى في الرد عليهم: {وما من إله إلاَّ إله واحد} يدل على أنهم أثبتوا ثلاثة آلهة فجعله المصنف على جهة الإلزام كما ذكر ليصح له إن كفرهم لأجل إثباتهم القدماء لا لأمر سوى ذلك، وإذا كان كذلك فالمجبرة مشاركون لهم في اثنائها بدليل قول الأشعري فيما حكاه الفقيه أبو القاسم البستي رحمه الله من أصحاب السيد المؤيد بالله عليه السلام عنه أنَّه إنَّما كفرهم لأنهم نقضوا عن الواجب، يعني وهو أن يجعلوها شبه الباري تعالى والقدرة والعلم والحياة والإدراك والإرادة.
قوله: (لأنهم لم يشركوا بين الاثنين إلاَّ في القدم).
فيه نظر فإن المانوية جعلت النور والظلمة قادرين عالمين والديصانية وإن جعلت الظلمة عاجزة جاهلة مواتاً ولم يشركوا بينها وبين النور إلاَّ في القدم فيمكن أن يوجه تكفيرهم بجعلهم للقديم تعالى نوراً وقولهم إنَّه لايقدر على بعض الأفعال بل لايقدر على شيء منها فإنهم وإن جعلوه فاعلاً للخير فهو يطيعه مع التشريك في القدم وبالجملة فهذا الإلزام غيرم تقرر.
قوله: (فإنه لاوجه لكفر جميع هؤلاء إلاَّ التشريك في القدم).
فيه نظر أما الثنوية فوجه كفرهم ما تقدم ذكره مع التشريك في القدم، وأما الفلاسفة فكفروا لإنكارهم الصانع المختار وجعلهم التأثير للعقل العاشر لا للباري تعالى الذي هو العلة عندهم ونحو ذلك من جهالاتهم الموجبة لكفرهم الَّتِي يتنزه عن القول بها المجبرة والتشرك في القدم وإن كان من موجبات كفرهم فليسك ما ذكره من أنه لاوجه لكفرهم إلاَّ هو.
قوله: (إنما يستحيل مقدور بين قادرين إذا صح أن يريده أحدهما دون الآخر).
يعني إنَّما يؤدي مقدور بين قادرين إلى المحال حيث صح أن يريد أحدهما ما يكرهه الآخر وإلاَّ فهو ممنوع بكل وجه.
قوله: (مع القول بالقدرة والإرادات القديمة).
كان الأولى أن يقول: وقد بينا استحالة ذلك وهو أن يريده أحدهما دون الآخر مع القول بالإرادات القديمة ووجوب تعلقها بكل واقع وعدم تعلقها بغير الواقع كما هو مذهبهم وكان الأحسم للشعب أن يقول: كيف تجعلون دليل نفي الثاني استحالة مقدور بين قادرين وأنتم تقولون بصحة ذلك لكنه أراد أن يجعل الإلزام كله متوجهاً إلى مذهبهم في هذه المسألة.
قوله: (فما طريقهم إلى نفي الثاني العاجز الجاهل).
يعني فإنه لايصح أن يجعل الدليل على نفيه دلالة التمانع ولادلالة مقدور بين قادرين إذ ليس بقادر فلم يبق ما يدلنا على نفيه إلاَّ أنَّه لاقديم مع الله تعالى ودلالة السمع على ذلك وإذا كانت المجبرة قد أثبتت قدماً مع الله تعالى فكيف يتأتى لهم بهذا الدليل التطرق إلى نفي الثاني.
قوله: (ولابد من بلى).
أي ولابد لهم من الاعتراف بانعقاد الإجماع على ألا قديم مع الله تعالى لظهور الإجماع على ذلك.
قوله: (يقتضي المشاركة في الإلهية) يعني حيث أوضح أن لامعاني لو كانت قديمة لكانت قادرة عالمة حية كالقديم تعالى وذلك معنى للإلهية إذ الإله القادر على أصول النعم الَّتِي لأجلها يحق له العبادة.
فصل في إبطال قولهم لا هي الله ولا هي غيره ولابعضه
قوله: (ليس أحدهما هو الآخر).
يعني كالجوهرين والحركتين والجوهر والسواد ونحو ذلك. فإذا قيل في الله تعالى أنَّه الله والرحمن والرحيم ونحو ذلك فهذه الألفاظ لايكون المسمى بها متغايراً لأن معنى كل واحد منها ومسماه معنى الآخر ومسماه.
قوله: (ولابعضه) يعني كأعضاء افنسان مثلاً فإن يده ليست غيره لما كانت بعضاً منه.
قوله: (ولايصح وجود أحدهما مع عدم الآخر اتفاقاص).
يقال: أما على الجملة فمسلم فإنه لاكلام في استحالة خلو الجوهر عن الأكوان لكن لهم أن يقولوا ما من كون معين إلاَّ ويجوز وجود الجسم من دونه فيكونان غيرين.
قوله: (فلا وجه لتخصيص صفة الوجود بذلك).
يعني فهلا قالوا مثلاً يصح أني كون أحدهما قادراً دون الآخر أو عالماً أو نحو ذلك لكن لهم أن يقولوا إنَّما خصصنا صفة الوجود لأنها تثبت لكل ذات وتصح عليها وهي صفة متماثلة ولو قلنا يصح أن تقدر أحدهما من دون الآخر أو نحو ذلك لم يكن ذلك إلاَّ في حق بعض الذوات وهو الذي يصح عليه القادرية ولايدخل فيه كل ذاتين لايصح أن يقدرا وكذلك غير القادرية من الصفات.
قوله: (فقد عاد الأمر إلى ما قلناه).
يقال لهم: إن تقلبوا ذلك عليكم فيقولوا وما من شيئين ليس أحدهما هو الآخر ولابعضه إلاَّ ويصح وجود أحدهما من دون الآخر وما ذكرته من النقض بمن يعتقد قدم الجسام لامعنى له لأنَّه لم يعتقد أنَّه لايجوز وجود شيء منها دون الآخر لمر يرجع إليها بل لأنها قديمة فلو صح وجود بعضها دون بعض لكان بعضها غير قديم ثُمَّ أنَّه لاغيره باعتقاد ذلك المعتقد، وأما نقضه بالكون والجسم بعد تقدم الإشكال عليه.
إذا عرفت هذا فاعلم أن مراد المجبرة بهذه الحقيقة ألا يلزم كون هذه المعاني أغياراً لله تعالى حتَّى تكون إما مخالفة له أو مماثلة إذ المخالفة والمماثلة يترتبان على الغيرية فإذا أتوا بهذه الحقيقة للغيرين فهي غير حاصلة في حقه تعالى، وفي حقا لمعاني فإنه لايصح عندهم وجوده تعالى من دونها ولاوجودها من دونه فإن كان مرادهم أنَّه لايصح وجوده من دونها ولاوجودها من دونه للاشتراك في القدم لزمهم ما ذكره المصنف من أن من اعتقد قدم الجسام وجب أن يعتقد ارتفاع التغاير بينها إذ لايصح وجود بعضها من دون بعض لذلك، وقد أبطل حدهم هذا بأنهم إنَّما أتوا به لدفع الإلزام وهو أنَّها إذاكانت ذوات كانت أغياراً له وإذا كانت أغياراً له لزم مماثلتها له إذ هي قديمة والقدم صفة ذاتية والاشتراك في الصفة الذاتية توجب التماثل.
قوله: (وهذا خطل من القول).
الخطل: المنطق الفاسد المضطرب.
قوله: (كما هي كذلك في الشاهد).
يعني فيبطل ما يقولونه من أنه ليس بعضها غير البعض فإنها في الشاهد متغايرة وإنَّما أنكروا تغايرها فيما بينها لأنَّه يلزمهم عليه مغايرتها للقديم ولأنه تناقض حدهم للغيرين إذ لايجوز وجود بعضها من دون بعض عندهم.
فإن قيل: ألستم تقولون في صفاته تعالى لاهي الله ولاهي غيره ولم يكن ذلك مناقضة منكم فهلا صح لهم أن يقولوا ذلك في المعاني ولاتكون تلك مناقضة منهم؟
قلنا: إن الصفات الَّتِي نثبتها له تعالى ليست بذوات ولا أشياء ولامعلومة والغيرية متفرعة على ذلك فلهذا لم تكن الصفات هي الله تعالى لأنها مزايا لذاته ثابتة له تعلم ذاته تعالى عليها ولا هي غيره إذ ليست بذوات ولا أشياء ولامعلومة ولابد في الأغيار من أن تكون ذواتاً ألا ترى أن حقيقة الغيرين كل معلومين إلى آخرها بخلاف المعاني فإنها ذوات وأشياء ومعلومة كما هي كذلك في الشاهد وهم معترفون بذلك فلا بد من اتصافها بوصفا لمعلومات وهي الغيرية.
فصل في إبطال قولهم: بأنها قائمة بذات الله تعالى
قوله: (إلى ما هو المعقول من القيام وهو الحلول).
يعني المعقول في هذا الموضع فإن القيام وإن كانت له معان كثيرة معقولة فإنه لايعقل منها ههنا إلاَّ الحلول وإنَّما ذهبت الكرامية إلى ذلك بناء منهم على مذهبهم الفاسد وهو القول بأنه تعالى جسم ولو ثبت لهم ذلك لكان ما ذكروه صحيحاً لكن سيتضح بطلانه إن شاء الله تعالى.
قوله: (كالإرادة والكلام عندهم).
يقال: ألست قد ذكرت أن الكرامية يذهبون إلى أن كلامه تعالى الذي هو القرآن قديم ويجاب بأنه قد روي عنهم بعض أصحابنا القول بأن جميع ما يحدث في العالم من حركة وسكون وألم وصوت وسائر المحدثات تحدث أمثالها أولا في ذات القديم تعالى وتسمى حينئذ حوادث ثُمَّ تحدث منها هذه الأشياء في العالم وتسمى محدثات فجعلوا القديم محلاً لكل حادث فلعل مراد المصنف الإرادة والكلام على سبيل الإطلاق لاكلامه تعالى وإرادته.
قوله: (وهذا لازم للكلابية والأشعرية).
فيه نظر لنه لايلزمهم مع نفي التجسيم ولهم أن يفرقوا بين القديم والمحدث بأن المحدث متحيز فيصح حلول المعاني فيه وقيامها به فهذا المعنى، والقديم غير متحيز فلا يصح قيام المعاني به بمعنى الحلول لكنه يلزمهم من حيث أنه لايتعقل ههنا من القيام إلاَّ الحلول.
قوله: (قيام بمعنى الحلول).
منه قولهم: الكون قائم بالجسم أي حال فيه.
قوله: (وقيام بمعنى الانتصاب) منه قولهم: زيد قائم والجدار قائم أي منتصب.
قوله: (ولايعقل من القيام غير ذلك).
قد قيل: إن من معاني القيام قيام بمعنى الظهور ومنه قولهم قام الحق أي ظهر وقيام بمعنى الإدامة ومنه قوله تعالى: {الذين يقيمون الصلاة} أي يديمونها. وقوله بعضهم:
أقمنا لأهل العراق الضراب فحاموا ... قليلاً وولوا جميعاً
وقيام بمعنى الأداء كقولهم: قام فلان بوفاء ما يجب عليه من الدين أي أداه، وفي عد الإدامة من معاني القيام نظر، فإنها بمعنى الإقامة لا القيام.
قوله: (ولايشتبه الحال في شيء منها) الوجه في ذلك أنَّه تعالى ليس بمحل إذ ليس بمتحيز ولايصح في المعاني الانتصاب لأنَّه من توابع الجسمية وهي قديمة عندهم ولايحتاج في وجودها إلى غيرها إذا كانت قديمة ولايتصور في قيامها معنى الحفظ والتكفل والتحمل والحياطة والتعهد والأداء فيبطل ما قالوه من أنَّها قديمة بذاته تعالى على كل معنى من معاني القيام.
فصل في شبههم في إثبات المعاني
قوله: (قلنا أولى ما في هذا أنه يوصل بالعبارات إلى المعاني).
فيه سؤال وهو أني قال: إن الحدود عبارات موسومة للكشف عن معنى المحدود فكيف منعت من التوصل بالعبارات إلى المعاني؟
والجواب: أنَّه وإن كان كذلك فإنا لانثبت بلفظ الحد معنى المحدود ولانستدل به عليه لكن إذا عرفنا معناه وضعنا له عبارة تكشف عن ذلك المعنى لمن جهله بخلاف ما ذكروه فإنهم قصدوا بالعبارة وتوصلوا بها إلى إثبات المعنى الذي يذهب إليه المتكلمون ولايفعله الواضعون للعبارة.
قوله: (يوضحه أنَّه لابد أن يمكن الاستدلال على هذا المعنى قيل مواضعة أهل اللغة وقيل اشتقاقاتهم).
يعني وإلاَّ كان في تلك الحال لا فرق بين وجوده وعده وانتفائه ولايجوز في ذات أن تكون هذه سبيلها وإذا كان لابد من إمكان معرفته قبل مواضعتهم فبأي شيء كما نعرفه إذا لم يكن الطريق عندم إلاَّ اشتقاق أهل اللغة إلاَّ أنَّه يقال: هذا عكس الدلالة والدلة لايجب فيها العكس فليس يجب إذا كان هذا دليلاً على ثبوت العلم إلاَّ يدل إلاَّ هو لكنه يقال فما ذلك الدليل الذي كان يدلكم قبل اشتقاقهم.
قوله: (فلا نسلم كون العالم مشتقاً من العلم الذي يريدونه).
يعني بل الشتقاق من مجرد اللفظ الذي وضعه أهل اللغة وهو المصدر.
قوله: (فلم قلتم أنه إذا صدق المشتق صدق المشتق منه) يعني فإنه لايلزم صدق المشتق منه أي ثبوته معنى وذاتاً لها وجود وحصول في الخارج.
قوله: (والرزق إن ثبت معنى) يعني على قود قولكم في العلم.
قوله: (يزيده وضوحاً أنا اتفقنا) إلى آخره. في نظر فإنهم لايوافقون فيما ذكره بل قد نص علماؤهم على أنه لايشتق اسم الفاعل لشيء والفعل قائم بغيره ويقولون إذا وصفناه تعالى بأنه متكلم فإنما اشتققنا له ذلك من المعنى القائم به لامن الكلام الموجود في الحصى ونحوه.
قوله: (وكذلك الموجود في الشاهد من له الوجود) هذه معارضة لهم تتضمن الزام كون الموجود معنى وفيه نظر لنهم يقولون مسلم أن الموجود في الشاهد من له الوجود فكذلك في الغائب لكن الوجود صفة في الشاهد والغائب وليس يلزم إذا كان العلم معنى أن يكون الوجود معنى وبالجملة فالموجود في الشاهد من له الوجود وهو صفة وكذلك في الغائب والعالم في الشاهد من له العلم، وهو معنى فكذلك في الغائب.
قوله: (وهذا محض الإحالة) يعني حيث حدوا العلم بما قام بالعالم والعالم بمن له العلم فأحالوا بكل واحد من المجهولين وهما العلم والعالم إلى الآخر.
قوله: (وهو مناقضة) يعني يؤدي إلى المناقضة وهو أن تكون العلة هي المعلول مع أن العلة غير المعلول، وذلك لأن الشيء لايجد حداً حقيقياً بغيره وإنَّما يحد بذتياته فإذا حدوا العالم بالعلم اقتضى أن العلم من ذاتيات العالم وأنه ليس بغير للعالم مع أنَّه علة في كونه عالماص، ومن حقالعلة أن تكون غيراً للمعلول.
قوله: (أن يعلم العلم جملة وتفصيلاً) يعني لأن من حق من علم المحدود أن يعلم الحد فإذا كان العالم من له العلم لزم فيمن علم العالم أن يعلم العلم جملة بأن يعلمه ويعلم قيامه به وتفصيلاً بأن يعلم أنه إنَّما كان عالماً لقيام العلم به وأنه ذات لاصفة وقد ألزم أصحابنا أبا علي قريباً من هذا لما ذهب إلى نفي الأحوال وجعل العلم بأن هذا عالم علماً بالعلم الحاصل له لكن فيما ذكره المصنف نظر لأن العلم بالمحدود جملة لايستلزم العلم بالحداد هو علم بالمحدود تفصيلاً.
قوله: (كقولنا أسود).
يعني فإن الوصف الذي هو قولنا أسود لما كان السواد حقيقة فيه فإنك تقول في حقيقة الأسود هو من حل فيه سواد لزم من اشتراك الجوهرين في كونهما أسودين اشتراكهما في ثبوت السواد لهما وحلوله فيهما، وفيه نظر لأنَّه ليس للأسود بكونه أسود صفة يؤثر فيها السواد وقد ضربه مثلاً للصفة الَّتِي يجب من الاشتراك فيها الاشتراك في المؤثر فيها فكان الأولى أني قتصر في المثال على كونه مدركاً فإن كونه حياً حقيقة فيها فيجب من الاشتراك في المدركية الاشتراك في الحيية والحيية وإن لم تكن مؤثرة في المدركية حقيقة فهي مقتضية لها، ولامقتضي يجري مجرى المؤثر، والمثال الأول ذكره قاضي القضاة على وجه التقريب وذكر الفقيه قاسم هذا المثال الاخر وهو المدركية لما في مثال القاضي من عدم المطابقة ولكن يقال: ومن أين أن كونه حياً حقيقة في كونه مدركاً.
وحاصل ما ذكره قاضي القضاة أن الاشتراك في مجرد الصفة لايقتضي الاشتراك في المؤثر فيها إلاَّ عند أمور ثلاثة:
أحدها: أن يكون المؤثر حقيقة في لاصفة ومثاله ما تقدم.
الثاني: أن تكون تلك الصفة مقتضاة عن المؤثر ومثاله كون المدرك مدركاً مع كونه حياً فالاشتراك في كونه مدركاً يوجب الاشتراك في كونه حياً هذا ما ذكره بعضهم وذكر الفقيه قاسم أن الثاني هو أن يكون مجرد الصفة يقتضي المؤثر فيها، ومثله بالحدوث فإنه بمجرده يدل على المؤثر فيه وهو المحدث، ومراده بقوله يقتضي المؤثر فيها اقتضاء دلالة هذا معنى ما ذكره.
الثالث: أن يكون ما دل على الصفة دل على المؤثر فيها وهذا الثالث عسير المثال ولايمكن تمثيله. قال الفقيه قاسم: إلاَّ أن يجعل مثاله الأسود والسواد وفيه ما تقدم من أنَّه على وجه التقريب فإذا لم يكن أحد هذه الوجوه حاصلاً لم يلزم من الاشتراك في الصفة الاشتراك في المؤثر فيها كالوجود في حقه تعالى وفي حقنا فإنه موجود لذاته ونحن موجودون بالفاعل وكالمنافاة بين الألوان فإنها تثبت لوجوه مختلفة مع اتحاد الحكم، ولو كانت الصفة الثابتة لنا لمؤثر إذا ثبتت له تعالى كان المؤثر فيها ما أثر في صفتنا لزم أن يكون وجوده تعالى بالفاعل كوجودنا.
قوله: (أو كانت الصفة تدل على المؤثر كالحدوث).
يعني تدل بمجردها من دون نظر إلى كيفيتها فإن الحدوث يدل على المحدث الذي أثر فيه بمجرده.
قوله: (ونحن نعلل صحة بقاء الباقي بما هو عليه).
يعني من صفته المقتضاة فإن صحة بقائه من أحكامها وفيه نظر لأن الباقلاني ألزم تعليل البقاء لا تعليل صحته فرد الكلام إلى الصحة غير مطابق فالأولى أن يقال للباقلاني في الجواب لانسلم أن الباقي نفي مع جواز ألا يبقى بل مع وجوب أن يبقى فإن الباقيات لايجوز ألا تبقى وإن جاز أن يطرأ عليها ضد فينفيها في الوقت الثاني.
قوله: (وقريب من هذه الشبهة) إلى آخره.
تحرير هذه الشبهة الَّتِي أشار إليها أن يقال: إن علمنا بكونه تعالى عالماً إما أن يكون علماً بذاته فيلزم فيمن لم يعلمه عالماً ألا يعلم ذاته أو علماً بذاته على حال فيلزم فيمن لم يعلمه عالماً ألا يعلم ذاته، ولاالحال أو فيمن علم أنه ليس بعالم تقديراً أن يعلم ألا ذات ولا حال أو علماً بالعلم وهو المطلوب وإنَّما كانت هذه الشبهة قريبة من الولى لأنَّه لافرق بينهما إلاَّ من حيث أن هذه مصورة في العلم بكونه عالماً وتلك في الخبر عنه وهو قول أهل اللغة فلان عالم.
ويجاب عن هذه أيضاً بأنه ليس يلزم إذا كان علمنا بأنه عالم علماً بذاته على حال أن يكون عدم علمنا بكونه عالماً عدم علم بذاته وبالحال بل عدم علم بثبوت الحال للذات.
قوله: (والجواب أما أبو عبدالله) إلى آخره.
اعلم أن أبا عبدالله بنى جوابه على مذهب له لايوافقه فيه سائر الشيوخ فلهذا أجابوا بغير جوابه، وذلك أنهم جميعاً متفقون على أن الأمر لايصح إلاَّ مع إرادة المأمور به فإذا أمرنا زيداً بأن يعلم فلا بد من إرادتنا لما أمرناه به، ومذهب الشيوخ غير أبي عبدالله أن الإرادة لاتتعلق إلاَّ بالإحداث دون ما يتجدد من الصفات فالإرادة لاتتعلق به فلو جعلوا الأمر أمراً بتجديد الصفة كما ذكره الشيخ أبو عبدالله لزمهم أن يكون تجديد الصفة هو المراد والإرادة عندهم لاتتعلق بذلك فلهذا عدلوا عن جواب أبي عبدالله إلى الجواب الآخر، وكان من مذهب أبي عبدالله أن الإرادة تتعلق بما يتجدد من الصفات كما تتعلق بالأحداث، وإذا كان تجديد الصفات مما يتعلق بالإرادة ويصح تعلقها به صح أن يؤمر به ويكون الأمر به أمرا لإرادة المأمور به وهو تجديد الصفة وجواب سائر المشائخ يصلح أن يكون جواباً له وجواب أبي عبدالله لايكون جواباً إلاَّ عنه إذ لايتأتى إلاَّ على مذهبه.
قوله: (كما في سائر الأفعال).
يعني على مذهبهم فإن عندهم أن جميع الأفعال المتعلقة بنا لانقدر على إحداثها ولا هو بمتعلق بنا مع قدرتنا على الاكتساب وتعلقه بنا ولكنهم لايقولون بصحة الاكتساب إلاَّ حال الحدوث ولايحكمون بقدرتنا على اكتساب الذات إلاَّ في تلك الحال فكيف يأتي على مذهبهم أن يصح منا اكتساب لذات على حال حتَّى نؤمر بالعلم بها مع أنَّها في تلك الحال باقية غير حادثة.
قوله: (ولم تكن متجددة) يحترز به عن المقتضاة من صفات المحدثات كالتحيز فإنها وإن كانت صفة حاصلة مع الوجوب إذ هي مقتضاة فهي محتاجة إلى التعليل لما كانت متجددة بعد أن لم تكن إذ لو لم تثبت لأمر لم يكن بالثبوت أولى من عدمه بل كان يلزم أن تثبت في الزل كالذاتية لعدم التوقف على مؤثر وشرط في تأثيره متجدد وفيما ذكره نظر فإن صفات الباري تعالى المقتضاة ما خلا كونه مدركاً حصلت مع الوجوب من غير تجدد واحتاجت إلى أمر تعلل به على مذهبه. ومذهب سائر البهاشمة.
قوله: (وتوابعها). أراد بتوابعها الصفات والأحكام المقتضاة عنها.
قوله: (في حكاية شبهتهم العلم علة لهذه الصفة). يعنون العالمية وقولهم كما أنَّها لما حصلت يعنون أيضاً العالمية وقولهم دل ذلك على أن الشهوة ليست علة فيها يعنون فلو حصلت في موضع من دون العلم دل ذلك أيضا على أنه ليس بعلمه فيها أصلاً.
قوله: (إنما تعلل الصفة بأمر منفصل إذا حصلت مع الجواز أو تجددت بعد أن لم تكن).
فيه سؤال وهو أن يقال: ما تريد بقولكم بأمر منفصل هل تريد من فاعل أو علة فليس تجدد الصفة بعد أن لم تكن يقتضي تعليلها بفاعل أو علة مالم يكن تجددها مع الجواز أو تريد من فاعل أو علة أو مقتضى فذلك غير مستقيم من وجهين أحدهما أن المقتضي ليس بأمر منفصل عن الذات المستحقة للصفة بل هو أمر ثابت لها.
وثانيهما: أنا نريد ما تعلل بالمقتضي وإن لم يكن متجدداً ولاجائزاً وهو صفات الباري تعالى المقتضاة غير المدركية فكان الولى أن يحذف قوله: بأمر منفصل؛ لأنه يريد نفي أن تعلل كل صفة على الجملة سواء كان بأمر منفصل أو بأمر غير منفصل أو يقتصر على قوله إلاَّ إذا حصلت مع الجواز.
قوله: (لأن العكس لايجب عندنا في العلل).
الذي يقوله أصحابنا في العل الموجبة أنَّه يجب فيها الطرد وهو أنَّه متى حصلت العلة حصل المعلول فإذا حصل العلم مثلاً حصلت العالمية إذ لايجوز وجود العلة غير موجبة ولايوجبون العكس وهو أنَّه متى حصل المعلول على الجملة لا المعلول المعين حصلت العلة إلاَّ إذا حصل المعلول على الوجه الذي لأجله يجب صدوره عن العلة وهو حصوله مع الجواز والحال واحدة والشرط واحد، فإنه يجب فيه العكس فإذا حصلت العالمية مع الجواز والحال واحدة والشرط واحد وجب فيها وفي العلم الطرد والعكس فأما حيث تحصل مجرد الصفة من دون حصولها على هذه الكيفية فالطرد والعكس فيها غير واجبتين، وإذا سبب قلت في جواب الشبهة مسلم حصول الطرد والعكس في العالمية والعلم لكن بشرط حصول العالمية على الكيفية الَّتِي تستدعي إيجاب العلم لها.
واعلم أنَّه لاخلاف في وجوب الطرد والعكس في الحدود وفي أنَّه لايجب العكس في الأدلة فإنه قد يدل على لاشيء الواحد دليلان وأكثر وكذلك العلل الكاشفة لأنها من الأدلة.
قوله: (وإن لم تكن عللاً حقيقية). أما ما قيل به من فساد الصلاة فالأمر في أن الحدث غير علة فيه واضح إذ لم يحصل فيه حقيقة العلة ولكن شابه العلة من حيث أن فساد الصلاة يقع عنده بكل حال كما أن المعلول يقع عند العلة بكل حال، وكذلك انتفاء السواد بالبياض لأنَّه لا ذات هاهنا توجب صفة وقد جعل أصحابنا طرو البياض شرطاً في انتفاء السواد لا علة لأنَّه لو كان علة للزم ألا يوجد إلاَّ موجباً لانتفاء السواد ومعلوم أنَّه إذا لم يصادف في محله سواداً فلا نفي فجعلوه شرطاً وفرقوا بينه وبين سائر الشروط من وجه وهو أن الشروط لاتوجب ما هو مشروط بها ووجود البياض موجب لانتفاء السواد.
إذا عرفت هذا فيقال له إذا لم تكن عللاً حقيقية فالقياس عليها لايتأتى ولايكون حجة على الخصم.
قوله: (وكان الدليل على ثبوت الحركة شاملاً لكل متحيز).
يعني فإن كل متحيز حصل متحركاً مع جواز ألا يحصل بخلاف العالمية فإنها لم تحصل في كل عالم على الوجه الذي لجله يدل على العلم.
قوله: (ومنع الدليل) إلى آخره. يعني ولم يمنع من صحة أن يكون العالم عالماً لذاته أو لغير العلم.
قوله: (وبعد ففي المقدور علوم كثيرة) إلى آخره.
يعني فيم قدور الواحد منا علوم كثيرة بالمعلوم الواحد ثُمَّ قد يوجد بعضها فيوجب كونه عالماً بذلك المعلوم ولايقف كونه عالماً به على العلوم الَّتِي لم يوجدها ولو أوجدها لأوجبت كونه عالماً به ولم يقتضي علمه بذلك المعلوم من دونها أنَّها إذا وجدت لم تكن علة في علاميته به وأنها لاتوجب كونه عالماً به، هذا أقر بما يحمل عليه كلامه.
قوله: (لم يرد بقولنا لذاته طريقة التعليل).
اعلم أن مراد أصحابنا بقولهم في صفاته تعالى أنَّه يستحقها لذاته أن ذاته كافية في ثبوت هذه الصفات له وأنه لايحتاج في حصولها له إلى فاعل أو علة ولهذا فإن بعض علمائنا تجنب هذه العبارة لئلا يوهم التعليل فكان يقول: هو تعالى قادر الذات عالم الذات حي الذات. إن من جعل هذه الصفات مقتضاة عن صفة ذاتية له تعالى لابد له أن يجعل ذاته تعالى المؤثرة في ثبوتها لأن من أصول أصحابنا أن المؤثر في المقتضى هو الذات الَّتِي ثبت لها المقتضي ويجعلون الصفة الَّتِي هي المقتضي تجري مجرى المؤثر.
قوله: (فإنما يقتضي الإيجاب التماثل).
اعلم أن الإيجاب حكم وهو لايقتضيه التماثل وإنَّما تقتضيه الصفة الذاتية الَّتِي هو مقتضى عما هو مقتضى عنها ولكن إراداته إنَّما تكشف عن التماثل إذا كان أخص أحكام الذاتين المتماثلتين فإذا كان كذلك كشف عن صفتين لهما مقتضاتين متماثلتين وهما يكشفان عن صفتين ذاتيتين متماثلتين فيعرف بذلك تماثلهما.
قوله: (والباري تعالى يخالف مخالفه بأمر أخص من الإيجاب).
يعني فلا يلزم من مشاركته تعالى للعلم في الإيجاب أن يماثله لأنَّه يخالف العلم وغيره من الذوات بأمر لم يشاركه العلم وسائر الذوات فيه ذلك الأمر أخص من الإيجاب وهو الصفة الأخص.
قوله: (بل هذا ألزم لهم لإيجاد الإيجاب).
يعني إيجابا لعلمين فإن علمه تعالى يوجب لغيره كما أن علمنا كذلك يوجب لغيره.
قوله: (إن العلم إنَّما يبين عما ليس بعلم بإيجابه الصفة غير مسلم).
يعني لأن التقليد إذا تعلق بمتعلقه على أخص ما يمكن كان موجباً لمثل الصفة الَّتِي يوجبها العلم وكان يجب أن يكون علماً فعلمنا أنه إنَّما تبين باقتضائه لسكون النفس لكنهم يقولون فعندكم أنه تعالى يحصل على مثل حكم الواحد منا بكونه ساكن النفس لذاته.
قوله: (والجواب ما قدمنا ذكره في الشهوة).
يعني وهو أن نقول أن القدرة إنَّما لم توجب العالمية في الشاهد لأنَّه لايوجبها فيه إلاَّ ما كان بصفة العلم والقدرة ليست كذلك لامن حيث أنَّها مخالفة للعلم.
قوله: (ومن أن المراد ليس طريقة التعليل).
يعني وإذا كان المراد ليس طريقة التعليل فنحن نسلم لكم أن ذاته لاتوجب العالمية كما أن القدرة لاتوجبها، فإنا وإن قلنا هو عالم لذاته فليس المراد إلاَّ أنه لايحتاج في ثبوت الصفة له إلى غيرها.
قوله: (ومن المعارضة بالوجود).
اعلم أن المعارضة بالوجود تأتي على وجهين أحدهما على ما بنوا عليه شبههم من قياس الغائب على الشاهد فنقول أليس الواحد منا موجوداً بالفاعل ولم يلزم ذلك في حقه تعالى فهلا كان الواحد منا عالماً بعلم ولايصح أن يؤثر في عالميته غير العلم ولايلزم ذلك في حقه تعالى. وثانيهما: على صفة شبهتهم هذه وهو أن يقال أن مخالفة ذاتنا للفاعل ليس بأكثر من مخالفة ذاته للفاعل فكما لاتوجب ذواتنا وجودنا كذلك لاتوجب ذاته وجوده ولاخلاف في أنَّه تعالى مستغن في وجوده عن الفاعل.
واعلم أن جميع معارضينا لهم في هذا الباب بالوجود إنَّما يتأتى مع جعل الوجود صفة زائدة على لاذات والأشاعرة لايقولون بذلك في حقه تعالى بل يقولون أن وجوده نفس ذاته.
قوله: (بأكثر من مخالفة علمه تعالى لعلومنا).
يعني على مذهبهم فإنهم يجعلون علمه تعالى مخالفاً لعلومنا من كل وجه إذ لو ماثلوا بين علمه تعالى وعلومنا لزمهم أن تكون علومنا قديمة مثله أو يكون محدثاً مثلها ولزمهم ألا يتعلق علمه تعالى على التفصيل إلاَّ بمعلوم واحد، فأما أصحابنا فلو أنهم أثبتوا عالماً بعلم وجعلوا له علوماً كثيرة بحسب المعلومات لم يكن لهم بد من جعل بعض علومه تعالى مثلاً لعلومنا إذا تعلقت بمتعلقاتها على أخص ما يمكن لأنهم يجعلون ذلك هو الوجه فيت ماثل المتعلقين لأن صحة الأحكام حكم صدر عن الجملة يعني في الشاهد.
ثُمَّ يقال: إذا كانت دلالة صحة الأحكام في الشاهد على الصفة فكذلك في الغائب، وأما العلم فالذي دلنا عليه في الشاهد حصول الصفة مع الجواز ولم يحصل هذا الدليل على الوجه الذي يدل عليه على العلم في حقه تعالى.
قوله: (أن يكون حكمهما واحداً). يعني فليس يجب أن يكون حكم كونه قادراً وحكم كونه عالماً وهما التعلقان واحداً، ومعنى وحدتهما أن يثبتا تعلقين على سواء في حق كل متعلق فلا تتعلق هذه الصفة إلاَّ بما تتعلق به الأخرى بل يجوز افتراقهما في ذلك، وإن كان المقتضي لهما صفة واحدة كأحكام التحيز من شغله للجهة واحتماله للأعراض وصحة إدراكه بحاستين فإن شغله للجهة تعلق بالجوهر الاخر واحتماله للأعراض تعلق بها فإذا جاز أن يقتضي الصفة الواحدة أحكاماً وتعلقات مختلفة فبالأولى أن يجوز اقتضاء صفتين لتعلقين مختلفين غير متحدي المتعلق وإن كان مقتضيهما واحداً.
قوله: (والعلم لايوجبها شاهداً وغائبا).
يقال: هذا جواب احتجاج بنفس المذهب والخصم لايسلمه فإنه يجعل حال الحيية والعلم في الإيجاب والتصحيح في الغائب على حد ما يجعلهما كذلك في الشاهد فكيف يصح الفرق بنفس المذهب.
قوله: (لأن المصحح يوجب صحة الحكم ويلزمه صحة الحكم) يعني المصحح للحكم بالمعنى الأعم سواء كان صفة بالمعنى الأخص أو حكماً بالمعنى الأخص مثل الحيية فإنها توجب صحة القادرية ويلزمها صحة القادرية وتوجب صحة سكون النفس ويلزمها صحته.
قوله: (وإن سلمنا أن الموجب أقوى).
اعلم أنَّه لابد من التسليم فإن المصحح كالحيية لايوجب صحة الحكم ويلزمه صحته إلاَّ مع حصول ما يقف في تصحيحه عليه فإن الحيية لاتصحح القادرية والعالمية والمريدية ونحو ذلك إلاَّ مع حصول بنى زائدة والموجب للأحكام والصفات إذا كان علة كالعلم لم يقف في إيجابه للحكم على شرط وإن كان في الموجبات
ما يقف في إيجابه على شرط كالمقتضيات.
قوله: (وهو ذاته تعالى).
إنَّما جعلها موجبة وصرح بذلك هاهنا لما تقدم من أن من جعل الصفات مقتضاة يجعل التأثير فيها لذاته تعالى المختصة بالمقتضي فالصفة الَّتِي هي المقتضى إنَّما تجري مجرى المؤثر لنها لاتستقل بالمعلومية ولا يصح إيجابها مع عدم الذات.
قوله: (كما أن المصحح قد يختلف اتفاقاً) قد أورد مثال الختلافه على مذهبهم وأما مثال اختلافه على مذهبنا فكما نقوله في مصحح القادرية والعالمية فإن هاتين الصفتين لا يصححهما في الشاهد إلاَّ الحيية ولايصحان إلاَّ على من كان حياً وفي حقه تعالى يصححهما مقتضيهما وهو الصفة الأخص، فإن المقتضي كما يؤثر في الوجوب يؤثر في الصحة فلو قدرنا انفراد الحيية في حقه تعالى عن القادرية والعالمية لصحتا من دونها ووجبتا لكن الحيية لما كانت مقتضاة عن مقتضيها لم يجز الانفكاك وقد صرح الشيخ الحسن بهذا في الكيفية ولهذا جعل الشرط في القادرية والعالمية ما مر ولم يجعل الحيية شرطاً لهما لهذا الوجه. وفيه نظر فإنه يقتضي بطلان دلالة صحة أن يقدر تعالى ويعلم على كونه حياً.
قوله: (فالجواب أنهما إنَّما اختلفا) إلى آخره.
يعني علمنا بكونه قادراً وعلمنا بكونه عالماً وقد تقدم اختلاف الشيوخ في وجه اختلاف هذين العلمين فلا وجه لإعادته.
قوله: (لأن المخالفة أبلغ من المغايرة).
إنَّما كانت أبلغ لأن المغايرة تثبت بين المثلين والمخالفة لاتثبت بينهما ولأنها فرع على المغايرة والمغايرة لاتتفرع عليها فلا تثبت المخالفة إلاَّ مع المغايرة بشرط زائد وهو ألا تسد إحدى الذاتين مسد الأخرى فيما يكشف عن الصفة الذاتية على التفصيل.
قوله: (فلا يكون عالماً بكل القبائح).
يعني وإذا لم يعلمها كلها لم يؤمن أن يرتكب بعضها لعدم علمه بقبحه فكيف يصح الاستدلال بالسمع على مذهب لو صح لبطل السمع ثُمَّ أن من مذهبهم أنَّه تعالى يقول ويفعل ما يشاء ولايقبح منه ولا اعتراض عليه فلا يمتنع أن يكون مخبر هذه الآيات لا على ما تناوله ولكن أكثرهم يقول بامتناع الكذب عليه ولايجيزون أن يقول تعالى ما ليس بصحيح لكن ذلك غير مسلم لهم لاستقامته على قواعدهم على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
قوله: (لأن الباني مثل هذا للإلصاق بما هو له في الفعل).
ها كلام ركيك غاية وكان الأولى أن يقول للاستعانة بدل الإلصاق فإن الَّتِي للإلصاق مثل: {وامسحوا برؤوسكم} ولهم أن يقولوا الباء هنا للمصاحبة كما في شرى الفرس بسرجه ولجامه.
قوله: (أي معلومك).
يعني الذي علمته منا من السيئات.
قوله: (لكنا قد أحدنا ببعض علمه القائم بذاته).
يعني إذا شاء تعالى أن يحيط به لأنَّه استثنى من الإحاطة المنفية الإحاطة عند المشيئة وهو محال لأن علمه لايبعض كما قدمه.
قوله: (لن لهم أن يقلبوا علينا فيقولوا عندكم أن العلم هنا بمعنى العالم).
فيه نظر فإنه يكون المعنى: وفوق كل ذي عالم. فلا يتأتى أن يكون العلم هنا بمعنى العالم عندنا، وكان الأولى أن يقول عندكم أن ذا العلم هو العالم وأنه لم يقدصه لعلم المعنى الاصطلاحي، وقد أجيب عن هذا بأن قيل الآية وإن كان ظاهرها يقضي بأن فوق كل عالم عليماً على لغة العرب إلاَّ أنا أخرجنا الباري تعالى عن أن يكون فوقه من هو أعلم منه بضرورة الدين وإجماع المسلمين، هكذا ذكره ابن الملاحمي وإن قالوا: وكذلك نقول.
قلنا: لايصح لكم الاستدلال بالإجماع لأنه سمعي ولايصح لكم الاستدلال بالسمع.
قوله: (فلا يكون بد من التأويل).
يعني على كلامنا وكلامهم فنتأوله بأن المعنى: وفوق كل عالم من المخلوقين ويتأولونه كذلك أو بتقدير صفة أي وفوق كل ذي علم حادث والتحقيق أنَّه من العموم المخصص و أن ذلك هو المرجوع إليه على المذهبين معاً.
قوله: (من حيث أن الشدة والمتانة إنَّما يستعملان في الأجسام).
يعني فإذا لم يكن بد من تأويل الآيات من وجه لم يمكن تبقيتها على ظاهرها تؤولت من جميع الوجوه، وفه نظر فإنا وإن تأولنا الشدة والمتانة لمخالفته لما اتفقنا عليه نحن وهم فلا يلزم من تأويله تأويل لفظ القوة ولكن تناول لمخالفته الأدلة العقلية وقد جرت عادة أصحابنا أن الخصوم إذا احتجوا بآية يحتاج إلى تأويل شيء من معانيها عندنا وعندهم قالوا وكذلك نتأولها من هذا الوجه الذي احتججتم به علينا ولعل ذلك من حث أنَّها إذا احتاج شيء منها إلى التأويل كانت من الآيات المتشابهة غير المحكمة المسلوك بها مسلك المجاز لا الحقيقة ولا كلام في صحة تأويل الآيات المتشابهة الواردة على غير حقيقتها وإنَّما قال أن الشدة والمتانة إنَّما يستعملان في الجسام لأن المتانة الصلابة والمتين الصليب.
قال الجوهري: المتن من الأرض ما صلب واترتفع والجمع متان ومتن الشيء بالضم متانة فهو متين أي صلب انتهى. والشديد مثله وقوله تعالى في هذه الاية المتين أراد به الشديد القوة.
تنبيه
اعلم أن شبه المجبرة ههنا وإن اختصت بالعلم والقدرة دون غيرهما مما يثبتونه من المعاني فإنما اقتصروا عليها لأنها لو صحت وثبت لهم أنَّه تعالى قادر بقدرة وعالم بعلم ليثبت لهم ذلك في سائر المعاني الَّتِي يثبتونها لن الطريقة في الجميع واحدة وكذلك متى بطل ثبوت شيء من هذه المعاني في حقه بطل ثبوت سائرها.
فصل في أنَّه تعالى لايجوز أن يستحقها
أي يستحق صفاته المتقدم ذكرها لمعان محدثة كما يقوله هشام بن الحكم في كونه تعالى عالماً فإن عنده أنَّه تعالى يستحق كونه عالماً لمعنى محدث وهو مذهب جهم بن صفوان وإليه ذهب قوم من الروافض ولم يشتهر عن هشام في باقي صفاته تعالى القول بأنه يستحقها لمعان محدثة وإنَّما حكى ذلك عنه حكاية غير شهيرة.
قوله: (إن هذه الصفات ثابتة لم تزل).
يقال: هذا استدلال بمجرد مذهبك وإنَّما يثبت لك أنَّها ثابتة في الزل إذا استحقها لذاته وأنت الآن منازع في ذلك فبين أولاً أنَّه لا يستحقها لمعان محدثة ليتم ما ذكرته.
قوله: (لابد أن يكون هو الله تعالى).
يعني فأما غيره فيستحيل أن يحدثها له لأنَّه إن جعل قديماً فسيأتي أنَّه لاقديم غيره، وإن كان محدثاً فإحداثه لها إنَّما يصح إذا كان قادراً حياً ولايصح أن يكون محدثه غيره تعالى وهو لايحدثه تعالى إلاَّ بعد أن يكون قادراً عالماً حياً فيؤدي إلى الدور.
قوله: (وهو لايحدثها) إلى آخره.
أي لايحدث المعاني الَّتِي هي القدرة والعلم والحياة إلاَّ بعد أن يكون قادراً عالماً حياً فيؤدي إلى الدور أيضاً فلا يكون قادراً إلاَّ بعد حصول القدرة ولا تحصل القدرة إلاَّ بعد أن يحدثها ولايحدثها إلاَّ بعد أن يكون قادراً ولايكون قادراً إلاَّ بعد أن يكون حياً ولايكون حياً إلاَّ بعد أن يحدث الحياة ولايحدثها إلاَّ بعد أن يكون قادراً وكذلك فلا يحدث الحياة إلاَّ بعد أن يكون قادراً ولايكون قادراً إلاَّ بعد أن يكون حياً ولايكون حياً إلاَّ بعد أن يحدث الحياة.
قوله: (والذي يشتبه) إلى آخره.
أي والذي يشتبه الحال فيه فقد يظن أنَّه لايؤدي إلى دور هو العلم فيقال: لايحتاج في إحداثه إلى أن يكون عالماً.
قوله: (وكيفية الإلحاق).
كيفية الإلحاق أن يقول: هذا ظلم وكل ظلم قبيح فهذا قبيح وقد تقرر بما ذكره المصنف أن العلم لايقع إلاَّ من عالم فلزم الخصم فيه مثل ما تقدم في الحياة والقدرة من الدور.
قوله: (لاوحده لا في محل).
يعني لاستحالة أن يوجده تعالى في ذاته إذ ليس بمحل فأما هشام فيقول بأنه تعالى يوجده في ذاته إذ مذهبه التجسيم.
قوله: (وبهذا يفارق القائلين بالعلم المحدث).
أي بأن فعل ذلك المتجدد تعلقاً موجباً عن الذات وإن كان قد صرح بأنه تعالى يعلم حصول الشيء الحادث بعد أن لم يكن عالماً بحصوله لكن المرجع بالعلم عنده إلى تجدد التعلق.
قوله: (وهذا مستمر).
يعني علمه تعالى بأن الشيء سيوجد بعد وجوده والمراد أنَّه بعد وجوده يكون عالماً بأن له حالة عدم في الوقات المتقدمة وأن له حالة وجود بعد تلك الأوقات هذا رأي أبي الحسين وخالفه ابن الملاحمي فقال: بل إذا وجد المعلوم زال علمه تعالى بأنه سيوجد لانتفاء المتعلق وهو أنَّه سيوجد، قال: وهلا قال أبو الحسين بانتفاء التعلق عند انتفاء المتعلق كما يثبت التعلق عند ثبوت المتعلق.
قوله: (لأنه مع مخالفته لأصول الجمهور) إلى آخره.
يعني من كون العلم بأن الشيء سيوجد علماً بوجوده إذا وجد ومن كون اقتضاء صفته تعالى الأخص للعلامية غير واقف على شرط متجدد بل يقتضيها في الأزل ويفارق الحال فيها الحال في كونه مدركاً إلاَّ أنَّه يقال ليس مخالفة أبي علي لأصول الجمهور من حيث كونها مخالفة لهم ولا إثبات أنَّ له تعالى بكونه عالماً صفات كثيرة متعددة بتعدد المتعلقات يصير كلامه غير سديد مالم يقم دليل على بطلانه ولعل الجواب أنَّه إذا أدَّى ذلك الوجه إلى أن يكون له تعالى بكونه عالماً صفات متعددة بتعدد المعلومات ولاشك أن معلوماته لاتتناهى لزم أن يكون له بكونه عالماً صفات لاتتناهى وثبوت ما لايتناهى محال لكن قد تقدم ما أجيب به عنه.
قوله: (وهذا قريب).
يقال: بل بعيد لأنَّه لو تحدد التعلق وتغاير فأما أن يتماثل التعلقان أو يختلفا والأول باطل لأن تماثلهما لايكون إلاَّ لاتحاد المتعلق ومع اتحاده لايحتاج إلى تحدد التعلق وتعدده والثاني باطل أيضاً للزوم تعدد عالميته تعالى الَّتِي هي المتعلق واختلافها؛ لأن اختلاف المقتضي يدل على اختلاف المقتضى إذا كان المقتضيان من قبيل واحد وأيضاً فلو تعددت تعلقات عالميته تعالى لزم كونها غير متناهية إذ المعلومات غير متناهية، وفيه ثبوت أحكام غير متناهية له تعالى مع كونها ثبوتية زائدة على الذات وهو في الاستحالة كوجود ما لايتناهى من الذوات وثبوت ما لايتناهى من الصفات وأيضاً فلو تعددت متعلقات العالمية لزم أن يكون المتعلق والمتعلق أمرا واحدا بيانه أنَّه تعالى عالم بأنه عالم فالمتعلق هو ذاته تعالى مقيدة بالعالمية والمتعلق ذاته تعالى مقيدة بالعالمية وفيه عدم تميز المتعلق من المتعلَق وهو محال.
فإن قيل: هذا كما يلزم من جعل تعلقات عالمية الله تعالى متعددة بحسب تعدد المعلومات يلزم من جعل تعلقها بجميع المعلومات تعلقاً واحداً.
قلنا: بل لايلزم لأنا نجعل المعلومات كلها كالمعلوم الواحد وحينئذ لا إشكال لأن المتعلق هو الذات مقيدة بالعالمية والمتعلق هو جميع المعلومات لا الذات مقيدة بالعالمية فقط ويحنئذ يتميز المتعلِق من المتعلَق.
قوله: (فإنا نجد مزية لم تكن فلا أقل من أن تكون المزية الحاصلة تعلقاً متجدداً).
فيه سؤال: وهو أن يقال: إن هذه المزية والاختلاف الحاصل إنَّما هو لاختلاف حال المتعلق لا لأمر يرجع إلى التعلق أو المتعلق. بيانه: أن الشيء الذي سيوجد له ثلاث حالات حالة قبل الوجود أنَّه سيوجد وحالة وقت الوجود أنَّه قد وجد، وحالة بعد وجوده أنَّه قد تقضّى وجوده، والعالمية والعلم يتناولانه ويتعلقان به على هذه الحالات تعلقاً واحداً يتناول المتعلق به على أحواله المختلفة.
ولعل الجواب: أن أحدنا يجد المزية والاختلاف راجعين إلى أمر يختص به ويرجع إليه.
قوله: (فإن قال هذا يؤدي إلى أن العلم بأنه سيوجد غير العلم بأنه وجد يعني من حيث أثبتم تعلقين مختلفين فكل تعلق لابد أن يستند إلى صفة غير ما ستند إليه التعلق الاخر.
قوله: (فلا يسلمه).
يعني من حيث أن الصفة الواحدة قد يثبت لها تعلقات مختلفة فليس ثبوت هذين التعلقين يوجب استنادهما إلى صفتين إلاَّ أن ذلك حيث لاتكون تعلقاتها المختلفة من قبيل واحد كتعلقات التحيز فأما إذا كان من قبيل واحد فإنه يلزم ذلك.
قوله: (وخالفهم أبو الحسين فقال هما علمان).
هذا قول أبي الحسين وابن الملاحمي قال الفقيه قاسم: وحكاه أيضاً ابن الملاحيم عن الشيخ أبي علي والشيخ أبي القاسم، أي القول بأنهما علمان متغايران. وقيل: بل حكاه ابن الملاحمي عن أبي الحسين أنهما ذكرا ما يدل على القول بذلك.
قوله: (لن في خلاف ذلك).
يعني وهو عدم تعلقه انقلاب جنسه وذلك لأن تعلق ما يتعلق من المعاني لصفته المقتضاة إذ التعلق من أحكام الصفة المقتضاة ومالم يتعلق من المعاني فذلك لاختصاصه بصفة مقتضاة لايوجب التعلق فلولم يتعلق ما كان متعلقاً لخرج عن صفته المقتضاة الَّتِي توجب التعلق إلى صفة ذات أخرى لاتوجب التعلق، وإنَّما تنقلب الصفة المقتضاة بانقلاب ما يقتضيها من الصفات الذاتية وفي انقلاب الصفة الذاتية انقلاب الذوات وذلك ما أراده بانقلاب جنسه.
قوله: (وهذا الدليل لايستقيم في علم الشاهد).
يعني فلا يدل على أن علم الواحد منا بأن الشيء سيوجد علم بوجوده إذا وجد بل هما علمان وإنَّما يكون علماً واحداً لو كان العلم باقياً فحينئذ كان يستقيم الدليل في حق الشاهد وأما التوصل بذلك إلى أن علمه تعالى بأن الشيء سيود علم بوجوده إذا وجد فمستقيم لأن صفته تعالى مستمرة والكلام متوجه إليها وإنَّما أوضح وجه الدلالة بتصويرها في حق الشاهد وتقدير أنه لو ثبت لنا ما ثبت له تعالى بأن تدوم صفتنا كما دامت صفته تعالى لصح ما قلناه ولايثبت تقدير ذواتها إلاَّ مع تقدير دوام العلم.
قوله: (لكانا متولدين عن نظر واحد).
يعني من حيث أنا إذا نظرنا تقديراً في أن الشمس ستطلع غداً فعلمنا أنَّها ستطلع فإنا نعلم طلوعها في ذلك الوقت من غير نظر آخر وكذلك إذا أخبرنا صادق بأن زيداً سيموت غداً فإنا إذا نظرنا في خبر ذلك النبي حصل لنا العلم بأنه سيموت فالعلم بموته غداً حاصل عن ذلك النظر فلو كانا علمين مختلفين لزم أن يكونا متولدين عن نظر واحد وتعدِّي النظر في الإيجاب محال وإلاَّ لزم تعديه إلى ما لانهاية له.
فإن قيل: هذا لازم لكم في حق الواحد منا فلا شك في أن علمه بطلوعها غير علمه بأنها ستطلع.
قلنا: إنَّه وإن كان كذلك فهو مماثل له عندنا وإذا كان مماثلاً له فهو إنَّما فعله ليذكر النظر والاستدلال ولايتأتى هذا إذا قيل بمخالفته له.
قوله: (لجاز أن يجهل وجوده). يعني بعد وجوده.
قوله: (نشك في هل مات زيد أم لا مع أنا لانشك في أنَّه سيموت) إلى آخره.
فيه إيضاح لما ذكره من الاعتراض على الطرف الثاني من الدليل وهو قولهم ولجاز أن يجهل وجوده مع العلم بأنه سيوجد بالتزام ذلك وإيضاح للاعتراض على الطرف الأول من الدليل وهو أنهما علمان حاصلان عن نظرين.
تنبيه
قد استدل الجمهور أيضاً بالقياس على الخبر قالوا: فإن الخبر بأن زيداً سيموت عند طلوع الشمس خبر بموته عند ذلك الوقت ولايحتاج إلى خبر آخر فإا كان الخبر بأنه سيموت خبراً بموته إذا مات كان العلم بأنه سيموت علماً بموته إذا مات إذ الخبر فرع على العلم.
قوله: (صار العلم جهلاً).
يقال: كيف يجوز ذلك والحسن لاينقلب قبيحاً والعكس فكيف ينقلب العلم وهو حسن جهلاً وهو قبيح.
والجواب: أنَّه لامانع من كون الشيء حسناً ثُمَّ يصيره قبيحاً لأنَّه ليس بحسن ولاقبيح لذاته فيلزم استمرار حسنه أو قبحه بل يحسن ويقبح لوجه يقع عليه فوجه حسن العلم كونه علماً متعلقاً بالشيء على ما هو به فلما زال هذا الوجه وحصل وجه القبح وهو مصيره اعتقاداً متعلقا الشيء لا على ما هو به صار قبيحاً على أن ذلك إنَّما يلزم على القول ببقاء العلوم كما هو مذهب أبي هاشم ولايلزم على القول بأن العلم غير باق.
قوله: (وهذا الذي يريده الشيوخ بقولهم إن العلم من جنس الجهل).
هذه العبارة جرت في كلام أبي هاشم ويقال: إما أنهم يريدون أن العلم قد ينقلب جهلاً فلا، بل مرادهم بأن العلم من جنس الجهل أن اعتقاد كون زيد في الدار على أحد الوجوه وهو فيها لو وجد وليس فيها كان جهلاً لا أنهم يريدون أن العلم قد ينقلب جهلاً فإن ذلك تجويز أن يصير الحسن قبيحاً، ولعلهم لايجيزونه وإن وجه بما تقدم ثُمَّ أن ذلك لايتصور مع القول بعدم البقاء.
وقد أجاب المشائخ عن حجة أبي الحسين بأن قالوا إن العلم بأنه سيعدم علم بقدومه ذلك الوقت بشرط علمه بالوقت والذي في بيت مظلم لم يعلم الوقت واعترض بأن تعلق المعاني والصفات فلا يقف على شرط ولاينفصل عن موجبه.
قوله: (فأما وهو علم واحد..) إلى آخره، فيه مخالفة لأصول الجمهور فإن من أصولهم أن العلم لايتعدى في التعلق على التفصيل من المتعلق الواحد إلى ما زاد عليه ولامن الوجه الواحد إلى ما زاد عليه.
تنبيه
قد أجيب عن أصل شبهة ابن الحكم ومن تابعه بالمعارضة لهم بكونه تعالى قادراً فإن المقدور إذا وجد صار غير قادر عليه ثُمَّ إذا عدم وهو مما يصح إعادته صار قادراً عليه ولم يلزم من ذلك كونه قادراً بقدرة ذكره بعضهم وإنَّما يتأتى هذا على مذهب أبي عبدالله من أن قادريته تعالى لاتتعلق بالموجود فأما مذهب القاضي والذي صححه ابن متويه والحاكم فإنها تتعلق بالموجود إذا كان مما يصح إعادته حجتهم أنَّه يصح منه تعالى أن يفنيه ويعيده فهو مقدور له وهو تعالى قادر عليه على هذا الوجه وتعذر إيجاده له في الحال لايخرجه عن كونه مقدوراً له إذ يصح منه إيجاده من بعد كما أن القادر يقدر على أشياء لا يصح أن يوجدها في الحال لكن لما صح منه إيجادها من بعد صح وصفه بذلك.
حجة أبي عبدالله أنَّه يستحيل منه إيجاده في الحال إذ هو موجود فإذا أفناه عاد قادراً من بعد.
وأجاب الحاكم بأنه يستحيل أن يتجدد له صفته بكونه قادراً لأنَّه قادر لنفسه فعلم أن كونه قادراً عليه صفة مستمرة غير أنه كان لايصح إيجاده في أول أوقات وجوده لمعنى يرجع إليه وفي الثالث يصح إذا أفناه في الثاني.
قال الحاكم: وذهب شيخانا إلى أنه بوجوده يخرج عن أن يكون مقدوراً وإن صح أن يعيده. والجواب ما ذكرناه.
قوله: (أما مع القول بتجدد التعلق فلا كلام).
يعني ويكون معنى قوله تعالى: {حتى يعلم} حتَّى يقع التعلق، ومعنى: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً} الآن ومع التخفيف وتعلق علم الله بضعفكم لكنه يقال: إن التعلق ليس هو العلم ولايسمى علماً، والتعلق وإن تجدد فلم تتجدد العالمية ولا العلم.
قوله: (لأنه كيف يكون عرض الحكيم وقوع النفاق).
يعني لأن اللازم في قوله تعالى: {ليعلم} لام العرض فإذا حملنا العلم على المعلوم كان تقديره ليقع المعلوم وهو نفاق من نافق.
قوله: (من نحو {عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون})
يعني فإنه لايتأتى إلاَّ على كلام أبي علي الفارسي وقطرب من أنَّها لام كي، وأما على المعنى الاخر فلا يتأتى إذ لايتصور أن يعلق الرجاء بغيره تعالى.
تنبيه
قد عرفت ما ذكره المصنف من شبه الخصم السمعية وما ذكروه في تأويلها. والجواب عنها: {ولايكلف الله نفساً إلاَّ ما آتاها} ونحن نذكر ما أورده الإمام جار الله في كشافه فإنه الغاية القصوى والدرجة العليا قال في قوله تعالى: {وليعلم الذين نافقوا} ليتميز المؤمنون والمنافقون وليظهر إيمان هؤلاء ونفاق هؤلاء. وقال في قوله تعالى: {لعله يتذكر أو يخشى}: الترجي لهما أي اذهبا على رجائكمها وطمعكما وباشرا الأمر مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله ولايخيب سعيه.
وقال في قوله تعالى: {لعلكم تتقون} لعل للترجي نحو لعل زيداً يكرمني، والاشفاق نحو لعله يهينني، وقد جاءت على سبيل الأطماع في مواضع من القرآن، ولكن لأنَّه إطماع من كريم رحيم إذا أطمع فعل ما يطمع فيه لامحالة لجري إطماعه مجرى وعده المحتوم وفاؤه به ولهذا قال من قال أن لعل بمعنى كي، ولعل لا يكون بمعنى كي، ولكن الحقيقة ما ألقيت إليك. ثُمَّ ذكر أن ذلك جري على ما هو ديدن الملوك في مواعيدهم الَّتِي لابد لهم من إنجازها وقولهم عسى ولعل وبسط في ذلك وأوضحه.
ثُمَّ قال: ولايجوز أن يحمل على رجاء الله تقواهم لأن الرجاء لايجوز على عالم الغيب والشهادة وحمله على أن يخلفهم راجين للتقوى ليس بسديد، ولكن لعل واقعة موقع المجاز لنه تعالى خلق عباده ليتعبدهم بالتكليف وركب العقول والشهوات وأزاح العلة ومكنهم ووضع في أيديهم زمام الاختيار فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا ومنه: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا}.
وقال في قوله تعالى: {لعلكم تشركون} أراد أن يشكروا النعمة في العفو عنكم، وأهمل جار الله الكلام في تأويل: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً} والذي يناسب ما ذكره أن المعنى وظهر ضعفكم لأن العلم لما كان تابعاً للمعلوم كان في ظهور المعلوم حصوله وعلى هذا فقس: {حتى نعلم المجاهدين} لنه لم يتعرض له.
فصل في أنَّه يستحق هذه الصفات الأربع
الَّتِي هي القادرية والعالمية والحيية والوجود فيما لم يزل وفيما لايزال.
قوله: (أما على القول بأنها ذاتية فظاهر).
يعني لما تقدم من أن خروج الموصوف عن صفة ذاته لايجوز وذاته تعالى ثابتة فيما لم يزل وفيما لايزال على ما تقدم أيضاً من أنه قديم دائم.
قولهم: (فلأنها).
يعني الصفات الأربع مقتضاة بشرط مستدام قد تقدم ذكر الشروط في اقتضائها ولاكلام في أنَّها غير متجددة ولايصح زوالها.
قوله: (فأما كونه مدركاً) إلى آخره.
يعني فلايقال: يلزمكم أن يكون تعالى مدركاً في الأزل لحصول المقتضي حينئذ وهو كونه حياً لن الشرط في اقتضائها وجود المدرك وهو حينئذ غير حاصل بخلاف الشروط في اقضتاء تلك الصفات الأربع.
تنبيه
الذي يدل على بطلان قول جهم ما قد ثبت من كون المعدومات ذوات وإذا كانت ذوات فهي معلومة إذ لاتكون الذات ذاتاً إلاَّ إذا كانت معلومة وإذا كانت معلومة فلا بد أن يعلمها تعالى لما سيتضح من أنَّه تعالى عالم بجميع أعيان المعلومات، ولعله بنى مذهبه على أن الأشياء المعدومة غير معلومة فإذا تقرر ثبوتها في العدم وثبوت الصفة الذاتية لها الَّتِي عليها نعلم بطلان ما قاله، وكان الأولى تأخير حكاية مذهبه إلى الفصل الذي أتى به عقيب هذا لأنَّه أليق به ولاعلاقة لمذهبه بهذا الفصل.
وقد حكي عن هشام بن عمرو والبردعي وغيرهما مع القول بأنه تعالى عالم فيما لم يزل أنه لايقال: في الأزل أنَّه عالم بالأشياء. قال الحاكم: والأقرب أن خلافهم في عبارة وأنه يعني هشاماً كان لايسمي المعدوم شيئاً.
فصل في أنَّه تعالى عالم بجميع أعيان المعلومات
قوله: (لأنه تعالى حي).
يعني وكونه حياً يصحح كونه عالماً بجميع المعلومات إذ ليس بتصحيح أن يعلم بعضها أولى من تصحيح أن يعلم البعض الآخر.
قوله: (وهو ذاته تعالى).
يعني على رأي أبي علي لنه يجعل هذه الصفة ذاتية لكنه يقال إن من جعلها ذاتية لم يجعل ذاته تعالى موجبة لها لأن الذات لاتوجب صفتها الذاتية لكن يقال أن الصفة الذاتية متى صحت وجبت وإلاَّ فلو توقفت على أمر آخر لم تكن ذاتية.
قوله: (وما هو عليه في ذاته).
يعني الصفة الأخص وهذا على رأي البهاشمة.
قوله: (من جملة وتفصيل).
يعني فيعلم قدوم زيد من جملة العشرة مثلاً وقدومه بعينه ونحو ذلك، وروي عن أبي عبدالله وأبي القاسم الواسطي القول بأنه تعالى يعلمها تفصيلاً لاجملة قالا لأن العالم جملة لايعلم كذلك إلاَّ إذا جهل التفصيل، وحكاه في التذكرة عن الواسطي ولم يحكه عن أبي عبدالله ولا عن أبي هاشم.
قال ابن متويه: مالم يوهم وضعنا له بالعلم بالشيء على سبيل الجملة أنَّه غير عالم به على سبيل التفصيل صح ذلك.
قوله: (وهو بناء على مذهبه في أن الجملي هو التفصيلي).
يقال: ليس مذهبه الذي ذكرت أنَّه بنى عليه يوجب قوله بأنه تعالى لايعلم الأشياء جملة لأنَّه يعترف بأنه تعالى يعلمها تفصيلاً وقد جعل الجملي والتفصيلي واحداً فما موجب التنافي؟
والجواب: أن أبا هاشم يقول لابد أن يعلم الأشياء تفصيلاً إذ لايجوز عليه الجهل، وإذا علمها تفصيلاً فقد تعلقت عالميته بها وإذا كانت عالميته قد تعلقت بها لم يصح وصفه بأنه يعلمها جملة إذ الجمل يهو التفصيلي مالم يتعلق وعالميته تعالى قد تعلقت.
قوله: (ومثل هذا إخباره عليه السلام بأن صلة الرحم تزيد في العمر).
ورد في الأثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الرجل ليصل رحمه وقد بقي من عمره ثلاث سنين فيزده الله إلى ثلاث وثلاثين سنة. فالشرط ههنا صلة الرحم والمشروط زيادة العمر فلا بد من أن يعترفوا بأن الله تعالى عالم أن هذا إن لم يصل رحمه لم يزد هذه الزيادة في عمره أو إن وصل رحمه زيادة أتاها في عمره.
فإن قيل: القول بأنه تعالى يعلم الشيء مشروطاً يقتضي في حقه تعالى عدم القطع بذلك الأمر الذي علمه تعالى مشروطاً فيكون قد حصل فيه تعالى معنى الشك وهو يتعالى عن ذلك.
قلنا: إن الشرط يدخل في المعلوم لا في كونه تعالى عالماً وقد قال تعالى: {ولو أن أهل الكتاب آمنوا} فهذا إخبار بشرط والخبر لايصدر منه تعالى إلاَّ مطابقاً لعالميته وأيضاً فهو عالم لذاته فلا يختص بمعلوم دون معلوم ولا بوجه دون وجه.
تنبيه
روي عن معمر أنَّه تعالى يعلم غيره ولايعلم ذاته وأنكر ذلك عنه أصحابنا وروي عن هشام بن الحكم أنَّه تعالى يعلم الأمور المستقبلة كما لايدركها وروي أيضاً عكس هذا عن معمر وهو أنَّه تعالى لايعلم الأشياء الموجودة كما لايقدر عليها وكذب أصحابنا هذه الرواية عنه.
فإن قيل: قد قال تعالى: {وأحصى ل شيء عدداً} وهذا يقضي بأن معلوماته منحصرة.
قلنا: قد تأولت الآية على أن المراد الموجودات من معلوماته ولامانع من تخصيص عموم الآية بالأدلة القاطعة ذكره في المحيط. وقال جار الله: أراد من القطر والرمل وورق الأشجار وزبد البحار.
فصل في أن الله تعالى قادر على جميع أجناس المقدورات
قوله: (لصحة معلوم بين عالمين).
اعلم أنَّه لاخلاف فيه وإنَّما صح معلوم واحد بين عالمين وأكثر لأنَّه يعلم على ما هو عليه في ذاته من صفته الذاتية الَّتِي تصحح كونه معلوماً وحالها مع العالمين على سواء.
فإن قيل: أليس العلم يصحح أحكامه ويثبت للعالم به تأثيراً فيه فيلزم من ذلك أثر بين مؤثرين؟
قلنا: إن التأثير في الأحكام لكونه قادراً وكونه عالماً إنَّما هو شرط فيمن كان قادراً على الأحكام من العالمين فعالميته شرط في تأثير قادريته في ذلك.
قوله: (ولكنه يقدر على أجناسها).
يعني فإذا صح من أحدنا فعل كون معين مثلاً ففعله لايصح منه تعالى ولكن فعل مثله وهكذا في سائر مقدوراتنا.
قوله: (وهذا مذهب الجمهور من الشيوخ).
أي القول باستحالة مقدور بين قادرين، إلاَّ أبا الحسين واختار عليه السلام جوازه.
قولهك (وأكثر أهل الخبر).
اعلم أن بين كلام أصحابنا المجوزين لمقدور بين قادرين وكلام من أجازه من المجبرة فرقاً وهو أن أصحابنا جعلوه جائزاً من جهة واحدة وهي الحدوث والمجبرة جوزت ذلك من وجهين الحدوث والكسب فجعلوه تعالى قادراً عليه من جهة الحدوث ونحن نقدر عليه بعينه من جهة الكسب.
قوله: (ومقدور عمرو ألا يوجد).
فيه نظر لأن القدرة لاتتعلق إلاَّ بالحداث فكيف يتعلق بألا يوجد ولهذا عدل عنه إلى التمثيل بالحركة والسكون.
قوله: (من حيث أن مقدور عمرو متعلق به).
عائد إلى زيد.
قوله: (وكذلك العكس في عمرو).
يعني فيكون ساكناً من جهته من حيث أراد تسكينه ومتحركاً أيضاً من جهته من حيث أن مقدور زيد متعلق به.
قوله: (لأنه إنَّما كان مقدوراً له قبل وجود الحركة).
يقال: إنا فرضنا الكلام في لزوم وجود السكون معها فأما بعده فما ذكرته مسلم لأنها إذا وجدت فقد منعت من وجوده في وقته وهو مما يختص بوقت في وجوده إذا كان مقدوراً لنا والمنع المقارن يخرج القادر عن كونه قادراً على الممنوع منه وتحقيق الاعتراض أن ما قاله المتأخرون من لزوم أن يوجد السكون من جهة زيد والحركة من جهة عمرو غير واضح لن زيداً إنَّما دعاه الداعي إلى الحركة دون السكون فيوجد منه ما دعاه الداعي إليه وهو الحركة دون مالم يدعه الداعي إليه وهو السكون فلا يلزم وجوده منه من جهته وإن كان متعلقاً به بأن يكون قادراً عليه فإنه لايلزم وجود ما تعلق بنا إلاَّ إذا دعانا إليه داع وقصدنا إلى فعله وهكذا الكلام في عمرو فإذا أراد أحدهما تحريكه والاخر تسكينه فمن كان أكثر قدراً وجد ما دعاه الداعي إليه دون ما دعا الآخر الداعي إليه.
قوله: (وهذا حكم كل ضدين يتعلقان بالقادر).
يعني أنَّه لايقدر على إحداثهما إلاَّ على البدل فيكون قبل وجودهما قادراً على إيجاد أيهما شاء فأما بعد وجود أحدهما مع كون الآخر يختص بالوقت الذي وجد فيه أو وجودهما فقد خرج عن كونه قادراً عليهما.
قوله: (وفيه نظر إلاَّ أن يبنى على تزايد الوجود).
يعني لأنَّه إذا كان الواقع من جهة القادرين وجوداً واحداً وقد حصل من القادر الاخر وجود أيضاً فما الوجه في كون الصادر منهما أولى بالوقوع إلاَّ أن يبنى على تزايد الوجود فيقال هو أولى من جهتها لأنهما يكسبان الفعل وجودين من كل واحد منهما وجوداً والقادر الآخر لايكسبه إلاَّ وجوداً واحداً فكان ما فعلاه هو المانع لما فعله من حيث اختص بوجود زائد، وقد ذكر الإمام يحيى عليه المسلام مضمون اعتراض ابن الملاحمي ونظر عليه أيضاً وجعل الاعتراض أنَّه وإن لم يظهر الفرق تحقيقاً فإنه يظهر تقديراً فإنا لو قدرنا عدم أحدهما لأثر فيه الآخر.
قوله: (وكلام الجمهور معارض) إلى آخره.
يمكن الجواب بأن يقال بل طرو جزأين من البياض ينفصل عن طرو جزء لا من حيث النفي فحكمهما في ذلك وهو نفي السواد كحكم الجزء الواحد لكنهما ينفصلان عنه بأنه يحصل لحصولهما في المحل الواحد من شدة البياض مالم يكن يحصل بجزء واحد فقد حصل الانفصال ههنا فلا تثبت المعارضة.
قوله: (ولايقدر أحدنا عليه إلاَّ مسبباً).
مثاله: أن يكون ههنا صوت مقدور له تعالى ولنا فالصوت لايصح منا إلاَّ مسبباً عن الاعتماد وهو يصح منه تعالى ابتداء إذ لافعل من الأفعال إلاَّ ويصح منه تعالى إيجاد جنسه مبتدأ.
قوله: 0وبهذا اعترض قولهم) إلى آخره.
يعني فقال بل يصح من أحدهما إيجاده في محل قدرته من غير سبب ويصح من الآخر إيجاده في ذلك المحل بعينه مسبباً عن الاعتماد إذ لايجوز أن يعدى أحدنا الفعل إلى غيره إلاَّ بالعتماد فيكون محتاجاً إلى السبب حيث يكون الفاعل له من ليس محل قدرته له بمحل غير محتاج إليه حيث يكون الفاعل من محل قدرته محل له.
قوله: (وإلا كان مثلاً للتأليف).
يعني لن الحلول في محلين هو حكم التأليف الخاص فما شاركه فيه وجب أن يماثله ونحن فرضنا الكلام في مقدور ليس بتأليف ككون مثلاً.
تنبيه
قد استدل على استحالة مقدور بين قادرين بأدلة غير الأدلة الَّتِي ذكرها المصنف، فمنها أنه كما استحال معلول بين علتين يجب أيضاً أن يستحيل مقدور بين قادرين. واعترضه الإمام يحيى بأن الدليل قد دل على استحالة تعليل المعلول الواحد بعلتين فإن حصل المانع هذا في مسألتنا بطل القياس يعني ومنعنا من صحة مقدور بين قادرين لذلك المانع لا للقياس وإن لم يحصل منعنا الحكم وهو استحالة مقدور بين قادرين هذا معنى ما ذكره.
ومنها: أنَّه يلزم على القول بمقدور بين قادرين كون الفعل حسناً قبيحاً بأن يريد أحدهما إيجاد المقدور على جهة القربة ويريد أدهما إيجاده على جهة المعصية وفي ذلك ثبوت كونه حسناً قبيحاً.
واعترضه ابن الملاحمي بأنه لايمتنع ثبوت الوصفين لفعل واحد مع استناد كل واحد منهما إلى غير من يستند إليه الآخر فلا تدافع في ذلك بالنظر إلى القادرين.
ومنها: ما ينبني على مذهب الشيخ الحسن في أن الحلول بالفاعل وهو أن يقال لو صح مقدور بين قادرين لجاز أن يريد أحدهما إيجاد ذلك المقدور في محل ويريد الآخر إيجاده في غيره من المحال وحينئذ إما أن يوجد مرادهما معاً أو لايوجد أو يوجد مراد أحدهما دون الاخر والأول باطلن لأنَّه يلزم منه حلول الذات الواحدة في محلين وهو محال، والثاني باطل لأنَّه يلزم منه خروجهما عن كونهما قادرين، والثالث يقتضي كونه مقدوراً لأحدهما وهو الذي وجد مراده ويبطل كونه مقدوراً للآخر الذي لم يوجد مراده وبهذا يبطل صحة مقدور بين قادرين فإن يصح ما قاله الشيخ الحسن وذهب إليه وهو الأقرب فلا كلام في قوة هذا الدليل فأما على مذهب الجمهور في الحلول فلا يتأتى إذ هم يقولون بأنه يختص في الحلول بمحل معين ولايصح حلوله في غيره فالذي يوجد مراده هو من أراد حلوله في ذلك المحل ولايخرج ذلك المقدور عن كونه مقدوراً لمن لم يوجد مراده لأن السبب في عدم إيجاده له محاولته لوجوده في محل لايصح وجوده فيه، وإن أراد كلاهما وجوده في محلين غير محله المعين لم يصح أيضاً، ولم يوجد أي مراديهما.
ومنها: أنَّه لو صح مقدور بين قادرين لصح أن يريدا معاً إيجاده في وقت واحد وإذا أرادا ذلك وحاولاه فإما أن يوجداه معاً أو أحدهما أو لايوجده واحد منهما إن أثرا فيه معاً فأما أن يكون تأثيرهما في وجودين له أو في وجود واحد، الأول باطل لأن الخصم لايحصل الوجود زائداً على الذات فلقيام الدليل على أن الوجود لايتزايد، والثاني باطل لأن اشتراكهما في وجود واحد هو بأن يؤثر أحدهما في نصفه أو ثلثه أو ربعة والآخر في البقية وهذا يؤدي إلى تجزئ صفة الوجود وأن لها نصفاً وثلثاً وربعاً ونحو ذلك وهو باطل بالضرورة ثُمَّ أنَّه لو صح ذلك لم يحصل منه مرادهم من مقدور بين قادرين لأن لكل واحد منهما أثراً غير أثر الآخر فحصل ما أردناه من أنَّه لامقدور بينهما وإن أوجده أحدهما قضى ذلك بأنه مقدور له فقط دون الآخر وإن لم يوجده واحد منهما خرج عن كونه مقدوراً لهما.
قوله: (وأما الطريق الثانية).
يعني في الكلام على مقدور بين قادرين من جهتين بأن يكون له وجودان أو أكثر يتعلق كل واحد من تلك الوجودات بقادر.
واعلم أن الكلام في هذه الطريق هو على جهة التقدير بمعنى أنا لو قدرنا صحة تزايد الوجود وصحة ثبوت وجودين أو أكثر لذات واحدة هل كان يصح ذلك وإلاَّ فقد تقدم في فصل الصفات الدلالة على أن صفة الوجود لاتتزايد وكذلك فمجاراة أبي الحسين وابن الملاحمي في هذه الطريق مجاراة على مذهب خصومهم في الوجود وأنه زائد على ذات الموجود وأما على مذهبهما من كونه ليس بزائد على الذات فكيف يتصور أن يجعلا للمقدور الواحد وجودين والوجود نفس الذات ثُمَّ كيف يتصور ذلك في مقدوراتنا وعندهم أنَّها صفات والصفة لايثبت لها وجود واحد فضلاً عن وجودين.
قوله: (لم تكن بأن يظهر عندها الصفة المقتضاة أولى من ألا تظهر).
يعني صفة تلك الذات الَّتِي تزايدت صفة الوجود في حقها والوجه فيما قاله أنَّه قد تقرر أن وجود الذات شرط في ظهور صفتها المقتضاة عن الصفة الذاتية وظهور الأحكام المقتضاة عن تلك الصفة المقتضاة فإذا كان لتلك الذات وجودات كثيرة لم يكن بعضها بأن يختص بكونه شرطاً أولى من بعض فتكون شروطاً كلها فإذا قدرنا حصول بعضها فليس بأن تظهر الصفة المقتضاة حينئذ لظهور بعضها أولى من ألا تظهر لعدم حصول جميعها وعلى هذا يتوجه قول المصنف في الاعتراض عليه فإنه يبطل السؤال من أصله يعني فإنها إذا جعلت شروطاً كلها كانت الصفة المقتضاة بأن لاتظهر لعدم اجتماع الشروط أولى من أن تظهر، وإن حصل بعضها كما أن المدركية لما كانت مشروطة بوجود المدرك وصحة الحاسة وانتفاء الموانع لم يصح أن يقال عند حصول بعض هذه الشروط ليست بأن تظهر أولى من ألا تظهر بل تكون أولى بأن لاتظهر.
قوله: (وإن كان ضعيفاً).
يعني من حيث أن وجوداً واحداً يكفي في ذلك الظهور إذ لادلالة على اشتراط وجود غيره.
قوله: (وإن أردتم بقادر واحد فكيف يصح وعندكم أن القدرة لاتتعدى على التفصيل).
الوجود الواحد يجاب عنه بوجهين أحدهما أنا إنَّما قلنا ذلك بناء منا على أن المقدور الواحد لايكون له إلاَّ وجود واحد وكان من مذهبنا أن القدرة لاتتعدى المقدور الواحد فلهذا قلنا أن القدرة لاتتعدى الوجود الواحد فأما إا جعلنا للمقدور الواحد وجودين أو وجودات فنحن نحيز تعلق القدرة على جميع وجوداته.
الوجه الثاني: أنا وإن سلمنا أنَّها لاتتعلق إلاَّ بوجود واحد فما أنكرت أن تكون في هذا القادر الواحد عشر قدر تتعلق كل واحدة منها بوجود لهذا المقدور فعلى هذا يصح منه ممانعة العشر الحركات بالحركة الواحدة الَّتِي لها عشر وجودات ويصح الجواب، وفي قوله: إن القدرة لاتتعدى على التفصيل الوجود الواحد نظر لأن القدرة لاتتعلق على سبيل الجملة ولاتتعدى في التعلق على سبيل الجملة. وقوله: على التفصيل؛ يوهم ذلك، وإنَّما يقال ذلك في العلم فكان الألى أن يقول لاتتعدى على الوجوه المعتبرة.
قوله: (وهي لا تتزايد اتفاقاً).
يقال: أما الخصم فيلزمه القول بتزايدها لأنا إنَّما منعنا تزايدها واقتضاء الصفة الذاتية لأكثر من صفة مقتضاة مما يكشف عنها بمجرده عند اتحاد الشرط فقلنا لو تعدت في الاقتضاء عن المقتضي الواحد إلى ما زاد عليه مع اتحاد شرط الاقتضاء لتعدت ولا حاصر، فيلزم تعديها في الاقتضاء إلى ما لانهاية له فأما إذا تزايدت الشروط فغير مانع أن تتزايد المقتضيات ويكون انحصار اقتضاء الذاتية لها بانحصار شروطها.
واعلم أن هذا الدليل والذي قبله إنَّما يدلان على عدم صحة تزايد الوجود لكنه إذا ثبت ذلك صح ما نحن بصدده من تعذر مقدور بين قادرين من جهتين.
قوله: (بأن ما يتعلق بالقادرين يتبع حالة الحدوث).
يقال: إنَّه إذا فعل له وجوداً فتلك حالة حدوثه وإن كان قد استمر في الوجود من قبل ونحن إنَّما جعلنا تأثير القادرين تابعاً لحالة الحدوث في الوجوه التابعة له فأما الوجود فلم يتكلم عليه ولا ثُمَّ أصل يرد إليه.
تنبيه
اعلم أن أبا الحسين قد احتج على صحة مقدور بين قادرين بأنا إذا فرضنا جزءاً ملتصقاً بكفي إنسانين ثُمَّ دفعه أحدهما في حال جذب الآخر له فإما أن يحصل ذلك الجزء حركتان أو حركة واحدة والأول باطل لاستحالة اجتماع المثلين ثُمَّ إنا وإن سلمنا ذلك فأما أن تستند الحركتان لا إلى أحد القادرين فيكون قد حصل فعل من غير فاعل وهو محال، وإما أن تستند الحركتان إلى كل واحد منهما وهو المطلوب، وإن كان الحاصل فيه حركة واحدة فإما ألا تستند إلى واحد منهما وهو محال لما تقدم وإما أن تستند إلى كل واحد منهما وهو المطلوب.
والجواب: بل نقول بحصول حركتين فيه ولانسلم امتناع وجود المثلين في المحل الواحد وإن قالت به الأشعرية فدليل صحة مذهبنا في ذلك واضح فإن المثلين لاتنافي بينهما ولا ما يجري مجراه فكما أن ذلك هو الوجه في صحة اجتماع المختلفين فكذلك المثلان بل ذلك أولى فيهما لأن بينهما من التناسب ما ليس بين المختلفين وإذا تقرر جواز حصول حركتين فيه وحكمنا به جعلنا إحداهما مستندة إلى أحد الفاعلين والأخرى إلى الآخر ولانجعلهما غير صادرتين منهما ولامستندتين إلى كل واحد منهما على انفراده.
واحتج أيضاً بأنه تعالى إذا كان قادراً لذاته والمقدور ممكن ولا اختصاص لذاته بمقدور دون مقدور قبل وجود القادرين ووجود قدرهم صحت كونه تعالى قادراً على الكل ولايجوز أن يخرج عن كونه قادراً على البعض بوجود القادرين من خلفه ووجود قدرم فثبت بذلك صحة مقدور بين قادرين.
والجواب أما مع تسليم كونه تعالى قادراً على جميع أعيان المقدورات قبل وجود القادرين من خلقه وقدرهم فلا بد من صحة ما قاله ومن كونه تعالى قادراً عليها بعد وجودهم ووجود قدرهم إذ وجودهم لايغير قادريته تعالى لكن المانعين لصحة مقدور بين قادرين لايسلمون شمول قادريته للأعيان قبل وجود القادرين من خلقه ولابعد وجودهم إذ عندهم أن لهم مقدورات ثابتة في الأزل لايصح من غيرهم إيجادها.
فصل
لامعنى لمكالمة أهل الجبر في مقدور بين قادرين وإن كانوا يقولون به.
قوله: (وإن خالفوا في العبارة).
يعني فأثبتوا أحدنا قادراً وسيأتي تحقيق مذهبهم في مسألة خلق الأفعال.
قوله: (فلا معنى لقولهم مقدور بين قادرين).
يقال: أما الجهمية فمسلم أنَّه لامعنى لمكالمتهم في ذلك إن كانوا يقولون به إذ لايثبتون أحدنا قادراً ولايثبتون له تأثيراً على الإطلاق وأما أهل الكسب فلا معنى لمكالمتهم في ذلك من جهة واحدة وهي الحدوث لأنهم لايجعلون المؤثر في الأحداث إلاَّ الله تعالى فأما من جهة الكسب والحدوث فالكلام بيننا وبينهم في ذلك والخلاف متوجه وإبطال قولهم فيه بأن يقال: إن كنتم لاتجوزون انفصال إحدى الجهتين عن الأخرى بل لاتقعان إلاَّ معاً لزمكم مثل ما تقدم وهو أن أحد القادرين إذا دعاه الداعي إلى تحصيله من جهته الَّتِي قدر عليها مع حصول الصارف للقادر للآخر عن تحصيله من الجهة الَّتِي يقدر عليها فإما أن يحصل من الجهتين جميعاً وهو محال وإلاَّ لزم أن يقع الفعل على جهة ممَّن له صارف عن إيقاعه عليها أو لايقع من أي الجهتين فيؤدي إلى تعذر وقوع المقدور من القادر عليه مع ثبوت الداعي له إلى إيقاعه أو يقع على إحدى الجهتين دون الأخرى فيبطل ما ذكرتموه من استحالة انفكاك إحدى الجهتين عن الأخرى وإن كنتم تجوزون انفصال إحدى الجهتين عن الأخرى على ما حكي عن برغوث والأشعري.
قلنا لكم: إذا قدر أحدنا على إيقاعه على جهة الكسب قدر على إيقاعه من جهة الحدوث، وإذا قدر الباري عليه من جهة الحدوث قدر عليه من جهة الكسب لأن من قدر على أن يجعل الذات على وجه وجب أن يقدر على جعلها على سائر الوجوه، وإذا ثبت قدرة أحدنا عليه من كلا الوجهين وكذلك الباري تعالى لم يمتنع أن يدعو أحدنا داعي الحاجة إلى فعله ويصرف الباري تعالى صارف الحكمة عنه فيكون موجوداً معدوماً، وبالجملة فما دل على امتناعه فيما مضى يدل عليه ههنا.
قوله: (وخلق فينا قدرة مقاربة له).
يعني ولاتأثير لها فيه كما حكي عن الأشعري. وقوله: (أو خلق فينا قدرة موجبة له) أشار به إلى قول متأخريهم المثبتين لتأثير القدرة مع الإيجاب.
قوله: (أو فعل فيه ما يوجبه).
الضمير في يوجبه عائد إلى الهودي.
قوله: (فهلا جاز تعلقه به من جهة واحدة).
يعني جهة الحدوث كالمراد والمعلوم فإنه يجوز تعلق المريدين بالمراد الواحد وكذلك العالمين بالمعلوم الواحد من جهة واحدة وهو كون المراد مراداً للمريدين والمعلوم معلواماً للعالمين فأما صحة إيقاع المراد على الوجوه المختلفة والمعلوم على جهة الأحكام فذلك من تأثير القادرية فلا يشترك فيه اثنان.
قوله: (إذا جاز تعلق المقدور بقادرين). وقوله: (هلا صح أن يتعلق بأكثر من قادرين).
فيه نظر لأن التعلق للقادر بالمقدور لكن إرادته صحة إيجاد المقدور من جهة القادر فإن التعلق كما أنَّه حكم ثابت للقادر فهو حكم ثابت للمقدور فيصح إضافته ويشتبه إليه.
قوله: (كالمراد والمعلوم والمملوك).
يعني فإنه يصح أن يتعلق بالمراد الواحد أكثر من مريدين وكذلك المعلوم يصح أن يعلمه أكثر من عالمين وكذلك المملوك يصح أن يملكه أكثر من مالكين.
قوله: (ويقال لهم إذا جاز فعل بين فاعلين).
يعني على أصلهم من أن أفعال العباد بينهم وبين الباري تعالى.
فصل
إن قيل: المجوزون من شيوخكم كأبي الهذيل وأبي الحسين مقدوراً بين قادرين بماذا يعلمون أن أفعالهم منهم لامن الله تعالى.
قوله: (فالمانع من ذلك شامل على المذهبين جميعاً). كان الأولى أن يقول فالسؤال في ذلك وارد على المذهبين جميعاً.
قوله: (الثانية دليل العدل والحكمة وسيتضح) يعني في ذكر كيفية الاستدلال وتحقيقه أني قال: إن في أفعالنا ما هو قبيح فكيف يجوز مع ذلك أن تكون من جهته تعالى مع ما قد تقرر لنا من حكمته وأنه لايفعل القبيح لكن هذا لايشمل جميع الأفعال.
القول في أن الله تعالى مريد وكاره
اعلم أولاً أن من أصحابنا من اختار تأخير الكلام في إثبات هاتين الصفتين للباري تعالى وتوابعهما إلى باب العدل لأن لهما تعلقاً به من حيث أنَّه تعالى مريد وكاره بإرادة وكراهة من فعله والكلام في أفعاله وحسنها وقبحها يختص بباب العدل وهو اختيار السيد الإمام مانكديم والحاكم وغيرهما واختار المصنف رحمه الله تعالى ما هو خير من ذلك وهو أن يضع الكلام في إثباتهما صفتين للباري تعالى، وما يتبع ذلك ويتفرع عليه في باب التوحيد لأنَّه كلام في إثباته تعالى وإثبات صفاته وكونه مريداً وكارهاً من صفاته ثُمَّ وضعها ههنا لأن الصفات المتقدم ذكرها متقدمة عليها في الترتيب وقدم فصل الكيفية على الكلام فيهما لأنَّه متعلق بتلك لاصفات دونهما وقدمهما على مسائل النفي لن الإثبات أقدم من النفي ووضع الكلام في أنَّه تعالى يريد الطاعات ولايريد المعاصي في باب العدل لأنَّه كلام في أفعاله تعالى ومايحسن منه وما يقبح وكونه يريد الطاعات ويكره المعاصي من ذلك.
قوله: (المريد هو المختص بصفة) إلى آخره.
اعلم أن بين العلماء خلافاً في تحديد المريد فذهب السيد الإمام وغيره إلى أن المريد والكاره لايحتاجان إلى تجديد لأن أحدنا يعلم كون المريد مريداً من نفسه وغيره ضرورة وكذلك الكاره وذهب بعضهم إلى احتياجهما إلى التجديد واعترض قول السيد ومن وافقه بأنكم إن أردتم أن كون المريد مريداً يعلم ضرورة على جهة الجملة فهذا يقتضي ألا يحد فإن كون الحي حياً وكونه عالماً وكونه قادراً يعلم على الجملة ضرورة، وإن أردتم أن كون المريد مريداً يعلم ضرورة على التفصيل فغير مسلم ويرد على الحد الذي ذكره المصنف اعتراضات:
أحدها: أن قولنا مريد أظهر من هذا الحد ومن حق الحد أن يكون أجلى من المحدود.
ويمكن الجواب بأن يقال: إن قصدت أن المريد أظهر على سبيل الجملة فذلك لايمنع من تجديده بهذا الحد كما في الحي والعالم والقادر ونحن إنَّما قصدنا تحديده على سبيل التفصيل وإن أردت أنَّه أظهر منه على سبيل التفصيل فغير مسلم.
وثانيهما: أنه يلزم أن يكون الكاره مريداً لنه يختص بصفة لأجلها يصح منه إيقاع الفعل على وجه دون وجه ككونه نهياً وتهديداً وكذلك العالم فإنه مختص بصفة لأجلها يصح منه إيقاع الفعل على وجه دون وجه فكان الأولى أن يقول على الوجوه المختلفة لأن الكاره والعالم إنَّما يصح منهما إيقاعه على أحد وجهين بخلاف المريد.
وثالثها: أنَّه يخرج من الحد من أوجد الله فيه إرادة فإنها توجب له صفة هي كونه مريداً ويكون مريداً لأجلها ولايصح منه لمكانها إيقاع الفعل على وجه دون وجه لما تقدم.
قوله: (إيقاع كلامه نهياً ونحوه).
أشار بنحوه إلى إيقاعه تهديداً ويرد على حد الكاره الأول والثالث من اعتراضات حد المريد.
قوله: (وكان أبو علي وأبو هاشم أولا) إلى آخره.
إنَّما قال أولا لن أبا هاشم قد رجع عن ذلك إلى تحديده بأنه المختص بصفة إلى آخره، وأما أبو علي فبقي على هذا القول وجعل العلم بكون المريد مريداً علماً بالإرادة لا علماًب المريد على الحال وهكذا قوله في الكاره.
قوله: (ما ثبت من صحة خلو الحي عن الإرادة والكراهة).
يعني بما ذكره أبو إسحاق بن عباس أن أحدنا مع علمه بتصرفات الناس في الأسواق لايريدها ولايكرهها.
قوله: (وأيضاً فقد يعلم المريد من لايعلم الإرادة).
يقالك إنَّما يثبت هذا فيمن علم المريد جملة فقط.
قوله: (ولهذا لم يقل بأن الله تعالى قادر على الإرادة).
هكذا قول أبي القاسم في الإرادة وفي الكراهة أيضاً فإنه قال إن الباري غير قادر عليهما لئلا يلزمه أن يكون مريداً وكارهاً لأنَّه إذا كان قادراً عليهما منه فعلهما وإذا فعلهما كان مريداً وكارهاً إذ المريد والكاره عنده ليس إلاَّ فاعل الإرادة والكراهة.
قال الشيخ الحسن بن أحمد بن متويه رحمه الله: وصار هذا القول والمذهب أعظم في الخطأ من كونه مانعاً أن يكون الله تعالى مريداً لأنَّه يقدح في كونه قادراً.
قوله: (أن يفعل الإرادة في جزء من قلبه والكراهة في جزء آخر).
يعني إذا لم يكن المريد مختصاً بصفة ترجع إلى الجملة توجبها له الإرادة كذلك الكاره وألا تتضاد الصفتان على الجملة كما يقوله الجمهور.
قوله: (وإن لم يحضر ينالفه الفعلية).
يعني ولو كان المريد هو فاعل الإرادة لم يعلمه مريداً إلاَّ من علم فعله للإرادة وهي غير مقدورة لنا هذا مذهب الجمهور، وأما أبو القاسم وأصحابه فهم يذهبون إلى أنَّها مقدورة لنا لأنهم حكموا بفتح شهوة القبيح مع اعتقادهم تنزيه الله تعالى عن فعل ما يقبح فلذلك قالوا بأنها مقدورة لنا فجعله للإرادة في حقنا هي الشهوة مبني على ذلك.
فصل
وللمريد بكوه مريداً حال وكذلك الكاره.
قوله: (وقد يضطر إلى ذلك من غيره).
ذكر أصحابنا أن من لم تثبت حكمته لم يمكنا أن نعلم كونه مريداً إلاَّ ضرورة أو يحصل لنا غالب الظن بكونه مريداً وكذلك كونه كارهاً فإما أن يدلنا شيء من أفعاله كأمره أو خبره أو نهيه أو تهديده على كونه مريداً أو كارهاً فلا لجواز التورية عليه.
قوله: (وقال الشيخ محمود وغيره) إلى آخره.
حكى الإمام يحيى عليه السلام مذهب محمود هذا عن أبي الهذيل والنظام والجاحظ وأبي القاسم البلخي والخوارزمي.
قال ابن الملاحمي: وهو الذي يذهب إليه سائر الشيوخ غير أبي هاشم ومن قال بقوله. قال الإمام: فهؤلاء يذهبون إلى أنَّه لامعنى للإرادة والكراهة شاهداً وغائباً إلاَّ الداعي والصارف ففي حق الله تعالى ليس إلاَّ علمه شاتمال الفعل على مصلحة أو مفسدة وفي حقنا هو العلم أو الظن أو الاعتقاد باشتمال الفعل على مصلحة أو مفسدة أو حصول نفع أو دفع ضرر.
وأما أبو الحسين فإنه حكم بكون الإرادة أمراً زائداً على الداعي شاهداً وأما غائباً فنفاها، واختار الإمام عليه السلام مذهبه، وفي حكاية ذلك عن أبي القاسم نظر فالشهير عنه وعن أصحابه ما ذكره المصنف من رد الإرادة والكراهة إلى الشهوة والنفار.
قوله: (لنا ما تقدم في نظائره).
يعني احتجاجاً على إثبات الصفات فمثله يدل هنا على أن للمريد بكونه مريداً صفة.
قوله: (وإن اختلف محل الإرادة والكراهة).
يعني بأن توجد الإرادة في جزء من قلبه والكراهة في جزء آخر.
قوله: (ولاوجه لذلك إلاَّ حصوله على صفتين ضدين).
يعني ولو كانت الإرادة والكراهة لاتوجبان صفتين وكان التضاد راجعاً إليهما فقط لكان مع اختلاف المحل لاتضاد إذ لايتذادان إلاَّ عليه فعرفنا أن تعذر ذلك لإيجابهما صفتين متضادتين راجعتين إلى الجملة لا إلى المحل.
قوله: (فلا بد من حالة ترجع إلى الجملة).
يعني لن صحة إيقاع الفعل على الوجوه المختلفة حكم صادر عن الجملة فالمؤثر فيه لابد أن يكون راجعاً إليها وليس إلاَّ الصفة لا نفس الإرادة لأنها راجعة إلى المحل.
قوله: (لاسيما الضرورية).
اعلم أن لفظة لاسيما من أدوات الاستثناء لكنها لاتدخل للإخراج بل لتدل على تفضيل ما بعدها وتعظيمه وأولويته بالحكم والشيء المثل والمعنى لامثل لما دخلت عليه في تلك الخصلة كقول القائلك ادخل من بالباب لاسيما بني فلان، فإنه أمر بإدخال من في الباب كافة وأتي بها لتدل على أن إدخال بني فلان أولى وأبلغ وإنَّما خص الضرورية بالأولوية لأن الاتفاق واقع على أنه لاقبيح فيها، وأما الاستدلالية فقد تقدم خلاف أبي علي وأبي القاسم فيها وتجويزهما لأن يكون فيها ما هو قبيح وتقرير ما ذكره المصنف أن أحدنا يدعوه الداعي إلى أكل مال الغير وإلى شرب الماء وهو صائم في رمضان وداعيه إلى ذلك هو علمه بحصول يقع فيه ولاكلام في أن هذا علم ضروري ويصرفه الصارف عن الحجج مثلاً وهو علمه بحصول ضرر عليه في ذلك وهذا علم ضروري فلا كلام في أنَّه لاقبح في هذا الداعي والصارف.
قوله: (وإلا كان مريداً لذاته أو لمعنى قديم وهو لايقول به).
اعلم أنَّه لايقطع بامتناع أبي الحسين وابن الملاحمي عن وصفه تعالى بأنه مريد في الزل إذ قد ذهبا إلى أن المرجع بالإرادة في حقه إلى الداعي والمرجع بالكراهة إلى الصارف وهما في حقه تعالى راجعان إلى صفته الَّتِي هي العالمية فأكثر ما في ذلك إثبات داع وصارف للقديم تعالى في الأزل ولاضير في ذلك فإن الجمهور يثبتون الدواعي والوصارف في الأزل مع أن ابن الملاحمي قد ذكر أن الداعي لايكون إرادة إلاَّ إذا خلص عن الصوارف أو ترجح عليها وداعي الحكيم لايكون خالصاً إلى الفعل إلاَّ إذا صح حدوثه في نفسه، وذلك لايكون في الأزل وإلاَّ إذا كان إحساناً ومصلحة للمكلف، وانتفت عنه وجوه القبح، وذلك أيضاً لايتصور في الأزل.
وقد احتج ابن الملاحمي بأن الإرادة والكراهة لو كانتا غير الداعي والصارف لصح أن يدعو أحدنا الداعي إلى أمر ولايريده ويصرفه الصارف عن أمر ولايكرهه والمعلوم خلاف ذلك.
والجواب: أن الموجب للتلازم بين الداعي والإرادة أن الداعي إلى الفعل يدعو إلى إرادته فيفعلهما صاحب الداعي وكذلك فالصارف عن الشيء يدعو إلى فعل كراهته.
قوله: (لايكونان إلاَّ حسنين بخلاف الأرادة والكراهة).
هذا مبني على ما قد تقرر بالأدلة فأما البغداديون فهم لايسلمون ذلك بل يذهبون إلى أن من الشهوات والنفرات ما هو قبيح وهو ماكان شهوة للقبيح ونفرة عن الحسن.
قالوا قياساً على الإرادة عندكم فإن وجه قبحها دعاؤها إلى القبيح والشهوة قد شاركتها في الدعاء إلى القبيح وكذلك النفرة قياساً على الكراهة؟
وأجاب أصحابنا بأنا لانسلم أن وجه قبح الإرادة دعاؤها إلى القبيح بل وجه قبحها كونها إرادة للقبيح ثُمَّ أنا لانسلم كون الشهوة داعية إلى القبيح إذ الدواعي من قبيل الاعتقادات والظنون ولن الشهوة والنفرة من فعله تعالى ولاقبح في أفعاله ثُمَّ أن التكليف لايتم إلاَّ بالشهوة والنفرة فكيف يقبحان.
قوله: (وكذلك الشهوة والنفار غير مقدورين). إلى آخره.
هذا أيضاً مبني على الصَّحيح من المذهب لا على تسليم البغدادية لما قدمناه من حكاية مذهبهم والذي يدل على أنهما غير مقدورين لنا أن أحدنا لو دعاه الداعي المكين إلى أن يفعل لنفسه شهوة لما ينفر عنه كالأدوية أو يزيد في شهواته للطعام الذي شهواته له قليلة لتعر عليه ذلك على طريقة مستمرة وكذلك لو دعاه الداعي إلى إيجاد نفرة له عن المعاصي لتعذر عليه ذلك ولو كانتا مقدورتين له لم يتعذر فعلهما منه مع حصول الداعي إليهما.
فصل
وهذه الصفة تثبت لمعنى هو الإرادة.
قوله: (لأنها تثبت مع الجواز).
دليل ذلك أنها لو ثبتت مع الوجوب لكان إما أن يستحقها لذاته أو لما هو عليه في ذاته فيلزم من ذلك مجالات كثيرة منها أن يكون مريداً لجميع ما يصح أن يراد كارهاً لكل ما يصح أن يكره فيؤدي إلى أن يكون مريداً للشيء الواحد كارهاً له ومنها استحالة خروجه عن كونه مريداً وكارهاً ومنها عدم جواز تجددهما على المريد ومنها لزوم ثبوتها لل جزء منفرد ومنها تعلقها بما لايتناهى.
قوله: (والحال واحدة والشرط واحد).
الحال كون المريد حياً شاهداً وغائباً لأنَّه الذي يصحح كونه مريداً، وضدها وهو كونه كارهاً والشرط البنية في حقنا لأنها شرط في تصحيح الحال لكونه مريداً فإنها لو لم تحصل والمراد بنية القلب لم تصحح الحيية المريدية وضدها وكذلك فيمكن أن يجعل من شرطها البنية الَّتِي تحتاج الحياة في الوجود إليها لأنها مصححة لمصححها وماكان كذلك فهو معدود من الشروط.
قيل: ومن الشرط في حق الشاهد ألا يكون الحي في حكم الساهي عن المراد، وأن يكون عالماً بصحة حدوث المراد او معتقداً لذلك أو ظاناً له أو شاكاً وإنَّما جعل شرطاً لهذه الصفة لأنَّه شرط في تصحيح كونه حياً وهو الحال لها لأن إرادة الحي لما هو ساه عنه لايتصور وأما في حق الغائب فالشرط هو عالميته بصحة حدوث المراد لا غير.
فصل
وحيث لاتعلم هذه الصفة ضرورة فإنما يعلم ثبوتها في حق المختص بها بطريقين.
قوله: (لأنه متى كان ساهياً عنه استحال أن يريده).
الوجه في ذلك أن المريد لايصح أن يريد إلاَّ ما علم أو اعتقد صحة حدوثه أو ظن ذلك أو شك فيه والساهي والنائم لايتأتى منهما ذلك فهلذا استحال وقوع الإرادة منهما.
قوله: (احترازاً مما يسمى جنس الفعل).
قد تقدم تلخيص مرادهم بهذه العبارة.
قوله: (ويمنع من إرادته).
يعني بأن يخلق الله تعالى فيه كراهات لايتمكن معها من فعل الإرادة لن المنع لايكون إلاَّ بالضد أو ما يجري مجراه.
قوله: (ولايصح وقوع الفعل على الوجوه المختلفة إلاَّ من مريد).
اعلم أولاً أن أصحابنا ذهبوا إلى أن للكلام بكونه أمراً وخبراً ونحو ذلك أحكاماً على ما سبق القول فهي ثُمَّ ذهبوا إلى أن الأمر ثبت له حكم هو كونه أمراً لإرادة الآمر المأمور به والنَّهي ثبت له حكم بكونه نهياً لكراهة الناهي للمنهي عنه، وأما سائر أنواع الكلام فيثبت لها أحكاماً لإرادة تلك الأحكام فيثبت للخبر حكمه بكونه خبراً لأن المخبر أراد كونه خبراً، وكذلك غيره من الأنواع، هذا ما ذكره أصحابنا فأما الأشعرية فلم يفصلوا بين تلك الأحكام بل قالوا بثبوتها جميعها لكون المريد أرادها سواء كانت أمراً أو نهياً أو خبراً أو غير ذلك، وذهب ابن الخطيب الرازي إلى أن صيغ الكلام تثبت لها أحكامها بالوضع اللغوي على معنى أن صيغة الأمر موضوعة في أصل اللغة للأمر من دون اعتبار إرادة، وقد حمل كلام أبي القاسم حيث جعل ثبوت تلك الأحكام لأعيانها على هذا وإن كان المفهوم من حكاية أصحابنا أن أبا القاسم وأصحابه جعلوا هذه الأحكام ثابتة للكلام لذاته كما يثبت للجوهر كونه جوهراً.
قوله: وبعد فكنا نعلم الخبر حتى) إلى آخره.
يعني لو كانت الصيغة خبراً عن هذا المخبر عنه المعين لعينها وأراد بقوله والمخبر مخبراً أي والمخبر عنه مخبراً عنه.
قوله: (وبعد فإنما يصح هذا القول بعد العلم بماهية الخبر).
يعني إنَّما يصح قولكم أن الخبر خبر لعينه عن شخص معين وأنه يفيد ذلك إلاَّ بعد علم المخبر بماهية الخبر لأنكم عللتم كونه خبراً بعينه فيتوقف معرفة الحكم المعلل وهو كونه خبراً على معرفة حقيقة عينه وماهيتها لأن ذلك هو علته ومعرفة الحكم تتوقف على معرفة العلة.
قوله: (ومعه لايصح العلم بها).
أي ومع هذا القول لايصح علم المخبر بالماهية الَّتِي من جملتها كونها خبراً عن شخص معين إذ نفس الصيغة لاتفيد ذلك ولاطريق إلى معرفة الماهية غيرها فيلزم الدور هذا أقرب ما يحمل عليه كلام المصنف، وإن كان فيه بعض غموض.
قوله: (فكان يصح أن يكون خبراً قبل المواضعة).
يعني لأنَّه إذا كان خبراً لعينه فلا تأثير للمواضعة في إفادته لأن عينه ثابتة قبلها وغير متوقفة عليها، والمعلوم أنَّها لو حصلت قبل المواضعة لم تحصل الفائدة.
قوله: (وكان لايصح التجوز في الكلام).
التجوز استعمال للفظ في غير ما وضع له في الأصل، وكان الأولى أن يقول: وكان لايصح التجوز في الخبر بأن يخبر به عن غير ما هو خبر عنه في الصل لأنَّه عندهم خبر عنه لعينه.
قوله: (ولهم أن يقولوا إن التجوز وقع بمثل الخبر).
يعني لن الخبر الذي هو خبر لعينه عن الحقيقة بل يمثله الذي ليس هو خبراً عنها لعينه مثاله، إذا قال: جاء الأسد. فهذا عندهم خبر لعينه عن السبع المخصوص فألزموا ألا يصح أن يقول ذلك في الرجل الشجاع لأن ذلك الخبر خبر لعينه عن السبع، فأجاب عنهم ابن امللاحمي بأن قوله: جاء الأسد، ويريد الرجل الشجاع ليس هو الخبر الذي هو خبر لعينه عن السبع بل هو مثله فيصح أن يكون خبراً لعينه عن الرجل الشجاع. وجواب المصنف عليه قوي صحيح.
قوله: (وبعد فكان لايمكن أحدنا الإخبار) إلى آخره.
هذا وجه أورده ابن متويه في تذكرته فقال: لو كان الخبر عن زيد لايصح أن يكون خبراً إلاَّ عنه دون غيره لوجب اختصاص كل خبر بمخبر معين فكان إنَّما يصح أن يخبر على قدر قوي لسانه إلى آخر كلامه، وتلخيصه أن يقال: لو كان خبراً لعينه وقدرنا أنه لايقدر إلاَّ بعشر قدر على عشر صيغ عن عشرة من الزيدين مثلاً لوجب ألا يقدر على الإخبار بغيرها عن غير من هي خبر عنه حتَّى لو قدرنا أنَّه ترك أحدها ولا المخبر عنهم لما قدرنا على أن نبدله بغيره لأن القدرة الواحدة لاتتعدى على الشروط المذكورة المقدور الواحد وهذه الحروف متماثلة الزايات والياءات والدالات في الزيود العشرة.
قوله: (على ما لايتناهى على البدل).
يعني فالقدرة الواحدة على الصيغة الواحدة يصح أن تفعل بها صيغ لاتتناهى على البدل واحدة بعد واحدة، أو مكان واحدة.
قوله: (كما يقولونه في إرادته الأخبار عنهم).
هذه إشارة إلى معارضة وردت وتحقيقها أن يقال: إذا كان الخبر لايصير خبراً عن زيد إلاَّ بالإرادة وكان في هذا المخبر عشر قدر يقدر بها على عشر إرادات لزمكم ألا يصح منه الإخبار إلاَّ عن عشرة أشخاص وهم الذين فيم قدوره عشر إرادات للإخبار عنهم لاعن غيرهم.
فأجاب أصحابنا بأن الإرادات مختلفة لتغاير متعلقاتها، وإذا كانت مختلفة فالقدرة الواحدة تتعلق في الوقت الواحد من المختلفات بما لانهاية له فلا يلزم ما ذكرتم من عدم صحة الإخبار عن غير عشرة بخلاف الزايات ونحوها فإنها متماثلة فلا يصح منه الإخبار إلاَّ عن عشرة من الزيدين ويحتمل أن يكون المراد بقوله كما يقولون في إرادته الإخبار عنهم بأن الإرادة الواحدة كافية في ذلك وفيه خلاف بين الشيوخ لكن الصَّحيح أنَّها كافية بدليل صحة الإخبار عما لايتناهى كما يصح من القديم الإخبار عن نعيم الجنة مع عدم تناهيه فلولا أن الإرادة الواحدة كافية لاحتيج إلى ما لايتناهى من الإرادات.
قوله: (أو كونه قادراً). أي كونه قادراً على افخبار عن ذلك المخبر عنه.
قوله: (وإلا احتاج إلى المواضعة).
يعني لن ذاته وصفة ذاته وكونه قادراً حاصلة مع عدم المواضعة.
قوله: (ونحو ذلك) يعني من الوجوه المبطلة لكون ذلك الأمر ذاته وصفة ذاته وكونه قادراً كأن يقال: إن ذاته وصفة ذاته وكونه قادراً مع الزيدين على سواء فلا بد من مخصص ووجه يختص كونه قادراً وهو أن تأثيره في الأحداث فقط فلا يصح التخصيص به.
قوله: (وأما كونه عالماً). يعني بالمخبر عنه.
قوله: (وهو باطل بما تقدم من أن الإرادة غير الداعي).
فيه نظر لنهي قال أنَّه وإن صح أن الإرادة غير الداعي فهو لايبطل قول ابن الملاحمي من أنه يكون خبراً عن أحدهما لأنَّه دعاه الداعي إلى الإخبار عنه دون الآخر لنه لم يدعه الداعي إلى الإخبار عنه فالمعتمد في إبطال قوله ما ذكره بقوله يزيده وضوحاً إلى آخره، ومعناه: يزيد ما قلناه من أن ذلك الأمر هو الإرادة دون الداعي ولعل المصنف أراد أن ابن الملاحمي إنَّما ذهب إلى أن ذلك المر هو الداعي بناء منه على أن الإرادة المرجع بها إلى الداعي فأما لو سلم أنَّها زائدة عليه فإنه يعترف بأنها هي الَّتِي صيرت الخبر خبراً عن هذا دون هذا وقد مضى تقرير أنَّها زائدة على الداعي فبطل ما بناه على أن المرجع بها إليه.
قوله: (وأما أن يكون ذلك الأمر هو كونه مريداً وهو المطلوب).
اعلم أنَّه كثيراً ما يجري في كتب أصحابنا غير المصنف أن ذلك المر المؤثر في كون الخبر خبراً والأمر أمراً هو الإرادة، وأن المؤثر في كون الكلام نهياً الكراهة وهو مبهم على سبيل التساهل وإنَّما المؤثر الصفة الَّتِي هي كونه مريداً على ما ذكره المصنف والإرادة والكراهة مؤثرتان في الصفتين لا في هذه الأحكام على ما هو مبين في موضعه من اللطيف.
قوله: (فإنها لاتنفصل عن التهديد والتحدي والإباحة إلاَّ بالإرادة).
التهديد كقوله تعالى: {اعملوا ما شئتم} والتحدي كقوله تعالى: {فأتوا بعشر سور} والإباحة كقوله تعالى: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} ولاكلام في أن هذه الصيغ كصيغة الأمر فلولا إرادة المأمور به وعدم إرادة ما وقع التهديد عليه والمباح وفعل المتحدى به لم يكن فرق بينها وبين المر لتماثل الصيغ وهو ظاهر.
قوله: (وكذلك كون الصيغ نهياً في دلالتها على كونه كارهاً).
يعني فلولا كونه كارهاً لم ينفصل النَّهي عن التهديد لتماثل صيغتيهما فإن التهديد كما يكون بصيغة الأمر قد يكون بصيغة النهي، فالنهي لاينفصل عنه إذا كان بصغيته ألا يكون الناهي كارهاً للمنهي عنه غير كاره للمتهدد على تركه.
فائدة
اعلم أن كل نوع من أنواع الكلام ما خلا الأمر والنَّهي يفتقر في ثبوت الحكم له إلى صفة واحدة لفاعله بكونه مريداً ولايفتقر إلى أزيد منها فالخبر يفتقر إلى كون فاعله مريداً لكونه مخبراً بما أخبر به، ويكفي في كونه خبراً هذه الصفة الواحدة الصادرة عن إرادة واحدة وإن كان لابد أيضاً من كونه مريداً لإحداثه نفسه بإرادة أخرى، فأما الأمر فقال أبو هاشم: يكفي في كونه أمراً إرادة حدوث الصيغة وإرادة المأمور به، وإلى هذا ذهب من يثبت للأمر والنَّهي حكماً، وأثبته لغيرهما من أنواع الكلام وقال أبو علي: يحتاج إلى ثلاث صفات صادرة عن ثلاث إرادات ما ذكره أبو هاشم وإرادة كون الصيغة أمراً، وأما النَّهي والتهديد فقال أبو علي: يفتقران إلى إرادتين وكراهة إرادة حدوث الصيغة وإرادة كونها نهياً أو تهديداً وكراهة المنهي عنه والمتهدد على فعله، وحذف أبو هاشم إرادة كونه نهياً أو تهديداً فلم يوجبها، وحذفت المجبرة كراهة المنهي عنه والمتهدد على فعله فلم يشترطوها في كونه نهياً وتهديداً ولا اشترطوا أيضاً في المر أيضاً إرادة المأمور به تأسيساً منهم لما سيأتي من مذاهبهم الفاسدة.
فصل في الدلالة على إثبات هذه الصفات الَّتِي هي المريدية للباري تعالى
اعلم أولاً أنَّه لا خلاف بين أهل الإسلام في أنه تعالى مريد وكاره وأنه يوصف بذلك.
قيل: ومن دفعه فهو كافر، وإنَّما الخلاف في معنى كونه مريداً وهو على ما حكاه المصنف، والخلاف في تفصيل كونه كارهاً كالخلاف في كونه مريداً إلاَّ أن املجبرة مع موافقتهم في إثبات صفة له تعالى بكونه مريداً قالوا: في كونه كارهاً: المرجع به إلى أنه غير مريد ولم يثبتوا له بكونه كارهاً صفة وكلامهم واضح البطلان، فإن الذي دل على أنَّ له بكونه مريداً صفة هو بعينه الدال على أن له بكونه كارهاً صفة فليس ما قالوه بأولى من العكس.
وذهبت المطرفية إلى أن المرجع بكونه مريداً وإرادته إلى الفعل الذي أراده وذلك باطل فإن إرادة الواحد منا ليست مراده إذ قد يكون من فعله والمراد من فعل غيره والإرادة لاتبقى وكثير من المرادات تبقى كالتأليف ونحوه، وإذا كان المراد في حقنا غير الإرادة فكذلك في حقه تعالى.
قوله: (وسبيلنا أن ندل على صحة هذه الصفة في حقه تعالى ثُمَّ على ثبوتها).
يقال: ما الملجئ إلى إفراد الدلالة على صحتها وعدم الاكتفاء بإيراد الدلالة على ثبوتها كما في سائر صفاته تعالى.
والجواب: أن الملجئ إلى ذلك كونها صفة معنوية فالمؤثر في صحتها غير المؤثر في وجوبها بخلاف صفاته تعالى المقتضاة فإن المؤثر في صحتها هو المؤثر في وجوبها ولن كثيراً من المعتزلة مخالفون في صحة هذه الصفة عليه تعالى وإذا كان المصحح لها في الشاهد الحيية وقد حصلت ف يحقه تعالى وجب أن تصح عليه لحصول المصحح في حقه.
فإن قيل: ومن أين أن المصحح لهذه الصفة في الشاهد هي الحيية؟
قلنا: لأن صحتها تحصل بحصول الحيية وتنتفي بانتفائها وليس ههنا ما يعلق تصحيح كونه مريداً به أولى من كونه حياً وإلاَّ لزم حصول الحيية مع عدم حصول الصحة بأن لايقع ذلك الأمر المصحح أو حصولها مع عدم حصول الحيية بأن يقع ذلك المر ومعلوم خلافه.
فإن قيل: إنَّما صح في كل حي في الشاهد أن يكون مريداً لحصول شرط تصحيح كونه حياً لهذه الصفة وهو بنية القلب وهذا الشرط لم يحصل في حقه تعالى فلا تصح هذه الصفة عليه لأن المشروط لايحصل بدون الشرط.
قلنا: إن المصحح إذا اختلفت كيفية استحقاقه جاز اختلاف شرط تصحيحه والحيية كيفية استحقاقها مختلفة في حقه تعالى وفي حقنا فجاز اختلاف الشرط ولايقدح اختلافه في تصحيح المصحح فأما ثبوت هذه الصفة في حقه تعالى فالدليل عليه ما ذكره رحمه الله ومن الأدلة على ذلك أشار إليه آخراً بقوله: يزيده وضوحاً، والضمير في يزيده عائد إلى ثبوت الصفة له تعالى، وهو دليل ذكره المتقدمون من المتكلمين وهذبه الشيخ الحسن وتحقيقه: أنَّه تعالى علمنا بوجوب الواجبات وخلق فينا النفار عنها وأعلمنا بقبح المقبحات وخلق فينا الشهوات لها مع التمكين من ذلك وزوال الإلجاء إلى فعل الواجب وترك القبيح ولم يعيننا تعالى عن القبيح ولاعن الإخلال بالواجب فلا بد من أن يريد منا فعل الواجب ويكره منا فعل القبيح وإلاَّ كان تعالى مغرياً بفعل القبيح وترك الواجب وهو خلاف العرض بالتكليف وذلك قبيح منه تعالى وهو تعالى لايفعل القبيح على ما قد تقرر بالدلة في موضعه.
فصل
والباري تعالى يستحق هذه الصفة لمعنى محدث كالشاهد، والخلاف فيه على ما حكاه المصنف رحمه الله إلاَّ أن الكلابية تقول أنَّه مريد بإرادة أزلية ولافرق بين قولهم وقول الأشعرية وقد اتفقوا جميعاً على أن هذه افرادة لاهي الله ولاهي غيره، وذهبوا إلى نفي الصفة الَّتِي هي كونه كارهاً على ما تقدم وقد ذهبت المطرفية إلى أن المرجع بإرادته تعالى إلى الفعل الذي أراده كما تقدم وتعلقوا بكلام روي عن الإمام الهادي إلى الحق قدس الله روحه أن إرادة الله مرادة ويؤل بحذف كاف التشبيه ويكون تقديره: كمراده ولهذا قال فيما روي من كلامه بعد ذلك وكلاهما فعله وإيجاده.
قوله: (والحال واحدة والشرط واحد).
أما الحال فهي كونه حياً لنها الَّتِي تصحح المريدية وضدها على ما تقدم، وأما الشرط فقيل وجوده تعالى ويمكن اعتراضه بأنه كان يلزم صحة هذه الصفة عليه تعالى في الأزل لحصول حالها وشرطها ولو صح ذلك للزم أن يكون صفة ذاتية أو مقتضاة وهو محال.
ويمكن الجواب بأن ذلك يؤدي إلى ما ذكر لنا سنقرر أنَّه لايستحقها تعالى إلاَّ لمعنى من فعله ولايجوز صدور الأفعال عنه تعالى فيما لم يزل فلهذا لم يجز حصولها له في الأزل لاستحالة حصول الموجب لها حينئذ لا لستحالتها فهي صحيحة في تلك الحال فلا يلزم من ذلك كونها ذاتية أو مقتضاة. وقيل: بل الشرط صحة وجود المراد في الحال لأنَّه قد ثبت أنَّه لايصح إرادة الشيء إلاَّ إذا علم المريد أو اعتقد أو ظن صحة حدوثه أو شك في ذلك والباري تعالى لايجوز عليه من ذلك غير العلم وهو لايعلم صحة حدوث المراد إلاَّ إذا صح حدوثه.
قوله: (لنه الذي يشتبه الحال فيه).
يعني لكون من العلماء من ذهب إليه وتعلق في ذلك بحجج أوردها فأما أنَّه يستحقها لمعنى معدوم أو بالفاعل أو لغير ذلك من الأقسام الَّتِي يذكرها أصحابنا فذلك وإن كان إيراده وإبطاله حسناً للاحتمال فالحاجة إليه قليلة لعدم اشتباه الحال فيه.
قوله: (ككونه عالماً لا ككونه قادراً).
يعني فلا يقال أليس كونه قادراً يستحقها تعالى لذاته ومع ذلك فلم يلزم أن يكون قادراً على جميع المقدورات ولا على كل ما يصح أن يقدر عليه لما بين من الفرق وهو أن كونه مريداً يشبه كونه عالماً لأنَّه كما يصح معلوم بين عالمين يصح مراد بين مرادين كما إذا أراد زيد وعمرو قيام بكر بخلاف كونه قادراً فإنه لايصح مقدور بين قادرين فإذا كانت المريدية أشبه بالعالمية فلا كلام في أنَّه تعالى يعلم جميع ما يصح أن يعلم فكذلك يلزم في المريدية إذا اتحدت جهة استحقاقها.
قوله: (لاسيما على مذهب الخصم) يعني الأشعرية والنجارية فإنه يلزمهم وقوعه مطلقاً سراً كان من مقدوراته تعالى أو من مقدوراتنا لما يذهبون إليه من أن ما يريده تعالى فهو واقع لامحالة مطلقاً فأما نشوب المعتمر فالذي يلزمه وقوع جميع ما يصححدوثه من مقدوراته تعالى لأنَّه إذا كان مريداً لذاته فلا بد من أن يريد جميع ما يصح أن يراد وهو ما يصح حدوثه من مقدوراته تعالى ومقدوراتنا، وإذا أراد جميع ما يصح أن يراد من مقدوراته أو هو مما يصح حدوثه مع أنَّه لايصح المنع عليه تعالى وجب أن يوقعه لأن من حق القادر إذا أراد مقدوراً له ولامانع له من إيجاده أن يوجده.
قوله: (لأن عنده) إلى آخره.
هذا يختص الأشاعرة والنجارية فأما بشر فإذا اعتذر بأن الإرادة تتبع الداعي قلنا له: لانسلم ذلك ولايتأتى لك مع ما تذهب إليه لأن الصفة الذاتية لاتقف على أمر فلا يقف كونه مريداً للشيء مع كونه يستحقها لذاته على عالميته بحصول نفع لغير أو دفع ضرر عنه مع الحسن وإنَّما يتأتى ذلك مع جعلها معنوية واقعة على فعله تعالى للإرادة فيقال أنه تعالى لايفعل الإرادة لشيء إلاَّ إذا دعاه الداعي إليه.
قوله: (وبهذا يبطل كون إرادتي الضدين ضدين).
اعلم أولاً أن هذه مسألة خلاف بين المشائخ فالذي ذهب إليه أبو هاشم أخيراً والجمهور من أصحابنا أن إرادتي الضدين لاتتضادان وذهب الشيخ أبو علي وهو قول أبي هاشم أولاً إلى تضادها بين الإرادتين فمن الأدلة على صحة كلام الجمهور ما ذكره المصنف من أنه يصح من مريد واحد أن يريد حدوث الضدين إذا اعتقد صحة حدوثهما وعدم تنافيهما لن الإرادة تتبع اعتقاد صحة الحدوث فلو كانت الإرادتان متضادتين لما صح ذلك وفي هذه املسألة أدلة كثيرة وخبط كثير وهو بموضعه أليق.
قوله: (وهو محال عندهم).
إنَّما قال عندهم لأنهم يطلقون القول باستحالة تخلف مراده تعالى سواء كان من فعله تعالى ومقدوراته أو مما يختص بالقدرة عليه غيره وإن كنا نحن وهم متفقون على أن ما أراده تعالى من فعله نفسه وجب استمرار وقوعه لكونه تعالى قادراً عليه غير ممنوع منه إذ لايصح المنع عليه وكذلك لو أراد وقوع فعل غيره على وجه الإلجاء استحال تخلفه أيضاً.
قوله: (لاسيما على مذهب الخصم).
يعني الأشاعرة والنجارية لكنه يقال لافرق في القول بصحة خروجه تعالى عن تلك الصفة بين مذهبنا ومذهبهم فإنا وإن كنا نقول بأن إرادة الباري لإيمان زيد تستمر بعد كفره نقول بمثل ما قالوه من وجه آخر وهو أنَّه تعالى إنَّما يريد الشيء إذا أراده قبل وجودته فإذا وجد أو استحال وجوده ينقضي وقته مثلاً خرج تعالى عن كونه مريداً له.
قوله: (وليس لهم أن يقيسوه على صورة العلم).
صورة القياس أن يقولوا أليس عندكم أنَّه تعالى عالم لذاته، وقد تعلقت عالميته بأنه لايقيم القيامة إلاَّ في وقتها المخصوص ولايخلق لزيد إلاَّ رأساً وذهبتم مع هذا إلى أنه لايجوز أن يقع خلاف ما علمه تعالى لأنَّه يؤدي إلى انقلاب علمه جهلاً ولم يؤد ذلك إلى نفي التخير فهلا جاز لنا أن نقول بأن إرادته تعالى متعلقة بذلك ولايقع خلاف ما أراده ولايلزم نفي التخير.
وتقرير الجواب الذي ذكره أنا وإن قلنا بما ذكرتموه من تعلق العالمية وعدم وقوع خلاف ما تعلقت به فإنا نذهب إلى أن قادريته تعالى متعلقة بخلاف ما علمه وأنه يصح منه تعالى فعله فلا يؤدي إلى نفي التحيز بخلاف ما تذهبون إليه فإنكم تقولون لايجوز تعلق الإرادة بخلاف المعلوم وإذا لم يجز تعلقها به لم تتعلق به القادرية لن تعلقها تابع لتعلق الإرادة عندكم فيصح ما ألزمناكم من نفي التخير وهذا تلخيص ما أشار إليه من الجواب وكان الأولى أن يقول بدلاً عن قوله ولاتجيزون تعلق القدرة بخلاف ما تعلقت به الإرادة إن صح أنهم يقولون بذلك.
قوله: (قال تعالى: {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحي إليك}).
يعني فدل على أنه تعالى قادر على فعل مالم تعلق به إرادته ومتمكن منه فإنه تعالى لم يرد إذهاب ما أوحى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع إخباره بتمكنه تعالى من ذلك ولو صح كلامهم لم يتأت ذلك.
قوله: (يوضحه أن الشرط لايدخل إلاَّ في المستقبل).
يعني فلا يدخل أداة الشرط على ما كان ماضياً أو حاضراً، والشرط ههنا المشيئة، وهذا منه رجوع إلى الإستدلال على إبطال الإرادة القديمة؛ لأنَّه إذا كان الشرط لا يدخل إلاَّ في المستبل دل على أن المشيئة الَّتِي هي الإرادة غير قديمة إذ لا يجعل ما كان قديماً داخلاً على حرف الشرط، وقد جعل حصولها شرطاً في الإيجاب داخلاً على أن قوله: (ولا بد من أن يعترفوا بأنه أراد هذا الشيء مع جواز ألاَّ يريده) يعني لا بد لهم من الاعتراف بأن الذي أراده تعالى من المرادات أراده مع جواز ألا يريده كما إذا أراد كفر الكافر عندهم فإنهم إنَّما حكموا بإرادته تعالى له لوقوعه ولابد لهم من تجويز أن يخلق الله فيه قدرة الإيمان بدلاً عن قدرة الكفر ينفع منه ولو فعل ذلك لكان مريداً لإيمانه وكذلك إذا فعل الله حركة مثلاً في جسم فإنه لايمكنهم المنع من جواز أن يسكنه تعالى قبل تحريكه إذن لبطل اختياره وأراد به لتحريكه كأن يجوز ألا يكون لجواز تسكينه قبل وإذا كان كذلك دل على أنَّها صفة جائزة غير ذاتية ولا صادرة عن معنى قديم.
فصل
وللمخالف شبه في أنَّه تعالى مريد لذاته أو بإرادة قديمة.
قوله: (وأكثرها قد دخل في أثناء الكلام يقال لم يدخل من شبههم في أثناء كلامك في هذه المسألة شيء اللهم إلاَّ أن يكون أراد شبه الذين يزعمون أنَّه مريد بإرادة قديمة وأراد بذلك شبههم الَّتِي يتعلقون بها في إثبات القدرة والعلم فتلك إنَّما احتجوا بها على إثبات المعاني فقط ونحن نسلم ثبوت المعنى ههنا ولم يحتجوا بها على أنَّها معان قديمة ويمن أنَّه أراد ما يحتج به بعضهم من أنَّه تعالى قادر عالم موجود لذاته فيجب أن يكون مريداً لذاته فيكون الجواب قد دخل في أبناء الكلام لأنا قد بينا أن القول بأنه مريد لذاته يؤدي إلى مجالات لايؤدي إليها كونه قادراً لذاته وما هذا لو صح بأكثر شبههم فكلامه لايخلو عن نظر.
قوله: (وفاعلاً بعد أن لم يكن).
فيه نظر لأنَّه ليس له بكونه فاعلاً حال فلا يقاس عليه كونه مريداً لأن له بكونه مريداً صفة وإنَّما يتأتى المعارضة بما ذكره من كونه مدركاً وإن كان بشر بن المعتمر يرجع بها إلى .......... كما هو مذهب البغدادية ويمكن أن يجاب بأنه إنَّما عارضهم بكونه فاعلاً على تقدير أنَّها لو كانت صفة لم يحصل بثبوتها بعد أن لم يكن تغير ثُمَّ أنَّها وإن لم تكن صفة فقد صار للفاعل بعد فعله مزية لم يكن عليها فإذا لم يتغير بثبوت هذه المزية فكذلك لاتتغير بتجدد الصفة ومما يقال في جواب هذه الشبهة هل علمتم ضرورة أن ذلك يؤدي إلى تغير فيجب أن يشارككم فيه أو دلالة فما هي.
قوله: (لأنهما يضادان العلم) يعني السهو والغفلة وهما بمعنى واحد والقول بمضادة السهو للعلم هو مذهب الشيخين وبه قال أبو القاسم وأبو عبدالله فإنهم أثبتوه معنى يضاد العلم وأما أبو إسحاق والقاضي وتلامذته وأكثر المتكلمين فلم يثبتوه معنى فضلاً عن أن يجعلوه مضاداً للعلم وإنَّما المرجع به عندهم إلى زوال العلم بالأمور الَّتِي جرت العادة بالعلم بها والذي يختاره المصنف ما ذهب إليه الجمهور على ما مضى له في أول الكتاب لكن حذا ههنا حذو السيد الإمام وكلامهما على جهة التقدير بمعنى أنا لو سلمنا أن السهو والغفلة معنى فمضادته للعلم لا للإرادة على ما ذهب إليه من أثبته معنى وإن كان الشيخ أبو القاسم قد ذهب أيضاً إلى أنَّه يضاد الإرادة كما يضاد العلم ويلزم منه مضادته لسببين مختلفين وقد تقرر عدم صحة ذلك.
قوله: (إلا إذا لم يجز خلو الذات عن الصفة وضدها).
يعني فلو كان كذلك لم يخل الباري عن إحدى الصفتين اللتين هما المريدية وكونه ساهياً، وكان زوال أحدهما دليلاً على ثبوت الأخرى لكن ذلك غير لازم على ما تقدم تقديره فلا يلزم من كونه تعالى غير ساه مع تسليم مضادة السهة للإرادة كونه مريداً على ما ذكروه.
فصل
قوله: (وإذا ثبت أنَّه تعالى مريد بإرادة محدثة فهذه الإرادة المحدثة إنَّما توجد في محل).
وإنَّما يثبت ما ذكره لما تقدم من إبطال ما يشتبه من الأقسام غير هذا مع بطلان أن يستحقها تعالى بالفاعل لما مضى من أنَّه لايجعل الذات على صفة إلاَّ من قدر على تلك الذات وغير ذلك من الوجوه وبطلان أن يستحقها تعالى لإرادة معدومة لأنَّه لا اختصاص لها بمراد دون مراد ولامبريد دون مريد، لأن العدم مقطعة الاختصاص والعلة لاتوجب إلاَّ بشرط الاختصاص.
قوله: (لنه تعالى يستحيل أن يكون محلاً للأعراض فيه) إذ الحلول فرع على التحيز والتحيز فرع على الجسمية.
قوله: (أما الجماد فيستحيل وجود الإرادة فيه رأساً). يعني لأن الذي يصحح وجودها الحياة ولاحياة في الجماد ولو صح وجودها فيه للزم صحة أن يكون الجماد مريداً فيتأتى منه إيقاع الفعل على الوجوه المختلفة ونحن نعلم استحالة ذلك منه ثُمَّ كان يلزم مع وجودها في الجماد إذا قدرنا أنَّه لايلزم إيجابها له ألا تكون بإيجاب الصفة له تعالى أولى منا إدخالها معه تعالى ومعنا على سواء لم يختص به أبلغ من اختصاصها بنا كانت بأن توجب له أولى من القديم تعالى، يعني لاختصاصها به غاية ما يمكن من الاختصاص بأن حلت فيه وعدم اختصاصها به تعالى إذ لم تحله ولاوجدت على حد وجوده.
قوله: (ولولا قيام الدلالة على أن ما عدا إرادة الباري وكراهته والفناء لايوجد إلاَّ في محل لجوزنا وجوده لا في محل).
اعلم أن الذي قامت الدلالة عليه أن الأعراض على ثلاثة أضرب:
الضرب الأول: يصح وجوده في محل وفي غير محل وهو نوع الإرادة والكراهة.
الضرب الثاني: لايصح وجوده في محل ويجب وجوده في غير محل وهو الفناء.
الضرب الثالث: يستحيل وجوده لا في محل ويجب وجوده في محل وهو سائر الأعراض وبالجملة فما كان وجوده في المحل وغيره لايؤدي إلى انقلاب ذاته ولا انقلاب ذات غيره صح فيه مجموع الأمرين وما كان لو وجد في محل أدَّى إلى انقلاب ذاته لم يصح فيه ذلك وكذلك ما كان لو وجد لا في محل أدَّى إلى انقلاب ذاته أو انقلاب ذات غيره لم يجز ذلك فيه وشرح ذلك وبسطه في مواضعه من اللطيف ومثال ماي ؤدي عدم حلوله إلى انقلاب جنسه الأكوان لن الحركة والسكون يتضادان على المحل فوجودهما لا في محل يرفع التضاد بينهما وفي ذلك انقلاب حديهما وكذلك التأليف لأن حكمه أن يحل في محلين وذلك لما هو عليه في ذاته فوجوده لا في محل يؤدي إلى انقلاب جنسه وكذلك الاعتماد لأن حكمه أن يختص بجهة.
ومثال ما يؤدي ذلك فيه إلى انقلاب ذاته أو انقلاب ذات غيره العلم لأنَّه لو وجد لا في محل فإما أن يوجب االصفة للباري تعالى ويقتضي ذلك جواز وجود جهل كذلك فيخرج القديم عن صفته الذاتية وهي العالمية وإما ألا يوجب صفة رأساً فتنقلب ذاته وعلى هذا فقس.
قوله: (وإلا خرجت عما هي عليه في ذاتها) يعني بذلك صفتها الذاتية وذلك أنَّها إذا خرجت عن إيجابا لصفة مع أن الإيجاب حكم مقتضى عن صفتها المقتضاة فذلك لايكون إلاَّ مع خروجها عن صفتها المقتضاة وخروجها عن صفتها المقتضاة لايكون إلاَّ بخروجها عن مقتضيها وهي الصفة الذاتية وخروجها عن الصفة الذاتية محال.
تنبيه
اعلم أن هذه الإرادة الَّتِي أثبتت للباري تعالى لاتكون إلاَّ من فعله لن غيره إما جماد أو عرض وهما غير حيين ولا قادرين والفعل لايصح إلاَّ من حي قادر أو حيوان ولايصح أن يكون من فعله لأن هذا الحيوان إن أوجدها في محل لم يختص بالباري تعالى فلا توجب له لعدم الاختصاص وإن أوجدها لا في محل كما أوجبناه في إرادته تعالى لم يصح لأنَّه لايعدي الفعل عن محل قدرته إلاَّ بالاعتماد ولاتأثير له في توليد الإرادة فلم يبق إلاَّ أن يكون محدثها هو الباري تعالى.
لايقال: إن ذلك يؤدي إلى التسلسل لأنَّه تعالى لايحدثها إلاَّ بعد أن يريد إحداثها ولايريد ذلك إلاَّ بإرادة يفعلها ثُمَّ كذلك.
لأنا نقول: الإرادة جنس الفعل لنها لاتقع بكل حال إلاَّ على وجه وهو حدوثها وصفة جنسها وهي صفتها المقتضاة وهي وإن وقعت تارة على وجه يقتضي القبح وتارة على وجه يقتضي الحسن أو الوجوب فذلك لازم لوجودها ولايحتاج إلى الإرادة وهي أيضاً تقع تبعاً للداعي لا أنَّها مقصودة بنفسها على أن هذا السؤال لايرد على البغداديين لما رواه السيد الإمام عنهم من القول بأن إرادة الإرادة مستحيلة كما يستحيل إرادة النافي والماضي وقد كان الشيخ أبو علي يقول لايصح إرادة الإرادة، وتوقف أبو هاشم ثُمَّ رجعا إلى القول بصحة إرادتها.
فصل فيما يصح أن يراد ويستحيل ويجب ويحسن ويقبح
قوله: (والباقي).
إنَّما يستحيل إرادة النافي في حق من يعتقد بقاءه فأما من لايعتقده كمن يعتقد تجدد الجسم حالاً فحالاً فإنه يصح أن يريده.
قوله: (استحال أن يراد).
يقال: أما إرادة اجتماع الضدين في حق من يعتقد تضادهما فهو غير مستحيل إلاَّ من حيث أن الداعي لايدعو إلى ذلك للعلم بتعذره ومالم يدع إليه الداعي لم يقع إذا لم يكن مما يصح على الساهي والنائم ولامما يقع تبعاً لغيره لا أن ذلك متعذر إذ لو استحال وتعذر لصح ما قاله أبو علي من تضاد إرادتي الضدين.
قوله: (لعرض يخصه).
يعني لا على جهة التبع لغيره من غير أن يكون هو نفسه مقصوداً.
قوله: (ولايكون في حكم الساهي عنه).
أراد ألا يكون ساهياً ولا في حكمه كمن زال عقله لنوم أو غيره لكنه يقال قد أغنى عن هذا الشرط قوله بفعله الفاعل لغرض يخصه لأن الساهي ومن في حكمه لايفعل لعرض إذ لايصح منه الإرادة.
قوله: (ولاممنوعاً من إرادته).
المنع من الإرادة هو بفعل الكراهة ولايكون ذلك إلاَّ من جهته تعالى لأن أحدنا لايفعل لنفسه كراهة لما دعاه الداعي إليه وإلى إرادته ولايجوز أن تكون تلك الكراهة الَّتِي هي منع من الإرادة من فعل غيره تعالى من القادرين بقدرة، إذ القادر بقدرة لايعدي الفعل إلى الغير إلاَّ بالاعتماد ولاتأثير له في توليد الكراهة.
قوله: (وأما ما يحسن فهو إرادة الحسن) إلى آخره.
اعلم أنه ليس الوجه في حسنها مجرد كونها إرادة للحسن فقط وإلاَّ لزم حسن إرادة كل حسن ومعلوم خلافه بل وجه حسنها كونها إرادة لحسن صفته ما ذكره.
قوله: (فإن هذه الإرادة وإن تعلقت بالجنس فتجب).
هذا هو اختيار الشيخ أبي علي وصححه ابن متويه وعلل قبحها بأن العقاب ضرر محض فكما لايحسن منه أن يفعله بنفسه فكذلك لايحسن منه أن يريد نزوله به، والذي ذكره أبو هاشم أنَّه ملجئ إلى ألا يريد عقاب نفسه فيه فلو فعل إرادة لعقابه ففي حسنها نظر فيحتمل أن تكون حسنة لأن متعلقها حسن والإرادة تابعة للمراد ويحتمل أن تكون قبيحة لأنها إرادة للإضرار بالنفس ولم يختلف الشيخان في قبح كراهة العقاب لأنَّه حسن وكراهة الحسن قبيحه ولا اختلفا في قبح إرادة أن يعاقب الله تعالى من لايستحق العقاب واختلفا في إرادة أهل النار للخروج منها فقال أبو علي هي قبيحة لعلمهم بخلافه كما يقبح أن يريد عود موتانا وتأول قوله تعالى : {يريدون أن يخرجوا من النار} على غير ظاهره بناء على أن أهل الاخرة لايصدر منهم قبيح، وقال أبو هاشم: بل الآية على ظاهرها ولاوجه يقضي بقبح هذه الإرادة فإن خروجهم حسن وفيه عرض ووجوه القبح منتفية عنه ونحو هذا اختلافهم في إرادة العاصي للغفران فإن أبا علي حكم بقبحها وأبا هاشم حكم بحسنها.
قال: ولهذا ورد في التشهد السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. والسلام السلامة من العقاب.
قوله: (احترازاً من إرادتنا للمكروهات ومن إرادة الباري تعالى لها).
يقال: أما إرادة الباري تعالى لها فمسلم ما ذكرت فيها من كونها عيناً لأنَّه تعالى إنَّما يريد فعل غيره للبعث عليه والحث على فعله ولايتأتى هذا إلاَّ في الواجب والمندوب فتكون إذاً قبيحة وأما إرادتنا للمكروهات فنقول: إن كان هذا المكروه فيه غرض فلا يسلم قبح إرادته بل يكون حسنه فإن حسن الإرادة تثبت إذا تعلقت بحسن مع غرض حاصل فيه وإن كان ذلك المكروه لاغرض فيه فهو عيب ويكون قبح إرادته لأنها إرادة لقبيح وإرادة القبيح قبيحة وذلك هو وجه قبحها.
قوله: (عند من لايجوز إرادتها).
هم الجمهور وأشار إلى خلاف أبي القاسم فإنه جعلها مرادة لله وخلاف أبي هاشم في تصحيح إرادته إياها في الآخرة.
قوله: (وأما ما يقبح فكل إرادة تعلقت بقبيح).
اعلم أن وجه قبح إرادة القبيح كونها إرادة لقبيح إذ لايمكن الإشارة إلى وجه يؤثر في قبحها غير ذلك ولهذا فإن من علم كونها إرادة للقبيح علم قبحها وإن لم يعلم وجهاً آخر ومن لم يعلم ذلك لم يعلم قبحها.
فصل فيما يريده الله تعالى وفيما لايريده
قوله: (وهي إنَّما تكون كذلك بالإرادة الَّتِي يخصصها بوجه دون وجه).
يعني بكونها حكمة دون كونها عبثاً وبكونها نعمة وبكونها نقمة فإن أفعاله تعالى إنَّما تكون حكمة لحصول غرض فيها صحيح ولهذا قالوا في حد الحكمة: هي كل فعل حسن لفاعله فيه غرض صحيح.
قوله: (وهي كالحرمية).
إنَّما جعلها كالحرمية لأن الذي يدعو إليه يدعو إليها فلا تحتاج إلى داع يخصها وإذا لم تحتج إلى إفراد داع لم تحتج إلى إفراد إرادة لأن الإرادة في كل أمر تابعة للداعي.
قوله: (ولاتخرج عن كونها حكمة).
يعني لتعلقها بحسن فيه غرض فكانت حسنة مع كونها كالجزء من الفعل وهو حكمة فكانت حكمة أيضاً ومما يدل على أنَّه تعالى لايريد إرادته وكراهته المتعلقتين بفعل نفسه أن إرادتهما تكون قبيحة إذ هي عبث لا فائدة فيها فإن الشيء إنَّما يراد لوقوعه على وجه مخصوص ولاوجه لهما مخصوص يقعان عليه فإرادتهما حينئذ تكون عبثاً ذكره بعض أصحابنا.
قوله: (فأما إرادته المتعلقة لفعل غيره فيجب أن يريدها تعالى).
اعلم أن المتقدمين من المتكلمين أ"لقوا أن الله تعالى لايريد إرادته ولا كراهته من غير فصل بين أن يتعلقا بفعله تعالى أو بفعل غيره ورجح المتأخرون أنَّه تعالى يريد الإرادة والكراهة المتعلقتين بعفل غيره لما ذكره من أنه أوجد الإرادة لغرض يخصها وهو كونها مرغبة في فعل الواجب والمندوب وناه عنه عليهما وأوجد الكراهة أيضاً لغرض يخصها وهو كونها زاجرة عن فعل القبيح وصارفة عنه وكلما فعل لغرض يخصه وكان الفاعل له عالماً به وجبت إرادته على ما تقدم، وقد نص قاضي القضاة على أنَّه تعالى يريد كراهية لفعل القبيح من المكلف.
قوله: (وإنما لم يجز أن يكره القبائح من أفعال نفسه تعالى) إلى آخره.
اعلم أنَّه تعالى كما لايجوز أن يكره القبيح منه تعالى عن فعله فلا يصح أن يكره تعالى شيئاً من أفعال نفسه كلها لنها حسنة وكراهة الحسن قبيحة.
قوله: (وإن كان المعلوم أن ذلك الفعل لايقع).
يعني الفعل القبيح فإن العلم بأنه لايقع لايمنع كراهته فإنه تعالى كاره للكفر من المؤمن الذي قد علم أنه لايكفر ليكون ذلك زاجراً له وصارفاً عن فعل القبيح.
قوله: (كالجوهر ونحوه).
يعني من اللون والطعم الواحد وما شاكلهما وبالجملة كل ما ثبت فيه غرض يخصه وإرادة الجوهر ونحوه هي إرادة على سبيل التفصيل فأما إرادة الأمر والخبر ونحوهما فهي إرادة على طريقة الجملة.
قوله: (أو صادراً من غير مكلف).
هذا على كل حال سواء كان ذلك الصادر من فعل غير المكلف قبيحاً كالقبائح الصادرة من الساهي والنائم والبهائم فإنها وإن لم تقبح منهم فهي قبيحة في نفسها على الصَّحيح أو غير قبيحة فإنه تعالى لايريدها ولايكرهها والدليل على أنَّه تعالى لايريد المركوه والفعل اليسير والصادر من غير مكلف ولايكرهها أما أنَّه لايريدها فلأنه لاغرض له تعالى في إرادتها إذ الغرض في إرادته تعالى لفعل غيره ترجيح وجوده على عدمه، والبعث عليه، وهذا مبني على التكليف بفعله وليس شيء من هذه الأمور قد كلف تعالى بفعله وأما أنه لايكرهها فلن ما كان منها حسناً فكراهية قبيحة ومالم يكن حسناً فالكراهة لايوجدها تعالى إلاَّ للزجر عن الفعل ولامدخل لذلك ههنا وهذه الدلالة بعينها تدل على أنَّه تعالى لايكره المباح في الدنيا والاخرة ولايريده في الدنيا.
فإن قيل: إذا كان تعالى لايكره المكروه فما السبب في تسميته مكروهاً؟
قلنا: إنَّما سمي المكروه كراهة تنزيه مكروها على سبيل التجوز وإلاَّ فالنهي الوارد عنه ليس بحقيقي إذ لم يقترن به الوعيد ولاغيره مما يقتضي القبح فكان السبب في تسميته مكروهاً أنَّه أشبه المكروه الحقيقي وهو القبيح من وجه وهو كونه يستحق بتركه الثواب كما أن القبيح كذلك.
قوله: (واتفقوا على أنَّه لايريد المباح في الدنيا).
المحكي عن أبي القاسم أنه تعالى يريد المباحات الدنيوية لما كان عنده أن إرادته تعالى لفعل غيره هو أمره به وقد أمر تعالى بالمباح وكلف به لأنَّه ترك للقبيح وقد أمرنا تعالى بترك القبيح فنكون مأمورين بالمباح وهذا بناء منه على أنَّه لايجوز خلو القادر بقدرة عن الأخذ والترك، وقد تقرر بطلانه وهو تعالى لايريد إلاَّ ما لفعله تنزيه على تركه لتكون إرادته داعية إلى فعله وأما ما لامزية لفعله على تركه فلا وجه لإرادته وليس بأن يريده أولى من أن يكرهه ثُمَّ أن المباح قد يكون تركاً لواجب فكان يلزمه أن يكون منهياً عنه ومكلفاً بتركه.
وقد خرج بعضهم على مذهب أبي القاسم القول بصحة إرادته تعالى لأفعال غير المكلفين في الدنيا والآخرة ولايتضح وجه التخريج وعندي أن خلاف أبي القاسم هنا مرتفع لأنَّه بنى القول بإرادة المباح على قاعدته في أنَّه واجب مأمور به ولو سلمت له لم يخالف في إرادته بخلاف في الحقيقة راجع إلى أصله في المسألة لا إلى هذا الفرع.
قوله: (لا أمراً حقيقياً).
اعلم أن صيغ الأمر الصادرة عن الله تعالى ترد لأمور خمسة: الوجوب كقوله تعالى: {أقيموا الصلاة}، والندب كقوله تعالى: {واذكروا الله عند المشعر الحرام}، والإباحة كقوله تعالى: {وكلوا من طيبات ما رزقناكم}، والإرشاد كقوله تعالى: {وأشهدوا إذا تبايعتم}، والتهديد كقوله تعالى: {اعملوا ما شئتم}. ولاكلام في أن صيغة الأمر مستعملة في اللغة لهذه المعاني ولكن اختلفوا فقيل لفظ الأمر مشترك ومنهم من قال بل هو حقيقة في معنى مفرد منها مجاز ف يغيره ومنهم من توقف وهو محكي عن الغزالي فأما من ذهب إلى أنَّها لفظة مشتركة فمنهم من جعلها مشتركة بين المعاني الخمسة وهو محكي عن متقدمي الشافعية ومنهم من قال مشتركة بين الوجوب والندب لاغير وهو محكي عن المرتضى الإمامي والذاهبون إلى أنَّه حقيقة في معنى مفرد مجاز في سائرها.
اختلفوا فقال أبو هاشم وقاضي القضاة وأحد قولي أبي علي وأحد قولي المنصور بالله: معناه الحقيقي هو الندب ولايحمل على غيره إلاَّ لقرينة.
وقال أبو علي وأبو الحسين وابن الملاحمي والحسن الرصاص وصاحب الجوهرة في أحد قوليه والقاضي شمس الدين في أحد قوليه والرازي والمتأخرون: معناه الحقيقي الوجوب في الشرع واللغة. ومنهم من قال: معناه الحقيقي الإباحة ولايحمل على غير ذلك إلاَّ لدلالة.
إذا عرفت هذا فإنما قال لا أمراً حقيقياً لأن أبا علي حمله على الإباحة، والمعنى الحقيقي عنده الوجوب والندب في أحد قوليه مع أن أبا هاشم لاينازعه في أنَّه ليس بحقيقي وأنه ليس للوجوب ولا للندب إذ لا وجوب في الآخرة ولاندب.
قوله: (وقال أبو هاشم يصح أن يريدها في الاخرة).
اعلم أن أبا هاشم صحح إرادته لها فلم يجعل عنها مانعاً ولم يوجبها بل قال يحسن منه تعالى. قال ابن متويه: ولايمتنع أن يحكم بأنها واجبة للعلة الَّتِي ذكرها وهو أنَّها تكون أكمل لسرورهم .... لحال ثوابهم وهكذا يجب أن تكون حالة المثاب ومع هذا فهم في الآخرة مضطرون إلى قصده تعالى وقد حكى أيضاً عن القاضي وأبي القاسم القول بوجوب إرادته تعالى بتأول المثابين للمنافع.
فإن قيل: يلزم هؤلاء القائلين بأنه تعالى يريد المباحات في الآخرة لكون فيه كمال نعمة المثابين إذا علموا تلك الإرادة وزيادة سرورهم وكونه أهنأ لهم أن يريد أيضاً المباحات في الدنيا كالكل والشرب ونحو ذلك مما أبيح لأهلها ليكون ذلك أهنأ لهم في أكلهم وشربهم ونحو ذلك من ملاذهم وأسر لقلوبهم فإن الله تعالى قد تفضل عليهم بإيجادها وأراد ذلك للتفضل عليهم فإذا حسن منه ذلك حسن منه إرادة تناولهم لها وانتفاعهم بها لأن إرادته لذلك أكمل في تفضله.
قلنا: التفضل ليس بواجب عليه تعالى ولايصح الاضطرار في الدنيا إلى إرادته فلا يكون إلى ثبوت تلك الإرادة والعلم بها طريق فلا يجوز إثباتها وإن لم يمتنع تجويزها بخلاف ما قيل في أهل الجنة قالوا ولايمتنع وجوب تلك الإرادة لن الثواب يجب أن يكون على أبلغ الوجوه وفيه نظر.
فصل في ذكر طرف من أحكام الإرادة
قوله: (منها أنَّه يجوز تقدمها).
اعلم أن في القول بتقدمها وعدمه إطلاقين وتفصيلا، الأول للمجبرة على ما حكاه عنهم المصنف وهو أنَّه لايجوز تقدمها بل يجب مقارنتها. الإطلاق الثاني للشيخ أبي القاسم وغيره من علماء المعتزلة وهو أنه لايجوز مقارنتها بل يجب تقدمها لأنها مؤثرة فوجب تقدمها كالقدرة وذهب الشيخان إلى التفصيل وهو أنَّه يجوز تقدمها ويجوز مقارنتها فتقدم حيث يكون لتوطين النفس على الفعل ويسمى عزماً وتقارن حين تكون مؤثرة في وقوع الفعل على وجه لأن المعدوم يستحيل تأثيره ويسمى قصداً، هذا في الإرادة المتعلقة بفعل النفس. وأما الإرادة المتعلقة بفعل الغير فيجوز فيها أيضاً المران لكن لاتسمى قصداً ولاعزماً، فأما قياس أبي القاسم ومن قال بقوله لها على القدرة فغير صحيح لأن القدرة مؤثرة في الإيجاد والإرادة إنَّما تؤثر في الوقوع على واجه فافترقا وقد قيل: إن أبا القاسم أوجب تقدها بناء على أصلين أحدهما أنَّها سبب في الفعل المراد والثاني أن من حق الأسباب أن تتقدم وهذان أصلان فاسدان فلا يصح ما بنى عليهما.
قوله: (والمخالف يبني على أن الإرادة موجبة للمراد).
يعني بنى القول بمقارنتها على القول بإيجابها وإيجابها للمراد فاسد وما بني على الفاسد فهو فاسد وقد اختلف في إيجابها فمذهب الجمهور أنَّها غير موجبة ولهذا فإن القادر متى توفرت دواعيه وانتفت صوارفه وجب وجود الفعل من جهته وإن سلب الإرادة بل وإن وجدت فيه الكراهة لكن هذا الوجه إنَّما يرد على العكس وانعكاس العلل لايجب فالأولى في الاحتجاج على أنَّها لاتوجب المراد أنَّها لو أوجبته لأوجبته وإن وجدت من العاجز وهو محال، واشتراط حصول القدرة والداعي وانتفاء الصارف لادليل عليه يقضي بأن عدم الإيجاب في حق العاجز لأجله لا لكونها غير موجبة وذهب أبو القاسم وإبراهيم النظام ومعمر بن عباد والإسكافي وجعفر بن حرب وغيرهم إلى أن الإرادة توجب المراد بشرطين أحدهام ألا تتعلق بفعل الغير وثانيهما سلامة الحوال بحصول القدرة وانتفاء الصوارف.
فبعضهم قال: توجبه على جهة التوليد. وحكي عن أبي القاسم أنها توجبه لا على جهة التوليد وكلام القائلين بالتوليد أوضح بطلاناً إذ لو صح لافتقرت في التوليد إلى مماسة محلها لمحل ذلك الفعل المولد إذا لم يكن محله محلها كما في سائر الأسباب فإنه لابد من هذه المماسة مالم يتحد محل السبب والمسبب ولاكلام في أن أفعال الجوارح الَّتِي تتعلق بها الإرادة وتولدها عند الخصم لايحصل فيها الإتحاد ولا المماسة فبطل ما ذكروه.
قوله: (لاتقدم إلاَّ لتعجيل المسرة أو توطين النفس).
يعني على تحمل المشقة ليكون فعل الشاق أسهل، والحال فيما ذكره ظاهر فإن من عزم على تناول طعام فسروره أقوى من سرور من لم يعزم وحاصل قبل سرور من ليس بعازم وكذلك فمن عزم على الصلاة صار فعلها أسهل عليه منه لو لم يعزم ولاكلام في أن المسرة والمشقة لايجوزان عليه تعالى فيقال إن تقدم الإرادة لتعجيل المسرة أو لتسهيل المشقة وقد زاد أبو علي وجهاً ثالثاً في تقديم الإرادة فقال وقد تقدمها ليتحفظ عن السهو بتقديمها.
قال ابن متويه: وهو يعيد لأن الإرادة لاتثبت مع السهو فكيف يتحفظ عنه بها وكيف تصير رافعة لأمر لايصح ثبوته إلاَّ مع ارتفاعها. قال: وإذا حققت فالذي يتحفظ به عن السهو هو العلم وما شابهه.
إذا عرفت هذا فقد أجاز ابن الأخشين تقدم إرادة الله تعالى لأفعاله وذهب إلى أن إرادة الإرادية والتعويض يثبت حال التكليف والإيلام واعتقد أن حسن التكليف والإيلام لايتم إلاَّ بها، وكلامه باطل لأن التكليف والإيلام يحسنان للتعريض والمنافع الأخروية ويستقل ذلك وجهاً في كونهما حكمة.
واعلم أن إرادة الباري تعالى إذا كانت متعلقة بالخبر ونحوه لم يجب مقارنتها إلاَّ لأول حرف من حروفه لامقارنتها لكل حرف.
قوله: (ولهذا امتنع العزم عليه تعالى).
يعني لكونه إرادة من حقها أن تكون متقدمة فإن المعزم من أقسام الإرادة ويجب تقدمه ولايكون عزماً إلاَّ بشروط ثلاثة:
أحدها: ما ذكرناه من التقدم ولابد من تقدمه على المراد كله لابعضه فلا يقال: إن الإرادة إذا تقدمت على أحد حروف الخبر مع مقارنتها لأوله كانت عزماً.
وثانيها: أن يكون فاعله وفاعل الفعل المعزوم عليه واحداً ولهذا لايصح أن تقول: عزمت على قيام زيد. وإن صح أن تقول: أردته.
وثالثها: أن يكون المراد مبتدأ أو مسبباً غير متراخ عن سببه فلا تقول: أنا عازم على الإصابة في الرمي، لاتسمى الإرادة عزماً إلاَّ بمجموع هذه الشروط. قال أصحابنا: فإذا وقعت الإرادة على هذا الوجه سميت عزماً. وقال أبو القاسم: بل العزم جنس برأسه غير الإرادة وكذلك قال أبو علي لما توقف العزم على هذه الشرائط هو جنس غير الإرادة ذكره في شرح العيون.
قوله: (وقيل مقارب المسبب محافظة على الأصل المذكور).
يعني من أنه لايحسن تقديمها إلاَّ لأحد الوجهين المتقدم ذكرهما المستحيلين عليه تعالى وقد رجح ابن متويه رحمه الله أنَّها تقارن المسبب لا السبب بأن لامسبب أمر ينفصل عن سببه ويصح وجوده مرة والمنع عنه أحرى فوجب أن تقارنه الإرادة ولأن فيما يفعله تعالى من الأسباب ما لاينحصر مسببه كجري الماء في الحبة فكان يجب وجود مالايتناهى من الإرادات في حال فعله النقل لأنَّه عالم بها مفصلاً فيجب أن يكون كالمبتدأ.
قال رحمه الله: ومتى كان مسبب السبب أمرين ضدين فعلى مذهب أبي علي وأبي هاشم أولاً لايصح أن يريدهما في حالة واحدة وعلى القول بأن إرادتي الضدين لايتضادان لامانع من ذلك.
قوله: (وما تعلق منها بفعل الغير) إلى آخره.
اعلم أنَّه تعالى يريد الطاعات من فعل غيره وتتعلق بها إرادته تعالى حال توجه التكليف بها وتوجه التكليف بالشرعيات عند الأمر فيكون إرادتها عند المر بها كما ذكره المصنف ولايحصل إلاَّ مع إكمال شرائط التكليف وأما العقليات فتوجه التكليف بها عند كمال العقل وحصول شرائط التكليف وإن لم يقع أمر بها لأنَّه يمكن المكلف معرفة وجوبها بالعقل.
قال ابن متويه: فأما إرادته تعالى لفعل الغير حال حدوثه بأن تكون مقارنة له فيمكن أن يقال أنَّها تتعرى عن عرض فلا تحسن كما لايحسن الأمر به حال الحدوث وإن كان الكلام في المر أظهر لن موضوعه أن يدعو إلى الفعل ويبعث عليه ولو قدر افتراقه بحال حدوث الفعل لمكان لطف يثبت لبعض المكلفين لم يخرج عن كونه عبثاً لخروجه عن موضوعه، فإن صح أن يتبين وجه من وجوه اللطف عند اقتران الإرادة بالفعل كان ذلك واجباً وإن يعد القول به وكذلك القول في كراهته عند وجوده.
قوله: (كالعلم).
يعني فإنه لما تعدى في التعلق تعدى إلى التعلق بالماضي والباقي والقديم والمحدث فكان يجب مثله في الإرادة وليس تعلقها بوجه الحدوث تعد عن الحدوث إلى غيره لأن وجه الحدوث تابع له فحكمه حكمه.
قوله: (وأما نية الصوم فإنما تتعلق بكراهة الأكل ونحوه).
يعني كالشرب ودخول ما يفطر في الحلق والوطء. واعلم أولاً أن لانية هي الإرادة المقارنة للفعل أولاً وله إذا كانت من فعل فاعل المراد وكان لأجلها يقع الفعل على وجه فما يتعلق بمجرد الحدوث لايكون نية ويشرط في النية أن تكون حالة في القلب، ولهذا الشرط الأخير لم يجز وصفه تعالى بأنته ناو وهذا الذي أورده جواب عن سؤال مقدر تقديره: أن نية الصوم مع أنَّها إرادة تتعلق بالنفي وهو ألا يأكل ولايشرب ونحوه فبطل قولكم أن الإرادة لاتتعلق بالنفي.
فأجاب بأن هذه الإرادة تتعلق بكراهة الأكل ونحوه فلا يلزم تعلقها بالنفي، وهذا الجواب لايتأتى إلاَّ في الصوم الواجب لأن كراهة الأكل فيه حسنة إذ الأكل فيه قبيح وكراهة القبيح حسنة فتعلق الإرادة بها حسن، وأما الصوم النفل فلا يصح أن يتعلق بنية الكراهة الكل فيه لأنَّه مباح أو مكروه أكثر أحواله وكراهة الحسن قبيحة فكيف تتعلق نية الصوم وهي حسنة قطعاً بقبيح مع أنَّه يلزم منه قبحها لأن إرادة القبيح قبيحة فيلزم أن تكون نية الصوم النفل قبيحة ذكر معنى هذا الاعتراض المهدي أحمد بن يحيى عليه السلام وقال: الأولى أن نية الصوم تتعلق برد ما يعرض من المفطرات وهذه إرادة فعل بلا شك.
قال: ولابد مع ذلك من كراهة المفطرات إذا كان الصوم واجباً لأن الإفطار قبيح وكراهة القبيح واجبة.
قوله: (عن الرفث). الرفث هنا: الفاحش من الكلام.
قوله: (والحجر على آلة النكاح). الحجر: ألمنع.
قوله: (وأشباه ذلك). أراد كمنع من قصد إلى أن يفطره ورد ما يعرض من المفطرات والتحفظ عن السهو لئلا يفعل ما يفسد صومه.
تنبيه
ما يدل على أن الإرادة لاتتعلق بالنفي ما علمناه من أنفسنا من أن أحدنا متى اعتقد في شيء أنه يصح حدوثه صح أن يريده ومتى لم يعتقد صحة حدوثه لم يصح أن يريده.
قوله: (ليست كراهة لضده خلافاً لهم).
أي للجبرية وإنَّما بعثهم على القول بأن إرادة الشيء كراهة لضده إثباتهم له تعالى مريداً لذاته أو بإرادة قديمة أو ا.لية فلم يمكنهم القول بإثبات كراهة له لأن الصفة الذاتية لايصح زوالها والقديم والولى لاضد له مع ما روي من إجماع المسلمين على أنَّه تعالى كاره، وكذلك فقد صرح به في القرآن الكريم فجعلوا إرادته تعالى للشيء كراهة لضده وطردوا ذلك لتعذر الفرق بين الشاهد والغائب في مثل هذا.
قوله: (لأنه ليس هذا أولى من عكسه).
يعني أولى من أن تكون كراهة الشيء إرادة لضده وإنَّما لم تكن أولى لأنَّه لادليل عليه وما لادليل عليه ليس بأولى مما لادليل عليه.
قوله: (إرادة الضدين على البدل).
يعني بأن يريدهما في وقت واحد على أن يوجد أحدهما بدلاً من الاخر والبدل هنا في الضدين لا في الإرادتين.
قوله: (لأن إرادة الضدين ثابتة).
أي واقعة كما إذا أراد أحدنا الخروج من بابين أو الوقوف في مكانين على البدل وكإرادة الصلاة في بقاع المسجد ونحو ذلك.
قوله: (في الوقوع). أي في وقوع الضدين المرادين.
قوله: (لكانت قد تعدت المتعلق الواحد على التفصيل). يعني لأن متعلقها على هذا القول الضدان معاً واحترز بقوله على التفصيل من التعلق على طريقة الجملة فإنها تتعدى فيه المتعلق الواحد كما إذا أراد أحدنا الإخبار عن زيد فإن إرادته تتعلق بالخبر على سبيل الجملة وهو أفعال كثيرة وإنَّما استحال تعديهما في التعلق على سبيل التفصيل لأن المتعلقين يصح أن يتعلق بهما إرادتان وإذا تعلقتا بهما كانتا مختلفتين لتغاير متعلقهما فلو تعلقت بهما إرادة واحدة لزم أن تكون بصفتين مختلفتين فتكون مخالفة لنفسها وهو محال.
قوله: (ولكان لها ضربان من التعلق متنافيان).
يعني تعلق الإرادة وتعلق الكراهة وتنافيهما معلوم ولهذا لايصح اجتماعهما في حق متعلق واحد.
قوله: (فيكشف ذلك عن اختصاصها بذاتيتين مختلفتين).
من أصول أصحابنا أن ما كان من الأحكام كاشفاً بمجرده عن مقتضيه وكان طريقاً إليه فإن تماثله يكشف عن تماثله واختلافه عن اختلافه وتزايده عن تزايده والتعلق من هذا الباب فإنه طريق إلى مقتضيه ومجرده كاشف عن مقتضيه وهي الصفة المقتضاة عن الذاتية فإذا كان التعلق متعدداً مختلفاً كشف عن تزايد مقتضيه واختلافه ولاكلام في أن تعلقي الإرادة والكراهة مختلفان فيلزم أن يكشفا عن مقتضيين مختلفين إذ لو صدر التعلقان مع اختلافهما عن صفة واحدة وتعدت الصفة في إيجابها من تعلق إلى ما زاد عليه للزم أن تتعدى ولاحاضر فكان يصح صدور جميع التعلقات عن صفة واحدة ثابتة لذات واحدة فكان يلزم تعلق ذات العلم أو القدرة أو الإرادة بصحة الفعل وصحة الإحكام وصحة إيقاع الفعل على الوجوه المختلفة وهو محال إذا ثبت كشف التعلقين عن صفتين مقتضاتين مختلفتين وجب كشف هاتين الصفتين عن صفتين ذاتيتين أيضاً مختلفتين إذ لو جاز صدور الصفتين المقتضاتين عن صفة ذاتية واحدة للزم تعديها ولاحاصر وهو محال.
قوله: (بأن يريد أحد ضديه ويكره الآخر).
هذا إلزام مبني على إلزام وذلك أنَّه قد ألزمهم من كون إرادة الشيء كراهة لضده أن تكون كراهة الشيء إرادة لضده ثُمَّ رتب هذا الإلزام عليه ويصح أن يرتب عليه أن يكون مريداً لكل واحد منهما كارهاً له وإن لم يكن ثُمَّ ضد ثالث، وأما على أصل مذهبهم فما ذكره غير لازم.
قوله: (لأنه لاتكره أضدادها).
يعني لأنَّه قد يكون ضد النافلة واجباً أو مباحاً أو مكروهاً فلو أراد النوافل مع أن إرادتها كراهة لضدها للزم أن يكره تعالى ما هو حسن ومعلوم أن كراهة الحسن قبيحة وهو تعالى لايفعل القبيح وكان يلزم من كراهته لضدها أن تكون واجبة إذ قد اشتركت هي والواجب في أن تركهما مكروه لله.
قوله: (فأحدنا يجد الفرق بين كونه مريداً وكونه كارهاً).
يعني فلا يصح أن توجب الإرادة كونه مريداً كارهاً مع أنهما صفتان يجد الواحد منا الفرق بينهما من نفسه.
تنبيه
من أحكام الإرادة الَّتِي لم يذكرها المصنف أنَّها لاتؤثر في وقوع الفعل على وجه إلاَّ إذا قارنت وكانت من فعل فاعل المراد.
فصل والذي يجري عليه تعالى من الأسماء في هذا الباب
قوله: (وليس طريقه الفعلية).
أي وليس الذي يفيده قولنا مريد طريقه الفعلية وهو أن يفيد فعل الإرادة كمعيد ونحوه.
قوله: (لأنه لافرق بين الإرادة والمحبة).
اعلم أن هذه مسألة خلاف فمنهم من ذهب إلى أن المحبة هي الشهوة وليست الإرادة وقال أصحابنا إنَّما تستعمل في الشهوة تجوزاً وإلاَّ فهي من أسماء الإرادة ولهذا لايصح أن تثبت بأحد اللفظين وتنفى بالآخر.
قيل: والمعنى أن المحبة هي اسم للإرادة الَّتِي تطابق الداعي فلو قدرنا أن الله تعالى خلق فينا إرادة لاتطابق الداعي لم تكن محبة.
قوله: (ومنها قولنا راض).
اعلم أن مذهب الجمهور من أصحابنا أن الرضا هو الإرادة المتقدمة المتعلقة بفعل الغير بشرط وقوع ذلك الفعل والسخط الكراهة على هذا القياس فلهذا عده من هذا الباب. وقال أبو علي: الرضا والسخط معنيان زائدان على الإرادة والكراهة.
قوله: (فقيل معناه أنَّه أراد كل أفعاله ورضيها).
هذا قول الشيخ أبي علي وهو ظاهر قول الفقيه حميد. قال: ومنه قوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين} ويقول أحدنا: رضيت عن زيد. أي رضيت أفعاله، وكذلك القول في السخط والذي ذهب إليه أبو هاشم أن المراد بذلك التعظيم للمرضي عنه والذم والاستحقاق بالمسخوط عليه.
قوله: (حتى الأنبياء).
يعني لأنَّه قد يقع في أفعالهم الصغائر وهو تعالى يكرهها فضلاً عن أن يريدها أو المباحات والمكروهات والأفعال اليسيرة وهو لايريدها.
قوله: (قاصد ومختار).
القصد هو الإرادة المقارنة للمراد إذا كان مبتدأ أو مسبباً غير متراخ بشرط أن يكون فاعلها وفاعل المراد واحداً وكذلك الاختيار أو ما في حكمها إرادته مقارنة أول الجملة المرادة وإن تقدمت على آخرها كإرادة الخبر فإنها تقارن أول حروفه وهي قصد وإن لم تاقرن ما بعده من الحروف ويحتمل أنَّه أراد بما في حكمها مقارنة السبب، ويطابق هذا قول ابن متويه يجب في القصد أن يكون مقارناً للمراد المقصود أو لسببه.
قوله: (ومتى علق بالفاعل نحو: {إن سخط الله عليهم}). إلى آخره.
قال الفقيه حميد في العمدة: إذا علق السخط بالفاعل فقيل سخط الله على فلان فقيل المراد أحد أمرين إما كراهته لفعله وإما إرادة إيصال العقاب إليه.
وقيل: بل إذا علق بالفاعل فهو إرادة العقوبة وافهانة هذا من جهته تعالى وأما السخط من الواحد منا على غيره فهو كراهة النفع وإرادة الضرر وأما المعلق بالفعل فهو كراهته شاهداً وغائباً ولايطلق عليه تعالى أنَّه ساخط فيما لم يزل كما لايقال مريد فيما لم يزل.
وقال سليمان بن جرير: بل يوصف تعالى بأنه ساخط فيما لم يزل على من علم أنَّه سيعصي وبنى ذلك على مذهبه في أنَّه تعالى مريد فيما لم يزل.
قوله: (إلا وقد فعل واجباً أو ترك قبيحاً).
يقال: أما القطع بأنه لايكلف إلاَّ وقد فعل واجباً فغير ممكن، وأما تركه قبيحاً فهو وإن صح فليس يمنع من أن يكون تعالى كارهاً لجميع أفعاله لن ترك القبيح ليس عبارة عن فعل بل عن عدم فعله وانتفاء الإتيان به، والأولى أن يقال: لو كان ذلك معنى قولنا سخط الله على فلان للزم ألا يقال ذلك في الكفار الذين قد علمنا منهم الإتيان بشيء من الواجبات كاليهود ونوهم ومعلوم صحة إطلاقنا ذلك في حقهم.
قوله: (وكذلك المعاداة) إلى آخره.
يعني فإنها تصح أن تكون من باب إرادة المضار وأن تكون من قبيل كراهة المنافع. وقال ابن متويه: هي إرادة الذم والاستخفاف. وقال: لابد أن يكون ذلك مجازاً لن المفاعلة لابد أن تكون بين اثنين إلاَّ في مواضع كقاتله الله. وذكر الفقيه حميد أن المعاداة نقيض الموالاة، وأن المراد بقولنا أنَّه تعالى يوالي المؤمنين أنَّه يريد إعظامهم ، وبقولنا في العبد أنَّه يوالي الله تعالى أنَّه يريد عبادته وتعظيمه وكذلك إذا قيل: أنَّه موال لأولياء الله تعالى فالمراد به أنَّه مريد لتعظيمهم.
قوله: (وفوران النفس).
يعني هيجانها وعليه قوله تعالى: {تكاد تميز من الغيظ) لما يوجد فيها من الاضطراب وبهذا يتبين الفرق بين الغضب والغيظ لن الغضب لايفيد شيئاً من ذلك ووجه آخر وهو أنَّه يصح أن يغتاظ من فعل نفسه ولايجوز أن يغضب من فعل نفسه.
فائدة
لايجوز وصفه تعالى بالنية لما تقدم ولا بالعزم لما تقدم أيضاً.
قيل: ولأن أصل العزم على شيء القطع على الشيء بعد الروية وهذا لايصح في حقه تعالى لأنَّه عالم لذاته وما ورد في الأثر من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: < إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه). فالمراد بالعزائم الأفعال الَّتِي أوجبها بقول القائل عزمت عليك أي أوجبت ذكره الفقيه حميد في العمدة وقريباً منه ذكره ابن متويه.
ولايوصف تعالى بأنه بات. قيل: لأنَّه يفيد طرفاً من التردد والحمل على النفس بما يشق.
ولايوصف تعالى بأنه حاسد لن الحسد إرادة ما يزول به النعمة عن الغير على وجه يقبح مع سرور فلهذا لايكون إرادته تعالى لما تزول به النعمة عن أحد من عبيده حسد لأنَّه لايلحق بذلك سرور. وقلنا: على وجه يقبح. احترازاً من إرادتنا لما تزول به نعم الكفار.
ولايوصف تعالى بالغبطة لأنها اسم للإرادة الَّتِي تتعلق بأن تكون على ما عليه غيره من الحال من غير إرادة لزوال ذلك عن الغير وقد يستعمل الحسد في الغبطة تجوزاً.
قال ابن متويه: وتحمد الغبطة يذم الحسد.
تنبيه
فيما يلزم المكلف معرفته في هذا الباب. قيل: لايجب على الأعيان إلاَّ مجرد العلم بأنه تعالى مريد لئلا ينفى عنه ماعلم ضرورة من الدين وهو أنَّه تعالى مريد فقد وصف نفسه تعالى بذلك في صريح القرآن المجيد، وأما العلم بكيفية استحقاقه تعالى لهذه الصفة ونحو ذلك ككون الإرادة لا في محل فمن فروض الكفايات وأما كونه تعالى لايريد القبيح ففرض عين لتوقف معرفة العدل عليه.
وإذ قد فرغنا من الكلام على مسائل الإثبات وأشرفنا على الكلام في مسائل النفي فينبغي البداية بمقدمتين قبل الكلام عليها:
المقدمة الأولى
في تعدادها وتعييناتها، أما تعدادها فهي ثماني وأما تعييناتها فهي أنَّه تعالى ليس بعاجز ولاجاهل ولاميت ولامعدوم ولامحتاج ولامشبه للمحدثات ولا مرئي ولا ثاني له، فأما الأربع الأول فقد تقررت بإثبات القادرية والعالمية والحيية والوجودية له تعالى وأنها واجبة في حقه فإنه يستحيل ثبوت أضدادها مع ثبوتها ووجوبها، وأما الأربع الأخر فهذا موضع الكلام عليها.
المقدمة الثانية
في ترتيب هذه الأربعة الَّتِي تحتاج إلى الكلام عليها ولاخلاف بين المتكلمين في تأخير مسألة نفي الثاني إذ هي كلام في أنَّه لاثاني له يشاركه في صفاته الإثباتية والنفيية، ومالم يعيها ويتكلم عليها لم يحسن منا الكلام الكلام على نفي المشاركة فيها إذ لايعلم نفيا لمشاركة في أمر إلاَّ بعد العلم به، وأما مسألة نفي الرؤية فيحسن تأخيرها عن الوليين لنها كلام في نفي صفة له تعالى مع غيره إذ مضمونها أنَّه تعالى لايرى وأن غيره لايراه بخلافهما فإنهما كلام في نفي صفة يختص نفيها بذاته تعالى ولأنا مالم نعلم أنَّه تعالى ليس بجسم ولاعرض لم يصح لنا دليل المقابلة لأنا نقول فيه أنَّه تعالى ليس بمقابل ولاحال في المقابل ولا في حكم المقابل ومالم يعلم أنَّه تعالى ليس بجسم ولا عرض لم يثبت لنا ذلك، وكذلك دليل الموانع لنا نقول فيه والموانع إنَّما تمنع من رؤية الأجسام والألوان فالله تعالى ليس بجسم ولا لون وذلك يترتب على مسألة نفي التشبيه وكذلك فالاستدلال عليها بالسمع لايصح إلاَّ مع ثبوت أنَّه تعالى ليس بجسم على الصحيح، وأنه لايجوز عليه الحاجة.
وأما مسألتا نفي الحاجة والتشبيه فقد وقع الخلاف فيهما فالذي ذكره القاضي والسيد الإمام وغيرهما وهو الذي بنى عليه المصنف أن مسألة نفي الحاجة أولى بالتقديم لنها مركبة من إثبات ونفي إذ أحد طرفيها أنَّه تعالى حي وهو إثبات فألحاقها بمسائل الإثبات أولى ولأنا لما نفينا في فصل الكيفية المؤثر في صفاته تعالى ألحقنا ذلك بنفي ما يجري مجرى المؤثر وهو داعي الحاجة والذي اختاره الشيخ أحمد بن الحسن وتلميذه الفقيه حميد تقديم مسألة نفي التشبيه لأن مسألة نفي الحاجة تنبني على مسألة نفي التجسيم حيث يستدل بدليل أبي هاشم إذ يقال فيه: والزيادة والنقصان لايجوزان إلاَّ على الأجسام والله تعالى ليس بجسم ثُمَّ أن مسألة نفي التجسيم أهم لأنها نفي لصفات المحدثات عن ذات الله تعالى وبيان لعدم جوازها عليه فالاهتمام بها أولى من الاهتمام بما هو نفي للدواعي والصوارف الحاجية.
تنبيه
قد يجري في عبارات المتكلمين صفاته تعالى النفيية، وقد يقولون صفاته السلبية فقيل معناهما واحد وعلى هذا يصح الإتيان بأنهما سبب. وقيل: بل السلب لايستعمل إلاَّ في النفي بعد الثبوت إذا كان نفياً لصفة والنفي يشمل النفي الأصلي والفرعي، ويستعمل في نفي صفة عن ذات وفي نفي ذات عن ذات، وعلى هذا الأخير لايصح أن يقال في صفاته تعالى هذه الأربع ولا في غيرها من صفات النفي صفاته تعالى السلبية بل لايصح إلاَّ أن يقال صفاته تعالى النفيية.
القول في أن الله تعالى غني
قوله: (من استغنى بما في يده عما في أيدي الناس).
قد قيل في حده فيه عرف أهل النواحي والأزمنة فهو من ملك ما يسمى مالكه في عرف تلك الناحية وذلك الزمان غنياً ويختلف الحال فيه باعتبار الأمصار والأزمان.
قوله: (من ملك النصاب). هو من الذهب عشرون مثقالاً ومن الفضة مائتا درهم قفلة، ومن الجواهر وأموال التجارة ما قيمته ذلك، ومن الحب خمسة أوسق، ومن الإبل خمس، ومن البقر ثلاثون، ومن الغنم أربعون.
قوله: (قيل أو ما قيمته نصاب).
يعني من العروض إذا كان زائداً على ما يستثنى له فقول م بالله وهو الظاهر من المذهب أنَّه يصير بذلك غنياً فلا يجوز له أخذ الزكاة كما لايجوز لمن ملك النصاب وفيه خلاف.
قوله: (وقيل من ملك الكفاية). هذا قول الناصر وش والمرتضى وأبي طالب فإنهم جعلوا الغني من ملك ما يكفيه ويكفي من يمونه سنة.
قوله: (هو الحي الذي ليس بمحتاج).
اعلم أن هذه الحقيقة لاتثبت إلاَّ في حقه تعالى فأما من عداه من الأحياء فهم محتاجون إليه تعالى بل يحتاج بعضهم إلى بعض ولابد من اعتبار الطرفين في هذه الحقيقة كونه حياً إذ لو لم يكن حياً لم يوصف بالغنى كالجماد والأعراض وكونه غير محتاج إذ لو احتاج إلى شيء لم يكن غنياً.
قوله: (والحاجة ضربان) إلى آخره.
الذي يعتبر من نفي الحاجة في الغنى الاصطلاحي هي حاجة الدواعي والصوارف، ذهب أبو علي إلى أن الغنا والحاجة معنيان، فقال له أصحابنا: لاطريق إلى ذلك، وإنَّما المرجع بالحاجة إلى الداعي الذي يدعو إلى جبل منفعة أو دفع مضرة أو أحدهما بدليل أنَّه لايجوز أن يقول قائل: أنا محتاج إلى هذا الشيء ويلس لي فيه نفع ولادفع ضرر ولست بمحتاج إليه كما لايصح أن يقول ذلك في داعي الحاجة والمرجع بالغنى إلى نفيها.
إذا عرفت هذا فاعلم أنَّه لاخلاف بين أهل الإسلام ومن أقر بالصانع في أنَّه تعالى غني إلاَّ فرقة من اليهود حكى الله تعالى عنهم نسبة الحاجة إليه حيث قال: {لقد كفر الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء}.
وقيل: إن القائلين بذلك لم يقولوه عن اعتقاد وإنَّما أوردوه على جهة الإلزام للرسول صلى الله عليه وآله وسلم والتهكم بما جاء به من قوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً} فلا خلاف في الحقيقة.
قوله: (احترازاً من إثابة أهل النار).
يعني فإن علمه تعالى بأن لهم في الإثابة نفعاً ودفع ضرر ليس بداعي حكمة إلى إثابتهم لأن الإثابة لهم قبيحة إذ فيها تعظيم من لايستحق التعظيم وهو قبيح وداعي الحكمة لايتعلق بما هو قبيح.
قوله: (إلا في اعتبار الحسن).
يعني فإنه علم الحي أو ظنه أو اعتقاده أن له في الفعل جلب منفعة أو دفع مضرة سواء كان ذلك الفعل حسناً أو قبيحاً وقد يقال فيه علم الحي بحياة إلى آخره، وكذلك في الصارف إذ لايجوزان على الحي لذاته.
قوله: (بالنفع ودفع الضرر).
واعلم أنَّه لابد من اشتراط الاستقبال في متعلق الداعيين والصارفين.
قوله: (هو اللذة والسرور).
أما اللذة فهي تنقسم إلى قسمين حادثة وباقية فالحادثة المعنى المذكور بمحل الحياة في محلها مع الشهوة كالحادثة عند حك الجرب وما يوجد عند الجماع، والباقية إدراك الشيء مع الشهوة له كإدراك المشمومات والمطعومات المستطابة.
قيل: ومعنى كونها لذة باقية أنَّها ذات تدرك في غير محل الحياة مع الشهوة، وفيه نظر. والأولى أن يقال: إنَّما سميت باقية لأنها عبارة عن الإدراك لذات تدرك في غير محل الحياة، والإدراك من الصفات المستمرة الباقية الَّتِي لايخرج عنها المتصف بها إلاَّ لخروجه عن مقتضيها أو شرط اقتضائه لها واللذة الحادثة عبارة عن المعنى المدرك في محل الحياة الذي هو من جنس الألم وهو غير باق، وقد ذهب أبو علي إلى أنَّها معنى زائد على إدراك الشيء مع الشهوة كقولنا في اللذة الحادثة وأما السرور فقد تقدم حده وهو علم الحي أو ظنه أو اعتقاده أن له في الفعل جلب منفعة أو دفع مضرة أو لمن يحب ويفترق هو وداعي الحاجة من وجهين:
أحدهما: أن السرور يتعلق بالماضي والمستقبل دون الداعي فلا يكون إلاَّ في المستقبل.
وثانيهما: أنَّه قد يكون لأمر يخصه ولأمر يتعلق بغيره ممَّن يحب وداعي الحاجة لايكون إلاَّ لأمر يختص بصاحبه. والغم عكس السرور في ذلك. هذا مذهب الجمهور.
وذهب أبو علي إلى أن الغم والسرور معنيان غير ما ذكروه من الاعتقادات والظنون. وقال ابن الملاحمي: السرورو ما يجده الإنسان من انبساط القلب والدم على وجه مخصوص. والغم: ما يجده من انحصار القلب وانقباض الدم الذي فيه. قال: وذلك يوجد من النف سحتى أنَّه يظهر انبساط الدم فيو جهه وسائر بدنه. ويقال: انشرح صدره. ويقال: الغم يميت النفس ويقصر القلب.
قوله: (أو ما يؤدي إليهما أو إلى أحدهما).
الذي يؤدي إليهما كأن يسلم إلى الغير دنانير أو غيرها مما يمكنه أن يحصل به شيئاً من الملاذ فإن ذلك يؤدي إلى سروره ولذته والذي يؤدي إلى أحدهما أن يدل الغير على كنز فإن نفس الدلالة يحصل له بها السرور في الحال، وأما اللذة فلا يؤدي إليها إلاَّ أخذه للكنز.
قوله: (من حيث أن النعمة منفعة مخصوصة).
يعني لنه يشترط فيها قصد صاحبها للإحسان وكونها حسنة وليس كذلك المنفعة فإنها منفعة سواء قصد بها الإحسان أم لا وسواء كانت حسنة أو قبيحة فكل نعمة منفعة وليس كل منفعة نعمة.
قوله: (في تعريف المضرة أو ما أدَّى إليهما أو إلى أحدهما).
الذي يؤدي إليهما كأن يشج الغير شجة يتولد منها الألم ويظن لأجلها ذهاب حياته والذي يؤدي إلى أحدهما كأن يخبر أحدنا الغير بموت صديقه أو ذهاب ماله.
قوله: (ويفارق النقمة والظلم مفارقة الأعم للأخص).
يعني فكل نقمة مضرة وكل ظلم مضرة وليس كل مضرة نقمة ولا كل مضرة ظلماً، وذلك لأن النقمة مضرة حسنة مستحقة والظلم مضرة قبيحة غير مستحقة ولاتكون النقمة إلاَّ كذلك ولا الظلم إلاَّ كذلك والمضرة من حيث كونها مضرة لايشترط فيها الاستحقاق ولاعدمه ولا الحسن ولا عدمه.
قوله: (ولكن إن قارنه شهوة سمي لذة وإن قارنه نفار سمي ألماً).
هذا مذهب الجمهور فجعل الألم واللذة جنساً واحداً من المعاني ولم يجعلوا أحدهما مضادا للآخر، قالوا: ولهذا فإن الجرب يلتذ بإدراك المعنى الحادث عند الحك ولو لم يكن به جرب لتألم به بعينه فجعلوا التألم به تارة لمقارنة النفرة والتلذذ به أخرى لمقارنة الشهوة.
قال ابن متويه: وقد حكي عن أبي القاسم خلافه فأما اللذة الباقية والألم الباقي كالألم الحاصل عند إدراك الصبر فالمرجع بذلك إلى الإدراك مع الشهوة أو النفرة دون معنى حادث.
قوله: (فبهذا التدريج صارت الحاجة ملازمة للشهوة والنفار).
الموجود في النسخة الَّتِي بخط المصنف: فبهذا التدريج صارت الحياة ملازمة للشهوة والنفار. ولكن الأقرب أن ذلك من سهو القلم فالمعنى لايستقيم إلاَّ على حذف لفظ الحياة وأن يجعل مكانه لفظ الحاجة.
قوله: (من حيث يزداد جسم أحدنا بتناول ما يشتهيه وينقص بتناول ما ينفر عنه).
لهذه الدلالة تتمة وهي أن يقال وإذا كانت الشهوة والنفار تلازمهما الزيادة والنقصان ولايجوزان إلاَّ على الأجسام إذ المرجع بالزيادة إلى انضمام بعض الأجزاء المتحيزة إلى بعض، والمرجع بالنقصان إلى افتراق بعض الأجزاء المتحيزة من بعض وقد ثبت أنَّه تعالى ليس بجسم ثبت أنَّه لايجوز أن يشتهي وينفر.
قوله: (واعترض) إلى آخره.
هذا الاعتراض أورده الشيخ أبو إسحاق وتحقيقه أنَّه لايصح كون الشهوة مؤثرة في زيادة الجسم إذ ليست من الأسباب المولدة ولا المتحيزات مما يتولد عن غيرها فلا يصح أن يولد الشهوة تلك الأجزاء ولا أن تولد اجتماعاً ولا تأليفاً، وكذلك فالنفرة لايصح أن تولد افتراق الجواهر ولا أن توجب عدمها فحينئذ علمنا أن تلك الزيادة والنقصان من جهة الله تعالى أجرى العادة بذلك فلو قدرنا أن الله تعالى مشته ونافر لم يمتنع ألا يثبت ما مجراه العادة في حقه فلا تزداد ذاته ولاتنقص بإدراك ما يشتهيه أو ينفر عنه لاسيما وذلك لايصح عليه بل هو مستحيل في حقه تعالى.
قوله: (وأيضاً فقد يكون الأمر بالعكس مما ذكره).
هذا اعتراض آخر ورد على طريقة أبي هاشم في جعله الشهوة ملازمة للزيادة والنفرة ملازمة للنقصان.
وتحقيقه: أن أحدنا قد يدرك ما يشتهيه فينقص جسمه كالطعين والجبن والجماع وقد يدرك ما ينفر عنه فيزداد جسمه كازدياد شرب الأدوية الكريهة شديدة المرارة.
وأجيب عنه: بأن الشهوة لهذه الأمور المذكورة تتعلق بالبعض من الطين أو الجبن مثلاً وهو المتلذذ به ولو أدركه منفرداً لحصلت الزيادة لكن اختلط به غيره مما انفرد لنفر عنه فوقع النقصان بإدراكه وهذا معنى قولهم أن شهوة الطين والجبن شهوة كاذبة إلاَّ أن في هذا الجواب تحكماً لم يدل عليه دليل، وأما الأدوية فإنما تقع الزيادة بانتوال الأطعمة عقيب شربها ولهذا لو استمر عليها لأهلكته.
واعلم أن هذا السؤال الخير إنَّما يرد على عبارة الشيخ أبي هاشم وتحريره لأنَّه خص الشهوة بالزيادة والنفرة بالنقصان فأما على غير ذلك التحرير فهو غير وارد كأن يقال: الشهوة والنفرة تلازمهما الزيادة والنقصان وسواء كانت الزيادة لأجل الشهوة أو لأجل النفار وسواء كان النقصان لأجل النفرة أو الشهوة.
قوله: (لذاته أو لما هو عليه في ذاته).
يعني إما أن يكون كونه مشتهياً صفة ذاتية يستحقها لذاته أو صفة مقتضاة عن صفته الذاتية فيستحقها لما هو عليه في ذاته.
قوله: (والأول باطل). يعني وهو أن يستحقها لذاته أو لما هو عليه في ذاته وجعل ما يدل على بطلانهما واحداً لأنَّه لافرق بين الصفة الذاتية ههنا وبين ما هو مقتضى عنها في عدم الاختصاص ببعض المتعلقات دون بعض كما في عالميته تعالى.
قوله: (وإلى أن يوجد أكثر مما أوجد وأكثر).
تجنب المصنف رحمه الله عبارة السيد الإمام فإنه عليه السلام قال: وإن يريد في ذلك إلى ما لايتناهى لأنَّه يرد عليها أن إيجاد ما لانهاية له محال، وإيجاد المحال لايصح وإن توفرت الدواعي إليه.
قوله: (لايتعدى الحدوث وتوابعه).
يعني لايتعدى تأثيره إحداث الذات وإخراجها من العدم إلى الوجود وتوابع الحدوث وهي الوجوه الَّتِي يقع عليها الفعل ككون الكلام أمراً أو خبراً أو كون الفعل طاعة أو معصية.
إذا تقرر هذا فالباري تعالى ليس له حالة حدوث تعالى عن ذلك، ثُمَّ أن ذلك الفاعل لايصح أن يكون غيره تعالى لأنَّه إن جعل قديماً فلا قديم معه تعالى، وإن كان محدثاً فالمحدثات قادرة بقدرة فلا يصح تأثيرها في الشهوة، إذ لو صح لأثر أحدنا في شهوة لنفسه أو لغيره وهو محال ثُمَّ كيف يؤثر أثراً فيما لايماسه.
قوله: (لزم ما تقدم في كونه مشتهياً لذاته).
يعني وهو أن يشتهي جميع المشتهيات فيوجد أكثر مما أوجد وقبل الوقت الذي أوجد فيه إذ لا اختصاص للشهوة القديمة والمعدومة في ذلك وبالجملة فما تقدم في إبطال المعاني القديمة حاصل هنا، وأما الشهوة المعدومة فلا اختصاص لها بشمته دون مشته.
قوله: (لزم ذلك أيضاً).
يقال: بل لايلزم إذ كل شهوة محدثة تختص بجنس واحد ولا تتعداه، وما أنكرت أنَّه لم يحدثها قبل الوقت الذي أوجد فيه المشتهيات ولا أوجد شهوة لأكثر ما أوجده من المشتهيات.
قوله: (وهو أن يكون ملجئ إلى غيجاد الشهوات على الحد الذي يكون ملجئ إلى إيجاد المشتهيات).
يعني فيوجد من الشهوات أكثر مما أوجد وقبل الوقت الذي يقدر إيجاده لها فيه وقبل، وفيه سؤال وهو أن يقال: إنَّه لايكون ملجئ إلاَّ حيث يكون محتجاً ولايكون محتاجاً إلاَّ حيث يكون مشتهياً لأن حاجته إلى المشتهيات فرع على التلذذ بها والتلذذ فرع على الشهوة وثبوتها له ولم يثبت تعداد لايثبت إلاَّ بأن يحدثها لنفسه فكيف قلتم يكون ملجئ إلى خلق الشهوات؟
والجواب: أن ذلك لازم من حيث أنَّها لو جازت عليه تعالى فهو يعلم حالته الَّتِي يكون عليها لو فعل الشهوة لنفسه والمشتهيات وما يثبت له بذلك من اللذة والسرور لأنَّه عالم لذاته فيكون ذلك داعياً له إلى إيجاد الشهوة والمشتهى والداعي إذا كان داعي حاجة فهو كاف في الإلجاء.
قوله: (لجازت عليه الشهوة المحدثة).
يعني لما ثبت وتقرر من أن كل ذات صحت عليها صفة ثابتة لمعنى محدث أنَّه يصح عليها ضدها إذا كان لها ضد.
تنبيه
قال أصحابنا: يلزم المكلف في هذه المسألة أن يعلم أن الله تعالى غني لاتجوز عليه الحاجة في شيء أصلاً لا في الدنيا ولا في الآخرة وأنه غني فيما لم يزل وفيما لايزال ولايجوز عليه الحاجة في حال من الأحوال.
القول في أن الله تعالى ليس بجسم ولا عرض ولايجوز عليه ما يجوز عليهما من التحيز والحلول والتنقل في الأمكنة والجهات ونحو ذلك من توابعهما
قوله: (سبيكة ملقاة).
أرادوا أنَّه لاخرق فيه ولاتشريح أعضاء وإنَّما هو جسم مصمت.
قوله: (وحكي عن بعض الحنابلة القول بالتجسيم).
ينسب مثل ذلك إلى الفقيه المحدث إمام الحنابلة أحمد بن محمد بن حنبل ومن أصحابه من أنكر أن يكون ذلك مذهباً له وهو اللائق بحلمه وعبادته وزهده وما كان عليه من محامد الأوصاف.
قوله: (وعليه جل أهل الحشو).
إنَّما نسبوا إلى الحشو لأنهم ينقلون الأحاديث المكتذبة في الأخبار النبوية ويروونها ويحتجون بها على ما يذهبون إليه حدث مذهبهم في زمان بني أمية.
قوله: (لاشتراكها في أخص أوصافها وهو التحيز).
يقال: إن التحيز صفة مقتضاة فكيف جعلت تماثل الأجسام لأجلها والتماثل من أحكام الصفة الذاتية. والجواب: أنَّه أراد من حيث أنَّها كاشفة بمجردها عن الصفة الذاتية ويدل الاشتراك فيها على الاشتراك في الصفة الذاتية.
قوله: (ولالتباسها على المدرك).
يعني عند اتفاقها في قدرها ولونها وصورتها فإن الواحد منا إذا رأى جسمين هكذا ثُمَّ غاب عنهما ثُمَّ أدركهما ثانياً فإنه يعرض له اللبس فيما بينهما، وهذا عند أصحابنا من الطرق الدالة على تماثل الذاتين وهو أن تلتبسا على المدرك لأنهما يدركان على صفة الخاصة والتباسهما لايكون إلاَّ لاشتراكهما فيها وباشتراكهما فيها يكون التماثل.
قوله: (مع العلم بتغايرهما).
يحترز عن نحو الكون ومحله مما عرض اللبس فيه لأجل الحلول وعن نحو الخضاب والشعر مما عرض اللبس فيه لجل المجاورة فإنه لم يثبت العلم لمن التبس على ذلك بالتغاير فلا يدل على التماثل.
قوله: (ويستحيل شرط الاقتضاء على الإطلاق).
قد تقدم ذكر المراد من الحتراز به فيما مضى.
قوله: (وأيضاً فلا بد أن يكون ذلك الشرط) إلى آخره.
يعني لعدم تعقل اشتراط سوى تلك الصفات الأربع الَّتِي هي القادرية والعالمية والحيية والوجودية.
قوله: (وكلها قد استحققنا قبيلها).
يعني فقد حصل الشرط فكان يلزم حصول المشروط.
قوله: (فيؤدي إلى التمانع).
يعني بين الأجزاء الَّتِي قد لزم كون كل واحد منها قادراً عالماً بأن يريد أحدها شيئاً ويكرهه الآخر.
قوله: (لتأدية ذلك إلى أن يكون محدثاً).
يعني من حيث أنَّه لايجعل الذات على صفة ألا تحدث تلك الذات على ما تقدم.
قوله: (فهو متناهي المقدار في المساحة).
المساحة الذرعة، نقول: مسح الأرض مساحة. أي ذرعها. قال العصيفري: المساحة هي معرفة الأشكال الممسوحات كالكيل للمكيلات والوزن للموزونات والذرع للمطولات.
قوله: (والعدد).
يعني فيصح حصر أجزائه بالعدد وهذا خلاف ما عليه النظام فإنه يذهب إلى أنَّه لاشيء من الأجسام تنحصر أجزاؤه ولاينتهي عددها.
قوله: (وكل متناه فهو محدث).
يعني من حيث أنَّه يجوز دخول الزيادة والنقص فيه بلا محالة ولو كان قديماً لم يجز تغيره ولازيادته ولانقصانه فإن لواحق الحدوث مما لايصح إلاَّ في المحدثات.
قوله: (دليل كل جسم مركب وكل مركب يجوز عليه التفريق) إلى آخره.
قد يورد هذا الدليل على وجه آخر وهو أن يقال: لو كان تعالى جسماً لكان مركباً لأن المعقول من الجسم هو الطويل العريض العميق، وذلك مركب بلا محالة ولو كان مركباً لكان وجوده متوقفاً على وجود كل واحد من مفرداته لأن حقيقة المركب هو الذي يلتئم من مجموع أجزاء فحصول مركب من دون مفرداته محال، وما كان كذلك كان ممكناً لذاته لأنا لانعني بالممكن إلاَّ ما كان محتاجاً إلى غيره ولولا ذلك الغير لم يكن موجوداً وهذا حاصل في المركب مع مفرداته فإنه لايمكن وجود المركب من دونها.
وهو تعالى يستحيل أن يكون ممكناً لذاته لما تقدم من أنَّه واجب الوجود، وما كان واجب الوجود استحال أن يكون ممكن الوجود لأن فيه الجمع بين النقيضين. ذكره الإمام يحيى في التمهيد.
قوله: (لكان كائناً فيما لم يزل).
يعني إذ لايصح تعليلها بالكون فتكون معنوية لما تقدم من أن الأكوان محدثة والفاعل لايصح تأثيره في صفة لذات إلاَّ إذا كان قادراً عليها، وإذا لم تكن معنوية ولا بالفاعل كانت واجبة إما ذاتية أو مقتضاة إذ الصفة إما جائزة فتكون معنوية أو بالفاعل أو واجبة فتكون ذاتية أو مقتضاة.
قوله: (فيشاركه فيها جميع الأجسام).
أي في وجوبها وكيفية استحقاقها وقد ثبت أنَّها في حق الأجسام معنوية جائزة.
قوله: (ألا ترى أنَّه يجب له).
أي لجنس الجسم لما كانت الأجسام متماثلة.
قوله: (ويجوز عليه التنقل في كل حال).
إنَّما كان هذا الجواز راجعاً إلى الذات لأنَّه من أحكام الصفة المقتضاة الَّتِي هي التحيز عن الصفة الذاتية الَّتِي هي الجوهرية.
قوله: (ويستحيل عليه الكون في جهتين في وقت واحد).
فيه نظر لن هذه الاستحالة ليست براجعة إلى الذات وإنَّما هي راجعة إلى تضاد الكونين وتنافيهما.
قوله: (وصحة الموت عند حصول الحياة).
فيه نظر لأن الموت ليس بمعنى على الصَّحيح الذي اختاره اللهم إلاَّ أن يكون قصد به زوال الحياة وفيه أيضاً نظر لن الصحة لاتضاف إلى أمر نفيي، فكان الأولى أن يقول: وصحة القدرة عند حصول الحياة.
قوله: (إنما يفعل الفعل مباشراً أو متعدياً).
ينبغي الكلام في حقيقة المباشرة والتعدي والاختراع أيضاً فإن هذه هي الوجوه الَّتِي يحدث الفعل عليها أما المباشرة فهي عند المتقدمين إيجاد الفعل بالقدرة في محلها ابتداء والمباشر ما وجد بالقدرة في محلها ابتداء وعند المتأخرين أنَّها إيجاد الفعل بالقدرة في محلها مطلقاً سواء كان ابتداء أو توليداً والمباشر ما وجد بالقدرة في محلها كذلك فعلى كلام المتأخرين يكون العلم المتولد عن النظر مباشراً وإيجاده كذلك مباشرة. وعلى كلام المتقدمين ليس كذلك.
واصطلاح المتأخرين هو المطابق للغة، وأما التعدي فهم متفقون على أنَّه إيجاد الفعل بالقدرة في غير محلها بواسطة فعل في محلها، وأن المتعدي هو الفعل الموجود بالقدرة في غير محلها بواسطة فعل في محلها فعلى كلام المتقدمين يكون في أفعالنا ما ليس بمباشر ولامتعد وهي المتولدات الحاصلة في محل القدرة وعلى كلام المتأخرين لاتخلو أفعالنا عن أحد هذين القسمين وعلى التفسيرين جميعاً لاشيء من أفعاله تعالى بمباشر ولامتعد.
وأما الاختراع فهو إيجاد الفعل لا في محل القدرة ولا بواسطة فعل فيه والمخترع الفعل الموجود إلى آخره، هكذا أطلق المتأخرون وأما المتقدمون فيشرطون في الفعل المخترع أن يكون مبتدأ فعلى كلامهم يكون في أفعاله تعالى ما ليس بمخترع.
قوله: (لتأديته إلى تداخل المتحيزات أو حلول المتحيز).
كان الأولى أن لاأتي بأو للتخيير فإنه يلزم الأمران جميعاً وذلك لأن المباشرة هي إيجاد الفعل بالقدرة في محلها فإذا وجد الجسم كذلك لزم أن يكون حالاً في محلها لأن ذلك معنى المباشرة وفي ذلك لزوم تداخلها بأن يوجد الجزءان في وجهة واحدة لايتسع إلاَّ لأحدهما ومعلوم بالضرورة استحالته.
قوله: (لايتعدى إلى الغير إلاَّ بالاعتماد) .
الوجه في ذلك ما علمناه بالاستقراء والتتبع من وقوف الفعل المتعدي على الاعتماد ثبوتاً وانتفاء، بحيث لايمكن خلاف ذلك.
قوله: (وإلا وجب مثله في الاعتماد الذي يفعله).
يعني لما تقرر من أن السبب يولد في كل موضع ومن كل فاعل إذ توليده لما هو عليه في ذاته وذلك ثابت أينما ثبت.
قوله: (إلا أن يقال الجهات مشعر له).
يعني فلو ثبت ذلك على ما ادعاه أبو القاسم لكان مانعاً وإن كان أبو القاسم يقول بانقباض الهوى وانبساطه لئلا يلزمه تعذر التصرف إلاَّ أن هذا لايتأتى له مع قوله بأنه ممتلئ جواهر.
قوله: (ولما تقدم) يعني في الدليل المتقدم حيث قال كل عاقل يعلم ضرورة أن الجسم لايفعل إلاَّ في محل قدرته أو بواسطة فعل في محلها.
قوله: (إذ لو كان قادراً لذاته).
أي الباري مع كونه جسماً تعالى عن ذلك، وقد هب النظام إلى أن الواحد منا قادر لذاته وهو باطل لما ذكره، ولأنها لو كانت ذاتية لما تفاضل القادرون في المقدورات ولصح أن يمانع الضعيف أبلغ الأقوياء، ولما تماثلت الأجسام القادرة وغير القادرة لافتراقها في صفة ذاتية وكان يلزم رجوعها إلى الأجزاء والأفراد، فيكون الواحد منا بمنزلة قادرين ضم بعضهم إلى بعض، فلا يصدر الفعل منه بداع واحد، وبمثل هذا يبطل أن يكون كونه قادراً صفة مقتضاة، وما أبطل أن يكون الجسم /340/ كائناً بالفاعل أبطل أن يكون قادراً بالفاعل أيضاً.
واعلم أن كلام المصنف في هذا الدليل الذي هو قوله: (دليل لو كان جسماً لكان قادراً بقدرة) إلى آخره. منضرب جداً لأنه قال في أوله بقدرة ثم احتج على لزوم ذلك بأن مقدورات القدر منحصرة متجانسة، ومعنى كونها منحصرة أنها مقصورة على الأجناس العشرة كما ذكره من بعد فكأنه قال: لو صح منه فعل الأجسام لصح منا لأنا مثله في كوننا قادرين بقدرة ومن لازم ذلك عدم صحة فعل الأجسام وفي هذا غاية الانضراب، ثم قال: فلو كان تعالى قادراً بقدرة لوجب انحصار مقدورها وتجانسه فأول الدليل حاصله لزوم أن نكون قادرين على فعل الأجسام ثم خرج إلى دليل آخر وهو لزوم ألا يقدر الباري تعالى على الأجسام ولا على غير المقدورات العشرة.
وساق كلامه على هذا إلى آخر الدليل ثم قوله في قدرة الباري تعالى لوجب انحصار مقدورها وتجانسه غير مستقيم لأنه لامعنى لقوله: وتجانسه. ولا طائل تحته لأن التجانس إنما يذكر في مقدور القدر على الجملة لا في قدرة واحدة.
ثم قوله: (فهذه ثلاثة أصول) فذكر الأصلين الأولين وهو أن مقدورات القدر منحصرة متجانسة وأن علة الانحصار والتجانس كونها قدراً وأهمل الأصل الثالث فلم يذكره وهو أنه تعالى إذا كان قادراً بقدرة وجب انحصار مقدوره وتجانسه.
إذا عرفت هذا تبين لك أن هذا الدليل راجع إلى دليلين أحدهما وهو الذي بنى عليه الكلام في أول الأمر أن يقال لو كان تعالى جسماً لكان قادراً بقدرة لما تقرر من أن الجسم لايكون قادراً إلا بقدرة، وإذا كان قادراً بقدرة مع أنه قد تقرر صدور الأجسام منه وفعله لها وجب أن نكون قادرين عليها لما تقرر من أن مقدورات القدر متجانسة فلا قدرة يصح أن يفعل بها جنس إلا ويصح بسائر القدر، وإذا كنا قد علمنا عدم قدرتنا على الأجسام عرفنا أنه تعالى غير قادر بقدرة وفي ذلك كونه غير جسم.
وثانيهما: وهو الذي بنى عليه آخر الأمر أن يقال لو كان تعالى جسماً لكان قادراً بقدرة لما تقرر من أن الجسم لايكون قادراً إلا بقدرة ولو كان قادراً بقدرة وجب انحصار مقدوراته في الجنس والعدد كما وجب ذلك في قدرنا إذ مقدورات القدر منحصرة متجانسة وإنما انحصرت مقدوراتها وتجانست لكونها قدراً، فإذا شاركت قدرته تعالى قدرنا في كونها قدرة وجب أن يشاركها في انحصار المقدور وتجانسه لأن الاشتراك في العلة يوجب الاشتراك في الحكم، وههنا أصل وهي قدرنا وفرع وهو قدرة الباري تعالى وعلة وهي كونها قدراً وحكم وهو انحصار المقدور وتجانسه، فتقرر أنه تعالى لو كان قادراً بقدرة لوجب انحصار مقدوراته ومجانستها لمقدوراتنا. ثم يأتي بالاحتجاج على الأصول الثلاثة ثم يقول: (وإذا قد تقرر عدم انحصار مقدوراته تعالى وعدم مجانستها لمقدوراتنا) ...... غير قادر بقدرة وإذا لم يكن قادراً بقدرة لم يكن جسماً إذ الجسم لايكون إلا قادراً بقدرة.
قوله: (وذلك معلوم من حالها).
يعني تعذر أن يفعل بها غير الأجناس العشرة بالأدلة المقررة في مواضعها من اللطيف وإن كان البغداديون قد جعلوا من مقدوراتها اللون والشهوة والحرارة فكلامهم ظاهر البطلان.
قوله: (وذلك ظاهر).
بيانه أنه يستحيل في بعض القادرين منا أن يصح منه فعل الكون دون الاعتماد أو فعل الكون يمنة دون يسرة وكذلك يستحيل أن يصح منه فعل الإرادة دون الاعتقاد أو الظن فلو لم تكن القدرة قدرة على سائر الأجناس التي يصح فعلها بالقدر وكان لكل جنس من هذه الأجناس قدرة تخصها لجاز حصول قدرة بعض الأجناس دون بعض فيتأتى من أحدنا فعل الاعتماد دون الكون ونحو ذلك، ومعلوم خلافه.
قوله: (وإنما يشتبه الحال) إلى آخره.
اعلم أن الجمهور لما ذهبوا إلى تجانس مقدورات المقدر لم يجدوا بداً من القول بأن قدر الجوارح قدر على أفعال القلوب /341/ الخمسة ومتعلقة بها وإن لم يصح وجود تلك الأفعال في محال تلك القدر إلا على بعض الوجوه وذلك بأن يبني بنية مخصوصة ومن القول بأن قدر القلوب قدر على أفعال الجوارح، ويصح فعلها بها، وقد خالف في ذلك الشيخ أبو علي قال: لأن القدرة إنما تكون قدرة على ما يصح وجوده في محلها، وأفعال القلوب لايصح وجودها في محال قدر الجوارح، فكيف تكون قدراً عليها وهذا يوجب عليه ألا يمنع من كون قدر القلوب قدراً على أفعال الجوارح لصحة وجود الأكوان والاعتمادات وسائرها في محالها فيقال كذلك فالجارحة التي هي اليد ونحوها لو بناها الله تعالى القلب لصح وجود أفعال القلب فيها لما فيها من القدر فإن منع من ذلك قيل له: فقد أبطلت كلامك من أن القدرة قدرة على ما يصح وجوده في محلها.
قوله: (بأن يدخل الله تعالى أجزاء الجوارح في تضاعيف أجزاء القلب أو العكس).
فيه سؤال وهو أن يقال: إن الله تعالى حال تفريقه لأجزاء الجارحة وأفراد كل جزء وحده تعدم القدرة التي فيها، وأنت في بيان أن ذلك الجزء إذا أدخله الله تعالى بين أجزاء القلب صح فعل الاعتقاد ونحوه بتلك القدرة التي فيه، وفي تصحيح ما ذكرته صعوبة.
والجواب: أنها وإن زالت في حال التفريق فإن الله إذا أوصل ذلك الجزء إلى مستقره من القلب صح منه إعادة تلك القدرة بعينها فيه إذ هي باقية مبتدأة فيصح إعادتها وحينئذ لابد من القول بصحة إيجاد العلم وغيره من أفعال القلب بها وإلا أدى إلى أن يصح فعله ببعض قدر القلب دون بعض إذ قد صارت من قدر القلب فإنا لانعني بقدر القلب إلا ما كان موجوداً فيه.
فإن قيل: إذا كانت قدر القلب قدراً على أفعال الجوارح والعكس فهلا صح منا إيجاد حركة مبتدأ في القلب بما فيه من القدر إذ هي مما يصح وجوده فيه؟
قلنا: المانع من ذلك اتصاله بما لايصح بحركة من دونه فلو انفصل لصح ذلك.
واعلم أن أبا هاشم قد نقل عنه مثل قول أبي علي والظاهر عنه مذهب الجمهور في أن قدر القلب قدر على أفعال الجوارح والعكس ولكنه يخالفهم في التسمية فمنع أن يسمى بذلك، قال: فلا يقال قدر على أفعال الجوارح في قدر القلب، ولا قدر على أفعال القلوب في قدر الجوارح، وجعلها كالقدر المعدومة فإنها وإن كانت قدراً على أشياء عند وجودها فلا يقال في حال عدمها أنها قدر عليها لما كان لايصح وجوداه بها في تلك الحال فكذلك ههنا.
وقال سائر الشيوخ: بل تسمى بذلك وتكون كقدرة الممنوع فإنها توصف بأنها قدرة على الفعل الذي منع منه وإن لم يصح منه فعله بها في تلك الحال لما كانت متعلقة به فكذلك ههنا فإن قدر الجوارح متعلقة بأفعال القلوب، وإنما لم يصح فعلها بها لمانع وهو فقد ما يحتاج إليه ذلك الفعل من التنبه، وأما القدرة المعدومة فهي غير متعلقة فلا يقاس عليها ما هو متعلق.
قوله: (فلأن هذا الحكم يدور مع كونها قدراً) إلى آخره.
أما أنه يثبت بثبات كونها قدراً فلما تقدم، وأما أنه يزول بزوال كونها قدراً فذلك ظاهر فإن الشهوات لما فقد فيها ذلك لم يصح تجانس متعلقاتها بل ما يتعلق بالحلاوة لايصح تعلقه بالحموضة وكذلك النفرات، وأما فقد ما هو أولى بتعليق الحكم فلأنه لو كان ثم أمر غير كونها قدراً لصح ألا يقع انحصار ولاتجانس فيها لزوال ذلك الأمر وعدم حصوله ارتفقع ذلك في غيرها من المتعلقات لحصوله فيها ومعلوم خلافه /342/.
قوله: (على أصلكم في اختلاف القدر).
يعني فإذا كانت مختلفة كان الحكم الصادر عن إحداها مخالفاً لما يصدر عن الأخرى ولاتتماثل الأحكام التي هي الصحح إلا بالنسبة إلى مقدور واحد وأنتم لاتجيزون ذلك.
قوله: (فلا يتوجه إليه هذا).
يعني لأنه يجعل صحة الفعل الصادرة عن قدر كثيرة أحكاماً متماثلة لاتحاد ما هي تتعلق به.
قوله: (إلا أن نسبته إلى الذوات نسبة واحدة).
يعني فكما تضاف صحة العلم إلى هذه الذات التي يصح كونها معلومة فيقال يصح العلم بها يضاف إلى كل ذات غيرها وينسب إليها.
قوله: (وكذلك نسبة صحة الفعل إلى جميع الأجناس نسبة واحدة).
يعني فكل صحة صادرة عن كل قدرة شاملة للأجناس العشرة وإن لم يشمل كل عين منها.
قوله: (لأنا إنما نعلل التجانس والانحصار).
يعني وهو نسبة صحة الفعل فكل قدرة إلى كل حدس واستواء القدر في ذلك لا استواؤها في صحة فعل كل عين بها.
قوله: (وإن اختلفت نسبتها إلى الأعيان).
يعني فهذه القدرة يصح بها فعل هذه العين من المقدورات دون غيرها وهذه القدرة يصح بها فعل العين الأخرى دون هذه العين وغيرها.
قوله: (ويمكن أن يجاب) إلى آخره.
تلخيص الجواب أنا لم نعلل تعذر فعل الجسم ونحوه بالقدر بصحة فعل المقدورات العشرة بها وإنما عللنا تعذر فعل الجسم بها بكونها قدراً فتعذر فعله بها لهذا الوجه، ثم استدللنا بصحة فعل الأجناس العشرة بها وتجانس مقدوراتها جميعاً لكونها قدراً على صحة التعليل ودليل صحة العلة وهو ههنا صحة أن يفعل بكل واحدة من القدر سائر الأجناس العشرة غير العلة التي هنا كونها قدراً.
قوله: (فما أجاب به فهو جوابنا).
يعني فإنه لايمكنه أن يجيب إلا بأنه لو صح ذلك وهو فعل الجسم منه لصحة البنية واعتدالها لصح منا لصحة بنانا واعتدالها، فإذا قيل له: ولم وجب ذلك؟ لم يكن له بد من أن يقول: لأن ما صح ببعض البنا الصحيحة صح ببعضها الآخر، دليله ما نحن عليه وترتب الدليل على نحو ما رتبناه فكذلك نقول، ولو صح منه فعل الجسم ونحوه بقدرة هي معنى عندنا لصح منا بذلك المعنى أيضاً.
قوله: (وقوله إن إثبات ذلك).
أي إثبات الصحة والاعتدال في حقه تعالى.
قوله: (فلايكون لأبي الحسين) إلى آخره.
يقال: الاعتراضان مضافان إلى ابن الملاحمي، وعجل الرد متوجهاً إليه فما سبب ذكر أبي الحسين؟ والجواب: أن السبب في ذلك أن أبا الحسين هو المورد للاعتراض الثاني على ما ذكره بعض أصحابنا وهو القائل أن إثبات ذلك إثبات ما لاطريق إليه، والضمير في قول المصنف وقوله عائد إليه.
قوله: (نحو قوله تعالى: {قل هو الله أحد}).
وجه الاستدلال بهذه الآية أنه تعالى لو كان جسماً لم يكن واحداً لمماثلة الأجسام له وهذا مأخذ حسن وجعل جار الله نفي التشبيه في هذه السورة الكريمة المحتوية على الإشارة إلى علوم التوحيد مأخوذاً من قوله تعالى: {لم يلد} فإن المراد به نفي التشبيه والمجانسة.
قوله: (على من يقر بالسمع).
يعني بأنه دليل موصل إلى العلم خاصة من يقر بأنه دليل في هذه المسألة كما يضهب إليه مخالفونا.
قوله: (فالحق أنه لايصح).
نبه على الخلاف الواقع في صحة الاستدلال على هذه المسألة بالسمع كما هو مذهب الشيخ الحسن وصاحب الجوهرة فإنهما أجازا ذلك ولعل حجتهما على ذلك أنا نعلم كونه تعالى غنياً وهي الصفة التي تقف صحة السمع عليها بدليل /343/ أبي إسحاق وهو لايتوقف على نفي التشبيه وإنما الذي يتوقف على نفيه دليل أبي هاشم وكذلك فقد ثبت لنا أنه عالم لذاته وإن لم يعلم نفي التشبيه وإذا كان كذلك فقد أمكن العلم بالعل الذي تتوقف صحة السمع على العلم به من دون العلم بنفي التشبيه فصح الاحتجاج بالسمع عليه لكنه يقال مع تحرير الجسمية لايتقرر أنه تعالى عالم لذاته إذ لايصح في الجسم أن تكون عالميته لذاته.
قوله: (لاختلاف الفائدة كما تقدم).
يعني أن فائدة قولنا شيء ما يصح العلم به والخبر عنه، وفائدة قولنا جسم أنه طويل عريض عميق، فإذا قلنا أنه تعالى شيء فالمراد أنه يصح العلم به والخبر عنه، وإذا قلنا لا كالأشياء فمرادنا أنه لايشبه سائر الأشياء والذوات المحدثة، وإذا قلنا جسم فقد أفاد أنه طويل عريض عميق، وإذا قلنا لا كالأجسام نفينا بذلك الطول والعرض والعمق عنه فيكون في ذلك محض المناقضة.
فصل في شبه المجسمة
قوله: (هذا اعتماد على الوجود).
أي على ما وجدتموه من غير علة جامعة فأما مع حصول العلة فلا بأس بالقياس .... عليه أضداد هذه الصفات وزوالها، أراد بالأضداد حيث يكون لها ضد كالجهل وبزوالها انتفاؤها، وهو يشمل ما له ضد وما لا ضد له.
واعلم أن التحقيق في الجواب عن هذه الشبهة أن القادر العالم في الشاهد إنما وجب أن يكون جسماً لأنه قادر بقدرة وعالم بعلم وحي بحياة وهذه المعاني لاتوجد إلا في محل مبني بنية مخصوصة والله تعالى يستحقاه لذاته فلا يقتصر في ثبوتها له إلى أن يكون محلاً لما يؤثر فيها.
قوله: (معنى قولهم لايعقل أنه لم يوجد له نظير).
قد قيل: إن مرادهم بقولهم أنه لايعقل أي لايتوهم فإنا لانتوهم إلا الجسم والعرض فيقال لهم على هذا المعنى الوهم لايعتد به.
قال أبو الحسين: قد يتوهم الجمع بين الضدين، والعقل يحيل ذلك. وحكي عن الغزالي أنه قال: قد يتوهم أن المعاني الحالة في المحل كالمتراكبة فنتوهم الحياة والقدرة في محل فوقها والعلم فوق القدرة وأنها كذلك طباقاً والعقل يحيل ذلك، ثم يقال لهم: هل تريدون أنكم لم تعقلوا سوى ذلك فهو لايمنع من أن يعقله غيركم إذ الذي منعكم عن تعقله وهم أو اعتقاد غير مطابق، وإن أردتم أنه لم يعقله العقلاء كافة فخطأ منكم بل قد عقلوا خلاف ما ذكرتم وأنه تعالى ذات غير ذات الجسم وذات العرض.
قوله: (ولأن الشاهد لايفعل إلا على جهة المباشرة والتوليد).
كان الأولى أن يقول: على جهة المباشرة أو التعدي وهو المطابق لما بنى عليه المتأخرون، والمناسب لهذا المقام، ويقال: ظاهر ما ذكرته يقضي بأن العلة في كون القادر العالم في الشاهد جسماً كونه لايفعل إلا مباشرة أو تعدياً وليس كذلك فإنه إنما وجب أن يفعل على أحد هذين الوجهين لكونه جسماً ويمكن ..... بأن هذا التعليل متفرع على ثبوت القدرة له فلما لم يكن القارد في الشاهد قادراً إلا بقدرة وكان من حقها ألا يفعل بها إلا على أحد الوجهين وليس يتأتى الفعل على أحد الوجهين إلا من جسم وجب لذلك كونه جسماً.
قوله: (ألا يجوز عليه الحسن).
أي الإدراك بالحواس.
قوله: (إن الذي يدل على أنه حي ليس هو الدليل على جواز الحس والحركة).
يعني فدليل كونه حياً صحة أن يقدر ويعلم ودليل جواز الحس والحركة كونه متحيزاً بصفة الأحياء في الشاهد فلا يلزم أن يكون الباري تعالى جسماً وإن كان الطرف الأخير مسلماً وهو أن الدليل على جواز الحسن والحركة يدل على أنه حي مثل ما أن الدليل على كونه شيئاً لايدل /344/ لابد على أنه يحدث فإن كان الدليل على أنه يحدث يدل على أنه شيء.
قوله: (وشبهتهم من جهة السمع).
اعلم أولاً أنه لايصح لهم الاستدلال بالسمع في هذه المسألة لما تقدم وكيف يصح لهم الاستدلال بالسمع علىما لو صح لبطل دلالة السمع ثم أن أكثر المجسمة يذهبون إل الخبر والجبرية سادون على أنفسهم طريقة الاستدلال بالسمع. قال أصحابنا: بل لاطريق لهم إلى إثبات الصانع فضلاً عن ثبوت حكمته وصدق مقالته.
قوله: (معناه استولى).
ذكر أصحابنا أن للاستواء عدة معان:
أحدها: ما ذكره شاهده ما ذكره أيضاً.
وثانيها: الانتصاب ومنه قوله تعالى: {استوى على سوقه}.
وثالثها: المساواة.
ورابعها: الاستقرار وعليه حملت المجسمة هذه الآية الشريفة.
وخامسها: القصد ومنه قوله تعالى: {ثم استوى إلى السماء}.
وسادسها: الكمال ومنه قوله تعالى: {حتى إذا بلغ أشده واستوى} أي كملت له أربعون سنة.
وسابعها: الركوب، ومنه قوله تعالى: {فإذا استويت أنت ومن معك} أي ركبت.
وثامنها: الصلاح ومنه قولهم: استوى الأمر، أي صلح.
قوله: (وإنما خص العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات).
يعني وتلك عادة العرب وهي أنهم يخصون الأعظم من الأشياء بالذكر وإن شاركه غيره في ذلك ولهذا قال تعالى حاكياً عن فرعون: {أليس لي ملك مصر} مع كونه مالكاً لغيرها من الأمصار لكن خصها لكونها أعظم ما تحتوي عليه مملكته، وإنما كان العرش أ‘ظم المخلوقات لما ورد في الأثر عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (( ما السموات والأرضون السبع في جنب الكرسي إلا كحلقة في فلاة، وما السموات السبع والأرضون السبع والكرسي في جنب العرش إلا كحلقة ملقاة في فلاة )) .
وفي الأثر عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( إن للعرش ألف ألف رأس وستمائة ألف رأس في كل رأس ألف ألف وجه وستمائة أل فوجه في كل وجه ألف ألف فم وستمائة ألف فم في كل فم ألف ألف لسان وستمائة ألف لسان كل لسان يسبح الله بألف ألف لغة وستمائة ألف لغة وبين السماء السابعة وبين العرش سبعون ألف حجاب ومائة ألف حجاب بين كل حجابين كما بين السماء والأرض ليس من ذلك موضع إلا وفيه ملك يسبح الله تعالى )) .
وروي عن مجاهد أنه قال: للعرش ألف قائمة كل قائمة استدارتها استدارة السموات والأرض. وقال في الكشاف: قيل إن الله تعالى خلق العشر من جوهرة خضراء بين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام ونحو ذلك من الأحاديث. روى ذلك بعض أصحابنا والله أعلم بصحته.
قال: وأكثر الأحاديث في العرش تقضي بأنه حيوان، وقد قيل في العرش المذكور في الآية يحتمل أن المراد به جميع العالمين والمخلوقات. قال السيد الإمام: وقد قيل أن العرش بمعنى الملك وذلك ظاهر في اللغة يقال: ثل عرش بني فلان أي زال ملكهم وعليه قول الشاعر:
إذا ما بنو مروان ثلت عروشهم ... وأودت كما أودت إياد وحمير
ومن معانيه: السرير قال تعالى: {نكروا لها عرشها} وأصله البناء، قال تعالى: {فهي خاوية على عروشها} والذي ذكره الجوهري أن العرش سرير الملك وأن عرش البيت سعفه، وقولهم: ثل عرشه أي وها أمره.
قال زهير:
تداركتما عبساً وقد ثل عرشها ... وذبيان إذ زلت بأقدامها النعل
والعرش ذا العريش ما يستظل به.
قوله: (لأنه لو أراد النور بمعنى الضياء لم يكن لإضافته إلى السموات والأرض فائدة).
يقال: بل الفائدة في ذلك على هذا المعنى ظاهرة. قال جار الله: وأضاف النور إلى السموات والأرض لأحد معنيين إما للدلالة على سعة إشارقه وفشو إضاءته حتى تضيء له السموات /345/ والأرض، وإما أن يراد أهل السموات والأرض وأنهم يستضيئون به، وبنى هذا رحمه الله على أن المراد تشبيه الحق بالنور، وأن المراد: الله ذو نور السموات والأرض كما سيأتي.
قوله: (وأيضاً فكثير من الناس يجعل النور عرضاً لاجسماً).
يعني أبا الهذيل ومن قال بقوله فإنه جعل النور اسماً لبياض يحل في أجزاء رقيقة.
وقال الجمهور: بل النور اسم للأجزاء الرقيقة التي يحلها البياض مع اتفاق الجميع على أنه لابد في النور من بياض وأجزاء رقيقة ونحو هذا خلافهم في الظلمة.
قوله: (وأما قوله مثل نوره) إلى آخره.
جواب لما عسى أن يقوله قائل من أن قوله تعالى: {مثل نوره} دليل على الجسمية لأن إضافة النور إليه يقتضي ذلك إذ الإنارة من صفات الأجسام.
قوله: (فقيل شبهه) إلى آخره.
أي شبه النور وفيه نظر لأن النور المشبه به والإيمان هو المشبه ، وقد بنى المصنف على أن المضير في نوره عائد إلى المؤمن كما وقع التصريح به في قراءة أبي ومجاهد وهو خلاف الظاهر من كون الضمير عائد إلى الله كما ذكره الزمخشري قال: ونظير قوله: {الله نور السموات والأرض} مع قوله: {مثل نوره} يعني حيث جعله أولاً نفس النور ثم أضاف النور إليه قولك زيد كرم وجود. ثم تقول: ينعش الناس بكرمه وجوده، والمعنى: ذو نور السموات والأرض والمراد به الحق شبهه بالنور في ظهوره.
قوله: (ونحوها مما فيه ذكر الوجه).
يعني كقوله تعالى: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام).
قوله: (غير هذين المعنيين).
أراد بهما الوجه بمعنى الجارحة، والوجه بمعنى نفس الشيء.
قوله: (من يسلم وجهه إلى الله) إلى آخره.
الذي ذكره المحققون أن المراد ينقاد له تعالى فإن ذلك يتضمن العلم والعمل وأن قوله تعالى: {فأقم وجهك للدين} تمثيل لاقباله عليه، وأن المراد لايتلفت عنه يميناً ولاشمالاً، وقيل: بل المراد أطع الله تعالى. وقيل: اتبع من الدين ما تدلك عليه الفطرة.
قوله: (ومثله وجه الثوب).
يعني فإن معناه خياره فهو مثل هذا وجه القوم، وحمله السيد الإمام على أنه بمعنى ذاته، قيل: وأولى من ذلك أن المراد به ظاهره ومن معاني الوجه أيضاً الجهة، ذكره الجوهري.
قوله: ({ومما عملته أيدينا} ونحوه). التلاوة: مما عملت أيدينا.
والمراد بنحوه قوله تعالى: {بل يداه مبسوطتان} وسائر الآي التي ذكر فيها لفظ اليد.
قوله: (يمنع الاختراع).
يعني فإنما يفعل بها مباشرة وتعدياً.
قوله: (والأجسام لاتفعل) هو بضم التاء الفوقانية مبني للمجهول.
قوله: (والمعنى) أي في قوله تعالى: {لما خلقت بيدي}، وفي قوله تعالى: {مما عملت أيدينا} فإن المراد به ما عملناه نحن، وقد قيل في قوله تعالى: {ما خلقت بيدي} أن اليد ههنا بمعنى القدرة والمعنى لما خلقته بقدرتي إذ يكون المعنى لما خلقت لنعمتي ويكون الباء ههنا بمعنى اللام والذي ذكره المصنف هو الأقوى والمطابق لما ذكره إمام التفسير جار الله. قال: فإن قلت ما وجه قوله خلقت بيدي؟
قلت: قد سبق لنا أن ذا اليدين يباشر أكثر أعماله بيديه فعلمت العمل باليدين على سائر الأعمال التي تبشار بغيرهما حتى قيل في عمل القلب هو مما عملت يداك، وحتى قيل لمن لا يد له: يداك أوكتا وفوك نفخ، وحتى لم يبق فرق بين قولك هذا مما عملته وهذا مما عملته يداك، ومنه قوله تعالى: {مما عملت أيدينا}، {ولما خلقت بيدي}.
قوله: (وفي المثل) إلى آخره.
معنى هذا المثل وهو وجه الاستشهاد به: أنت الفاعل لذلك والمتولي. قيل: والأظهر أن المراد باليد في هذا المثل الجارحة المخصوصة وهذا مثل يضرب لمن يقع في مكروه بسبب فعل منه، قيل: وأصله أن امرءاً قصد إلى أن يعبر نهراً على سقاء قد نفخه وأوكاه بوكاء وهو خيط /346/ يشد به رأس السقا ولكنه لم يفعل ذلك على وجه الإحكام والاتقان فلما توسط النهر انحل ذلك الوكاء فاستصرخ بمن ينجيه من الغرق فقال له قائل: يداك أوكتا وفوك نفخ. أي أنت المتولي لذلك فأتيت من جهة نفسك.
قوله: (بدليل ما قيل).
هذه اللفظة وما بعدها الذي قبلها قوله تعالى ـ حكاية عن اليهود ـ: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا}، والذي بعدها: {ينفق كيف يشاء}، فقوله: {بل يداه مبسوطتان} رد عليهم حين نسبوا البخل إليه تعالى فإن ذلك كناية عنه. قال تعالى: {ولاتجعل يدك مغلولة إلى عنقك}، وآخرها أصرح وهو قوله: {ينفق كيف يشاء}، والمراد بالآية أن نعمته مبسوطة متمكن منها كل حي.
قال جار الله: غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ولايقصد من تكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازاً عنه كأنهما كلامان معتقبان على حقيقة واحدة ولو أعطى الأقطع عطاء جزلا لقالوا: ما أبسط يده بالنوال، لأن بسط اليد وقبضها عبارتان وقعتا معاقبين للبخل والجود وقد استعملوها حيث لايصح اليد كقوله:
جاد الحمى بسط اليدين بوابل ... شكرت يداه تلاعه ووهاده
قوله: (ولايقال فما معنى التنبيه).
يعني في قوله تعالى: {بل يداه مبسوطتان} وقد ذكر الفقيه شرف الدين محمد بن يحيى بن حنش أن المراد نعمتاه نعمة الدنيا والدين، وأقوى من ذلك وأرجح ما ذكره جار الله في كشافه وهو أن التثنية ليكون رد قولهم وإنكاره أبلغ وأدل على إثبات غاية السخاء له ونفي البخل عنه وذلك أن غاية ما يبذله السخي بماله من نفسه أن يعطيه بيديه جميعاً فبنى المجاز على ذلك.
قوله: (يستعملها مثناة بهذا المعنى). أي بمعنى النعمة.
قوله: (في البيت: يديان).
هو تثنية يداً على إحدى لغاتها لأن بعض العرب يقول في يد يدا ويجعلها اسماً مقصوراً مثل رحى، فأما يد وهي اللغة الشائعة على أنه اسم منقوص فتثنيتها يدان، وقوله في البيت عند محلم هو بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر اللام الشديدة اسم رجل والذي رواه في الصحاح يديان بيضاوان عند محرق. إلى آخره.
قوله: (وقد يثنى بهذا المعنى).
أي يثنى بمعنى القدرة ويقصد بالتثنية القدرة الواحدة.
قوله: (في البيت: لما حملت منك الضلوع يدان).
قد قيل في هذا البيت: أن التثنية فيه على ظاهرها لأنه خبر عن اثنين وإن كل واحد منهما لاقوة له على ما حل به لكن قد ذكر الجوهري أن في اللغة: مالي بفلان يدان. أي طاقة.
قوله: (كما قال عليه السلام: (( وهم يد على من سواهم ))). وقوله: (كما قال عليه السلام في الربا : (( يداً بيد ))).
إشارة إلى الحديثين فالأول المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويجبر عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم.. ألخبر، والثاني: لاتبيعوا الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والتمر بالتمر والشعير بالشعير والملح بالملح إلا مثلاً بمثل يداً بيد.
قوله: (وقال تعالى: {حتى يعطوا الجزية عن يد}).
قد قيل: إن المراد عن ذلة واستسلام، وقيل: بل ما ذكره المصنف فالمراد نقداً لانسية من يده. وقال في بعض التفاسير: المراد يعطيها بالنقد إلى يد من يبيعها إليه. وقيل: المراد عن عزة للمؤمنين وتكون العزة من معاني اليد.
قوله: (وقام فلان بين يدي الأمير ونحوه).
يعني كقوله تعالى: {فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} أي أمامها.
قوله: ({ واصبغ الفلك بأعيننا} ونحوه).
يعني كقوله تعالى: {تجري بأعيننا}، ونحو قوله تعالى: {ولتصنع على عيني}.
قوله: (ونوح في /347/ عينيه).
يعني لأن الباء في هذا الموضع طرفية كما يقول النجار مثلاً: صنعت باباً بموضع فلان.
قوله: (وأن تكون عينه آلة في صناعة الفلك).
الضمير في عينه راجع إلى الباري تعالى وكان الأولى أن يأتي بأو للتخيير فيقول: أو أن تكون عينه تعالى آلة في صناعة الفلك كما يقال: كتبت بالقلب ونجرت الباب بالقدوم ونحو ذلك. والمعنى: ولتصنع بعليم، وكذلك سائرها، وقد قيل: إنما خص الله موسى بذلك وإن كان كل شيء مصنوعاً بعلمه تفخيماً وتعظيماً، وأما قوله تعالى: {واصنع الفلك بأعيننا} فمعناه وعلومنا محيطة بذلك، وأتى بلفظ الجمع وكذلك في قوله تعالى: {تجري بأعيننا} والذي يذكره المحققون من المفسرين أن المراد بقوله تعالى: {ولتصنع على عيني} أي تجري أمرك على ما أريد، وهذا من أفصح الكلام، وأن المراد بقوله تعالى: {واصنع الفلك بأعيننا} اعمل السفينة بمرأى منا.
وقيل: بأعين أوليائنا الملائكة صلوات الله عليهم، وكانوا يعلمونه صنعتها، وأن المراد بقوله تعالى: {تجري بأعيننا} تجري السفينة بحفظنا. وقيل: بأمرنا. وقيل: بأعين الماء التي أنبعناها.
وقال الجوهري: يقال: أنت على عيني في الإكرام والحفظ جميعاً، قال الله تعالى: {ولتصنع على عيني}.
قوله: (قال ابن حلزة).
هو بالحاء المهملة المكسورة واللام المكسورة المشددة والزاي المعجمة، قال الجوهري: الحلزة بتشديد اللام: القصيرة، ويقال: البخيلة، ومنه: الحارث بن حلزة اليشكري.
قوله: (في البيت: تلوى بها العلياء).
تلوى بضم التاء من ألوى بثوبه إذا رفعه، وقيل: إن العليا لاوية بالنار ولم يذكره الجوهري، وإنما قال: ألعلياء كل مكان مشرف. وقد قيل: إنه أراد بالعلياء العالية.
وقوله: (فتنورت} بمعنى نظرت، وتنور النار نظرها بالليل ليعلم قربها وبعدها وقلتها وكثرتها. وقوله: (فيه بحزازي حزاز) وحزازي بحاء معجمة مفتوحة وزائين معجمتين جبل كانت العرب توقد عليه أمارة للغارة.
قال عمرو بن كلثوم:
ونحن غداة أوقد في حزازي ... رفدنا فوق رفد الرافدينا
وقوله: (فيه الصلا) قال الجوهري: ألصلا صلا النار، وإن فتحت الصاد قصرت وقلت: صلا النار. ومعنى: هيهات منك الصلا. يعني بعدت منك هي ونارها.
قوله: (دليل على أنه لم يرها).
يعني فلا يقال: أن مراده بقوله وبعينيك أي بمشاهدتك ورؤيتك بل بعنايتك، والظاهر خلاف ما ذكره المصنف وأن المراد وبعينيك أي عزائي منك ومشاهدة، وقد ذكره بعض العلماء.
قوله: (ولكنه عرف بعنايته) أي عرف إيقادها النار بعناية منه.
تنبيه
هذان البيتان اللذان أوردهما المصنف غير متصلين وبينهما بيت ثالث وهو:
أوقدتها بين العقيق لشخصين ... بعود كما يلوح الضياء
قوله: (وعين الركبة).
قال الجوهري: ولكل ركبة عينان وهما يقرنان في مقدمها عند الساق.
قوله: (والنقد).
قال الجوهري: والعين الدينار والعين المال الناض.
قوله: (والمطر).
قال الجوهري: والعين مطر أيام لايقلع.
قوله: (وعين الميزان).
قال الجوهري: وفي الميزان عين إذا لم يكن مستوياً.
قوله: (وعين موضع بالعراق).
قال الجوهري: العين ما عن يمين قبلة العراق.
قوله: (وعين الرأي ذاته).
خصه ههنا بالرأي وذكر الجوهري أن عين الشيء نفسه فأ"لق في الرأي وفي غيره والعين أيضاً الجاسوس.
قوله: (لن التفريط في الجنب إلى آخره).
يعني لأن العضو الذي يثبتونه لله تعالى لو كان لكان غير مقدور، وإنما يدخل التفريط فيما يقدر عليه.
قوله: (والمعنى في الجانب الذي لله).
يعني الجانب الذي يؤدي إلى رضاه وقيل: المراد في ذاته والتحقيق أن المعنى فرطت في حقه.
قوله: (وقيل معناه في أمر الله) إلى آخره.
ومن شواهده أيضاً قولهم: ما فعلت في جنب حاجتي، وقول كثير:
ألا تتقين الله في جنب عاشق ... له كبد حرى عليك تقطع
قوله: (كما قال كثير عزة /348/ فما ظنة البيت).
الظنة: التهمة. وكذلك معنى .......، والاضطلاع احتمال الشيء الثقيل.
قوله: (أن يكون فعله فعل المخادع).
يعني حيث أتى في غير صورته التي يعرفون.
قوله: (والمعنى يوم يكشف عن شدة).
فيه نظر لأنه قصد أن الساق مجاز في الشدة وليس كذلك وإنما مجموع الكشف عن الساق مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب.
قال جار الله: وأصله في الروع والهزيمة وتشمير المخدرات عن سوقهن في العرب. فمعنى يوم يكشف عن ساق يوم يشتد الأمر ويتفاقم ولاكشف ثم ولاساق.
قوله: (وقال آخر وإن شمرت).
صدر هذا البيت: أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها.
فصل
وأما أنه تعالى لايجوز أن يكون عرضاً فقد خالف فيه بعض الصوفية.
قوله: (وإلا وجب مثله في كل عرض).
يقال: ليست الأعراض متماثلة ولا للعرض بكونه عرضاً صفة تثبت في كل عرض، فالقائل بأنه تعالى عرض يقول: بل يستحق كونه تعالى قادراً لذاته التي لم يشاركه فيها غيره من الأعراض، ولعله يجاب بأنه بنى على ألا عرض غير هذه الأعراض المعقولة فإذا أثبتوه تعالى عرضاً فلا بد أن يجعلوه من بعض أجناسها وإذا جعلوه قادراً لذاته لزم مثله في ذلك الجنس ويكون كلام المصنف مصروفاً إليه، أي كل عرض من ذلك الجنس.
قوله: (ولزم ما تقدم من المجالات).
يقال: وما الذي تقدم من المجالات في مثل هذا الموضع؟
والجواب: لعله توهم أنه لما قال في الاستدلال على نفي الجسمية دليل لو كان تعالى جسماً لاستحالة أن يكون قادراً علاماً لأنه لايصح أن يستحق هذه الصفات لذاته وإلا لزم في كل جسم مثله ذكر المجالات اللازمة من كون كل جسم مثله وهو أن يصح منا صح ممانعة القديم تعالى وفعل الأجسام وعدم الخروج عن هذه الصفة ونحو ذلك من المجالات فأراد أنها تلزم لو كان كل عرض قادراً لذاته في حق كل عرض أو أراد ما تقدم من المجالات على القول بقدم المعاني.
قوله: (وفي ذلك حدوثه).
يعني لما تقدم من أنه لايجعل الذات على صفة إلا من كان قادراً على تلك الذات، وإذا كان تعالى مقدوراً وقد وجد كان محدثاً ويلزم ما ذكره من امتناعها عليه في الأزل إذ ما كان بالفاعل فلا بد من تقدم الفاعل عليه.
قوله: (لما تقرر من أن ما يحل لايجوز أن يوجد غير حال).
يعني فلا يكون للخصم أن يقول أنه تعالى كان لا في محل فلما أحدث المحل حل فيه ودليل ما ذكره أنه لو جاز حلوله ووجوده غير حال لم يكن بأن يحل أولى من ألا يحل إلا لأمر من فاعل أو علة وذلك محال في حقه تعالى.
فإن قيل: الذي قررتم في أمر الحلول هو في الأعراض الموجودة التي يحدثها القادرون فأما ما كان منها حياً قادراً عالماً قديماً فذلك موقوف على اختياره.
قلنا: لافرق لأن الحلول وعدمه كيفية في الوجود وكيفية الوجود لاتفارقه، فإما أن يوجد حالاً أبداً وإما أن يوجد غير حال أبداً.
قوله: (وللزم أن يحل في محل واحد).
إنما جعل هذا إلزاماً لهم لأنهم يجعلونه تعالى حالاً في الصور الحسنة مع تعددها، وقد استدل الشيخ أبو الحسين على إبطال أن يكون تعالى موجوداً في محل بأن قال: لو كان تعالى حالاً في محل لكان لايخلو إما أن يقال بأنه تعالى حال فيه أبدا فيلزم منه حدوثه تعالى أو قدم المحل أو يقال بأنه تعالى حل في جسم بعد أن لم يكن حالا فيه فيقال: حلوله فيه إما أن يكون واجباً فذلك الوجوب إن كان راجعاً إلى المحل لزم أن تكون الأجسام كلها مستوية فيه، فيلزم كونه حالاً في جميعها وفيه إما انقسام ذاته تعالى وذلك من صفات الأجسام وهو محال، وإما حصول الشيء الواحد في الوقت الواحد في أكثر من جزء واحد /349/ وهو باطل بالضرورة.
وإن كان الوجوب راجعاً إلى الحال نفسه لزم كونه تعالى في كل المحال إذ لامخصص لذاته بمحل دون محل، وإن كان حلوله جائزاً فهو إما لوجود معنى أو عدمه ولا اختصاص للمعنى المعدوم والموجود فكان يلزم أن يكون تعالى في كل محل وهو باطل، وإن كان بالفاعل فإما أن يجعل ذاته في كل محل فيلزم انقسام ذاته، وإما أن يجعلها في محل واحد فيلزم أن تكون ذاته تعالى أصغر المقادير تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فثبت أن الحلول لايجوز عليه تعالى وكما لايجوز أن يكون حالاً فكذلك لايجوز أن يكون تعالى محلاً إذ قد تقدم أنه ليس بجسم، وإذا لم يكن جسماً لم يكن متحيزاً ولاحلول إلا في متحيز.
وقد ذهبت الكرامية إلى أن الحوادث تحل في ذاته تعالى عند حدوثها فكل أمر محدث في العالم فإنه يحدث في ذاته تعالى معنى يحلها تسمى الأحداث، ولايصح إثبات معنى الإلاهية عندهم إلا بذلك تعالى الله عما يقولون.
فصل
وكما لايجوز أن يكون جسماً ولاعرضاً فكذلك لايجوز عليه ما يجوز على الأجسام.
قوله: (والكون في الأماكن ونحو ذلك).
يعني كالصعود والهبوط اولزيادة والنقص والاستراحة والغم والسرور والألم واللذة وهذا مذهب أهل العدل وأكثر الفرق الإسلامية وحكى عن الفلاسفة القول أنه تعالى يلتذ بإدراك ذاته وكماله، قيل: ويحكى هذا عن الغزالي إلا أنه يعند عن مثله مع علو محله في الإسلام، وروي عن بعض قدماء المعتزلة أنه تعالى يجوز عليه الغم والسرور والأسف والغيرة وتعلق بما ورد من أنه تعالى يفرح بتوبة العبد وما ورد في الخبار لا أغير من الله تعالى، وبقوله تعالى: {يا حسرتا على العباد} والصحيح أن هذه المعاني من توابع الحيوانية وأن هذه الألفاظ وردت في حقه على سبيل المجاز.
تنبيه
من أثبت التجسيم أثبت توابعه من الكون في جهة والاستقرار على مكان ومن نفاه فمن حقه أن ينفي توابعه كلها وعن بعض الكرامية نفي التجسيم وإثبات الجهة وأنه تعالى بجهة فوق، وعن الكلابية صحة وصفه تعالى بأنه على العرش بلا استقرار ويبطل قولهم جميعاً أن الجهة والمكان من لوازم الجسمية وتاوبعها فلا يتصور ذلك مع نفيها الذي قامت الأدلة عليه وشبهتهم ما ورد من السمع مما يقضي بأنه تعالى فوق كقوله تعالى: {وهو القاهر فوق عباده}، {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه}، {بل رفعه الله إليه} وما ورد من رفع اليدين عند الدعاء وهو أمر اتفقت الأمة عليه.
والجواب: أن الأدلة العقلية قد قامت على نفي الجسمية وفي ذلك انتفاء لوازمها من الفوقية وغير الفوقية ويجب تأول ما قضى ظاهره بخلاف ما قامت الدلالة القاطعة عليه أما قوله تعالى: {فوق عباده} فتصوير للقهر والعلو بالعلية والقدرة كقوله: {وإنا فوقهم قاهرون}.
وأما قوله تعالى: {إليه يصعد الكلام الطيب} فأراد يصعد إلى السماء فيكتب حيث تكتب الأعمال المقبولة وكذلك قوله: {بل رفعه الله إليه} المراد إلى سمائه وإنما جعل الصعود والرفع إليها صعودا ورفعاً إليه لأنها موضع أمره ومحل ملائكته.
وأما رفع اليدين في الدعاء فلا يدل على ما ذكروه وإنما هو أمر تعبدنا به ولاوجه لأخذ ما ذكروه منه ولعل الحكمة فيه أن الخير والبركة والرزق ينزل من فوق أو لأن الداعي مستعطي ومن عادة المستعطي مد يده لما يعطى وقد روي عنه عليه السلام: (( السماء قبلة الدعاء )) .
قوله: (ولاما يجوز على الأعراض من الحلول والتضاد وجواز العدم ونحو ذلك).
يعني كإيجاب الصفات والأحكام، وإنما استحال عليه تعالى توابع الجسمية والعرضية لما تقرر بالأدلة من أنه تعالى ليس بجسم ولاعرض فلا يثبت له ما يتفرع عنهما.
فائدة
أجاز أبو القاسم أن يقال فيه تعالى هو بكل مكان بمعنى أنه حافظ ومدبر، فالمعنى حفظه وتدبيره بكل مكان لكن مع التقييد بهذا /350/ المعنى كأن يقال: الله في كل مكان. أي حافظ مدبر لارتفاع إيهام الخطأ حينئذ ومنعه سائر الشيوخ لأنه مجاز فارتفاع إيهام الخطأ لايكفي في جواز استعماله في حقه تعالى مالم يرد الذن به فيطلقه مع الأذن حيث ورد في كلام الله أو كلام رسوله لا في غير ذلك.
تنبيه
قال أصحابنا: يلزم المكلف في هذه المسألة أن يعلم أنه تعالى لايشبه الأجسام والمتحيزات فيما لم يزل وفيما لايزال ولايصح عليه مشابهتها في حال من الأحوال ولاتوابعها من الحركة والسكون والصعود والهبوط والموت والعجز والجهل والهرم والسقم والغذاء والحاجة، وأنه ليس بعرض ولايشبه الأعراض فيما لم يزل وفيما لايزال ولايصح كونه كذلك في حال من الأحوال ولايصح عليه خصائصها ولوازمها المتقدم ذكرها.
القول في استحالة الرؤية على الله تعالى
قوله: (ذهب أهل العدل إلى آخره).
اعلم أن أهل العدل ذهبوا إلى أنه تعالى يستحيل أن يرى نفسه وأن يراه غيره بكل احل وفي كل وقت وذهبت المجسمة إلى أنه تعالى يرى نفسه ويراه غيره من المكلفين في الدنيا والآخرة. قال بعضهم: والناس كلهم يرونه لكنهم لايعرفونه وبعضهم يقول: أنه تعالى يدرك بكل الحواس ويرى في جهة على حد رؤية الأجسام ويرى بالحاسة من دون معنى.
وذهب أهل الخبر إلا النجار وأصحابه إلى أنه تعالى يرى نفسه ويراه غيره وهم المؤمنون من المكلفين فقط لأن رؤيته من أعظم الثواب والأظهر من مذهب الأشعرية أنه لايرى بحاسة غير حاسة الرؤية، وذهب ضرار إلى أنه يرى بحاسة سادسة غير الحواس الخمس واتفقوا جميعاً على أنه لايرى في جهة لاخلف ولا أمام ولافوق ولا تحت ولايمين ولاشمال.
قال أصحابنا: وهذه رؤية غير معقولة. قال الإمام يحيى عليه السلام: ويقرب أن يكون الخلاف بيننا وبين الأشعرية في هذه المسألة لفظياً كما ذكره المحققون من متأخريهم، فإن الغزالي ذكر في كتابه الاقتصاد أن الرؤية عبارة عن تجل مخصوص لاينكره العقل وهذا هو العلم بعينه ونحن لانأباه وذكر الرازي في النهاية بعد تحريره الأدلة العقلية لهم وقال: إنها ليست بقوية، قال: ويقرب أن يكون الخلاف في المسألة لفظياً. انتهى.
واعلم أن من طالع كتبهم كالأربعين للرازي وعرف احتجاجهم وتصفح كلامهم علم أن خلافهم معنوي وأنهم يثبتون الرؤية التي هي الإدراك.
إذا عرفت هذا فاعلم أنه لايحتاج إلى الاحتجاج في هذه المسألة على المجسمة إذ لانزاع بيننا وبينهم فيها على الحقيقة لأنهم يسلمون أن الله تعالى لو لم يكن جسماً لم تصح رؤيته، ونحن نسلم لهم أنه تعالى لو كان جسماً تعالى عن ذلك لصحت رؤيته فالكلام عليهم في إبطال القول بالتجسيم وقد مر وإنما فائدة الاحتجاج على صحة المذهب في هذه المسألة إبطال القول بالرؤية من غير تجسيم ولاتكييف كما هو مذهب الأشاعرة والضرارية.
قوله: (ونسب إلى الشيخ أبي القاسم القول بأنه تعالى يرى نفسه ولايراه غيره).
قيل: هذا القول إنما حكاه أبو القاسم في كتاب المقالات عن بعضهم فأما هو فلم يقل بذلك ربما لم يقل به أحد كما ذكره المصنف.
قوله: (لنا: أما من جهة العقل فدليلان).
اعلم أن الأدلة على أنه تعالى لا يرى كثيره وأكثر ما يعتمده أصحابنا الاستدلال بهذين الدليلين اللذين ذكرهما المصنف دليل الموانع ودليل المقابلة والذي عليه الأكثر من المتكلمين النافين للرؤية كالقاضي وتلامذته وغيرهم /351/ أنهما على سواء، ليس أحدهما أقوى من الآخر وذكر الشيخ ابن الملاحمي أن دلالة الموانع هي المعتمدة وأن دلالة المقابلة فيها ضعف لأنها مثبتة على أن المقابلة أو ما في حكمها شرط في الرؤية وهي مستحيلة في حقه تعالى وما كان مستحيلاً عنده لم يكن شرطاً.
وذهب السيد المؤيد بالله عليه السلام إلى أن دلالة المقابلة أقوى لأن دليل الموانع ينبني على أن العلم بأنه لا فيل بحضرتنا يستند إلى أنه لو كان لرأيناه وذلك ليس بالقوي عنده. قال: ويمكن أن يكون ذلك العلم غير مستند.
واعلم أنه لايتأتى لأبي علي الاستدلال بدليل الموانع إن استمر على القول بأن الإدراك معنى ولا لأبي هاشم الاستدلال بدليل المقابلة لما سنذكره وقد بدأ المصنف بدليل الموانع.
قوله: (وهذه خمسة أصول).
الأول أنه حاصل على الصفة التي لو رئي لما رئي إلا لكونه عليها، الثاني: أن أحدنا حاصل على الصفة التي لو رئي لما رئي إلا لكونه عليها. الثالث: أن الموانع مرتفعة. الرابع: أنه تعالى موجود. الخامس: أن هذه الشرائط التي معها يجب رؤية المرئيات.
قوله: (فعندنا أنها الذاتية في حقه تعالى والمقتضاة في حق المحدثات).
إنما جعلها أصحابنا الذاتية في حقه تعالى مع أن من قواعدهم أن المرئيات ترى على صفاتها المقتضيات لأن صفاته تعالى المقتضاة يستحق جنسها وقبيلها على سبيل الجواز فلا يجوز أن يدرك تعالى عليها ولو صح ذلك للزم أن يدرك نحن على كوننا قادرين وعالمين ونحوهما وهو محال، وإلا كان يلزم إذا زالت عنا أن يزول صحة كوننا مدركين ولا اعتبار بالكيفية لن المؤثرات لايختلف تأثيرها باختلاف كيفية استحقاقها فلو أثرت قادريته تعالى وعالميته في صحة إدراكه لأثرت قادريتنا وعالميتنا في صحة إدراكنا وهو محال قطعاً وإنما جعلها المقتضاة في حق المحدثات لأنها لو كانت الذاتية للزم أن يدركها في حال عدمها لحصول ما يصحح إدراكها في حالة العدم وهي الصفة الذاتية فعلمنا أنها تدرك على المقتضاة التي لايكون حصولها إلا مع الوجود ولايقال بل الصفة الذاتية التي تقتضي صحة الإدراك لكن بشرط الوجو لأنه اشتراط ما لادليل عليه.
وقد ذهب الشيخان أبو إسحاق وأبو عبدالله إلى أن المحدثات ترى على صفاتها الذاتية لكنهم موافقون في المعنى فإنهم يجعلون الصفة الذاتية ما هو عند الجمهور الصفة المقتضاة مثاله الجوهر فهم الجميع متفقون على أنه يرى لتحيزه. لكن قال الجمهور: هو صفة مقتضاة. وقالا: بل صفة ذاتية ولايثبتان الجوهرية على ما تقدم.
قوله: (ويبطله أن الوجود متماثل).
يعني في حكم المتماثل لن لافات لايطلق عليها لفظ التماثل وإنما يقال: تجري مجرى المتماثلة بمعنى أناه لو كانت ذوات مستقلة لسد بعضها مسد الأخر فيما يكشف عن الصفة الذاتية على التفصيل وأن بعضها يقوم مقام البعض في الحد والحقيقة وفي اقتضاء ما يقتضيه من الصفات والأحكام وبالعكس من ذلك في المخالفة وقد تقدم الدليل على أن الوجود في حكم المتماثل.
قوله: (فيعود الأمر إلى ما قلناه).
يعني في حقه تعالى وهو المقصود ههنا.
قوله: (لأن الصفة المقتضاة مختلفة).
يعني جنس الصفة المقتضاة والمراد أن صفات الذوات المقتضاة ليست كلها متماثلة فلا يلزم من رؤية بعض الذوات على بعضها رؤية سائر الذوات على سائرها.
قوله: (فكذلك في الشم والذوق والسمع وهو ظاهر البطلان).
أي بطلان أن يدرك تعالى هذه الأنواع من الإدراكات بحواس أخر أظهر من بطلان غيره لن المخالفين يوافقون في إنكار إدراكه على غير جهة الرؤية إلا الأشعري فإنه التزم ذلك. ولما قال به أنكر أصحابه عليه /352/ وتبرأوا منه وقالوا: إنك معتزلي، ولكن توردنا المضايق وتريد إقحامنا بالمحالات حتى نلتزمها نحن لانقول بذلك.
قوله: (فليس بأشد من مخالفة بعضها لبعض).
يعني حواس البصر فإن فيها سهلاً وشكلاً وزرقاً وملحاً كما يقوله أصحابنا والسهلة كهيئة الحمرة في سواد العين كالشكلة في بياضها ورجل أزرق العين والمرأة زرقاء بينة الزرق والاسم الزرقة وإذا اشتدت حتى تضرب إلى السواد قيل هي أملح العين وهذا إن قصد بالحواس في قوله: فإن كانت مماثلة لهذه الحواس الأبصار فقط، وأما إن قصد بها الحواس الخمس وهو معنى حسن فاختلافها أظهر فلا يحتاج إلى استظهار.
قوله: (لأن ذلك ينبني على أن الإدراك معنى).
يعني من حيث أن جعل الرؤية مختلفة لايتأتى إلى مع جعلها جنساً من المعاني تختلف باختلاف متعلقه وأما إذا كانت صفة مقتضاة عن الحيية فهي تقتضيها على سواء والحاسة ليست إلا شرطاً في اقتضائها للرؤية وفيه نظر فإن اختلاف المتعلق كما يدل على اختلاف المعاني المتعلقة يدل على اختلاف الصفة المتعلقة وإن لم يكن ثم معنى ورؤية الباري لو كان مرئياً تعالى عن ذلك متماثلة غير مختلفة سواء كان الإدراك معنى أو صفة وسواء اتفقت الحاسة أو اختلفت.
قوله: (وأما أن الموانع مرتفعة) إلى آخره.
اعلم أولاً أن حقيقة المانع عن الرؤية ما لأجله يتعذر على الحي رؤية المرئي مع استمرار حاله في كونه حياً لا آفة به وتعداد الموانع كما ذكره المصنف وهي ثمانية فأما السيد الإمام فلم يعد القرب المفرط وعدم الضياء المناسب للعين منها.
قال الفقيه قاسم: ولعله أدخل القرب المفرط في كون المرئي في خلاف جهة الرائي لأنه لما قرب قرباً مفرطاً كالميل في العين صار كأنه في غير جهة الرائي وأدخل عدم الضياء المناسب للعين كظلمة الليل في الحجاب ويجعل الظلمة حجاباً كثيفاً لما منعت من الرؤية، وقيل: الوجه في عدم عدهما من الموانع أن من حق المانع أن يكون حاصلاً مع صحة الحاسة، ومع القرب قد تعذر انفصال الشعاع ومع عدم الضياء المناسب قد صار الشعاع في حكم الزائل فلم يحصل ما يناسبه وانفصال الشعاع وحصول ما يناسبه من تمام صحة الحاسة.
قوله: (والرقة واللطافة).
الرقة: هي الحاصلة في أجسام الملائكة والجن فإن أصحابنا يذهبون إلى أن المانع من رؤيتها رقتها واللطافة الحاصلة في الجوهر الفرد.
قالوا: ومتى قوي الشعاع صح إدراك الأجسام الرقيقة كما يشاهد المحتضر أجسام الملائكة مع رقتها لما قوي شعاعه فهذا المانع هو لأجل ضعف الشعاع، وخالفهم أبو القاسم في أجسام الجن وقال: لايصح رؤيتهم بحال إلا متى كثوا واختلفوا أيضاً في هل يصح رؤية الجوهر الفرد متى قوي الشعاع أم لا فصححه الجمهور كما في الجسم الرقيق، ومنعه أبو عبدالله. قال: لأنه يدخل في تضاعيف أجزاء الشعاع فلا يصح إدراكه واحتج أبو القاسم بمثل هذا في منع رؤية الجن إلا متى كثفوا ويلزمه القول بمثل ذلك في حق الملائكة.
واعلم أيضاً أنهم مختلفون في اللطافة والرقة ما هي. فقال القاضي: يجوز أن تكون الملائكة والجن والأجسام اللطاف اختصوا بجنس من أجناس الفعل ذلك الجنس لطافة والمختص به لطيف، وجوز أن يكون المرجع بذلك إلى قلة الأجزاء وإلى تأليفها على وجه مخصوص، وكذلك كلامه في الرقة.
وحجته أنه حصل لطيفاً مع جواز ألا يحصل فلا بد من معنى هو اللطافة.
وقال سائر الشيوخ: اللطافة عبارة عن تخلخل الأجزاء وليست بمعنى لأنه متى أمكن أن يكون تخلخل الأجزاء فلا وجه لإثبات معنى، ولأن اللطافة هي خلاف الكثافة والكثافة ليست بمعنى بالاتفاقن وإنما المرجع بها إلى /353/ اكتناز الأجزاء. ذكره الحاكم في شرح العيون.
قوله: (والحجاب الكثيف).
يحترز به عن الرقيق كالثوب الرقيق ونحوه.
قوله: (وكون المرئي في خلاف جهة الرائي).
يعني بأن لايكون مسامتاً له بل خلفه أو عن يمينه أو يساره أو نحو ذلك.
قوله: (وكون محله في بعض هذه الأوصاف).
هذا المانع يختص بالألوان وهو أن يكون محل اللون قريباً كلون الميل حال كونه في العين أو بعيداً أو محجوباً أو نحو ذلك لأن اللون لايوصف بأنه بعيد أو قريب أو محجوب أو لطيف أو رقيق.
إذا عرفت هذا فالدليل على أن هذه التي عددها المصنف هي موانع الرؤية أن الرؤية تنتفي بحصولها أو بحصول واحد منها، وتثبت مع فقدها ولا أمر يعلق به المنع سواها أو يقول: استدلالاً على أنه لامانع سواها أن تحريره يؤدي إلى فتح باب الجهالات كما قلناه في الإدراك فكان يلزم تجويز أن يكون بين أيدينا فيلة ولاندركها لحصول مانع غيرها وهو محال ثم أنه يرد على جعلهم البعد مانعاً سؤال وهو أن يقال: ألسنا نرى السماء مع بعدها عنا البعد المفرط ففي الأثر أن بينها وبين الأرض مسيرة خمسمائة عام؟.
وأجاب أصحابنا بأنها لعظم حجمها لا يكون البعد مانعاً في حقها ففي الأثر أن حجم الشمس كحجم الأرض مائة ونيف وستين مرة مع أنها ترى بالنظر إلى لاسماء في غاية الصغر فكيف يكون مع ذلك حجم السماء.
فائدة
اختلف أصحابنا في رؤية السماء عند فتح الجفن إليها في أول وهلة فمنهم من قال: الوجه في ذلك أن الشرط في رؤيتنا لما نراه أن ينفصل الشعاع من العين إلى السمت الذي نوجه أحداقنا إليه ولايكون بينه وبين ذلك المرئي ساتر ولا ما يجري مجراه كالبعد في حق غير السماء ونحوها ولايشترط اتصال شعاع العين ولا شعاع الهوى بالمرئي ومنهم من قال: بل لابد من اشتراطه، وإذا كان كذلك فالسبب في رؤيتها في أول وهلة أن شعاع العين يتصل بالذي يليه من أجزاء الهوى وتلك الأجزاء شبيهة بالشعاع في نورها فتكون أجزاء الهواء لنا كالشعاع المنفصل من العين وكل جزء منه متصل بالذي فوقه أو في حكم المتصل واتصالها في وقت واحد، فكأن الذي يلي السماء منها منفصل عن عينه فلذلك نراها في الحال.
تنبيه
اعلم أن الموانع تنقسم إلى قسمين فمنها ما يمنع بنفسه على كل حال وهو الحجاب الكثيف وكون المرئي في خلاف جهة الرائي، وكون محله بأحد هذين الوصفين ومنها ما يمانع لأمر يرجع إلى غيره لا لأمر يرجع إليه وهو الرقة واللطافة والبعد فإن امتناع الرؤية مع هذه الموانع إنما هو لضعف الشعاع وانقطاعه في حق البعيد فلو قوي أو لم يقطعه البعد لصح الإدراك ولهذا يصح منا إدراك الملائكة والجن مع رقتهم إذا قوي شعاعنا، ويدرك أحد المدركين أبعد مما يدرك الآخر لقوة شعاعه وعدم انقطاعه كما ذكر في كتب الأمثال أن الزرقا أدركت على مسيرة ثلاث.
تنبيه آخر
في بيان الفرق بين المانع والمحيل، والفرق بينهما أن المانع يصح زواله فيحصل ما كان ذلك المانع مانعاً منه، والمحيل بالعكس من ذلك كوجوب عالميته تعالى فإنه لما كان محيلاً لكونه جاهلاً لم يصح زواله.
قوله: (لجوزنا مثله في الباري تعالى).
يعني ومعلوم قطعاً أن ذلك لايجوز.
واعلم أن لهذا الدليل تتمة يكون أصلاً من أصول الدليل تركها المصنف لظهورها وهي وقد ثبت أنا لانراه تعالى الآن ويدل عليه أنا لو رأيناه الآن لعلمناه ضرورة لأن العلم بالمدرك ضروري، وقد تقدم إبطال أن يعلم تعالى ضرورة /354/.
قوله: (وأجاب أصحابنا بأن الشعاع المنفل من العين صنوبري الشكل بمثالة المثلث) إلى آخره.
هذا الجواب محكي عن أبي هاشم رحمه الله فإنه قال: الشعاع ينفصل من نقطة العين على شكل صنوبري مستدقة مما يلي المرئي وواسعة مما يلي الرائي فإذا كان المرئي بعيداً كانت تلك الزاوية أدق وأصغر فلذلك وجب أن يرى الكبير صغيراً ، ومعنى قوله: على شكل صنوبري. أنه كالصنوبرة وهو ثمر شجرة بمثابة المثلث وقيل: بل هو اسم للشجرة لا للثمرة. والذي يدل على أن الشعاع بمثابة المثلث وأن وسعه إلى الرائي ومستدقه إلى المرئي أن أحدنا إذا قرب حلقة أو غيرها من عينه رآها أ:بر مما هي لن ذلك الشعاع متصل على ضرب من السعة فيخيل إليه لأجل سعيه أن الحلقة واسعة فإذا ابتعدت الحلقة عن عينه رآها كأنها صغيرة لاستدقاق الطرف الآخر.
وكذلك فإذا غمز أحدنا عينه يرى الشعاع الذي ينفصل من السراج على ما ذكر فيرى موضع انفصاله من السراج أوسع من الطرف الآخر.
وأجاب أبو الحسين عن أصل الاعتراض بأن صورة المرئي تحدث في الهوى على جهة التأثير ثم يتصل الهوى بنقطة الناظر فيحدث صورة المرئي في النقطة فإذا كان المرئي في أقصى البعد ضعف تأثيره في الهوى واضمحل لأن طول المدى يضعف التأثير ويقطعه ومثل ذلك بالرامي بحجر في بئر فإنه يتحرك الماء ثم لايزال اضطرابه يضعف إلى أن يبطل، وكلما قوي التحريك والاعتماد طال زمان التحريك وكلما ضعف التحريك والاعتماد قصرت مدته وكذلك إذا عظم الجسم المرئي وقوي اللون المدرك قوي تأثيره في الهوى، ومتى صغر وقل فإنه يضعف تأثيره في الهوى وقد تقدم ما قاله افمام يحيى عليه السلام من أنه يجب أن يطالب أبو الحسين بحقيقة هذا التأثير.
وأجاب بعضهم عن أصل الاعتراض بأن بخار الأرض وأجزاء من الهوى تطيق بذلك المرئي وتسامته فتكون كالساترة على بعض حزمه كل عضو منه كالمستور بعضه فتراه صغيراً.
قوله: (ما يرى حوله من الفضاء).
الفضاء: ما اتسع من الأرض وهو أيضاً الساحة.
قوله: (أو غيره).
يعني كالسماء فإنا إذا أدركنا الشمس صغيرة فهو لاتساع ما نشاهده من السماء وحرمها مع مشاهدتنا إيها كلها وفيما ذكره بعد.
قوله: (إنما نعلم كبره أو حسنه بأن يضم إلى غيره).
المناسب للسياق أن يقال: إنما بيان صغره أو خشونته بأن يضم إلى ما هو أكبر منه أو أحسن.
قوله: (مع حصول الإدراك الذي يدرك به الجميع).
له أن يقول: لا أسلم حصول الإدراك الذي يدرك به الجميع فإنه لايدرك الجميع إلا بمعان كثيرة من جنس الإدراك ولم يحصل له إلا بعضها ولو حصلت جميعها لأدرك جميعه.
قوله: (بل قد أحال بعض شيوخنا رؤيته) إلى آخره.
يعني أبا عبدالله على ما تقدم فإنه منع من رؤيته وأحالها سواء قوي الشعاع أو لم يقو حكاه عنه بعضهم، والذي في التذكرة أن أبا عبدالله حكى ذلك عن أبي هاشم، وإن كان الظاهر في كتب أبي هاشم أنه يصح رؤيته وقد احتج الجمهور على صحة رؤيته إذا قوي الشعاع بأنه لو كان العلة في استحالة رؤية الجزء انفراده لوجب ألا يراه الله تعالى ولما صح منا أن نراه مع انضمام غيره إليه لأن التأليف لا مدخل له في الرؤية.
قال ابن متويه: وللشيخ أبي هاشم أن يقول إن اقتران غيره به شرط في صحة رؤيته كما أن رفع الحجاب وغيره شرط فيكون هذا مما يرجع إلى الحاسة كالحجاب فلا يثبت مثله في الله تعالى.
قوله: (ثم نقلب عليه السؤال).
له أن يقول: إنما لايرى الأجزاء إذا انفردت عندي لأنه لم يخلق له إدراكها عند انفرادها /355/ ولا يتأتى مثل هذا الجواب على مذهبكم.
قوله: (ألاعتراض الثالث له).
يعني للرازي وله تحرير غير ما ذكره المصنف وهو أن قولكم رؤيته تعالى لو كان مرئياً مشروطاً بما يشرط به غيره من المرئيات في الشاهد لايصح لأن رؤيته مخالفة لرؤية المرئيات وإذا خالفتها كان شرطها مخالفاً لشرطها ولايكفي في التماثل كون كل ذلك رؤية. قال: والعجب من المعتزلة كيف حكموا بصحة افتراق المتماثلات في الأحكام فإن السوادات متماثلة ويحل بعضها غير ما يحله البعض الآخر ولايصح أن تتفق في ذلك فيكون ما حل منها محلاً صح أن يحل في محل الآخر، وأوجبوا اتفاق رؤية الباري تعالى ورؤية غيره من المرئيات في الحكم مع اختلافها.
والجواب: أما على التحرير الذي ذكره المصنف فما ذكره رحمه الله، وأما على هذا التحرير الأخير فبأن يقال: إنا اعتبرنا تلك الشروط فقط في رؤية جميع المرئيات لدلالة دلت على ذلك وهي وقوف إدراكنا للمدركات عليها ثبوتاً ونفياً وليس هناك أمر يعلق به كوننا مدركين غير ذلك فلهذا قضينا بأنه تعالى لو كان مدركاً لكان إدراكنا له على الحد الذي أدركنا علهي غيره من المدركات لا لتماثل الرؤية بل لقيام الدلالة، وكذلك حكمنا على السوادين بما ذكره لقيام الدلالة وهي المعتمدة.
وللرازي أيضاً اعتراض رابع وهو أن قال: دلالتكم هذه تدل على أنكم لاترونه فما الذي يدل على أنه ليس بمرئي في نفسه؟
وأجاب ابن الملاحمي بأنه لو كان مرئياً في نفسه لرأيناه إذ لايتأتى كون رؤيته مع إمكانها مشروطة بأمر مستحيل إذ المستحيل لايكون شرطا. وأجاب الجمهور بالاجماع على عدم القول برؤيته في نفسه مع فرض عدم رؤيتنا له فمن قال أنا لانراه قال برؤيته في نفسه لأمر غير صحيحة لكن مع حكاية أبي القاسم عن بعضهم أنه يرى نفسه ولايراه غيره لايثبت انعقاد الإجماع.
قيل: ويجاب بأنه إذا ثبت بألا نراه فكونه مرئياً في نفسه لاطريق إليه وما لاطريق إليه وجب نفيه. والأصح في الجواب والله أعلم ما جعل أصل الدلالة وهو أنه تعالى لو صح رؤيته في نفسه لرأيناه لحصول المقتضي والشروط ولا شرط يعقل غيرها. فقال: إن عدم الرؤية منا لعدم حصوله فإذا لم نره مع حصول المقتضي والشروط دل على أنه ليس بمرئي في نفسه.
قوله: (الدليل الثاني من جهة العقل).
يعني على أن الله تعالى لايرى وهو المسمى بدليل المقابلة والذي صححه السيد المؤيد بالله واستقواه وتحريره ما ذكره المصنف.
قوله: (فهذه ثلاثة أصول).
يعني الأول أن أحدنا لايرى إلا بالحاسة، والثاني أن الرائي بالحاسة لايرى إلا ما كان مقابلاً أو حالاً في المقابل أو في حكم المقابل، والثالث: أن الله تعالى ليس بمقابل ولا حال في المقابل ولا في حكم المقابل.
قوله: (بل يجوزون ذلك في العلم والقدرة ونحوهما).
أراد بنحوهما الحياة والمراد أنهم يجوزون حلول المعاني هذه في الأجزاء المنفردة ولايشترطون البنية التي هي تأليف مخصوص في مجموع أجزاء.
قوله: (ولكن طريق العلم به الإدراك).
أي إدراكها بتصرف وبفعل الأفعال المحكمة ونحو ذلك فإن هذا هو الطريق إلى القادرية والعالمية وهما الطريق إلى الحيية وهي الطريق إلى المدركية.
قوله: (والله لم يخلقه فيك).
يعني فلم تشاهدها حال تصرفها ولا أحسست بذلك.
قوله: (هو محل القدرة دون الجملة).
يعني لأنها حينئذ يكون حكمها راجعاً إلى المحل فيكون هو المتصف بما يوجبه من /356/ الصفات.
قوله: (ولايكون للإرادة تأثير في الأفعال).
أي في وقوعها على الوجوه المختلفة وذلك من حيث أن الفاعل للكلام هو حي غير الحي الذي حلته واختص بها وهو حر في القلب وإذا كان كذلك لم يصح أن تؤثر إرادته في فعل غيره بأن يقع بها على وجه كما أن إرادة زيد لاتؤثر في فعل عمرو وكذلك الداعي فإن محله جزء في القلب فإذا كان ذلك الجزء حياً على انفراده لم يؤثر داعيه في وقوع فعل غيره من الأحياء لمثل ما سبق وهو ظاهر.
قوله: (ونحو ذلك مما لايعد في كمال العقول).
يعنيكالحفظ عند قليل الدرس والمعرفة بالصناعات عند قليل الممارسة فإن الحفظ والعلم بالصياغة لايكون إلا ضرورياً ويختلف العقلاء في حصوله مع القليل من الدرس والممارسة.
قوله: (ولايعلمون أنهم عالمون به).
قد نفى أبو القاسم هذه القاعدة وذهب إلى أنه لايجوز أن يعلم أحدنا بالشيء ولايعلم أنه عالم به. واحتج أصحابنا على صحة ذلك بأن السوفسطائي مع علمه بالمشاهدات غير عالم بأنه عالم بها والسمتي مع علمه بمخبر الأخبار المتواترة غير عالم بأنه عالم بأنه عالم به وله أن يقول: لا أسلم ذلك ولا بضد فإن فيه ومن البعيد أن يعلم أحدنا العلم الضروري ثم لايعلم أنه عالم بمعلومه.
قوله: (لما قد نمقوه من أساطيرهم).
التنميق التزيين والأساطير ههنا الأباطيل واحدها أسطورة وإسطاره.
قوله: (بانتفاء المقابلة وما في حكمها) الذي في حكمها ههنا الحلول فيما حصلت فيه المقابلة أو حصول الصورة في المرآة.
قوله: (وهذا عي ومهازلة).
العي الضلال والمهازلة مفاعلة من الهزل وهو خلاف الجد. قال صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( ثلاث هزلهن جد )) .
قوله: (إذا صح أن يعلم المعدوم).
ويقال: إنهم ينازعونك في صحة العلم بالمعدوم فكيف يبنى عليه الإلزام؟
والجواب: أن الخصوم لاينازعون في ذلك بل لعلهم مصرحون بصحته وإن فرضنا أن القول بصحة العلم به ينبني على ثبوت الذات في العدم وثبوت الصفات الذاتية لها في تلك الحال وكونها التي يصحح العلم بها فقد تقدم ذلك وتوضح العلم بالمعدوم ما يعلمه من الثواب والعقاب وما أخبر الرسول بحدوثه في غد فإنا نعلم جميع ذلك مع كونه معدوماً.
قوله: (لبعض مشيختهم).
المشيخة جمع شيخ كشيوخ وأشياخ وشيخة وشيخان ومشائخ ومشويخاً.
قوله: (ودلالة الشهوة والنفار على الزيادة والنقص).
يقال: قد صرحتم بأن حصول الزيادة والنقص عند حصول الشهوة والنفار يجوز أن يكون لمجرى العادة فكيف يلزم الخصم ذلك ولو التزمه لم يمكنك إنكاره ولم يعد مكابراً.
قوله: (يزيده وضوحاً أن الله تعالى يرى الأشياء في جهاتها).
يعني فقد حصل غرضنا من أن الرائي لايرى إلا ما كان في جهة وإذا كان كذلك تقرر لزوم رؤيتنا له في جهة وذلك معنى المقابلة وإن كان رؤيته للشيء في جهة لايكون فيه معنى المقابلة في حقه تعالى لما لم يكن في جهة وأما نحن فلكوننا في جهة لابد من المقابلة.
قوله: (اعلم أن كلامنا مع المخالفين إنما هو على تقدير ثبوت الإدراك معنى).
يعني الكلام معهم في هذه الاعتراضات فإن معارضتهم فالعلم مبني على أن الإدراك معنى كالعلم والألم يكن لهم أن يقيسوه عليه وكذلك فالاعتراض الثاني مبني على أن إدراكنا للباري تعالى معنى مخالف للمعاني التي يدرك بها غيره من المدركات فيجوز ألا تكون المقابلة شرطاً فيه وكذلك فالاعتراض الثالث أيضاً مبني على أن الإدراك معنى وأن المقابلة أو ما في حكمها ليست شرطاً فيه وإنما يتوقف عليها بمجرى العادة /357/ فلو اعترف بأن المدركية صفة مقتضاة عن الحيية لم يمكنه جعل المقابلة شرطاً فيها بمجرى العادة لأن ما كان شرطاً في اقتضاء المقتضي لم يجز اقتضاؤه من دونه ولا أمكن جعله شرطاً بمجرى العادة كالوجود في التحيز وإنما يمكن ذلك إذا كان الإدراك معنى لأن المعاني لايقف في إيجابها على شرط هذا غاية ما يمكن به توجيه كلام المصنف.
واعلم أنه رحمه الله قد أهمل الأصل الثالث من هذا الدليل وهو أنه تعالى ليس بمقابل ولا حال في المقابل ولا في حكم المقابل لظهوره وعدم مخالفة الخصم فيه وتضمن نفي الجسمية والعرضية له.
تنبيه
إن قيل: كيف يتأتى لكم الاستدلال بدليل المقابلة مع أن الذي يذهب إليه شيخكم أبو هاشم أن المقابلة أو ما في حكمها ليست بشرط في الرؤية وصرح بذلك عنه الشيخ ابن متويه وصححه ولهذا أجاز أبو هاشم رؤية الفنا وإن كان غير مقابل ولا حال في المقابل ولا في حكم المقابل، وقال: لو قدرنا أنه لم ينف جميع الأحياء منا لصح أن يدركه من الأحياء من لم ينفه على هذا الحد إذا كان في نفسه على صفة يصح إدراكه عليها وكذلك أجاز رؤية اللون لو وجد لا في محل وصرح ابن متويه في التذكرة والحاكم في شرح العيون بأن الله تعالى لو كان مما يصح رؤيته لرأيناه وإن لم يكن في جهة بل على ما هو عليه، ونص أبو هاشم على أنه تعالى لو قدر كونه مرئياً لم يستلزم مماثلته للمرئيات ولا مجانسته لها فلا يلزم أن يكون جسماً ولا حالاً في جسم، وصححه المهدي عليه السلام واحتج بأن ذلك ككونه تعالى معلوماً فإنه لايلزم مجانسته للمعلومات وهذا تصريح بنقيض ما يترتب عليه هذا الدليل فكيف يتأتى مع ذلك الاستدلال به أو كيف يتأتى القول بأن كوننا لانرى إلا ما كان مقابلاً أو حالاً في المقابل بل أو في حكم المقابل يعلم ضرورة أن الأشعرية بخلافهم في ذلك جاحدون للضرورة وأنه من جسرتهم على العناد وصناعتهم في التمويه فهذا شيخكم أبو هاشم وغيره من أعيان علمائكم قائلون بمثل مقالتهم.
قلنا: أما على مذهب أبي هاشم ومن وافقه فلا كلام في ضعف هذا الدليل وعدم تأتيه، وقد ضعفه الشيخ أبو هاشم لذلك ورجح دليل الموانع وعلى مذهب الشيخ أبي عبدالله وغيره ممن تقدمه من علماء المعتزلة فهو قوي صحيح لأنهم حكموا باشتراط المقابلة وكذلك على مذهب أبي علي فإنه ذهب إلى أن كونه تعالى مرئياً لو قدر يستلزم مجانسته للمرئيات ويلزم عليه أن يكون جسماً أو حالاً في جسم ولهذا كان معتمده في هذه المسألة دليل المقابلة ومذهبه هو القوي، والذي عليه الجمهور، ولهذا صححه المتأخرون من المعتزلة وأصحابنا كالقاضي وتلامذته والشارحين والمصنف رحمه الله.
وربما يقال: قد يمكن تمشيته على مذهب أبي هاشم ومن وافقه فإن ابن متويه قال: ونحن وإن كنا نقول أن المقابلة غير مشروطة في صحة الرؤية فالشعاع يجب نفوذه في السمت الذي يقابل العين والحق أنه لايمكنهم مع ما تقدم ذكره الاستدلال بهذا الدليل.
إذا عرفت هذا فالذي دعا أبا هاشم إلى أن لم يعد المقابلة شرطاً أنه قال: لو كانت شرطاً لوجب ألا يرى اللون لأنه غير مقابل لنا إذ المقابلة لاتعقل إلا بين المتحيزين.
فإن قلنا: الشرط في إدراك اللون أن يكون حالاً في المقابل كان الشرط في الإدراك بالحاسة الواحدة قد اختلف وذلك غير جائز وهذه هي العلة أيضاً في أنه لم يجعل اتصال الشعاع شرطاً لأنه لايعقل الاتصال بشيء إلا بالمتحيز إذ الاتصال من قبيل التأليف فإن /358/ جعلنا الشرط في اللون اتصاله بمحله اختلف الشرط فيما يدرك بحاسة واحدة ثم علل امتناع اختلاف الشرط في الإدراك بحاسة واحدة بأنا وجدنا الحواس عند اختلافها يختلف الشرط في الإدراك بها كحاسة الشم وحاسة الصوت فإن الشرط في الإدراك بحاسة الشم انتقال محل الرائحة إلى الخيشوم ومجاورته لها والشرط في الإدراك بحاسة السمع انفتاح الأذن وصحتها ووجدنا ما يدرك بالحاسة الواحدة لايختلف شرطه كحاسة الطعم وأن الشرط في إدراك الطعوم بها حصول محل الطعوم مع اللهاة بحيث لاساتر ولا ما يصح حصول الساتر فيه فيجب فيما يدرك بحاسة البصر ألا يختلف شرط إدراكه فجعلنا الشرط حصول قاعدة الشعاع مع المرئي بحيث لاساتر ولا ما يصح وقوع الساتر فيه لا المقابلة واتصال الشعاع، وهذا ليس بالقوي فإنه قياس من غير علة جامعة.
وقوله: (إن الحاستين إذا اختلفتا اختلف شرط الإدراك بهما).
غير صحيح على الإطلاق فإن الشرط في الإدراك بحاسة الطعم وحاسة الشم واحد، وهو حصول محل المحسوس مع الحاسة بحيث لاساتر ولا ما يقدر ذلك فيه وقد صرح ابن متويه بأن الشرط في الإدراك بهاتين الحاستين على سواء وذلك ظاهر.
ويلحق بهذا الدليل فائدة وهو بيان الوجه في رؤية أحدنا وجهه في المرآة ونحو ذلك فإنه الذي في حكم المقابل وقد جعل أصحابنا الوجه في ذلك أنه ينفصل من نقطة الناظر شعاع يتصل بالمرآة ثم ينفصل منها شعاع ويتشكل من هذا الشعاع ما هو بهية العين فيرى وجهه حيث هو بذلك الشعاع الذي تشكل بشكل العين وعلى هذا لو جمع بين مرائتين مرآة أمام وجهه ومرآة خلفه بحيث تقابل إحدى المرآتين الأخرى لرأى قفاه.
وقال أبو الحسين والفلاسفة: بل الوجه أنه ينطبع صورة الوجه في المرآة وأنكروا الشعاع من الأصل وأبطل أصحابنا ما ذهبوا إليه بأن الانطباع غير معقول ولو انطبع نفس الوجه في المرآة لزم إحساسنا بذلك وعلمنا به ومعلوم خلافه فإن قالوا: المنطبع مثله.
قلنا: فالمرآة منصوبة لرؤية الوجه لا مثله ولو انطبع الوجه ظاهر المرآة لزم أن يحول بيننا وبين رؤيتها وإن انطبع باطنها لزم أن يحول بيننا وبين رؤية الوجه ثم أنا نرى في المرآة الأجسام العظيمة كالجبال فكيف يتصور انطباعها في المرآة مع صغرها.
وحكى الحاكم عن صالح قبة أن الذي يراه في المرآة شيء يخترعه الله هناك. قال: وهذا جهل عظيم لأنه يوجب أن يكون المرآة على صغرها قد خلق فيها الأجسام العظيمة فإنا نرى في المرآة السماء والجبال وغيرها وكان يجوز اختلاف العادة فلا يخترع الله ذلك الشيء فيها فكان يجوز أن ينظر ولا يرى وذهب أبو الهذيل وابن الإخشيد أنه يتشكل في المرآة مثل شكل الوجه والرد عليهما من جنس ما تقدم.
فصل فيما يصح الاستدلال به من السمع على هذه المسألة
فإنها مما يصح الاستدلال عليه بالسمع.
واعلم أولاً أن المسائل بالنسبة إلا الاستدلال عليها بالسمع تنقسم إلى ثلاثة أقسام منها ما لايصح الاستدلال عليه بأدلة السمع وعقده أن نقول: كل مسألة لايصح العلم بصحة السمع إلا بعد العلم بها فإنه لايصح الاستدلال بالسمع عليها. ومنها: ما لايصح الاستدلال عليه إلا بأدلة السمع وعقده أن نقول: كل ما لايقضي العقل فيه بوجوب ولا إحالة لايصح الاستدلال عليه إلا بأدلة السمع. ومنها: ما يصح /359/ العلم به من جهة السمع مع صحة العلم بطريق العقل، وعقده أن نقول: كل مسألة يصح الاستدلال بأدلة السمع عليها مع الجهل بها ويمكن التوصل إليها بأدلة العقل فإنه يمكن الاستدلال عليها بأدلة السمع مع صحة التوصل إلى العلم بها بطريق العقل.
أما القسم الأول
فهو مثيله إثبات الصانع وكونه قادراً عالماً غنياً عدلاً حكيماً وصدق صاحب الشريعة صلى الله عليه وآله وسلم وهذه متفق عليها وكونه حياً موجوداً لايشبه المحدثات عند الجمهور ومسائل العدل النفسية ككونه تعالى غير فاعل لأفعال العباد ولايكلف ما لايطاق ولايظلم ولايعاقب بغير ذنب ولايريد المعاصي.
عند القاضي وابن متويه والسيد الإمام قالوا: فإنا مالم نعلم نفيها عنه تعالى لم نعلم عدله وإنما هي تفصيل لكونه تعالى لايفعل القبيح ولايخل بالواجب وهذه مسألة عدل حكيم وبالاتفاق أنه لايصح الاستدلال عليها بالسمع.
وأما القسم الثاني
فهو كتفاصيل أمور الآخرة وأحوالها وبعض مسائل الوعد والوعيد.
وأما القسم الثالث
فهو مسألة مدرك ومريد ونفي الرؤية والثاني وإثبات الصفة الأخص وإثبات القدم بعد إثبات الوجود ومسائل العدل الإثباتية وبعض مسائل الوعد والوعيد بالاتفاق وكونه تعالى حياً موجوداً لايشبه المحدثات عند الشيخ الحسن وأبي رشيد وكذلك قال السيد الإمام في كونه غنياً قال: لأن كونه تعالى غير محتاج كاف في كونه غنياً وإن لم يعلم كونه حياً لكن لايكون مدحاً إلا مع انضمام كونه حياً إليه.
قيل: والحق في كونه موجوداً أنه من ذهب إلى أن الوجود صفة زائدة على الذات أمكنه الاستدلال بالسمع إليها ومن ذهب إلى أنه نفس الذات لم يمكنه لأنها عنده تعود إلى إثبات الصانع وكونه تعالى لايفعل أفعال العباد ولايكلف ما لايطاق ولايظلم ولا يعاقب بغير ذنب ولايريد المعاصي، ونحو ذلك من مسائل العدل النفيية عند بعضهم.
علمنا حينئذ صحة السمع فيصح لنا الاستدلال عليها بالسمع.
قيل: وهذا قول أكثر المتكلمين وهو الصحيح ثم نعود إلى الاستدلال بالسمع على أنه تعالى لايرى فإنه لايتوقف صحة العلم بكونه دليلاً على نفي العلم بنفي الرؤية لاسيما الرؤية غير المكيفة.
قوله: (وهذه أربعة أصول الأول أنه يمدح بنفي إدراك الأبصار والثاني أن مدحه بذلك راجع إلى ذاته. الثالث: أن إدراك الأبصار هو رؤيتها، ألرابع أن إثبات ما نفيه مدح راجع إلى الذات يؤدي إلى النقض.
قوله: (فلا خلاف فيه).
هكذا ادعى أصحابنا الإجماع على صحة هذا الأصل قالوا: وإنما اختلف في وجه التمدح فيها وبماذا وقع فعندنا أنه ينفي الرؤية في الدنيا والآخرة، وقالت الأشعرية: بل ننفيها في الدنيا فقط. وقالت المجسمة: بل ننفي الإحاطة. وقال ضرار: بل بأنه لايدرك بهذه الحواس. وقيل في دعوى الإجماع نظر، فقد حكى الرازي عن بعضهم أن الآية وردت لمجرد الإخبار لا لقصد التمدح.
قوله: (ودليله سياق الآية).
يعني فإن سياقها يشهد بأنه تعالى يمدح بذلك لما ذكره تعالى في أولها وآخرها من التمدح. قال تعالى: {بديع السموات والأرض أنا يكون له ولد ولم يكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل}، {لاتدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار /360/ وهو اللطيف الخبير}.
قوله: (ومن المستهجن عند أهل اللسان).
أي عند أهل البلاغة والبيان وذلك ظاهر فإنهم يستهجنون أن يقول قائل: فلان عالم فاضل يرتقي يمشي في السوق صالح زكي لما توسط بين أوصاف المدح ما ليس بمدح.
قوله: (لكان قد شاركه في ذلك غيره).
يعني الواحد منا إذا كان حياً لا آفة به.
قوله: (وصار كالتمدح بأنه لاتأخذه سنة ولا نوم وبنفي الصاحبة والولد فإنه إنما يكون مدحاً بانضمامه إلى كونه حياً).
يعني فأما مع عدم الانضمام فلا يكون مدحاً ولهذا فإن الجمادات لاتأخذها سنة ولانوم فكذلك يكون المدح في كونه تعالى لايرى بانضمام كونه يرى.
قوله: (كالكاشف عن مخالفته تعالى للمحدثات).
يعني فإنه لايصح وجود محدث يرى ولايرى حياً لاتأخذه سنة ولانوم ولاتصح عليه الصاحبة والولد فإذا كان قد حصل ذلك في الباري تعالى كشف عن أنه ليس بمحدث.
قوله: (وبعد فقد قيل) إلى آخره.
القائل لما ذكره صاحب كتاب الإكليل وهو من أصحابنا وذلك أنه إذا ثبت أنه تعليل لنفي الصاحبة والولد فتعليل المدح مدح أيضاً.
قوله: (أو على صفة الوجود).
يقال: أما المحدثات فلو كانت ترى على صفة الوجود لم يكن كونها مرتبة راجعاً إلى ذاتها لأن الوجود في حقها صفة بالفاعل وأما الباري تعالى فإذا قدرنا كونه مرئياً لوجوده فكونه مرئياً كما ذكرت راجعاً إلى ذاته لأن الوجود في حقه صفة مقتضاة عن صفة ذاته لكن ظاهر ما ذكره الإطلاق في حقه وحق غيره لقوله: فلأن كون الشيء مرئياً أو غير مرئي إلى آخره.
وليس بسديد فكان الأصوب أن يقول: فلأن كون الباري مرئياً أو غير مرئي إلى آخره.
قوله: (فهو يمدح بثبوت صفة لأجلها لايرى).
يعني لأن الشيء إنما يرى لصفة ثابتة له وإنما لايرى لصفة أيضاً ثابتة له فإذا كان تعالى لايرى فهو لثبوت صفة له ترجع إلى ذاته.
قوله: (بل يثبت حيث تنتفي وينتفي حيث تثبت).
يعني يثبت الإدراك حيث تنتفي الإحاطة كقولك: أدركت السماء والجبل فإن الإدراك ثابت ههنا مع انتفاء الإحاطة وتثبت الإحاطة حيث ينتفي الإدراك كقولهم: السور أحاطب المدينة مع أنه ليس بمدرك لها إذ هو جماد.
قوله: (ولأنه كما لاتلحقه الأبصار فهي لاتلحق غيره كالمعدوم ونحوه).
يعني مما لايرى ككثير من الأعراض. وفيه سؤال وهو أن يقال: وكما لاتراه الأبصار لايرى غيره؟
والجواب: أنه وإن كان كذلك إلا أنه يقع المدح بالانضمام إلى أنه يرى وأما في اللحوق فلا يمكن قبل ذلك وهو أنه يكن مدحاً بالانضمام إلى أنه يلحق إذ اللحوق من صفات الأجسام فبان الفرق.
قوله: (فالمعاني لايصح عليها اللحوق).
يعني أن ذلك لايتصور إلا في الأجسام إذ معناه انفصال اللاحق حتى يتصل بالملحوق وذلك ظاهر قوله على أنه يكون التقدير لايلحقه اللحوق، يقال: بل يكون التقدير لاتلحقه المعاني التي هي الإدراكات لا ما ذكرته ولعل الجواب والله أعلم هو بأن يقال: إذا جعلتم الفعل وهو يدرك بمعنى يلحق مع أن الإدراك الذي هو مصدره بمعناه لزم أن يكون الإدراك بمعنى اللحوق وإذا فسرتم الإبصار بالإدراك فقد عاد المعنى لايلحقه اللحوق، وهذا ظاهر مع التأمل .
قوله: (فيكون المعنى أنه لم يخلق لنا إدراكاً نطعمه به).
سياق كلامه يقضي بأن المراد في الآية بقوله: ولايطعم. ولا يدرك إدراك المطعومات مضارع طعم وليس كذلك فإنه مضارع أطعم فلا يكون للاستشهاد بها معنى.
قوله: (وأكثرهم يلتزم هذا).
يعني وهم الذين أجازوا أن يشم /361/ ويذاق ويلمس بأن يخلق هذه الإدراكات كالأشعري تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
قوله: (وإن كانوا لايطلقون العبارة).
يعني بأنه يصح كونه تعالى مسموماً ومذوقاً وملموساً.
قوله: (وأما قياسه لذلك على التمدح بنفي الظلم والعبث) إلى آخره.
اعلم أن أصحابنا يجعلون تمدحه تعالى بنفي الظلم والعبث دليلاً على جواز وقوعه منه من جهة القدرة وأنه غير مستحيل ويحتجون بذلك على أنه تعالى يقدر على فعل القبيح فعارضهم الرازي بذلك وقال: إذا جعلتم تمدحه بنفي الظلم دليلاً على جواز فعله فتمدحه بنفي الرؤية دليل على جواز وقوعها.
قوله: (بنفي الجمع بين الضدين ونحو ذلك).
يعني كجعل الجوهرين في جهة.
قوله: (فإنه غير مقدور).
يعني فلا يتأتى أن قال فيه كما قيل في الفعل من أن التمدح به لايكون إلا مع جواز فعله لأن ما كان راجعاً إلى الذات لايجوز فعله مع الاتفاق على أنه يصح التمدح بما يرجع إلى الذات.
فائدة
اعلم أن تمدحه تعالى الراجع إلى ذاته من نفي وإثبات ينقسم إلى قسمين: واجب وجائز. والواجب ينقسم إلى مستمر كتمدحه بأنه تعالى قادر وعالم وحي وموجود وأنه لايرى ولايشبه المحدثات وأنه لاثاني له، وتمدحه بنفي عكس صفاته الأربع، وإلى غير مستمر كتمدحه تعالى بأنه مدرك سامع مبصر فإن هذه الصفات وإن كانت واجبة فهي غير مستمرة.
والجائز كتمدحه تعالى بأنه يريد الطاعات ويكره المعاصي ولايكره الطاعات ولايريد المعاصي، وأما التمدح الراجع إلى الفعل فهو ينقسم إلى إثبات ونفي والإثبات ينقسم إلى قسمين: تمدح بفعل واجب كتمدحه تعالى بقبول التوبة وإثابة المطيع وتعويض المؤلم وتمدح بفعل غير واجب بل مفضل كتمدحه تعالى بأنه رازق منعم منفضل ونحو ذلك والراجع إلى النفي ينقسم إلى قسمين: تمدح بنفي فعل يقبح لو فعله كتمدحه تعالى بأنه لايظلم ولايكذب ولايعذب بغير ذنب، والتكلف ما لايطاق وأنه لايفعل كراهة الطاعة ولا إرادة المعصية وتمدح بنفي فعل لايقبح لو فعله كما لو تمدح بأنه لا يعاقب من يستحق العقوبة قبل ورود السمع وبهذا التفصيل يعرف أن التمدح بنفي الرؤية لابد من كونه راجعاً إلى الذات على ما تقدم.
قوله: (المشاهدة واللحوق والبلوغ والإيناع).
المشاهدة هي الإحساس بإحدى الحواس تقول: شاهدت اللون وشاهدت الحرارة أي أدركتهما، وإن كانت في العرف لاتستعمل إلا في الإدراك بحاسة البصر واللحوق كقوله تعالى: {قال أصحاب موسى إنا لمدركون} والبلوغ كقولهم: أدرك الصبي إذا بلغ الحلم، والإيناع كقولهم: أدركت الفاكهة أي نضجت وأينعت.
قوله: (وأما قول القائل أدركت ببصري حرارة الميل)
هذا سؤال أورده ابن أبي بشر الأشعري قال أصحابنا: وإنما اخترع هذا الكلام لا أن أهل اللغة قالوه وهو أن يقال: قولكم أن الإدراك إذا قرن بالبصر لم يحتمل إلا الرؤية غير صحيح فإن العرب تقول: أدركت ببصري حرارة الميل، فذكروا الإدراك وقرنوه بالبصر ولم يفد الرؤية بل اللمس لأن الحرارة لاتدرك إلا لمساً. قال أصحابنا: ولو صح أن هذا لغة فذكر الحرارة قرينة تصرف عن أن يراد بالإدراك الرؤية لأن الحرارة لاترى ونحن فرضنا الكلام فيما لاقرينة فيه صارفة عن ذلك المعنى مع الإطلاق. وجواب المصنف يؤول إلى هذا.
قوله: (فكيف يعقل في هذا المعنى أن يكون قد وصل إلى المرئيات فضلاً عن أن يكون قد أحاط بالشيء من جميع جوانبه).
فيه نظر لأن الرازي لم يجعل الإدراك هو الواصل بل جعله الوصول والواصل هو المدرك.
قوله: (فالإدراكات عندهم /362/ خمسة).
يعني بعدد الحواس الخمس فكل حاسة تدرك بها فذلك بإدراك يحل فيها مخالف للإدراك بالأخرى.
قوله: (أن يكون سمعه قد أحاط به).
يعني لأنه جعل الإدراك الإحاطة بالمدرك من جميع جوانبه فإذا صح ذلك فمن الإدراكات الإدراك بحاسة السمع للصوت فيلزم إذا أدرك صوتاً أن يكون إدراكه له إحاطة سمعه به من جميع جوانبه كما ذكره في إدراك البصر مع أن الصوت لا جوانب له ولايتصور الإحاطة في حقه.
قوله: (فالله تعالى يدرك نفسه عندهم بهذه الإدراكات الخمسة).
يقال: أما الرازي فربما لايقول بذلك بل يقول لايدرك نفسه إلا بالإدراك الذي هو الرؤية لكن هذا متوجه إلى من قال بذلك منهم ومتوجه إليه في الإدراك بمعنى الرؤية.
قوله: (وأما الأصل الرابع) إلى آخره.
الذي يدل على صحة هذا الأصل وجوه ثلاثة: الوجهان اللذان ذكرهما المصنف الأول قوله: فلأن كون الشيء مرئياً أو غير مرئي إلى آخره. وتلخيصه أن يقال: كون الشيء مرئياً أو غير مرئي مما يرجع إلى ذاته ففي الشاهد إلى الصفة المقتضاة وفي الغائب إلى الصفة الذاتية كما تقدم فإذا كان تعالى قد تمدح بأنه لايرى وذلك التمدح راجع إلى ذاته على ما تقدم فقد ثبت بذلك أنه لايرى لصفته الأخص فإثبات كونه مرئياً يقتضي خروجه عما لأجله كان غير مرئي وهي الصفة الأخص وخروجه عناه يقتضي خروجه عما يقتضيه من الصفات إذ يستحيل حصول المقتضي من دون مقتضيه وفي ذلك خروجه عن كونه قادراً عالماً حياً موجوداً.
وهذا أبلغ نقص في حقه تعالى ويؤدي إلى انقلاب ذاته لأنه إذا خرج عن الصفة الذاتية إلى صفة أخرى ذاتية فقد صارت ذاته غير ما كانت وأنقص من ذلك إن خرجت عنها لا إلى صفة.
قوله: (والعكس).
يعني وخروج الذات عن كونها مرئية إل أن تكون غير مرئية يقتضي الإنقلاب أيضاً، والطريقة في الطرفين واحدة. الوجه الثاني: ذكره أيضاً وهو قوله: (وبعد فإما أن يتمدح بنفي صفة كمال) إلى آخره.
وله تتمة وهو أن يقال: فإذا كان تمدحه بنفي الرؤية تمدحاً بنفي صفة نقص فإثبات الرؤية إثبات لتلك الصفة فيحصل غرضنا من أن إثبات ما نفاه تعالى يؤدي إلى النقص.
الوجه الثالث: أنه نقص من حيث أن ثبوت ما تمدح تعالى بنفيه يكشف عن الكذب والكذب من أوصاف النقص.
قوله: (من حيث أن حرف النفي إذا دخل على اسم الجنس المعرف باللام اقتضى الاستغراق).
فيه نظر لأنه يوهم أن اقتضاء الاستغراق في اسم الجنس المعرف هو لأجل تقدم النفي وليس كذلك فإن التعريف من ألفاظ العموم تقدمه نفي أو لا كقوله تعالى: {إن الإنسان لفي خسر} وإنما تعتبر إفادة اسم الجنس للاستغراق مع تقدم النفي إذا كان يكره، وإنما أفاد حرف النفي في هذه الآية الاستغراق في الأوقات لدخوله على الفعل المستقبل والله أعلم.
قوله: (بدليل صحة الاستثناء).
يعني في الأشخاص والأوقات نحو: إلا بصر زيد، وإلا في الآخرة. ولا كلام في أن صحة الاستثناء دليل الاستغراق وسيأتي تلخيصه في باب الوعيد ومما يؤكد ذلك أن النفي الذي تضمنته الآية إما أن يكون في جميع الأوقات عن جميع الأشخاص فهو الذي يقول أو يكون في بعض الأوقات أو عن بعض الأشخاص فلا مخصص أو لايكون نفياً في أي الأوقات ولا عن أي الأشخاص، فخلافه معلوم من ظاهر الآية ويدل على عمومها أن إثبات الإدراك في وقت ما أو لشخص ما ينافي ظاهرها ولولا عمومها لم ينافه.
تنبيه
اعلم أن هذه الآية لاتوصل إلى العلم بنفي الرؤية إلا إذا كانت دلالة العموم قطعية وهو موضع /363/ نظر، فالذي يذكره المحققون أن دلالته ظنية، وعلى هذا لايوصل إلا إلى الظن وسيأتي لهذا المعنى مزيد تحقيق في باب الوعيد.
قوله: (والجواب أن من حق التخصيص التنافي على مقتضى الخاص).
يعني بأن يرد المخصص مصرحاً بنقيض ما ورد به العام في مقتضى الخاص وليس كذلك ههنا فإن العام انتفاء إدراك الأبصار بمعنى أنها لاتراه والخاص على زعمهم نظر بعض الوجوه إليه، ومعناه الانتظار وليس عدم الرؤية منافياً له بل يصح اجتماع انتفاء الرؤية وثبوت النظر، إذا كان بمعنى الانتظار، وكذلك لو جعلنا النظر في قوله تعالى: {إلى ربها ناظرة} نظر الرؤية كما يزعمون فإن معناه تقليب الحدقة السليمة التماساً للرؤية لانفس الرؤية فإثباته لايناقض نفيها بل يصح اجتماع إثباته ونفيها.
وإلى هذا المعنى لحظ لامصنف وهو الذي وعد بأنه سيبينه.
قوله: (نقيض لقولنا: تدركه الأبصار).
النقيضان كل قضيتين إذا صدقت إحداهما كذبت الأخرى فنقيض الكلية السالبة نحو: لاشيء من الإنسان بحجر. جزئية موجبة وهي: بعض الإنسان حجر. ونقيض الكلي الموجبة مثل: كل إنسان حيوان. سالبة جزئية: ليس بعض الإنسان بحيوان. وإنما جعل نقيض الكلية من إحدى الطرفين جزئية من الطرف الآخر لأنه لايمكن استمرار كذب إحداهما وصدق الأخرى إلا مع ذلك، فيفهم من قول الرازي أن قوله تعالى: {لاتدركه الأبصار} سالبة جزئية في المعنى ولهذا جعل نقيضه موجبة كلية، ولكنه غير مسلم له كما نبه عليه المصنف بعد.
وقول الرازي أيضاً: إن تدركه الأبصار موجبة كلية مخالف للقواعد فإن مثل هذه القضية عند المنطقيين تسمى مهملة إذ لم يؤت فيها بلفظة كل ونحوها من ألفاظ التسوير ويحكم عليها أهل المنطق بأنها جزئية لأن ذلك هو المتحقق فيها.
قوله: (وبعد فإذا استحال في بعض الأبصار أن تدركه) إلى آخره.
يقال: ليس نفي الإدراك عن بعض الأبصار يقتضي استحالته في حق من نفى عنه بل عدم وقوعه.
فصل في شبههم في إثبات الرؤية
قوله: (أليس من صريح مذهبكم أن الصحح أمور سلبية).
يعني أن المرجع بها إلى نفي الاستحالة فمعنى كونه يصح وجوده أنه لايستحيل وجوده ومعنى صحة كونه معلوماً أنه لايستحيل أن يعلم لأنهم يثبتونها أحكاماً خاصة، وقولهم: فلو كانت أموراً ثابتة لزم قدمها يعنون لحصولها فيما لم يزل ولهذا قالوا بأن صحة وجود العالم فيما لم يزل معناه أنه لايستحيل وجوده فيما لايزال ونحن نجعل صحة وجوده في الأل أمراً ثبوتياً والمرجع بها إلى إمكان وجوده فيما لايزال.
قوله: (فإن صحة رؤية اللون يحتاج إلى ما لاتحتاج إليه صحة رؤية الجوهر وهو المحل).
وهذا ينبني على أن اللون لايصح إدراكه إلا في محل وأنا لو قدرنا وجوده لا في محل لم يصح إدراكه ولاذي صرح به أبو هاشم أنا لو قدرنا وجوده لا في محل لصحت منا رؤيته ومع ذلك لأنه لايجعل الشرط في الرؤية إلا حصول قاعدة الشعاع مع المرئي بحيث لاساتر ولا ما يقدر حصول الساتر فيه ولايشرط المقابلة أو تنافي حكمها، فأما من اشترط ذلك فيقول: لو وجد لا في محل لم تصح رؤيته.
قال ابن متويه: إلا على ما قاله الشيخ أبو عبدالله من تقدير جهة له فيجعله مرئياً لحصول المقابلة بثبوته في جهة إلا أنه لايتصور إلا مع وجوده لا في محل أن يكون في جهة لأن ذلك يقتضي كونه متحيزاً.
قوله: (فما أنكروا أن علة صحة الرؤية في الجوهر واللون هي كونهما ممكني الوجود).
يعني فنكون قد عللنا هذه الصحح المتماثلة بعلة اشترتك فيها المرئيات في الشاهد وهي كونها ممكنة الوجود ومع ذلك لايلزم صحة /364/ رؤية الباري تعالى لعدم حصول هذه العلة في حقه إذ هو واجب الوجود غير ممكنه.
قوله: (إذا كان علة صحة الرؤية كونه ممكناً أو كونه معلوماً بطل اشتراط كونه شيئاً).
اعلم أن هذا الجواب أقرب إلى عدم المطابقة فإنه إنما يكن مطابقاً لو قيل لايكون كون الشيء معلوماً علة في صحة رؤيته إلا بشرط أن يكون شيئاً، والمعدوم وإن كان معلوماً فليس بشيء وليس هذا مضمون السؤال وإنما حاصله أن المعدوم إذا لم يكن شيئاً لم يكن معلوماً، وإذا لم يكن معلوماً لم يلزم صحة رؤيته، وإن كانت العلة في رؤية المرئي كونه معلوماً.
قوله: (حتى القدرة والحياة والسمع والبصر ونحوها).
يعني من الموجودات التي قد علمنا استحالة رؤيتها كالعلم والشهوة والإرادة والكراهة لحصول علة صحة الرؤية فيها عندهم وهو الوجود.
قوله: (إذ لا أقل من اطراد العلة).
يعني وهي أن تكون متى حصلت حصل معلولها فيكون متى حصل الوجود الذي هو عندهم علة في صحة الرؤية حصلت الصحة وإن كان في وجوب العكس خلاف، واعلم أن الوجود على كلامهم إنما يكون مقتضياً للصحة لا علة فيها لأنه ليس بذات ولكن حكم المقتضي في وجوب اطراده حكم العلة وهو أيضاً يسمى علة تجوزاً.
قوله: (ولهذا قال الرازي) إلى آخره.
اعلم أن الرازي لما تيقن ضعف أدلتهم العقلية في هذه المسألة وظهور بطلانها ذهب إلى أنه لادليل في العقل يدل على صحة الرؤية ولا على استحالتها، قال: ولكنه قد ورد في ظواهر كتاب اله تعالى وسنة رسوله ما يقضي بصحتها فحينئذ توجه القول بها مع عدم المانع منها عقلاً ولكن تلك الظواهر لاتوصل إلى العلم فتكون ظنية.
قوله: (حتى رؤية الباري تعالى).
أي رؤيته للأشياء فإنها عندهم معنى موجود فلم يجدوا بداً من القول بصحة رؤيته على أصلهم.
قوله: (وأن يخلق الله تعالى لوناً غير هذه الألوان).
اعلم أن مذهب الشيخين وهو الظاهر من قول أصحابنا أنه يجوز أن يكون في المقدور لون سادس غير هذه الألوان الخمسة الموجودة. قالوا: لأنه لادليل على نفي هذه الزيادة فيجب تجويز كونه في المقدور.
قال ابن متويه: وإذا جوزنا الزيادة أجريناها مجرى الأكوان في ألا تنحصر، وقد يجوز أن تكون الزيادة أيضاً محصورة كالمزيد عليه وفي الناس من منع من كون الازئد مقدوراً وزعم أنه يؤدي إلى الجهالات حتى يلزم تجويز أمور لا تعقل، وأبطلوا هذا بأن اللون وما يحصل به من الهيئة للأجسام قد عقلناه فالذي جوزناه هو لون يحصل لمحله به هيئة معاكسة لهذه الهيئات فلا يكون في ذلك لزوم جهالة.
قوله: (فبأي شيء يفرقون بينهما حتى يعلموا اللون لوناً والحياة حياة).
لهم أن يقولوا: نحن نجد الفرق لن هذا اللون وإن كان غير هذه الألوان المعروفة فإنه يثبت لمحله به هيئة معاكسة للهيئة الحاصلة بهذه الألوان دون الحياة والحياة وإن كان لابد مع القول بصحة رؤيتها من القول بثبوت هيئة لمحلها بها إذ ذلك من حكم كل مدرك أدرك على حد إدراك محله أنه لابد من ثبوت هيئة للمحل، قياساً على الألوان والحرارة والبرودة، فإن الهيئة تثبت لمحالها بها لام أدركت على حد إدراكها فالهيئة التي تحصل بالحياة ليست معاكسة لهيئة هذه الألوان ولعله يجاب بأن هذا الفرق إنما يتصور لو كان إدراك اللون وغيره على صفته المقتضاة كما يقوله، وأما إذا كان على صفة الوجود كما يقولونه والوجود متماثل فلا فرق.
قوله: (والأول لايمكنهم القول به لاتحاد الطريقة في الجميع).
يعني لايمكنهم القول بأن الوجود /365/ علة في صحة الرؤية دون غيرها من أنواع الإدراكات لاتحاد طريقتهم في جعل الوجود علة في الرؤية وفي سائر الإدراكات فإنه يقال في الإدراك بالذوق مثلاً أن صحة ذوق الطعوم وإدراكها على هذا الحد مع اختلافها حكم متماثل فلا بد أن يعلل بأمر اتفقت فيه وثبت اشتراكها جميعاً فيه ولم تشترك أنواعها إلا في الوجود، فيجب أن يكون هو العلة في صحة إدراكها والباري تعالى قد شاكرها فيه فيجب صحة أن يدرك على حد إدراكها، وكذلك الكلام في الشم والسمع.
قوله: (ويلزم عليه صحة الرؤية حال العدم كما سلف).
يعني لما تقرر من أنها ثابتة حال العدم.
قوله: (حاكياً عنهم ولاتشبيهه بخلقه).
يعنون لأن لارؤية التي يقول بها رؤية غير مكيفة فأما الرؤية المكيفة فلا كلام في أنها تقتضي تشبيهه تعالى بخلقه.
قوله: (هذا شيء أخذوه من كلام شيخنا أبي علي).
وذلك أنه قال: لايكفر من قال بالرؤية التي ليست بمكيفة. وقال محتجاً على عدم كفره: لأن قوله بالرؤية لايوجب حدوثه تعالى ولاحدوث معنى فيه ولاتشبيهه بخلقه ولاتكذيبه ولاتجويره ولا قلب ذاته فيجب ألا يكفر من قال بها فجعلها الخصم شبهة له.
قوله: (وما أنكرتم أن التمانع) إلى آخره.
يعني كما قلتم في المقابلة واشتراطها فإن بعض مشيختهم قال إن المقابلة أو ما في حكمها إنما كانت شرطاً في الرؤية بمجرى العادة. وقال الرازي: إن اشتراطها في رؤيته تعالى من أحكام الوهم والخيال.
فصل في شبههم من جهة السمع
اعلم أولاً أنه يقال لهم: لايصح لكم الاستدلال بالسمع على هذه المسألة ولا على غيرها نم المسائل لما ذهبتم إليه في باب العدل من المذاهب الفاسدة المفضية إلى عدم الوثوق بالسمع.
قوله: (أقوى ما تمسكوا به سؤال موسى عليه السلام).
يعني الذي حكاه الله تعالى عنه وهو قوله عليه السلام: {رب أرني أنظر إليك} وتقرير احتجاجهم به أن موسى عليه السلام سأل الرؤية لنفسه لأنه أضاف السؤال إليه بقوله: أرني. وأضيف إليه في الجواب فقيل: {لن تراني}، ولنزول الصاعقة به ولأنه تاب من ذلك ولو كانت الرؤية مستحيلة لما سألها فإنه أعلم خلق الله بما يجب لله وما يستحيل على الله وهو كليمه وخيرته من خلقه.
قوله: (تزعمون يا معاشر المجبرة) إلى آخره.
يعني فإن من مذهبكم أنه تعالى لايرى إلا في الآخرة وموسى عليه السلام سأل الرؤية على زعمكم في الدنيا فكأنكم عرفتم ما جهله نبي الله وكليمه وهو تأخر حصولها إلى الآخرة.
قوله: (لأنه لو كان كذلك لما كان لهم ذنب فيصعقوا).
يقال: أن صعقهم لم يكن عند سؤال موسى للرؤية فيتوجه ما قلته ولكن صعقهم حال قولهم: {أرنا الله جهرة}.
قوله: (ولبطل ما علمناه من إضافتها إليهم).
لعله أراد ما اضيف إليهم من طلبها بقولهم: {أرنا الله جهرة}.
قوله: (وأما توبته عليه السلام) إلى آخره.
هذا جواب عن سؤال لهم تقديره: أنه إذا كان سؤال موسى عن قومه فلم تاب فإن الذنب ذنبهم لأنهم السائلون في الحقيقة، ومعلوم أنه تعالى قد حكى التوبة عنه في قوله تعالى: {فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين}.
قوله: (لأن طريقة الأنبياء) إلى آخره.
من هذا القبيل ما روي عن نبينا صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه كان يستغفر ربه في اليوم سبعين مرة وقيل في المجلس الواحد مائة مرة.
قوله: (كما يروى مثله عن محمد صلوات الله عليه إلى آخره).
عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لجبريل صلى الله عليه: (( أحب رؤيتك في صورتك التي تكون عليها في السماء )) فواعده عرفات فخرج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فإذا جبريل قد ملأ ما بين المشرق والمغرب ورأسه في السماء ورجلاه في الأرض فخر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مغشياً عليه فتحول جبريل إلى صورته وضمه إلى صدره. قال تعالى: {ولقد رآه بالأفق المبين}.
قوله: (امتحاناً لاعقوبة).
يعني فإنه /366/ وإن كان قد أذنب بذلك السؤال في تلك الحال فذلك الذنب صغير في حقه عليه السلام ومكفر في جنب ماله من الثواب فلا يقال أن الصعقة عقوبة على ذلك.
قوله: (كما أن سبب دخول بيت المقدس) إلى آخره.
ذكر المفسرون أن بني إسرائيل لما أفسدوا وخالفوا التوراة بكثرة المعاصي وقتلوا أنبياءهم كزكريا ويحيى عليهما السلام سلط الله عليهم من قبلهم وخرب ديارهم ببيت المقدس وهو بختنصر وحرف التوراة قيل أنهم لما قتلوا يحيى صلوات الله عليه لم يزل دمه يفور حتى قتل بختنصر منهم سبعين ألفاً أو اثنين وسبعين ألفاً ثم سكن، وقيل: بل لما قتلوا يحيى صلى الله عليه أتاهم ملك الروم فقتل منهم مائة ألف وثمانين ألفاً وخرب بيت المقدس ثم لم يبن إلا في خلافة عمر رضي الله عنه. قال الله تعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً}. قيل: المرة الأولى قتل زكريا صلى الله عليه، والثانية قتل يحيى صلى الله عليه، وقيل: قتل شعيباً صلى الله عليه، وقيل: كثرة المعاصي، {فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار}.
وقيل معناه: ترددوا وطافوا وقيل: مشوا. وقيل: عاثوا وأفسدوا {وكان وعداً مفعولاً، ثم رددنا لكم الكرة عليهم}، قيل: الرجعة والدولة وذلك أنهم لما تابوا نصرهم الله {وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا}.
رجعنا إلى أصل الكلام قال الإمام يحيى عليه السلام: فأما صعقته يعني موسى صلى الله عليه وتوبته مما كانتا إلا من أجل استعظام طلب الرؤية وفخامة شأنها ولما ظهر من آثارها من الأمور الهائلة كدك الجبل وحصول الصعقة كأن الله عز سلطانه حقق أن طلب الرؤية مع استحالته يشبه إضافة الولد إليه في قوله تعالى: {تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً أن دعوا للرحمن ولداً}.
قال عليه السلام: ولو كان للمجبرة دراية وفطانة وعلم بأحوال النبياء عليهم السلام لعلموا أن قوله عليه السلام: {أرني أنظر إليك} لما فيه من إيهام الجسمية والعرضية ما كان إلا سؤالاً عن قومه وترجمة عن مقترحهم وحكاية عن جهلهم.
قوله: (وأما قولهم كيف طلب بالسؤال) إلى آخره.
هذا اعتراض يرد منهم على تجويز أصحابنا أن يكون سؤالها ليرد من جهته تعالى ما فيه مقنع للقوم وقطع لطمعهم، قالوا: فلم لم يسأل أن يجعل الله لهم إلاهاً ليرد من جهته تعالى ما فيه مقنع لهم كما قلتم في الرؤية لولا أن الرؤية جائزة فسألها دون الإله الثاني، وسؤالهم هذا يرد أيضاً على جواب لبعض أصحابنا عن هذه الشبهة وهو أن قال: إن موسى عليه السلام كان عالماً باستحالة الرؤية لكن أراد ورود دلالة سمعية من جهته تعالى يدل على استحالتها لتزداد الأدلة ترادفاً ويزداد هو طمأنينة وزيادة الأدلة من الأغراض العظيمة، ولهذا نجد العقلاء لايكتفون في المسألة بدليل مع وجود غيره بل يستدلون بكل ما يمكن أن يكون دليلاً عليها وإن كان بعض تلك الأدلة مغنياً.
ولهذا سأل إبراهيم عليه السلام ربه تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى وإن كان عالماً باقتداره تعالى على ذلك، وهذا الجواب أتى بمعناه أبو الهذيل على ما حكاه ابن الخطيب، واعترضه في الأربعين مع الاعتراض الول بأن موسى عليه السلام لو كان قاطعاً بامتناع الرؤية على ما ذكرتموه وإنما سأله للوجه الذي ذكرتموه لكان الأدب أن يقول: يا رب زدني دليلاً على امتناع الرؤية، فأما أن يسأل الرؤية مع العلم بامتناعها فهذا لايليق بالعقلاء.
قوله: (تقديره أرني أنظر إلى عظيم سلطانك لاحاجة إلى هذا التكليف).
والظاهر أن موسى سأل الرؤية ولاموجب للتأويل.
قوله: (يكون تقدير الجواب) إلى آخره قد أورد جار الله في تفسير هذه /367/ الآية ما يشفي ويكفي من ذلك قوله في هذا المعنى: فإن قلت: كيف اتصل الاستدراك في قوله: {ولكن انظر إلى الجبل} بما قبله؟
قلت: اتصل به على معنى أن النظر إلي محال فلا تطلبه ولكن عليك بنظر آخر وهو أن تنظر إلى الجبل الذي يرجف بك وبمن طلبت الرؤية لأجلهم كيف أفعل به وكيف أجعله دكاً بسبب طلبك الرؤية لتستعظم ما أقدمت عليه بما أريك من عظم أثره كأنه جل وعلا حقق عند طلب الرؤية ما مثله عند نسبة الولد إليه في قوله: {وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولداً} فإن استقر مكانه كما كان مستقراً ثابتاً ذاهباً في جهاته فسوف تراني تعليق لوجود الرؤية بوجود ما لايكون من استقرار الجبل مكانه حين يدكه دكاً ويسويه بالأرض، وهذا كلام مدمج بعضه في بعض وارد على أسلوب عجيب ونمط بديع ألا ترى كيف تخلص من النظر إلى النظر بكلمة الاستدراك ثم كيف بنى الوعيد بالرجفة الكائنة بسبب طلب النظر على الشريطة في وجود الرؤية، أعني قوله: {فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى له ربه} للجبل ولما ظهر له اقتداره وتصدى له أمره وإرادته جعله دكاً أي مدكوكاً.
قوله: (وليس عدم العلم بمسألة لارؤية مما يقطع بكونه كبيراً).
أي عدم العلم بصحتها إن كانت صحيحة أو استحالتها إن كانت مستحيلة يعني فلا يقال هو كبيرة وإذا كان كبيرة فالكبيرة لاتجوز على الأنبياء عندكم لما ذكره من عدم القطع بكونها كبيرة لاسيما في حق الأنبياء فإن ثوابهم قد يكفر كبيراً من المعاصي التي لايكفرها ثواب غيرهم.
قال بعض أصحابنا: ولو لزم ما قالوه من جهل موسى عليه السلام باستحالة الرؤية على الله تعالى فلا خلل في ذلك لأن معرفتها ليست من فروض الأعيان إذ تجويزها لايستلزم الجسمية وكوننا نعرف ما لايعرفه بعض الأنبياء في موضع لا خلل فيه أيضاً فمن الجائز أن يعزب عن بعض الأنبياء كثير مما اطلع عليه غيرهم كدقائق مسائل اللطيف والمساحة والهندسةوبالجملة فكل مسألة لايعد العلم بها من فروض الأعيان فعدم العلم بها يجوز على الأنبياء كغيرهم وكغير ذلك من أمور الدنيا وأحوالها فإن خاتم الأنبياء وأفضلهم لم يعلم ما في تأبير النخلمن الصلاح حتى قال: أنا أعرف بدينكم وأنتم أعرف بدنياكم.
قوله: (ولا هذه المسألة مما يتوقف عليها العلم بالنبوة).
يعني فلا يقال: كيف تجوزون جهل موسى عليه السلام باستحالة الرؤية مع أنه قد علم صحة ثبوته بلا كلام والعلم بصحة ثبوته وصواب ما أرسل به يتوقف على العلم بنفي الرؤية كما يتوقف على العلم بأنه تعالى عدل حكيم وذلك لأن الكلام في الرؤية غير المكيفة وليس الجهل بما هو الحق فيها يقدح في العلم بصحة النبوة من حيث لايتوقف عليها مسألة العدل والحكمة.
واعترض الرازي هذا الجواب بأن قال: إن الأمة مجمعة على أن علم الأنبياء والرسل بذاته تعالى وصفاته أتم وأكمل من علم كل واحد من آحاد الأمة إذا ثبت هذا فنقول لما كان العلم باستحالة الرؤية حاصلاً لكل واحد من آحاد المعتزلة فلو لم يكن هذا العلم حاصلاً لموسى عليه السلام لكان كل واحد نم آحاد المعتزلة أعرف بذات الله تعالى وصفاته من موسى عليه السلام ولما كان هذا باطلاً بالإجماع سقط ما ذكروه.
ويمكن الجواب بأن علمه عليه لاسلام باستحالة الرؤية عقيب السؤال مسقط للتسبيح الذي أورده لأن معه لايكون كل واحد من آحاد المعتزلة أعرف بذات الله تعالى وصفاته من موسى أو قد شاركهم فيه بعد ورود الجواب وليس حصول العلم له بعد أن لم يكن حاصلا يقتضي ما ذكره ولم يقع الإجماع على أنه يجب حصول العلم بذات الله تعالى وصفاته للأنبياء من أول وهلة ولو قدرنا أنه عليه السلام لم يعلم استحالة الرؤية مع علم المعتزلة بها لم يقتض أن يكون كل واحد منهم أعلم بذات الله تعالى وصفاته من موسى عليه السلام كما ذكره فإن العلم باستحالة /368/ الرؤية ليس علماً بذات الله تعالى ولابصفة له ولو كان علماً بصفة فليس العلم بها هو كل العلم بذات الله وصفاته فتبين أن كلامه مبناه التسبيح الذي لاثمرة له.
وقد أجاب الشيخان أبو الهذيل وأبو القاسم عن أصل الشبهة بأن المراد بقوله: {رب أرني أنظر إليك} أي أرني آية أعلمك عندها ضرورة، ولعل المصنف أراد هذا المعنى بما سبق من قوله: (وبعد فما أنكرتم أن ثم مضافاً محذوفاً تقديره: رب أرني أنظر إلى عظيم سلطانك) إلى آخره.
واعترض بأن موسى قد رأى من الآيات العظيمة ما فيه كفاية كقلب العصا وفلق البحر وتفجر الماء من الحجر وإخراج يده بيضاء فطلب آية بعد هذه الآيات تعنت لايليق بالأنبياء عليهم السلام.
وأجيب بأنه وإن كان كذلك إلا أنه لم يحصل له بتلك الآيات علم ضروري وهو أنما طلبه لا ما قد حصل وهو العلم الاستدلالي.
واعترض أيضاً بأنه عليه لاسلام مع معرفته للباري تعالى في حال مناجاته لايليق منه ذلك إذ لايليق بعاقل أن يقول لمن يناجيه: عرفني نفسك فضلاً عن الأنبياء فهم أكمل الناس عقلاً وأسد معرفة بالله تعالى.
قوله: (فإن لن في اللغة لتأبيد النفي).
يدل على ذلك أنه يصح الاستثناء من الأوقات فدل على الاستغراق ولأن إثبات الرؤية في وقت يناقض ذلك ويدل على استغراقها للأوقات أنها إما أن تكون نفياً للرؤية في جميع الأوقات فهو ما نقوله أو نفياً لها في بعض الأوقات فهو تخصيص لغير مخصص أو ليست بنفي لها في أي الوقات فهو خلاف صريح الآية.
قوله: (وأما قوله تعالى: {ولن يتمنوه}) إلى آخره.
هذه إشارة إلى سؤال يرد على قولنا أن (لن) لتأبيد النفي وتقريره أن يقال: إنه تعالى قال في اليهود: {ولن يتمنوه أبدا} أي الموت، ثم حكى عنهم طلبه بقوله تعالى: {وقالوا يا مالك ليقض علينا ربك} فدل على أنها ليست لتأبيد النفي.
وتقرير الجواب: أن فيه قرينة تدل على خلاف الظاهر وهي أنهم إنما لم يتمنوه في الدنيا هرباً من العقاب وقد صاروا حال سؤالهم لمالك معاقبين فعدم تمنيهم لايفيدهم هرباً منه بل الهرب منه في حصول ما سألوه من الموت لو حصل والسلامة من العقاب.
قوله: (فأخبر تعالى أن الموت الذي تفرون منه هو الموت الأول).
يعني وحينئذ يكون قوله تعالى: {ولن يتمنوه} الضمير فيه عائد إلى الموت الأول وإذا كان كذلك ففائدة لن وهي التأبيد حاصلة لأنهم لم يسألوا الموت الأول أبداً قطعاً وإنما سألوا موتاً ثانياً.
قوله: (إنه تعالى قد ذكر التأبيد في هاتين الآيتين) إلى آخره.
يعني قوله تعالى: {ولن يتمنوه أبداً} {ولايتمنونه أبداً} مع أن التأبيد بلا خلاف يشمل جميع الأوقات فإذا كان كذلك ولم يقتض لفظ التأبيد هنا شمول جميع الأوقات ووجب العدول عن ظاهر التأبيد فكذلك في (لن) وقع ما اقتضى العدول عن ظاهرها ولايقدح ذلك في أنها تشمل الأوقات، وإذا قبل فيعدل عن ظاهر قوله تعالى: {لن تراني}.
قلنا: لاموجب للعدول ههنا فإنه لم يخبر عن الرؤية بعد ذلك وفي تلك الآية أخبر عن طلبهم للموت بعد فاقتضى العدول.
وقد أجيب عن أصل السؤال بأنه يجوز أن يكون الذين حكى الله عنهم طلب الموت غير اليهود الذين أخبرنا بهم لايتمنونه.
قوله: (حجة الوجه الثاني أنه علق الرؤية بشرط مستحيل) إلى آخره.
المجبرة يحرفون هذا الوجه ويجعلونه لهم ويحررونه على عكس ما يحرره أصحابنا فيقولون: قد علقها بأمر جائز وهو استقرار الجبل وكان جائزاً لأن الجبل جسم وكل جسم يجوز سكونه واستقراره وإذا كان كذلك فالمعلق على الشرط الجائز جائز لأنه يجوز حصول ذلك الشرط، وإذا حصل لزم حصول المشروط إذ لو لم يحصل انكشف عدم كونه شرطاً وهو يكشف عن الكذب في كلامه تعالى عن ذلك، وقد رد عليهم الإمام /369/ عماد الإسلام من وجهين: أحدهما: أنه وإن كان ممكناً بالإضافة إلى ذاته فهو مستحيل بالإضافة إلى أمور أخرى ولافرق في استحالة حصول الشيء ووقوعه بين أن يكون مستحيلاً لذاته وبين أن يكون مستحيلاً لأمور أخر، ولهذا فلا فرق في عدم الوقوع بين استحالة حدوث ذات القديم تعالى وبين استحالة وقوع القبيح من جهته وإن كان استحالة حدوثه لذاته واستحالة وقوع القبيح منه لداعيه، واستحالة استقرار الجبلة يثبت لأمور ثلاثة:
أما أولاً فلأن عندكم أنه أراد في ذلك الوقت ألا يستقر الجبل وما أراد تعالى ألا يحصل كان حصوله مستحيلاً عندكم، فإن حصول الاستقرار في ذلك الوقت محال.
وأما ثانياً فلأنه تعالى علق الرؤية باستقرار الجبل حال تحركه وحصول الاستقرار حال الحركة محال.
وأما ثالثاً فلأن معنى قوله تعالى: {فإن استقر مكانه فسوف تراني} إن استقر حال التجلي لأمرين أما أولاً فلأن أحدنا لو قال لحاجب الخليفة أرني الخليفة. قال الحاجب: لن تراه، ولكن انظر إلى زيد فإن استقر مكانه فسوف تراه فلما تجلى الخليفة لم تستقر دما زيد علمنا أنه أراد فإن استقر قدماه حال التجلي، وأما ثانياً فلأن الغرض بقوله: {فإن استقر مكانه فسوف تراني} لو لم يكن حال التجلي لكان لامعنى لقوله فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا} ليس إلا ليريد أن استقرار الجبل حالة التجلي محال فثبت حصول الرؤية معلق على أمر مستحيل فيجب أن يكون مستحيلاً.
الوجه الثاني: سلمنا أن الرؤية متعلقة على أمر ممكن فلم قلتم أنه لابد أن تكون ممكنة بيانه أن المعلق على ما يوجد وهو مما يصح وجوده يفيد أمرين أحدهما استحالة حصول المعلق عند عدم الشرط الثاني صحة حصوله عند حصول الشرط والمطلوب بالمعلق بالشرط ههنا ليس إلا وقوع الرؤية وحصولها عند حصوله ولاشك أن موسى عليه السلام لما سأل الرؤية بقوله: {رب أرني أنظر إليك}، وأجابه الله تعالى بقوله: {لن تراني} ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فعلق الرؤية بأمر غير حاصل فكان تعليقه للرؤية على مالم يوجد لبيان نفي وجودها وجوابه مطابقاً، فإما أن الغرض بيان أن لارؤية ممكنة أو غير ممكنة فهو أمر غير مطلوب ولامقصود فلو كان الغرض من التعليق بيان صحة الرؤية واستحالتها لم يكن الجواب مطابقاً فثبت أن الغرض بيان نفي وجودها لانتفاء شرطها وهو المطلوب.
قوله: (ولهم ان يقولوا بل علقها باستمرار الاستقرار).
يعني وإذا كان كذلك فاستمرار الاستقرار جائز غير مستحيل وفيه حصول غرضهم من أنه علقها بأمر جائز لامستحيل فتكون جائزة ولايلزم عليه حصول الرؤية كما قاله أصحابنا فيما لو كان الشرط استقراره قبل الاندكاك أو بعده لأنه لم يستمر استقراره فلا يلزم حصولها.
قوله: (شبهة تمسكوا بقوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة}).
وجه احتجاجهم بها أن المراد بيومئذ يوم القيامة والمراد بناضرة حسنة من النضارة التي هي حسن الرونق وهي وجوه المؤمنين لأن وجوه العصاة ذلك لايوم باسرة كما حكاه تعالى وقوله: {إلى ربها ناظرة} ولامراد بناظرة ههنا رائية لأن النظر بمعنى الرؤية ههنا قالوا: ويؤكده أن النظر إذا علق بالوجه وعدي بإلى لم يحتمل إلا الرؤية.
قوله: (ويعقب النظر بالرؤية) إلى قوله: (ويجعل غاية له الرؤية).
وجه الاحتجاج بذلك على أن النظر غير الرؤية أن الشيء لايعقب بنفسه ولايجعل وصلة إليه، ولا غاية له، وكان المثل الموافق للوصلة أن يقول: رائية تنظر وقع مني ونحوه فأما انظر لعلك ترى فهو من قبيل ترجي الرؤية مع النظر لا من قبيل التصريح بكونه وصلة.
قوله: (قلنا محال بدليل قوله تعالى: {وتراهم ينظرون إليك}) إلى آخره.
يعني فجميع ما حكاه من الآيات وكلام /370/ العرب وأئمة اللغة قد حصل فيه اقتران النظر بإلى ولم يفد الرؤية فدل على استحالة ما ادعوه لغة، وقد اختلف في تفسير قوله تعالى: {وتراهم ينظرون إليك وهم لايبصرون} فقيل: نظر المقابلة وقيل: تقليب الحدقة لأن عبدة الأصنام كانوا يجعلون لها أعيناً من الجواهر واليواقيت فيخيل إلى من رآها أنها تقلب أحداقها، وقيل: بل أريد الرؤية مجازاً والتقدير: وتراهم كأنهم يرون وهم لايرون.
قوله: (وحكى الرازي عن الخليل).
يعني بالرازي ابن الخطيب الأشعري حكى في ذلك في كتابه الأربعين معترضاً به على دليل أصحابه.
قوله: (في البيت: نظر الظما حيا الغمام).
الظما جمع ظام، كالعطاش جمع عاطش، والحيا وهو مقصور مطر الربيع.
قوله: (والنظر مع كون البحر حائلاً هو الانتظار).
جملة المصنف على أن معنى البيت: إذا نظرت إليك والبحر بيني وبينك والظاهر أن مراده والبحر دونك في الكلام وذلك أن العرب تصف الكريم بالبحر ويطلقون لفظة البحر على الكريم تجوزاً واستعارة ويشبهون كرمه بكرم البحر ولذلك قال صاحب البردة يمدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
كالزهر في ترف والبدر في شرف ... والبحر في كرم والدهر في همم
وقال غيره:
هو البحر من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف والبر ساحله
وهذه الجملة وهي قوله: والبحر دونك جملة اعتراضية أريد بها تأكيد ما تصدى له الشاعر من بيان كرمه وكثرة إحسانه إليه.
قوله: (قال حسان:
وجوه يوم بدر ناظرات ... إلى الرحمن يأتي بالفلاح).
قيل: إن بعضهم رواه على وجه آخر وجعله لغير حسان:
وجوه ناظرات يوم بكر ... إلى الرحمان تنتظر الخلاصا
وزعم أن مراد الشاعر بيوم بكر يوم اليمامة، وسماه يوم بكر لأن الحرب فيه كان بين أصحاب أبي بكر رضي الله عنه وبين مسيلمة الكذاب واصحابه، وأراد بالرحمن في البيت مسيلمة وذلك لأنهم كانوا يسمونه رحمن اليمامة وكان أصحابه يطمعون في أن يخلصهم عن ذلك البلا وينظرون إليه في ذلك، والشاعر من أصحابه والحجة ثابتة على كلا الروايتين.
قوله: (وقال البغيث) هو بالباء الموحدة المفتوحة والعين المهملة المكسورة والياء الساكنة التحتانية والثاء المثلثة. قال الجوهري: هو شاعر من بني تميم سمي بذلك لقوله:
تبغث مني ما تبغث بعد ما ... استمر فؤادي واستمر سريري
قوله: (في حكاية الشعر: ويوم بذي قار).
قال الجوهري: يوم ذي قار يوم لبني شيبان وكان ابرويز أغراهم جنساً فظفرت به بنو شيبان وهو أول يوم انتصرت فيه العرب من العجم ووجه الاحتجاج بهذا البيت أن الموت لايصح رؤيته فوجب حمله على الانتظار لأن المعنى فيه صحيح.
قلت: والسابق إلى الفهم أن الشاعر أراد الرؤية تخييلاً وتصيراً لشدة الأمر وأن الموت كأنه برز في تلك الحال وصار مشاهداً. وقال الرازي: بل كنى بالموت عن الشجعان واستشهد بقول بعضهم:
وقل لهما ذروا بالغدر والتمسوا ... عذراً يبرركم إني أنا الموت
قوله: (لأن بعض المتعجرفين منهم).
قال في الصحاح: فلان يتعجرف على فلان، إذا كان يركبه بما يكره. انتهى. وأظنه ههنا من قولهم: جمل فيه عجرفة، إذا كان قليل المبالاة ولعمري أن مقالة هذا المتعجرف الذي ذكره المصنف تعاكس ما قاله الرازي منهم فإنه احتج على أن النظر ليس بمعنى الرؤية في كتابه الأربعين بخمس وعشرين حجة من الآيات والأثبات، وذكر مالم يذكره أصحابنا من ذلك فلله در الإنصاف.
قوله: (وبعد فهب أنه صحيح).
أي أن نسبته إلى بعض أهل اللغة صحيحة.
قوله: (لأنها فعل الله تعالى وغيرها من الإدراكات) /371/.
يعني على مذهب الخصوم فإنهم يذهبون إلى أن لارؤية معنى يفعله الله تعالى ولايكون إلا من فعله وكذلك سائر الإدراكات فأما مذهبنا فهي صفة مقتضاة عن الحيية وكذلك سائر الإدراكات والمقتضى لايوصف بأن له فاعلاً فلا يضاف إلى فاعل.
قول: (ولهذا لايذم أحدنا على العشق لأنه فعل الله تعالى).
إنما كان فعله تعالى على الإطلاق لأنه الشهوة التي تتعلق بالصور والألوان من بني آدم والشهوة يختص تعالى بفعلها على الصحيح من المذهب، ولايبعد أن يكون العشق على مذهب البغدادية من فعلنا أو يكون منه على رأيهم ما هو قبيح.
قوله: (التي هي معنى يحل العين).
يعني على مذهبهم.
قوله: (وليس الرؤية تقضي على العاشق بل هي مما يستلذ به).
ذكر الرازي في الأربعين عكس هذا الذي ذكره المصنف قال: ومعلوم أن الذي يقضي على العاشق رؤية المعشوق لاتقليب الحدقة نحوه وكلامه قوي ويؤكده ما يسمع به عن العشاق من تغيرهم بل موت بعضهم عند رؤية المعشوق والله أعلم.
قوله: (فكيف يسميها موتاً).
أي كيف يجعلها سبباً للموت لأنه قال: كادت تقضي عليه يعني تميته.
قوله: (ومنها أن ظاهرها يقتضي أن الوجوه هي الناظرة). إلى آخره.
يعني فإذا ثبت أنه لايمكن بنفيه الآية على ظاهرها من كل وجه ووجب تأويلها من وجه يثبت محاربتها وصح تأويلها من غير ذلك الوجه مع الموجب لتأويلها.
قوله: (فدل على أنه أراد ذوي الوجوه).
يعني مع أن ظاهرها لايقضي بذلك بل بخلافه فيكون حملها على ذوي الوجوه حملاً على غير ظاهرها.
قوله: (حيث قال للأعرابي) إلى آخره.
قال ذلك له وقد مر به وهو رافع يده إلى السماء شاخص بنصره إليها.
قوله: (وقد أسندت هذه الحكاية إلى ابن عباس).
ذكر الإمام يحيى عليه السلام في التمهيد رواية هذا التأويل عن أمير المؤمنين وحكى قريباً منه عن ابن عباس وهو أنه سئل عنها فقال: أهل الجنة ينتظرون رحمة الله وكرامته، وتلا قوله تعالى: {لاتدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار}.
قوله: (وابن المسيب) إلى آخره.
حكى الإمام يحيى عن ابن المسيب أنه قال: معناها تنتظر الثواب من ربها، وعن مجاهد أن معنى الآية حسنة مستيسرة تنتظر الثواب من ربها، وعن أبي صالح أيضاً أن معناها تنتظر الثواب من ربها، قال الإمام عليه السلام: فثبت أن المفسرين فسروا الآية بذلك ولم ينكر عليهم غيرهم فكان إجماعاً منهم فوجب حملها عليه.
قوله: (إن الله تعالى جعل الظن الذي هو الخوف) إلى آخره.
يعني حيث قال تعالى: {تظن أن يفعل بها فاقرة} وقد ذكر الإمام يحيى قريباً مما ذكره المصنف فإنه قال: يصير معنى الآية: وجوه يومئذ ناضرة أي ناعمة لثواب ربها منتظرة ووجوه يومئذ باسرة أي كالحة في مقابله قوله: ناظرة تظن أن يفعل بها فاقرة أي تخاف حصول العقاب وتتوقع هجومه وهي في مقابلة قوله: منتظرة لثواب ربها ليناسب آخر الكلام أوله، ويتسق نمط الآية.
قوله: (فيزدوج الكلام).
الازدواج والمزواجة والتزاوج بمعنى ذكره الجوهري.
قوله: (قالوا لو جعل عجز البيت الثاني) إلى آخره.
يعني فيصير البيتان هكذا:
كأني لم أركب جوادا ولم أقل ... لحبلى كرى كره بعد إحفال
ولم أشرب الروى للذة ... ولم أبتطن كاعبا ذات خلخال
لتناسب ركوب الخيل وكرها وقوع الكر بعد الركوب وشرب الرق ومباطنة الكاعب لكون الشرب من دواعي النكاح فكونهما من الملاذ المتلازمة في الأغلب، وقد يقال: إن كلام امرئ القيس متناسب فإنه جمع في البيت الأول بين ركوب الخيل للذة الاصطياد ونحوه لا للحرب وتبطن الكاعب مع أنه فرع من الركوب وشرب الرق وكر الخيل لأنه ربما مدعاه إلى التشجع والإقدام وكثيراً ما يعتاد ذلك، وقد ذكر في بعض الكتب أن رجلاً /372/ بغدادياً كان كثير الطعن على القدماء والمحدثين ورد على سيف الدولة فلما أنشد هاذان البيتان بحضرته طعن فيهما بهذا المعنى المذكور.
فقال رجل آخر حاضر: لا ولا كرامة لهذا الرأي الله أصدق منك حيث يقول: {إن لك ألا تجوع فيها ولاتعرى وأنك لاتظمأ فيها ولاتضحى} فأتى بالجوع مع العرى ولم يأت به مع الظما. قال مصنف ذلك التكاب: وقول امرئ القيس أصوب ومعناه أعز وأغرب لأنه أراد بقوله للذة الصيد هكذا قالت الحكما ثم حكى عن شبابه وغشيانه النساء فجمع البيت معنيين ولو نظم على ما قاله المعترض لنقص فائدة عظيمة وفضيلة شريفة. ولو نظر البيت الثاني كما ذكر لكان ذكر اللذة حشواً لا فائدة فيه لأن الزق لايسبا إلا للذة.
وأما الآية الكريمة فجارية على مايعتاد من ذكر العرى مع الجوع، يقال: جائع عريان، ولايقال: ظمئان وبين الظمأ والضحى تناسب لأن الضاحي من لايستره شيئ عن الشمس، ومن حقه أن يظمأ يعم أكثر الروايات، ولم ......... الزق الروي يقال: سبا الخمر إذا شراها ليشربها.
قوله: (وهذا مروي عن أمير المؤمنين).
روي في التمهيد عنه عليه السلام أنه قال: إلى ثواب ربها ناظرة. وعن النخعي قال: حدثنا من سمع علياً عليه السلام يقول: في قوله تعالى: {إلى ربها ناظرة} إذا جاز المؤمنون الصراط فتحت لهم أبواب الجنة فينظرون إلى ما أعد الله لهم من الثواب والكرامة وما يعطون من النعم.
وروي عن ابن عباس: إلى ثواب ربها ناظرة. وعن مجاهد وقتادة مثله. وعن سعيد بن مسلم قال: سألت سعيد بن جبير عن قول الله تعالى: {إلى ربها ناظرة} فقال: ما يقول أهل العراق؟ فقلت: يزعمون أنهم يرون الله تعالى. قال: كذبوا أليس الله تعالى يقول: {لاتدركه الأبصار}؟ قلت: فما تقول في قوله: {إلى ربها ناظرة} قال: إلى ثواب ربها ناظرة.
قوله: (ويمكن مجامعته للأول) إلى آخره.
يعني فتحمل ناظرة على معنيين: ألانتظار والرؤية للثواب، وهو ينبني على أنه يصح أن يقصد باللفظ الواحد معنييه أو معانيه حيث يكون مشتركاً وفيه خلاف وسيأتي تحقيق ذلك في آخر الكتاب.
وفيما ذكره المصنف تسليم أن الرؤية من معاني النظر.
قوله: (فإن قيل: إن في الانتظار تنغيصاً) إلى آخره).
هذا سؤال يرد على التأويل الأول. والجواب عنه من وجهين معارضة وتحقيق، فالمعارضة بالرؤية فإنها لاتستمر لأهل الجنة بل لاتقع حال الوطء والمداعبة ونحو ذلك من جميع الحالات التي يستحي العبد من رؤيته لله تعالى وهو عليها.
إذا ثبت ذلك قلنا: فهو في هذه الحال ونحوها ينتظر حصول التلذذ برؤيته تعالى عندهم لأن رؤيته أعظم الثواب عندهم، ولهذا قيل يلزمهم القول بأن الشهوة تتعلق به تعالى أن يصح تعلق النفرة به فيلزم أن تكون رؤيته عقوبة لأهل النار كما أنها مثوبة لأهل الجنة وهم لايقولون به فما أجابوا به في انتظار الرؤية فهو جوابنا في انتظار الثواب. وقد أشار المصنف إلى هذه المعارضة في آخر جوابه.
وأما التحقيق فقد استوفاه المصنف وقد أورد عليه الرازي أنه وإن كان لا مشقة في الانتظار إذا كان على الصفة التي ذكرتم ولا غم معه فإنه مما لم تجر العادة بالتلذذ به في الدنيا والمسرة فلا تحسن البشارة بما هه صفته وإن فرضنا أنه لامشقة فيه بل لو قدرنا حصول لذة فيه لم تحسن البشارة به أيضاً لما لم يكن مما يعتاد الانتفاع به في الدنيا كما أنه لايحسن منه تعالى أن يعدنا /373/ بإدخال النار وإن أخبرنا بأنا نتلذذ بإدراكها لما لم يكن مما يعتاد الانتفاع به في الدنيا.
وأجيب بعدم التسليم فإنه يحسن من الله تعالى أن يعدنا بالانتظار على الصورة التي ذكرناها. قوله: فإنه مما لم تجر العادة بالتلذذ به في الدنيا والمسرة.
قلنا: لانسلم بل بالانتظار على الصورة التي ذكرناها تقع المسرة في الدنيا فإن من كان بين يديه طعام شهي لذيذ وهو مع ذلك منتظر لغيره من أنواع الطعام اللذيذة قاطع بحصولها فإنه يستر بذلك سروراً عظيماً فكذلك في الآخرة.
قوله: (كما لايحسن منه تعالى أن يعدنا بدخول النار) إلى آخره.
قلنا: لانسلم بل إذا وصف للمطيع تلذذه بالكون فيها وحصول السرور بذلك حتى يعلمه نتيقنه حسن من الله تعالى أن يعده بذلك مع أن هذا ليس وزانا لمسألتنا لأن دخول النار مما يقع به التألم في الدنيا والتضرر بخلاف الانتظار على الصورة التي ذكرناها فإنه يقع معه السرور لأجلها دنيا وآخرة.
قوله: (ما أنكرتم أن الإلى واحدة الآلاء).
إنما عرف إلى للعهد لأن المراد الإلى المذكورة في الآية وقد أورد على هذا أن الزمخشري وهو من أئمة النجاة النافين للرؤية ذكر في مفصله عند ذكر الحروف الجارة أن (إلى) لاتكون إلا حرفاً فكيف يجعلونها اسماً ويحكمون بأنها واحدة الآلاء.
والجواب قال الإمام يحيى عليه السلام: ما ذكره الزمخشري طأ وجهل بمقاصد النجاة واحتج في التمهيد لصحة كونها اسماً بحجج واضحة وأضاف القول بأن إلى واحدة الآلاء إلى الزهري، قال: ذكره في مهذبه والمبرد وابن الأعرابي وذكره ابن دريد في الجمهرة وابن السكيت في المقصور والممدود.
قال: وأنشدوا للأعشى: أبلج لايرهب الهزال.. إلى آخره. وقد قيل: إن الذي حكي عن الأزهري من كونها اسماً إنما أراد به مع تنوينها وهي في الآية غير منونة.
وأجيب بأنها في الآية مضافة فلهذا لم ترد منونة لأن الإضافة تمنع التنوين وأورد أن البيت منسوب إلى الأعشى وهو ركيك لايقع في شعر مثله ثم أنه قال فيه: ولايخون إلى وأراد بالخيانة ههنا جحود النعمة وإنكارها ولامستعمل في السنة أهل اللغة كفران النعمة لا خيانتها.
والجواب: لعله يدل الكفران بالخيانة لاستقامة الوزن بها وعدم استقامته بغيرها تجوزاً ومن تأويلات هذه الآية ما ذكره الإمام يحيى عليه السلام وهو أن إلى قد تجيء بمعنى عند ذكره الأزهري في التهذيب، وذكر ابن السكيت أيضاً أن إلى بمعنى عند قد جاء وأنشد أوس:
فهل لكم فيها إلى فإنني ... بصير بما أعيى النطاشي حذيما
أي فهل لكم فيها عندي فعلى هذا يكون معنى الآية: وجوه يومئذ ناضرة عند ربها ناظرة.
قوله: (لقوله تعالى: {يا أيها الإنسان} إلى آخره).
يعني واسم الجنس المعرف بالألف واللام من ألفاظ العموم ولهذا قسمهم بعد ذلك فدل على استغراقه.
قوله: (لكان كأنه قال: واعلموا أنكم من أهل الثواب).
يعني لأنهم جعلوا الملاقاة الرؤية والرؤية لاتكون إلا للمثابين لأنها من أعظم الثواب على مذهب الخصم فاختاره تعالى بأنهم ملاقوه إخبار بأنهم يرونه واخباره بأنهم يرونه كإخباره بأنهم يثابون.
قوله: (وما وعد من ثواب أو عقاب).
يعني بقوله تعالى: {تحيتهم يوم يلقونه} أي يلقون ثوابه وقوله: {فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه} أي يلقون عقابه وقوله تعالى: {واعلموا أنكم ملاقوه} وقوله: {يا أيها الإنسان} إلى آخرها أريد بالملاقاة فيهما ملاقاة الثواب في حق المطيعين وملاقاة العقاب في حق العاصين.
قوله: (فإن ذلك هو الذي يصح فيه معنى الملاقاة).
يقال: ألست ذكرت أن معنى الملاقاة تقابل الشيئين وتقاربهما بعد مباعدة وذلك لايكاد يتصور في العقاب والثواب. /374/
والجواب: أن هذا المعنى إلى الحقيقة أقرب من رؤية الله تعالى فيكون من قبيل المجاز الأقرب في وجوب حمل الكلام عليه وقد قيل: المراد في قوله تعالى: {تحيتهم يوم يلقونه سلام} أي يوم يلقون ملائكته.
قوله: (تمسكوا بقوله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون}).
وجه احتجاجهم بها أنها وردت في المعذبين والمراد أنهم محجوبون عن رؤية ربهم وفي ذلك دليل على أن المثابين لايحجبون عن رؤيته تعالى وأنهم يرونه.
قوله: (وتقديره عندنا عن رحمة ربها). يعني عن ثوابه وعطائه لأنه الذي يتصور فيه معنى الحجاب.
قوله: (فإن هذا من الخطابات التي لامفهوم لها اتفاقاً بين المحققين).
وذلك لأنه من قبيل مفهوم اللقب كما نصوا عليه في مثل قولك زيد موجود أنه لايدل على عدم غيره ولم يخالف في ذلك إلا قليل سلكوا غير منهج التحقيق وأما غيره كمفهوم الصفة نحو: في الغنم السائمة زكاة فهم مختلفون فيه فمذهب أصحابنا وابن شريح وأكثر الحنفية أنه لامفهوم للصفة يجب العمل به وذهب الشافعي وابن حنبل والأشعري والجويني إلى أنه يعمل بمفهوم الصفة وهذا الخلاف إنما هو في باب العمل فأما العلم فلا كلام في أن المفاهيم لاتوصل إليه وعلى هذا فتمسكهم بتلك الآية تمسك فارغ.
قوله: (وإنما يروون في تفسيرها خبراً عن أبي بكر).
روي عنه رضي الله عنه أنه قال: الزيادة النظر إلى وجه الله، وأما الرازي فروى في تفسيرها خبراً عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: قد صح عنه أنه قال: (( الزيادة هو النظر إلى وجه الله تعالى )) .
قوله: (غرفة في الجنة).
الغرفة: ألعلية والجمع غُرُفات وغُرَفات وغُرْفات وغُرَف.
قوله: (انتظارهم لما يزيدهم الله من فضله).
هذا التفسير يصلح أن يكون تأويلاً للخبر الذي ذكره الرازي وهو الزيادة النظر إلى الله تعالى فيكون بمعنى الانتظار.
قوله: (سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر).
تمام هذا الحديث المروي عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( لاتضامون في رؤيته )) ويروى بتشديد الميم يعني لاتزدحمون كما أن القمر لايزدحم عند رؤيته.
قال ابن الأثير: ويجوز على هذا ضم الياء وفتحها على تفاعلون ويتفاعلون وتضم التاء والتخفيف بمعنى لاينالكم ضيم في رؤيته فيراه بعضكم دون بعض والضيم الظلم هكذا ذكره في النهاية.
قوله: (وهو مطعون في سنده) إلى آخره.
يقال: أكثر ما يقتضيه ذلك الطعن أن رواية فاسق تأويل ورواية فاسق التأويل بل كافره مقبولة على الصحيح.
والجواب: أن كلامه مبني على أن رواية فاسق التأويل وكافره وشهادتهما غير مقبولة وهو مذهب الجمهور من المتكلمين والمروي عن القاسم والهادي والناصر والمنصور عليهم السلام، وإن كان من العلماء من يذهب إلى قبول روايتهما وهو المروي عن السيد لامؤيد بالله، وفي رواية أيضاً عن القاسم والهادي وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وبيان أدلة ذلك وموضع ذكرها أصول الفقه.
قوله: (ثم كان من أصحاب معاوية من تعد).
روي أنه لما لحق بمعاوية هدم أمير المؤمنين عليه السلام داره ومما يروى عنه أنه كان يقول: إن علياً ليس من أوليائي إنما وليي الله ورسوله وصالحوا المؤمنين.
قوله: (وبعد فظاهر الخبر يقتضي التشبيه) إلى آخره.
يقال: ليس في الخبر ألا نشبهه تعالى بالقمر في تجلي الرؤية وحصولها بسهولة لا في شكله وصورته.
وأجيب بأن التشبيه في الرؤية تشبيه في المرئي وإن كنا نسلم أنه ليس في الخبر ما يدل على ذلك.
قوله: (ونحوها مما لايجوز على الله تعالى).
يعني من كونه على شكل الاستدارة وهيئة الإضاءة والإنارة.
قوله: (ومنه قوله عليه السلام: (( ليس لعين /375/ ترى الله يعسى ثمامة فتطرف حتى تغير أو تنتقل )) وفي عد الرؤية هنا مما ورد بمعنى العلم نظر والظاهر أنها الرؤية الحقيقية ولو كانت بمعنى العلم لم يكن لنسبتها إلى العين وجه والذي ذكره لايقضي بصرفها عن ذلك فإن وجوب الإنكار على من علم يؤخذ من غير هذا الخبر.
قوله: (ولصق بالأرض).
تمام الخبر: وقال لن يراه أحد ولاينبغي لأحد أن يراه.
قوله: (حاكياً عن عائشة: ثلاث من قالهن فقد أعظم الفرية على الله تعالى).
الخبر تمامه: (( من زعم أن محمداً رأى ربه مع قوله تعالى: {لاتدركه الأبصار}، ومن زعم أن محمداً يكتم شيئاً من الوحي مع قوله: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك فإن لم تفعل فما بلغت رسالاته، ومن زعم أن محمداً صلى اللّه عليه وآله وسلم يعلم الغيب مع قوله تعالى: {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء )) .
تنبيه
قال أصحابنا: يلزم المكلف في هذه المسألة أن يعلم أنه تعالى لايرى نفسه ولايراه غيره بل لايدرك بحاسة من الحواس لا في الدنيا ولا في الآخرة، وأنه لايجوز ذلك عليه فيما لم يزل وفيما لايزال ولاتجوز لارؤيته وإدراكه بحال من الأحوال.
القول في أن الله تعالى واحد لاثاني له
قوله: (لاقتضائه التناهي والتجديد).
إن قيل: فما قولكم في قوله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولاخمسة إلا هو سادسهم}.
قلنا: المراد بذلك رابعهم وسادسهم في العلم بما يتناجون به لا رابعهم وسادسهم في العدد ولابمعنى أنه كأحدهم وبصفتهم فهو يتعالى عن ذلك، ومما يدل على امتناع الواحد في حقه تعالى بهذا المعنى قول أمير المؤمنين عليه السلام واصفاً له تعالى واحد لاتعدد دائم ثم لا بأمد دائم لا بعمد.
قوله: (خلافاً لعباد).
الظاهر من كلام غير المصنف وقوع الاتفاق على أنه إذا أضيف إلى ذلك قولنا حي فإنه مدح كما إذا قيل: الحي الذي لايتجزى وإنما الخلاف في أنه هل يجري عليه تعالى واحد بمعنى أنه لايتجزى مع عدم اقتران كونه حياً به فذهب الجمهور إلى جواز ذلك وذهب عباد إلى أنه لايصح وصفه بذلك لأنه يوهم كونه تعالى جوهراً واحداً أو ذاتاً واحدة من الأعراض.
قوله: (وأما من بعض الوجوه).
أي وإما أن يكون عدم قبوله للتجزئ من بعض الوجوه وهو الوجه الذي جعل واحداً من جهته فإن الإنسان لايكون إنسانين ولا الدار دارين.
قوله: (وهذا المعنى مستحيل في حقه تعالى).
يعني لإفادته أنه واحد له أبعاض والله يتعالى عن ذلك.
واعلم أن هذه المعاني التي تقدم ذكرها هي معاني الواحد لغة وأما معنى الواحد عرفاً فهو ما ذكره بقوله: وقد يراد به المختص بصفات الكمال أو بعضها على حد فعل المشاركة له فيها وهذا المعنى أيضاً مستحيل في حقه تعالى لأنه يقضي بصحة مشاركة الغير له فيها.
قوله: (وقد يراد به واحد القدم) إلى آخره.
هذا حده في اصطلاح المتكلمين.
قوله: (وهو المتفرد بصفات الكمال).
يعني من الوجود والقادرية والعالمية والحيية ونحو ذلك فإنه لايشاركه فيها مشارك على الحد الذي يستحقها وهو الوجوب والثبوت في الأزل وهذا معنى انفراده تعالى بها.
فصل
ذهب المسلمون إلى أن الله تعالى واحد لا ثاني له تعالى في القدم والإلاهية.
قوله: (وخالفت الثنوية) إلى آخره.
قيل: أما إثبات ثاني يشارك القديم في جميع ما يجب له من الصفات ويستحيل عليه فلا قائل به ولامخالف فيه يثبته، وإنما خلاف هؤلاء المخالفين بإثبات ثان يشاركه في بعض الصفات وإنما سميت الثنوية ثنوية لقولهم بإلهين اثنين.
قوله: (حاكياً عنهم وإن كل خير فهو من النور بطبعه وإن كل شر فهو من الظلمة).
الخير عندهم /376/ ما تميل النفوس إليه وتلتذ به، والشر ما تنفر عنه وتنقبض سواء كان ما تميل إليه النفوس أو تنفر عنه حسناً او قبيحاً واتفقوا أيضاً على أن النور والظلمة قديمان.
قوله: (وأن العالم ممتزج منهما).
اعلم أن الذي أداهم إلى القول بأن العالم ممتزج من النور والظلمة أن قالوا: إنا وجدنا أجسام العالم على ضربين أحدهما ذو ظل وطول يستر غيره من أن يقع عليه النور وينفي عنه النور المشرق الثاني الظل له كالأجسام النيرة المشرقة كالشمس وسائر الأنوار، فعلمنا أن العالم نور وظلمة وأنهما ممتزجان وأنهما ضدان متنافيان بنفي أحدهما الآخر فما كان له ظل فهو من جنس الظلام وما لم يكن ذا ظل فهو من جنس النور فلهذا حكموا بأن العالم ممتزج منهما، واختلفوا في كيفية الامتزاج فمنهم من قال أن قطعة من النور خرجت غازية للنور فأحاطت الظلمة بالقطعة التي غزتها من النور فامتزجا وأحاط النور بالقطعة التي غزته من الظلمة.
وقال بعضهم: إن النور لما كانت جهته العلو وجهة الظلمة السفل دفعها النور بالاعتماد عليها فاندفع فيها لشدة انغماسه فخالطها. وقال بعضهم: لما كانت الظلمة ذات خشونة وغلظة على النور أراد أن تليها بالدخول فيها فلما دخل فيها غلبت عليه فامتزجا. وقال بعضهم: بل اتفقا في جهة الاتصال بينهما فامتزجا من غير قصد ولاعمد.
وروي عن أبي الهذيل أنه قال: قلت لرجل من المجوس حدثني عن الإنسان ما هو؟ قال: من أصلين قديمين امتزجا وهما نور وظلام. فقلت له: أخبرني عن هذا النور ما جاء به إلى الظلام حتى مازجه أجاء إلى أنسه وألفه وشكله أم جاء إلى ضده وعدوه؟ فقال: بل أتى ليؤديه.
فقلت: فهل عنده أن الظلام يقبل الأدب فتنقلب طبيعته؟ قال: لا. قلت: فهو كمن قال للنار كوني برداً وسلاماً. فلما سمع قومه هذا الجواب أنكروه وقالوا: أليس هذا جوابنا بل الجواب أن لاظلام وثب على النور فأسره. قلت: فهل يكون الأسر إلا عن فضل قوة فأسر النور لايكون إلا عن ضعفه وقوة الظلام، وذلك خير في الظلام وشر في النور فانقطعوا وقالوا: أهل دينكم أصحاب إبل غلاظ الطباع حفاة فمن أين جاءكم هذا التدقيق؟!
قوله: (وإنهما غير متناهيين إلا من جهة التلاقي).
اعلم أنهم يذهبون إلى أن جهة النور العلو وجهة الظلمة السفل ولكل واحد منهما ست جهات، خمس لاتنتهي منها وتنتهي من السادسة، فالنور لاتنتهي إلا من جهة السفل لأن الظلمة تلاقيه منها والظلمة لاتنتهي إلى من جهة العلو لأن النور يلاقيها منها، واحتجوا لذلك بأن الحس يشهد بأن الأجسام النورية صاعدة أبداً والأجسام المظلمة هابطة أبداً فلو كان النور متناهياً من جهة الفوق لكان يجب أن يتصاعد أكثر مما يتصاعد لأن صعوده بطبعه فلو كان يمكن صعوده لوجب وكذلك قالوا في الظلمة.
قوله: (فقالت المانوية).
هم منسوبون إلى رجل يقال له: ماني بن بريك. وقيل: مانيا وهو من دعاتهم وأخذ مذهبه أو أكثره عن قوم كانوا يقولون بذلك، وقيل: أنه ادعى النبوة وجاء بكتابين سمى أحدهما الإنجيل والآخر الشابرقان وله شريعة وكان ينهى قومه عن ادخار فوق قوت يوم وكسوة سنة وينهى عن السرق والزنا ودخول بيت الأوثان، وروي أن ماني بن بريك ظهر في أيام سابور بن ازدشير وهو تلميذ لقاردون، فقال سابور بمقالته من إلهية النور والظلمة، ثم عاد بعد ذلك إلى دين المجوسية ولما يملك ولد ولده بهرام بن هرمز بن سابور /377/ أتاه ماني فعرض عليه مذاهب الثنوية فأجابه احتيالاً عليه إلى أن أحضر له دعاته المتفرقين في البلاد الذين يدعون الناس إلى مذاهب الثنوية فقتلهم.
ومذهب المانوية كما ذكره ولم يفرقوا بين النور والظلمة إلا أن النور يستعمل حياته وسمعه وبصره في الخير، والظلمة عكسه.
قوله: (وقالت الديصانية). قد يقال فيهم: الريصانية.
قوله: (وقالت المزدكية). اسمهم في كتب كثيرة من جملتها التمهيد مثبت بالقاف بدلاً عن الكاف منسوبون إلى رجل يقال له: مزدق، وكان ادعى الربوبية تعالى الله عما يقول الجاهلون ، وقتله على ما روي كسرى أنوشروان.
قوله: (وأثبت المرقبونية). هم منسوبون إلى رجل يقال له مرقبونا.
قوله: (وسمت المجوس النور يزدان والظلمة أهرمن).
هم مع ذلك يقولون بأن كل خير من يزدان بطبعه وكل شر من أهرمن بطبعه ومما روي عنهم أن الأرواح من يزدان والأجساد من أهرمن والذي ذكره أكثر المتكلمين عنهم أن مرادهم بيزدان الباري تعالى وباهرمن الشيطان، وأن الباري تعالى ليس هو النور والشيطان ليس هو الظلمة بل الله تعالى على صفاته التي يعتقدها والشيطان أيضاً حي قادر فمنهم من قال: هما جسمان ومنهم من قال: ليسا بجسمين، ومنهم من قال: بل أهرمن جسم ويزدان ليس بجسم، ومنهم من عكس. والذي يلوح من كلام السيد الإمام والمصنف أنهم يريدون بيزدان النور وبأهرمن الظلمة وأنهم لايخالفون الثنوية إلا في العبارة.
قوله: (من عفونة كانت قديمة). العفونة: ألمزبلة.
قوله: (من فكرة يزدان الردية).
جعلوها ردية لتولدها أهرمن مع أنه رأس كل شر منها قالوا: وتلك الفكرة أن يزدان لما استتم أمره فكر في شأنه فقال: كيف يكون حاله لو كان معه ثاني منازع فحدث أهرمن من هذه الفكرة، وقال: هأنا منازعك ومخاصمك.
قوله: (وزعموا أن عند حدوث هذا الثالث).
كان صوابه الثاني إلا أن يريده ثالث يزدان والعفونة، أو ثالث يزدان والفكرة وفيه بعد فلعله من سهو القلم.
قوله: (حصل بينهما حرب).
الذي يحكى عنهم في تفصيل ذلك أن الدنيا كانت ذات بهجة سليمة من الآفات وكان إبليس بمعزل عن النور وكان في الظلمة فاحتال بشياطينه في الوصول إلى الدنيا ورام دخولها فخرق خرقاً فدخلها بشياطينه وجنوده وهزم يزدان وملائكته وجنوده ومنعه حتى أدخله الجنة وحصره فيها وحاربه ثلاثة آلاف سنة فصالح بينهما مهروس وسهيل ورامسان من الملائكة على أن يكون إبليس وجنوده في العالم ..... سبعة آلاف سنة بثلاثة الآلاف سنة التي حارب فيها يزدان، وأن يزدان رأى أن الصلح واحتماله للمكروه هو وملائكته وجنوده إلى انقضاء الأجل أصلح قالوا: واشترط إبليس لنفسه وجنوده ثمانية عشر شرطاً جملتها تعود إلى أن يصير له حظ في خلقة الرياح والماء والنار والمودة وتسليط خلقه على خلق الله قالوا: لما استقاما على شروطهما أشهدا على أنفسهما عدلين ودفعا سيفيهما إلى المصالح بينهما فمن رجع عن شرطه ونكث عن عهده قتل بسيفه ولهم من هذه المقالات الهوسية ما يطول ذكره ويستهجن زبره ولولا استدعاء كلام المصنف لإيراده لما حسن أن يودع الأوراق وينشر في الآفاق، فأخرس الله ألسنتهم وأعمى أبصارهم كما عميت بصائرهم.
وأكثر المحكي من مذاهبم يستند إلى معتمد الشيخ ابن الملاحمي.
قوله: (بعدة الأفلاك السبعة).
هي زحل، والمشتري، والمريخ، والشمس، والزهرة، وعطارد، والقمر.
قوله: (وفيهم قائلون بالتناسخ).
يعني تناسخ الأرواح على ما يأتي ذكره في باب الآلام /378/.
قوله: (فاتفقوا على أن الله تعالى جوهر واحد ثلاثة).
أفأنتم الذي قادهم إلى ذلك؟ إن قالوا: إن صانع العالم إما جوهر أو عرض لايصح كونه عرضاً لأن العرض لايقوم بنفسه ولايصح أن يفعل فبقي أن يكون جوهراً فإنما بنفسه ولايكون متحيزاً لن ذلك لايكون إلا مع حدوثه فبقي أنه جوهر قائم بنفسه غير متحيز وهو متكلم حي، والأفنوم عندهم الشيء المفرد.
قوله: (وأفنوم الابن).
وهو الكلمة المحكي عنهم أن أفنوم الابن هو الكلام والمعنى متقارب وقد اختلفوا في تفسير الأقاسم فمنهم من جعلها ذوات فأفنوم الابن الكلام أو العلم وأفنوم روح القدس الحياة. وقال بعضهم: بل هي أشخاص. وقال بعضهم: بل هي صفات.
قوله: (وروح القدس قابضة بينهما).
زعموا أن الابن لم يزل يتولد عن الأب تولد الضياء عن الشمس قالوا: ولم يزل أفنوم روح القدس الذي هو الحياة قابضاً بينهما بمعنى أنه جامع بين الأب والابن وقد فسر بعض أصحابنا قولهم بالأب والابن وروح القدس بما يقوله الفلاسفة من أنه تعالى عقل وعاقل ومعقول فهو من حيث أنه عقل أفنوم الأب، ومن حيث أنه عاقل لذاته أفنوم الابن، ومن حيث أنه معقول لذاته أفنوم روح القدس.
قوله: (فقيل هي الجوهر وهو هي).
هذا قول اليعقوبية والنسطورية منهم، وإن كان قد رويعن بعض النسطورية أن كل أفنوم إله ناطق وقالت الملكانية منهم بل الجوهر غير الأفانيم.
قوله: (واتفقوا على اتحاد الكلمة) إلى آخره.
يريدون بالكلمة أفنوم الابن لأنه عندهم المتحد بعيسى دون أفنوم الأب.
قوله: (ممازجة الدهن للسمسم). السمسم حب الجلجلان.
قوله: (فصار المسيح جوهراً من جوهرين).
قد مثلوا ذلك بالفحمة إذا ألقيت في النار فصارت جمرة فإنها ليست بنار خالصة ولا فحمة خالصة.
قوله: (وقال النسطورية: ادَّرَعَتْه).
أي ادرعت الكلمة التي هي أفنوم الابن عيسى.
قوله: (فالمسيح عندهم جوهران على الحقيقة).
تلخيصه: أنهم ذهبوا إلى أن جوهر الابن اتحد بجوهر المسيح فصار من اثنين فالمسيح عندهم جوهران جوهر قديم هو الكلمة، وجوهر محدث هو شخص المسيح فالمسيح إله تام وإنسان تام، قالوا: وكان حصول الكلمة مع عيسى على جهة المجاورة فادراعها له كادراع الشمس للجدار، وروي عنهم أيضاً القول بأن أفنوم الابن اتخذ عيسى هيكلا ومحلاً.
قوله: (بمعنى الانسانية المتصورة في الذهن).
أرادوا أن ادراع الكلمة هو لمعنى الإنسانية الحاصلة في عسى لا الشخصية وهو قول الملكانية فإن الإمام يحيى حكى عنهم أن الاتحاد كان بالإنسان الكلي وحقيقة الكلي هو الذي لايمنع تصوره من وقوع الشركة فيه ..... الإنسان من حيث أنه إنسان حقيقة واحدة يشترك فيها الأشخاص المفردة مثل زيد وعمرو.
قال عليه السلام: والباقون أثبتوا الاتحاد بالإنسان الجزئي. ومعناه: هو الذي يمنع نفس تصوره من وقوع الشركة فيه فإن زيداً لمكان حقيقته المعينة يمتنع وقوع الشركة فيه، وقد قال بعضهم: معنى اتحاد الكلمة بعيسى تدبيرها للأمور على يديه.
قال الإمام يحيى: وللنصارى سبحة معروفة من أكثر ما نقل عنهم وهي قولهم: نؤمن بالله الواحد الأب مالك كل صانع ما يرى وما لايرى وبالذات الواحد أيسوع المسيح بن الله ذكر الخلائق كلها الذي ولد من الله قبل العوالم كلها وليس بمصوغ إله من إله حق من جوهر الله الذي أتقن العوالم كلها وخلق كل شيء من أجلنا معاشر الناس ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد بروح القدس وصار إنساناً وحبل به وولد وقتل ودفن وقام بعد ثلاث وصعد إلى السماء وجلس عن /379/ يمين الله وهو مستعد للمخرج تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الذي خرج من الله وبمعمودية واحدة لغفران الخطأ به وبجماعة واحدة وبقيامه أبداً بنا والحياة الدائمة إى أبد الآبدين.
قال عليه السلام: ولهم أقاويل مختلفة ومذاهب مضطربة ومن أحاط علماً بما ذكرناه عنهم هان عليه مناقضتها وإفسادها.
قال عليه لاسلام: واعلم أن أقرب النصارى إلى الحق وأكثرهم أيضاً فريقان أحدهما البولية أصحاب بولي، فإنهم قالوا: الله واحد والمسيح ابتدئ ومن مريم ابتداء وأنه نبي صالح عبد مخلوق إلا أن الله شرفه وكرمه وسماه ابناً على طريق التبني لا من طريق الولادة، ولعل التبني في لغتهم موضوع للإكرام والتعظيم من غير أن تعتبر فيه المجانسة ولذلك قالوا تبناه الله.
الفريق الثاني: الأرضوسية منهم فإنهم زعموا أن عيسى كان عبدالله ولكنه اتخذه ابناً على سبيل التشريف وغرضهم بالتبين الإكرام والإعظما لاحقيقة البنوة كما حكيناه عن الفريق الأول.
قوله: (فإن هذا مذهب جمهور النصارى).
فيه نظر وإنما هو مذهب فرقة منهم من ثلاث فرق إذ فرقة أخرى قالت: ذواق وفرقة أخرى قالت: أشخاص، إلا أن يكون المصنف فهم أن تلك الفرقة أكثرهم.
قوله: (وذلك هو مذهب النصارى في الأفانيم).
فيه نظر لأنه ليس بمذهب جميعهم بل مذهب بعضهم لكنهم الأكثر.
قوله: (فإن عندهم أنها لاتستقل بنفسها).
يقال: أما الذين قالوا: إن الأفانيم ذوات فجعلوها مستقلةوقد صرح بذلك بعض أصحابنا وجعله وجه الفرق بين كلامهم وكلام المجبرة.
فصل
ودليل أهل الحق أنه لو كان معه تعالى قديم ثان لصح بينهما التمانع وصحة التمانع محال.
قوله: (فهذان أصلان) الأول أنه لو كان معه تعالى ثان لصح بينهما لاتمانع والثاني أن صحة التمانع محال.
قوله: (يقتضي اشتراكهما في القادرية وسائر صفات الذات). قد تقدم تقرير هذه القاعدة في فصل الكيفية فلا وجه لإعادته.
قوله: (ومن حق كل قادرين صحة التمانع بينهما). الذي يدل على ذلك ويوضحه مع ما ذكره أن القادرين إن كانا قادرين للذات كان كل واحد منهما قادراً على جميع أجناس المقدورات وإن كانا قادرين بقدرة كان كل واحد منهما قادراً على جميع الأجناس العشرة ومن حق كل قادرين اختلافهما في أعيان المقدورات لما تقدم من استحالة مقدور بين قادرين ومن حقهما صحة اختلافهما في الدواعي.
قوله: (والتمانع) إلى آخره.
ينبغي ههنا ذكر حقيقة التمانع والمانع والممنوع والممنوع منه، فالتمانع حقيقته: ما ذكره المصنف. والمانع هو ما لأجله يتعذر على القادر إيجاد مقدوره مع بقا حاله في كونه قادراً هذا إذا استعمل في الفعل، وأما إذا استعمل في الفاعل فهو من تعذر لأجل ما أوجده على غيره إيجاد مقدوره، والممنوع من تعذر عليه إيجاد مقدوره لأجل ما فعله الغير . والممنوع منه ما تعذر إيجاده لأجل ما فعله الغير.
واعلم أن لاذي يقع به التمانع بين القادرين جنس الاعتماد وشرطه اختلاف الاعتمادات الحاصلة من كل واحد منهما، كمتجاذبي الحبل فإن أحدهما يجذبه إلى غير الجهة التي يجذبه إليها الآخر فيقف الحبل بينهما لاو ينجذب إلى إحداهما دون الأخرى، فالتمانع يقع بأمرين مختلفين موجودين وهما الاعتمادان فإنهما موجودان ومختلفان لتغاير الجهتين بواسطة ضدين معدومين في حكم الموجودين وهما الكونان اللذان يولدهما الاعتمادان لو لم يقع التمانع وهما في حكم الموجودين لوجود أسبابهما.
هكذا قيل وهو خلاف ما ذكره الفقيه حميد من ذكر أن التمانع يقع بأمرين معدومين بواسطة فعلين موجودين وهو الذي يقضي به كلام ابن متويه، وإذا تأملته /380/ فهو خلاف في عبارة مع أنه لاخلاف في أن المانع لايقع إلا مع الاعتمادات على الصفة المتقدمة وإنما الخلاف فيما به يقع التمانع. فقال أكثر المتكلمين يقع بالاعتمادات بواسطة الأكوان المتولدة عنها.
وقال الفقيه حميد: بل يقع بالأكوان المعدومة بواسطة الاعتمادات الموجودة ولا كلام في أن التمانع لايقع بمعدوم من غير واسطة لأن المعدوم لاحكم له ولاتأثير ولابموجود صرف لأن مع الوجود لا يمانع، ولابموجود ومعدوم لن الموجود غير ممنوع منه والمعدوم لا أثر له. وإذا قيل: إن التمانع قد يقع بغير الفعل فحقيقته أن يحاول كل واحد من القادرين ضد ما يحاول الآخر على وجه يتعذر من كل واحد منهما إيجاد ما يحاوله.
قوله: (فلأنا إذا قدرنا أن أحد القديمين أراد تحريك الجسم يمنة وأراد الآخر تحريكه يسرة).
يعني بأن يوجد أحدهما فيه اعتماداً إلى إحدى الجهتين والآخر اعتماداً إلى الجهة الخرى فإما أن التمانع يقع بين المراد والمكروه بواسطة الإرادة والكراهة فلا وذلك لأن إرادة كل واحد منهما إرادة للآخر وكذلك الكراهة لاختصاصهما بهما على سواء وإذا كان كذلك وأراد أحدهما إيجاد السواد وكره الآخر إيجاده لم يكن بأن تؤخذ إرادة من أراد السواد أولى من كراهة من كرهه لأن إرادة كل واحد منهما وكراهته هي إرادة الآخر وكراهته فالتمانع يعود إلى الإرادة والكراهة لا أنه يكون بين المراد والمكروه فأما الاعتمادان فيقع التمانع بين موجبهما بواسطتهما ولهذا ضعف الجمهور ما قاله الشيخ أبو علي بن خلاد وما ذكره الشيخ أحمد بن الحسن في الواسطة.
والخلاصة من أن التمانع بين المراد والمكروه وهو الذي تقضي به عبارة المصنف.
قولهك (وفيه خروجهما عن كونهما قادرين).
يعني لأن من حق القادر وقوع فعله عند إرادته له أو حصول داعيه وكان الأولى أن يقول: وفي ذلك خورجهما عن كونهما قادرين للذات لأن القادر بقدرة قد لايقع مراده بأن يمنع منه ولايخرجه ذلك عن كونه قادراً.
قوله: (وفيه خروج من لم يوجد مراده عن كونه قادراً للذات).
دليله ما ذكره ولأنه إنما أوجد مراد الآخر ولم يوجد مراده لأن الآخر أوجد أكثر مما أوجد ولو كان قادراً للذات لم يصح من صاحبه إيجاد أكثر مما يصح إيجاده منه لأن من حقه لو كان قادراً للذات أن يقدر على ما لايتناهى ولاشيء أزيد مما لايتناهى فلما تناهى مقدوره تبين أنه ليس قادراً للذات أو أنه قادر بقدرة وقد أشار المصنف إلى هذا بقوله: (وبعد فجواز المنع على أحدهما يدل على أنه متناهي المقدور).
قوله: (فإن قيل أنهما حكيمان فلا يختلفان في الإرادة والداعي).
يعني لأنهما إذا كانا حكيمين فالذي يدعو أحدهما إلى الفعل من العلم بحصول منفعة للغير فيه يدعو الآخر إليه والذي يدعو أحدهما إلى فعل الإرادة يدعو الآخر أيضاً إذ ليس دواعيهما دواعي حاجة فتختلف دواعيهما لاختلاف نفعهما وإذا كانا لايختلفان في الداعي والإرادة لم يتمانعا إذ التماعن فرع على اختلاف الدواعي.
قوله: (فتكون إرادة كل واحد منهما).
أي من الضدين حكمة وكذلك يكون الداعي إلى فعل كل واحد منهما داعي حكمة.
قوله: (فإن قيل إن أردتهما معنى واحد) إلى آخره.
هذا سؤال يرد على قوله في جواب السؤال الأول ومعلوم أن كل حيين يصح اختلافهما في الإرادة وتقريره أن يقال: ليس ما ذكرته من حق كل حيين إلا في الشاهد لأن الواحد منا مريد بإرادة حالة في قلبه فتختص به ولاتختص بالمريد الآخر فلا يوجب لمن لم يختص به فيختلفان في الإرادة بخلاف القديم الثاني لو ثبت تعالى الله عن ذلك لأن إرادته تعالى لا في محل فهي كما تختص به غاية ما يمكن من الاختصاص تختص أيضاً بالقديم المقدر فتوجب له أيضاً أو لايصح اختلافهما في الإرادة إذ لايصح اختصاصها بأحدهما دون الآخر لثبوتها في حقهما على سواء.
والجواب عن هذا السؤال يمنع اتحاد إرادتهما لما ذكره المصنف ولأنه كان يلزم منه إيجابهما الصفتين ولو تعدت في إيجابهما عن صفة إلى ما زاد عليها لتعدت ولا حاصر، واعترض بأن ههنا حاصراً معقولاً لأنها قد اختصت بالقديم تعالى والقديم المقدر لوجودها على حد وجودهما فيوجب لهما دون غيرهما إذ لم يختص به ..... بأنها توجب له فإن الاختصاص بالأحياء من الأجسام لايكون إلا بالحلول في القلب.
وأجيب بأنه إذا صح تعديها إلى إيجاب صفتين صح أن تتعدى لا على ذلك الوجه وهو الإيجاب لسائر الأحياء بل بأن تتعدى في الإيجاب في حق القديم تعالى إلى أزيد من صفة وإذا تعدت إلى ذلك تعدت ولا حاصر ف يحقه وحق من اختصت به.
قوله: (ومن هنا قال أصحابنا أن الإرادة لو خلقت فينا لما أثرت في كون كلامنا أمراً وخبراً).
يعني لو خلقت فينا إرادة كون كلامنا خبراً عن شخص معين لما أثرت في كونه خبراً عنه لأنه يكون التأثير حينئذ له تعالى ومن حق المؤثر في حكم الفعل أو صفة له أن يكون هو الفاعل له على ما تقدم وقد مضى بيان الوجوه التي تمنع من تأثير الإرادة المخلوقة فينا في وجوه أفعالنا.
قوله: (قلنا الحق أنه لايصح تقدير وقوع الظلم).
يعني وإذا لم يصح تقديره مع صحة تقدير التمانع بين الاقدرين لم يكن لقائل أن يقول لم لم يقم تقدير وقوع الظلم من جهته تعالى مقام وقوعه لأنه لايصح التقدير.
قال أصحابنا: التقدير قد يقوم مقام التحقيق كمسألتنا هذه، ومعنى قولهم أنه يقوم مقامه أنه كاف في معرفة كون أحدهما أغلب أو يساويهما وربما لايقوم مقامه كتقدير وقوع الظلم من جهته تعالى ووقوع ما علم الله أنه لايقع ومعنى أنه لايوم مقامه أنه لايكفي في الدلالة على الجهل أو الحاجة.
قوله: (إن تقدير الموجب المصحَح).
هو بفتح الجيم والحاء الأولى، وكان صوابه: الاثنان بلفظ التخيير فيقول: الموجب أو المصحح فإن وقوع الظلم مصحح ومصححه الجهل والحاجة وليس بموجب عنهما، ولا هما بموجبين له، ولكن الموجب معلولات العلل ومسببات الأسباب.
وفيه سؤال وهو أن يقال: وتقدير المصحح الذي هو التمانع من دون مصححه وهو الداعي إليه لايصح.
لكنه يجاب بأن التمانع يقع من غير ثبوت داع كما في النائمين.
قوله: (فلا يلزم التمانع). كلام لا معنى له لأن اعتبار وقوع الاختلاف في الإرادة والداعي أدخل في لزوم التمانع من اعتبار الصحة فما معنى أنه لايلزم التمانع من اعتبار الوقوع.
وأقرب ما يقال في توجيهه أنه إذا كان المعتبر الوقوع فيهما وبني لزوم التمانع عليه لم يلزم التمانع لأن الاختلاف في الداعي والإرادة تمنع منه الحكمة كما مر، والله أعلم.
قوله: (وبعد فمن مذهب الخصوم) إلى آخره.
يقال: إنك بصدد الاستدلال على نفي قديم قادر مثل للباري تعالى والاعتراضات وردت على دليلك في ذلك فما بالك رجعت إلى الكلام على أهل النور والظلمة وله فصل بعد هذا يخصه.
قوله: (ثم إن سلمنا أن مقدورهما واحد) إلى آخره.
تلخيص هذا الجواب: أن كون مقدورهما واحداً لايقتضي عدم صحة وقوع التمانع بينهما لأنه يصح أن يدعو أحدهما الداعي إلى فعل كون مسبب مقدور لهما فيحاول فعله بفعل سببه وهو الاعتماد الذي هو مقدور لهما ويدعو الآخر الداعي إلى فعل كون في جهة أخرى مسبب ضد له مقدور لهما جميعاً فيفعل سببه الذي هو مقدور لهما فيقع التمانع والسببان وإن كانا مقدورين لهما معاً فهو يصح من كل واحد منهما فعل أحد السببين، وإن لم يرد الآخر فعله، ولا دعاه الداعي إليه لأنه مقدور /382/ له فيصح إيجاده منه ولايتوقف وجوده منه على إرادة الآخر، وإن كان أيضاً قادراً عليه لأن كل واحد منهما قادر مستقل يصح أن ينفرد بفعله.
قوله: (وأما من جهة السمع).
أي وأما الذي يؤيد دلالة التمانع من جهة السمع.
قوله: (فقوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}، وقوله: {إذن لذهب كل إله بما خلق} الآية ونحو ذلك).
لعله يشير بنحو ذلك إلى قوله تعالى: {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذن لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً} فهذه الآيات فيها مناسبة لدليل التمانع وإشارة إليه وإن لم تكن صريحة فيه.
قال جار الله في قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} فيهدلالة على أمرين: أحدهما: وجوب ألا يكون مدبرهما إلا واحداً. والثاني: ألا يكون ذلك الواحد إلا إياه.
فإن قلت: لم وجب الأمران؟
قلت: لعلمنا أن الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف وهذا ظاهر. قال: وأما طريقة لاتمانع فللمتكلمين فيها تحاول وطراد.
وقال رحمه الله في قوله تعالى: {إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} أي لانفرد كل من الآلهة بخلقه الذي خلقه واستبد به ولرأيتم ملك كل واحد منهما متميزاً من ملك الآخرين ولغلب بعضهم بعضاً كما ترون حال ملوك الدنيا ممالكهم متمايزة وهم متغالبون.
وقال في قوله تعالى: {لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} لطلبوا إلى من له الملك والربوبية سبيلاً بالمغالبة كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض كقوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} فهذه المعاني تناس بمعنى التمانع وفيها إشارة إليه فصارت هذه الآيات مؤكدة لدلالته كما نبه المصنف عليه.
قوله: (دليل لو كان مع الله تعالى قديم ثان) إلى آخره.
هذا الدليل محكي عن قدماء المعتزلة كأبي الهذيل وأبي علي وغيرهما.
قوله: (أما من يوجب كون مقدورهما واحداً فلا يتوجه هذا إليه).
يعني لأنه يجعل جميع أعيان المقدورات مقدورة للقادر للذات ولايقول بأنه لايقدر على بعض العيان حتى إذا وجد ذلك العين دل على غيره لكونه ليس بمقدور له، وإلى هذا ذهب الجمهور فقالوا: يجب إيجاد مقدورات القديمين لاشتراكهما فيما لأجله وجبت القادرية وهو الصفة الذاتية.
وقال أبو إسحاق: لايجب ذلك لامتناع مقدور بين قادرين سواء كانت القادرية في القادرين جائزة أو واجبة فمن حق هذه الصفة ألا تثبت أفرادها إلا مختلفة.
وقد اعترض الإمام يحيى هذا الدليل بأن قال: قولكم أنه لو كان مع الله تعالى قديم ثان لكان يجب ألا ينفصل الاثنان عن الواحد، إما أن يريدوا أنه ليس عند العاقل دليل يميز به أحد الإلهين عن الآخر فهو حق لانزاع فيه، ولكن نقول: إنه لايلزم من عدم العلم بالأمر المميز عدم تميزه في نفسه فيجوز أن يكون المميز حاصلاً وإن لم تعلموه، اللهم إلا أن يقولوا: لاطريق إليه وحينئذ تكون طريقه أخرى غير هذه الطريقة، وقد سبق الكلام عليها. وإما أن يريدوا أنه لايمكن أن يختص أحد الإلهين في نفسه بأمر يكون لأجله مميزاً عن الآخر فهذه دعوى لا بد من تصحيحها بدلالة.
ويمكن الجواب بأن مرادهم أنه لايمكن أن يختص أحدهما بأمر يكون لأجله مميزاً عن الآخر لأنهما قد اشتركا في القدم وهو صفة ذاتية والاشتراك فيه لايكون إلا مع الاتشراك في جنس الذات ويلزم منه الاشتراك في سائر صفات الذات، فلا يتعقل افتراقهما في أمر يتميز به أحدهما عن الآخر لكنه عليه السلام قد رفع هذه القاعدة وبنى على /383/ بطلان هذه الطريقة.
وقد ذكر عليه السلام أدلة كثيرة يعتمدها أصحابنا في نفي الثاني كهذه الدلالة ونقضها جميعاً إلا دليل التمانع فصححه وذكر أن المعتمد في نفي قديم ثان دلالة الشرع لأن هذه المسألة مما يمكن لااستدلال بالسمع عليها.
والأدلة السمعية آيات التهليل كقوله تعالى: {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو}، وقوله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله}، ولو كان معه قديم ثان لوجب أن يشاركه في جميع صافته التي هي كونه قادراً على جميع أجناس المقدورات عالماً بجميع أعيان المعلومات قديماً غنياً عن كل شيء، وذلك معنى الإلاهية التي نفاها تعالى عن غيره وكرر أنه لا إله معه. وبالجملة فنفي إله ثان على أي صفة كان معلوم من ضرورة الدين وإجماع الأمة.
وقد استدل على نفي الثاني بطريقة مركبة من العقل والسمع وتحريرها أن يقال: لو كان لله تعالى ثان قديم لوجب أن يشاركه في جميع صفاته لما تقدم في مواضع كثيرة تقريره وإذا شاركه في جميع صفاته كان عدلاً حكيماً مثله لأنه يكون عالماً بقبح القبيح غنياً عنه عالماً باستغنائه عنه، وإذا كانا كلاهما حكيمين لم يجز أن يرسلا ولا أن يرسل أحدهما رسولاً كاذباً فدل ذلك على صدق الأنبياء والمعلوم ضرورة من دين خاتمهم وأفضلهم وكذلك غيره منهم الإخبار بأنه لا إله إلا إله واحد وأنه لاثاني له والدعاء إلى ذلك والتصريح به، ولو كان ثم ثان في نفس الأمر لكان ذلك كذباً والكذب لايجوز عليهم.
فصل في الكلام على ..... الثنوية في النور والظلمة
وقد ذكر بعض المتكلمين أنهم يعنون بالأنوار عالم العقل وقواه، وبالظلمة عالم الطبيعة وقواعها، فإن الإنسان مركب من العالمين معاً.
قال الإمام يحيى: فإن كان هذا مذهبهم فهم يوافقون الفلاسفة في المعنى،ولهذا قال بعض العلماء: مراد الثنوبة بالنور والظلمة ما يسميه الفلاسفة بالهيولى والصورة.
قوله: (إن النور والظلمة جسمان) إلى آخره.
قد تقدم ذكر ما يقوله أصحابنا في النور والظلمة وبيان خلافهم في ذلك في مسألة نفي التجسيم والأقرب أنه خلاف لفظي وقد استدل على أن النور عرض بوجوه أربعة:
الأول: أن الأجسام المستنيرة والمظلمة مشتركة في الجسمية ومتباينة في النور والظلمة فما اشتركت فيه يجب أن تكون متغايرة لما افترقت فيه فإذن الجسمية غير النور والظلمة.
الثاني: أن الجسم المعين يصير مضيئاً بعد أن كان مظلماً وبالعكس من ذلك وجسميته باقية في الحالين فيجب أن تكون مغايرة لهذين الوصفين.
الثالث: أن الشمس إذا كانت محاذية لكوة البيت فحين تطلع الشمس يصير البيت مضيئاً فإذا سدت صار مظلماً فلو كان النور جسماً لبقي بعد سدنا للكوة في البيت.
الرابع: أن الشمس إذا طلعت من دائرة الأفق استضاء وجه الأرض ومن المحال أن تنتقل الأجسام منها إلى الأرض لاستحالة الطفر والضوء قد حصل دفعة واحدة فيجب أن يكون الضوء غير الجسم، وهذه الوجوه ذكرها الإمام يحيى في التمهيد إلا أنه يجب أن نسأله عن استنارة وجه الأرض عند طلوع الشمس على قوله هذا وما وجه حصول هذا العرض في وجه الأرض هل هو ما ذهب إليه بعضهم من أن الشمس تكسب الهواء ضوءاً وانطباع الضوء في الهوى فهو لايصح لأن انتقال الأعراض مستحيل فكيف يصير وجه الأرض والهوى مضيئين لانتقال عرض إليهما والانطباع لايعقل، ثم كان يلزم منه بقاء ذلك الضوء وإن غابت الشمس لأن لاهوى ووجه الأرض قد اكتسبا هذا الضوء وغيبوبة الشمس لاتؤثر في انتفائه وعدمه، وإن جعل حصول الضوء في الهوى ووجه /384/ الأرض مخترعاً عند طلوع الشمس أجرى الله العادة بذلك فكان يجوز اختلاف العادة فلا يصح.
وقد وقع في كلام أصحابنا أن الذي نشاهده من النور في أجزاء الهوى يستمده من الشمس حالاً فحالاً، فإذا غابت الشمس انقطع الاتسمداد فلا يرى كذلك بل تزول استنارتها كما أن النار إذا التهبت ولم يمدها شيء فإن أجزاءها تذهب فلا ترى لانقطاع الاستمداد. وفيه نظر.
قال عليه السلام: وأما لاظلمة فهي عبارة عن عدم النور. واحتج لذلك بوجهين: أحدهما أن حال البصير في الظلمة التامة كحال الأعمى، ثم أن الأعمى لا يدرك كيفية الظلمة لأنه لايبصر شيئاً أصلاً فيجب أن تكون الظلمة عبارة عن أن البصر لايدرك شيئاً فتكون الظلمة أمراً عدمياً.
الوجه الثاني: أنه إذا كان إنسان قريباً من النار وإنسان آخر بعيد عنها فالبعيد منها يرى القريب ولايكون الهوى المظلم مانعاً بالنسبة إليه فلو كانت الظلمة أمراً ثبوتياً لم يفترق الحال بينهما فكانت إذا منعت أحدهما منعت الأخرى.
وهذا لايستقيم على قاعدة أصحابنا لأن النور عندهم باقي والباقي لاينتفي إلا بضد أو ما يجري مجراه، فلا بد أن تكون الظلمة أمراً ثبوتياً مضاداً له وإلا كان يلزم إذا وجد في جسم ألا ينتفي عنه وقد علل ابن متويه رؤية البعيد من النار للقريب منها وعدم رؤية القريب منها للبعيد بأن شعاع البعيد وجد مادة فرأى معها بخلاف من بالقب منها، فإن شعاعه ينفصل إلى الظلمة التي لامادة فيها للشعاع فلا يرى من فيها.
هذا والمحكي عن الثنوية أن النور والظلمة نفس الأجسام وذواتها وبذلك يتضح بطلان قولهم بقدمهما.
قوله: (ولا كان أحدهما بأن يكون فاعلاً للخير أولى من الشر).
يعني لكونهما قديمين وإذا كانا كذلك كانا مثلين فلا يختص أحدهما بوجوب أمر له دون الآخر.
قوله: (وكذلك في المدح والذم).
يعني ولا كان النور بأن يكون ممدوحاً أولى من الظلمة ولا كانت الظلمة بأن تكون مذمومة أولى من النور، وهذا إنما يستقيم على قولهم بصدور الخير والشر عنهما على سبيل الوجوب من غير اختيار فلا وجه حينئذ لاختصاص النور بالمدح والظلمة بالذم.
قوله: (لاسيما وهما قادران للذات).
يعني لكونهما قديمين والقديم لابد من كونه قادراً لذاته وإذا كانا كذلك كان كل واحد منهما قادراً على جميع أجناس المقدورات خيرها وشرها وهذا لااستثناء المذكور يرجع إلى قوله: ولا كان أحدهما بأن يكون فاعلاً للخير أولى من الشر.
قوله: (ويكف يصح الفعل من غير حي ولا قادر).
فيه نظر لأنهم لم يقولوا بصحة الفعل من الظلمة بل جعلوا الشر صادراً عنها بطبعها فلا يكون في نسبة صحة الفعل إلى غير حي قادر ويمكن أن يجاب بأن المصنف نبه على أن الظلمة إذا كانت عندهم جسماً فالجسم غير موجب لأمر من الأمور والطبع غير معقول فلو كان لها تأثير لكان على جهة الاختيار، وإذا كان تأثيرها لايصح أن يكون إلا على جهة الاختيار فهو لايصح إلا من حي قادر ولايصح من عاجز موات.
قوله: (فكان يجب حصوله ولم يزل أي الامتزاج).
يعني ومع حصوله في الأزل يقع لااستغناء عن الثالث ويؤدي إلى قدم العالم مع وضوح الدلالة على حدوثه، وهم أيضاً على ما حكاه بعض أصحابنا لايقولون بقدمه.
قوله: (على أنه قد يكون صدر الخير والشر من غيرهما هو الثالث).
كان الأولى الإتيان بلفظ التخيير فيقول: الخير أو الشر؛ لأن الحاصل عن الثالث هو الامتزاج لا غير فهم إما أن يجعلوه خيراً أو شراً، ولعل المصنف بنى على أنه قد يكون خيراً في بعض المواضع وشراً في بعضها.
قوله: (لأن العقوبة جسم وكل جسم محدث). يعني فكيف يقولون بقدمها مع ذلك.
قوله: (ومما يعدونه شراً) /385/. يعني لنفرة النفوس عنها وذلك هو معنى الشر عندهم.
قوله: (فيجب تقدم أهرمن عليها ليكون محدثاً لها).
يعني فمع حدوثها لابد لها من محدث ولايمكنهم أن يجعلوا يزدان محدثاً لها لأنه لايصدر عنه إلا الخبر وهي شر لنها مما تنفر عنه النفوس، وأيضاً فهي الموجبة لأهرمن وهو أصل كل شر فهي شر.
قوله: (ولأنه كان يجب أن يتولد عن كل عفونة أهرمن).
يعني لحصول كل عفونة على لاصفة التي حصلت عليها تلك الموجبة، ولايجوز أن يحصل الموجب على الصفة التي توجب ثم لاتوجب إذ ليس تأثير العفونة على جهة الاختيار فيقال: إن تلك اختارت إحداث أهرمن دون البواقي، ومما يلزمهم أيضاً أن يتولد عن تلك العفونة المولدة لأهرمن كل وقت أهرمن وإلا فما المخصص بإيجابها في وقت دون وقت، ثم أنهم مع القول بقدمها يلزمهم إيجابها له في الأزل.
قوله: (أو من شكه).
إشارة إلى ما ذهب إليه بعضهم من أنه حدث من شك وقع لله.
قوله: (وكان يجب في كل فكرة وشك مثله). أي مثل ذلك الذي ذكروه في تلك الفكرة والشك.
قوله: (إذا اتحد متعلقه). يعني فكان يلزم إذا فكر الواحد منا على تلك الصفة وهو أن يفكر في أنه لو كان للباريتعالى عن ذلك مشارك ومنازع كيف كانت يكون حاله أن يحدث أهرمن كما حدث عن فكرة الباري لاتحاد متعلق الفكرتين فتكونان متماثلتين وما تولد عن أحد المثلين تولد مثله عن المثل الآخر، والأسباب لايختلف تأثيرها من أي فاعل صدرت مع أنه أيضاً لايشترط في توليد فكرتنا أن تكون مماثلة لتلك الفكرة بل تولد على كل حال فإن الاعتمادات تولد الأكوان سواء تماثلت أو لم تتماثل فكان يلزم في كل فكرة في أمر من الأمور أن تولد أهرمن.
قوله: (ولأن هذه الفكرة لاردية من قبل الشرور) يعني عندهم، لإيجابها ما هو أصل للشرور وهو أهرمن وما أوجب الشر أو أصله فهو شر.
فإن قيل: فما قولكم في إحداثه تعالى للشيطان مع أنه أصل المعاصي والقائد إليها؟
قلنا: ولا سوا لأن عندنا أن الشيطان غير موجب للشر بل فاعل مختار وهو عندهم موجب.
واعلم أن أصحابنا رحمهم الله قد تكلموا على هؤلاء الطوائف وبسطوا في الكلام عليهم بما لا مزيد عليه ولم يورد المصنف إلا الأقل من ذلك وفيه كفاية ومذهبهم في وضوح البطلان أشهر من فلق الصبح إذا استبان.
فصل في شبه الثنوية
قولهم: والفاعل الاوحد لايفعل الخير والشر.
قد يؤكدون ذلك بأن يقولوا: ألا ترى أن النار يصدر عنها التسخين ولايصدر عنها ضده الذي هو التبريد، وكذلك فالثلج يقع به التبريد ولايقع منه التسخين.
قوله: (بل يجب فيمن قدر على الشيء أن يقدر على جنس ضده).
يعني فإذا قدر أحدهما على الخير وجب أن يقدر على الشر لأنه ضده وهذه مجاراة لهم على مذهبهم وهو أن الخير ضد الشر وإلا ففي التحقيق لا يعتبر التضاد بذلك وإنما يرجع إلى تعاكس الذوات في صفاتها المقتضاة عن الذاتية.
قوله: (وقد يفعل الضدين دفعة واحدة) إلى آخره.
هذا كالأول في أنه مجاراة لهم على ما يقولونه من أن الخير والشر ضدان وأن الفاعل الواحد لايفعلهما وإلا فليس القتل باليمين والإنقاذ باليسار ضدين من حيث كونهما قتلاً وإنقاذاً.
قوله: (وهو فاعل واحد). يعني فالنور أجبره على الخير كالصدق والظلمة أجبرته على الشر كالكذب.
قوله: (قلنا ولم كانا بأن يجبرا بعض الناس على ذلك) إلى آخره.
يعني مع قولكم /386/ بأنهما غير مختارين بل موجبان فما المخصص لهما بأن يجبرا بعض الناس دون بعض، فإن منهم من يصدق ويكذب، ومنهم من لايكذب، وبالجملة فأحوالهم مختلفة في ذلك وكذلك فما المخصص بأن يجبرا في وقت دون وقت.
تنبيه
وأما ما ذكره من النار والثلج فنحن نقول: إن ذلك من فاعل واحد وهو الله تعالى فإنه الفاعل للحرارة عند إلهاب النار، والبرودة عند وضع الثلج، وأجرى تعالى العادة بذلك لما علم فيه من المصالح كما في إنبات البذر وحصول الأمطار في الأوقات المخصوصة وخلق الحيوانات من أجناسها.
وقد قيل: إن التسخين بانتقال أجزاء من النار فيها حرارة إلى الماء فتدرك تلك الأجزاء الحارة فتظن أن الحرارة في الماء، وليس كذلك الحال في التبريد.
فائدة
اختلفوا في إحراق النار لما تحرقه فالذي عليه الجمهور أن الله تعالى هو المحرق، أجرى العادة بأنه يحرق عندها فلو اتصلت بشيء ولم يرد الله إحراقه لم يحرقه، والذي روي عن السيد م بالله والشيخ أبي القاسم أن لانار تحرق بطبعها فكل ما اتصلت به مما جرت العادة بأن أمثاله تحترق أحرقته لامحالة، ولا يمنع من إحراقها إلا حصول مانع بينها وبينه.
فصل في الكلام على النصارى
وقد تقدمت حكاية مذهبهم. قال الإمام يحيى عليه السلام: وقد حكى نقلة المقالات عنهم أقاويل مختلفة ومذاهب مضطربة لا تؤول إلى رابطة، ومهما لم تنضبط المذاهب فالكلام عليها عسير صعب، وذكر السيد الإمام قريباً من ذلك.
قوله: (وأما قولهم بالاتحاد).
الاتحاد في اللغة على ما ذكره السيد الإمام افتعال يشتق من الوحدة لأن العرب متى اعتقدوا في شيئين أنهما صارا شيئاً واحداً قالوا: أتحدا. والشيئان لايصيران شيئاً واحداً على الحقيقة أصلاً لأن ذلك مستحيل إلا أن العرب إذا اعتقدوا ذلك فأجروا الإسم مطابقاً لاعتقادهم كانوا مصيبين في التسمية مخطئين في الاعتقاد كاعتقادهم في الأصنام أنها تستحق العبادة فسموها لذلك آلهة.
قوله: (فيلزم قدم المسيح أو كونه إلهاً حالة العدم).
يعني لأن اتحاد الباري بالمسيح إذا كان واجباً مع وجوده تعالى في الزل لزم ألا ينفك الاتحاد عنه فيحصل في الأزل وهو إما أن يحصل مع وجود عيسى فيلزم قدمه أو مع عدمه فيصير إلاهاً حالة العدم لأن مع إيجاد الباري تعالى وصيرورتها شيئاً واحداً قد صار إلاهاً فإن قالوا: إن اتحاده به مشورطاً بوجوده فلا يلزم حصول الاتحاد ووجود عيسى لذلك في الأزل ولا اتحاد الباري به مع عدمه.
قلنا: إذا كانت ذات عيسى عليه السلام ثابتة في الأزل حالة العدم على القول بثبوت الذوات في حالة العدم وذات القديم موجودة صح حصول الاتحاد لثبوت الذاتين ولا دلالة على اشتراط الوجود.
قوله: (لأن في ذلك حدوثه).
يعني من حيث أنه لايجعل الذات على صفة من دون واسطة إلا الفاعل لها والاتحاد عندهم صفة مع أن الفاعل لاتخير له في ذلك وإلا كان يصح منا أن نجعل الأشياء المتعددة من مقدوراتنا شيئاً واحداً، ولو صح ذلك لصح من الفاعل أن يجعل الشيء الواحد أشياء كثيرة.
قوله: (فلا يكون لها اختصاص بأفنوم الابن).
يعني فيجعله متحداً بعيسى دون أفنوم الأب وأفنوم روح القدس، لنه إذا كانت الأفانيم جميعاً قديمة كانت متساوية فلا يصح أن يختص ببعضها علة دون البعض الآخر إذ العلة التي تختص بذلك البعض إنما تختص به لوجودها على حد وجوده، وجميع القدماء موجودون على حد واحد.
قوله: (والأول /387/ والثاني باطلان بالاتفاق).
يعني وهو أن يصير المحدث قديماً أو القديم محدثاً، فإن ذلك لايتوصر إذ القديم الموجود في الزل فكيف يصح مع أنه قد وجد في الأزل أن يصير بعد ذلك غير موجود في الأزل، وهكذا الكلام في المحدث.
قوله: (والثالث يبطل معنى الاتحاد).
يعني وهو أن يكون كل واحد منهما باق على حقيقته والناسوت ذات محدثة واللاهوت ذات قديمة إذ مع قدم أحدهما وحدوث الآخر لا شك في كونهما غيرين ومع كونهما غيرين لايكون للاتحاد معنى.
قوله: (فيلزم قيام صفة بموصوفين).
هذا الوجه يختص بالقائلين بأن أفنوم الأب وسائر الأفانيم صفات فأما من جعلها أشخاصاً أو معاني فلا يلزمه ذلك، وإنما استحال قيام صفة بموصوفين للزوم قيامها بأكثر من ذلك وأن يتعدى إلى الاختصاص بموصوفين كثيرين وذلك محال.
قوله: (في حكاية الإثبات فاخمدوهم لأجل ما فعلوه).
لايبعد أن يكون مصحفاً والأصل: ما طلبوه، أو نحوه، ليناسب هذا البيت سائر الأبيات في التزام الباء الواقعة قبل الضمائر وما في حكمها.
قوله: (والكلام عليهم على جهة التفصيل).
يعني بتقسيم الاتحاد إلى ما يحتمله كلامهم والرد عليهم على كل وجه مما يحتمل أن يكون مراداً لهم.
قوله: (وخروج الموصوف عن صفة ذاته أو حصوله على أكثر من صفة للنفس).
يعني لأنهما إذا صارا ذاتاً واحدة وقد كان لكل واحد منهما قبل ذلك صفة ذاتية إذ قد كان مما يصح أن يعلم على انفراد فحين صارا ذاتاً واحدة لابد من أحد أمرين إما زوال إحدى الصفتين الذاتيتين التي كان أحدهما يستحقها ويختصان بصفة واحدة إذ قد صار ذاتاً واحدة وهو محال لأن خروج الذات عن صفتها الذاتية محال على ما هو مقرر في موضعه ثم أنه ليس إحدى الصفتين بأن تزول أولى من الأخرى أو تثبت الصفتان جميعاً مع أنهما قد صارا ذاتاً واحدة وهو محال لأنه لايجوز اختصاص ذات واحدة بصفتين ذاتيتن لأن الصفتين الذاتيتين إن كانتا في حكم المتماثلتين لزم مماثلة الذات لنفسها لحصولها على ما لو حصل عليه غيرها لماثلها وإن كانتا مختلفتين لزم مخالفتها لنفسها لحصولها علىما لو حصل عليه غيرها لخالفها والمماثلة والمخالفة فرع على الغيرية وكون الذات غيراً لنفسها محال، وقد تقدم تقرير هذه الطريقة وذكر ما يرد عليها من الإشكالات وقد قيل إنه يلزمهم الأمران جميعاً لأنه مع اتحاد الذاتين وتصيرهما ذاتاً واحدة يلزم خروج إحدى الذاتين من صفتها الذاتية من حيث أنه لايصح اتصاف ذات واحدة بصفتين ويلزم أن تثبت الصفتان جميعاً من حيث أنه لايجوز خروج الذات عن صفتها الذاتية ولأنه ليس أحد الصفتين بالزوال أو الثبوت أولى من الأخرى فيلزمهم كلا الأمرين وهو الذي تقضي به بعض نسخ الشرح للسيد الإمام.
قوله: (لأن إرادة الباري لاتختص بالأجسام).
يعني لكونها موجودة لا في محل واختصاصها بالأحياء من الأجسام لايكون إلا بحلولها فيهم لأنه غاية مايمكن الاختصاص به تعالى ولابسائر الأحياء غاية ما يمكن من الاختصاص إذ لم يوجد على حد وجوده ولا خلت في سائر الأحياء، فإذا أوجبت له مع عدم الاختصاص أوجبت لهم أيضاً إذ لافرق.
قوله: (لجاز أن يتحدا في العلم وغير ذلك).
تلخيصه أن يقال: لو اتحد الباري تعالى والمسيح مشيئة بمعنى أن إرادة عيسى أوجبت له تعالى مع عدم اختصاصها به إذ لم يوجد على حد وجوده لزم مثل ذلك في علم عيسى وقدرته وحياته أن يوجب صفات له تعالى وإن لم تكن مختصة به قياساً على الإرادة مع كون موجبات هذه المعاني جائز عليه تعالى كموجب الإرادة فلا يقال: إن موجباتها /388/ تستحيل عليه تعالى فإن التزم الخصم ذلك لزم منه جواز أضداد هذه الصفات عليه لأن من حق من جازت عليه صفة معنوية أن يجوز عليه ضدها، ولهذا لما جاز كونه تعالى مريداً لمعنى جاز كونه كارهاً كذلك.
قوله: (وبالجملة فكل حيين يصح أن يختلفا في الإرادة).
يعني فلا يصح القول بأن إرادتهما واحدة، وأن مرادهما واحد.
فصل في شبه النصارى
قوله: (ما لايفعله إلا الله تعالى).
يعني كقلب العصا حية، وإخراج الناقة من الجبل.
قوله: (أو يكون في الحكم كأنه من فعله).
يعني كالسير في الهوى وفوق الماء ونتق الجبل، وقلب المدن، فهذه وإن كانت ليس بأفعال له تعالى فهي في الحكم كأنها من فعله إذ لا تكون إلا مع أن يقدره تعالى على ذلك وهو خارق للعادة.
إذا ثبت هذا قلنا: ما من نبي إلا وقد ظهرت المعجزات على يديه فيلزمهم القول بأن الأنبياء جميعاً أبناء له تعالى وأنه اتحد بهم وهم لايقولون به وليس للمسيح في تلك الخوارق التي ظهرت له إلا كونها كانت على يديه وإلا فهي فعله تعالى فعلها تصدياٌ له.
قوله: (وشيء من غير أب).
ذلك موجود في أنواع الطيور فإن من إناثها ما يبيض مع عدم الذكر ويخرج الولد من بيضته.
قوله: (وبعد فالكلام عندنا عرض محدث يعدم في الوقت الثاني).
يعني فلا يمكن حمل الآية على ظاهرها ولايكون فيه حصول مرادهم وإنما قال: عندنا؛ لأن الأشاعرة يجعلون الكلام معنى في النفس.
قوله: (فالروح عندنا هو النفس).
النفس بفتح الفاء وهي الأجزاء التي تتردد في مخارق الحي وقد حكي عن بعضهم أن الروح الحاية التي هي عرض. والحجة عليه ما ذكره حيث قال: (توضيحه) إلى آخره.
وقد ذهب أبو الهذيل إلى أن هذه الأجزاء الباردة هي الحياة وهي الت توجب كون الحي حياً ورد بأن الأجسام لاتوجب الصفات واختلفوا في هل الحياة تحتاج إلى الروح أو لا. فقال الشيخ أبو هاشم رحمه الله: تحتاج إليه فإن من منع من النفس بطلت حياته على طريق الاستمرار، وإذا كانت الحال مستمرة في ذلك عرفنا حاجة الحياة إليه.
وقال الشيخ أبو علي رحمه الله: بل لاتحتاج إليه إذ لو احتاجت إليه لوجب أن تشيع الحاجة في كل محل فيه حياة مع علمنا بأن الروح لاتجاوز أكثر المحال ولبسط الكلام في ذلك موضع أخص به.
قوله: ( {وأيدهم بروح منه} أي بهداية).
الذي ذكره في بعض التفاسير، قيل: بنصر. وقيل: بالإيمان. وقيل: بالقرآن. وكلام المصنف مناسب لما ذكره جار الله فإنه قال: وأيدهم بروح منه: بلطف من عنده حييت به قلوبهم.
قوله: ( وقال إني ذاهب إلى أبي وأبيكم) هو بالباء الموحدة.
قوله: (وكتاب الله العزيز مشحون بإبطال مذهب النصارى).
يعني في التثليث والبنوة، كقوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة}، وقوله تعالى: {وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه هو الغني} ونحو ذلك من الآيات.
وقد أجاب الإمام يحيى عليه السلام على تسليم صحة نقلهم بأن معناه أنه يضهب إلى الموضع الذي أمره الله تعالى الرؤوف بهم وبه المالك له ولهم لأنه يتجوز بالأبوة عن الرحمة والرأفة لأن شفقة الآباء على الأبناءمعروفة فجاز أن يتجوز باسم الأب عن الرؤوف الرحيم وذلك لايقتضي أن يسمى المرحوم ابناً قياساً بل لابد من أذن سمعي.
وقد أجيب أيضاً بأنه لو صح ما قلتم لوجب ألا يقتصروا عليه لأنه قال: أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم. فلم يخص نفسه بذلك ثم أن الابن حقيقته في اللغة من خلق من ماء الأب، والابن في الشرع المولود على فراش الأب، والأب لغة من خلق الولد من مائه، وشرعاً من /389/ ولد الولد على فراشه ولايصح أي هذه الأشياء المعتبرة لغة أو شرعاً في حقه تعالى وحق المسيح والابن وإن استعمل في غير ذلك تجوزاً فهو بشرطين: أحدهما أن يكون من جنس الحيوان الذي منه الأب. الثاني أن يكون دونه في السن وكل هذا لايصح في حقه تعالى والمسيح، فهذه الجملة تبطل ما يقوله اليهود من أن عزير ابن الله.
تنبيه
مقالات اليهود والنصارى في عيسى عليه السلام على طرفي نقيض، أما اليهود فغلوا في بغضه وقالوا: ولد لغير رشدة، وأطنبوا في سبه وبالغوا في ذمه، وأما النصارى فغلوا في تعظيمه هو وأمه ومدحهما حتى قالوا: هو إله، وأمه كذلك.
فائدة
سمي عيسى عليه السلام بالمسيح لأنه مسح بالبركة. وقيل: من مسح الأرض، لأنه عليه السلام كان يمسحها بمعنى أنه يسير فيها أكثر من يغره. وقيل: سمي بذلك لأن باطن قدمه كان مسنوناً ليس فيه انخفاض كالأقدام المعتادة. ولايقال: فكان الدجال سمي مسيحاً لذلك فإنه سمي مسيحاً لأنه ذو عين واحدة وعينه الأخرى مساوية لخده. وقيل: لمسحه الأرض كما تقدم في عيسى عليه السلام.
تنبيه
لا كلام في أنه يلزم المكلف في هذه المسألة أن يعلم أنه تعالى واحد لاثاني له يشاركه في القدم وصفات الكمال والإلهية وأنه لايستحق العبادة غيره تعالى لاختصاصه تعالى بتلك الصفات وإنعامه بأصول النعم دون غيره وأن العلم بذلك من فروض الأعيان.
الكلام في العدل
اعلم أولاً أن وجه تأخيره وتقديم كتاب التوحيد والإتيان به على أثره أنه كلام في أفعال الله تعالى وأحكام أفعاله وما يتعلق بذلك، والتوحيد كلام في ذاته تعالى وصفاته الإثابتية والنفيية، فكان تقديمه وتأخير العدل واجباً لأنه لايمكن الكلام على فعل لذات وعلى حكمه إلا بعد العلم بتلك الذات وما كان من الصفات يتوقف عليه العلم بالإعال وأيضاً فمن مسائل التوحيد ما يدل على بعض مسائل العدل ومن حق الدليل أن يتقدم العلم به على المدلول فلنتكلم على ضبط علوم العدل وحصرها، وله طريقان: جملي وتفصيلي، فالجملي حاصله أنها تنقسم إلى إثبات ونفي، فالأول أن أفعاله تعالى حكمة، وأن أقواله صدق، وأنه يأمر بالمصلحة وينهى عن المفسدة ويريد الطاعات ويكره المعاصي، ويثيب المطيعين ونحو ذلك.
والثاني أنه تعالى لايفعل القبيح ولايخل بالواجب ولايريد القبائح ولايرضى الكفر ولايحب الفساد ولايكره الطاعات ولايكلف ما لايطاق ولايعذب بلا ذنب ولايظلم ولايأمر بالفحاش وغير ذلك، والتفصيلي أن يقول هي بالنظر إلى اختلاف الناس فيها تنقسم إلى ستة أقسام:
الأول: نثبته فعلاً لله وغيرنا ينفيه كإنزال الأمراض والأسقام والآفات في النفوس والزروع، وأن القرآن من قبيل أفعاله تعالى.
الثاني: ما ننفيه عنه تعالى وغيرنا يثبته فعلاً له كأفعال العباد وتكليف ما لايطاق وإضلال الخلق وأعوانهم وصدهم عن السبيل ونحو ذلك.
الثالث: مانقضي عليه بالحسن وغيرنا يقضي بقبحه كما يقوله في تكليف من المعلوم من حاله أنه يكفر وننفيه من المعلوم من حاله أنه يضل مع كونه في الحال مهتدياً واحترام من المعلوم من حاله أنه سيهتدي وهو ضال في الحال، والبعثة للأنبياء عليهم السلام.
والرابع: ما نقضي عليه بالقبح وغيرنا يذهب إلى حسنه منه تعالى كما نقوله من قبح تكليف ما لايطاق وقبح الإضلال والإغواء وتعذيب من لاذنب له كتعذيب الأطفال بذنوب آبائهم.
الخامس: ما نقضي عليه بالوجوب وغيرنا /390/ يمنع وجوبه كالتمكين للمكلفين، والإثابة للمطيعين، والتعويض للمؤلمين، واللطف في حق من يلتطف وغير ذلك.
السادس: عكسه، وهو ما لا نعده واجباً وغيرنا يقضي بوجوبه كنفينا وجوب الأصلح في الأمور الدنيوية ووجوب العقاب فمرجع علوم العدل ومدارها على هذه الأقسام.
عدنا إلى تتبع ما يفتقر إلى الكشف من كلام المتن.
قوله: (العدل).
في اللغة: مصدر عدل. قيل: هذا عرف اللغة، وأما أصلها فالعدل: المثل، ومنه: {أو عدل ذلك صياماً}.
قلت: بل الظاهر أنهما معنيان لغويان فإن مصادر الأفعال ثابتة في أصل اللغة.
قوله: (ومنه: {إنه عمل غير صالح}).
أي ومن استعمال المصدر في الفاعل للمبالغة قوله تعالى: {إنه عمل غير صالح} في قراءة من قرأ بفتح الميم والتنوين.
قوله: (وهو في اصطلاح الفقهاء) إلى آخره.
ذكر السيد م بالله في تحقيقه أنه الخارج من كل شبهة المحاسب نفسه في كل طرفة، وتارة ذكر أنه من كانت محاسنه أكثر من مساويه مع اجتناب الكبائر وهذا أقرب، وذكر ابن الحاجب أن العدالة محافظة دينية تحمل على ملازمة التقوى والمروءة ليس معها بدعة. قال: ويتحقق باجتناب الكبائر والإصرار على الصغائر وبغض الصغائر وبغض المباح. يعني ببغض المباح: كالأكل في الأسواق وبحضرة الجمع، والبول في السكك لغير عذر، ونحو ذلك مما لايفعله من له مروءة، وقوله: ليس معها بدعة. ليخرج فاسق التأويل كالخوارج.
قوله: (وهو منتقض).
يعني حد القاضي لا مذهبه وأراد بقوله: أو لنصرة. ليدخل نحو العقاب.
فصل
قوله: (مر في هذه الجملة) إلى آخره.
اعلم أن المصنف لما أتى بذكر كتاب العدل وفرغ من حقيقته قدم على الكلام في مسائله أربع مقدمات لاحتياج مسائل العدل إليها وتوقفها عليها، فإنا مالم نعلم القبح والحسن ونحوهما لايمكنا الحكم على أفعال الله بإثبات الحسن ونفي القبح ونحو ذلك في الوجوب وغيره، ومالم نعلم أن القبيح يقبح لوجه يقع عليه من أي فاعل كان لم يمكن القول بأنه تعالى لايفعله لتجويز أنه لايقبح منه، ومالم نعلم أن القبح والحسن يثبتان عقلاً لم نحتج إلى الاستدلال على أنه لايفعل القبيح إذ لا قبيح يمكن وجوده منه تعالى ولو لم نثبت قادريته على فعل القبيح لم نعلم أن تركه له لأجل قبحه وكنا نجوز أن يكون لعدم القدرة عليه، ولم نحتج إلى الاستدلال على أنه لايفعله.
فالمقدمات الأربع الكلام في حقيقة الفعل وقسمته وتوابع ذلك وهو الفصل الأول، والثانية الكلام في الوجه الذي لأجله وجب الواجب وقبح القبيح وحسن الحسن وهو الفصل الثاني، والثالثة: أنا نعلم بالعقل وجوب بعض الأفعال إلى آخره وهو الفصل الثالث، والرابعة الكلام في أن الله تعالى قادر على ما لو فعله لكان قبيحاً وهو الفصل الرابع.
قوله: (كالمسببات المتراخية).
يعني مسببات الاعتمادات كالإصابة في الرمي ونحو ذلك إذ لاتتراخى من المسببات غيرها.
قوله: (لتدخل الصغائر).
يعني حيث صدرت ممن له ثواب أكثر من عقابها فإنه لايستحق عليها ذماً مع قبحها لكنه يستحق الذم عليها على بعض الوجوه وهو أن يفعلها وليس له من الثواب ما يزيد على عقابها.
قوله: (عند غير أبي هاشم).
وإلى مثل قوله ذهب أبوه أبو علي وأصحابهما.
قوله: (عند غير أبي الحسين).
وإلى مثل قوله ذهب ابن الملاحمي حكاه عنه الفقيه قاسم، وحكى عنهم الإمام يحيى إطلاق القول بعدم قبح أفعال الصبيان ومن لاعقل له والساهي والنائم واحتجوا بأن القبيح يقبح لوقوعه على وجه إذا علم فاعله قبحه أو تمكن من العلم، والصبيان ونحوهم لا علموا ولاتمكنوا.
نعم وأما أبو علي بن خلاد وغيره من متأخري المعتزلة فذهبوا إلى أنه /391/ ما صدر من الساهي والنائم والصبيان والمجانين من أنواع القبيح فهو قبيح لن القبيح يقبح لوجه يقع عليه من كونه ظلماً، وكذباً وجهلاً وعبثاً، وبه قال الشيخان وأصحابهما في الصادر من الصبيان والمجانين. قيل: وبهذا قالت الزيدية.
واعلم أنه لاخلاف في أن القبائح لاتقبح منهم بمعنى أنهم لايستحقون عليها ذماً ولا عقاباً.
قوله: (عند من يقول بقبحها). هو الظاهر من مذهب الأصحاب والموافق للقواعد وإن لم يقبح منهما بمعنى أنهما لايستحقان عليها ذماً ولاعقاباً وقد نص الفقيه قاسم على أن الإلجاء لايخرج القبيح عن كونه قبيحاً وفي كلام أبي الهذيل ما يدل على مخالفته في ذلك فإنه ذكر أن الكذب الواقع من المكره لايقبح وإن لم يعرض. وذكر الفقيه قاسم أن الإلجاء قد يرفع قبح الفعل كمن الحي إلى إفساد زرع لغيره.
قوله: (وقلنا إلا في حالة عارضة) إلى آخره.
اعلم أن ظاهر هذا القيد لايفيد ما أراد به من الاحتراز بل يفيد نقيضه لأن تناول الميتة يستحق الذم عليه على بعض الوجوه ويستحق الذم عليه إلا في حالة عارضة فكما أنه يدخل تناول المضطر للميتة بقولنا على بعض الوجوه فإنه يدخل بقولنا إلا في حالة عارضة.
ولعل الوجه في تمشيته ألا يجعل استثناء من قوله هو ما إذا فعله الاقدر عليه استحق الذم بل يجعل استثناء من المحدود كأنه قال: فما جمع هذه القيود فهو قبيح إلا في حالة عارضة فليس بقبيح وعلى كل حال ففيه ركة.
قوله: (ما استحق الذم عليه على كل الوجوه). يعني كجهل المكلف بالله تعالى.
واعلم أن هذه الحقيقة التي ذكرها المصنف للقبيح رسمية وحده الحقيقي على ما ذكره بعضهم ما ليس للقادر عليه المتمكن منه الإقدام عليه على بعض الوجوه فهذه الأوصاف تجري مجرى الذاتية إذ لاتعقل ماهية القبيح مع كونه للتمكن منه الإقدام عليه وليست بذاتية لأنها أوصاف للقادر عليه لا له.
قلت: والظاهر أنها أيضاً حقيقة رسمية.
فائدة
القبيح يسمى قبيحاً لغة وشرعاً، وأما تسميته جريمة ومحظوراً ومعصية ومكروهاً لله تعالى فاسماً شرعياً.
قوله: (فأما الشيخان) إلى آخره.
وإلى مثل ما ذهبا إليه ذهب القاضي في مواضع وله مواضع أخر ما يقضي بموافقته لأبي عبدالله والجمهور.
قوله: (من كونه جلب نفع أو دفع ضرر إما للنفس أو للغير).
هذا هو الوجه عندهما فيما عرف فيه ذلك، وأما نحو الصدق الذي لانفع فيه ولادفع فحسن عندهما لكونه صدقاً، وكذلك الأمر بالحسن والنهي عن القبيح يحسن لكونه أمراً بذلك ونهياً عن ذلك قيل: وكلامهم جميعاً متقارب مع اتفاقهم على أنه مبني حصل وجه قبح مع وجه الحسن أن الحكم يكون له ويقبح الفعل، ولايعتبر حصول وجه الحسن فيه.
قوله: (واعترضه الجمهور) إلى آخره.
الأحسن في توجيه اعتراضهم أنه لو كان يحسن لوجه يقع عليه للزم إذا اجتمع في الفعل وجه حسن ووجه قبح أن يكون حسناً قبيحاً ككذب فيه جلب نفع أو دفع ضرر.
قوله: (ويمكن الجواب) إلى آخره.
يرد عليه أنه لو كان للحسن وجه لايستقل بالتحسين ولم يقف تأثيره على انتفاء وجه القبح كما أن وجه القبح لما كان مؤثراً في القبح استقل بالتأثير فيه ولم يحتج إلى انتفاء وجه الحسن.
فصل
قوله: (وينقسم الحسن) إلى آخره.
كان قياس قوله: ومندوب أو ما في حكمه وأن يقول: ومباح أو ما في حكمه. والذي في حكمه العقاب من فعل الله تعالى ولايسمى مباحاً لأن المباح ما عرف فاعله حسنه إلى آخر حده، ولايصح أن يكون الله معرفاً لكن له حكم المباح.
قوله: (وهو الثابت أيضاً).
منه قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( إذا وجب المريض فلا تبكين باكية )) أي إذا ثبت ساكناً، ومنه وجب الحق على فلان، أي ثبت وقر.
قوله: (وفي الاصطلاح) /392/ .
اعلم أنه يستعمل اصطلاحاً في أمور أربعة:
أحدها: ما ذكره وهو الواجب الذي هو مناط التكليف.
والثاني: الواجب الذي هو في مقابلة الجائز. يقال: صفات الله واجبة له، المعنى أنها غير جائزة.
والثالث: الذي هو في مقابلة الاختيار كما يقال: كون الجسم متحركاً صادر عن مؤثر على سبيل الوجوب أي ليس بمختار.
والرابع: الذي يراد به الثابت المستمر يقال من توفرت دواعيه إلى الفعل وصوارفه عن تركه وجب حصول الفعل منه بمعنى استمر حصوله.
قوله: (ويدخل في ذلك ما يكون استحقاق الذم على الإخلال به عارضاً).
اعلم أن المصنف استشعر ورود إشكال على حده للواجب وهو أن يقال: يلزمك أن يكون أكل الميتة وشرب الخمر واجباً لأنه يستحق الذم على تركه على بعض الوجوه وهو مع الضرورة وخشية التلف فأراد أن ينبه في الحد على دفع هذا الإشكال، ولكن صعب عليه الاحتراز ولم تتسهل له العبارة لأنه إن ساتثنى ذلك وقال: إلا في حالة عارضة لزم إخراج أكل الميتة ونحوه مطلقاً في حالة الضرورة وغيرها، وليس كذلك فإنه في حالة الضرورة واجب لامحالة، فقال: ويدخل في ذلك. إلى آخره.
ودخوله قد حصل من قوله: على بعض الوجوه. لكنه دخل معه غيره وهو أكل الميتة ونحوه في غير حال الضرورة وهذا الذي زاده المصنف لايخرجه ففي العبارة ركة، وإن كان المقصود معروفاً.
ولو قيل: ما إذا لم يفعله القادر عليه استحق الذم على بعض الوجوه مالم يكن أصله القبح ولايجب إلا في حالة عارضة لكان أوضح وأسلم والله أعلم.
قوله: (لتدخل الواجبات المخيرة).
يعني كالكفارات الثلاث فإن المكلف إذا فعل واحدة منها وترك الآخرتين فقد ترك واجباً ولايذم على تركه في هذه الحال لكنه يذم على تركه على بعض الوجوه وهو حيث لايكون قد فعل ما فعله.
قوله: (وفرض الكفاية).
يعني فإنه إذا فعله بعض المكلفين وتركه الآخرون فإنهم لايذمون على تركه في هذه الحال، وهو واجب عليهم، لكنهم يذمون على بعض الوجوه وهو حيث تركه ولم يفعله غيرهم.
قوله: (والواجب الموسع).
يعني فإن المكلف إذا تركه في أول الوقت فربما سمي تاركاً للواجب ولايستحق الذم لكنه يستحقه على بعض الوجوه وهو حيث تركه حتى خرج الوقت أو تركه في أوله غير عازم على فعله في بقية وقته.
قوله: (والمطلق الذي تركه صغير).
يعني فإن تاركه لايذم حيث له ثواب أكثر من عقاب تركه ويذم على بعض الوجوه حيث تركه ولاثواب له يزيد على عقاب تركه وأراد بالمطلق مالم يرد مؤقتاً بوقت كالحج ونحوه.
قيل: والاحتراز في حد الواجب عما تركه صغير وفي حد القبيح عن الصغيرة لتدخلا بقولنا: على بعض الوجوه لايتأتى إلا على مذهب متقدمي المعتزلة من أن الغصيرة تنقسم إلى محققة ومقدرة فالمحققة حيث يكون ثواب فاعلها أكثر من عقابها والمقدرة حيث لايكون ثوابه أكثر لكنه يمكن أن يكون أكثر بحيث أنه لو كان له ثواب كثيراً لوقعت مكفرة في جنبه فأما على اصطلاح متأخريهم وهو أن الصغيرة ليست إلا قسماً واحداً وهو المحققة فلا نحتاج إلى الاحتراز منها ولايصح.
قلت: وما ذكره ليس بصحيح فإن الاحتراز محتاج على كلا المذهبين إذ المراد أن هذا الفعل أو الترك المعين الذي هو صغيرة في حق هذا الفاعل المعين الذي ثوابه أكثر من عقابه يستحق الذم عليه على بعض الوجوه، وهو حيث يصدر منه ولا ثواب له يزيد على عقابه وسواء قلنا بأنه حينئذ صغيرة مقدرة أو لا.
قوله: (لعدم التنافي).
أراد الذي يستحق الذم عليه على كل وجه يستحق الذم عليه على بعض الوجوه قطعاً فقد دخل في المحدود، وفيه نظر. /393/
تنبيه
الواجب يسمى أيضاً فرضاً ولازماً ولازباً وحتماً، والحنفية يفرقون بين الفرض والاوجب فيجعلون الفرض ما دل على وجوبه دليل قاطع، والواجب ما الدليل عليه ظني.
قوله: (وينقسم إلى عقلي) إلى آخره.
هذه القسمة بحسب طريقه، والعقلي: ما علم وجوبه بالعقل وهو ضربان: ضروري كقضاء الدين ورد الوديعة وشكر المنعم. واستدلالي: كوجوب المعارف الإلاهية وشكر المنعم المعلوم إنعامه دلالة. والشرعي: ما لانعلم وجوبه إلا من جهة الشرع ولا يقال ما علم وجوبه من جهة الشرع، فإنه يدخل فيه ما علم وجوبه عقلاً وشرعاً وليس بشرعي بل هو عقلي لسبق العقل إلى معرفة وجوبه ولأن دليل العقل أقوى، فأما ما تطابق فيه العقل والشرع من العمليات وكان يجوز أن يرد الشرع فيه بخلاف حكم العقل فإنه شرعي مثاله: ما ورد الشرع بتحريم ذبحه من الحيوانات التي لايؤكل لحمها. ذكر ذلك أبو الحسين وغيره.
وذهب الشيخ الحسن وصاحب الجوهرة إلى أن ما هذه صفته عقلي، والشرعي ضربان: ضروري كالصلاة والزكاة والحج والصوم، فإنه يعلم بالضرورة أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أتى بشرعيتها وكان يدين بها، واستدلالي كتفاصيل فروض الصلاة والوضوء وأعمال الحج ومقادير النصب في الزكاة ونحو ذلك.
تنبيه
اعلم أن قولنا شرعي أعم من أن نقول: سمعي. لأن لاسمعي مقصور على ما يسمع من الأدلة الشرعية نحو كلام الله وكلام رسوله والشرعي يدخل فيه غير ذلك كدلالة فعله صلى الله عليه وآله وسلم والقياس.
قوله: (وينقسم إلى مخير) إلى آخره.
هذه قسمة للواجب بحسبه في نفسه.
قوله: (تقوم مخالفة في الصورة مقامه).
وإنما لم يقل يقوم غيره لأنه ليس في الواجبات شيء لايقوم غيره مقامه فإن الصلاة في جانب من المسجد تقوم مقامها الصلاة في جانب آخر مع أنها أعيان أخر، ولسنا نكلف باتحاد أعيان الذوات لأنها لاتميز لنا عن غيرها فالتكليف بها تكليف بغير الممكن.
قال السيد مانكديم: وإن وجد فيما يجب على الله تعالى يعني لأنه لايمتنع اختصاص المصلحة الدينية بأعيان يوجدها الله تعالى دون غيرها وهو تعالى قادر عليها عالم بتميزها كبعثته من علم أن المصلحة له ولسائر المكلفين في إرساله دون غيره.
قوله: (كرد الوديعة بالنفس أو بالغلام).
جعل هذا مثلاً للمخير العقلي والأولى في تمثيله أن ينزل بإنسان داء فقيل له: تنفعك الحجامة أو شرب هذا المسهل لأن اختلاف الصورة ههنا واضح.
قوله: (وينقسم إلى موسع) إلى آخره.
هذه قسمة بالنظر إلى وقته وكان الأولى في هذا النوع من التقسيم أن يقال: وينقسم إلى مطلق لاوقت له كالزكاة والحج ونحو ذلك وإلى مؤقت وهو ضربان موسع ومضيق وقد قيل في حقيقة الموسع ماله وقت يسعه ويزيد عليه، وفي حد المضيق ما له وقت يسعه أو بعضه ولايزيد عليه. ذكره بعضهم. قال: ولايكون الواجب المؤقت إلا في الواجبات الشرعية.
قوله: (والمندوب هو ما كلفنا فعله) إلى آخره.
هذا بناء على مذهب أبي إسحاق بن عباس وهو أنا مكلفون بالمندوب خلاف ما ذهب إليه ابن الحاجب وغيره من أنه ليس بتكليف. قال ابن الحاجب: والخلاف هذا لفظي. فقال بعض شارحي كتابه: لأنه إن أريد بالتكليف ما يترجح فعله على تركه سواء ذم تاركه أم لا فهو تكليف وإن أريد به مطلوب طلباً يمنع تركه فليس بتكليف وهكذا المكروه في جانب النهي فإنه كالمندوب في جانب الأمر خلافاً واحتجاجاً.
قوله: (وأما ذم الفقهاء) إلى آخره.
إشارة إلى ما نسب إلى الناصر وأكثر المعتزلة /394/ أنه من اعتاد ترك النوافل فسق، وعن القاضي أن ترك السنة لغير عذر محظور، وظاهره فيه غاية الضعف فلا تفسيق إلا بقاطع. وقد قال صلى اللّه عليه وآله وسلم في الأعرابي الذي أقسم لازاد على الفرائص ولانقص: (( أفلح وأبيه إن صدق )) .
قوله: (والمكروه) إلى آخره.
إنما سميم كروهاً تجوزاً لأن النهي عنه ليس بنهي على الحقيقة إذ لاتقترن به كراهية لكن لما أشبه القبيح في أنه يستحق بتركه الثواب سمي مكروهاً ومثاله في الشرع واضح والعقلي منه كالتعبيس وعدم البشر لغير سبب.
فصل في الوجه الذي لأجله وجب الواجب وقبح القبيح وحسن الحسن
قوله: (جملة أو تفصيلاً). قد بينهما في قوله: (فلا يعلم قبح الظلم) إلى آخره.
ويعرف منه أن من علم كونه ظلماً فقد علم وجه القبح جملة ومن علم أن كونه ظلماً هو المؤثر في قبحه فقد علمه تفصيلاً.
قوله: (من نحو كونها ظلماً وعبثاً) إلى آخره.
اعلم أن أمهات القبائح أربع: الظلم والكذب والعبث والجهل. وإنما قبحت لكونها ظلماً وكذباً وعبثاً وجهلاً، وما عداها من القبائح راجع إليها وضابط ذلك أن يقال: الوجه الذي إذا وقع عليه الفعل كان قبيحاً لايخلو إما أن يكون من حيث تعلقه بغيره أو من حيث الفعل نفسه، فالأول الكذب والجهل، إذ وجه قبحهما كون متعلقهما لا على ما هو به.
والثاني لايخلو إما أن يكون عدم الغرض في الفعل فهو العبث، أو كون فيه ضرر خالص وهو الظلم فلا يرد قبح الظن الذي متعلقه لا على ما هو به لأن له مقتضياً وهو الأمارة بخلاف الكذب والجهل، فلو قدرنا صدور ظن لا عن أمارة متعلقة لا على ما هو به لكان قبيحاً لكنه لايقع إذ لا داعي غليه.
قوله: (ومفسدة ونحو ذلك).
المفسدة: ما يكون المكلف معه أقرب إلى فعل القبيح وترك الواجب وأراد بنحو ذلك سائر القبائح كالكذب والجهل.
قوله: (بحسب خلاف في النوافل سيأتي).
إشارة إلى ما ذهب إليه الجمهور من أن وجه حسنهما كونها مسهلة للفرائض وسيأتي بحقيقة وفي المحيط عن بعض المتكلمين أن وجه حسنها كونها ألطافاً في الواجبات الشرعية دون العقلية، وهذا الفعل فاسد لأنه يقتضي وجوبها ووجه كراهة المكروه أن تركه مسهل لترك القبائح وليس فعله مفسدة داعياً إلى فعلها إذن لقبح ولايلزم من القول بأن النوافل تسهل الواجبات أن يكون داعم إليها ولطفاً فيها فيجب بل كما يقول من تعود الأشعار سهلت عليه وإن لم يكن السفر الأول داعياً إلى الآخر واعلم أن وهج وجوب الواجبات العلمية كونها ألطافاً في العقلية العملية ووجه قبح الاعتقادات الجهلية والتقليدية و........ كونها مفاسد في الواجبات العقلية العملية ذكره بعضهم.
تنبيه
إن قيل: إذا كان وجه وجوب الواجب الشرعي كونه لطفاً فما قولكم في فرض الكفاية أهو لطف لفاعله فقط أو له ولغيره أو لغيره فقط؟ فإن قيل نأخذ الأولين لزم أن يتعين عليه، وإن قيل: بالثالث لزم ألا يجب عليه لأن نفع الغير لايجب.
والجواب: أنه لطف له ولهم جميعاً ولايلزم أن يتعين عليه لأنه لطف للجميع من أي فاعل كان وليس لفاعله من الإلتطاف به إلا كما لغيره، وإنما يختص بثوابه لا غير، ومن هنا قيل بأن ثوابه أكثر من ثواب فرض الغير لإسقاطه الوجوب عن الكل.
قوله: (لولا هذا لما حسن التكليف).
وذلك لأنها إذا لم تكن واجبة في أنفسها أو قبيحة كان التكليف بها فعلاً أو تركاً عبثاً لافائدة فيه، ولم يكن لجعل هذه واجبة في أنفسها أو قبيحة كان التكليف بها فعلاً أو تركاً عبثاً لافائدة فيه، ولم يكن لجعل هذه واجبة وهذه قبيحة معنى إذ لامخصص.
قوله: (أرادوا بذلك أنا نعلم بالضرورة قبح كل مفسدة في الدين وحسن كل مصلحة في الدين). /395/
فيه نظر لأن أمر الدين وشأنه غير معلوم بالضرورة فكيف يعلم بالضرورة قبح ما هو مفسدة فيه، وحسن ما هو مصلحة فيه، وهو يستلزم أن يعلم الفرع ضرورة مع أن الأصل لايعلم إلا بالاستدلال، ولعله يجاب بأن المراد بالدين وجوب الواجبات وقبح المقبحات على الإطلاق، وفي ذلك ما نعلم ضرورة.
فصل
قوله: (وذهب البغداديون من شيوخنا إلى أن القبيح يقبح لعينه).
قد تؤول كلامهم بأن معنى كون القبيح ذاتياً للظم مثلاً أنه لايقع ظلم إلا وهو قبيح، وكذلك سائر القبائح فهو ذاتي لما قد حصل فيه وجه القبح المجرد ذات الفعل فيكون جعله للذات تجوزاً، ويعود مذهبهم إلى مذهب البصريين.
قوله: (وقال ابن الإخشيد).
هو أبو بكر محمد ذهب هو وأتابعه إلى أنه قبح الفعل للإرادة المتعلقة به من جهة فاعله.
قيل: وإنما زادوا أن الذي يؤمر في وقوع الفعل على وجه دون وجه هو الإرادة والقبح فرع على وقوعه على وجه مخصوص فإذا لم يقع على ذلك الوجه إلا بالإرادة كانت هي المؤثرة في قبحه لأنه ما أثر في السبب فهو المؤثر في المسبب، وعلى هذا فالخلاف بيننا وبينهم يعود إلى الوفاق فإنهم على هذا يوافقوننا في أنه يقبح لوقوعه على وجه ونحن نوافقهم أنه لايقع على ذلك الوجه إلا بالإرادة. وفيه نظر.
قوله: (وسيتضح عن قريب).
يعني إبطال أقوال المخالفين والرد على ما احتجوا به.
تنبيه
لم يذكر المصنف هذا الدليل على أن وجه وجوب الشرعيات وقبح القبائح الشرعيات ما ذكره فلنذكر ما يذكره الأصحاب في ذلك مفصلاً، أما الذي يدل على أن وجه وجوب الشرعيات كونها مصالح لنا فهو أن الله تعالى قد عرفنا وجوبها ولا يصح أن يجب لا لأمر وإلا لم يكن وجوبها أولى من عدمه، وإذا كان وجوبها لأمر فلا يصح أن يكون هذا الخبر بوجوبها أو الأمر بها لأنها مالم تكن واجبة لم يحسن الإخبار بوجوبها ولا الأمر بها بل يقبح لأن إيجاب ما ليس بواجب قبيح.
وكان يلزم وجوب المباح والقبيح لو وقع الإخبار بوجوبهما أو الأمر بهما مع ثبوت وجه القبح والإباحة ولايصح أن تكون واجبة للثواب لأن طلبه لايجب وإلا لوجبت النوافل ولايصح وجوبها لدفع ضرر العقاب لأن استحقاق العقاب بتركها فرع وجوبها فيؤدي إلى الدور فلم يبق إلا أن وجوبها علينا لكونها مصالح وألطافاً ولايصح أن تكون لطفاً في المعارف الإلاهية لأنا لانعلم وجوبها إلا بعد حصول تلك المعارف فلم يبق إلا أن تكون لطفاً في الواجبات العقليات العمليات، وترك المقبحات العقليات.
والذي يدل على أن القبائح الشرعية قبحت لكونها مفاسد أن الله تعالى نهى عنها وأعلمنا بقبحها ورغب في تركها، فإما أن تقبح لأمر أو لا لأمر وتعود القسمة التي ذكرناها آنفاً في الواجبات الشرعية.
قوله: (ويبطل قول البغداديين) إلى آخره.
هذا الذي ذكره وجه صحيح في إبطال قولهم وقد ذكر أصحابنا في إبطاله وجوهاً أخر منها:
أن صفة الذات يرجع إلى إفراد الذوات فكان يلزم في كل حرف من حروف الكذب أن يكون قبيحاً وإن لم ينضم إليه غيره.
ومنها: أن القبيح لو كان قبيحاً لذاته لكان يجب كونه قبيحاً في حالة العدم بناء على مذهبهم في ثبوت الذات وصفتها الذاتية في حالة العدم.
ومنها: أن القبح لو كان لصفة ذاتية لوجب في كل القبائح أن تكون متماثلة لأن الاشتراك في الحكم الصادر عن الصفة الذاتية يقضي بالاشتراك في الصفة الذاتية والاشتراك فيها يقتضي التماثل واختلافها لاشك فيه لكن جميع هذه الوجوه مؤاخذة لهم بظاهر قولهم، ومجاراة لهم بحسبه وكلامهم قد يؤل بما ذكرناه، وقد حمل الرازي كلام الشيخ أبي القاسم في هذه المسألة وفي غيرها كقوله في الواجب والحسن والأمر والنهي والخبر وجميع الأوصاف /396/ التي تجري على الأفعال على أن مراده بقوله فيها لذاته وعينه، أن عين الضرر الذي فيه حقيقة الظلم يكون ظلماً، وكذلك الجهل والكذب والعبث ونحو ذلك لاتختلف الحال فيه، ولايحتاج في كونه كذلك إلى إرادة، وكذلك قوله في أنواع الكلام كالأمر فإنه بالوضع اللغوي موضوع للأمر من غير اعتبار إرادة كالأسد والحمار، وكذلك غيره من ضروب الكلام.
قيل: وكلام الرازي بنفسه يقضي بذلك سيما في ضروب الكلام وحمله لكلام أبي القاسم على ما ذكر ليس بالبعيد وهو جيد على النظر.
قوله: (وكذلك لو نفى الاعتقاد).
أي لو قدرنا أنه مما ينفى فبقي لكان على ما ذكر ويتضح الكلام في ذلك على مذهب أبي هاشم.
قوله: (بل من لايثبتها) يعني نفاة المعاني وقد تقدم ذكرهم.
قوله: (ويعدوا ذكره فيه دور) إلى آخره.
فيه إشكال لأنه إنما يكون دوراً لو قال: بأن قبح الفعل لقبح الإرادة كما توهمه عبارة المصنف لكن ظاهر مذهبه أنه يقبح للإرادة نفسها لا لقبحها فلا دور.
قوله: (وبعد فلو سلمنا ذلك).
أي توقف قبح الكذب على إرادة الإخبار عن الشيء لا على ما هو به وإن كنا لانسلمه فإن القبح وكون الخبر كذباً لايتوقف على تلك الإرادة وإنما يكون كذباً لأن خبره لا على ما هو به سواء أراد ذلك أو لم يرده.
قوله: (والبراهمة) إلى آخره.
لا إشكال في أنهم لايعلمون كوننا منهيين مأمورين لإنكارهم النبوات والشرائع وأما كوننا مملوكين مربوبين فيعلمونه لاعتقادهم ثبوت الصانع والله أعلم.
قوله: (وبعد فيلزم ألا يجب علينا معرفة النبوة) إلى آخره.
هذا الوجه خاص في إبطال القول بأن علة الحسن والقبح الأمر والنهي لا كوننا مملوكين مربوبين إذ لاتتوقف معرفة ذلك على العلم بالنبوة فلم يكن إلى قوله مملوكين مربوبين حاجة.
قوله: (وأما نهي صاحب الدار) إلى آخره.
هذا جواب عن سؤال مقدر حاصله التزام أن يؤثر نهينا في القبح فإن من نهى الغير عن دخول داره أو وطئ أرضه أو نحو ذلك صار فعله لذلك قبيحاً ولاعلة له إلا النهي. فأجاب عنه بأن نهيه لم يكن علة لقبح تلك الأفعال بل كاشفاً عن عدم رضاه وفعلها مع عدم رضاه يقبح لأنه إضرار به لانفع فيه ولادفع ولا استحقاق فكان ظلماً وكونه ظلماً وجه في قبحه وفيه نظر، لأنه يقبح وإن فرض عدم الضرر لكن يقبح حينئذ لا لمجرد نهيه بل لأن الشارع نهى عن التصرف في ملكه بغير رضاه، ونهيه قد كشف عن عدم الرضا فيكون ذلك من مناهي الشرع.
قوله: (شبهتهم أنه يقبح من الله تعالى فعل الظن).
يقال: كيف يتصور احتجاجهم هذا وهم لايقولون بأنه يقبح من الله شيء لعدم نهيه وأي دلالة في هذا على أن القبيح يقبح للنهي عنه وهذا إشكال ظاهر فلعلهم أتوا بهذه الشبهة توصلاً إلى بطلان قولنا كأنهم قالوا: إذا كان القبيح يقبح لوجه نفع عليه فلم قضيتم بقبح الظن من الله تعالى دوننا مع أن الوجه قد حصل في الموضعين.
قوله: (من حيث لاحكم للظن) إلى آخره.
قد يسلك في تعليل قبحه منه تعالى وجه آخر وهو أن يقال: يقبح من حيث يكون صادراً منه تعالى لا عن أمارة ينظر فيها لأنه يستحيل كونه ناظراً في الأمارة إذ من حق الناظر الشك والتجويز.
قوله: (وهو تعالى عالم لذاته) فلو فعل الظن لفعله لا عن أمارة، والظن الصادر لا عن أمارة قبيح إذ لافائدة فيه ولاثمرة تحته.
قوله: (لأنه يستجلب به الضرر على نفسه).
يعني وهذا وجه قبح فقبح ذلك الفعل لأجله منا ولم يحصل هو ولا غيره من وجوه القبح في التكليف الصادر منه تعالى ونظير هذه الشبهة قولهم أنه يحسن من الله تعالى إنزال العقوبة بالعاصي وإرادة إنزالها ويقبح من العاصي أن ينزل ذلك بنفسه أو يريده. /397/
والجواب كالجواب في أنه قبح من الفواحد منا لكون ذلك ضرراً ولو أمكنه دفعه لوجب عليه فكيف يحسن منه إرادته ولم يقبح من جهته تعالى لأنه لاضرر عليه فيه مع استحقاق العاصي له.
فصل
عندنا أنه يعلم بالعقل وجوب كثير من الواجبات وقبح كثير من المقبحات وحسن كثير من المحسنات.
قوله: (أي لاعمدة لها إلا الشهرة).
إشارة إلى ما يقولون من أنا لاننكر قبح هذه الأمور وحسنها ولكنا نقول أنها أمور مشهورة وآراء محمودة عند العقلاء تنغرس في مبدأ الصبا وأوائل النشو، وربما تنشو عن التسالم وطيب المعاشرة وربما تحصل من الحنو والرقة، ولاستحسانها واستقباحها أسباب كثيرة لاتنضبط وليست أموراً بديهية يقتضيها العقل بصريحه كما يقتضي سائر الأمور البديهية.
قال الإمام يحيى: وكلامهم هذا فاسد لوجهين أما أولاً فإنا على علم ويقين من حال العقلاء في رسوخ هذه القضايا في عقولهم وتحققها في أفهامهم لا لبس عليهم فيها كسائر الأمور الضرورية من البداية وغيرها مع أنا لاننكر أن لاعلوم متفاوته في الظهور والخفا ولكنها مستوية في التحقيق والثبوت، وأما ثانياً فليس سعينا معهم إلا في بيان أن هذه القضايا مقررة في الأذهان متحققة في العقول، فإذا ساعدونا على هذا التحقيق فقولهم بعد ذلك أنها قضايا مشهورة وآراء محمودة تنغرس في أوائل النشو لايضرنا بعد تسليم كونها عقلية وعلى الجملة فنحن نقول: إن هذه القضايا مقررة في العقولوهم يزعمون أنها مشهورة بين العقلاء ونحن نقول أن هذه النفرة عن المقبحات نفرة عقلية وهم يقولون أناه نفرة طبيعية مع الاتفاق منا ومنهم على أن موردها العقل ومستندها الضرورة كما ذكره المحققون من متأخريهم وأنت إذا تحققت هذا منا ومنهم عرفت أن الخلاف بيننا وبينهم في هذه القضايا يقرب أن يكون لفظياً.
واعلم أن الإمام عماد الإسلام مال في تصحيح تقبيح العقل وتحسينه إلى طريقة الشيخ أبي الحسين وأصحابه، وهي دعوى العلم الضروري في ذلك لايحتاج إلى الاستدلال عليه وأما الشيخ أبو هاشم وأصحابه فسلكوا في ذلك سبيل الاستدلال والإلزام ولهم في ذلك أدلة واضحة وإلزامات راجحة أغنى عن ذكرها عدم شدة الحاجة إليها فكل مسألة تدعى فيها نظير أبي الحسين في التحقيق الضرورة لا تفتقر إلى إيراد كثير من الأدلة وتطويلها وقد عرض في أثناء كلام المصنف أولاً وآخراً ما فيه كفاية وزيادة.
فصل
قوله: (عند الجمهور أن الله تعالى قادر على ما لو فعله لكان قبيحاً).
أراد بالجمهور الزيدية وأكثر المعتزلة منهم الشيخان والقاضي والبغدادية، وبالغت البغدادية في ذلك حتى قالوا إن منكر ذلك كافر.
قوله: (ويستحيل منه لفقد الداعي).
إنما قالوا بذلك لأن عندهم أن الداعي شرط في الصحة وأن وجود المقدور من دون داع مستحيل والدواعي له تعالى إلى القبيح مستحيلة فاستحال وجوده منه. قالوا: وإنما يعلم أنه مقدور له من حيث أنا لو قدرنا توفر الدواعي له إلى إيجاده وانتفاء الصوارف عنه لأمكنه فعله فبهذا يتميز عندهم عما ليس بمقدور أصلاً.
قوله: (وقالت المجبرة) إلى آخره.
قد نسب هذا القول إلى النجارية فقط وقال في العيون عند الحشوية والرافضة والمجبرة أنه تعالى لايقدر على القبيح فنسبه إلى المجبرة على الإطلاق، وهذه الحكاية توافق /398/ مذهبهم لأنهم يقولون أنه لايقبح منه تعالى قبيح ولاقبيح يمكن وقوعه من جهته تعالى إلا النجارية فهم يذهبون إلى أن القبيح يقبح لعينه كالبغدادية.
قوله: (ولاتأثير لاختلاف وجوه الأفعال).
يعني من حسن وقبح وكذب وصدق.
وقوله: (في قدرة القادر).
يعني فلا يقتضي قبح هذا الفعل أو كونه كذباً عدم تعلق القدرة به لأن تعلقها به غير موقوف على شرط.
قوله: (أليس لاتتعلق قدرة القادر باختصاص الفعل بوقت معين).
يعني ليس تخصيصه بذلك الوقت من تأثير القدرة إذ لا اختيار للقادر في ذلك ولايتوقف عليه.
قوله: (ويمكن الجواب بأن الوجه الذي لأجله خرج الفعل عن تعلقه) إلى آخره.
يعني فإن الوجه في خروج الفعل عن تعلقه بالقادر إذا انقضى وقته أنه لايصح وجوده إلا في ذلك الوقت فإذا انقضى ولما يوجد تعذر وجوده في غيره، أما غير الباقي قليلاً يلزم أن يصح كونه له في الوجود وقتان، وأما الباقي من مقدور القدر فلزوم أن يصح إيجاد مقدورين من جنس واحد في وقت واحد على وجه واحد بالقدرة ويلزم جواز تعديها ولا حاصر، فيلزم صحة ممانعة أحدنا للقديم تعالى.
قوله: (لاسيما المبتدأ الباقي).
إنما خصه لما في غيره من الإشكال، وأن لامسبب وغير الباقي لو صح منه تعالى إيجاده في وقت آخر غير الوقت الذي يختص به لزم ما سيأتي تقريره من صحة انقلاب غير الباقي باقياً، ووجود مسببين في وقت واحد عن سبب واحد، وإن كان المصنف قد مال إلى أن الحكم واحد في الجميع على ما سيتضح لك.
قوله: (ويلزم أيضاً أن يكون نفي القدرة على الجمع بين الضدين مدحاً).
يقال: من أين يلزم ذلك لأنا وإن جعلنا نفي القدرة على لاقبيح مدحاً فلكون فعله نقصاً وعدم القدرة عليه محيل لصحة فعله وما استحال لأجله وجود ما هو نقص كان جديراً بأن يتمدح به بخلاف نفي القدرة على الضدين إذ ليس في إيجادهما لو صح منه وفعله نقص فما الجامع بين الأمرين.
قوله: (وهذا الدليل) إلى آخره.
الأمر كما ذكره المصنف إذ لم يورد هذا الدليل والذي قبله إلا احتجاجاً على القائلين بانتفاء قدرته على فعل القبيح كالنظام والجاحظ، وقد أوردوا عليهم وجوهاًغير ما ذكره المصنف منها أنه تعالى قادر لذاته والقادر للذات يقدر على جميع أجناس المقدورات، وما هو من جنس منها إلا وهو يشتمل على الحسن والقبيح فيجب قدرته على ذلك إذ لا اختصاص لذاته بحسن جنس دون قبيحه.
ومنها: أنه تعالى قادر على خلق الجماد بعد خلق الحيوان فيجب قدرته على خلقه قبل خلق الحيوان ولو خلق الجماد قبل خلق الحيوان لكان قبيحاً، وأما أبو الحسين فقد استدلوا على بطلان قوله بأن وجود الفعل لايقف على الدواعي وإنما يقف على كون القادر قادراً وزوال المانع ولهذا يقع الفعل من الساهي والنائم ولا داعي لهما وأيضاً فإن أحدنا يتصدق بأحد الدينارين ويباشر الفعل بإحدى يديه دون الأخرى من غير داع.
وادعى أصحابنا أيضاً المناقضة في كلام أبي الحسين واصحابه حيث قالوا: يقدر عليه تعالى ويستحيل منه لكن دعوى المناقضة غير صحيحة لاختلاف وجهي الصحة والاستحالة عندهم كما ذكره المصنف.
قوله: (قالوا لو قدر على القبيح لصح أن يوقعه) إلى آخره.
اعلم أن هذه الشبهة هي أشف ما يوردونه وغيرها من شبههم واضح البطلان جدير بأن يضرب عنه صفحاً وقد أجيب عن هذه الشبهة بأجوبة كثيرة منها: المعارضة بتقدير أن يخبرنا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بأن فلاناً لايدخل هذه الدار ثم يقول ما /399/ تقولون لو قدرنا دخول ذلك الفلان تلك الدار أيدل على كون المعصوم كاذباً، وكذا لو قدرنا وقوع الكبائر من جهته أيدل على ارتفاع عصمته أم لا وغير ذلك فما أجابوا به فهو جوابنا.
قوله: (وعلله الشيخ أبو علي).
ذكر بعضهم أن هذا التفصيل لابن الملاحمي أودعه معتمده فلعله فيه قاف لأثر أبي علي أو ناقل عنه.
قوله: (أو يكون أحدهما موجباً للآخر).
يعني وسواء كان الأول موجباً للثاني نحو إن كان في قلب زيد علم فهو عالم، أو كان الثاني موجباً للأول نحو: إن كان عالماً ففي قلبه علم.
قوله: (أو يكون أحدهما مصححاً للآخر).
أي سواء كان المصحح الأول أو الثاني ومثال ما يكون الأول فيه مصححاً للثاني إن كان الجوهر متحيزاً احتمل العرض ومثال ما يكون الثاني مصححاً للأول إن كان زيد عالماً كان حياً لأن كونه حياً هو المصحح لكونه عالماً.
قوله: (ويلزمه ألا يجد دليلاً على أن الله لايفعل القبيح).
يعني لأن الدليل على عدم جواز فعله تعالى له أنه لو فعله لكان جاهلاً بقبحه أو محتاجاً له إذ العالم يقبح الفعل الغني عنه لايفعله وإذا كان قد زعم أنه تعالى لو فعل القبيح لم يدل على جهله وحاجته انتقض الدليل وبطل التعليل.
قوله: (على ما لو قدر وقوعه على الوجه المستحيل).
يعني وهو صدوره من العدل الحكيم.
قوله: (لكان دليلا غير دليل).
فكونه دليلاً ظاهروكونه غير دليل لصدوره عن الحكيم.
تنبيه
من شبه النظام وأصحابه أنه تعالى لو قدر على القبيح لكان حاصلاً على صفة نقص وهو يتعالى عن ذلك.
وأجيب عليهم بالمعارضة بالملائكة والأنبياء عليهم السلام فإنهم قادرون على القبيح بالاتفاق ولعلهم يلتزمون جواز هذا النقص عليهم كغيره من النقائص الجائزة عليهم من الجهل والحاجة ويقولون ليس المتنزه عن صفات النقص المختص بصفات الكمال إلا الواحد المتعال.
والتحقيق أن الأمر على العكس مما قالوه فإنه تعالى لو لم يقدر على القبيح لقدح في كونه قادراً لذاته من حيث أن القبائح داخلة في أجناس المقدورات وإنما يقع النقص بفعل القبيح لا بالقدرة عليه إذ لايستحق بالقدرة عليه ذماً.
قوله: (فهي مثبته على فاسد أصولهم).
يعني لأنهم يقولون كل ما فعله تعالى منفرداً فليس بقبيح إذ لاتحصل فيه علة القبح من كونه منهياً عنه مع كونه مملوكاً فلا يتصور قدرته على فعله وأما ما أوجده واكتسبه العبد فهو قبيح لأن العبد منهي عنه وهو مملوك فكان قادراً عليه على هذا الوجه ولو صحت لهم أصولهم في وجوه القبح والكسب لصحت هذه الشبهة لكن قد عرفت بطلانها وما ترتب على الباطل فهو باطل.
فصل في بيان ما يجري عليه تعالى من الأسماء بمعنى أنه لايفعل ما يقدر عليه
قوله: (منها قولنا: سبوح قدوس فإن من فائدته تنزيهه تعالى عن فعل القبيح).
يعني وليس هذا كل فائدته فقد تقدم في الصفة الأخص أنه يفيد تنزهه في ذاته وصفاته عما لايليق به ولهذا أتى بمن التي للتبعيض. وقال الغزالي في المقصد الأسنى: القدوس يفيد تنزهه عن كل وصف يدركه حسن أو يتصوره خيال أو يسبق إليه وهم أو يختلج به ضمير أو يقضي به تفكير.
قال: ولا أقول أنه ميزة عن النقائص والعيوب فليس من الأدب أن يقول قائل ملك البلد ليس بحائك ولا حجام.
قوله: ومنها قولنا بارك هذا الإسم لايرد في حقه تعالى مطلقاً منفرداً بل مضافاً إلى ما يصير بإضافته إليه مدحاً كقولنا: تارك للظم أو تارك للكذب أو تارك للقبيح ونحوه، وكذلك قولنا: مكفر ومحبط، فيقال: مكفر /400/ للعقاب أي لايفعله للتوبة أو لصغر الذنب ومكفر للذنوب بمعنى لايعاقب عليها ومحبط للثواب أي لايفعله بسبب المعصية الكبيرة أو الندم على الطاعة، ومحبط للطاعات بمعنى لايثيب عليها لمثل ذلك.
قوله: (لأنه يفيد احتمال المكاره).
يعني وذلك لايجوز في حقه تعالى لأن حاصله أن يحبس نفسه على المشقة ويلزما ما يكرهه وينفر عنه وذلك لايتصور في حق القادر لذاته إذ لامشقة في حقه.
قوله: (فإن ورد به سمع).
قد ورد في تعداد أسمائه تعالى الحسنى مرفوعاً في بعض كتب الحديث وفسره الغزالي في المقصد بأنه الذي لاتحمله العجلة على المسارعة إلى الفعل قبل أوانه بل ينزل الأمور بقدر معلوم ويجريها على سنن محدود ولايؤخرها عن آجالها المقدرة لها تأخير متكاسل ولايقدمها على أوقاتها تقديم مستعجل.
قوله: (وأظهر من ذلك).
أي وأظهر من صبور في عدم صحته إجرائه عليه تعالى.
القول في أن الله تعالى عدل حكيم
هذه المسألة هي ملاك باب العدل ولهذا قدمت على سائر مسائلة وما قدم عليها فهو ف يحكم المقدمات والمبادئ لها كما تقدم تحقيقه.
قال بعضهم: ولا أعلم أن أحداً من المتكلمين قدم غيرها عليها من مسائل العدل في موضوعات المتقدمين والمتأخرين إلا ما ورد في كلام السيد صاحب الشرح من أن مسألة الأفعال أولى بالتقديم منها، ووجه ما ذكره كون دليل العدل أنه تعالى عالم بقبح القبيح غني عنه عالم باستغنائه عنه، ومن كان بهذه الصفة لم يفعل القبيح قياساً على الواحد منا فما لم يثبت أن أحدنا فاعل لم تتم الدلالة وهذا الذي ذكره فيه نظر لإمكان الاستدلال على عدله وحكمته بطريق ابتدائية ولأنه لايقابل الوجه في تقديم هذه المسألة وهو أنها أم الباب ومسائل العدل داخلة تحتها وتفصيل لها وهي دليل عليها كما نقوله في الدلالة على أنه غير خالق لأفعالنا هي مشتملة على القبيح والله لايفعله وتحقيق ذلك أن مسائل العدل على ضربين الأول المسائل الإثباتية كالكلام في أنه تعالى يثيب من أطاعه ويعاقب من عصاه ويبين للمكلفين ما كلفوه ويمكنهم منه فلا يكلفهم بما لايعلم أو لايطاق ويعوض المؤلمين ويقبل توبة التائبين، وهذه كلها داخلة تحت قولنا لايخل بالواجب.
والثاني: المسائل النفيية كالكلام في أنه ليس بخالق لأفعال العباد، ولايثيب أحداً بغير عمل منه، ولايعاقبه بغير ذنب منه، ولايريد المعاصي، ولايقضي به، ولايرضى بها، ولايكلف ما لايطاق، ولا ما لايعلم، وهذه كلها داخلة في أنه تعالى لايفعل القبيح.
فعرفت صحة ما ذكر من كونها أم مسائل العدل وإنما سائر مسائله تفصيل لها وعائدة إليها.
قوله: (ذهب أهل الحق إلى أنه تعالى عدل حكيم).
قال الإمام يحيى: اعلم أنه لاخلاف بين أهل القبلة أن الله تعالى موصوف بالحكمة في جميع ما صدر منه من أقواله وأفعاله وأنها جارية على حسب المصلحة وإنما يحكى الخلاف عن هؤلاء المجبرة على طبقاتهم فإنهم وافقونا لفظاً فيصفون الله تعالى بالحكمة والعدل ويخالفونا معنى فيقولون بأن جميع الفواحش والمعاصي من فعل الله تعالى وحاصلة بقدرته وإرادته وهو المتولي لخلقها وإيجادها تعالى الله عما يقول الظالميون علواً كبيراً. انتهى.
واعلم أنهم وإن أضافوها إلى الله تعالى فإنهم لايطلقون القول بأنه يفعل القبيح لأنها غير قبيحة منه عندهم بناء على أصلهم في نفي التقبيح العقلي.
قوله: (وهذه ثلاثة أصول).
أحد الأصول أنه لا علة لكون الواحد في الشاهد لايفعل القبيح إلا اجتماع تلك /401/ الأوصاف.
وثانيها: أنها قد اجتمعت في حقه تعالى على أبلغ الوجوه.
وثالثها: أنه يجب ألا يفعله. هذا ما اختاره المصنف رحمه الله في تحرير هذه الدلالة وغيره يجعلها مثبتة على أربعة أصول ويجعل الرابع منها: أن من كان بهذه الأوصاف فإنه لايفعل القبيح، ثم يستدل عليه بما يعلمه من حال الواحد منا أنه متى اختص بهذه الأوصاف فإنه لايفعله وهذا في التحقيق راجع إلى ما ذكره المصنف من دعوى الضرورة وقد ذكر مثله الإمام يحيى في تحريره لهذا الدليل فإنه قال: وإنما قلنا أن الواحد منا متى كان عالماً بقبح القبيح وغنياً عنه وعالماً بكونه غنياً عنه فإنه لايفعله فلأنه إذا قيل له إن صدقت أعطيناك درهماً، وإن كذبت أعطيناك درهماً. وفرضنا أن الكذب والصدق مستويان عنده في جميع الأمور وقدرنا أن الإنسان لم يخالط أحداً من الخلق ولم يعتقد مذهباً ولا اعتقد ثواباً ولاعقاباً فإنا نعلم بالضرورة أنه لايختار الكذب على الصدق.
قوله: (وإن يستمر الحال في ألا يفعله مع زوالها أو بعضها).
أي فيستحيل أن يفعله ولايجوز منه فعله إذ لايستمر عدم الفعل إلا مع استحالته وعدم جوازه وذلك بأن يحصل الأمر المحيل لفعله منه غيرها.
قوله: (لايعلم استحقاق العقاب). يعني لكفره.
قوله: (ولايتضرر بالذم) يعني لدناءته.
قوله: (وهي وإن كانت أوصافاً كثيرة).
هذا احتراز عن سؤال وارد على هذا الدليل وهو أن يقال: كيف عللتم الحكم الواحد بعلل كثيرة ولو جاز ذلك ههنا لجاز في الحركة مع المحترك. وجوابه: ما ذكره المصنف من معارضة وغيرها وقد ذكر في جوابه أنا لم نعلل عدم فعل القبيح إلا بأمر واحد وهي كون الأوصاف التي ذكرنا مجتمعة ولايقال: فإذا كانت علة لزمكم ألا يستحق تارك القبيح عند اجتماعها مدحاً ولا ثواباً إذ العلة يجب ثبوت حكمها عندها لأن المراد بكونها علة أنها تكشف عن عدم فعله لكونها صارفة عنه لا أنها موجبة، وإن وجب ذلك فوجوب استمرار.
قوله: (إذا كانت كاشفة).
يعني لا إذا كانت موجبة فإنه لايصح تركبها من وصفين لأن كل واحد منهما إن لم يكن علة على انفراده فليس يصير علة بالانضمام وإن كان علة لزم أن يوجب الحكم على انفراده ويؤدي إلى أن يكون للمعلول الواحد علتان وذلك لايصح على ما هو مقرر في موضعه.
قوله: (فقد يفعله لحسنه ولكونه إحساناً).
يعني والقديم سبحانه يشارك الواحد منا في فعل ما هو حسن لهذه العلة.
قوله: (وبعد فكل عاقل يستحسن) إلى آخره.
يعني وإن لم يكن له فيه جلب نفع أو دفع ضرر، وأنت أيها السائل زعمت أنه لايفعل الحسن إلا لذلك.
تنبيه
اعلم أن هذا الدليل الذي ذكره المصنف على ثبوت عدل الله، وأنه لايفعل القبيح هو المعتمد في كتب الأصحاب، والمتداول في ألسنتهم وهو بطريقة القياس لكن هذا يسمى قياس الأولى لوجود العلة في الغائب أقوى مما هي في الشاهد فيكون قطعياً وقد رودت عليه اعتراضات، منها: ما ذكره المصنف. ومنها: أن يقال: إذا كان عندكم أن من اجتمعت فيه الأوصاف هذه لايفعل القبيح فقد ذكرتم أن العبث قبيح وأن فاعله فاعل للقبيح مستحق للذم عليه وعلى قياس كلامكم أنه لايتصور من العاقل فعله لعلمه بقبحه عندكم ضرورة ولاستغنائه عنه إذ الفرض أنه عبث لا فائدة فيه فيلزم ألا يتعلق وقوعه من مكلف وحينئذ لايكون لعده من القبائح وجه لأن الفرض أنه مستحيل الوقوع.
والجواب: أن يقال: إن كلام علمائنا في ذلك على وجه الفرض /402/ والتقدير، أي لو قدرنا وقوعه من المكلف وأما وقوعه تحقيقاً فهو كما ذكرت أيها السائل لاثبوت له ذكر هذا الجواب بعضهم، ويمكن أن يقال والله أعلم: يمكن وقوعه ممن جهل استغناءه عنه وإن كان فين فس الأمر لاحاجة إليه ولا فائدة تحته وغير هذا من الأسئلة الواردة لكنها غير قادحة فلا نشتغل بإيرادها.
وأما الشيخ أبو الحسين فحرر هذا الدليل على وجه آخر غير قياسي وهو أن القادر لايفعل ما يفعل إلا لداع، والداعي إلى فعل القبيح ليس إلا جهل الفاعل بقبحه أو جهله بغنائه عنه، أو حاجته إليه أو شهوته له، وهذه الأمور كلها مستحيلة في حقه تعالى فلا جرم استحال منه فعل القبيح.
قال الإمام يحيى: وحاصله أنه تعالى قد فقد داعيه وخلص صارفه عن الفعل وكل من فقد داعيه وخلص صارفه عن الفعل فإنه لايفعله. وإنما قلنا أنه تعالى قد فقد داعيه إلى القبيح وخلص صارفه عنه لأنه إما أن يكون داعي حاجة أو داعي حكمة، والأول باطل لاستحالة المنافع والمضار عليه كما سلف، والثاني أيضاً باطل لأن ذلك مرتب على كون الفعل حسناً، وأما خلوص صارفه فظاهر لنه تعالى إذا كان عالماً بقبحه وعالماً بأنه غني لايحتاج إلى شيء فقد خلص صارفه، وإنما قلنا إن كل من فقد داعيه وخلص صارفه عن الفعل فإنه لايفعله لأنه لو وقع والحال ما ذكرنا لبطل وقوعه على حسب الداعية وخرج عن كونه مقدوراً له لأن حقيقة الفعل ليس إلا وقوعه على حسب الداعية. انتهى.
قال بعض المتأخرين: ويؤيد هذين الدليلين كليهما ما قيل أن اعتقاد الجهل مقدور لأحدنا ومع ذلك لايمكن أن يقصد إليه يوفعله وهو عالم بأنه جهل، إما لأنه لا داعي له إليه أو لوجود الصارف عنه وهو علمه بقبحه وغناه عنه بخلاف الكذب فإنه قد يفعله لحصول غرض فيه في بعض الأحوال.
فائدة
قال الشيخ أبو هاشم: كل أفعاله تعالى توصف بأنها عدل سواء تعلقت بالحقوق كالإثابة، أو لاتعلق لها بذلك فخلق العالم وسائر التفضلات. وقال الشيخ أبو علي: إنما يوصف بأنه عدل مناه ونحوها ما تعلق نحو الغير فقط، إذ العدل توفير حق الغير واستيفاء الحق منه فيخرج خلق العالم ونحوه مما لايتعلق بحق الغير وكلام أبي هاشم مبني على أن ما كان حسناً فهو عدل والخلاف في التحقيق اللفظي.
فصل فيما يلزم المجبرة في هذه المسألة
ومعنى الإلزام: هو أن يأتي على مقتضي ما يذهب إليه الخصم أمر لا يذهب إليه من حيث أن ما ذهب إليه يفضي إلى ذلك الذي لايذهب إليه ويقتضيه فنورد عليه لزوم ما لايلتزمه بسبب ما ذهب إليه لئلا يذهب إليه.
قوله: (قال لأنه ليس بأعظم من غيره من القبائح).
قال السيد الإمام: وأوضح ذلك بمثال فقال: إن أحدنا لو قال لصبي أدخل البيت ففيه رمان موضوع لأجلك وليس في البيت ذلك فليس ذلك بأعظم من أن يقلع سناً من أسنانه أو يقطعه إرباً إرباً. قال: ولقد مر على القياس. وأقول: إنه وإن مر على قياس مذهبهم فلقد عظمت حرابه على الله وقلت مراقبته لله ورد ما هو معلوم ضرورة من دين رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم فتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
قوله: (فلا تثبت دلالته على المعنى النفسي).
أي على أنه صدق لأنه إذا اعترض الشك في صدق العبارة اعترض في المعبر عنه.
قوله: (وكل وجه يذكرونه في المنع من الأمر به) إلى آخره.
يعني لأن المانع من ذلك لايكون إلا قبحه إذ لا إشكال في قبح الأمر بالقبائح، ونقول: إذا لم يأمر بالقبيح لقبحه فكذلك /403/ لايفعله لقبحه بل الأمر به أهون من فعله في القبح، فإن قالوا: إن فعله لايقبح منه. قلنا: وكذلك الأمر لو صدر منه لم يقبح منه لانتفاء علة القبح في حقه عندكم.
فإن قالوا: إن السمع دل على أنه لايأمر به كقوله تعالى: {إن الله لايأمر بالفحشاء}.
قلنا: وكذلك السمع دل على أنه لايفعله كقوله: {إن الله لايظلم الناس شيئاً}، ثم أن وجه دلالة السمع منتفية على قواعدكم إذ وجه دلالته صدوره عن عدل حكيم لايجوز عليه الكذب، وقد نفيتم هذه القاعدة فلا سبيل لكم إلى الاستدلال بالسمع.
قوله: (فهلا جاز أن ننصب الأدلة على الباطل) إلى آخره.
يقال: هذا غير لازم لهم لأن الأدلة التي أشرت إليها إن كانت شرعية بما دلت عليه هو عندهم حق، ولايصح كونه باطلاً فلا يثبت أنه نصب أدلة على الباطل، وإن كانت أدلة عقلية فالدليل العقلي يدل على مدلوله لذاته ووجه دلالته الثابتة فيه لا لأن ناصباً نصبه واختار كونه دليلاً.
قوله: (إنما نثبت ذلك إذا ثبت أن المدعي صادق).
يعني فلو ثبت صدق الأنبياء وكل من ادعى النبوة وظهر المعجز على يديه أمكن أن يقال في حقه أن المعجز موضوع للتصديق لتواتر ظهوره على ذوي الصدق وعدم علمنا بظهوره على يغرهم فأما وصدقهم غير معلوم للتجويز الذي ذكرناه على قياس مذهبكم فمثل هذا الجواب لايتأتى لكم، وليس تسليمنا لصدقهم كافياً لكم فإنا علمناه لعلمنا بعدل الله وحكمته وقبح إرسال الكذابين منه وأنتم عن هذا بمعزل.
تنبيه
اعلم أنها قد جرت عادة الأصحاب ببناء هذه المسألة على ثلاثة أركان وهي أنه تعالى لايفعل القبيح ولا يخل بالواجب وأفعاله كلها حسنة ويحققون العدل بأنه الذي هذه صفته والمصنف عدل عن تحقيقه بذلك إلى ما قد عرفت، واعترض حقيقتهم بما فيها من التكرار في المعنى واكتفى بالاستدلال على أنه لايفعل القبيح عن الاستدلال على الركنين الآخرين لن الأدلة متقاربة وإلا فإنه لابد من تقرير أنه لايخل بالواجب إذ الترك في حقه ليس بفعل بالاتفاق. فلا يقال: إن ترك الواجب قبيح وقد دللنا على أنه لايفعل القبيح وكذلك فلا بد من الاستدلال على أن أفعاله كلها حسنة، فقد نص المصنف على أن في الأفعال ما ليس بحسن ولا قبيح فلا يدل ثبوت أنه لايفعل القبيح على أن أفعاله كلها حسنة إلا لو لم يكن بينهما واسطة.
وقد قال الإمام يحيى: لايقال إن هذا الأصل الثالث يعني أن أفعاله تعالى كلها حسنة لافائدة فيه لأنه إذا ثبت أنه تعالى لايفعل القبيح ولايخل بالواجب فأفعاله كلها لابد من كونها حسنة فلا معنى لإيراده.
إلا أنا نقول: في إيراده غرضان أحدهما الاحتراز عما يعد يسيراً من الأفعال وعما يقع من الساهي، فإن مثل هذا لايوصف بحسن ولاقبح فلا يعد من أفعاله تعالى لاستحالة السهو عليه، واستحالة أن يفعل فعلاً لا غرض فيه. وثانيهما: أنا نذكره دفعاً لكلام المجبرة حيث قالوا: إن الحسن ليس إلا ما أمر به والقبيح ليس إلا ما نهى عنه فأفعاله ليست بحسنه ولاقبيحة بهذا المعنى. انتهى.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الواجبات على الله تعالى عند العدلية ثمانية تمكين المكلفين، والبيان لهم، واللطف حيث يكون بهم في المعلوم لطفاً من فعله تعالى، وتعويض من لم يزل به ألم أو غم أو فوت نفع من جهته تعالى، وقبول توبة التائبين إذا وقعت على الوجه الواجب، وإثابة المطيعين له، وإعادة كل من له عند الله أو على أحد من الخلق عوض، والانتصاف لمن له حق على غيره.
وقد خالف في وجوبها المجبرة على طبقاتهم /404/ بناء على قاعدتهم في نفي التحسين العقلي، وخالف أيضاً تعد العدلية في وجوب اللطف على ما سيأتي.
قيل: والأجود في التمكين والبيان واللطف ألا يعبر عنها بالوجوب عليه بل لابد من فعله له إذ لو لم يفعل ذلك بالمكلف لانتقض غرضه بالتكليف وألا يوصف بالوجوب إلا ما كان مستحقاً كسائرها.
قلت: بل الأولى ألا يوصف شيء منها بأنه واجب عليه تعالى وألا يصرح بلفظ الوجوب بل يقال في جميعها لابد من أن يفعلها أو تتجنب هذه اللفظة على ما بلغني عن بعض الفضلاء رحمه الله أنه كان لاينطق بذلك تأدباً في حق الله جل جلاله وعظم شأنه، والذي يدل على أنه تعالى لايخل مما ثبت وجوبه عليه على سبيل الجملة أنه متوفر الدواعي إلى إيجاده ولا صارف له عنه، وكل من توفرت دواعيه إلى إيجاد فعل وعدم صارفه عنه فلا بد أن يفعله، والذي يدل على أن دواعيه تعالى متوفرة إلى ذلك خالصة عن الصوارف أنه تعالى عالم بوجوب ما ثبت وجوبه عليه، وعالم باستحقاق الذم على تركه ولامشقة عليه تعالى في إيجاده لقدرته على الممكنات وكونه عالماً بأن ترك الواجب والإخلال به بمنزلة الإقدام على القبيح صارف له عن الإخلال به فثبت بهذا أنه تعالى قد فقد صارفه وتوفرت دواعيه إلى فعل الواجب، فأما الذي يدل على أن من توفرت دواعيه إلى فعل وانتفت صوارفه عنه فإنه يفعله فتقريره بطريقين إحداهما أنه لو لم يفعله والحال هذه لبطل كونه قادراً عليه لأن من حق ما تعلقت قادريته به وفوقه على حسب داعيه وانتفاؤه بحسب صوارفه، وثانيهما بالرد إلى الشهد فإن الواحد منا متى توفرت دواعيه إلى الفعل وجب وجوده ومتى صرفه عنه صارف امتنع وجوده.
وأما الذي يدل على أن أفعاله تعلى كلها حسنة فهو أن الفعل الواقع من العالم لايخلو إما أن يكون له فعله أو لا، ولا واسطة بينهما، إن كان له فعله فهو الحسن، وإن لم يكن له فعله فهو القبيح، وقد ثبت أنه لا يفعل القبيح فثبت بذلك أن أفعاله كلها حسنة والحمدلله.
القول في خلق الأفعال
ذهب أهل العدل إلى أن أفعال العباد منهم، وهو مذهب أكثر أهل القبلة وغيرهم من أهل الأديان الكفرية.
وقال أهل الجبر: هي من الله تعالى، وإنما سمو جبرية لمذهبهم في هذه المسألة وقولهم بأن العبد مجبور على هذه الأفعال لااختيار له فيها.
قيل: وابتداء مذهبهم كان من الطاغي معاوية بن أبي سفيان ومن كلامه في الجبر: إنما أنا خازن من خزان الله أعطي من أعطى الله وأمنع من منع الله. فقال له أبو الدرداء: كذبت يا معاوية بل تعطي من حرمه الله وتمنع من أعطاه الله. وقيل: قاله أبو ذر وصدقه أبو الدرداء، ومن كلامه: ما أظهرني الله عليكم إلا وهو يريد ذلك. وقال لأهل الشام: إن الله أمرني عليكم. وقال: لو كره الله ما نحن عليه لغيره. وظهر الجبر وشاع في سلطان بني أمية وكان يقال: الجبر أموي، والعدل هاشمي.
واعلم أن من المخالفين في هذه المسألة المطرفية فإنهم يضيفون المتعدي من أفعالنا إلى الله تعالى ويصرحون بكونه منه، وأما المباشر فلا يضيفونه إليه، ولايقولون بالكسب ويقولون: إذا ضرب أحدنا غيره أو قتله فههنا ضارب ومضروب وضرب وانضراب، وقاتل ومقتول وقتل وانقتال، فالقاتل والمقتول ظاهران، والقتل ما يكون في يد القاتل، والآلة من الاعتمادات والحركات والانقتال ما يكون في المقتول من تفريق البنية والاعتمادات والحركات /405/ وزهوق الأرواح فهذا الانقتال فاعله الله عندهم تفرد بإحداثه، وهكذا الكلام في الانضراب وغيره من المتعديات كالانكسار ونحوه.
قوله: (كإضافة ألوانهم).
قالوا: فقولنا صلى فلان وصام وحج كقولنا: اسود وابيض وحي ومات. قالوا: والطاعات علامة إيصال الثواب منه تعالى إلى العبد لا أنه يستحق ذلك والمعاصي علامة إيصال العقاب إليه لا أنه يستحقه.
قوله: (وبه قال الأشعري) إلى آخره.
كما أن هذا قول الأشعرية فهو قول النجارية والكلابية.
قوله: (وقال المدعون للتحقيق منهم).
أشار به إلى الجويني وتلميذه الغزالي والقاضي أبي بكر الباقلاني وأبي إسحاق الاسفراييني وابن الخطيب الرازي، وهؤلاء من متأخريهم وهم المشاهير من علماء هذا المذهب واتفقوا على إنكار الكسب وتجهيل القائلين به، وإن حدوث أفعال العباد من جهتهم لكنهم ذهبوا إلى أن القدرة موجبة لمقدورها عند الدواعي. وقالوا بأنها صالحة للضدين لكن يجب أحدهما عند حصول الداعي، هكذا حكاه بعضهم.
والذي حكاه الإمام يحيى عن الباقلاني أنه يذهب إلى أن الإيجاد إنما هو بقدرة الله تعالى وأن تأثير قدرة العبد إنما هو في صفة زائدة للفعل وهي كونه طاعة أو معصية. قال: وهذا هو الكسب عنده. قال: وذهب الجويني إلى أن الإيجاد كما يكون حاصلاً بقدرة الله تعالى فهو أيضاً بقدرة العبد عند الاختيار ولامعنى للكسب عنده.
قال: وهو مذهب الإسفراييني منهم.
قوله: (لأنه لا اختيار لهم في السبب ولا في المسبب).
أراد بالسبب القدرة لأنها إذا كانت موجبة فهي سبب إذ حقيقة السبب حاصلة فيها وهي كل ذات توجب ذاتاً أخرى وإذا كانت سبباً فلا اختيار لنا فيها لأنها من فعل الله تعالى ولا فيما هو مسبب عنها إذ هو صادر على سبيل الإيجاب وغير واقف على الاختيار لا هو ولاسببه.
فصل
وقد اختلف أصحابنا في تفصيل الكلام عليهم.
قوله: (وقال أبو الحسين) إلى آخره.
وإلى هذه الطريقة وهي دعوى الضرورة ذهب محمود بن الملاحمي أيضاً ومال إليه الإمام يحيى.
قوله: (ولكن جحده علماؤهم).
يعني وهم العدد اليسير منهم، قال أبو الحسين: المتسمون بالعلم منهم ضربان ضرب ذو فقه وأصول فقه وعلم أدب فهؤلاء بمعزل عن علم الكلام وحكمهم فيه حكم العوام، وضرب منهم وهم العدد اليسير يتسمون بعلم الكم يجوز على مثلهم المكابرة واتباع الأهواء لأمور دنيوية وأما عوامهم وهم السواد الأعظم منهم فلو عرض مذهبنا ومذهبهم عليهم بحيث لاينسب إلى رؤسائهم فعند ذلك يقفون عن السب والتجهيل لهم، ويقولون: لا ندفع ما قال علماؤنا وهم في اطن أمرهم جائرون عمهون لايدرون ما يأتون ويدرون من اتباع مذاهب أسلافهم أو اتباع مذهب أهل العدل، ثم أنهم إلى الرجوع إلى قول أسلافهم أميل لمآربهم.
قال: وقد اتفق لي ذلك مع بعض المجبرة فإنه أنكر مذهبهم وذم قائله، فلما قيل له: إنه مذهب من يعظمونه من علمائهم أمسك عن الإنكار والذم وقد ذكر الفقيه أحمد بن حميد الحارثي عين المتكلمين بصنعاء أن مثل ذلك اتفق له مع بعض المجبرة ومما قررت به قاعدة أبي الحسين في دعوى الضرورة أن كل عاقل يعلم من نفسه أن وقوع تصرفاته موقوفة على دواعيه، ولولا دواعيه لما وقع منها شيء فمتى اشتد به الجوع وكان تناول الطعام ممكناً له فإنه يقع منه الأكل لامحالة ومتى اعتقد أن فيه سماً انصرف عنه وكذلك يعلم من حال غيره من العقلاء الذين أحوالهم سليمة وقوف أفعالهم /406/ ووقوعها بحسب دواعيهم وأراد بهم وأن الواحد منا إذا علم ماله من المنفعة في شرب الماء حال عطشه ولم يمنعه مانع فإنه يقع منه لامحالة ومتى علم ما علم من المضرة في دخول النار فإنه لابد حل فيها إذا كان الموجد للشيء هو من يحدث منه الفعل موافقاً لدواعيه وثبت عند العقلاء أنه قد تقرر في بدائه عقولهم أن العبد حاله كذلك علمنا أن لعمهم بكونهم محدثين لأفعالهم علم ضروري.
واعلم أنه لاخلاف في أن تعلق الأفعال بنا ضروري وفي حسن تعلق الأمر بها والنهي والمدح والذم ضرورة والمجبرة لايخالفون في ذلك على سبيل الجملة لكن يخالفون في التفصيل، وهو كون وجه التعلق هو الحدوث والجماهير من أصحابنا يقولون : لانعلم ذلك إلا استدلالاً. وأما أبو الحسين ومن تابعه فادعوا العلم الضروري بالتفصيل كما وقع الاتفاق عليه في الأمر الجملي.
وقد قيل: إن الناس كانوا قبل أبي الحسين بين منكر لكون العبد موجداً لأفعاله ومعترف بصحة الإيجاد بان لدعواه على النظر والاستدلال فكيف يسمع من أبي الحسين نسبة العقلاء إلى إنكار الضرورة.
وأجاب الإمام يحيى بأن من قبله متفقون على وجوب الإضافة إلينا ومعترفون بصحة وقوفها على أحوالنا وهم بين منكر لتأثير القدرة في الحدوث ومثبت جهة أخرى وهم عدد قليل وبين معترف بالحدوث مثبت له بطريق الاستدلال ويجوز أن يعرض اللبس في العلم بكونه ضرورياً أو نظرياً كما عرض للكعبي في خبر التواتر فظنه نظرياً فظهر أن كلام أبي الحسين مطابق للعقلاء ضرورة.
قوله: (وبين قوله أن الفعل موقوف على الداعي).
اعلم أن أبا الحسين يذهب إلى أن الفعل لايقع ولايصح وقوعه إلا لداع ومرجح، وأن وقوعه من غير اعتباره محال لأنه شرط في وجود الفعل وإلى هذا ذهب ابن الملاحمي والإمام يحيى، وهو قول متأخري الأشعرية خلاف ما ذهب إليه أبو هاشم وجمهور المعتزلة وغيرهم من المتكلمين أنه ليس بشرط.
وقال أبو الحسين: الفعل عند حصول المرجح واجب الحصول بالضرورة. قال الرازي: وإذا كان يذهب إلى هذا فالداعي علم ضروري أو ينتهي في آخر الأمر إلى العلم الضروري، وإذا كان الفعل لايقع إلا بالداعي الضروري وإنما ينتهي إليه فالداعي سبب للفعل ومؤثر فيه وفاعل السبب فاعل المسبب فالفعل على هذا من الله تعالى وادعى الرازي أن أبا الحسين يذهب إلى أن أفعال العباد من الله تعالى، وإنما كان يظهر لأصحابه إنكار ذلك وأن قوله كقولهم، بل أبلغ محاباة لهم وتستراً عن ذمهم له.
قوله: (فليس الداعي موجباً للفعل).
فيه سؤال وهو: أن أبا الحسين قد صرح بوجوب الفعل عند حصول الداعي.
وجوابه: ما ذكره الإمام يحيى من أن مفهوم الوجوب مشترك والغرض به هنا أن له أولوية بالوجود من ضده وتلك الأولوية حاصلة بالنظر إلى داعيه وإن كان ضده ممكناً بالنظر إلى قادريته لأن العقل لايأبى إثبات واسطة بين التساوي والتعيين على سبيل الوجوب، وهو أن يكون أحد الجانبين أولى بالحصول من الآخر وإن لم تنته تلك الأولوية إلى درجة الوجوب، ولهذا فإن أحدنا يستحق المدح والذم إذا ترك الفعل عند توفر دواعيه، وأما عند حصول الإلجاء فلا يستحق مدحاً ولاذماً، وهذا يدل على إمكان الترك عند حصول تلك الأولوية.
قوله: (فإن قال نعم يقدر على ذلك فقد ترك مذهبه).
فيه نظر لأنه لاينفي القدرة، وإن قال بأنها موجبة فكان الأولى أن يقال: هل لأبي الحسين اختيار في أن يقول ولك في أن تتعجب لأن ظاهر مذهبه نفي الاختيار /407/ لقوله بالقدرة الموجبة وكذلك في سائر كلام المصنف على الرازي.
فصل
وقد استدل سائر الشيوخ وهم الذين لايدعون الضرورة في تفضيل تعلق الأفعال بوجوه من الأدلة.
قوله: (وأبطله الجمهور بأن الداعي أيضاً فعل).
أرادوا وأنت يا أبا الحسين تذهب إلى أن الفعل لايقع إلا بداعي وأن الداعي شرط فيه ولهذا اثبت الداعي في حق الساهي والنائم، وقد قيل في إبطال قوله أنه لاطريق إلى إثبات هذا الداعي في حق الساهي والنائم وبان المعلوم من حالهما في كثير من الحالات بل في كلها صدور الفعل من جهتهما ولايعلم داع ولايظن ولايشك فيه ولأن أحدنا قد ينتفي بعض ما في الطبق من الفاكهة ولانجد داعياً إلى تعيين ما يتبقى.
قوله: (وأما القصد فلا شبهة) إلى آخره.
القصد في اصطلاح المتكلمين هو الإرادة المقارنة للمراد أو لسببه الذي هو في حكم المسبب لمقارنته إياه مع كونه هو وذلك المراد من فعل فاعل واحد فلا تسمى الإرادة لفعل الغير قصداً.
قوله: (لاحتياجه إلى العلم).
يعني علمه بما يقصد إليه وتتعلق به إرادته التي هي قصد وفيه نظر وقد صرح ابن متويه بأن النائم يصح كونه معتقداً وجعل الرؤيا من قبيل الاعتقادات والظنون ثم قال: وكذلك كونه مريداً صحيح بأن يقصد ما يعتقده وكذلك الكراهة وربما يأتي للمصنف فيما بعد ما يقضي بعدم احتياج القصد إلى العلم.
قوله: (وأما فعل الملجى).
هو بصيغة اسم المفعول وهذا جواب عن سؤال مقدر تقديره: لايمكن الاستدلال بما ذكرتموه على أن هذه التصرفات واقعة من هتنا لأن فعل الملجى يقع بحسب قصد الملجى وليس فعلا له.
وجوابه ما ذكره ومثل ذلك قوله: (وكذلك منيراً لذاته) هو جواب أيضاً لسؤال مقدر تقديره: إن سيرها في الجهة التي تسير فيها تابع لقصد لاراكب وموقوف عليه ولم يدل على أنه فعله.
وكذلك قوله: (وأما نعيم أهل الجنة) فإنه جواب عن قولهم: أليس نعيم أهل الجنة تابعاً لاختيارهم وواقفاً على دواعيهم ولم يلزم كونه من فعلهم.
قوله: (وأما اللون الحاصل) إلى آخره.
هو أيضاً جواب عن قولهم: أليس اللون الحاصل عند الضرب موقوفاً على الضرب يقل بقلته ويكثر بكثرته ويتوقف على قصد المضارب وداعيه ومع ذلك فليس بفعل له ونظيره أيضاً بياض العبيطي فإنه يحصل بحسب الضرب من جهتنا وكذلك سواد الخبز والحرارة الحاصلة عند حك إحدى الراحتين بالأخرى وجوابه ما ذكره ومعنى انزعاج الدم أن اجزاءه كانت متبددة بين أجزاء اللحم، واللحم كالساتر لها فلما حصل الضرب وقع به تفريق بين أجزاء اللحم وصار بين اللحم فرج يجري الدم فيها، وحال الجلد دون خروجه فلذلك ترى الحمرة تحت الجلد.
وقد ذهب بعض المتكلمين إلى أن ذلك اللون يحدث من جهة الله تعالى عند الضرب بمجرى العادة وضعف بأن ما كان طريقه العادة جاز أن يختلف حاله والحال في هذا مستمرة على وتيرة واحدة.
وذهب الشيخ أبو القاسم ومتابعوه من أهل بغداد إلى ما حكاه المصنف وهو مبني على خلاف ما عليه الجمهور أن اللون من مقدورات الله المختصة به.
قوله: (فلا تنقلب علينا في توليده للألم).
يعني لنه يولده بشرط انتفاء الصحة وهي تأليف مخصوص يوجد في محل الحياة ولايمكن اشتراط مثل هذا في توليده للون لأن اللون يصح حلوله في الجماد دون الألم، ومما يبطل قول الشيخ أبي القاسم وأصحابه أن الضرب /408/ لايكون بتوليد بعض أنواع الألوان أولى من توليد غيره إذ لامخصص.
قوله: (ومثله الكلام عليهم في بياض العبيطي) إلى آخره.
العبيطي: ضرب من الحلاوى أبيض مأكول لاشمروب وتلخيص ما أجاب به أصحابنا عنه أن البياض الذي يظهر عند ضرب القبيطي لون كان كامناً في الجسم فبرز بالضرب وكذلك لون الخبز كان كامناً فظهر بالخلط، قالوا: ومعنى ذلك الكمون أنه حال في أجزاء الطبقة مسخنة في باطنة مستترة بأجزاء أخر في ظاهره فإذا اعتمد على تلك الأجسام بضرب أو خلط انقشعت تلك الأجزاء الساترة وظهرت الأجزاء اللطيفة الكامنة.
قالوا: ونظيره كمون النار في الحطب، والدهن في السمسم. وجوز الشيخ أبو هاشم أن يكون ظهور ذلك اللون بمجرى العادة من جهة الله تعالى ابتداء واستبعده الجمهور بمثل ما تقدم من اختلاف ما كان طريقه العادة والذي ذكروه أيضاً مستبعد وفيه تكلف وتعسف ولاطريق لهم إلى صحة ما ذكروه وقد استمر كثير مما طريقه العادة وكفى بما في العالم العلوي من الأمور العادية المستمرة والله سبحانه وتعالى أعلم، {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً}.
وأما الشيخ أبو القاسم وابن المعتمر ومن تابعهما فذهبوا إلى أن ذلك اللون من فعلنا متولد عن الضرب كما قالوه في اللون الحاصل عند ذرب بدن الحي وهكذا الكلام في الحرارة الحاصلة عند الحك فعند الجمهور أن تلك أجزاء كانت كامنة فظهرت، ويأتي على أصل أبي القاسم ومن تابعه أنها من فعلنا وعلى أصل الشيخ أبي هاشم أنها بمجرى العادة.
قوله: (كالصحة والسقم وغيرهما).
يعني كالحر والبرد وجميع ما طريقه العادة كالإحراق وما يجري مجراه.
قال السيد الإمام: وعلى هذا يقال إن في الحيوانات حيوان يقال له السمندل يدخل النار ويتمرغ فيها فلا تؤذيه ولايحترق بها وحتى أنه ليتخذ من وبره منديل غمر فكلما توسخ تلقى في النار فيعود أنظف ما يمكن ويكون وهكذا فإنه يقال: إن ......... خشنة لاتحرقها النار.
قوله: (هو غير واجب في الأدلة اتفاقاً).
يعني وإن وقع الخلاف في عكس العلل.
واعلم أنهم يتفقون على أنه يجب الطرد والعكس في الحدود وأنه يجب الطرد ولايجب العكس في الأدلة ويختلفون في العلل فالعقلية يجب اطرادها دون انعكاسها على المختار والأشعرية يوجبون فيها العكس والعلل الشرعية بين أهل الأصول فيها خلاف فمن اجاز تعليل الحكم بعلتين لم يوجب العكس ومن لم يجز ذلك أوجبه وجميع الأقسام لابد من الطرد فيها بالاتفاق.
تنبيه
اعلم أن هذا الدليل هو معتمد الأصحاب في هذه المسألة أعني القائلين بأنه يحتاج فيها إلى الاستدلال وقد أورد عليه اعتراضات ذكرها الإمام يحيى أشفها أن ما ذكرتموه من وقوف فعل العبد على داعيه لايفيد كونه محدثاً له وليس ذلك بأظهر من حصول الشبع للحي السليم عند تناول الغذا الطيب، وحصول الري عند شرب الماء البارد، وحصول النبت عند إلقاء البذر الجيد مع حصول الشرائط من السقي بالماء وغير ذلك، فإذا كانت هذه الأمور واجبة الحصول عند هذه الأشياء ومع ذلك لاتعلق بها فكذلك وقوع فعل العبد عند الداعي لايوجب تعلقه به ولئن سلمنا وجوب حصول فعل العبد عند داعيه فلم قلتم أنه لابد لذلك الفعل من مؤثر فضلاً عن أن يكون المؤثر فيه قدرة العبد وهلا جاز أن يكون حاصلاً لا لأمر كما في صور من مذهبكم منها أن الذوات مشتركة في كونها ذوات ثم إن بعض الذوات مختصة بصفة ذاتية يجب حصولها لتلك الذات /409/ ويمتنع حصولها لغيرها من الذوات وهذا الوجوب لايعلل بأمر لنه بأي شيء علل فسد فهكذا الوجوب في فعل العبد لايعلل.
أيضاً ومنها أن الغرض المعين يجب اختصاصه بالمحل مع أن ذلك المحل مثل لسائر المحال، وذلك الوجوب لايعلل أيضاً لأنه بأي شيء علل بطل.
ومنها: أن الأعراض التي لاتنفى تختص صحة حدوثها بالوقت المعين مع كون ذلك الوقت مساوياً لسائر الأوقات.
ومنها: أن القادر يفعل أحد مقدوريه دون الآخر لا لأمر فلم لايصح أني قال: إن الفعل الذي حدث عند توفر الدواعي اختص وجوب حدوثه بذلك الوقت دون الوقت الذي قبله وبعده لا لأمر أو حدث وهو لايحتاج إلى مؤثر أصلاً ثم لئن سلمنا أنه لابد لهذه الأفعال من مؤثر فلم لايجوز أن يكون المؤثر فيها غير العبد ولا يمكن أن يقال لو كان كذلك لصح من ذلك الغير ألا يخلق تلك الأفعال عقيب توفر الدواعي أو تخلفها عقيب حصول الصوارف لنا نقول: إن الموجد لتلك الدواعي هو الله تعالى فإذا كان كذلك فلم لايجوز أن يقال: إن تلك القدرة والداعية وإن كانتا غير مؤثرتين في وجود الفعل ولكنه يستحيل انفكاكهما عن ذلك الفعل والفاعل لأنه لايمكنه أن يفعل ذلك الشيء عارياً عما يلازمه فلذلك يستحيل من الله تعالى ألا يوجد ذلك الفعل عقيب توفر الدواعي كما أنه متى خلق الجوهر استحال منه ألا يخلق الكون الملازم له.
ويمكن الجواب عن هذا الاعتراض أما معارضته بالري والشبع والنبات عقيب البذر فنحن نعلم الفرق بين توقف هذه الأشياء على ما يفعله وبين توقف أفعالنا على قصودنا ضرورة ويمكن القول بأن حصول النبات عقيب البذر بمجرى العادة ودليل أنه كذلك ما يقع فيه من اختلاف الحال فقد ثبتت وقد لا، وقد يثبت بعضه دون بعض، وأما الشبع والري فليس المرجع بهما في التحقيق إلا إلى انتفاء شهوة الطعام والشراب على ما اختاره املحققون فهما أمران سلبيان ولعل من يثبتهما معنيين كالشيخين يجعلهما من أفعالنا لتوقفهام عليها.
وأما قوله: (وهلا جاز أن يكون حاصلاً لا لأمر كما في صور من مذهبكم).
فالجواب عنه أن تلك الصور قد ذكر المانع فيها وهو أنها بأي شيء عللت بطلت وهذا مانع عن التعليل لامحالة بخلا فمسألتنا هذه فإن تعليل ذلك بكوننا فاعلين لها ومؤثرين فيها لايؤدي إلى محدود.
وأما قوله: (لأنا نقول أن الموجد لتلك الدواعي هو الله تعالى).
فلا يصح لأن في دواعينا ما هو ظن واعتقاد جهل، ولايصح كونهما من جهته تعالى ولو كانت من فعله لكان حكمها حكم العلوم الضرورية.
وأما قوله: (ولكنه يستحيل انفكاكهما عن ذلك الفعل والفاعل).
لأنه لايمكنه أن يفعل ذلك عارياً عما يلازمه ومعارضته بالجوهر والكون.
فجوابه: المطالبة بوجه الملازمة بين الفعل وبين القدرة والداعية فإن ملازمة الكون للجوهر ضرورية إذ يستحيل حصول الجوهر لا في جهة فلنبين مثل ذلك في مسألتنا.
قوله: (إنما نحمده تعالى على مقدمات الإيمان).
أما الذي ذكره قاضي القضاة وابن الملاحمي والفقيه حميد وغيرهم من المتكلمين فهو أنا نحمد الله تعالى على الإيمان نفسه وإن كان من فعلنا لأنه في الحكم كأنه من جهته تعالى من حيث أنه أقدرنا على ذلك ومكننا منه وأعلمنا به ولطف لنا فيه فصار الحال فيه كالحال فيمن يكسب مالاً في جاه غيره لاختصاصه به، فإنه يحمد صاحب الجاه على ذلك وإن لم يكن وصول ذلك المال إليه منه وكذلك الحكم فيمن أحسن إلى غيره بمال فاتجر فيه وربح وتوصل إلى ملاذ ومسار فإنه يحمد ذلك المحسن على هذه الأمور المتفرعة على إحسانه /410/ وإن لم تكن منه لما كانت في الحكم كأنها من جهته.
قوله: (وهو تعالى يحمدنا على فعله).
ذكر في المحيط وذكره أيضاً الحاكم أن جبرياً سأل عدلياً بحضرة بشر بن المعتمر فقال العدلي: أنا لا أحمد الله على ذلك وإنما الله يحمدنا عليه فانقطع السائل فقال له بشر شنعت المسألة فسهلت أراد لكونه في النطق في ذلك مخالفة لما ورد في الأثر ورد فيه الحمدلله على أن جعلنا من المسلمين ولما اعتاده الصالحون من حمد الله على الإيمان والهداية له وكان في هذا التشنيع تسهيل للمسألة لا انقطاع السائل الاكتفاء عن إعمال النظر في جواب ذلك.
قوله: (وإنما استدللنا بالسمع هنا) إلى آخره.
هذا من المصنف ترجيح لما ذهب إليه قاضي القضاة والسيد وابن متويه وغيرهم من المتكلمين وهو أنه لايصح الاستدلال بالسمع على هذه المسألة للوجه الذي ذكره وكذلك غيرها من مسائل العدل النفيية كمسألة أنه لايعذب بغير ذنب ولا يثيب بغير عمل وأنه لايكلف ما لايطاق ولايريد القبيح ولا يرضاه إلى غير ذلك من المسائل التي هي في الحقيقة تفصيل لكونه تعالى لايفعل القبيح، وأما الذي ذهب إليه متأخروا المتكلمين من أصحابنا كالشيخ أحمد بن الحسن الرصاص والفقيه حميد والإمام يحيى فإن الاستدلال بالسمع على هذه المسألة وغيرها من جنسها صحيح وأنه يكفي في معرفة صحة السمع ثبوت الدلالة على أنه تعالى عدل حكيم على الجملة، فإذا عرف المستدل عدله تعالى وحكمته ونبوة نبيه ثبت له صحة السمع.
قال الإمام يحيى في التمهيد: اعلم أن التمسك بالآيات والأحاديث والإجماع في هذه المسألة صحيح من جهة النظر وذلك لأن صحة المسالك السمعية متوقفة على تقدير قواعد الحكمة والحكمة متوقفة على كونه تعالى عالماً وغنياً فإذا صح هذان الأصلان صح الاستدلال بالسمع في كل موضع لأن أصوله قد تمهدت.
قال: وأما من حيث الإلزام فممتنع لأنه مالم يثبت أن الله تعالى لايفعل القبيح لم يصح الاستدلال بالسمع فكيف يمكن تصحيح ذلك بالسمع.
قوله: (استظهاراً على الخصوم وإلزاماً لهم) إلى آخره.
هذا توجيه للاستدلال بالسمع على قول من قال أنه ليس بحجة على هذه المسألة فإنهم أوردوا هذه الدلالة على كون أفعالنا منا استظهاراً كما ذكره المصنف لن السمع إذا طابق العقل تأ:دت الحجة وانشرح الصدر، وللتبرك بالكتاب العزيز الذي لايأتيه الباطل.
قوله: (ولأنهم كانوا يزعمون أنه لادليل لنا في السمع).
إنما زعموا ذلك لأن عادة المتقدمين من أهل العدل جرت بأنهم لايحتجون بالقرآن وسائر أدلة السمع على المسائل التي يقف عندهم العلم بصحة السمع على العلم بها وإنما يحتجون عليها بالأدلة العقلية فقط، والمخالفون يوردون الأدلة السمعية على كل مسألة فلما رأوا تصانيف أهل العدل خالية عن ذلك طعنوا عليهم وقالوا: لو كان لهم حجج من القرآن والسمع لأوردوها واحتجوا بها فنحن أهل السنة المطابقون لما ورد به السمع.
قوله: (ونحن نذكر من ذلك ما سنح).
الذي ذكره المصنف وغيره من الآيات الدالة على المطلوب واردة على أنواع مختلفة متطابقة في الدلالة على ذلك، فمنها: نوع يدل على نفي إضافتها إليه تعالى لوصفه لأفعاله بصفة مفقودة في أفعالنا كالإتقان ونفي التفاوت.
ومنها: نوع يدل على إضافتها إلينا من حيث الإخبار والأمر والنهي والوعد والوعيد وذلك لايكون إلا مع كونها منا.
ومنها: نوع يتضمن إضافتها إلينا بالعمل والفعل والكسب ونحو ذلك. /411/
ومنها: نوع يتضمن نسبة خلقها وتقديرها إلينا.
قوله: (إما أن ينفي أن التفاوت من جهة الخلقة وهو باطل لحصوله).
يعني فإن في أفعاله تعالى العرض والمتحيز حي والمتحيز غير حي وغير الحي نام وغير نام ومانع وغير مانع ثم في الأجسام الطويل والقصير والحسن في الخلقة والشنيع ونحو ذلك، ذكره بعضهم.
وأما جار الله رحمه الله فجعل نفي التفاوت في هذه الآية من جهة الخلقة وقال: أي من اختلاف واضطراب في الخلقة ولاتناقض إنما هي مستوية مستقيمة.
قال: وحقيقة التفاوت عدم التناسب وهذا هو التحقيق فإن المراد بخلق الرحمن ههنا هي السموات ودليله أول الآية ويؤيده قوله تعالى: {هل ترى من فطور}.
قوله: (نفى أن يكون المراد من جهة الحسن والحكمة).
يؤيده أن قوله صنع الله مصدر مؤكد لكلام مقدر هو الناصب لقوله تعالى: {ويوم ينفخ} والمعنى : ويوم ينفخ في الصور، فكان ما ذكره الله تعالى أثاب المحسنين وعاقب المجرمين، قال: {صنع الله} يريد به الإثابة والمعاقبة وإنهما من جملة الأشياء التي أنفيها وآتي بها على الحكمة والصواب، والمعنى أن مقابلة الحسنة بالثواب والسيئة بالعقاب من جملة أحكام الأشياء واتقانها وإجرائه لها على قضايا الحكمة، ذكر هذا المعنى جار الله.
قوله: (قال القاضي معنى {أحسن كل شيء} في اللغة) إلى آخره.
قال: لأنه لايثبت بأحد اللفظين فيبقى بالآخر ولو قيل: أحسن كذا وما أحسن فيه لكان مناقضة أراد القاضي ومعلوم أنه لو قال: أحسن في كل شيء لم يحمل إلا على الحسن. وقد قيل: عليه بل المنازعة فيه ثابتة، كما في قوله: {أحسن كل شيء}.
قال الرازي: سلمنا أن أحسن في كل شيء لايحتمل إلا الحسن فقط فمن أين يلزم مثله في قوله: {أحسن كل شيء} وهل ذلك إلا قياس في اللغة وهو لايصح، قيل: واستدلال القاضي بأنه لايثبت بأحد اللفظين وينفى بالآخر غير مسلم.
قوله: (وقولهم مراده بقوله: أحسن أي علم باطل) إلى آخره.
فيه نظر. فقد قال جار الله في تفسير الآية: قيل علم كيف يخلقه من قوله: قيمة المرء ما يحسنه. كقول ابن طباطبا:
فيا لائمي دعني أغالي ... فقيمتي في الحب حتى ودعه
وهذا الكلام نقله المصنف من كلام السيد رحمه الله.
قوله: (على أنا قد قدمنا أنه لايجوز إجراؤه على الله تعالى).
يعني في آخر مسألة كونه تعالى عالماً وما لايجري عليه من الأسماء في ذلك الباب.
قوله: (ومنها قوله تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلاً}).
هذه الآية الكريمة في سورة صاد وهي: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار}.
قال جار الله في تفسير باطلاً: خلقاً باطلاً، لا لغرض صحيح وحكمة بالغة أو مبطلين غائبين، كقوله: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق}، فتقديره ذوي عبث أو عبثاً فوضع باطلاً موضعه كما وضعوا ..... موضع المصدر وهو صفة أي ما خلقناهما وما بينهما للعبث واللعب، ولكن للحق المبين، وهو أن خلقنا نفوساً أودعناها العقل والتمييز ومنحناها وأزحنا عللها ثم عرضناها للمنافع العظيمة بالتكليف وأعددنا لها عاقبة وجزاء على حسب أعمالهم وقد بنى المصنف في الاستدلال بهذه الآية على أن أفعال العباد مما بين السماء والأرض، وليس بالواضح لن معنى البين لايعقل إلا في فصل أو وصل، إلا أن يريد أن الله سبحانه نفى بهذه الآية حصول الباطل فيما خلق، وأنه لايفعل شيئاً باطلاً فلو كانت أفعال العباد منه لم يكن ...... عن هذا المعنى /412/ .
تنبيه
ومما يستدل به من الأدلة الشرعية على صحة ما نقوله في هذه المسألة السنة النبوية والإجماع، أما السنة فنحو قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( اعملوا فكل ميسر لما خلق له )) ، وقوله: (( نية المؤمن خير من عمله ونية الفاسق شر من عمله )) ، وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : (( الأعمال بالنيات )).
وأما الإجماع فهو أن الرضا بقضاء الله واجب فلو كان الكفر من قضاء الله لوجب الرضا به لكن الرضا بالكفر كفر بافجماع فعلمنا أن الكفر ليس من فعل الله تعالى فلا يكون من خلقه ذكر هذا بعضهم.
فصل في ذكر بعض ما ألزمهم أصحابنا على القول بأن أفعال العباد من الله
قوله: (أليس في أفعال العباد ما هو ظلم).
لما ذكر السيد رحمه الله هذا الإلزام قال: ونحن قبل أن نحقق هذا الكلام على الخصم نبين حقيقة الظلم.
قلت: ووجه ذلك أنه لايحسن بل لايمكن الكلام في حكم لشيء حتى يتحقق معناه ويرتسم في الذهن وذلك ظاهر، وإنما أهملها المصنف بناء على ظهور معناه وتجليه واكتفاء بذكره لها في موضع آخر، وقد حققه السيد بأنه كل ضرر لانفع فيه ولادفع ضرر ولا استحقاق ولا الظن لأحد الوجهين المتقدمين وألا يكون في الحكم كأنه من جهة المضرور، وألا يكون في الحكم كأنه من جهة غير فاعل الضرر، وأورد عليه بعضهم سؤالاً وهو: أن هذا الحد لايطرد فإن أحدنا لو أضر بغيره لنفع بفعله له أو دفع ضرر أو لظن لذلك فإن هذا الإضرار ظلم مع كونه غير عار عن ذلك، قال: فيزاد في أجزاء الحقيقة أو الضرر الذي فيه نفع أو دفع ضرر أو ظنهما أو أحدهما، ولم يقض العقل أو الشرع بحسنه.
قلت: ويرد عليه إثباته في أول الحد بلفظ كل وذلك مغيب إذ المراد تحقيق الماهية ولفظ كل للعموم والشمول.
قوله: (وأحدهما مشتق من ظلم).
كان الأولى أن يقول: من الظلم، بلفظ المصدر لأنه الأصل في الاشتقاق وكذلك قوله: من فعل الظلم فإنه كان الألى أن يقول من فعل بكسر الفاء وسكون العين.
قوله: (كالقعود والجلوس).
يعني فإن أحدهما مشتق من قعد والآخر من جلس ومعناهما واحد والمصنف رحمه الله تابع في ذلك للسيد، وكان الأولى أن يقال كقعد وجلس أو كقاعد وجالس، فإنهما متفقان في المعنى مع أن أحدهما مشتق من القعود والثاني من الجلوس، لما ذكرناه آنفاً من أن الأصل في الاشتقاق هو المصدر على الصحيح.
قوله: (ويرد عليهم السؤال في العادل).
يعني فيلزمهم أن يكون العادل غير فاعل العدل وألا يسمى الله لأجل فعله للعدل عادلاً.
قوله: (ويلزم إذا انفرد بفعل الظلم ألا يكون ظالماً).
يعني الله تعالى. قال السيد: وعندهم أنه تعالى لو تفرد بالظلم لكان ظالماً.
قوله: (لأنه الذي حله الظلم).
يعني في أغلب الأحوال كاللطم والضرب والقتل، وإن كان شيء منه محله الظالم كالشم باللسان.
قوله: (وألا يكون ظالماً لو انفرد).
يعني الله تعالى لأنه ولو انفرد بفعله فلم يجعل ظلماً له مع أن مذهبهم أنه لو انفرد به لكان ظالماً على ما حكاه السيد في غير موضع.
قوله: (ويلزم لو وقف على الاختيار).
أي لو وقف كونه ظلماً على اختيار الجاعل. وفيه سؤال وهو أن يقال: أليس المتكلمون ذكروا أن أحكام الأفعال من كونها ظلماً وكذباً ونحو ذلك متعلقة بالفاعل؟
والجواب: أن مراده أن جعل كونه ظلماً للغير لايقف على الاختيار لا جعله نفسه ظلماً ثم أنه وإن جرى ذلك في كلامهم فقد اعتذروا عنه وقالوا: أردنا أن تلك الوجوه متعلقة بالفاعل على جهة المجاز لأن الظلم هو الضرر العاري عن جلب نفع أو دفع ضرر وهذا نفي وتأثير الفاعل في الإثبات لا في النفي.
قوله: (أن يجعل الكلام أمراً لزيد دون عمرو).
يعني بأن يجعله نهياً لعمرو أو خبراً له.
قوله: (وبعد فإن أردتم /413/ بقولكم جعل الظلم ظلماً له أنه حله وذلك غير ما نوزعتم فيه) إلى آخره.
كان الأولى أن يقول: إنه خلق فيه لأن هذا هو مذهبهم الذي نوزعوا فيه، وهكذا حرر السيد هذا الوجه.
قوله: (فكيف يدفعون الإلزام بنفس مذهبكم الذي لايتم إلا بعد اندفاع الإلزام).
قال السيد: وهذا أصل كثير أن كل دلالة تصيب لإفساد مذهب من المذاهب فالاعتراض على تلك الدلالة بنفس ذلك المذهب لايصح فيجب أن يراعى هذا الأصل ويحافظ عليه. انتهى.
ودليله أن ذلك المذهب إما فاسد فالطعن به لايصح، أو صحيح فنصب الدلالة على إفساده لاتصح، فالدليل فاسد وإن لم يطعن عليه بالمذهب وينبغي أن يفصل القول فيما ذكر فيقول ينقسم ذلك إلى ما تكون الدلالة فيه لاتصح إلا بعد فساد المذهب فتكون صحتها مثبتة على فساده وإلى ما لايقف العلم بصحتها على فساد ذلك المذهب، إن كان الأول لم يصح ما ذكره السيد رحمه الله بل يصح أن يعترض بذلك المذهب على تلك الدلالة وإن كان الثاني فما ذكره مستقيم لكن مسألتنا من القبيل الأول؛ لأن الدلالة المذكورة وهي أن الظلم لو كان من فعله تعالى لوجب أن يسمى ظالماً ينبني على فساد القول بأن الظالم اسم لمن جعل الظلم ظلماً له إذ لو صح هذا بطل دليلنا فمهما لم يفسد هذا القول لم تصح تلك الدلالة وحينئذ يتوجه الاعتراض عليها بنفس ذلك المذهب، وهو أن الظالم اسم لمن جعل الظلم ظلماً له.
قوله حاكياً عنهم: (الظالم اسم لمن تفرد بالظلم).
قالوا: والقديم تعالى لم يتفرد به لأنه مشترك بينه وبين العبد فهو الذي أوجده والعبد اكتسبه فلا يجب تسميته ظالماً.
قوله: (قلنا يلزم مثله في العادل).
فيه نظر لأنهم يلتزمونه ولايجب أن يكون تعالى غير عادل لأنه منفرد بأكثر أفعال العدل وإن لم ينفرد بما كان عدلاً من أفعال العباد فتسميته بالعادل لأجل ما انفرد به وكان من أفعاله الخاصة عدلاً وإنما الذي يلزمهم ألا يسمى عادلاً لأجل ما فعله من العدل الذي اكتسبناه عندهم ولعلهم يلتزمون ذلك.
قوله: (ويلزم ألا يوجد ظالم قط).
يعني لأن الله تعالى غير منفرد بفعل الظلم وكذلك جميع العباد فإنهم وإن اكتسبوه فليسوا منفردين به لأن الله تعالى هو الذي أوجده عندهم.
قوله: (لأنه تفرد به).
يعني على مذهب الأشاعرة.
قوله: (لإيهامه الخطأ)
قال السيد: وهو أنه تعالى من جنس الأسباب يعني لوصفهم السبب بأنه يولد المسبب حتى صار هذا اللفظ كأنه موضوع له والله تعالى ليس بسبب لأنه فاعل مختار، والسبب مؤثر على طريق الإيجاب.
قوله: (والوالد اسم لمن خلق من مائه آخر من جنسه).
هذا معناه لغة وأما في الشرع فهو اسم لمن ولد الولد على فراشه.
قوله: (نفى عن نفسه الظلم والعبث والكذب).
يعني بقوله تعالى: {وما ربك بظلام للعبيد} ونحوها وبقوله: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً} أي عبثاً، وتنصب الأدلة على أنه لايجوز عليه الكذب.
قوله: (ولتجهيله وليقع خلاف ما أراد).
يعني لأنه تعالى قد علم منهم الكفر وأنهم لايؤمنون وأراده منهم عندهم إذ لو لم يره لم يقع فكان إرسال الرسل على قود كلامهم الغرض منه وقوع خلاف ما أراده وخلاف ما علمه وفي ذلك طلب تجهيله.
قوله: (وقد التزموا ذلك في نعمة الدين).
ممن صرح بذلك الرازي وعلله بأنا نعلم ضرورة أنه لانعمة لمن أعطى السكين من هو قاطع بأنه يقتل به نفسه. قال بعض أصحابنا: ولقد ارتكب عظيماً من الضلال فإن المعلوم بضرورة الدين أن إنزال الكتب وإرسال الرسل نعمة على المؤمن والكافر، وقد قال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} فإنكار نعمة الله الدينية على الكافر إنكار لما علم ضرورة من الدين ورد للقرآن، وهذا كفر شنيع من أوضح الكفر ولهذا فإن الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام مع بعده عن التكفير كفر القائل به أبا الحسن الأشعري والرازي ابن الخطيب، ولم يكفر من أهل القبلة /414/ إلا هؤلاء المجسمة المصرحين بالأعضاء لفظاً ومعنى.
قوله: (وخلافه معلوم ضرورة).
يعني وفي ذلك دلالة على صحة ما نقوله، وإنما تثبت النعمة الدينية في حقه لأنه تعالى عرضه بالتكليف إلى ارتقاء مراتب عظيمة ونيل منافع جسيمة لاتنال إلا بذلك وأقدره على التوصل إلهيا ومكنه من ذلك وأزاح علته فيه ولم يمنعه ولو صح ما ذكروه من أنه خلق فيه الكفر وأجبره عليه وأراده منه ليقع في العذاب الأليم والعقاب العظيم لم يكن له تعالى عليه نعمة.
قوله: (فلا يستقيم لهم الفرق).
وقد روي عن الأشعري عدم الفرق، والجري على قاعدتهم بنفي نعمة الدنيا أيضاً لكنه بذلك أعظم الجرأة على الله فنعوذ بالله من الضلالة.
قوله: (فما الفرق بين الموضعين).
يعني مع كون انتواله للكوز وشربه منه فعل الله تعالى أجبره عليه واضطره إليه.
قوله: (وما معنى قوله عليه السلام) إلى آخره.
يعني لأن كل الأفعال على مذهبهم نحن مستكرهون عليها فيلزم أن تكون كل التكاليف مرفوعة عنا وكلامه صلى اللّه عليه وآله وسلم قاض بأن المرفوع شيء منها ونوع خاص.
قوله: (ويقال: قال تعالى: {فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء}).
هذا حكاية لحال الكافرين بعد أن توفاهم الملائكة ومعنى: {فألقوا السلم}: سالموا وأخبتوا وجاؤا بخلاف ما كانوا عليه في الدنيا من الشقاق والكبر وجحدوا ما وجد منهم من الكفر والعدوان فقالوا: ما كنا نعمل من سوء.
قوله: (فما معنى تكذيب الله لهم بقوله: {بلى}).
ظاهر كلام المصنف أن بلى من كلام الله تعالى رداً عليهم لأن بلى إيجاب للنفي فالمعنى بلى كنتم تعملون السوء أي الكفر والعدوان والبغي والعصيان، وحمله جار الله على أنه من كلام أولي العلم رداً عليهم وشماتة بهم وهم الأنبياء والعلماء الذين كانوا يدعونهم إلى الإيمان ويعظونهم فلا يلتفتون إليهم وينكرون عليهم ويشاقونهم نظراً إلى سياق الآية: {ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم} أي تعادون وتخاصمون المؤمنين كأنها مشاقة لله تعالى، {قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون} أي فهو مجازيكم عليه.
قوله: (ولابد من أحدهما).
يعني ولايمكنهم القول بأنها كاذبة فلم يبق إلا أنها صادقة وفيه صحة ما نقوله.
قوله: (قلنا إذا كان الاختيار الموجب).
يعني على قاعدتهم لأنهم وإن قالوا بتوقف الفعل على اختياره فهو عندهم واجب عند حصول الاختيار ولازم وجوده معه لامحالة.
فصل في ذكر بعض ما جرى من المناظرات
قوله: (اجتمع أبو العتاهية وثمامة عند المأمون).
هو أبو العتاهية الشاعر الشهير وكان جبرياً وهو الذي طلب المناظرة وكان ثمامة مزدرياً له وقال له المأمون: عليك بشعرك ثم أذن له المأمون بذلك ومما نقل أن أبا العتاهية صدف ثمامة بعد هذه المناظرة فقال له: أما كان لك في إقامة الحجة مندوحة عن البذا؟ فقال ثمامة: خير الكلام ما جمع الاحتجاج والانتقام.
قوله: (وقيل لأبي الهذيل من جمع بين الزاني والزانية) إلى آخره.
قد حيكت هذه المناظرة على صفة أخرى وهي أن جبرياً قال لعدلي: من يجمع بين الزانيين؟ فقال العدلي: أبوك. فغضب الجبري. وقال: جعلت أبي قواداً. فقال العدلي: بؤساً لك تنزه أباك عن ذلك وتنسبه إلى ربك.
قوله: (فلقن حفصاً حجته).
إنما لقنه النظام لئلا يذكر ذلك من بعد فيظن أن له في ذلك مخلاً وأراد انقطاعه بالكلية وقد حكي أن النظام لما قيل له: لم لقنته؟ أجاب بهذا المعنى وقال: عرفت أن أبا الهذيل لايفوته جواب.
قوله: (بطرار).
هو الذي ينتهب مال غيره /415/ جهراً ثم يهرب فإن لم يهرب فغاصب، فإذا كان حفنة من حرز فسارق، ومن غير حرز مختلس.
قوله: (ضحكة).
هو بسكون الحاء وهو الذي يضحك منه.
قوله: (وقال مجبر لعدلي: أرأيت لو كان لي قطعة من الطين) إلى آخره.
هذا مثل ضربه لملك الله تعالى لخلقه وتصرفه فيهم كيف شاء من غير اعتراض ولا استنكار من أحد.
قوله: (ولكن بشرط ألا يقول لم كانت هذه صحيحة) إلى آخره.
يعني فإذا كان الله في خلقه للإيمان والكفر كمن عمل في قطعته حرة صحيحة وأخرى معوجة فلم قال للكافر: لم كفرت، كما قال لإبليس: {ما منعك ألا تسجد} ونحو ذلك لأن هذا يستهجن ممن يجوز عليه النقص فضلاً عن المختص بصفات الكمال.
قوله: (فقال اذهب فأحرقه) إلى آخره.
يعني وهذا نظير تعذيب الله للكافر على كفره لم لم يخلق فيه غيره عندكم.
تنبيه
ومن المناظرات في هذا الباب أن قال عدلي لجبري: أكلما أقول وأفعل من الله؟ قال المجبر: نعم. قال العدلي: فأنا أقول الجبر كفر والمجبر كافر فبهت المجبر، وسأل عدلي جبرياً عن قوله تعالى: {إن كيد الشيطان كان ضعيفاً} فقال: أخبرني هذا الكيد فعل اله أو فعل الشيطان. إن قلت: فعل الله وصفته بالضعف مع كونه القوي الذي لايغالب، وإن قلت: فعل الشيطان بطل مذهبكم والحق أولى.
فصل في إبطال قولهم بالكسب
قوله: (اعلم أن الكسب والاكتساب) إلى آخره.
يقال: قد سمى الله تعالى فعل العاصي اكتساباً فقال: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} مع أنه لا نفع فيه ولادفع ضرر.
وجوابه: أن فاعل المعاصي لم يفعلها إلا لما فيها من المنفعة العاجلة بما يحصل فيها من اللذة والنفع الدنيوي ولهذا خصها الله تعالى بالاكتساب والخبر بالكسب لما كان في لفظ الاكتساب اعتمال وكانت المعاصي مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمارة به فكانت في تحصيله أعمل وأجد فجعلت لذلك مكتسبة فيه، ولما لم يكن كذلك في باب الجبر وصفت بما لادلالة فيه على الاعتمال، ذكره جار الله وقد أورد على هذا الحد إشكالات أخر.
منها: أنه يستلزم تسمية الفصد والحجامة والجماع وأ:ل الطعام والقعود عند الإعياء من المشي والاستلقاء للاستراحة كسباً لكونه أوقع ليستجلب به نفع أو يستدفع به ضرر، وتسميته كسباً غير مسلم لغة ولاعرفاً.
قيل: فالأولى في حده لغة أنه إعمال الجوارح أو بعضها في طلب عين يصح تملكها مع الاعتقاد أو الظن لكونها مما ينتفع به واستعماله في غير ذلك من الأعمال الصالحة والقبيحة مجاز تشبيهاً بالكسب اللغوي.
قوله: (والطيور المخصوصة).
يعني الجوارح لاصطيادها.
قوله: (فهو من الأسماء التي لامسمى لها والخيالات التي ليس لها حقيقة).
يعني أن معناه ليس بمعقول وقد ذكره المتكلمون في خمسة مذاهب أنها غير معقولة:
أحدها: ألكسب. وثانيها: ألطبع الذي تزعمه الطبائعية والفطرة التي ذهبت إليها المطرفية. وثالثها: مذهب النصارى أنه تعالى واحد ثلاثة. ورابعها: ما ذهبت إليه المجبرة من كونه تعالى يرى بالحواس لا في جهة. وخامسها: مزية الخالدي التي ذكرها للطاعة مع المعصية الكثيرة. قالوا: فمن هذه المذاهب ما لايعقل لأن ضرورة العقل تقضي ببطلانه كمذهب النصارى أنه تعالى واحد ثلاثة لتناقضه، ومنها ما لايعقل لكونه خارجاً عما تقضي به الدلالة العقلية كمذهب أهل الطبع والفطرة لأن المعقول من المؤثر إما كونه فاعلاً مختاراً أو معنى موجباً أو صفة تقتضي ذلك والطبع عندهم ليس من أي هذه. ومنها ما لايعقل لن الطالب لفهمه قد حرص على فهمه فلم يتمكن من ذلك والطالب لأن يفهمه الغير حرص على تفهيمه فلم يمكنه أيضاً، وهذا كمذهب المجبرة في الكسب ويقرب أن القول بالرؤية لا في جهة /416/ من هذا القبيل.
وكذلك مزية الخالدي وذلك لأن المنكرين للكسب وهم أهل العدل والجهمية وسائر الفرق المقرين بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم غير بقية المجبرة كالمطرفية والخوارج وغيرهم وجميع الفرق الخارجة عن الإسلام على كفرهم واختلاف مذاهبم وتشتت أوطانهم وشدة بحثهم عن معناه وحرصهم على فهمه ومناظرتهم في ذلك لم يجدوا إلى تعقله سبيلاً، وكذلك القائلون به لم يجدوا إلى تفهيمه سبيلاً، ذكر هذا بعضهم.
واعلم أن القوي والله أعلم أن الكسب بالمعنى الذي أرادوه معقول فإن وجود الفعل بقدرة الله مقارناً لقدرة العبد مع عدم تأثيرها فيه على ما حققه الأشعري أمر متعقل وكون الفعل طاعة أو معصية على ما حققه به الباقلاني أمر متعقل أيضاً وإن كان جعلهم له جهة لاستحقاق المدح والثواب والذم والعقاب أمر ظاهر البطلان، والفرق هذه المتكاثرة وإن أنكرته فلأنه لاصحة له لا لعدم تعقله فافهم.
قوله: (مقارناً لقدرة العبد) أي مقارناً لحدوثها.
قوله: (وقال الباقلاني المرجع بالكسب إلى صفة للفعل).
هذا معنى الكسب عنده وقال أيضاً بأن تأثير قدرة العبد هو في هذه الصفة وأما الإحداث فبقدرة الله تعالى.
قوله: (ولم كان إحدى الصفتين).
يعني الإيجاد وكون الفعل طاعة أو معصية.
قوله: (فما معنى الكسب عند هؤلاء).
يقال: هؤلاء لايثبتون الكسب ولايذهبون إليه.
قوله: (وقال بعض مشيختهم).
قد ينسب هذا القول إلى الجويني، ونسب إلى الغزالي ونسب إلى الاسفراييني والرازي.
قوله: (فقال لهم أصحابنا).
يعني مبطلين لهذا القول وقد أبطلوه أيضاً بأن قولكم ما وقع بقدرة محدثة ينبني على إثبات القدرة وإثباتها يترتب على كون أحدنا قادراً وكونه قادراً ينبني على كونه فاعلاً وهو خلاف مذهبكم وأيضاً فهذا يقتضي أن يكون للقدرة المحدثة فيه تأثير وهو خلاف ما ذهبتم إليه من أن الفعل متعلق بالله تعالى إن شاء أوجده مع القدرة وإن شاء أوجده ولا قدرة.
قوله: (وقال بعضهم الكسب هو ما حله مع القدرة عليه). نسب هذا إلى الأشعرية.
قوله: (فيلزم ألا يقبح من الباري لو تفرد به لفقد الكسب) لعلهم يلتزمون هذا.
قوله: (أليس معنى الاستطاعة عندكم) إلى آخره.
فيه نظر لن هذا معنى الاستطاعة عندهم التي هي القدرة لا استطاعة الحج التي هي شرط فيه فهي غير هذا المعنى لكن القدرة أظهر في كونها شرطاً ومعناها في التحقيق عندهم ما ذكره.
فصل في شبههم في أن الله خالق لأفعال العباد
قوله: (أشفها ما عول عليه الرازي).
أي أقواها ما اعتمده واستند إليه في تصحيح مذهبهم وقد أوردها ابن الحاجب ثم أبطلها بأنها تؤدي إلى القدح فيما علم ضرورة لاستلزامها كون أفعالنا ضرورية.
قوله: (وذلك يقدح في حدوث العالم).
يعني لأن الذي دل على حدوثه هو حصوله مع الجواز فلا بد من مؤثر فيه وموجد له يرجح وجوده على عدمه.
قوله: (أنه لازم له في فعل الباري).
قال الإمام يحيى: فكما أنه يبطل الاختيار في حق العبد فهو بعينه يبطل الاختيار في حق الله تعالى لأن طريق الفاعلية واحدة وهذا بعينه فلسفة محضة، وقول بالموجب وخروج عن الدين فإن قالوا: إن كون القديم تعالى يجب أن يكون فاعلاً لايخرجه عن حد الاختيار. قلنا: وكون فاعلية العبد واجبة لاتخرجه عن حد الاختيار.
قوله: (على أصل الجمهور).
أراد لا على أصل أبي الحسين بمتابعته القائلين بأنهما لايفعلان إلا لداع بناء على اشتراط الداعي.
قوله: (كما سيتضح). يعني في آخر هذا الجواب.
قوله: (لأن أحدنا متى دعاه الداعي إلى الأكل وعنده رغيفان يستويان) إلى آخره.
هذا ما استدل به الجمهور على عدم اشتراط /417/ الداعي قالوا: لأنه لو كان الداعي شرطاً في وجوده لكان كما يحتاج إليه في أول الأمر يحتاج إليه في آخره أيضاً عند فرض الاستواء واعترضه الإمام يحيى باعتراضات أما أولاً فبأنا لانسلم تماثلهما بالإضافة إليه ولو كانا في أنفسهما مثلين فربما يعتقد لأحدهما فضلاً على الآخر فيكون هذا سبباً للعدول عن أحدهما إلى الآخر.
وأما ثانياً فلو تناهينا في التصوير إلى أنهما يستويان من كل الوجوه فربما يذهب عن أحدهما لاستوائهما في الغرض ويصير الحال كما لو لم يكن إلا أحدهما.
قال: وأما بالثاء وهو الصحيح فلأن حال القادر ليس كحال الموجب فإن أثر الموجب متى صح وجب ومتى لم يصح استحال والقادر يفعل أحد مقدوريه لقصده وداعيه مع استوائهما في كونهما ممكني الوقوع على سواء فمتى استويا في الغرض فإنه يفعل أحدهما لداعيه من دون أمر آخر.
فإذا قال السائل: فما الذي يرجح وجود المقدور على عدمه. فمن جوابنا أنه القادر فإذا قال: فلم وجد في هذا الوقت دون ما قبله وما بعده ولم اختص بالحصول دون ضده.
قلنا: الفاعل المختار أوجده لقيام داعيه. فمتى قال: فلنفرض قيام الاعي في كل واحد من الضدين على سواء. قلنا: من ههنا يتميز القادر عن الموجب فإنا لو جربنا في هذا الموطن على طلب مخصص لأحد مقدوريه دون الآخر غير كونه فاعلاً مختاراً لألحقناه بباب الموجب وخرج عن حد الاختيار وهذا يرفع ما عرفناه ضرورة من الفرق بين القادر والموجب وحصل من مجموع ما ذكرنا أن الفاعل في الأصل مفتقر إلى الداعي ليبعثه على الفعل وعند فرض الاستواء في الفعلين من كلا الوجوه يفعل أحدهما دون الآخر من غير أمر وراء كونه فاعلاً مختاراً.
قلت: وفي كلامه عليه السلام ما يشفي في جواب هذه الشبهة التي أوردها الرازي ويفتح مقفلها ويحل معضلها.
قوله: (فما باله شاطر عليه ههنا وحرره شبهة).
أي ما الذي خطر بباله أي قلبه حال كونه شاطراً، ولفظة شاطر لم يصح لنا سماعها فإن كان بالشين المعجمة والطاء المهملة فلعله من شاطرت فلاناً مالي إذا ناصفته وشاطرت طلبي أي اختليت شطراً أو صررته وتركت له شطراً، والمعنى أنه شاطر الفلاسفة على ما أوردوه فأخذ شطراً وجعله شبهة ولكن تعدية هذا المعنى ليست بالواضحة، وإن كان بالسين والطاء المهملة فلا معنى له لغة يستقيم هنا ويخطر بالبال أن هذه اللفظة بالصاد الدال المهملتين وإنما وقع ........ الصاد سيناً .............. صرح بهذا المعنى في القاموس وأشار إليه في الصحاح والمعنى فما بال الرازي طالب به هنا في تصحيح مذهبه وجهزه شبهة يتوصل بها....
قوله: (يلزم أن يكون أحدنا عالماً بتفصيل ما اكتسبه).
وجوابهم جوابنا قد فرقوا بينهما بأن قالوا: الكسب يجب مع الصحة فلا يجب في المؤثر فيه أن يعلم تفاصيل ما اكتسبه بخلاف الحدوث فإنه لايجب مع لاصحة وإنما يثبت على وجه الاختيار فافترقا وأجيب عليهم بوجهين أحدهما أن الكسب إذا كان متعلقاً بنا على زعمهم لم يكن بد من وقوفه على اختيارنا إذ لو لم يكن كذلك لم يصح كونه متعلقاً بنا. الثاني: أن الكسب إذا كان متعلقاً بنا ومع ذلك لانعلم تفاصيل ما اكتسبناه لما كان واجباً مع الصحة فهلا قلتم أن أفعالنا حادثة من جهتنا ولا نعلم تفاصيل ما أحدثناه لأنه يجب مع الصحة.
قوله: (فقد قال بعض أصحابنا معنى المحدث في الغائب إلا من علمه في الشاهد).
يعني من حيث لايمكن تعقل المحدث في الغائب مع عدم تعقله في الشاهد وهذا أولى من قولهم أن إثبات المحدث في الغائب ينبني على إثباته في الشاهد لأنه يقال الاستدلال على إثبات الصانع ممكن من غير طريقة القياس على المحدث في الشاهد بأن يقال: حصل العالم مع جواز ألا يحصل وتجدد وجوده /418/ بعد أن لم يكن فلا بد من مؤثر فيه.
قوله: (فهذه التفرقة ثابتة في المتعديات).
هذا جواب يختص الأشاعرة ومن قال بقولهم في نفي الكسب عن المتعديات.
قوله: (لم يشترك في الحاجة إلى محدث معين).
يعني بل إلى محدث ما على سبيل الجملة ويكون الكلام في تعيينه موقوفاً على الدلالة فإن قامت على أنه الواحد منا قيل به وإن قامت على أنه غيرنا قضي به.
قوله: (في المعلولات المتماثلات) يعني كصفة الحي بكونه حياً وصفة العالمية مع إتحاد متعلقها.
قوله: (فالتماثل الحقيقي) إلى آخره.
يعني وأما تماثل الصفات والأحكام فغير حقيقي وإن جرى في كلام المتكلمين أن صفة الوجود ونحوها من الصفات المتفقة في الأحكام متماثلة فيجوز لأن التماثل من أحكام الذوات فقط.
قوله: (والقدرة لاتتعلق على التفصيل إلا بمقدور واحد).
أراد بالتفصيل حيث يكون الجنس والوقت والمحل متحدة فإن القدرة حينذ لاتتعلق إلا بمقدور واحد. قال في التذكرة: لأنها لو تعدت عنه إلى ما فوقه ولا حاصر لتعلقت بما لايتناهى ولو تعلقت بما لايتناهى لزم زوال التفاضل بين القادرين وكان يتأتى من الضعيف رفع الجبال كما يتأتى من القوي الشديد القوة لأنهما على هذا التقدير قد قدرا على ما لايتناهى على الشرائط التي ذكرناها، وإنما كان كون القدرة لايتعلق على التفصيل إلا بمقدور واحد علة في عدم جواز الإعادة على مقدورها لأنا لو جوزنا الإعادة على مقدورها بطل هذا الحكم لأنه لابد أن يعاد بالقدرة التي وجد بها بعينها، فإنه لايجوز أن يتعلق بقدرة أخرى ولا قادر آخر، وإلا لجاز مقدور بين قادرين.
وإذا وجب ذلك وقد صح أن مقدورها في كل وقت غير مقدورها في الوقت الآخر فإن لها في كل وقت مقدوراً على ما هو مقرر في مواضعه وجب لو صح إعادة مقدورها أن تتعلق القدرة الواحدة بجزء من الفعل على وجه الابتداء وبجزء آخر على وجه الإعادة فيخرج عن الحكم الذي ذكرناه ولايمكن أن يقال أنه لايصح أن يوجد بها في ذلك الوقت غير ذلك الجزء المعاد لأن هذا يقتضي أن لو نفى هذا المعاد ولم يعدم وكانت القدرة أيضاً باقية ألا يكون لها مقدور في ذلك الوقت أصلاً، وهذا يقتضي أن تعلقها فيه بمقدور موقوفاً على فناء هذا المعاد وأن تعلقها لايرجع إلى ذاتها وقد عرفنا خلافه. هذا ما ذكره ابن متويه قال رحمه الله: وفي المجبرة من جوز إعادة مقدور القدر وهو محكي عن بعض البغداديين وغيرهم من أهل العدل.
قوله: (فالسؤال لازم لهم في الكسب).
يعني وهم يذهبون إلى أن أحدنا مكتسب لهذه الأفعال ولايقدر على إعادة اكتسابها.
قوله: (فإن في أفعال الباري تعالى ما يستحيل إعادته).
قلت: بل قد ذهبت الفلاسفة والكرامية وأبو الحسين البصري إلى أنه لايصح من القديم ولا من غيره إعادة شيء من المعدومات بناء على مذهبهم في نفي إثبات الذوات في حالة العدم فإذا عدمت صارت نفياً محضاً غير متعينة في نفسها ولامتميزة في ذات بينها فلا يصح إعادتها، وإنما يعاد أمثالها ونظائرها ولهذا ذهب أبو الحسين إلى عدم جواز إعدام الخلقين وجعل الفناء يبدد أجزاءهم كما سيأتي، والإعادة جمعها حتى تصير على مثل ما كانت عليه من الحياة ونحوها، وهذا هو القياس الجاري على مذهبهم في نفي الذوات حالة العدم، وأما الرازي فإنه مع نفيه لثبوتها في حالة العدم قال بصحة الإعادة ولاسبيل له إلى الجمع بين هذين المذهبين.
قوله: (وهو ما لاينفى والمتولدات).
هذا هو المختار الذي صححه ابن متويه على خلاف فيه فإن أبا هاشم أجاز إعادة المسبب مبتدأ ثم رجع عنه إلى جواز إعادته بإعادة سببه وجوز الأشعري إعادة ما لايبقى وزاد أبو علي على ما ذكره فمنع من إادة ما دخل جنسه تحت مقدورنا وإن كان مبتدأ باقياً من فعل الله تعالى.
قوله: (إلى أمر يحيل ذلك).
يعني يحيل وجوده في الوقت الثاني من وقت حدوثه.
قوله: (لأنه يكون له في الوجود وجهان). يعني ابتداء وتوليداً.
قوله: (أ، يكون له في كل وقت مسبب).
يعني غير المسبب الذي /419/ تقدم كما يجب في القدرة أن يكون لها في كل وقت مقدور غير المقدور الذي يختص بالوقت الأول فلو جوزنا إعادة هذا المسبب بسببه وجب في هذا السبب أن يوجب على وجه الابتداء جزءاً وعلى وجه الإعادة جزءاً آخر فيلزم تعديه إلى ما لايتناهى كما قيل مثل هذا في القدرة، هذا إذا كان السبب باقياً وله في كل وقت مسبب فأما إذا كان باقياً ولي سله إلا مسبب واحد مع بقائه كالاجتماع فإن سببه التأليف وهو لا يولد إلا تأليفاً واحداً، فإ،ا نقول: لايصح إعادة مسببه لأن تأثيره إنما هو في مسبب واحد حال حدوثه وحالة حدوثه قد يغضب فلا يصح مع بقائه تأثيره بإعادة ولابغير إعادة. وهذا على قول بعضهم.
وإن كان منهم من قال بتوليده في حال بقائه لكن بشرط تجدد التجاور، وهو الذي اختاره ابن متويه وكذلك الاختلاف في الافتراق وتوليده للألم بشرط انتفاء الصحة فإن منهم من قال لا يولده إلا في حالة الحدوث ومنهم من قال يولده في حال البقاء بشرط تجدد انتفاء الصحة وأما إذا كان السبب غير باق فإعادة السبب حينئذ متوقفة على إعادته ولايصح لكونه غير باق على ما تقدم فيما لايبقى.
قوله: (أما المبتدأ فلقائل أن يقول) إلى آخره.
ربما يمكن الجواب بأن وجوده في الوقت الثالث أو الرابع مثلاً وإن لم يلزم منه انقلابه باقياً ولم يحصل فيه هذا المحيل فقد لزم من صحة وجوده في الثاني لما ذكرنا من أن الوجود لايحيل الموجود وصحة وجوده في الثاني يلزم منه انقلابه باقياً فقد أدى إلى المحال بواسطة وما أدى إلى المحال فهو محال، والذي أدى إليه تجويز الإعادة لما لايبقى فلنترك القول بما يلزم من القول به المحال.
قوله: (وليس ذلك بأبلغ من الفعلين المتغايرين).
يقال: إن الفعلين لايستحيل تعلقهما بقادرين وتجويز تعلقهما بقادرين لايؤدي إلى محذور بخلاف ما ذكرته فإنا لو قدرنا تعلق أحد السببين بقادر والآخر بقادر آخر ولامانع من هذا التقدير أدى إلى كون المسببم قدوراً لقادرين وذلك محال.
قوله: (والجواب منع الجامع) أي بين تعلقها بنا من جهة الحدوث وتعلقها بنا على سائر صفاتها.
قوله: (ولزوم مثله في أفعال القديم تعالى).
يعني فكان يلزم أن تتعلق به أفعاله تعالى من حيث أنها أشياء وذوات وحسنة وقبيحة ومعلوم خلافه.
قوله: (وفي الكسب).
يعني فيقال: أليس أنها تتعلق بنا من جهة الكسب عندكم ولايجب تعلقها بنا من هذه الوجوه التي ذكرتموها ولامن جهة الحدوث.
قوله: (فإنه مما إذا صح وجب).
يعني كونه شيئا صوغرضاً وحسناً وقبيحاً فإن هذه الأشياء تجب عند صحتها.
قوله: (وتوابعه). يعني توابع الحدوث ككون الكلام أمراً وخبراً ونحو ذلك مما يتوقف على القصد.
قوله: (منعنا الجامع). يعني لأنه عالم لذاته فهو يعلم مقدار ما فعل أولاً وثانياً ولايفعل بآلة فيجوز عليها التغير والانضراب بخلاف الواحد منا.
قوله: (وكذلك يفعل مثل الإرادة والاعتقاد والحركة).
يعني فإنه إذا أراد مثلاً قدوم زيد مرة يمكنه أن يريد قدومه ثانياً وثالثاً والإرادتان مثلان لتعلقهما بمتعلق واحد على أخص ما يمكن وكذلك الاعتقاد فإن أحدنا إذا اعتقد أن زيداً في الدار والاعتقاد مما لايبقى وإنما يجدده وقتاً بعد وقت فهذه الاعتقادات التي يجددها متماثلة وكذلك الحركات في الجهة الواحدة متماثلة.
قوله: (وكذلك الكاتب الماهر تتساوى حروفه).
وقد نقل أن بعض الماهرين في صنعة التكابة كان يكتب المصاحب على وجه يقتضي التباس بعضها ببعض حتى قال قاضي القضاة وقد رأى خطه: هذا مما ينبغي أن تبطل به شبهة المجبرة.
قوله: (على أن السؤال وارد عليهم في الكسب).
يعني فيقال: كاني جب صحة أن يكتسب أحدنا ثانياً كما اكتسب أولاً فأنتم تجعلون أحدنا قادراً على الاكتساب كما نجعله قادراً على الإحداث.
قوله: (من حيث قد صار بالعرف اسماً) إلى آخره.
قيل: ولأن إطلاق هذه اللفظة علينا توهم أنا نقدر على خلق الأجسام والأعراض التي لاتدخل تحت مقدورنا وأنا نخترع أفعالنا /420/ .
قوله: (ونحو ذلك مما ورد في اللغة نحو: خلقت الأديم، هل يجيء فيه مطهرة.وقول زهير:
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ... ـض القوم يخلق ثم لايفري
قوله: (وأما قوله تعالى هل من خالق غير الله) إلى آخره.
هذا جواب عن تمام لهذه الشبهة تأتي بعد إلزام أن يسمى الواحد منا خالقاً فيقال: ولايجوز ذلك، لقوله تعالى: {هل من خالق غير الله}.
فصل في شبههم السمعية
قوله: (قد تعلقوا بالمتشابه الذي ذم الله متبعيه).
يعني بقوله تعالى: {وأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة} ومعناه: أن أهل البدع يتعلقون بالمتشابه منه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لايطابق المحكم ويحتمل ما يطابقه من قول أهل الحق طلباً أن يفتنوا لاناس عن دينهم ويضلوهم.
قوله: (وهذه وجوه عامة).
يعني لايختص بإبطال استدلالهم بالسمع في هذه المسألة وقد ذكر أصحابنا وجهين يختصان بالمنع عن استدلالهم بالسمع على هذه المسألة وحدها، أحدهما أن صحة السمع تنبني على أن أفعالنا منا لأنه ينبني على إثباته تعالى قادراً عالماً والطريق إلى ذلك متفرعة على أن لنا أفعالاً حادثة من جهتنا فكيف نستدل بالسمع على بطلان ما لايصح السمع إلا بعد صحته.
وثانيهما: أن صحة السمع تنبني على أنه تعالى عدل حكيم ولايثبت أنه تعالى عدل مع القول بأنه فاعل لأفعال العباد وهي تشتمل على أنواع القبائح جميعها.
قوله: (وسائر المعاني القديمة).
يعني على مذهبهم.
قوله: (فليسوا بالتأويل أحق منا).
يزاد: بل نحن به أحق لتطابق الأدلة العقلية والسمعية فتناولها بأن المراد معظم الأشياء وهي ما لايقدر عليه أو لانقدر على الوجه الذي أوقعه تعالى عليه، ولو لم يكن من موجبات تأويلنا هذا إلا أنها وردت تمدحاً ولامدح في خلق أفعال العباد المشتملة على القبائح.
قوله: (وقوله أحسن الخالقين).
يعني وفيه دلالة على ثبوت أن غيره يخلق وإلا لم يكن للتفصيل وجه.
قوله: (ومنها له تعالى: {أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه}).
وجه تمسكهم بها أن المعنى بل اجعلوا، ومعنى الهمزة الإنكار، وخلقوا صفة لشركاء. قال جار الله: يعني أنهم لم يتخذوا لله شركاء خالقين قد خلقوا مثل خلق الله حتىي قولوا قدرها ولا على الخلق كما قدر الله عليه فاستحقت العبادة فنتخذهم شركاء ونعبدهم كما نعبد من غير فرق بين خالقوخالق ولكنهم اتخذوا شركاء عاجزين لايقدرون على ما يقدر عليه الخلق فضلاً أن يقدروا على ما يقدر عليه الخالق. انتهى.
قلت: ومن هنا نعرف أنه لاتعلق لهم بهذه الآية وأنها عما نحن فيه بمعزل وأن جوابي المصنف الأول والثاني فيهما انضراب، ونقصان لعدم تحققه لمعنى الآية على ما فسرها به المحققون.
قوله: (وهو لايحتمل التأويل).
يقال: كيف جعلته ظاهراً ثم قلت لايحتمل التأويل، وإنما الذي لايحتمل التأويل ما كان نصاً على أنهم قد تأولوها بالعلم على ما تقدم.
قوله: (على أن ذلك وارد عليهم في الكسب).
يعني لنسبتهم له إلينا لكنهم يقولون ليس القول بتأثيرنا في الكسب يقتضي إثبات خالق غير الله بخلاف الإحداث.
قوله: (فنحن قائلون بمقتضى الآية).
يعني إن سلمنا أنها تقتضي نفي كل خالق سوى الله لكنها لاتلحظ إلى هذا المعنى والله أعلم.
قوله: (لاتعلق لهم في ظاهرها كما تقدم).
يعني لأن ظاهرها أنه خالق لنفسه وللمعاني القديمة التي يثبتونها.
قوله: (ومنها قوله تعالى: {والله خلقكم وما تعملون}).
وجه تمسكهم بها أنهم جعلوا ما مصدرية فيكون المعنى وعملكم.
قوله: (أنه أضاف العبادة والنحت) إلى آخره.
يعني في الآية التي قبل هذه وهي: {أتعبدون ما تنحتون}.
قوله: (وردت مورد الانكار والاحتجاج).
أي إنكار عبادة الأصنام المنحوتة والاحتجاج عليهم بأن العابد والمعبود جميعاً خلق الله فكيف يعبد المخلوق المخلوق /421/ على أن العابد منهما هو الذي عمل صورة المعبود وشكله ولولاه لما قدر أن يصور نفسه ويشكلها.
قوله: (أي وما يعملون فيه).
يعني فتكون ما موصولة حذف عائدها وجعل جار الله التقدير: وما يعملونه أي من الأصنام، كقوله: {بل ربكم رب السموات الذي فطرهن} أي فطر الأصنام.
قال رحمه الله: فإن قلت كيف يكون الشيء الواحد مخلوقاً لله تعالى معمولاً لهم حيث أوقع خلقه وعملهم عليها جميعاً.
قلت: هو كما يقال عمل النجار الباب والكرسي، والصائغ السوار والخلخال، والمراد عمل أشكال هذه الأشياء وصورها دون جواهرها والأصنام جواهر وأشكال فخالق جواهرها الله وهم عاملوا أشكالها الذين يشكلونها بنحتهم وحذفهم بعض أشكالها حتى يستوي التشكيل الذي يريدونه ورجح رحمه الله جعلها موصولة بأن قوله: {وما يعملون} ترجمة عن قوله: {ما تنحتون} وما في ما تنحتون موصولة لا مقال فيها فلا يعدل بها عن .... إلا متعسف متعصب لمذهبه من غير نظر في علم البيان ولا ينضر لنظم القرآن.
قال صاحب ....: قيل استفهام إنكار أي وأي شيء يعملون تحقيراً لعملهم، وقيل: نافية أي وما تعملون شيئاً، وقيل: مصدرية أي وعملكم. قال: وهذه وجوه متكلفة.
قوله: (فما معنى قوله: {جعلنا}).
يعني مع أنه إنكار لذلك إذ الهمزة فيه للإنكار.
قوله: (فزعم أن التقدير خلق العجل من الإنسان).
هذا تأويل أبي عمرو، قال صاحب المجيد: وكذا قرأ عبدالله أي طبيعة من طبائعه. قال: وليس بجيد لأن القلب بآية الشعر.
قوله: (أحدهما أن العجل هو الطين).
قال جار الله: وقيل العجل الطين بلغة حمير. قال شاعرهم: والنحل البيت. قال والله أعلم بصحته: وصدر البيت: ولانبع في الصخرة الصماء منبته. والنبع: شجر.
قوله: (ومنه قوله تعالى: {من حمأ مسنون}).
يعني أنه موافق لتأويل العجل بالطين فإن الحمأ أيضاً هو الطين الأسود المتغير وأما مسنون فقيل معناه مصور من صورة الوجه. وقيل: مفرغ مصبوب وقيل: منتن.
قوله: (إذا أرادوا المبالغة) إلى آخره.
قال صاحب المجيد: قوله من عجل مبالغة كقوله عليه السلام: (( ما أنا من دد ولا دد مني )) . وكقوله:
وإنا لمما يضرب الكبش ضرابه ... على رأسه يلقى اللسان من الفم
فجعلهم من الضرب.
قوله: (قال: {وخلق الإنسان عجولا}).
يعني قال الله تعالى والآية الكريمة: {وكان الإنسان عجولا}.
قوله: (ويدل على هذا قوله من بعد: {سأريكم آياتي فلا تستعجلون}).
يعني فإنه لما أراد نهيهم عن الاستعجال وزجرهم قدم أولاً ذم الإنسان على فرط العجلة وأنه مطبوع عليها.
قال جار الله رحمه الله تعالى: فإن قلت لم نهاهم عن الاستعجال مع قوله: {خلق الإنسان من عجل}، {وكان الإنسان عجولا} أليس هذا من تكليف ما لايطاق.
قلت: هذا كما ركب فيه الشهوة وأمره أن يعملها لأنه أعطاه القدرة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العجلة. وعن ابن عباس أنه أراد بالإنسان آدم أنه حين بلغ الروح صدره ولم يتبالغ فيه أراد أن يقوم وروي أنه لما دخل الروح في عينه نظر إلى ثمار الجنة ولما دخل جوفه أشهى الطعام وقيل خلقه الله في آخر النهار يوم الجمعة قبل غروب الشمس فأسرع في خلقه قبل مغيبها وعن ابن عباس أيضاً أنه النضر بن الحارث قال: والظاهر أن المراد الجنس.
قوله: (لأجل الفشل والتنازع).
الفشل عبارة عن الجبن وضعف الرأي وذلك إشارة إلى ما وقع من بعض أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يوم أحد فإنه لما وصل شعب أحد لقتال المشركين جعل خيل أحد خلف ظهره مستقبلاً للمدينة وأقام الرماة عند الجبل وأمرهم أن يثبتوا ولاينزلوا عن مكانهم كانت الدائرة للمسلمين أو عليهم فلما أقبل الكفار رشقت الرماة قبلهم وضربهم الباقون /422/ بسيوفهم فانهزموا، وحينئذ وقع التنازع بين الرتبة المذكورين فمن قائل قد انهزم المشركون فما مقامنا هنا، ومن قائل: لانخالف أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما نفر الأكثر منهم لينهبوا ويأخذوا من الغنيمة كر المشركون على الثابتين وهم عبدالله بن جبير في طائفة لاتبلغ العشرة فقتل عبدالله وأقبلوا على المسلمين وحالت الريح دبوراً وكانت صبا فهزموا المسلمين فقتلوا من قتلوا.
قوله: (ويجوز أن يكون المراد بالصرف الأصباب المقتضية للهرب).
هذا هو الأقوى ومن أبلغ الأسباب أن حالت الريح دبوراً وكانت صبا حتى هزموهم وقتلوا من قتلوا وهو معنى قوله تعالى: {ثم صرفكم عنهم} ذكره جار الله.
قوله: (ويجوز أن يكون المراد بالصرف إباحة الهرب).
في هذا الوجه بعد وهو مما ينبو عنه الفهم.
قوله: (والابتلاء لايكون بالمعاصي).
يعني بل يكن بما يفعله الله من صنوف المحن لمتحن صبر من أصابته على المصائب وثباته على الإيمان عندها.
قوله: (والمراد خلق لنا ماننتفع به).
قال جار الله: معنى لكم: لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم ودينكم أما الانتفاع الدنيوية فظاهر وأما الانتفاع الديني فالنظر فيه وما فيه من عجائب الصنع الدالة على الصانع القادر الحكيم وما فيه من التذكير بالآخرة وثوابها وعقابها لاشتماله على أسباب الأنس واللذة ومن فنون المطاعم والمشارب والفواكه والمناكح والمراكب والمناظر الحسنة البهية وعلى أسباب الوحشة والمشقة من أنواع المكاره كالنيران والصواعق والسباع والأجناس والسموم والغموم والمخاوف.
قوله حاكياً عنهم: (فبين أن الإسلام من جهته).
قالوا: وكل من قال بأن الإسلام من جهته قال بذلك في سائر الأفعال.
قوله: (لاستحالة طلب الحاصل).
لهذا حمله جار الله على أن المراد زدنا إخلاصاً وإذعاناً لك.
قوله: (ومنها قوله تعالى: {وقهم السيئات}).
تمسكوا بها بناء على أن السيئات هي المعاصي وطلبهم لأن نفيهم الله تعالى إياها دليل على أنه الذي يفعلها ولو صح أنها المعاصي هنا فلا دلالة فيه على مذهبهم ويكون المعنى أعصمهم عنها والطف بهم في تركها.
قال جار الله: ألسيئات العقوبات أو جزاء السيئات، فحذف المضاف على أن السيئات هي الصغائر والكبائر المتوب عنها، والوقاية منها التكفير أو قبول التوبة، ثم قال: فإن قلت: ما الفائدة في استغفارهم لهم وهم تائبون صالحون موعودون المغفرة والله لايخلق الميعاد.
قلت: هذا بمنزلة الشفاعة وفائدته زيادة الكرامة والثواب.
قوله: (لأن الإفراغ لايعقل في الصبر).
يعني لأن معناه لغة الصب والإراقة لنحو الماء والدم من المائعات.
قوله: (والثبات أيضاً في الإقدام ليس على ظاهره).
قال جار الله: المعنى وهب لنا ما نثبت به في مداحض الحرب من قوة القلوب وإلقاء الرعب في قلب العدو ونحو ذلك من الأسباب.
قوله: (على أنه سؤال) إلى آخره.
يعني فلا دلالة على أنه تعالى يفعل فينا الصبر والثبات لأنهم وإن سألوا ذلك منه تعالى فلا يدل على أنه يفعله لكنه يقال: إن هذا حكاه الله عنهم في معرض المدح لهم ولم ينكره عليهم ولو سألوا منه تعالى ما لايصح منه تعالى أن يفعله لم يورده في معرض الثناء عليهم فهذا وجه تعلقهم به.
قوله: (والفسقة والمجانين).
يعني الذين فسقوا بترك الصلاة وأما المجانين فهو لايتأتى منهم لتوقفه على قصد القربة وهي غير متأتية منهم.
قوله: (والمعنى الانقياد لما يحدثه ويفعله فيهم).
أي من أفعاله تعالى شاؤوا أو أبوا لايقدرون أن يمتنعوا عليه ولهذا قال في آخرها: {وظلالهم بالغدو والآصال} أي ينقاد أيضاً له حيث ينصرف على مشيئته تعالى في الامتداد والتقلص والفيء والزوال.
قوله: (ويهش).
يقال: هش له أي ارتاح وهو بفتح التاء والهاء، على وزن يفعل، بفتح العين وماضيه على وزن فعل.
قوله: (والمراد اشرح لي) إلى آخره.
قال جار الله /423/: لما أمر يعني أمر الله موسى لأن هذا حكاية منه تعالى لكلامه عليه السلام بالذهاب إلى فرعون الطاغي عرف أنه كلف أمراً عظيماً وخطراً جسيماً يحتاج معه إلى احتمال ما لايحتمله إلا ذو جأس رابط وصدر فسيح ...... ربه أن يشرح صدره ويفسح قلبه ويجعله حليماً حمولاً يستقبل ما عسى يرد عليه من الشدائد التي يذهب معها صبر الصابر بجميل الصبر وحسن الثبات، وأن يسهل عليه في الجملة أمره الذي هو خلافة الله في أرضه وما يصحبها من مزاولة معاظم الشؤون وجلائل الخطوب، وإذ قد فهمت معنى الآية نوضح لك أنه لامتمسك لهم بها ولامعنى لإيرادهم لها.
قوله: (والمراد اعصمنا عن ذلك).
أي عن عبادة الأصنام وثبتنا وأدمنا على اجتناب عبادتها، وأما قوله: {اجعلني مقيم الصلاة} فجوابه يوجد مما تقدم في قوله: {واجعلنا مسلمين لك} وذلك كقولهم: رب رمية من غير رام. هو مثل من أمثال العامة ومنه:
فقلت لها أصبت حصاة قلبي ... ورب رمية من غير رام
والمعنى ر بإصابة حصلت من غير بصير بالرمي، قيل: وأول من أرسل هذا المثل الحكم بن عبد يغوث المنفري واكن أرمى الناس في زمانه فنذر ليذبحن مهاة على الغبغب فرام ذلك أياماً فلم يتمكن وكان يرجع خائباً حتى هم بقتل نفسه فسأله ابنه مطعم أن يحمله معه وألح عليه حتى فعل ومرت مهاتان واحدة بعد أخرى والحكم يرميهما فأخطأهما فلما عرضت الثالثة رماها ابنه مطعم فأصابها فعند ذلك تكلم الحكم بهذا فأرسل مثلاً.
قوله: (والقصة أنه عليه السلام أخذ حفنة من التراب) إلى آخره.
فمعنى الآية على ما ذكره جار الله أن الرمية التي رميتها لم ترمها أنت على الحقيقة لأنك لو رميتها لما بلغ أثرها إلا ما يبلغ أثر رمي البشر ولكنها رمية لله عز وجل حيث أثرت ذلك الأثر العظيم فأثبتت الرمية لرسول الله صلى الله عليه لأن صورتها وجدت منه، ونفاها عنه لأن أثرها الذي لايطيقه البشر فعل الله تعالى فكأ،ه فاعل الرمية على الحقيقة وكأنها لم توجد من الرسول أصلاً.
قوله: (ومنها قوله تعالى: {ولولا فضل الله} إلى آخره).
وجه تمسكهم به أن المراد بالفضل خلق الإيمان وعدم خلق الكفر والمعاصي وهذا غير لازم ولا دلالة في الآية عليه والمراد بالفضل ما ذكره من إرسال الرسل وإنزال الكتب والتوفيق.
قوله: (الذي هو أخص من النوع).
أراد النوع الذي هو أخص من الجنس لأن الجنس ما اشتمل على مختلف بالحقيقة كالحيوان مثلاً لاشتماله على الإنسان والفرس والجمل ونحوها وحقائقها مختلفة وكل من هذه الأشياء المختلفة نوع كالإنسان مثلاً ونوع الإنسان مثلاً ضروب طويل وقصير وأبيض وأسود ونحو ذلك.
قوله: (وهو المراد ههنا).
ويدل عليه ذكر ذلك عقيب ضرب مثل الحق والباطل بقوله: {هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور}.
قوله: (ليس في الظاهر أن الدين فطرته).
يقال: بل هو الظاهر فإن المعنى أن الدين الحنيف فطرته التي فطر الناس عليها ونحن نلتزم ماذكرته من أن كل الناس فطروا على الدين وإن كان الخصوم لايلتزمونه لما ذكره من أن عندهم أن أكثر الخلق فطروا للكفر.
قولهك (ولأنه لو كان كما قالوا).
يعني من أن الدين فطرته بمعنى أنه خلقه فينا.
قوله: (لكان قد بدل خلق الله).
يعني مع قوله: {لاتبديل لخلق الله}.
قوله: (هو بمنزلة أن يقول كن طويلاً) إلى آخره.
وذلك لأن معنى فأقم وجهك قوم وجهك له غير ملتفت عنه يميناً ولاشمالاً، وهو تمثيل لإقباله على الدين واستقامته عليه وثباته واهتمامه بأسبابه فإن من اهتم بالشيء عقد عليه طرقه وسدد عليه نظره وقوم له وجهه مقبلاً عليه.
قوله: (فالمعنى فطرة الله التي فطر الناس لها) إلى آخره.
يعني ويكون /424/ اللام بمعنى على، كقولهم: صف علي كذا، أي صفه لي، وكما يرد على بمعنى اللام يرد اللام بمعنى على، كقوله تعالى: {ويخرون للأذقان} وقولهم: سقط لوجهه.
قال جار الله: المعنى ألزموا فطرة الله أو عليكم فطرة الله وإنما أضمر به على خطاب الجماعة لقوله: {منيبين إليه} وهو حال عن الضمير في الزموا، والفطرة الخلقة ألا ترى إلى قوله: {لاتبديل لخلق الله}، والمعنى أنه خلقهم قائلين للتوحيد، ودين الإسلام، غير نائين عنه ولا منكرين له لكونه مجاوباً للعقل مساوياً للنظر الصحيح حتى لو تركوا لما اختاروا عليه ديناً آخر ومن غوى منهم فبإغواء شياطين الإنس والجن، ومنه قوله عليه السلام: (( كل عبادي خلقت حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم وأمروهم أن يشركوا بي غيري )) .
وقوله: (( كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه )) .
ومعنى لاتبديل لخلق الله: ما ينبغي أن تبدل تلك الفطرة أو بغير.
قوله: (في حكاية الخبر: إني خلقت عبادي حنفاء). أي مسلمين والحنيف: ألمسلم.
قوله: (ومنها قوله تعالى: {لنجعل ما يلقي الشيطان فتنة}).
اعلم أنه لابد من ذكر تفسير هذه الآية ليتضح لك كيفية الجواب عنها وتطلع على معاني جواب المصنف فيها. قال جار الله: السبب في نزول هذه الآية يعني: {وما أرسلنا قبلك من رسولا ولانبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} إلى قوله: {لنجعل ما يلقي الشيطان} أن رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم لما أعرض عنه قومه وشاقوه وخالفه عشيرهت ولم يشايعوه على ما جاء به تمنى لفرط ضجره من إعراضهم ولحرصه وتهالكه على إسلامهم ألا ينزل عليهم ما ينفرهم لعله يتخذ ذلك طريقاً إلى استمالتهم واستنزالهم عن غيهم وعنادهم فاستمر به ما تمناه حتى نزلت عليه سورة النجم وهو في نادي قومه وذلك المتمني في نفسه فأخذ يقرأها فلما بلغ قوله: {ومناة الثالثة الأخرى} ألقى الشيطان في أمنيته التي تمناها أي وسوس إليه بما شفعها به فسبق لسانه على سبيل السهو والغلط إلى أن قال: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لترتجى. وروي: الغرانقة، ولم يفطن له حتى أدركته العصمة فتنبه عليه وقيل: نبهه جبريل عليه السلام أو تكلم الشيطان بذلك فأسمعه الناس فلما سجد فيها في آخرها سجد معه من في النادي وطابت نفوسهم.
إذا عرفت هذا فقوله: {لنجعل ما يلقي الشيطان فتنة} معناه أن تمكين الشيطان من ذلك محنة من الله وابتلاء ازداد المنافقون به شكاً وظلمة والمؤمنون نوراً وإيقاناً فقول المصنف : المراد بالجعل هنا الدلالة والبيان، غير متضح وقد نقضه بأن حمل الآية على أن المراد لنجعل نسخ ما ألقاه الشيطان فتنة للكافرين، والمراد بنسخ ما ألقاه في قوله تعالى: {فينسخ الله ما يلقي الشيطان} أن يذهب به ويبطله ثم يحكم آياته أي يبينها.
قوله: (خلى بينهم وبين الشيطان).
يعنيبأن مكنه من الوسوسة بذلك أو النطق به.
قال جار الله: والله سبحانه له أن يمتحن عباده بما شاء من صنوف المحن وأنواع الفتن ليضاعف ثواب التائبين ويزيد في عذاب المذنبين.
قوله: (إلى قوله: {قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لايكادون يفقهون حديثاً ما أصابك من حسنة فنم الله وما أصابك من سيئة فنم نفسك وأرسلناك للناس رسولاً وكفى بالله شهيداً}.
قوله: (وبعد فليس المراد بالحسنة والسيئة الطاعة والمعصية).
قال الله تعالى: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات}. وقال: {إن الحسنات يذهبن السيئات}. والمعنى: وإن يصبهم نعمة من خصب ورخا نسبوها إلى الله تعالى /425/ وإن تصبهم بلية من قحط وشدة أضافوها إليك، وقالوا: هي من عندك وما كانت إلا بشؤمك، كما حكى الله عن قوم موسى: {وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه}، وعن قوم صالح: {قالوا اطيرنا بك وبمن معك}، وروي عن اليهود لعنت أنها تشاءمت برسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم فقالوا: منذ دخل المدينة نقصت ثمارها وغلت أسعارها فرد الله عليهم: {قل كل من عند الله} يبسط الأرزاق ويقبضها على حسب المصالح ولاتناقض بين هذه الآية وبين قوله: {ما أصابك من حسنة فنم الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} لأن معناها ما أصابك يا إنسان خطأ .... ما من حسنة أي من نعمة وإحسان فمن الله تفضلاً منه وإحساناً وامتناناً وامتحاناً وما أصابك من سيئة أي من بلية ومصيبة فمن عندك لأنك السبب فيها بما اكتسبت يداك كقوله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}.
وعن عائشة رضي الله عنها: (( ما من مسلم يصيبه نصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها وحتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر )) .
قوله: (ومنها قوله: فأغرينا).
هذه الآية أتى بها المصنف كذلك والآيتان اللتان بعدها وهي مما يعد من شبههم في أنه تعالى يضل خلقه ويحمله على نواهيه ويوقعهم في معاصيه وستأتي شبههم في ذلك ولها بهذه المسألة طرف تعلق فلا بأس بذكرها ههنا.
قوله: (وعندنا أن الضمير في قوله فاعقبهم عائد إلى التولي والإعراض والبخل).
قال جار الله: عن الحسن وقتادة أن الضمير للبخل ، يعني فأورثهم البخل نفاقاً متمكناً في قلوبهم لأنه كان مثبتاً فيه وداعياً إليه والظاهر أن الضمير لله عز وجل، والمعنى يخذلهم حتى نافقوا ويمكن في قلوبهم نفاقهم فلا ينفك عنها إلى أن يموتوا بسبب إخلافهم ما وعدوا أنه من التصدق والصلاح وكونهم كاذبين ومنه جعل خلف الوعد ثلث النفاق، وإنما جعل جار الله الضمير لله تعالى وفسره بالخذلان لكونه جعله مسبباً عن الإخلاف كالعقوبة عليه والله أعلم.
قوله: (والضحك والبكاء قد يقعان معصية).
لا حاجة إلى هذه الزيادة لأن مرادهم الاحتجاج على نسبة أفعالنا إلى الله معصية كانت أو غيرها وقد حصل غرضهم بنسبة الضحك والبكاء إليه سواء كانا طاعة أو معصية أو يقعان طاعة في بعض الأحوال ومعصية في بعضها.
ولهذا قال السيد: حاكياً عنهم قالوا: بين أن الضحك والبكاء من جهته ومن قال بذلك لم يفصل بينه وبين غيره من الأفعال.
قوله: (والجواب أما البكاء) إلى آخره.
لابد من ذكر حقيقة البكاء والضحك ليتضح لك ما كان من هته تعالى وما كان من جهة الضاحك والباكي والذي ذكروه في حقيقة الضحك أنه يفتح في الوجه والأجفان ويقلص في الشفتين عند سرور أو تعجب.
قال ابن متويه: والذي لابد منه حتى يثبت صاحكاً ما يظهر في الحدقة عند السرور أو التعجب فإن هذا لايخلو عنه أحوال الضاحكين فأما غيره فقد يخلو عنه، ومتى حصل الضحك من دون سرور أو تعجب فهو متضاحك. قال بعضهم: والمراد بفتح الأجفان امتداداه إلى مؤخر العين ومقدمها، وإن تقاربت الأجفان إلى الالتقاء، ولامراد بتفتح الوجه كون جلدته تأخذ إلى الصابرين وأما البكاء فهو نزول الدمع من العين مع لوعة وحزن واللوعة والحزن ترجع بهما إلى اعتقادات وظنون لفوت نفع أو نزول ضرر، ولابد من اعتبارهما فإن الدمع يخرج من عين الأرمل ومن به صدام ولايكون بكاء.
قووله: (فهومن فعل الله).
هكذا أطلق القول في التذكرة أن البكاء من فعل الله، وكذلك أطلق السيد كإطلاقه واستشهد على ذلك بعدم وقوفه على القصد والداعي بل قد يدعو أحدنا الداعي إليه فلا يقع وقد يقع من غير اختيار.
قيل: وفيه نظر لأن الإنسان قد يقف البكاء على اختياره، بل قد قيل /426/: إن من الناس من يقف البكاء على اختياره من عين دون عين، وقد يستجلب أحدنا البكاء بأسباب كتذكر الأحزان وتعداد محاسن الموتى.
وجوابه أن ما وقف على اختيارنا من غير تذكر سبب إن صح ذلك فهو من فعلنا لكن لاينبغي أن يسمى بكاء ولكن هو تباكي، وأما المستجلب بالتذكر ونحوه فهو من فعله تعالى بعد تذكر الأسباب حيث لايمكن دفعه وإن كان في الحكم كأنه من جهتنا ويتعلق حكمه بنا من مدح وذم كما في واضع رجل في النار ونحوه وما أمكن دفعه فهو من فعلنا وحيث يكون البكاء من العبد فالمراد ما فيه من الاعتمادات والحركات ومن الحزن واللوعة حيث يكونان ظناً أو اعتقاداً أو علماً غير ضروري، وما كان منهما علماً ضرورياً فمنه تعالى وكذلك جرم الدمعة وتأليفها فافهم.
قوله: (ويجوز أن يكون المراد خلقه خلقه) إلى آخره.
إلى هذا الوجه لمح جار الله حيث قال: المعنى أنه خلق قوتي الضحك والبكاء.
قوله: (لأن المراد أنعمت عليهم بالإيمان).
قال جار الله: والذين أنعمت عليهم هم المؤمنون وأطلق الإنعام ليشمل كل إنعام لأن من أنعم الله عليه بنعمة الإسلام لم يبق نعمة إلا أصابته واشتملت عليه . وعن ابن عباس هم أصحاب موسى قبل أن يغيروا، وقيل: هم الأنبياء.
القول في المتولدات
هي نوع من الأفعال وما تقدم شامل لها لكن اقتضى إفرادها بالكلام عليها ما اختصت به من الخلاف ومخالفة بعض العدلية فيها، وإن كان ما سنذكره من الخلاف غير مقصور على المتولدات وقد اقتضى ذكر المتولدات للخلاف الذي فيها ذكر حقيقة المتولد وما يقابله وما قرانه وذكر الأسباب وما يتصل بذلك ولهذا أورد المصنف من ذلك بنداً وهي كافية في المقام وقد نفى صالح فيه المتولد من أفعالنا.
وقال: الذي نسميه متولداً يفعله الله ابتداء وهو قول الجبرية.
وقال الرازي: لو كان دوران الهوى مع النقل وجوداً وعدماً دالاً على تولده عنه وجب أن يقتضي مثل ذلك تولد الفعل عن الداعي.
قوله: (وهما يرادفان السبب والمسبب في أغلب الأحوال).
أما المسبب فهو مرادف للمتولد مطلقاً، وأما السبب فيرادف المبتدأ في بعض الأحوال إذ من المبتدأ ما ليس بسبب كالإرادة ومن الأسباب ما ليس بمبتدأ.
قوله: (بحسب الخلاف بين الشيوخ).
يعني فعند المتقدمين أن المباشر هو الموجود بالقدرة في محلها مبتدأ وعلى هذا يكون كل مباشر مبتدأ وعند المتأخرين أنه الموجود بالقدرة في محلها على ما حققه به المصنف ولايشترطون فيه أن يكون مبتدأ كما شرطه المتقدمون وعلى هذا لايكون كل مباشر مبتدأ إذ في المباشر ما هو متولد كالعلم الحاصل عن النظر فإنه موجود بالقدرة في محلها وكذلك كثير من الأكوان والاعتمادات وعلى هذا يكون بين المباشر والمبتدأ عموم من وجه وخصوص من وجه، إذ في المبتدأ أيضاً ما ليس بمباشر وهو ما كان من أفعاله تعالى مبتدأ بغير واسطة، وإلى هذا أشار بقوله: ولا عكس.
قوله: (لأنها كلها مخترعة).
يعني المبتدأ والمتولد إذ لايفعل تعالى بقدرة ولا يعتبر في أفعاله محل القدرة ... وقيل: ثم أن المتولد من فعله تعالى لايسمى مخترعاً وإنما يختص اسم المخترع بالمبتدأ.
فصل والأسباب المولدة ثلاثة
قوله: (والمسببات هي ستة الاعتماد والكون والصوت والتأليف والألم والعلم).
فالعلم من أفعال القلوب وليس فيها متولد غيره وإ، كان قاضي القضاة قد ذهب إلى صحة توليد النظر للاعتقاد المطابق الذي ليس بعلم وما عداه من المتولدات من أفعال الجوارح.
قوله: (اعتماداً مثله وكوناً).
الاعتماد يولدهما مقترنين ولايصح أن يولد أحدهما دون الآخر.
قوله: (وصوتاً). الاعتماد يولده بشرط الصكة.
قوله: (والكون يولد الألم) يولده بشرط انتفاء الصحة.
قوله: (وما هو من جنسه). /427/
يعني اللذة وإنما يفترق هو وهي بحسب مقارنة الشهوة والنفار وكذلك يولد الكون التأليف بشرط المجاورة فإن كان في أحد المحلين رطوبة وفي الآخر يبوسة حصل مع التأليف صعوبة التفكيك وإلا فلا.
قوله: (فإنا لانفعلها إلا متولدة).
قيل: وعكسها العلم فإنه لايصح من الله إلا مبتدأ ذكره بعض المتأخرين المهدي وغيره، والصحيح خلافه لأنهم بنوا على أن الله تعالى لايفعل النظر لكون شرطه التجويز ولايصح عليه تعالى لكن يقال لهم: النظر من أجناس المقدورات والله تعالى قادر عليها كلها والتجويز ليس بشرط إلا في حق الناظر وهو من أمر الله النظر فيه.
فصل
وقد ذهب أبو علي إلى أن الله تعالى لايفعل بسبب وأنه لايصح منه الفعل على جهة التوليد وخالفه أبو هاشم فقال: يصح أن يكون في فعل الله تعالى المتولد عن سبب فيكون إيجاده إيجاد سببه.
قوله: (ونحو ذلك).
يعني كإحراق النار بالاعتماد وهو ظاهر وقد قال تعالى في سير السفن: {وجرين بهم بريح طيبة} فنص على حصول الجري عن الريح ويعضده قوله تعالى في آية أخرى: {إن يشأ يسكن الرياح فيظللن رواكد على ظهره}. ومما يدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: {وهو الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً}.
قوله: (لاختصاصه بجهة). يعني فالعلوي يختص بجهة العلو اللازم منه كالدخان والمجتلب، والصفي يختص بجهة السفل اللازم منه كالثقيل والمجتلب.
قوله: (شبهته أنه كان يلزم أن يكون لاله تعالى محتاجاً إلا السبب).
قال: لأن حاجة المسبب إلى سببه واجبة لازمة فيلزم إذا أراد الله إيجاد ذلك المسبب ألا يمكنه ذلك ويتأتى منه إلا بإيجاد سببه فيكون ذلك محالا لاستلزامه الحاجة عليه تعالى عند إرادة إيجاد المسبب.
قوله: (يصح منه مبتدأ).
يعني فلا يلزم احتياجه تعالى إلى السبب من أجل إيجاد مسببه لأنه قادر على ما لايتناهى من أمثال ذلك المسبب ابتداء من غير توليد.
قوله: (لأنه أمر يرجع إلى الفعل).
أي يوقفه في الوجود على ذلك السبب واستحالة إيجاده مبتدأ فهو إذن المحتاج إلى السبب لا الباري سبحانه وتعالى.
قوله: (كالحال في احتياج الغرض المعين إلى محل معين).
يكفي في معارضة ابي علي احتياج الفعل الذي لايصح وجوده إلا في محل إلى محل ما فكما أنه لايصح من الله تعالى إيجاده إلا في محل ولم يلزم أن يكون تعالى محتاجاً إلى المحل كذلك لايصح منه تعالى إيجاده إلا بإيجاد سببه ولايلزم أن يكون محتجاً إلى السب بل عدم الحاجة في هذا أوضح لصحة إيجاد أمثاله على وجه الابتداء كما تقدم.
ولايصح إيجاد أمثاله في غير محل وسواء قلنا بأن الغرض المعين يحتاج إلى محل معين أم لا فقد استقامت الحجة على أبي علي.
واعلم أن العلة في احتياج الغرض المعين إلى محل معين أن الحال في محل لايصح وجوده إلا فيه لأنه لو صح وجوده في محل آخر أو لا في محل لم يكن تخصيصه بهذا المحل إلا لوجه ولايمكن أن يخصصه به إلا الفاعل أو المعنى، أما الفاعل فلو أثر في ذلك لصح منه أن يوجده في أكثر من محل واحد حتى يوجده في محلين ومحال كثيرة بأن يريد ذلك، وقد عرفنا خلافه.
وأما المعنى فكان يلزم فيه مثل ما لزم في الأل من احتياجه في حلوله في هذا المحل إلى معنى ويتسلسل هذا ما ذكره أصحابنا، وفي كلامهم نظر وإطالة الكلام هنا لايليق بهذا المقام.
تنبيه
إذا صح منه تعالى إيجاد الفعل بواسطة سببه فإرادته له تكون عند إيجاد السبب. فإن قيل: يلزم أن تكون هذه الإرادة عزماً وقد قلتم لايصح العزم عليه.
قلنا: مقارنة السبب كمقارنة المسبب فهي في الحقيقة قصد لا عزم وقد جوز بعضهم أن تكون إرادته مقارنة له والأصح هو الأول.
فصل
كل شيء يتولد عن فعل العبد فهو فعله عند جمهور أصحابنا، كما أن المبتدأ فعله وإن اختلفا في أن أحدهما /428/ بواسطة وبغير واسطة.
قوله: (وقال الجاحظ).
تلخيص مذهبه أن الإرادة من فعل العبد فإنه لا فعل له سواها وجميع ما عداها من الأفعال المنسوبة إليه متولد لا من فعله بل بطبع المحل ولاتأثير للعبد فيه ولاتأثير لله تعالى أيضاً فيه.
قيل: والفكر عنده كالإرادة في أنه من فعلنا فهو يقول: ما عدا الإرادة والفكر.
قوله: (وبه قال النظام) إلى آخره.
تلخيص مذهبه: أن المباشر وهو ما وجد فيم حل القدرة بها سواء كان بواسطة أم لا من فعلنا، وما خرج عن محل القدرة وهو المتعدي فإنه فعل الله تعالى لكن لم يفعل ابتداء بل جعله طبعاً للمحل فهو فعله بواسطة ذلك الطبع وفسره بأن قال: طبع الحجر مثلاً صلاحيته للإندفاع، وقبوله الذهاب في الجهة إذا دفع فيها برمي أونحوه، وتلك الصلاحية لما أودعه الله فيه من الثقل وصلابة التأليف فالذهاب هو فعل الله بواسطة هذا الطبع الذي هو الصلاحية.
قال الحاكم في شرح العيون: وحكى أصحابنا أن النظام رجع عن هذه الأقاويل الشنيعة، وأما معمر فحكى المصنف عنه ما ذكره في الكتاب وحكى غيره عنه أنه يذهب إلى أنه لافعل للعبد سوى الإرادة ولافعل لله غير المتحيزات وما خلى عن ذلك فهو حاصل عن طبع الأجسام، وذهب صالح قبة إلى أن جمع ما خرج عن محل القدرة فلا تأثير للعبد فيه ولا لطبع المحل بل هو فعل الله تعالى، وإنما ينسب إلى العبد لوقوعه بواسطة فعله كالإحراق بالنار عقيب الإلقاء فيها مع كونه من الله اتفاقاً.
قوله: (وقال ثمامة) إلى آخره.
هكذا نقل عنه وبعضهم ذكر أن مذهبه إنما خرج عن محل القدرة حدث لامحدث له. قال الحاكم: وقد تأول مشائخنا قوله بأنه أراد به إذا فعل سبب المسبب خرج عن مقدوره إذ لايقدر على الامتناع منه ولو أراد هذا لكان صحيحاً والله أعلم بمقاصد القوم.
قوله: (وقال أهل الجبر جميع المتولدات مما ينفرد الله به).
فيه نظر لأن هذا مذهب الأشعرية منهم وأما النجارية وضرار وغيرهم فلا يقولون بذلك بل قالوا يوجدها الله والعبد يكتسبها كالمبتدأ، ولامراد ما كان من المتولدات من فعلنا.
قوله: (في الكمية والمطابقة).
يعني فيكثر بكثرة الأسباب التي يفعلها ويقل بقلتها، وتوجد المسببات مطابقة لها فإنا إذا فعلنا النظر ولد العلم لا غيره، وإذا فعلنا الاعتماد على شرطه ولد الصوت لاغيره ونحو ذلك.
قوله: (ويبطل قول من علقها بالطبع).
يعني سواء إن قال بأنه مؤثر كالجاحظ أو واسطة كالنظام.
قوله: (إلا أن يريدوا أنه السبب فيقع الخلاف في عبارة).
يعني يكون الخلاف لفظياً، ولاخطأ في مذهبهم إلا من جهة العبارة لن السبب فعلنا فيكون المتولد من فعلنا كما نقوله.
قوله: (وكذلك يلزم مثله في أصول النعم).
يعني فيجوز أن تكون حاصلة بالطبع وفي ذلك إخراج القديم عن استحقاق العبادة لأنها كلاشكر على النعم ولايستحقها إلا المنعم بأصول النعم، ويلزم النظام وأتباعه إضافة القبائح المتعديات إليه تعالى وبهذا يبطل ما ذهب إليه صالح قبة وأما ثمامة فيبطل ما ذكره أنه قد تقرر أن المحدث لابد له من محدث وأنه يلزمه تجويز أن يكون العالم حدثاً لامحدث له، وهذا يؤدي إلى الإلحاد.
قوله: (ولأنه كان يجب اختصاصها بما هي علة فيه).
يعني لأن العلة لاتوجب إلا بشرط الاختصاص.
قوله: (وذلك لايصح إلا بعد وجوده).
يقال: بل اختصاصها به ثابت في حال عدمه وهو نفس التعلق الحاصل بينها وبين هذا المراد دون غيره.
قوله: (غير محل المراد).
يعني في أغلب الأحوال وإلا فقد يكون محلها محله كالنظر والعلم إذا تعلقت بهما الإرادة.
قوله: (عند وجود العزم).
يعني لأن العلة تقارن /429/ معلولها والعزم لايكون عزماً إلا مع تقدمه.
قوله: (وكان لايصح النهي عن المراد بعد حصول الإرادة ولا أن يرجع المرء عما أراد).
يعني لأن العلة لاتقف في إيجابها على شرط سوى الاختصاص ولايصح انفكاك معلولها عنها ومعلوم أن المراد يتوقف وجوده على ألا يعارض الداعي صارف يقاومه أو يزيد عليه وإذا وقعت تلك المعراضة رجع المرء عما أراده تركه.
قوله: (لم تكن أحدهما بأن تكون سبباً) إلى آخره.
يقال: يلزمك مثل هذا في الكون والألم ونحوهما اولإرادة بكونها سبباً أولى لتوقف المراد عليها وتأخره عنها وهي متقدمة ولاتتوقف عليه.
وقد أجيب عن هذا بأنا نعلم السبب سبباً والمسبب مسبباً لكونه يصح وجود السبب في بعض الأحوال ولايوجد المسبب لمانع وعدم شرط، وفيه نظر لأن من جعل الإرادة موجبة عدها من الأسباب فيمكنهم الجواب بمثل هذا.
قوله: (ولأنه كان يجب إذا أراد أحدنا بالكتابة) إلى آخره.
يقال: إن الإرادة وإن كانت سبباً فالسبب قد يتوقف في إيجاب المسبب على شرط فيكون إيجاب الإرادة للكتابة ونحوها مشروطاًب العلم وذلك لايقدح في كونها سباً.
قوله: (إن يعرض عارض يمنع من وقوع المسبب).
يعني من عدم شرط أو وجود مانع. توضيحه: أن أحدنا قد يوجد السبب ويختار ألا يوجد المسبب كمن دفع جرماً بإحدى يديه ومنعه عن النفوذ بالأخرى.
قوله: (لأن العلل لاتقف في الإيجاب على شرط بخلاف الأسباب).
إنما وجب ذلك لأن العلة لو وقفت على شرط منفصل عن وجودها لأدى ذلك إلى فتح باب الجهالات فكنا نجوز أن في الجسم عللاً ولاطريق لنا إليها إذ الطريق إليها ليس إلا معلولها ولعله لم يحصل لتوقفه على شرط وذلك باطل بخلاف السبب فإنه إن لم يوجد مسببه فالطريق إليه الصفة التي يوجبها أو الحكم وهو لايقف في إيجابه لها على شرط لأنه علة فيهما فلا يلزم تجويز أسباب لاطريق إليها.
فصل وأما الكلام على المجبرة
قوله: (فغير لازم).
يعني لا يلزم من كون الفاعل فاعلاً أن يستعمل قدرته في الفعل حال حدوثه إذ الفاعل ليس إلا من وجد من جهته بعض ما كان قادراً عليه وهذا ملتزم فيما ذكرتم.
قوله: (ويصح أن يتوب من الإصابة قبل وقوعها).
هذا مذهب الأكثر أنه تصح التوبة من المتولد بعد وجود سببه وإ، لم يكن قد وجد. قال القاضي: وإذا صحت وجبت لأنها من الواجبات لامصنفة.
قوال عباد: لاتصح التوبة من المتولد إلا بعد وقوعه إذ هي بذل الجهد في تلافي ما وقع فأما مالم يقع فالواجب تركه لا التوبة منه. ورد بأن ما وجد سببه ووقع فإنه كلاواقع الموجود نم جهة فاعله لخورجه عن كونه مقدوراً عند وجود سببه على ما اختاره البصريون قالوا: ولهذا لايفتقر المسبب إلى بقاء قدرة فاعل السبب ولا إلى حياته.
وأما عباد فقد بنى على مذهبه من أنه لايزال مقدوراً حتى يوجد كالمبتدأ من غير فرق، ورد بأنه عند وجود سببه لايقف على قصد وداع بل قد صار واجب الوجود ولو كره فاعل السبب وجوده ومن حق المقدورات أن تقف على القصد والداعي وقد قال أبو هاشم بمثل مقالة عباد في مسبب القديم فقط، وذهب إلى أنه لايخرج عن كونه مقدوراً بعد إيجاد سببه، قال: لأن وقوفه على اختياره باق إذ ما من حالة إلا وهو يقدر بعضها على منع وجوده بإيجاد ضده بخلاف أحدنا فإنه قد لايقدر كالرمية بعد نفوذها، وظاهر كلام غيره الإطلاق لأن معنى خروجه عن كونه مقدوراً هو عدم احتياجه بعد وجود سببه إلى تأثير القدرة، وهذا حاصل في مسبب القديم تعالى.
إذا عرفت هذا فاعلم أنه لاكلام في وجوب التوبة عن سبب المسبب القبيح بعد وجوده لقبحه ولو لم يقبح إلا لقبح مسببه.
وأما المسبب فالأولى أن يفصل القول فيه فاقل: إن علم الفاعل أو ظن وجوده ولم يمكنه منع وجوده بإيجاد أضداده ونحوها وجبت عليه التوبة تحرزاً من المضار المعلومة أو المظنونة، وسواء قلنا بأن الوجه فيو جوبها دفع المضار إن صح قول أبي هاشم أنه يستحق العقاب عليه حال وجود السبب أو منع استحقاق العقاب إن صح قول أبي علي أنه لايستحق العقاب عليه إلا حال وجوده، وإن أمكنه منع وجوده وجب ذلك عليه تحرزاً من المضار كما مر، ولم تجب عليه التوبة قطعاً إذ لايجتمع وجوب ترك الفعل ووجوب التوبة منه وإ، لم يعلم ولايظن وجوده لم يجب عليه منع وجوده ولا التوبة منه لأن الضرر غير معلوم ولامظنون فلا يجب التحرز عنه.
قوله: (فاستحقاق الذم) وكذلك استحقاق العقاب فإنه يلازم استحقاق الذم.
قوله: (قيل وهو أحد قولي أبي هاشم).
وقد قيل أيضاً وهو لاصحيح من قوليه الذي صححه هو.
قوله: (فسببه كبير).
هذا ما ذهب إليه أبو عليوهو وجوب مساواة عقاب السبب لعقاب المسبب وعنه رواية أخرى وهو أن عقاب السبب دون عقاب المسبب وهو الذي اختاره أبو هاشم لأنا نعلم بديهة كون قدر قبح الاعتماد المولد للأصوات التي تألف منها الكذب ليس كقدر قبح الكذب، فإن الكذب قبح لكونه كذباً والاعتماد قبح لكونه مولداً للكذب وهذان وجهان مختلفان فلا طريق إلى وجوب تساوي عقابيهما بل يجوز اختلافهما في عظم القبح لاختلاف وجهيهما ولأن قبح السبب تابع لقبح المسبب فيجب ألا يكون كمثله، فلا يقطع بكبر السبب كالاعتماد المولد للقتل، ولايحكم عليه حال الاعتماد بأنه فاسق. والله أعلم.
فصل فيما يجري عليه تعالى من الأسماء بمعنى كونه فاعلاً
قوله: (ومثله الباري).
قال جار الله رحمه الله: الخالق المقدر لما يوجده، والباري المميز بعضه من بعض بالأشكال المختلفة، والمصور الممثل أي يميز ما بصورة بتفاوت الهيئات ولا أدري لِم لَم يعده المصنف من أنواع هذه الأسماء.
قوله: (وأجازوا حنان).
بالتخفيف بمعنى الرحمة كما قال تعالى: {وحناناً من لدنا}.
اعلم أن تقديره ووهبنا له حناناً أي رحمة لأبويه وغيرهما وتعطفاً وشفقة أنشد سيبويه:
وقالت حنان ما أتى بك ههنا ... أذو نسب أم أنت بالحي عارف
وقيل: حناناً من الله عليه. قال جار الله: وحن في معنى ارتاح واشتاق ثم استعمل في العطف والرأفة، وقيل لله: حنان. كما قيل: رحيم. على سبيل الاستعارة وقد بان لك مما ذكر ضعف استشهاد المصنف بالآية، إذ لم ترد في وصف الله بهذه اللفظة مخففة وإنما هي في الآية مصدر ومفعول مطلق.
قوله: (معناه فاعل العدل والحكمة).
يقال: أما المحكم فمعناه فاعل الإحكام فهو مأخوذ من الإحكام لا من الحكمة.
قوله: (وأما الأسماء الجارية عليه تعالى من طريق الاشتقاق).
مفهومه أن ما تقدم ذكره من الأسماء غير مشتقة وليس كذلك ففي كلامه نظر ولا حجة إلى هذا الكلام الذي أتى به.
قوله: (عند من يجعله معنى).
هو أبو علي، وأبو القاسم، وأبو هاشم لكنه توقف آخراً وقوى نفيه، وذهب الجمهور أن المرجع به إلى عدم الحياة وزوالها والمراد بالمميت عندهم ما ذكره المصنف وهو أنه فاعل سببه أي سبب زوال الحياة من تفريق البنية ونحوه.
قوله: (ومنها المقدر) إلى آخره.
يعني فالمقدر فاعل القدرة والمقوي فاعل القوة، والمعلم فاعل العلم، والدال فاعل الدلالة.
قوله: (والمعلم هو غير مضعف).
ولاكلام في جواز إجرائه عليه تعالى، وأما المعلم بالتشديد فأجازه أبو علي من التعليم وهو فعل العلم في غيره كالمحرك والمسكن وقد نطق القرآ، بوصفه بالتعليم نحو: {ويعلمك الله} /431/ {علم الإنسان ما لم يعلم}، {خلق الإنسان علمه البيان}.
وقال أبو هاشم: لايجوز إطلاقه عليه وإ، صح معناه لغة إذ هو في العرف لحرفة مخصوصة كتعليم الصبيان ونحوه واختاره القاضي وقواه.
قوله: (والدليل عند من يجيز إطلاقه).
الذي أجاز إطلاقها أبو علي والقاضي بمعنى أنه خالق الدليل وفاعله وإن كان مجازاً من قبيل تسمية الفاعل بفعله. وقال أبو هاشم: لايجوز أن يوصف بذلك لأن الدليل في العرف ما يصح أن ينظر فيه ويستدل به وذلك يستحيل عليه تعالى فلا يوصف به وأورد عليه وروده في السمع لأن في بعض الأدعية المأثورة: يا دليل المتحيرين. لكن هذا لايقتضي صحة إطلاق الإسم عليه بل يقر حيث ورد لكونه مجازاً، وقد ذكر ابن الحاجب أن الدليل في اللغة الناصب والمرشد وما به الإرشاد، وحينئذ يصح وصفه به إذا لم يكن فيه إيهام الخطأ كما في سائر الألفاظ المشتركة.
قوله: (فمجاز ومعناه المنور).
قال جار الله: المعنى ذو نور السموات وصاحب نور الأرض ونور السموات والأرض للحق شبهه بالنور في ظهوره .
قوله: (الهادي والمرشد ونحوها).
يعني كالمتين وما أفاد هذا المعنى.
قوله: (ومنها الخير). أي فاعل الخير الظاهر أنه لمن أكثر من فعل الخير ففيه مبالغة وكذلك الشرير المكثر لفعل الشر، فمعنى خير ثابت في حقه تعالى بالنظر إلى لاحقيقة.
قوله: (كقولنا فاضل وصالح).
قال أبو علي: إن الذي منع من وصفه بفاضل هو الشرع وهو الإجماع، ولو .... وقاعدة اللغة لوصفناه به لحصول معناه في حقه فإنه يفيد المدح والتعظيم والقديم أهل لذلك لايمنع مساواة خير لفاضل في المعنى مع امتناع فاضل من إطلاق خي رعليه تعالى، وإنهما يستويان في وصف القديم بهما على قاعدة اللغة ومنع من الوصف بفاضل منع شرعي دون خير فنفي خير على الجواز الأصل، ورده أبو هاشم بأن ما ذكرته لايصح فإن اللغة أيضاً تمنع من الوصف بفاضل لأنه يفيد تجدد أمر لذلك الموصوف يستحق بسببه المدح والتعظيم.
قيل: وهذا لادلالة عليه ولايفهم من اللغة بل إنما يفيد المدح والتعظيم وأما أن سببه تجدد أمر أو غيره فخارج عن مفهومه..
قوله: (الرحمن).
هو من أشرف الأسماء وخواصها ولهذا لايجوز إطلاقه على غيره تعالى وتسمية السورة الكريمة بذلك على معنى السورة التي يذكر فيها الرحمن وكثير من أصحابنا يجعلونه من قبيل المجاز لأنه من التعطف والحنو ورقة القلب وعلى تفسير المصنف تكون حقيقة وهو الأولى.
قوله: (ومثله المهيمن).
قال جار الله: ألمهيمن الرقيب على كل شيء الحافظ له مفيعل من الأمر إلا أن همزته قلبت هاء.
قوله: (وأما السلام) إلى آخره.
قال جار الله: ألسلام بمعنى السلامة ومنه دار السلام، وسلام عليكم، وصف تعالى به مبالغة في وصف كونه سليماً من النقائص أو في إعطائه السلامة.
قوله: (فإنه يفيد نوع احتراف). يعني فالحارص اسم في العرب للمستأجر على الحفظ وكذلك الراعي لمتعهد الغنم ونحوها وحافظها بالنهار.
تنبيه
اعلم أن الأسماء المشتقة من الأفعال لايصح إجراؤها عليه تعالى في الأزل فلا يقال: هو خالق في الأزل ونحو ذلكن وقد أجازت النجارية وصفه تعالى بأنه جواد في الأزل قالوا: إذ لو لم يكن جواداً في الأزل لكان بخيلاً، وهو باطل لأن الجواد فاعل الجود، وهو تعالى غير فاعل في الأزل فلو كان معنى الجواد نفي البخل. قولهم: لصح وصف الجمادات وكثير من الحيوانات التي لايتصور منها البخل بالجود وهو معلوم الاستحالة، وقد ذهبت الكرامية إلى أن صفات الله تعالى كلها أ.لية سواء تعلقت بالفعل كخالق ورازق ومنعم ونحوها أو لم تتعلق به وهو مذهب كثير من فرق المجبرة.
القول في أن الله تعالى لايعذب أحداً إلا بذنبه ولايثيبه إلا بعمله
قوله: (اعلم أولاً أن الثواب) إلى آخره.
لما أراد أن يتكلم على حكم للثواب والعقاب وهو أنهما لا يصلان إلى مستحقهما /432/ احتاج إلى أن يبين أولاً ماهيتهما إذ التصور يتقدم على التصديق وسيأتي تحقيق أمر هاتين الحقيقتين وحقائق ما اشتملتا عليه من الألفاظ في الوعد والوعيد إن شاء الله تعالى فإنه بذلك أخص وأما التعذيب والإثابة فهما إيصال العقاب والثواب إلى الغير.
فصل
ذهب أهل العدل إلى أن الله تعالى لايثيب أحداً إلا بعمله ولايعاقبه إلا بذنبه، وذهب أهل الجبر إلى ما حكاه المصنف عنهم وتحقيق مذهبهم تجويز أن يعذب الله من لاذنب له بل من له ثواب كالأنبياء وغيرهم ويثيب من لاطاعة له بل من له عقاب كالكفرة وغيرهم لأنه مالك فله أن يفعل في ممالكه ما أراد ولايقبح منه إذ ليس بمأمور ولامنهي والخلاف في هذه المسألة يترتب على قاعدة التقبيح العقلي.
واعلم أنهم وإن جوزوا هذا فلم يذهبوا إلى أنه يقع مع أنه لازم لهم لأن عندهم أن جميع أفعال المكلفين طاعاتها ومعاصيها من الله تعالى فالمطيع وإن أثيب فعلى غير عمله والعاصي إذا عوقب فعلى غير فعله.
قوله: (ويثيب الفراعنة).
والفراعنة ملوك مصر كما أن الأكاسرة ملوك فارس وكان الفراعنة أهل طغيان ومجاوزة للحد في الكفر والتكبر على الله تعالى كفرعون موسى.
قوله: (وتعظيم من لايستحق التعظيم قبيح بالضرورة).
يعني التعظيم الكثير، وأما التستر منه فقد جوز الشيخان الابتداء به في حق من لايستحقه لأنه كالنفع فيجوز الابتداء تفضلاً بالتستر منه لاذي يقع فيه التسامح وأما قليل الاستخفاف والذم لغير مستحق فأجازه أيضاً أبو هاشم ومنعه أبو علي وهو الصحيح.
قلت: والصحيح أيضاً على قواعدهم المنع من تستر التعظيم لغير مستحقه وقياسه على النفع يقتضي جواز الكثير منه لمن لايستحقه كما يجوز التفضل بالمنافع الكثيرة فالقياس فاسد.
قوله: (يستقبحون قيام الملك في وجه الرجل الدني الوضيع).
هذا أمر لاكلام فيه وادعاء الضرورة في استقباح ذلك لايعد مجازفة.
قوله: (ويستقبحون تعظيم الأجانب كتعظيم الأبوين).
يقال: إنه قد يكون من الأجانب من يستحق من التعظيم أكثر مما يستحقه الأبوان كالنبي والإمام والسلطان العادل والعالم العامل.
وجوابه: أن المراد الأجانب الذي ليس لهم من الأحوال ما يوجب التعظيم من نبوة ولا إمامة ولا علم فهو عموم أريد به الخصوص والله أعلم.
قوله: (لصح التكليف).
يعني لأن الغرض به وهو الوجه في حسنه التعريض لمنافع لاتنال إلا به فإذا كن إيصالها من دونه حسناً فلا فائدة فيه بل يكون عبثاً.
قوله: (احترازاً من تحمل مشاق الأسفار) إلى آخره.
هذا يشعر بأنه لافرق في كون الضرر ظلماً بين أن ينزله بنفسه أو بغيره والظاهر أن الظلم مقصور على إنزال الضرر بالغير، وأنه إنما يذم بنزل الضرر بنفسه لتركه ما هو واجب عليه من دفع الضرر عن النفس، وإن أطلق الظلم على ما لايتعدى فعلى جهة المجاز كقوله تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم}.
قوله: (ويدخل فيه أنواع التأديبات والألطاف ونحو ذلك).
أي ويدخل فيما أخرجناه عن كونه ظلماً بقولنا: وجلب نفع لأن في تأديب الصبيان مثلاً ليتعلموا القرآن أو غيره من فنون العلم أو ليتخلقوا بالآخلاق الحسنة ويتصفوا بالأوصاف المستحسنة نفع لهم، وكذلك في إيلام المكلفين لينزجروا عما هم فيه من التهور في المعاصي والانتهاك للمناهي أو ليكونوا أقرب إلى الطاعات الموصلة إلى أعلى الدرجات نفع عظيم، وأراد بنحو ذلك جميع ما كان فيه للمضرور نفع كتكليف الأجير العمل بالأجرة بعد عقد الإجارة فإنه لايكون ظلامً لما في مقابله ذلك من النفع.
قوله: (لأنه لافرق في حسن إنزال الضرر) إلى آخره.
قال السيد: ألا ترى أنه يحسن من أحدنا أن يكلف ولده الاختلاف إلى المكتب وإن شق ذلك عليه ولا يكون ذلك منه ظلماً لما كان في مقابلته نفع /433/ مظنون أودفع ضرر مظنون.
قوله: (ولايكفي ظن الاستحقاق في حسن الضرر كما ستعرف).
يعني على ما سيجيء في موضعه، وهذا مذهب الزيدية وجلة المعتزلة كأبي علي والقاضي وتلامذته لأن ظان الاستحقاق يقدم على ما لايأمن فيه عدم الاستحقاق بل يجوز كونه ظلماً والإقدام على ما لايأمن كونه قبيحاً كالإقدام على القبيح المعلوم حاله في القبح.
وذهب الشيخ أبو هاشم إلى أنه قد يحسن إنزال الضرر لأجل ظن الاستحقاق محتجاً بورود إقامة الحدود على من قامت لاشهادة عليه بأنه قذف مثلاً والحد إضرار بالمحدود ولايحصل بالشهادة إلا الظن للاستحقاق، ولايرد الشرع بخلاف ما يقضي به العقل، ورد كلامه بأن الشرع إنما ورد بعيداً فليس ثم اعتقاد الاستحقاق ولا أنه عقوبة بل يفعل ذلك لورود الشرع به، فإن كان مستحقاً فعقوبة وإلا فامتحان وعوضه حاصل من الله والقرآن وإن ورد بكونه عقوبة ونكالاً فلا بد من حمله على هذا.
قوله: (وعن كونه كالواقع من جهة المضرور) إلى آخره.
قال السيد: ولو قلت إن هذا الشرط داخل فيما تقدم لصح لأن المدفوع مستحق أن يرفع بما أمكن وهكذا فلو جعلته داخلاً تحت الشرط الأخير لصح أيضاً لأن الإتيان عليه وقبله في الحكم من جهة غير فاعل الضرر.
قيل: ولابد أن يزاد في حد الظلم أو الضرر الذي فيه نفع أو دفع ضرر أو ظنهما أو أحدهما ولم يقض العقل أو الشرع بحسنه ليدخل في الظلم إضرار الواحد منا بغيره لنفع يناله أو دفع ضرر أو لظن ذلك فإن هذا الضرر مع كونه ظلماً غير عار عما ذكر وفيما ذكره نظر من حيث المعنى ومن حيث اللفظ، أما المعنى فيقال: إن هذا الذي ذكرته ليس بظلم ولايعرف بالعقل كونه قبيحاً ولا ظلماً وإنما عرفنا قبحه بالشرع لكونه منهياً عنه، ونحن إنما حددنا الظلم المعروف قبحه عقلاً وأما من حيث اللفظ فلأنا لو زدنا في الحد ما ذكرته كان لفظه أو مذكوره في الحد والحدود يتجنب فيها ذلك ويعاب فيها الإتيان به لكن يمكن أن يجاب عن هذا الأخير بأن (أو) ههنا ليست للشك ولا للتخيير ولا يعاب في الحدود من لفظة (أو) إلا ما كان كذلك.
فصل
قوله: (ومحكم السمع يطابق ما ذهبنا إليه).
عبارة المصنف هذه تقضي باستواء حاجة أن هذه المسألة ونحوها مما لايمكن الاستدلال عليه بالسمع لتوقفه على صحتها وقد صرح به بعد كما صرح به السيد وهو مذهب القاضي وابن متويه وقد قدمنا ما ذكره الإمام يحيى وهو صحة الاستدلال بالسمع عليها لتقرر قواعد الحكمة من قبل وهو الأقوى. والله أعلم.
فصل في شبههم
قوله: (وأما الشبه في ذلك فهي أكثر من أن تحصى).
نحو حديث أبي ذر عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم فيما يرىو عن ربه عز وجل أنه قال: (( يا عبادي إ،ي حرمت الظلم على نفي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا )) الحديث بطوله ولا ظلم أعظم من إيصال العقاب العظيم إلى من لاذنب له وآخر هذا الحديث: (( يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد يغر ذلك فلا يلومن إلا نفسه )) أخرجه الترمذي.
قوله: (ومثل أوزار الذين يضلونهم).
الأحسن أن يقال: ومثل بعض أوزار الذين يضلونهم لأن من للتبعيض واعلم أن قوله تعالى: {ليحملوا أوزارهم} اللام فيه للتعليل من دون أن يكون عرضاً نحو قولك: خرجت من البلد مخافة الشر. والمعنى أنهم قالوا عندما قيل لهم: {ماذا أنزل ربكم أساطير الأولين} أي أحاديثهم وأباطيلهم، التقدير المنزل أساطير الأولين وإنما جعلوه منزلاً على جهة السخرية، وقوله: {ليحملوا أوزارهم} أي قالوا ذلك إضلالاً للناس وصداً عن رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم فحملوا أوزار إضلالهم /434/ كاملة وبعض أوزار من ضل لضلالهم، وهو وزر الإضلال لأن المضل والضال شريكان هذا يضله وهذا بطاعة وعلى إضلاله قبيحاً فلأن الوزر هذا ما ذكره جار الله بناء على أن من في قوله من أوزار للتبعيض وبنى المصنف على ما ذهب إليه الأخفش من أنها زائدة، والمعنى: ومثل أوزار، وقد رد الواحدي أن يكون (من) تبعيضية باستلزماه تخفيف الأوزار عن الأتباع، وهو خلاف قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( من غير أن ينقص من أوزارهم شيء )) .
قوله: (وإضافة المصدر) إلى آخره.
يقال: إما أنها في الكثرة كما ذكرت فلا فقد نص أهل العربية على قلبها، وإما أنها جائزة فلا كلام فيه وبه يحصل الغرض مع أن جعلك لهذه الآية من قبيل إضافة المصدر إلى المفعول، فيه نظر لأنه إنما يتصور لو قال: إضلال الذين يضلونهم، وأما إضافة أوزار فليست من هذا المعنى بل الإضافة لكون الأوزار بسبب الذين أضلوهم والإضافة تكون لأدنى مناسبة والله أعلم.
قوله: (فله وزرها).
لفظ الحديث: (( فعليه وزرها )) والله أعلم.
قوله: (ولولا هذا لسقط وزر الذي عملها).
يعني مع أنه لايسقط قطعاً اتفاقاً، فقد قال صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( من سن خيراً فاستن به كان له أجره ومثل أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا ومن سن شراً فاستن به كان عليه وزره ومثل أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئاً )) .
تنبيه
اكتفى المصنف بجواب هذه الآية عن جواب الأخرى، وهي: {وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم} لأن الكلام فيها متقارب والمعني بهذه الاية صناديد قريش فإنهم كانوا يقولون لمن آمن منهم لا نبعث نحن ولا أنتم فإن عيسى كان ذلك فإنا نتحمل عنكم الإثم فأ،زل الله تعالى: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وماهم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون وليحملن أثقالهم وأثقلاً مع اثقالهم} أي أثقال أنفسهم وأثقالاً مع أثقالهم أي أثقالاً أخر غير الخطايا التي ضمنوا للمؤمنين حملها وهي أثقال إضلال من كانوا سبباً في ضلاله.
قولهك (نعت للفتنة).
أي وصف لها بأنها غير مصيبة للظالمين وحدهم ويكون مفهومه أنها تصيبهم وغيرهم.
قوله: (ولاهو خبر لها أيضاً).
يعني فلا يكون التقدير هي لا تصيبن على أن ضميرها مبتدأ مقدر والجملة المنفية خبره.
قوله: (لأن نون التأكيد لاتدخل في النعت ولا في الخبر).
يقال: أما إذا كان النعت أو الخبر نفياً فقد ورد دخولها في النفي نادراً تشبيهاً له بالنهي، وأجازه بعضهم واحتج بقوله:
فلا ذا نعيم يتركن لنعيمه ... وإن قال فرطني وخدرشوه أبى
قوله: (وفي المستقبل مع الأمر). هذا الكلام لا معنى له والمثال الذي أورده دخلت النون فيه لأنه جواب القسم ودخولها فيه لازم.
قوله: (وفي أما).
يعني الشرطية وهي (أن) فزيدت عليها (ما) مؤكدة لمعناها.
قوله: (للفرق بينها وبين التخيير).
لعله أراد للفرق بينهما وبين أما العاطفة أخت أو والذي ذكره النحويون أن العلة لدخولها في أما الشرطية أنهم لما أكدوا أن بما رأوا أن تأكيد ما هو المقصود وهو فعل الشرط أولى ولا أدري من أين أخذ المصنف ما ذكره.
قوله: (وإذا كانت الفتنة تصيب الظالم وغيره) إلى آخره.
قد قيل في معنى الفتنة: هي الذنب. قيل: وهو هنا إقرار المنكر بين أظهرهم. وقيل: افتراق الكلمة. وقيل: المراد بها العذاب. وقيل: اختبار وبلية تصيبهم. وقيل: ضلالة وهرج، وقيل: قحط. وتمس المخالف بها لايكون إلا إذا حملت على أن المراد بها العذاب.
قوله: (على ما قاله بعض النحاة).
هو الفراء إلا أن قول المصنف فيه طرف من النهي أو القسم لم ينسب إلى الفراء في مظانه ولا حاجة إليه لأن النون يصح دخولها لما فيه من معنى الجزاء.
قال الزمخشري: وجاز دخول النون المؤكدة في جواب الأمر لن فيه معنى النهي إذا قيل أنزر عن الدابة لا تطرحك فلذلك جاز لاتطرحنك. قال في المجيد: ورد بأنه ولو جعلت جواباً للأمر فليس فيه معنى النهي بل هو نفي محض لأن /435/ تلك الآية وهي قوله تعالى: {لايحطمنكم} ينتظم فيها شرط وجزاء ولاينتظم هنا إذ لو قلت أن منعوا {لاتصيبن الذين ظلموا} أفسد المعنى وقد قيل في معنى الآية أن النون دخلت لأنه جواب قسم مثبت ودخلت اللام في محلها إلا أن اللام أشبعت فصارت لا والمعنى: والله لتصيبن الذين ظلموا ويؤيده قراءة ابن مسعود ويغره لتصيبن الذين ظلموا وقد ضعف بأن الإشباع بابه الشعر وبأن المعنى يختلف فيلتبس، ونقل عن المبرد والفراء والزجاج أنه نهي، وتم الكلام عند قوله: فتنة. ثم ابتدأ نهي الظلمة خاصة عن التعرض للظلم فتصيبهم الفتنة لكنه أخرج في صورة نهي الفتنة كما قالوا لا أرينك هنا أي لاتكن هنا فأراك، فكأ،ه قال واحذروا ذنباً وعقاباً، ثم قيل: لاتتعرضوا للظلم فيصيب العقاب وأثر الذنب من ظلم منكم خاصة.
ونقل عن الأخفش الصغير أنه دعا أي لا أصابت الفتنة الذين ظلموا خاصة واستلزم عدم الدعاء على غير الظالمين أي لا أصابت ظالماً ولا غيره فكأنه قيل واتقوا فتنة لا أوقعها الله بأحد.
وقد قيل: المعنى لاتفعلوا المعاصي ومروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فإن لم تفعلوا عمكم العذاب. وقيل: عذاب الاستئصال يصيب الظالم عقوبة وغيره امتحاناً.
قال جار الله: إذا كانت جواباً فالمعنى إن أصابتكم لاتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ولكنها تعمكم كما يحكى أن علماء بني إسرائيل نهوا عن المنكر تعذيراً فعمهم الله بالعذاب.
قوله: (ويجوز أن يكون الكلام مضمناً معنى كي) إلى آخره.
هذا لاوجه لجوازه وكان جديراً بأن لايوضع في مثل هذا الكتاب.
قوله: (ومنها قوله: {وإذا المؤودة سئلت}).
حكي في الكشاف أنه قرئ: سألت. أي خاصمت عن نفسها وسألت الله أو قاتلها والمؤودة البنت المدفونة حية في حال صغرها أو عقيب ولادتها وكان هذا من أفعال الجاهلية مخافة منهم للفقر أو للعار.
قوله: (وقيل أن المراد بالتبديل إعادة الخلود).
قريب من هذا ما حكاه في الكشاف أنه يجعل التصبح غير تصبح.
قوله: (فلم يرد أنه بدل أصلهما).
فيه نظر والظاهر خلاف ما ذكره وقد قال جار الله: وتسمية البدل ...... لأجل المشاكلة وفيه ضرب من التهكم وهذا يقضي بأن هذين الجنسين ليسا من الجنان فضلاً أن يكونا من حياتهم.
قوله: (ولأن حياته النبي) إلى آخره.
كلامه هذا يقضي بأن المراد بالفاحشة الزنا، وقال جار الله: المراد كلما اقترفوا من الكبائر، وقيل: هي عصيانهن رسول الله ونشوزهن وطلبهم منه ما يشق عليه وما يضيق به ذرعه ويغتم لأجله، وقيل: الربا، والله عاصم رسوله من ذلك كما مر في حديث الإفك.
قال رحمه الله: وإنما ضوعف عذابهن لأن ما قبح من سائر النساء كان أقبح منهن فأقبح لأن زيادة قبح المعصية يتبع زيادة الفضل والمرتبة وزيادة النعمة على العاصي من المعصي فليس لأحد من النساء مثل فضل نساء النبي ولا على أحد منهن مثل ما عليهن من النعمة والجزاء يتبع الفعل وكون الجزاء عقاباً يتبع كون الفعل قبيحاً فمتى ازداد قبحاً ازداد عقابه شدة ولذلك كان ذم العقلاء للعاصي العالم أشد منه للعاصي الجاهل لأن المعصية من العالم أقبح ولذلك كان فضل حد الأحرار على حد العبيد حتى أن أبا حنيفة وأصحابه لايرون الرجم على الكافر.
قوله: (فإذن لاشبهة لهم).
يعني لأنه ليس في العقل ولا في السمع ما يدل على جواز ذلك).
والآيات هذه وإن كان شيء من ظواهرها يوهم الوقوع وهو فرع الجواز فقد وافقونا في عدمه فلم يبق لهم متمسك.
فصل
قطع أهل الحشو على أن أطفال المشركين يعذبون بذنوب آبائهم ولم يكتفوا بتجويز تعذيب من لاذنب له بل قطعوا به ههنا، وقد ذهبت المطرفية إلى أن النقم والبلايا التي تنزل بأولاد الكفار عقوبة لهم على ذنوب آبائهم أيضاً /436/ وكذالك سبيهم واسترقاقهم ويخرج لهم من هذا جواز تعذيبهم.
قوله: (قوله كما حكى الله تعالى).
يعني بقوله تعالى: {فلا أنساب بينهم يومئذ ولايتساءلون} وقوله: {يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه} ونحو ذلك.
قوله: (وإن صح فأحادي).
يعني وإن اجتمعت فيه شروط الصحة فالمسألة قطعية والآحادي ولو صح لايفيد إلا الظن فلا يعمل به في مسائل الاعتقاد بل في الفروع والعمليات.
قوله: (كل نسمة تولد على الفطرة).
قد اختلف أهل العدل في معنى هذا. فقال محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة: المراد بالفطرة الإسلام. والمعنى عنده أن كل مولود يولد مسلماً وهكذا ذكر السيد المرتضى الإمامي أن الفطرة الإسلام قال: وقوله على الفطر أي للفطرة، فالمعنى أن كل مولود يولد للإسلام لأن حروف الجر تتعاقب كقوله تعالى: {ويخرون للأذقان) أي على الأذقان. وقال أيضاً في موضع آخر: المراد بالفطرة الخلقة الدالة على توحيد الله وعدله فيكون المعنى يولد على الخلقة الدالة على توحيد الله وعدله، ذكره الحاكم.
وقد قيل: إن المراد بالفطرة العهد الذي أخذه على بني آدم عند إخراجهم من ظهر دم بعد نزوله إلى الأرض قبل أن يخرجوا من بطون أمهاتهم على الصورة التي خلقوا عليها ونقل في ذلك أثر وهو أن الله تعالى لما خلق آدم أخرج ذريته من ظهره كأمثال الذر ثم قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. وأخذ عهدهم على ذلك وعلى التصديق ما جاءت به الرسل فكل مولود يولد على ذلك العهد إلا أن هذا الخبر غير مصحح عند أصحابنا.
وقيل فيه إنه من دسائس الملحدة. قيل: ويقرب أنه لامانع من صحة معناه إن كان مما جتمعت فيه شروط صحة الأخبار.
قوله: (كما قال عرضت بعامر).
الذي في شرح الأصول ويغره لعامر باللام وهو أولى، وقد قيل: على الاستشهاد بهذا البيت الذي يقع في النفس أن صاحب البيت أراد غير ذلك لأنه أضاف الطفولة إلى الحرب لاإلى مدد الأعمار ولم يرد بأطفال الحروب إلا الذين كانوا في أول الدخول فيها والاعتياد وكهل الحرب وشيخها من كبر مراسه لها وطال انغماسه فيها ومدحهم بكونهم أطفال الحرب من حيث أن الخبير بمضار الحرب يهابها ويتقي الإقدام ولا كذلك من لم يعتد ذلك، فإنه قد يجترئ ويشرع في الإقدام لجهله ما يخشى من ضرها.
قال: وإنما البيت الذي يدل على أن الأطفال يراد بها البلاغ قول بعضهم:
ويسرع للفواحش كل طفل ... يجر المخزيات ولايبالي
إذ الفاحشة والمخزية لاتسمى بذلك إلا في حق من كان بالغاً.
فصل في ذكر بعض ما يلزمهم
وقد تضمن هذا الفصل طرفاً مما نقل عن الخصوم من المبالغة في مذهبهم هذا.
قوله: (إن كان لكم عنا).
أي تعب ونصب، أراد إذا كان عنا بالعين المهملة ون كان بالغين المعجمة فالغنا النفع ولم يصح لنا سماعه والمعنى على كل منهما مستقيم.
قوله: (إني من إحدى القبضتين).
القبضة بالضم ما قبضت من شيء، يقال: أعطاه قبضة من بر أو سويق أي كقامته وربما جاء بالفتح.
تنبيه
الأصحاب يذكرون أن العلم بهذه المسألة فرض عين لأن العلم بعدل الله وحكمته يتوقف على العلم بها وكذلك يأتي في غيرها كمسألة خلق الأفعال وغير ذلك من مسائل العدل التي هي فرع على مسألة العدل والحكمة.
القول في القضاء والقدر
قوله: (نحو {فقضاهن سبع سموات}).
أورده السيد ... هذا على معنى الفراغ والإتمام وما ذكره المصنف أولى لأن اليومين ليسا طرفاً للفراغ بل للخلق وإن جعلا طرفاً للفراغ بمعنى أنه وقع في آخر ساعة منهما أو في أحدهما فبتأويل.
قوله: (نحو {وقضينا إلى بني إسرائيل}).
قيل: الأجود هنا أن القضاء بمعنى الكتابة لأن القضاء في الآية ينبغي حمله على معنى يصح أن يعقب بالحرف الذي بعد القضاء ولو كان المعنى على الإعلام لم يستقم ذلك، إذ لايصح أعلمنا إلى بني إسرائيل، ولا أخبرنا إلى بني /437/ إسرائيل ويستقيم المعنى إذا كان كتبنا إلى بني إسرائيل.
قلت: ولامعنى لها فإن اختلاف التعدية بالحروف لايدل على اختلاف معاني الألفاظ المعداة، وقد حمله جار الله على أن المعنى وأوحينا إليهم وحياً مقياً أي مقطوعاً مبتوتاً بأنهم يفسدون في الأرض. وبهذا التفسير تستقيم التعدية بإلى مع استقامة الاستشهاد بالآية لأن الإيحاء إعلام ومن معاني القضاء تخليص الذمة كقضيته الدين.
ومن معانيه: الحكم. قال تعالى: {وقضى بينهم بالحق} أي حكم وفصل والذي ذكره السيد من معانيه الإتمام والفراغ والإعلام والإيجاب، وجعله بدل الأمر مستشهداً عليه بقوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} ثم قال: واستعماله في هذه الوجوه لايمنع من أن يكون حقيقة في بعضها متعارفاً في الباقي كالإثبات فإنه حقيقة في الإيجاد ثم قد يذكر بمعنى الخبر عن وجود الشيء وقد يذكر بمعنى العلم.
قال بعض الشارحين: أراد حقيقة لغوية وعرفاً لغوياً ويكون مشتركة مع ذلك إذا كان استعمالهما وسبقهما إلى الفهم على سواء وإلا فالأغلب أن العرفية تكون أسبق إلى الأفهام واستعمالها أكثر فتكون هي الحقيقة وتنقلب الحقيقة الأصلية مجازاً كما ذكر في اسم الدابة والقارورة. قال: ولعله أراد بما هو حقيقة فيه في الأصل الخلق والتمام وفي غير ذلك عرفية.
قلت: فيه وهم فإن السيد لم يعد الخلق من معانيه.
قوله: (فلم يرد) إلى آخره.
قيل: ويستعمل في الخلق نحو: {وقدر فيها أقواتها} وفي التقليل نحو: {ومن قدر عليه رزقه} وفيه نظر لأن المراد في الآية الأولى التقدير لا القدر والمعنى تقدير أرزاق أهلها ومعائشهم وما يصلحهم وفي قراءة ابن مسعود: {وقسم فيها أقواتها}.
قوله: (وكقوله: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} أي بعلم).
قال جار الله: القدر والقدر والتقدير وقرئ بهما أي خلقنا كل شيء مقدراً محكماً مرتباً على حسب ما اقتضته الحكمة أو مقدراً مكتوباً في اللوح معلوماً قبل كونه قد علمنا حاله وزمانه.
وهذا في الحقيقة يقاربه ما ذكره المصنف.
قوله: (فإن أرادوا به). يعني المخالفين في هذه المسألة وهم المجبرة.
قوله: (نحو {قدرناها من الغابرين} أي علمنا).
وهذا التقدير لله وحده وإنما أسنده الملائكة إلى أنفسهم لما لهم من القرب والاختصاص به تعالى كما يقول خاصة الملك: دبرنا كذا، والغابرين: الذين غبروا في ديارهم أي بقوا فهلكوا، والتذكير لتغليب الذكور.
فصل
اتفق أهل القبلة على إثبات القضاء والقدر في جميع أفعال العباد بمعنى العلم والكتابة.
قوله: (واتفقوا على نفيه بمعنى الأمر).
يعني الأمر بكل أفعال العباد وإن كان ثابتاً مجمعاً عليه في بعضها.
قوله: (فأ،كره أهل العدل).
ولإنكارهم له منعوا من إطلاق القول بأن أفعال العباد بقضاء الله وقدره ولقولهم بثبوته بمعنى العلم والكتابة منعوا أيضاً من إطلاق نفي كوناه بقضاء الله وقدره وأما المجبرة فلإثباتهم معنى الخلق أجازوا إطلاق القول بأنها بقضائه تعالى وقدره بل لهم بذلك لهج كثير بحيث أنه من أحب الأشياء في ألسنتهم فلا يأتي أحد بطاعة أو معصية إلا قالوا: هي بقضاء من الله وقدر.
قوله: (فقد قال تعالى: {وكان أمر الله قدراً مقدوراً}) إلى آخره.
فهي نظر لأنه يقال ليس يلزم إذا كان أمر الله قدراً أن يكون القدر أمر الله فلا يلزم إذا كانت المعاصي من القدر أن تكون من أمر الله لأن هذا عكس ولايجب، ثم أن كلام المصنف يوهم أن المراد بالأمر ما يأمر الله به وليس كذلك فإن المراد بأمر الله ما يريد أن يكونه نعم ومما يورد على الجبرية في هذه المسألة أن يقال لهم: من قضى بعبادة الأوثان والنيران؟ فإن قالوا: الله تعالى كذبهم القرآن، قال تعالى: /438/ {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه}، وإن قالوا: لم يقض بها تعالى. فهو كما نقول.
وروي أن الحجاج بن يوسف كتب إلى أربعة من العلماء يسألهم: هل أفعالنا بقضاء الله وقدره أو لا؟ وهم: الحسن البصري، وعمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، والشعبي.
فأجاب الحسن بأن قال: أتظن أن الذي نهاك دهاك، إنما دهاك أسفلك وأعلاك، والله برئ من ذاك. قال: ولا أعرف جواباً غير هذا، وهو جواب أمير المؤمنين.
وقال الثاني: لا أعرف إلا ما قاله أمير المؤمنين: أتظن أن الذي فسح لك الطريق يلزم عليك المضيق.
وقال الثالث: لا أعرف إلا ما قاله أمير المؤمنين إذا كانت المعصية حتماً كانت العقوبة عليها ظلماً.
وقال الرابع: لا أعرف إلا ما أجاب به أمير المؤمنين قال: ما حمدت الله تعالى عليه فهو منه، وما استغفرت الله منه فهو منك. قيل: فلما بلغ الحجاج ما أجابوا به قال: قاتلهم الله لقد أخذوها من عين صافية.
فصل في بيان من القدرية
قوله: (وعندهم أنا المعنيون به).
قال السيد: وحكي عن بعضهم أنه قال: إن المعتزلة كانت تلقبنا بالقدرية فقلبناها عليهم وقد أعاننا السلطان على ذلك.
قوله: (إن الإسم إنما يشتقه أهل اللغة) إلى آخره.
فيه نظر لأن القدري ليس مشتقاً من القدر، وإنما هو منسوب إليه أو هو اسم القدر زيدت عليه ياء النسبة فما ذكره رحمه الله وهم والألى في تحرير العبارة ما ذكره السيد رحمه الله في قوله: إن القدري اسم نسبة. وإن قيل عليه قد أثبتم يا معتزلة القدر لأنكم تجعلون المعاصي بقدر العبد فصحت النسبة والاشتقاق فأ،تم إذن القدرية؟ فالجواب: إن هذه ليست من عبارات المعتزلة ولايتولعون بذكر القدر بخلاف المجبرة.
قوله: (وأكثركم يثبت القدر). يعني عدا الجهمية.
قوله: (على أن الإسم المشتقم من إثبات القدرة قُدري).
يعني المشتق منها على طريق النسبة لأن الإسم المنسوب ليس إلا المنسوب إليه مع زيادة يائي النسبة. فإن قيل عليه: هذا من يعتبر النسب كدهري في النسبة إلى الدهر ورازي في النسبة إلى الري. قلنا: إنما يصح ذلك لو صح أنه منسوب إلى القدرة فصححوه أو لا حتى نحمله على التعبير.
وقوله بضم القاف كان ينبغي أن يزيد وتسكين الدال.
قوله: (كما يقال نمري لنبي).
وأوضح منه في التمثيل قولهم للخارجي حكمي لولوعه وشدة حرصه على النطق بلا حكم إلا الله، وقد قرر هذا الوجه الذي أشار إليه بأن القدري اسم منسوب والنسبة إما أن تكون للقرابة كنسبة الرجل إلى أبيه أو جده أو أحد قرابته المعروفين كهاشمي وعربي وعلوي، وإما إلى الحرفة والصناعة نحو باقلاني، وإما إلا البلد التي سكنها هو أو أبوه أو جده نحو بصري ومكي، وإما إلى كلمة لهج بها وكثر تكريره لها كماي قال: حكمي للخارجي، ووجوه النسب مفقودة في هذا الإسم إلا هذا الوجه الأخير وقد نظرنا فوجد الخصوم أولي لهج عظيم وولع كبير بهذا اللفظ ولايزالون يذكرونه عند كل حادثة تحدث فيجب أن يكونوا المعنيين به.
قوله: (وأما كونهم شهود إبليس) إلى آخره.
شهادتهم له ومخاصمتهم لله جل وعلا تقديرية وبلسان حالهم وإن كانوا هم وإبليس في الآخرة أحقر من أن يحاجوا الله بالأباطيل وينطقوا بالهجر من الأقاويل والمعنى أن هذا يكون قولهم لو قالوا ونطقوا إنما كانوا عليه من الاعتقاد وهيهات هذا يوم لاينطقون ولايؤذن لهم فيعتذرون. نسأل الله تعالى النجاة فيه من عذابه.
قوله: (وأما الآثار).
أراد ما أثر عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وغيره وإن كان اصطلاح أهل الحديث أن يخصوا الآثار بما نقل عن غير النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من الصحابة والتابعين وما نقل عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم عبروا عنه بالأخبار.
قوله: (قام شيخ إلى علي) /439/.
قال الدامغاني في رسالته: اسم هذا الشيخ أزور بن ضرار.
قوله: (ولا علونا) بلغة التلعة ما ارتفع من الأرض.
قوله: (فقال له مه). معناه اكفف عن هذا الكلام واعتقاده.
قوله: (قال ويحك لعلك ظننت قضاء لازماً) إلى آخره.
يقال: فما بال أمير المؤمنين أطلق القول بأن ذلك بقضاء الله وقدره مع أنكم قد منعتم إطلاقه لإيهامه الخطأ واحتماله المعنى الغير الصحيح كما سبق إلى فهم هذا الشيخ الذي راجعه.
وأجاب بعضهم بأنه عليه لاسلام يجوز له إطلاق ما لايجوز لنا إطلاقه لما ثبت بالدلالة من عصمته فلا يجوز للسامع أن يظن به قول الخطأ ولا اعتقاده فأشبه الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم في هذا الحكم.
قلت: ويمكن أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام قصد بالإطلاق استخراج المباحثة في هذا المعنى وإشباع الفصل فيه ولو لم ..... الشيخ لما اكتفى بالإطلاق ولا وضح له المعنى من غير سؤال.
قوله: (في حكاية البيت الأول: يوم الحساب من الرحمان غفرانا).
قد روي: يوم النشور من الرحمان رضوانا. ويروى بعد هذين البيتين اللذين حكاهما المصنف:
نفس الفداء لخير الناس كلهم ... بعد النبي علي الخير مولانا
نفي الشكوك مقال منك متضح ... وزاد ذا العلم والإيمان إيمانا
فليس معذرة في فعل فاحشة ... يوماً لفاعلها ظلماً وعدوانا
لا ولا قائل ناهيه أوقعه فيها ... عبدت إذاً يا قوم شيطانا
فإن صحت هذه الرواية ففيها نص صريح على بطلان ما ذهب إليه المجبرة وبيان أنهم القدرية وكلامه عليه السلام حجة.
فصل في بعض ما جرى من المناظرات
قوله: (فقالت أوه تركت السنة وتبعت مذهب ابن عباد).
أوّه بفتح الهمزة وتشديد الواو وهي من أسماء الأفعال ومعناها أتوجع ويقال فيها: أوه. وهي أفصح ومنه قوله:
فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها ... من بعد أرض بيننا وسماء
ولعلها أرادت بابن عباد الصاحب الكافي رحمه الله فإنه كان ذا قدم راسخة في الاعتزال.
قوله: (ما نقوله في مناظرة آدم لموسى).
إذارة إلى ما ورد في الحديث ورواه البخاري ومسلم في جامعيهما من رواية أبي هريرة عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: (( تحاج آدم وموسى فقال: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم. قال: فقال آدم لموسى: أنت الذي اصطفاك الله برسالته وكلامه أتلومني على أمر كتبه الله علي قبل أن يخلقني )) أو قال: (( قدره الله علي قبل أن يخلقني )) قال صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( فحج آدم موسى )) وقد ذكر بعض محققي محدثي أصحابنا ما معناه أن موسى لم يلم آدم على نفس المعصية بل على ما أفضت إليه من الخروج عن الجنة وهي أعظم المصائب والتسلي بالأقدار في المصائب حسن اتفاقاً وإنما القبيح التسلي بالقدر في الذنوب إجماعاً ودليل حسن الألو قوله تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم} الآيتين، توضيح ذلك: أن موسى لم يصرح بالإنكار على آدم إلا في نفس الخروج من الجنة والانتقال من الراحة إلى التعب، وأما نفس المعصية فلم ينكر عليه فيها وكيف ينكرها وقد تاب عنها وهذا توجيه حسن والله أعلم.
قوله: (إذن مثلنا).
يعني في فعل الله تعالى المعصية فينا وقضائه بذلك علينا وما يجب علينا من التوبة عن ذلك والندم عليه وإبلاغ الجهد في الاستغفار منه.
قوله: (إننا نوافقه).
هذا تقرير لموافقة مذهب المجبرة لمذهب المجوس لكون المجوسي ادعى أن المجوسية من الله تعالى وهكذا مذبهم.
قوله: (حاكياً عن بعضهم يدل على أن يوسف كان قدرياً).
يعني أن مذهبه كمذهب المعتزلة لأنهم القدرية عندهم.
فصل في شبههم في هذه المسألة
قوله: (وسلف ما هو جواب عنها).
يعني من أنه لو كان ذلك عذراً لآدم لكان ذلك عذراً لجميع العصاة لما كان لله /440/ على الناس حجة.
قوله: (فقلل الكفار في أعين المسلمين ليجتروا عليهم).
قال جار الله: قللهم تصديقاً لرؤيا رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم وليعاينوا ما أخبروا به فيزداد يقينهم .... ويثبتوا. قال ابن مسعود: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين. قال: أراهم مائة. فسألنا رجلاً منهم أسرناه. فقال: كنا ألفاً.
قوله: (وقلل المؤمنين في أعينهم) إلى آخره.
روي أنه تعالى قللهم حتى انتهى الحال إلى أن قال قائل منهم إنماهم أكلة جزور، وكان هذا التقليل قبل اللقاء ثم كثر المؤمنين في أعينهم لتفجأهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا حين يرون مالم يكن في حسابهم.
قال جار الله: والطريق التي بها يبصرون الكثير قليلاً أن يستر الله بعضه بساتر أو يحدث في أعين الرائين ما يستقلون له الكثير كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين.
قوله: (وهو من الألفاظ المشتركة).
قيل بين القول المخصوص والفعل، وقيل: أنه مشترك بين الصيغة والشأن. يقال: هو في أمر أي في شأن، والغرض نحو فعليه لأمر وجهه التأثير نحو تحرك الساكن لأمر.
قوله: ( لايقتضي ذلك أن يكون قد وجد في تلك الحال).
يعني تأويل رؤيا صاحبي السجن من قتل الخباز وكون الساقي يسقي ربه خمراً.
قوله: (والمراد بالقضاء هنا) إلى آخره.
قال جار الله: المعنى قطع وتم ما تستفتيان فيه من أمركما وشأنكما.
قوله: (والجواب إنما يقتضي ظاهرها) إلى آخره.
فيه نظر لأن كلامه إنما يصح على قراءة بعضهم بالرفع في كل وجعل خلقناه وصفاً لكل.
وقوله: (يقدر هو الخبر).
ويكون المعنى حينئذ أن كل شيء خلقناه فهو بقدر ، وأما إذا جعلنا خلقناه هو الخبر وبقدر حالاً فمع تقدير كونه خبراً لايصح ما ذكره بل يكون المعنى أنه تعالى خلق جميع الأشياء بقدر، وكذلك على قراءة الجمهور بالنصب فالظاهر معهم لأن خلقناه يكون حينئذ مفسراً قطعاً لا وصفاً.
قال ابن جني: وقراءة الرفع هو الوجه في العربية يعني لعدم قرينة ترجح النصب فنختار الرفع بالابتداء.
قوله: (وإنما يستعمل في معان) إلى آخره.
الأقوى والله أعلم أن الكتابة على ظاهر معناها في جميع الآيات الكريمة ولكنها مستلزمة للعلم والمعنى بقوله: {كتب عليكم الصيام} كتب عليكم وجوبه وكذلك سائرها.
قوله: (من الثواب والنصر).
هما الحسنيان المذكورتان في الآية الكريمة.
قوله: (ومنها قوله: {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} تمسكهم بهذه الآية في إثبات القضاء والقدر بمعنى الخلق غير متضح.
قوله: (وبعد فقد قال بكفرهم ففسر معنى الإشراب) إلى آخره.
فيه نظر لن المعنى أشربوا في قلوبهم العجل بسبب كفرهم. ذكره جار الله فليس الكفر هو الإشراب بل سببه ولو صح ما ذكره لكان يفوته لمتمسك الخصم بالآية.
قوله: (وأيضاً فكيف يعاقب الله) إلى آخره.
يعني لن الإشراب سببه الكفر وهو في نفسه معصية فكيف يجعل عقاباً على الكفر.
قوله: (والمعنى).
قال جار الله: المراد أنه بداخلهم حبه والحرص على عبادته كما بداخل الثوب الصبغ.
قوله: (على هذه الصيغة). أي صيغة مالم يسم فاعله.
قوله: (مع جواز أن يرد على خلاف هذه الصيغة).
يعني كما ورد في قراءة بعضهم {سَقط في أيديهم} قال الزجاج معناه سقط الندم في أيديهم أي في قلوبهم وأنفسهم، وأما ولما سقط بصيغة المجهلو فالمعنى لما اشتد ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل لأن من شأن من اشتدت ندامته أن يعض يده غماً فتصير يده مسقوطاً فيها لأن فاه قد وقع فيها وهو من باب الكناية، وكذلك فإن ألقي الشجرة يصح أن يستند مثله إلى الفاعل الحقيقي بأن يكون الملقي غير الملقى فيسند الفعل إليه، ومعنى الآية الكريمة أن الشجر خروا سجداً كأنما ألقاهم ملقٍ لشدة /441/ خرورهم وعدم تمالكهم عندما رأوا.
قوله: (ونحو ذلك مما هو صحيح في حقه). يعني من معاني القضاء كالأمر بالطاعات منها وإيجاب بعضها.
قوله: (هذه سبيلها). يعني كونها تستعمل في معان بعضها يصح عليه تعالى وبعضها لايصح في حقه فإنه لايجوز إطلاقها عليه تعالى بإثبات ولانفي لأنا إن قلنا أن اللفظة المشتركة إذا خلت عن القرائن حملت على جميع معانيها فظاهر امتناع الإثبات والنفي وإن قلنا لاتحمل على معانيها كلها بل يتردد فيهم السامع بينها ويكون اللفظ مجملاً ففيه إيهام الخطأ وتعريض له وتعرض للتهمة.
القول في الهدى والضلال
قوله: (الهدى يستعمل) إلى آخره.
قيل: ألصحيح أن الهدى ليس بلفظة مشتركة وإنما هو حقيقة في الدلالة والبيان لتبادر الفهم إليها عند الإطلاق واستعماله في غيرها مجاز.
قوله: (نحو {سيهديهم ويصلح بالهم}) أي حالهم وشانهم.
قوله: (في قصة المقتولين بشبرا) إلى قوله: (والذين قاتلوا في سبيل الله) وقد روي: قتّلوا بالتشديد. قال قتادة: نزلت في يوم أحد.
قوله: (أي لو أنجانا لأنجيناكم).
هذا من كلام الذين استكبروا للضعفاء يوم القيامة. قال في الكشاف: وإنما قالوا هذا القول إما ..... الذنب في ضلالهم وإضلالهم على الله كما حكى الله عنهم. وقالوا: {لو شاء الله ما أشركنا} الآية، {ولو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء} يقولون ذلك في الآخرة كما كانوا يقولونه في الدنيا ويدل عليه قوله تعالى حكاية عن المنافقين: {يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء}. وأما أن يكون المعنى لو كنا من أهل اللطف فلطف ربنا بنا فاهتدينا لهديناكم للإيمان، وقيل معناه: لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم أي لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة كما سلكنا بكم طريق الهلكة.
قوله: (كقوله: ما زال يهدي قومه ويضلنا.. ألبيت).
يعني فإن معناه يحكم على قومه بالهدى ويسميهم مهتدين وعلينا بالضلال ويسمينا ضالين. وقوله: يضلنا في البيت مضارع أضلنا فالاستشهاد به مستقيم.
قوله: (فقد يكون لازمه).
أي لايقف فهم معناها على متعلق كقام وقعد.
قوله: (وقد تكون متعدية).
أي يقف فهمها على متعلق كضرب وشاهد، ما ذكره من ضل فلان الطريق والدار، وأما ضل عنهما فليس متعدياً وإنما هو لازم عدي بعن ففي كلامه نظر.
قوله: (وكقول الكميت)
هو شاهد على أن أفعل ترد بمعنى الحكم والتسمية وإ، لم يكن فيه لفظة أضل.
قوله: (كما يقال أحبنته وأنحلته).
شاهده قول عمرو بن معدي كرب يخاطب مجاشعاً: لله دركم يا بني سليم قاتلناكم فما أحبناكم وسألناكم فما أ،حلناكم وهاجيناكم فما أقحمناكم. أي ما وجدناكم على هذه الصفات الذميمة.
قوله: (وعليه حمل قوله تعالى: {وأضله الله على علم}).
ممن حمله على ذلك الإمام يحيى وأما جار الله فحمله على أن المعنى تركه عن الهداية واللطف وخذله على علم أي علماً بأن ذلك لايجدي عليه وأنه ممن لا لطف له أو مع علمه بوجوه الهداية وإحاطته بأنواع الألطاف المحصلة والمقربة.
قوله: (كقوله تعالى: {يضل به كثيراً}).
يعني فإنه نسب الإضلال وأضافه إلى نفسه لفعله ما وقع الضلال عنده وهو ضرب المثل. قال جار الله: وإسناد وهداهم.
قوله: (وإ، جاز) إلى آخره.
هذا بناء على أن الضمير للقرآن وما ذكره الله .... أوضح وأرجح.
قوله: (وقوله: {ليضل عن سبيله} بالضم).
يعني على قراءة الضم فإن بعضهم قرأه بالفتح ولاحجة فيه، ويقال: ولاحجة في /442/ الضم أيضاً فإنما هو متعد إلى مفعول واحد مقدر أي ليضل الناس وأما سبيله فإنما يتعدى إليه بحرف فافهم، وكذلك قوله: {إن كاد ليضلنا عن آلهتنا}.
فائدة
ذكر الإمام يحيى من معاني الضلال العقوبة كما قال تعالى: {إن المجرمين في ضلال وسعر} ويشهد له قوله تعالى: {يوم يسحبون في النار } الآية، وهكذا قوله تعالى: {بل الذين لايؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد}، والهلاك والنفاد كقوله تعالى: {أئذا ضللنا في الأرض إنا لفي خلق جديد} معناه هلكنا ونفدنا وتبددت أجزاءنا. والنسيان كقوله تعالى: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}. والذهاب عن الشيء والغفلة عنه نحو: {ووجدك ضالاً فهدى} أي وجدك غافلاً عما أراد لك من الكرامة بالنبوة.
فصل
قوله: (ذهب أهل العدل إلى أن الله تعالى لم يضل عباده عن الدين).
في قول المصنف: أهل العدل. إشارة إلى أن الإضلال عن الدين ينافي العدل ولايجامعه فلهذا نفاه من قال بالعدل.
قوله: (وقالت المجبرة) إلى آخره.
قال الإمام يحيى عليه السلام: اعلم أن المجبرة على طبقاتهم ذهبوا إلى أن الله تعالى قد أضل أكثر الخلق عن الدين وصدهم عن منهاج الطريق المستبين وأ.لهم عن السبيل وليس عليهم وجه الدليل وتهالكوا في إظهار ذلك حتى قال قائل منهم: إن الله تعالى هو إبليس إبليس، ومصدر كل ضلالة وتلبيس، تعالى الله عن مقالتهم وشنيع جهالتهم.
قوله: (لاخلاف بيننا وبينهم) إلى آخره.
يعني لحصول الإجماع على أن الله تعالى لا يكلف ما لايعلم أما عند أهل العدل فلقبحه وأما عندهم فلأنه غير متصور فلا يصح استدعا حصوله.
قوله: (فلا يصح أن يجامع التكليف).
يقال: أما الإضلال الذي هو خلق الضلال فيحص مجامعته للبيان إذ ليس البيان يمانع من خلقه وأما التلبيس فنعم لايجامعه ولكنه يغر متعقل على مذهبهم لأنه تعالى إذا كانا فاعل الإيمان والكفر والطاعة والمعصية فلا معنى للتلبيس ولاحكم له.
قوله: (ولهذا قال شعيب: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما نهاكم عنه}).
معنى الآية: ما أريد أن أسبقكم إلى شهواتكم التي أ،هاكم عنها لأستبد بها دونكم.
قوله: (وقال: {هدى للناس}).
يعني فأخبر بأنه أ،زل القرآ، لهداية الناس لأنه تعالى قال: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآ، هدى للناس}.
قوله: (وقال: {فإما يأتينكم مني هدى}).
أراد تعالى برسول أبعثه إليكم وكتاب أ،زله عليكم يدل عليه قوله تعالى: {فمن اتبع هداي} وقال في مقابلته: {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا}.
فإن قيل: لادلالة في الآية على حصول الهداية لأنه أتى في الآية بلفظ الشك.
قلنا: ليس المراد أن إتيان الهدى إليهم مشكوك فيه فإنه كائن لامحالة وإنما أتى بحرف الشك إيذاناً بأن الإيمان به وتوحيده لايشترط فيه بعثه الرسل وإنزال الكتب لتركبته فيهم العقول ونصبه للأدلة العقلية وتمكينه من النظر والاستدلال.
قوله: (وقال: {قد جاءكم بصائر من ربكم}).
ووجه التمسك بهذه الآية أن البصيرة نور القلب الذي يستبصر به كما أن البصر نور العين الذي به يبصر، والمعنى جاءكم من الوحي والتنبيه ما هو للقلوب كالبصائر.
قوله: (وقال: {وعلى الله قصد السبيل}).
وجه التمسك بها هنا أن المعنى أن هداية الطريق الموصل إلى الحق واجبة عليه كقوله: {إن علينا للهدى}.
قوله: (وقال: {أفمن يهدي إلى الحق}).
يعني بعد قوله تعالى: {هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق} فإنه تعالى أخبر بأنه يهدي إلى الحق وأنكر هداية الذين أثبتوهم شركاء له إلى الحق وقرر أن من يهدي إلى الحق وهو الله سبحانه أحق بالاتباع.
قوله: (وقال: {أو يقول لو أن الله هداني}).
يقال: هذه الآية حجة عليك لا لك لن الله تعالى أخبر عن نفس الكافر أنها تقول عند معاينة العذاب لو أن الله هداني لكنت من المتقين نفياً لحصول الهداية وتحسراً على عدمها فإذن هذه الآية مما ينبغي للخصوم أن يوردوها.
وجوابه: ما ذكره جار الله أنه لايخلو إما أن يريد به الهداية /443/ بالإلجاء وبالألطاف أو بالوحي فالإلجا خارج عن الحكمة ولم يكن من أهل الألطاف فيلطف بهم، وأما الوحي فقد كان ولكنه أعرض ولم يتبعه حتى يهتدي وإنما يقول: هذا تحيراً في أمره وتعللاً بما لايجدي عليه كما حكي عنهم التعليل بإغواء الرؤسا والشياطين ونحو ذلك ونحوه: {لو هدانا الله لهديناكم} وقوله تعالى: {بلى قد جاءتك آياتي} رد عليه منه تعالى والمعنى قد هديت بالوحي فكذبت به واستكبرت عن قوله وآثرت الضلالة على الهدى، ومنه قوله تعالى: {أتريدون أن تهدوا من أضل الله} أي صار ضالاً.
قوله: (وأمثال هذا كثير). صوابه: كثيرة.
قوله: (فدليلها أنه تعالى أضاف الإضلال بالمعنى المختلف فيه إلى غيره).
يقال: ليس في إضافته له إلى غيره ما يدل على أنه لايفعله. وجوابه: أن الخصوم ذهبوا إلى أن الإضلال بالمعنى المختلف فيه صادر جميعه منه تعالى فإذا نسبه إلى غيره بطل ما ذهبوا إليه من أنه المتولي لذلك إلا أن قوله تعالى: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين} لاحجة فيه لأن المعنى أنهم اتبعوا كتب السحر والشعوذة التي كانت الشياطين تقرأها على عهد ملك سليمان وفي زمانه ولا دلالة على أن الشياطين الذين حملوهم على ذلك وكذلك قوله: {وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم} لا حجة فيه لأنهم يقولون أما من هداه فنعم لكنه يضل من لم يهده وفي سائر الآيات كفاية في الدلالة على المقصود.
فصل في شبههم
قوله: (وقد قدمنا أنه لايصح لهم الاستدلال بسمع قط).
يعني لتجويزهم القبيح عليه تعالى ومع ذلك فما يؤمنهم أنه تعالى لم يرد بخطائه معنى من المعاني المفهومة بل يتكلم به على جهة الهدر واللعب أو أراد به معنى ..... بعلمه في الأزل ولم يجعل لنا إلى العلم به سبيلا، أو يقال: أراد به معنى غير ما ذهبتم إليه.
قال الإمام يحيى: وكفى بهذا المذهب شناعة على قائله ومما يقال لهم هنا: قد دل الدليل العقلي على أنه تعالى لايجوز أن يضل عباده ولادليل لكم على الإضلال إلا هذه الآيات التي تمسكتم بها والأدلة العقلية لاتحتمل التأويل ولايجوز احتمالها للخطأ وإلا لزم من تجويز الخطأ فيها تطرق احتمال الخطأ إلى الكتاب والسنة لأنه لايمكن القطع بكون الكتاب والسنة حجة إلا بالعقل والقدح في الأصل يتضمن القدح في الفرع، وأما الآيات السمعية فيمكن تأويلها وحمل الكلام على المجاز.
قوله: (ليس فيه تصريح بمحل النزاع الذي هو خلق الإضلال) صوابه: خلق الضلال، ولعله من سهو القلم.
قوله: (والمعنى هنا يهلك من يشاء).
قال الإمام يحيى: المراد العقوبة يشهد له سياق الآية من قوله تعالى: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء}، {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات}، ولو كان كما زعموا من خلق الكفر والضلال في الكافر لكان لامعنى لقوله تعالى: {إن الله عليم بما يصنعون}، فإنها وردت للناسي وتسلية رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم عن شدة ما يقاسي من عنادهم وإصرارهم فأخبر تعالى أنه عليم بما يصنعون وسيجازيهم على سوء فعلهم وصنيعهم وهذا لايصح مع كونه خالقاً للكفر وموجداً له فيهم.
وقال جار الله في تفسير قوله تعالى: {كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء} في سورة المدثر ذلك إشارة إلى ما قيل من معنى الإضلال والدى أي مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى يضل الكافرين ويهدي المؤمنين يعني يفعل فعلاً حسناً مثبتاً على الحكمة والصواب فيراه المؤمنون حكمة ويذعنون له لاعتقادهم أن أفعال الله تعالى كلها حسنة وحكمة فيزيدهم إيماناً وينكره الكافرون ويشكون فيه فيزيدهم كفراً وضلالاً.
قوله: (ويحتاج إلى حذف وإضمار).
لعل مراده أنا إذا حملناه على الإغواء كان التقدير: يضل من يشاء عن الدين. أي يغويهم، وإذا جعلناه بمعنى العذاب أو الحكم أو التسمية /444/ أو الإهلاك لم يحتج إلى ذلك، ومعنى يحتاج إلى حذف وإضمار أي إلى أن يقدر أن ثم حذفاً من الكلام وإضماراً لما يتم به المعنى.
قوله: (لأن الله لايضل بالقرآن).
هذا بناء على أن الضمير في به عائد إليه وقد تقدم ما ذكره جا رالله في تفسير هذه الآية وأن الضمير لضرب المثل.
قوله: (والمراد يعذب بالكفر به) إلى آخره.
وهكذا ذكر الإمام يحيى قال: ويحتمل الإضلال هنا معنى آخر وهو الصد والإغواء عن طريق الجنة بما يستوجبون لأجل الكفر به. والهداية الإرشاد إلى طريق الجنة بما استحقوه على تصديقهم وإيمانهم.
قوله: (والباء يرد في اللغة بهذا المعنى).
أي للسببية نحو أصبت الغرض بفلان، وبتوفيق الله حججت.
قوله: (أو جار مجراه).
يعني في كونه متفرعاً على كفرهم وتابعاً له كالحكم بذلك عليهم وتسميتهم به.
قوله: (ويجوز أن يكون المراد أتريدون أن تنجوا من أهلك الله).
هكذا حمله عليه الإمام يحيى فالمراد به الإهلاك والعقبوة والمعنى أتريدون نجاة من هو عند الله هالك. قال: ويجوز أن يكون المراد أتريدون أن تجعلوا لهم الجنة وقد استوجبوا من الله النار، حمله جار الله على أن المعنى أتريدون أن تجعلوا من المهتدين من جعله الله من حملة الضلال وحكم عليه بذلك أو خذله حتى ضل.
قوله: (وتوضيح هذا أنه فسر الإركاس بالضلال).
يعني على ما يقضي به سياق الآية من قوله تعالى: {فمالكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله} ومفهوم كلامه أن الإركاس الإهلاك فإذا فسره بالإضلال كان هنا إهلاكهم وكان المعنى أتريدون أن تنجو ا من أهلك لكن الإركاس ليس معناه الإلهلاك وإنما الإركاس الرد ففسره جار الله بأن المعنى ردهم في حكم المشركين كما كانوا بما كسبوا من .... ولحوقم بالمشركين واحتيالهم على رسول الله أو أركسهم في الكفر بأن خذلهم حتى ارتكسوا فيه لما علم من مرض قلوبهم لأنها نزلت في شأن قوم خرجوا مع رسول الله يوم أحد ثم رجعوا وقيل هم العربيون الذين أغاروا على السرح وقتلوا يساراً مولى رسول الله وقيل: هم قوم أظهروا الإسلام وقعدوا عن الهجرة.
قوله: (ولأن الجعل مشترك بين معان).
منها: الحكم والتسمية كقوله: جعلتني .... البيت. والإحداث والإنشاء كقوله تعالى: {وجعل الظلمات والنور}، والتصيير كقوله تعالى: {وجعلناكم أزواجاً} {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً} قال جار الله: في الجعل معنى التضمين ..... شيء من شيء أو تصيير شيء شيئاً أو نقله من مكان إلى مكان، ومن ذلك: {وجعل منها زوجها} {وجعل الظلمات والنور} لن الظلمات من الأجرام المتكاثفة والنور من النار، {وجعلكم أزواجاً} {أجعل الآلهة إلهاً واحداً}.
وقد ذكر من معاني الجعل الطرح والإلقاء كقوله: {فنجعله في جهنم} واللطف كقوله: {واجعلنا مسلمين لك} وفيه نظر فإن هذين المثالين داخلان في معنى التصيير فالمعنى يصيره في جهنم وينقله إليها وصيرنا مسلمين بالطافك وهدايتك.
قوله: (وثانيها أن يكون التقدير) إلى آخره.
ذكر معنى هذا الإمام يحيى قال: ويكون المراد بالهدى هنا الإثابة وبالاضلال العقوبة ويصير معنى الآية: فمن يرد الله إثابته في الآخرة يقدم له شرح الصدر عند موته با، طيلعه على منزله في الجنة لأجل إسلامه ومن يرد عقوبته في الآخرة يقدم له عند موته ما يضيق به صدره بأن يطلعه على منزله في النار فيضيق صدره لأجل فسقه أو كفره.
قوله: (وثالثها أن يكون التقدير). إلى آخره.
هذا أيضاً حمل للهداية والإضلال على أنهما بمعنى الثواب والعقاب على وجه غير ذلك الوجه الأول ولم يذكر المصنف في هذا التقدير معنى {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً /445/ حرجاً} لكن هو مفهوم من ذكر معنى الهداية، وتقديره ومن يرد أن يعذبه يجعل صدره ضيقاً حرجاً في الآخرة بما يوصله غليه من العقاب، وحرر الإامم يحيى هذا الوجه الثالث على أن المراد فمن يرد الله إثابته في الآخرة يجعل له من ذلك جزاء وحظاً كاملاً فيشرح بذلك صدره ومن يرد أن يضله أي يعاقبه يجعل له من ذلك جزاء يضيق به صدره ويحرج منه قلبه.
قوله: (والرجس هو العذاب).
قال جار الله: هو الخذلان ومنع التوفيق وصفة تنقيص ما يوصف به التوفيق من الطيب أو أراد الفعل المؤدي إلى الرجس وهو العذاب من الإرتجاس وهو الاضطراب وحمل الآية على التقدير الأول الذي ذكره المصنف.
قوله: (فالظاهر أنه بعد وقوع الكفر).
يعني لقوله: {كذلك نجعل الرجس على الذين لايؤمنون}.
قوله: (والجاوب أن المراد فريقاً .... الضلالة).
أي كلمة الضلالة وعلم الله أنهم يضلون ولايهتدون.
قوله: (والمراد يهلك بها من يشاء).
وحمله جار الله على أن المعنى يصل بالمحنة الجاهلين غير التائبين في معرفته ويهدي العالمين به التائبين بالقول الثابت وجعل ذلك إضلالاً من الله وهدى منه لأن محبته كانت سبباً لأن ضلوا واهتدوا وكأنه أصلهم بها وهداهم.
قوله: (لأن لفظة هي عائدة إلى الرجفة).
جعلها في الكشاف عائدة إلى تكليمه تعالى لموسى وهم يسمعون فاستدلوا بالكلام على الرؤية استدلالاً فاسداً حتى افتتنوا وضلوا وجعلها الإمام يحيى عائدة إلى قصة بني إسرائيل في اتخاذهم للعجل من حلية السامري وإدخال الشبهة والإلباس.
قوله: (إذا طبخته في الكانون).
الكانون والكانونة الموقد ذكره في الصحاح.
قوله: (ثم استعمل في كل عذاب).
يعني وإن لم يكن بالنار كما في قوله تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} إن حملنا الآية على أن المراد بلوهم بالأذى على سبيل العموم وإن حملناها على أن المراد بالذين فتنوا أصحاب الأخدود خاصة وبالذين آمنوا المطروحين في الأخدود فمعنى فتنوهم عذبوهم بالنار، وتكون الآية شاهدة على الأصل في الاستعمال وقد جوز جار الله الوجهين كليهما.
قوله: (وقال: {والفتنة أشد من القتل}).
قال جار الله: المراد بها هنا الإخراج أو الشرك.
قوله: (ثم استعير للإغواء).
ظاهر كلامه أن استعمال الفتنة فيه مجاز وقد ذكر الإمام يحيى أنها تستعمل في الإهلاك بالعذاب وفي الاختيار والامتحان وفي الإضلال والتعمية وتلبيس الحق والاستدعاء إلى المعصية كقوله تعالى: {يا بني آدم لايفتننكم الشيطان} فظاهر كلامه أنها مشتركة في هذه المعاني لأنه قال: فإذا تقررت هذه القواعد من استعمال بعضها فيما يصح إطلاقه على الله تعالى وبعضها ينافي موضوع الحكمة وجب حمل ما في القرآن من الفتنة على ما يصح في حقه تعالى ويليق بحكمته دون ما لايليق وحمل الآية على أن المراد بالفتنة فيها الاختبار والامتحان والابتلاء.
قال: لأن إدخال الشبهة والإلباس يقرب من الامتحان والاختبار.
قوله: (والمعنى أن موسى) إلى آخره.
قال جار الله: قوله: {ربنا ليضلوا عن سبيلك} دعاء عليهم بلفظ الأمر كقوله: {ربنا اطمس} واشدد وذلك لما عرض عليهم آيات الله وبيناته عرضاً مكرراً وردد عليهم النصائح والمواعظ زماناً طويلاً وحذرهم عذاب الله وانتقامه وأنذرهم عاقبة ما كانوا عليه من الكفر والضلال المبين ورآهم لايزيدون على عرض الآيات إلا كفراً وعلى الإنذار إلا استكباراً وعلى النصيحة إلا سوءاً ولم يبق له مطمع فيهم وعلم بالتجربة وطول الصحبة أنه لايجيء منهم إلا الغي والضلال، وإن إيمانهم كالمحال الذي لايدخل /446/ تحت الصحة أو علم ذلك بوحي من الله اشتد غضبه عليهم وأفرط مقته لهم وكراهيته لحالهم فدعا الله عليهم بما علم أنه لايكون غيره كما تقول: لعن الله إبليس، وأخزى الكفرة، مع علمك أنه لايكون غير ذلك ولتشهد عليهم بأنه لم يبق له فيهم حيلة وأ،هم لايستأهلون إلا أن يخذلوا ويخلى بينهم وبين ضلالهم يتسكعون فيه كأنه قال: ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال وليكونوا ضلالاً وليطبع الله على قلوبهم فلا يؤمنوا وما علي منهم هم أحق بذلك وأحق كما يقول الأب المشفق لولده الشاطر إذا لم يقبل منه حسرة على ما فاته من قبول نصيحته وحرداً عليه لا أن يريد خلاعته واتباعه هواه.
قوله: (إن الله جعل ذلك جزاء على كونه اتخذ إلاهه هواه).
يقال: ليس في الآية ما يدل على ما ذكرته من كون ذلك على سبيل المجازاة.
قوله: (والمعنى) إلى آخره.
قال جار الله: وتثبيتهم في الدنيا أنهم لم يزلوا كما ثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد وتثبيتهم في الآخرة أنهم إذا سئلوا عند تواقف الإشهاد عن معتقدهم ودينهم لم يتلعثموا ولم ..... ولم تحيرهم أحوال الخسر، وقيل: معناه الثبات عند سؤال القبر.
قوله: (لأجل القول الثابت).
هو خلاف الظاهر بل المراد أن تثبيتهم يكون بالقول الثابت ومعناه الذي ثبت بالحجة والبرهان في قلب صاحبه ويمكن فيه فاعتقده واطمأنت إليه نفسه وليس المراد أن تثبيتهم بسبب القول الثابت فإن الفهم ..... الكلام لايقتضيه.
قوله: (ويهلك الظالمين).
حمل المصنف قوله: {ويضل الظالمين} على أن الإضلال فيه بمعنى الإهلاك وقال جار الله: المعنى بإضلالهم في الدنيا أنهم لايثبتون في مواقف الفتن وتزل أقدامهم أول شيء وهم في الآخرة أضل وأ.ل وكلامه أولى للطباق.
قوله: (أ،ه جعل ذلك جزاء).
يقال: أما أنه جزاء على القول الثابت فلا ولادليل عليه ولاسبيل إليه، وأما على ألإيمان فلا يبعد أن يكون تثبيتهم لأجل إيمانهم وكذلك خذلان الظالمين وعدم تثبيتهم يكون لأجل ظلمهم.
قوله: (ولتتأكد الحجة على المصر).
يعني بأن يقال له يوم القيامة: {أو لم يعمركم ما يتذكر فيه من تذكر} قال جار الله: في هذه الآية وأخرج على لفظ الأمر إيذاناً بوجوب ذلك وأنه مفعول لا محالة كالمأمور به الممتثل لقطع معاذير الضال، أو في معنى الدعايات بمهلة الله وينفس في مدة حياته.
قوله: (كما قاله في آية أخرى) أراد {كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا}.
قوله: (المراد ليس عليك ثوابهم).
في الكشاف: إن المعنى لايجب عليك أن تجعلهم مهتدين إلى الانتهاء عما نهوى عنه من المن والأذى والإنفاق من الخبيث وغير ذلك وما عليك إلا أن ..... النواهي فحسب ولكن الله يهدي من يشاء يطلف بمن يعلم أن اللطف ينفع فيه فينتهي عما نهي عنه وهذا هو اللائق بتفسير كلام الله تعالى.
قوله: (وعلى هذا يحمل قوله تعالى: {لأسقيناهم} إلى آخره.
يعني فإن المراد أن الجن لو استقاموا على الطريقة المثلى أي لو ثبت أبوهم الجان على ما كان عليه من عبادة الله تعالى ولم يستكبر عن السجود لآدم ولم يكفر وتبعه أولاده على الإسلام لأنعمنا عليهم ولوسعنا رزقهم وذكر الماء الغدق وهو الكثير لأنه أصل المعاش وسعة الرزق لنفتنهم فيه أي لنختبرهم كيف يشكرون ما حولوا منه، واعلم أن المعنى في قوله: {وإن أدري لعله فتنة لكم} الآية: قل يا محمد ما أدري لعل تأخير الموعد بغلبة المسلمين امتحان لكم لننظر كيف تعملون أو يمتنع لكم إلى حين ليكون ذلك حجة عليكم وليقع الموعد في وقت /447/ هو فيه حكمة.
قوله: (فإن الكافر المرتاب يقول: ولم كانت تسعة عشر. قال في السيرة النبوية: قال أبو جهل يوماً وهو يهزأ برسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم وما جاء به من الحق: يا معشر قريش يزعم محمد إنما جنود الله الذين يعذبونكم تسعة عشر وأنتم الناس عدداً وكثرة أفيعجز كل رجل منكم عن رجل منهم فأ،زل تعالى: {وما جعلنا أصحاب النار} الآية.
قوله: (من أن التقدير من يرد الله عذابه) إلى آخره.
قال جار الله: أي تركه مفتوناً وخذلانه فلن يملك له من الله شيئاً فلن يستطيع له من لطف الله وتوفيقه شيئاً أولئك الذين لم يرد الله أن يمنحهم من ألطافه ما يطهر به قلوبهم لأنهم ليسوا من أهلها لعلمه أنها لاتنفع فيهم ولاتنجع.
قال الإمام يحيى: ويجوز أن يكون المراد أن الله تعالى ما أراد أن يطهر قلوبهم عن اعتقاد الكفر والشرك على جهة القسر والإلجاء بل وكل ذلك إلى اختيارهم لئلا يبطل التكليف مع الإلجاء.
قوله: (والجواب أنه دعاء فعبدنا به).
قال جار الله في معناه: لاتبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا بعد إذ هديتنا وأرشدنا لدينك ولاتمنعنا ألطافك بعد إذ لطفت بنا.
قوله: (قد ورد بمعنى العذاب في قوله: {فلما زاغوا}) إلى آخره.
فيه نظر لن القوي أن المراد فلما زاغوا عن الحق أزاغ الله قلوبهم بأن منعهم ألطافه ولو كان بمعنى العذاب لم يكن لذكر القلوب فائدة وليس كونه جزاء على زيغهم يستلزم أنه بمعنى العذاب لأن الخذلان أيضاً مسبب عن المعصية والإصرار فإذن القوي ما رجع إليه المصنف آخراً.
قوله: (فبين أن غرضه أن يقولوا ما هو كفر).
إنما كان كفراً لأن معناه أنه قرأها وتعلمها وليست وحياً ولا كلاماً لله.
قوله: (وهو التذكرة والتكرار).
صوابه: وهو تكرار الآيات لتذكيرهم وإيقاظهم عن سنة غفلتهم.
قوله: (ولو كان كما قالوه).
يعني من أن المراد يصرف الآيات ليكفروا.
قوله: ( والمعنى لئلا يقولوا).
هذا ذكره أبو علي الفارسي وقال: من قرأ درست فالمعنى في ليقولوا كراهة أن يقولوا أو لئلا يقولوا درست أي فصلت الآيات وأحكمت لئلا يقولوا أنها أخبار قد تقدمت وطال العهد بها وأما من قرأ ادارست أو درست فاللام للصيرورة فدرست قراءة ابن عامر بفتح السين وسكون التاء ودارست قراءة ابن كثير وأبي عمرو ودرست بسكون السين وفتح التاء قراءة باقي السبعة.
قوله: (قالت الخنساء: فآليت آسى على هالك).
يعني فالمعنى لا آسى أي لا أحزن ويدل على ذلك أنه لولا تقدير لا لم يجز تلقي القسم بآسى بل كان يجب دخول اللام ونون التوكيد فيكون لآسين ولأسألن نائحة مالها، وكذلك قول الطائي: لقد آليت أغدر. فلولا تقدير لا لكان يجب أن يقول لأغدرن، والجذاع السنة الشديدة، والرباع صغار الإبل، ومعنى يجزا: يكتفي.
قوله: (ويجوز أن يكون لام العاقبة).
ويسمى أيضاً لام الصيرورة وهذا ذكره ابن عطية وأبو البقاء قالوا: وهي كقوله: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواْ}. وقال الزمخشري: هي لام العلة مجازاً وذلك لأن الآيات صرفت للتبيين ولم تصرف ليقولوا درست ولكن حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبين شبه به فسيق مساقه.
قوله: (التهديد الوارد في صورة الأمر).
هذا الوجه يؤكده قراءة سادة بتسكين اللام في: {فليقولوا} فيكون حينئذ لام الأمر والفعل مجزوم بها ويكون معناه الوعيد وعدم الاكتراث بهم وهذا القول نسبه في المجيد إلى الشيخ أمير الدين أبي حيان.
قوله: (كقوله: {وليوفوا نذورهم}).
ليس المراد أن هذا مثال للتهديد بل للأمر الذي يرد التهديد بصيغته أراد أن يبين أنه يرد بتسكين اللام بعد واو العطف.
قوله: (فالظاهر يقتضي أن الإغواء آلة لإبليس في الإضلال).
يعني لأن /448/ هذه الباء مثل الباء في قولهم: كتبت بالقلم ومسحت بالمنديل. اقل جار الله: ألباء للقسم وما مصدرية وجواب القسم لأزينن والمعنى: أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم ومعنى إغوائه إياه تسبيبه لغيه بأن أمره بالسجود لآدم عليه السلام فأفضى ذلك إلى غيه وما الأمر بالسجود إلا حسن وتعريض للثواب بالتواضع والخضوع لأمر الله ولكن إبليس اختار الإباء والاستكبار فهلك والله بريء من غيه وإرادته والرضاء به.
قوله: (والمعنى ولاينفعكم نصحي) إلى آخره.
قال جار الله: إذا عرف الله من الكافر الإصرار فخلاه وشأنه ولم يلجئه سمى ذلك إغواء وإضلالاً كما إذا عرف منه أنه يتوب ويرعوي فلطف به سمي إرشاداً وهداية، وقيل: أن يغويكم أن يهلككم من غوي الفصيل غوي إذا .... فهلك ومعناه أنكم إذا كنتم من التصميم على الكفر بالمنزلة التي لاتنفعكم نصائح الله ومواعظه وسائر ألطافه كيف ينفعكم نصحي.
قوله: (لأن العلية لاتصح إلا من الحي القادر).
يعني لأن عليت علينا بمعنى ملكتنا.
قوله: (شقي شقاوة وشقاء). وكذلك شقوة وتفتح السين في شقاوة وشقوة وتكسر.
قوله: (والمعنى زينا لكل أمة عملهم الذي كلفوهم).
هذا تأويل على خلاف الظاهر وأجود منه ما ذكره جار الله من أن المعنى خليناهم وشأنهم ولم نكفهم حتى حسن عندهم سوء عملهم وأمهلنا الشيطان حتى زين لهم أو زيناه في زعمهم وقولهم أن الله أمرنا بهذا وزينه لنا.
قوله: (وهو باطل لأن ما قد مضى لايحتاج إلى تزيين).
يقال: هو وإن لم يحتج إليه في وجوده فالتزيين فيه متصور فلا مانع من أن يزين لعامل عملاً صدر منه ويحسنه في عينه ويحكم عليه بأنه مصيب فيه.
تنبيه
هذه المسألة مما يحكم عليه الأصحاب بأن العلم به من فروض الأعيان لتوقف مسألة العدل على هذه المسألة والمراد العلم بأن الله لم يضل عباده عن الدين، وأن الله قد دل كل مكلف وبين له لا غير ذلك.
القول في أن الله تعالى يريد الطاعات ولايريد القبائح
اعلم أن عادة المصنفين في علم الكلام تختلف في ذكر إرادة الله وكراهته وما يريده وما يكرهه فمنهم من يذكر جميع ذلك في باب التوحيد نظراً إلى أن كونه تعالى مريداً وكارهاً من صفاته الثابتة له وأحواله التي تستحقها ذاته وذكر ما يريده وما يكرهه من فروع ذلك ولواحقه ومنهم من يذكر جميعه في باب العدل نظراً إلى أن من مقتضى العدل والحكمة أن يريد الطاعات ويكره المعاصي، وأن خلاف ذلك ينافي الحكمة ويخالف مقتضاها وعلل السيد ما نكديم ذكره للإرادة والكراهة في باب العدل بأنه كلام في أفعاله تعالى وهما منها واعترض بأنه يلزم أن يعد جميع أفعال الله فيه لأن الحكم في جميعها ما ذكر.
قيل: فالألى في توجيه ما اختاره أن العدل أكثر مسائله أنه تعالى لايخل بالواجبات وأنه تعالى منعم بالتكليف وجميع النعم منه تعالى وأن القرآ، صدق في جميع أخباره وأنه بيان ولطف وأمر ونهي ولن يتم شيء من ذلك إلا مع إثبات كونه مريداً وكارهاً والمصنف رحمه الله اقتضى نظره المحرر وتأمله المنور أن يذكر كل نوع من أنواع هذه المسألة في بابه ويرده إلى نصابه فذكر ما يتعلق بباب التوحيد فيه وهو إثبات هاتين الصفتين له تعالى وبيان كيفية استحقاقهما وما يتعلق بذلك وجعله بعد ذكر الصفات الواجبة وكيفية استحقاقها لأن الواجب آكد من الجائز، وذكر ما يتعلق باب العدل فيه، وهو أنه يريد الطاعات ويكره القبائح فكان كلامه أوفق وأحسن وتعليله أوضح وأبين والله سبحانه وتعالى أعلم.
قوله: (ذهب أهل الجبر) إلى آخره.
كان الأليق أن يقدم ذكر مذهب أهل /449/ العدل مفصلاً لأنه مذهبه ثم يذكر مذهب المخالف من بعد وكأ،ه اكتفى بترجمة المسألة وما أحسن ما حكاه الإمام يحيى عليه السلام من الاختلاف في هذه المسألة بقوله: ذهب القائلون بالعدل من الزيدية والمعتزلة إلى أن الله تعالى مريد لجميع أفعاله ما خلا الإرادة والكراهة وأنه تعالى مريد لجميع الطاعات من أفعالنا ما حدث منها وما لم يحدث وأنه تعالى كاره لجميع المعاصي ما حدث منها وما لم يحدث.
وذهب سائر فرق المجبرة من الأشعرية والكلابية والنجارية إلى أنه تعالى مريد لجميع ما حدث من الكائنات طاعة كان أو معصية وأنه لاكائن في عالمنا إلا وهو متعلق بإرادته ومالم يحدث منها فإنه تعالى لايريده طاعة كان أو معصية.
قوله: (ويكره ما لا يقع).
يعني لايريده لأن المرجع بالكراهة عندهم إلى عدم الإرادة ولايجعلون للكاره بكونه كارهاً حالاً.
قوله: (فدليله أنه أمر بها).
لاخلاف في هذا الأصل والقرآن والسنة مصرحان به غير مرة والخصم يسلمه والمسلمون متفقون عليه.
قوله: (والأم لايكون أمراً إلا بالإرادة).
وذلك لأن صيغة افعل قد تقع أمراً مرة وقد تقع غير أمر بأن تصدر من ساه أو نائم فلا بد من أمر لمكانه كان أمراً فإما أن يكون أمراً لذاته إلى سائر التقسيم الذي تقدم ما يرشد إليه وجميع باطل إلا كونه أمراً لإرادة المأمور به وأيضاً فلا ينفصل الأمر عن التهديد إلا بإرادة المأمور وأيضاً فهو طلب والطلب لابد له من مطلوب فيلزم أن تكون إرادة المأمور من معقول الأمر فيجب أن يكون المأمور به مراداً.
قوله: (لأن كراهة الحسن قبيحة).
كان الأولى أن يقول: لأن كراهة الواجب ونحوه أو الطاعات وأما أن كراهة المباح والمكروه قبيحة فغير واضح ولا راجح.
قوله: (ولأن الكراهة إنما تعرف بالنهي).
يعني في حقه تعالى لأن ذاته لاتعلم ضرورة فلا تعلم كراهته إلا بدليل يدل عليها ولادليل يتصور إلا نهيه سبحانه وتعالى عما كرهه وفيه نظر لن ظاهره الإطلاق وقصر معرفة الكراهة على النهي وليس كذلك فإ،ها تعرف في الشاهد ضرورة من شاهد حاله ويعرف في حقه تعالى بغير النهي كأن يخبرنا في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه يكره أمراً من الأمور.
قوله: (وضعفه أهل اللغة بأنه مطيع).
شاهده قول بعض أعمام النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وقد ضرب بعقبه الأرض فنبع الماء إن ربك ليطيعك. فقال: وأنت يا عم لو أطعت الله لأطاعك، وليس الله بمأمور وقول سويد بن أبي كاهل:
رب من أنضجت غيظ صدره ... قد تمنى لي موتاً لم يطع
قوله: (غير مسلم).
وذلك لأن العبد يوصف بكونه مطيعاً لسيده وإن لم يكن من جهته أمراً حيف عل مراده، ولما تقدم قوله: (ثم أمر به على لسان رسوله) أي أتى بما صورته صورة الأمر وإلا فليس بأمر على الحقيقة لأن من شرطه الإرادة وقد فرضه كارهاً.
قوله: (على طريق الإيجاب) دليل ذلك أنه متى حصلت الإرادة واقترنت بحدوث الصيغة وجب كونه أمراً ولم يجز بوجه أن يكون غير أمر، وهذا مذهب الجمهور. وقيل: بل تأثيرها على سبيل الجواز والأول أوضح وأرجح.
قوله: (والنهي إنما يكون نهياً بالكراهة) إلى آخره.
تقريره على نحو ما مضى في الأمر إلا في الوجه الثالث وهو قولنا أن الأمر طلب إلى آخره.
قوله: (وأما السمع) إلى آخره.
أما الإستدلال به على أن اله تعالى يريد الطاعات فلا كلام فيه فإنه صحيح على لاقواعد إذ لايتوقف العلم بصحة السمع عليه وأما الاستدلال به على أنه تعالى لايريد القبائح فمن كان رأيه أنه لايصح الاستدلال بالسمع على أنه تعالى لايفعل القبيح مجملاً ومفصلاً كالقاضي وتابعيه فإنما يستدل بالسمع ذلك من قبيل التقوية والاستظهار.
قوله: (فنحو قوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر}) إلى آخره.
دلالة هذه الآية على ما ذكره غير واضحة والظاهر أن المراد بها نفي كثير الحرج والمشقة في الدين والأمر بالحنيفية السمحة، ومن جملتها الترخيص بترك الصوم في المرض /450/ والسفر، وقد أشار إلى ذلك جار الله.
قوله: (والغرض والإرادة واحد بلا خلاف).
يعني في الغلب وإن كان لفظ الغرض قد يطلق على الداعي.
قوله: (وهذه لام الغرض بلا شبهة).
لايقال: إن إرادة العبادة لايكون حال خلقهم وإنما يكون حال تكليفهم على قواعدكم فإنا نقول المعنى: {ما خلقت الجن والإنس} الذين سبق في علمي وحكمتي تبقيتهم وتكليفهم إلا وأنا مريد أن أبقيهم ثم أكلهم لتقع منهم العبادة والله سبحانه أعلم.
قوله: (وقوله: {يريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة}).
أي يريدون حطام الدنيا وسمي عرضاً لنه حدث قليل اللبث والله يريد ما هو سبب الجنة من إعزاز الإسلام بالإثخان في القتل والحجة في هذا الطرف والآية نزلت في شأن أخذ الفدا من أسارى بدر، وعتاب الله للمؤمنين على ذلك.
قوله: (في حكاية الآيات: {ولقد يسرنا القرآن للذكر}).
أي سهلناه ليحفظ من يسرنا فيه للسفر إذا رحلها فاللام فيه للغرض والله أعلم.
قوله: (ومن قوى ما يعتمده) إلى آخره.
هذه الآية الكريمة من أقوى ما يعتمده الأصحاب في هذه المسألة وأوضحه دلالة وقد بين المصنف وجه الإستدلال بها من الوجوه الخمسة المذكورة.
قوله: (ثم أكذبهم) إلى آخره.
هذا بناء على قراءة التخفيف في كل كذب، والوجه في دلالتها ظاهر والمشهور القراءة بالتشديد والمعنى أنهم جاؤا بالتكذيب المطلق لن الله عز وعلا ركب في العقول فأنزل في الكتب ما دل على غناه وبراءته من مشيئة القبائح وأراد بها والرسل أخبروا بذلك فمن علق وجود القبائح من الكفر والمعاصي بمشيئة الله وإراته فقد كذب التكذيب كله وهو تكذيب الله وكتبه ورسله ونبذ أدلة العقل والسمع وراء ظهره هكذا قرره جار الله.
قوله: (وأما استدلالهم على تأويلهم هذا) إلى آخره.
الحجة لهم في قوله: {فلو شاء لهداكم أجمعين} وجوابها من وجهين: أحدهما أنه تعالى لما رد عليهم قولهم: {لو شاء الله ما أشركنا} أراد أن ينبههم على أن مشيئته للتوحيد منهم مشيئة اختيار لا إجبار إذ لو شاء مشيئة الإجبار لهداهم جميعاً إذ الكل منهم تحت قدرته يصرفهم كيف يشاء. ثانيهما: أنه أراد فلله الحجة البالغة عليكم على وفق مذهبكم فلو شاء لهداكم أجمعين منكم ومن مخالفيكم في الدين، فإن تعليقكم دينكم بمشيئة الله تعالى يقتضي أن تعلقوا دين من يخالفكم أيضاً بمشيئته فتوالوهم ولاتعادوهم وتوافقوهم ولاتخالفوهم لأن المشيئة تجمع بين ما أنتم عليه وما هم عليه هكذا قرره جار الله.
قوله: (ومعلوم أن الرضا والمحبة والإرادة واحد) إلى آخره.
فيه نظر إلا أن يريد أن الرضى والمحبة من جنس الإرادة وإن كانتا لنوعين مخصوصين منها فالرضا اسم للإرادة المتقدمة المتعلقة بفعل لغير بشرط وقوع ذلك الفعل، والمحبة اسم للإرادة التي تطابق الداعي فلو خلق الله فينا إرادة لما لا داعي لنا إليه كدخول النار لسميت إرادة ولم تسم محبة.
قوله: (فمعناه أحب الاستمتاع بها).
هكذا أجاب الشيخ أبو علي، وأجاب الشيخ أبي هاشم بأن المحبة هنا متجوز بها عن الشهوة وإليه أشار المصنف بقوله: (أو بمعنى العشق) لأنه الشهوة المتعلقة بالصور والألوان.
قوله: (وليس إذاً تجوز) إلى آخره.
احتراز عن سؤال يرد حاصله أن الإرادة والمحبة إذا كانتا بمعنى واحد لزم أن تستعمل إحداهما حيث تستعمل الآخر حقيقة كان أو مجازاً فأجاب بمنع لزوم ذلك ومن شواهده الغائط والمكان المطمئن فإنهما في اللغة بمعنى واحد ثم استعمل الغائط في قضاء الحاجة دون المكان المطمئن.
فصل في بعض ما ألزمهم أصحابنا
قوله: (فإ، قالوا الكفر كفروا الجزم بكفر مريد الكفر).
فيه نظر فقد اختلفوا فيمن عزم عليه هل يكفر أو لا، ومن لم يكفره فأولى وأحرى ألا يكفر من إرادة من غيره والإكفار لاينبغي الإقدام عليه إلا عن دليل قاطع، وأما العصيان بذلك والإثم فيه فمقطوع به.
قوله: (فأنتم إذن أحق بالحمد والشكر).
يعني من هذه الحيثية وإن كان الله أحق بها من حيثيات أخر.
قوله: (فيكون ما فيه تعجيزه عندهم). يعني /451/ وهو وقوع خلاف ما تعلقت به إرادته.
قوله: (خرجوا) يعني عن ربقة الإسلام.
فصل في شبههم
قوله: (من أساطيركم).
هو جمع أسطورة بضم الهمزة وإسطارة بكسرها وهي الأباطيل فقوله الباطلة وصف جيء به للتأكيد.
قوله: (يمتنعون من قياس الغائب على الشاهد) إلى آخره.
يعني يجعلونه من الأدلة الطيبة ويسمونه قياس التمثيل ويمتنعون من عده قياساً قطعياً ولايسمونه برهاانً.
فصل
وأما السمعيات فقد قدمنا منعهم من الاستدلال بها.
قوله: (قال تعالى: {فمن شاء ذكره}) الضمير في ذكره عائد إلى التذكرة في قوله تعالى: {فمالهم عن التذكرة معرضين} أي عن التذكير وهو العظة يريد القرآن أو غيره من المواعظ والمراد: فمن شاء أن يذكره ولاينساه ويجعله نصب عينيه فعل فإن نفع ذلك راجع إليه وإنما ذكر الضمير مع عوده إلى التذكرة وهي مؤنثة لأنها في معنى الذكر أو يعود الضمير إلى القرآن لوضوحه أي فمن شاء تذكر به.
قوله: (أي اتخاذ السبيل) هو عبارة عن التقرب إلى الله تعالى والتوسل إليه بالطاعة.
قوله: (وقال : {لمن شاء منكم أن يستقيم}) أي يستقيم بالدخول في الإسلام.
تنبيه
إذا عرفت ما ذكرناه من تحقيق معاني الآي الكريمة فكلام المصنف مستقيم في قوله: والمراد ما يشاؤون الطاعة لأن جميع ما ذكر طاعة. وأما قوله: إلا وقد شاء الله فغير مستقيم لأن قوله تعالى: {إلا أن يشاء الله} شرط محقق، وأن دالة على اللاستقبال فلا يصح تفسيرها بقد. بل الأولى تفسير جار الله وهو أن المعنى وما يذكرون إلا أن يشاء الله أن يقسرهم على الذكر ويلجئهم إليه لعلمه أنهم لايؤمنون اختياراً وما يشاؤون اتخاذ السبيل وهو الطاعة إلا أن يشاء الله أن يقسرهم عليها وما يشاؤون الاستقامة يامن يشاؤها إلا بتوفيق الله ولطفه أو ما تشاؤنا أنتم يامن يشاؤها إلا بقسر الله وإلجائه.
قوله: (فهو إنما نفى فعل نفسه).
صوابه: مشيئة فعل نفسه.
قوله: (ويجوز أن يكون المراد إلا أن يشاء الله يكرههم).
هذا هو التفسير القوي الذي عول عليه أئمة التفسير وأما ما أشار إليه أولاً بقوله: قد قدمنا أنه لايقع إيمان إلى آخره، ومعناه: أن المراد ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله إلا وقد شاء الله إيمانهم والطبع التسليم، اولضوق المستقيم لايسعد إليه لعدم مطابقته السياق ونبوه عن الأذهان في هذا المساق.
قال جار الله: إلا أن يشاء الله مشيئة إكراه واضطرار ولكن أكثرهم يجهلون فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لايشعرون من حال قلوبهم عند نزول الآيات أو لكن أكثر المسلمين يجهلون أن هؤلاء لايؤمنون إلا أن يضطرهم فيطمعون في إيمانهم إذا جاءت الآية المقترحة.
قوله: (لما كانوا يقترحون).
أصل الاقتراح أن يسأله شيئاً من غير رؤية والمتعارف في استعماله معنى التعنت والله أعلم.
قوله: (ومنها قوله: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها}) إلى آخره.
اعلم أنه لاوجه لاحتجاجهم بهذه الآية فإنهم يوافقونا في أنه تعالى لايأمر بالقبيح وليست شعري ما أغفل الأصحاب عن مثل هذا فإنه كان الأولى ألا يوردوها في شبههم ولايلتقوا لهم بها احتجاجاً وقد وجه المصنف احتجاجهم بها بقوله: فأخبر أنه يستدرجهم بالفسق لإتمام مشيئته وهو توجيه غير واضح فالتحقيق أن الآية كما ينبغي منا الجواب عنها وردها إلى المحكم ... كذلك يتوجه ذلك عليهم لمخالفة ظاهرها ما نحن وهم متفقون عليه.
قوله: (وقيل أمرناهم بالطاعة) إلى آخره.
هذا ما ذهب إليه الأكثرون من كون التقدير أمرناهم بالطاعة وقد بالغ الزمخشري في رد هذا التفسير قال: لأن حذف ما لادليل عليه غير جائز فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه وذلك لن المأمور به إنما حذف لن فسقوا يدل عليه وله كلام مستفيض يقال أمرته فقام وأمرته فقرأ لايفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة ولو ذهبت تقدر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب، قال: ولا يلزم من هذا قولهم أمرته فعصاني أو فلم يمتثل أمري لأن ذلك مناف للأمر مناقض له فلا يكون ما مناقض الأمر مأمور به واختار أن التقدير أمرناهم بالفسق ففعلوا ويكون الأمر هنا مجازاً لأن حقيقته أن يقول لهم: افسقوا وهذا لايكون فنفى أن يكون مجازاً ووجهه أنه صب عليهم النعمة صباً فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات فكأنهم مأمورون بذلك لتسسبب إيلاء النعمة فيه وإن كان الغرض من تخويلهم إياها الشكر وعمل الخير والتمكن من الإحسان والبر.
ورد ما ذكره جار الله في منع تقدير الطاعة بأن الحذف يكون تارة لدلالة الموافق وتارة لدلالة الضد كقوله: {وله ما سكن} أي وما تحرك والفسق هنا ضد الطاعة فصح تقديرها وكما أن قوله فعصاني يدل على أن المقدر غير العصيان وكذا قوله: {ففسق} يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به. انتهى.
وقد قيل: إن أمرنا بمعنى كبرنا يقال: أمر الله القوم. أي كثرهم حكاه أبو حليم عن أبي زيد قال الواحدي: العرب تقول: أمر القوم إذا كثروا أو أمرهم الله إذا كثرهم. قيل: ومنه الحديث: (( خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة} أي كثيرة النتاج.
قوله: (أي جعلناهم أمراء).
رده الفارسي بأن أمارتهم لم تكن إلا لواحد بعد واحد والإهلاك في مدة واحدة. وأجيب بمنع تسليم أن الأمير الملك بل من يأمر ويؤتمر ولو سلم فقد يتوالى الفساد منهم فينزل العقاب بآخرهم، وقد فسرت قراءة التشديد بالتكبير كقراءة التخفيف وهو مستقيم.
قوله: (وإنما يستعمل بمعنى الأمر نحو: {فإنه نزله على قلبك بإذن الله}).
فيه نظر فإنه لايصح لغة فاستعماله بمعنى الأمر والمراد في الآية التي استشهد بها تيسير الله وتسهيله نص عليه جار الله وكذلك معنى الآيتين الأخروين فإن المعنى أنه أخرجهم من الظلمات إلى النور تيسير الله لذلك وتسهيله له بما ينتج من الألطاف ويبعثه من الدواعي. قال جار الله: مستعار من الأذن الذي هو تسهيل الحجاب وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله، أي بتسهيله بفعله للألطاف وهدايته إلى ذلك.
قوله: (كقوله: {فقل آذنتكم على سواء}).
هو هنا بمعنى الإعلام وفيه دليل على أن الأذن بمعنى العلم لأن آذن إذا كان بمعنى أعلم فآذن بمعنى علم لأن آذن مأخوذ منه وفرع عليه وكذلك آذنتنا في البيت وكان الأحسن والأصرح الاستشهاد بقوله تعالى: {فأذنوا بحرب من الله} أي فاعلموا أنه من أذن بالشيء إذا علم به.
قوله: (رب ثاو يمل منه الثواء).
أي رب ممقيم يمل منه الإقامة يقال: ثوى بالمكان أي أقام به يثوي ثواء وثوياً.
قوله: (وعلى هذا تحمل هذه الآية).
أما جار الله فأشار إلى أن المعنى بتيسير الله وتسهيله كما صرح به في غير هذه الآية لأنه قال بعد حكاية قوله تعالى: {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} ما لفظه: لأنه ربما أحدث الله عنده فعلاً من أفعاله وربما لم يحدث وقد نبه المصنف عليه آخراً بقوله على أن الضرر الحاصل عند السحر إلى آخره.
قوله: (لأنه تعالى نهى عنه بقوله: {وقيل اقعدوا}).
جعل الأمر بالقعود نهياً عن الخروج لأنه في معناه إذ لايمكن الجمع بينهما كالأمر بالحركة فإنه في حكم النهي عن السكون وقوله تعالى: {ما زادوكم إلا خبالاً} الخبال: الفساد والشر. وقوله تعالى: {ولأوضعوا خلالكم ولسعوا بينكم} بالنمائم وإفساد ذات البين.
قوله: (وبعد فلام كي لاتدخل على الأسماء).
فيه نظر لأن الأصل في اللام أنها حرف جلا لاتدخل إلا على الأسماء وإنما تدخل على الفعل وتسمى لام كي لكونها بمعناها بواسطة تقدير إن التي يصير بدخولها الفعل هي والفعل بمنزلة الإسم وقد بنى المصنف على أن لالام التي للعرض لاتكون إلا لام كي الداخلة على الفعل، وليس بمستقيم ما ذكره بل هذه اللام هي لام التعليل تدخل على الأسماء الجامدة والمشتقة وعلى الفعل بتقدير أن ليكون بمنزلة الإسم فتسمى حينئذ لام كي، وقد مثل النحاة دخولها على الإسم الجامد بقولهم: جئتك للسمن واللبن. وسموه مفعولاً له لكن لايجوز حذف اللام وتقديرها حيث يكون جامداً وقوله: فهي لام العاقبة ظاهرة تقضي بأنها ليست لام التعليل وكذلك في قوله تعالى: {ليكون لهم عدواً وحزنا} /453/ وليس كذلك فإنها هي لكن لما لم تدخل على ما هو العلة في الفعل والغرض فيه سماها من ليس له حظ وافر من البلاغة بهذا الإسم وظن أنها ليست بتلك اللام وما عرف أنها هي وإنما تجوز فيما يؤول الأمر إليه يجعله غرضاً وعلة من قبيل التشبيه وقد ذكر ذلك جار الله فقال: جعلهم لأعرافهم في الكفر وشدة شكائمهم فيه وأنه لايأتي منهم إلا أفعال أهل النار مخلوقين للنار دلالة على توغلهم في الموجبات وتمكنهم فيما يؤهلهم لدخول النار.
وقال رحمه الله في قوله تعالى: {ليكون لهم عدواً وحزناً} هي لام كي التي معناها التعليل كقوله: جئتك لتكرمني، سواء بسواء ولكن معنى التعليل فيها وارد على طريق المجاز دون الحقيقة لأنه لم يكن داعيهم إلى الالتقاط أن يكون لهم عدواً وحزناً ولكن المحبة والتبني غير أن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له ....... شبه بالداي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله.
قوله: (ومثل هذا الجواب في قوله تعالى: {إنما أملي لهم ليزدادوا إثما}).
معنى الإملاء تخليتهم وشأ،هم مستعار من أملى لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء وقيل هو إمهالهم وإطالة عمرهم. قال جار الله: لما كان في علم الله المحيط بكل شيء أنهم يزدادون إثماً فكان الإملاء وقع من أجله وبسببه على طريق المجاز.
قوله: (وقوله: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض}).
أي ابتلينا بعض الناس ببعض وذلك أن المشركين كانوا يقولون للمسلمين أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا أي أنعم عليهم بالتوفيق لإصابة الحق ولما يسعدهم عنده من دوننا ونحن المقدمون والرؤساء وهم العبيد والفقراء إنكاراً لأن يكونوا أمثالهم على الحق.... عليهم من بينهمب الخير ومعنى فتناهم ليقولوا ذلك خذلناهم فافتتنوا حتى كان افتتانهم سبباً لهذا القول لأنه لايقول مثل قولهم هذا إلا مخذول مفتون هكذا قرره جار الله.
قوله: (واعلم أن جميع ما ذكروه) إلى آخره.
يقال: إنهم لم يوردوه دليلاً على عدم الاختيار بل على إرادة الله للواقعات وعدم إرادته لما لم يقع فما معنى المعارضة بما ذكرته ويجاب بأن من قاعدتهم أن ما أراده الله فلا بد من وقوعه ولا اختيار للعبد في تركه فمذهبهم في الإرادة يقضي بنفي الاختيار من حيث لايمكن العبد ترك ما أراده الله ولافعل ما لم يرده.
قوله: (بإجماعها على قولها: {لامرد لأمر الله}).
يعني ولم يقتض ذلك أنه لايوجد واحد ممن رد أمر الله فلم يخالفه ولاترك ما أمر به بل المعلوم أن أكثر الناس كذلك ولقائل أن يقول: إن مراد الآية لامرد لأمر الله وهو ماي فعله فينا ويريده منا من أفعال نفسه كمرض وموت وفقر وعكس ذلك فإن هذا هو السابق إلى الأفهام دون الأمر الذي هو نوع من الكلام.
قوله: (وعلى قولها استغفر الله من جميع ما كره الله).
يعني وعلى مذهبكم أن الله لايكره المعاصي الواقعة لكن الأقرب أن دعوى الإجماع منا ومنهم على تلك الأقوال غير سليمة ولامسلمة.
قوله: (فجوابهم جوابنا).
ليس مراده أنهم إذا أجابوا على ما ذكرناه بجواب كان بعينه جواباً عما ذكروه فإنه لاتلاؤم بين الجوابين وإنما ينبغي أن يكون المراد فإذا تكلفوا الجواب عما ذكرناه وتأولوه فنحن نفعل مثل ذلك ونجيب عما ذكروه بتأويله.
قوله: (ولا يتم هذا إلا إذا قصدوا افعال نفسه).
يقال: بل تمامه مع قصدها وقصد أفعال غيره أظهر وآكد فإنه من كان شأنه أن كل ما شاءه من فعل نفسه وفعل غيره وقع ومالم يشأ من الجنسين لم يقع فاقتداره أظهر ممن لايكون ذلك إلا في حق فعله نفسه فإن الواحد منا هذه صفته ما شاء من مقدوراته وأفعاله كان بأن يفعله ومالم يشأ منها لم يكن إذ لايصدر إلا باختياره ولعل المصنف لمح إلى أن وقوع ما شاء من فعل غيره لايدل على كمالا الاقتدار /454/ فقد يشاء الواحد الضعيف فعلاً من السلطان القاهر فيفعله ولايدل ذلك على اقتداره وهذا صحيح لو قيل: فلان يشاء شيئاً من فعل غيره فيقع فإنه لادلالة في مثل هذا على الاقتدار، وأما قصر الوقوع على المشيئة والانتفاء على عدمها فمن أبلغ دلائل الاقتدار والله أعلم.
قوله: (وأما قولهم: إن شاء الله) إلى آخره.
أشار إلى جواب شبهة لهم حاصلها أن الإجماع منعقد على أن من علق شيئاً من طاعاته بمشيئة الله تعالى وحلف ليفعلنها نحو والله لأقضينك دينك إن شاء الله ولم يقضه لم يحنث ولو كان الله يشاء ذلك وقع أم لا لحيث لامحالة وحاصل ما أجاب به المصنف أن هذا الكلام لايراد به حقيقته وهو ما وضع له الشرط وإنما يؤتى به لقطع الكلام عن النفوذ كأنه قال: لأفعلن كذا إن استرجحت ذلك وابتعثت الدواعي مني إليه، وهذا الجواب محكي عن أبي علي وأنه لما أجاب به قيل له: فلو أراد حقيقة الشرط. قال: يحنث. قيل له: خرقت الإجماع. قال: لا لأن الإجماع ما انتهى إلى هذا الحد الذي انتهينا إليه، ولو انتهى إليه لأجابوا بما أجبت به.
وأجاب أبو عبدالله بأن المعنى لأفعلن إن وفق الله لذلك وسهل سبيلي إليه فإذا لم يفعل دل على أنه لم يوفق فلم يحنث، وأجيب أيضاً بمنع الإجماع فإن أكثر الزيدية على خلافه ولهذا قالوا: في قول الرجل لامرأته أنت طالب إن شاء الله ينظر فإن كان ممسكاً لها بالمعروف لم يقع لأن الطلاق حينئذ مباح ولايريده الله وإلا وقع لأنه واجب والله يريده.
فصل
ومن المتشابهات نوع يستدلون به على أن الله تعالى يمنع العباد مما أمرهم به لأجل أنه كرهه ولم يرده.
قوله: (من حيث يفعل في داخل القلب).
فيه نظر لأن الختم في الحقيقة نوع من التغطية كختم الكتاب الذي هو تغطية له لئلا يتوصل إلهي ولايطلع عليه ولعل المصنف لمح إلى ما روي في الحديث من أن الرجل إذا عصى نكت في قلبه نكتة سوداء.
قوله: (فلم يقل ختم على قلوبهم من الإيمان).
يقال: سياق الآية يقضي بذلك وإلا فما المراد.
قوله: (فلا يشتغلون بإيراد الخواطر والألطاف).
فيه نظر لأن الألطاف من فعل الله وليست موكولة إلى الملائكة والخواطر إنما هي في ابتداء التكليف ففي هذا التأويل تكلف.
قوله: (كما قال تعالى: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان}). حمل الكتابة على ظاهرها وأنها تجعل علامة كما قال في تفسير الختم والتحقيق أن المراد يكتب أثبت الإيمان فيها ووفقهم فيه وشرح له صدورهم.
قوله: (نكت في قلبه نكتة) أي نقط فيه نقطة.
قوله: (قال الشاعر: أسم عما ساءه سميع). هذا يضرب مثلاً لمن يتغافل عما يكره.
قوله: (ومثل هذا يقع الكلام في قوله: {وطبع على قلوبهم}).
الطبع في اللغة الرقم الذي لايزول عن محله بعد ثبوته ولهذا سمى الطابع طابعاً وهو آلة ترقم فيها نقش فإذا وضعت على ما فيه رطوبة انطبع فيه مثله وإذا وقع في الثوب شيء لايزول كالدهن قيل انطبع فيه بمعنى أنه لاينفصل وتأويله على ما ذكره المصنف وقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (( الطابع معلق بقائمة من قوائم العرش فإذا اتنهكت الحرمات واستحلت المحارم أرسل الله الطابع فطبع على القلوب بما فيها )) وفي حديث آخر: (( القلب مثل الكف المفتوحة كلما أذنب ذنباً انقبضت إصبع حتى تنقبض الأصابع كلها فينسد على القلب فذلك هو الطبع )) رواه الإمام يحيى في التصفية ولجار الله في كشافه كلام على الختم والطبع لاينبغي لمريد التحقيق فيهما عدم الإطلاع عليه والنظر إليه.
قوله: (وقد قال: {كذلك نسلكه في قلوب المجرمين}).
المعنى أنه يلقيه في قلوبهم مكذباً مستهزءاً به غير مقبول كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها، قلت: كذلك أنزلها باللئام يعني مثل هذا الإنزال أنزلها باللئام مردودة غير مقضية وهو من سلكت /455/ الخيط في الإبرة واسلكيه إذا أدخلته فيها ونظمته والضمير للذكر وهو القرآن.
قوله: (ولم يقل لئلا يفقهوه).
ظاهره أن المحذوف الذي ينبغي تقديره اللام قيل: إن ولا النافية بعدها والذي يقدره علماء العربية يضاف قبل أن فيقولون: ـقديره كراهة أن يفقهوه أو نحوه.
قوله: (وللآية معان صحيحة أصح مما ذكره).
تفسير جار الله أنه حكاية لما كانوا ليقولوا به {وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب} كأ،ه قال: وإذا قرأت القرآن جعلنا على زعمهم ومعنى كون الحجاب مستوراً أنه ذا ستر أو هو لايرى فهو مستور أو حجاب يستر أن يبصر فكيف يبصر المحتجب به.
قوله: (كما يقضي به سبب نزول هذه الآية).
يشير إلى ما ذكره الحاكم في تهذيبه من أن سبب نزولها أن قوماً كانوا يؤذون النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بالليل إذا تلا القرآن وصلى عند الكعبة يرمونه بالحجارة ويصدونه عن الدعاء إلى الإيمان فحال الله بينهم وبينه والأكنة الأغطية جمع كنان.
قوله: (وتقديره لأن يفقهوه) إلى آخره.
في هذا الوجه تعسف وتكلف والذوق لايلتفت إليه ولا يساعد عليه.
قوله: (فإن قيل كيف يكون الكن والوقر مفعولين للفهم). الكن في اللغة السترة والجمع أكنان وهي الأغطية والوقر الثقل في الأذن.
قوله: (والجواب المراد نقلب في الآخرة).
فيه نظر والظاهر أنه عطف على لايؤمنون تقديره: وما يشعركم أن هذه الآية التي اقترحوها وأقسموا أن جاءتهم ليؤمنون بها لعلها إذا جاءتهم لايؤمنون وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم وأبصارهم أي نطبع على قلوبهم وأبصارهم ولايفقهون ولايبصرون الحق كما كانوا عند نزول آياتنا أو لايؤمنون بها لكونهم مطبوعاً على قلوبهم وما يشعركم أنا نذرهم في طغيانهم أي نخليهم وشأنهم لانكفهم عن الطغيان حتى يعمهوا فيه، هذا ما ذكره جار الله.
وقد قيل: إن نقلب مستأنف وليس ببعيد.
قوله: (ولأنه جعله عقوبة لكونهم لم يؤمنوا).
يعني أن قوله: {كما لم يؤمنوا} تعليل للتغليب وليس كذلك فإن الكاف للتشبيه كما أشار إليه جار الله، وكما قال في المجيد أي لايؤمنون به إنما بآياتنا كما لم يؤمنوا به أول مرة.
قوله: (ويجوز أن يكون المراد يسلب الألطاف) إلى آخره.
هذا هو الوجه على قواعد الأصحاب وجاري عادتهم في التأويل.
قوله: (والجواب لم يقل: سأصرفهم عن فهمها).
أما جار الله فاعترف بما حملها الخصم عليه فقال: سأصرف عن آياتي بالطبع على قلوب المتكبرين وخذلانهم لايفكرون فيها ولايعبترون بها غفلة وانهماكاً فيما يشغلهم عنها من شهواتهم ثم قال: وقيل سأصرفهم عن إبطالها وإن اجتهدوا كما اجتهد فرعون أن يبطل آية موسى بأن جمع السحرة ويجوز سأصرفهم عنها وعن الطعن فيها والاستهانة بها وتسميتها سحراً بإهلاكهم وفيه إنذار للمخاطبين من عاقبة الذين يصرفون عن الآيات لتكبرهم وكفرهم بها لئلا يكونوا مثلهم.
قوله: (فهو على جهة الدعا).
يعني دعا عليهم بالخذلان وبصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان من الانشراح.
قوله: (وأيضاً فإنما أخبره بأنه يقدر على ذلك).
يقال: بل أخبر بأنه يفعله وأن من شأ،ه فعله فإنه لم يقل أن الله يقدر على أن يجعل.
قوله: (عبر بذلك عن الموت) هكذا فسره جار الله فقال: يعني أنه يميته فيفوته الفرصة التي هو واجدها وهو التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله ورده سليماً كما يريده الله فاغتنموا هذه الفرصة وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله.
قوله: (كما قال طرفة: فلولا ثلاث) إلى آخره.
هو طرفة بفتح الطاء والراء بن العبد الشاعر المشهور سمي بالواحد من /456/ الطرفا وهو شجر معروف، وأراد بقوله: وحدك الخط. وقيل: المعنى حده نسباً، ومعنى: لم أحفل لم أبل، والعود: جمع عائد من عيادة المريض وفي المتن عوادي، وهو وهم والثلاث قد صرح بها فيما بعد هذا البيت حيث قال:
فمنهن سبق العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكرى إذا نادى المضاف محنباً ... كسيد العصا تنبه المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معـ ... ــجب بتهكنه تحت الخباء المعمد
وقد ضمن الإمام ص بالله عليه السلام بيت طرفة هذا بعض أشعاره وقال بعد ذكر الثلاث:
فمنهن خلط الخيل بالخيل ضحوة ... على عجل والبيض بالبيض ترتدي
ومنهن نشر الدين في كل بلدة ... إذا لم يقم بالدين كل مبلد
ومنهن تطهير البلاد عن الخنا ... ورحض أديم الأرض عن كل مفسد
ثم قال عليه السلام بعد ذلك:
بذلك أوصاني أبي وبمثله ... أوصي بني أوحداً بعد أوحد
والغفل يستعمل في اللغة إلى آخره.
قال الجوهري: ويقال أرض غفل لا علم بها ولا أثر عمارة. وقال الكسائي: أرض غفل لم تمطر، ورجل غفل إذا لم يجرب الأمور وفي الأقداح ثلاثة غفل هو مما يوصف به الواحد والجمع والأقداح هي الأزلام المذكورة في القرآن وتسمى الأقلام، كان من عادة الجاهلية في القمار أن ينحروا جزوراً ويجعلونها ثمانية وعشرين جزءاً ويضربون عليها بعشرة قداح مكتوب في كل واحد اسمه وهي على هذا الترتيب: الفذ، والتوأم، والرقيب، والحلس، والنافس، والمسبل، والمعلى، والمنبح، والسفيح، والوغد. ويتساهم بها عرشة رجال فمن خرج له الفذ أخذ جزءاً ومن خرج له التوءم أخذ جزأين فهكذا حتى ينتهي إلى المعلى فيأخذ من خرج له سبعة أجزاء من الجزور وقد استكملت أجزاء الجزور ومن خرج له أحد السهام الباقية الغفل التي لايصيب لها وهي المنبح واثنان بعده، حمل ثلث ثمن الجزور فيحملها أهل الثلاثة الغفل ومن عادتهم أن يجعلوا الأسهم في خريطة على يدي عدل فيجلجلها ثم يخرجها واحداً واحداً باسم كل واحد منهم ويدفعوا ما حصل لهم من أجزاء الجزور إلى الفقراء ولايأكلاو منها شيئاً ويذموا من لم يدخل في هذا القمار ويسمونه البرم وهذا هو الميسر المذكور في القرآن قرن الله ذكر القمار بالخمر تفظيعاً لشأ،ه.
قوله: (وفي الشيء الذي لا سمة له).
قال الجوهري: وذاته غفل أي لاسمة عليها.
قوله: (في قوله: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان}).
قد تقدم أن المصنف بنى على أن المراد فيه ذه الآية الكتابة المعروفة وأن الذي ذكره المحققون أن المراد أثبت في قولبهم الإيمان كما يثبت الشيء المكتوب والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل
ومن المتشابهات نوع يستدلون به على أنه تعالى يحمل العباد على نواهيه ويوقعهم في معاصيه لأجل أنه أرادها.
قوله: (لأنه لاتأثير للشياطين في الإز).
يعني على قاعدتهم أن الأفعال كلها لله والإز والهز والاستقرار بمعنى ومعناها التهييج وشدة الإزعاج أي تغريهم على المعاصي وتهيجهم لها بالوساوس والتسويلات.
قوله: (هو التخلية والتسليط).
يعني بعدم المنع لهم عنهم ولو شاء الله لمنعهم قسراً.
قوله: (على جهة العقوبة والخذلان).
اعلم أن هذا كثيراً ما يتكرر في كلام الأصحاب أن الله سبحانه وتعالى يجعل الخذلان وهو سلب الألطاف وترك فعلها والتخلية عقوبة للعاصين وهو مناف لقواعدهم لأنه إن كان في المقدور لطف لهذا العاصي فمن قواعدهم إيجاب فعله على الله والمنع من /457/ تركه له لأنه عندهم إخلال بواجب وإ، لم يكن له لطف فلا معنى لكون سلب اللطف عقوبة لأن فعل اللطف حينئذ كتركه بل لايسمى لطفاً ما لايلتطف به فلا سلب وهذا واضح كما ترى وقد تكلف بعض المتأخرين الجواب عنه بأنه لامانع من أن يكون في معلوم الله أنه لولا العصيان المتقدم من هذا المخذول لكان يلتطف بهذا الفعل الذي سلبه فلما عصى تولد من معصيته عدم لطفته ما كان لطفاً له لو لم يعص فكان ترك فعله وسلبه إياه بسبب معصيته فعد ذلك عقوبة عليها وفيه تعسف كما ترى فإن العقوبة إ،زال الضرر بالعاصي على جهة الاستحقاق لأجل معصيته وليس الضرر الذي يناله بسبب فعل المعصية لا جزاء عليها بعد عقوبة كما لو قيل: من لايستحق القتل فوقع السلاح الذي قتله به في شيء من جسده أو ناله تعب بسبب القتل فإن ذلك لايعد عقوبة وإنما يتصور ما يذكرونه على لاقول بعدم وجوب اللطف وأن الله سبحانه سلبه إياه مع تأثيره لو فعله إياه عمن يعصيه عقوبة له ومكافأة على معصيته وليكن هذا على بال منك فإنه كثيراً ما يرد في كلام العدلية القائلين بوجوب اللطف وهو غير مستقيم على قواعدهم والله سبحانه أعلم.
قوله: (قالوا فدل على أنه قد أراد منهم الطغيان).
يقال: هذا خلاف ما أردت إيراده في الفصل هذا فإ،ك جعلته لما استدلوا به على أن الله يحمل على نواهيه ويوقع في معصايه لا على أنه يريد ذلك فموضعه الفصل الأول من فصول شبههم السمعية فكان الأولى أن يقال: فدل على أنه تعالى يحملهم على الطغيان ويوقعهم فيه.
قوله: (أن المد في الطغيان بالمعنى الذي ذهب إليه الخصوم غير معقول في اللغة).
فيه نظر بل هو المعقول الظاهر وقد اعترف به إمام العدلية وعالمها جار الله في تفسيره فقال: هو من مد الجيش وأمده إذا زاده فالحق به ما يقويه ويكثره وكذلك مد الدواة وأمدها زادها ما يصلحاه ومدة الشيطان في الغي وأمده إذا واصله بالوساوس حتى يتلاحق غيه ويزداد ... كافية.
قال: ويحمل على أن الله لما منعهم ألطافهم التي يمنحاه المؤمنين وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم تعنت قولبهم بتزايد الرين والظلمة فيها تزايد الإنشراح والنور في قلوب المؤمنين فسمي ذلك التزايد مدداً وأسند إلى الله سبحانه لنه مسبب عن فعله بهم بسبب كفرهم أو على أن يسند فعل الشيطان إلى الله تعالى لأنه بتمكينه وإقداره والتخلية بينه وبين إغواء عباده.
قوله: (وإنما المد هو الإنساء في الأجل).
أنكر هذا الزمخشري ورده وقال: إن الذي بمعنى الإمهال إنما هو مد له مع اللام كأملى له، وقال: فإن قلت ما حملهم على تفسير المد في الطغيان بالإمهال وموضوع اللغة لا يطاوع عليه. قلت: استجرهم على ذلك خوف الإقدام على أن يسندوا إلى الله ما أسند إلى الشياطين ولكن المعنى الصحيح ما طابقه اللفظ وشهد لصحته وإلا كان منه بمنزلة الأروى من النعام.
قوله: (كلام مستأنف أي في حال عمههم في الطغيان).
هذا كلام غير مستقيم فإن جعله مستأنفاً ينافي جعله حالاً فإن الحال متعلق بما قبله وقيد من قيوده ولامعنى للاستئناف ههنا وأما جعله حالاً فيستقيم على تفسير المد بالإمهال تقديره ويمهلهم حال عمههم في طغيانهم عمهين والعمه كالعمى إلا أن لاعمى يستعمل في البصر وي الرأي والعمه في الرأي فقط، وهو التحير والتردد أي يتحيرون ويترددون.
قوله: (ولولا هذا لوجب أن يكون قوله يعمهون جواباً ليدمهم فيكون مجزوماً /458/ والرفع دليل الاستئناف).
أقول: هذا كلام ما كان ينبغي أن يصدر عن مميز فضلاً عن مصنف إن الجزم لامعنى له نهياً ولاموجب على أي تفسير وعلى كل مذهب في المد فإن للجزم شروطاً ليست هنا يعرفها من له أدنى مسكة بالعربية وإنما يعمهون جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير نمدهم أو من ضمير طغيانهم لأنه مصدر مضاف إلى الفاعل وهو مرفوع اللفظ لتجرده عن الناصب والجازم ومثل هذا لايجهله عالم.
قوله: (لم يستعمل المرض بمعنى الشك في اللغة).
يعني حقيقة فإنما حقيقته الألم.
قوله: (والمريض شاكاً). يقال: هذا لايجب لأنا وإ، جعلنا من معاني المرض الشك فليس يلزم أن نجعل من معاني الشك المرض.
قولهك (وفي الغم مجازاً) وكذا في غير الغم من أعراض القلب كسوء الاعتقاد والغل والحسد والميل إلى المعاصي والعزم عليها واستشعار الهوى والجبن اولضعف وغير ذلك مما هو فساد وآفة شبيهة بالمرض، ذكره جار الله قال: والمرادب قوله: {في قلوبهم مرض} ما في قلوبهم من سوء الاعتقاد والكفر أو من الغل والحسد والبغضاء وزيادة الله إياهم مرضاً أنه كلما أ،زل على رسوله الوحي فسمعوه كفروا به فازدادوا كفراً إلى كفرهم فكأن الله الذي زادهم ما ازدادوه إسناداً للفعل إلى المسبب له.
قوله: (والفاء كما يرد) إلى آخره.
كلام لا بأس به لكن المفهوم من سياق الآية المعنى الأول يعرف ذلك بالذوق فإن المداد بالقرناء أخدانهم من الشياطين فلا يتصور أن يقبضوا لهم لعكس تزيين معاصيهم إذ ليسوا مظنة لعكس تزيين المعاصي ولايمكن من طلبهم من الكافر ذلك ولا أن يكون المراد مجرد الإخبار وإلا فما الغرض من ذكر تقييض القرناء.
قال الجوهري: يقال قيض الله فلاناً لفلان أي جاءه به وأتاحه له ومنه قوله سبحانه: {وقيضنا لهم قرناء}.
قوله: (والمعنى سنهلكهم).
قال جار الله: الاستدراج استفعال من الدرجة بمعنى الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة والمعنى سنستدرجهم قليلاً قليلاً إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم من حيث لايعلمون ما يراد بهم وهذا التفسير هو وجه تمسكهم بههذ الآية فإن ظاهره يطابق مذهبهم لكنهم بنوه على الحقيقة والظاهر منه. والزمخشري بناه على المجاز وهو أن الاستدراج أريد به أن واتر الله عليهم نعمه مع انهماكهم في الغي فكلما جدد عليهم نعمة ازدادوا بطراً وجددوا معصية فيتدرجون في المعاصي بسبب ترادف النعم ظانين أن مواترة النعم أثرة من الله وتقريب وإنما هو خذلان منه وتبعيد فهذا استدراج الله نعوذ بالله منه.
قوله: (يقال درج فلان صبياً).
أي هلك ودرج الناس قرناً بعد قرن. وقال الجوهري: درج الرجل بمعنى مضى لسبيله ودرج بنو فلان أي انقرضوا وفي الكشاف: درج القوم بعضهم في إثر بعض.
قوله: (وقال الأعشى مهدداً).
أورده الزمخشري شاهداً على المعنى الذي ذكره وهو أنه بمعنى الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة ليستدرجنك إلى آخره وهو أصح ودليله ما قبله وهو:
فلو كنت في جب ثمانين قامة ... ورقيت أسباب السماء تسلم
فقوله: ليستدرجنك القول جمع فيه بين الاستصعاد من الجب والاستنزال من السماء. ورواية الكشاف للبيت الثاني:
ليستدرجنك القول حتى تهره ... ويعلم أني عنكم غير مفحم
وتهره بفتح الهاء وكسر الهاء من هره يهره بمعنى كرهه وليس بالزاي.
قولهك (من أن المراد ازدادوا عندها).
أي ازدادوا كفراً لن الرجس هنا الكفر. قال جار الله: المعنى فزادتهم كفراً مضموماً إلى كفرهم لأنهم كلما جددوا /459/ بتجديد الله الوحي كفراً ونفاقاً ازداد كفرهم واستحكم وتضاعف عقابهم.
وافق الفراغ من زبره بين صلاتي العصرين من يوم الأربعاس لتسع ليال خلون من شهر ربيع الآخر عام أربع وتسعين وثماني مائة هجرية.
وذلك على يد أفقر عباد الله إلى عفوه ورحمته المفتقر إلى كرم العفو الصمد عبد القادر بن محمد عفا الله عنه وسامحه بمنه وكرمه.
ويتلوه في الجزء الثاني القول في الاستطاعة، نسأل الله الإعانة على التمام، وأن يبلغنا في الصالحات قصارى السؤل والمرام والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الكرام.
السفر الثاني من كتاب المعراج إلى كشف أسرار المنهاج القاطع بأمواس الحجاج أمراس اللجاج الكافل لطالب علم الكلام بقضاء كل حاج
الجزء الثاني
تأليف الإمام عز الدين بن الحسن
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين والحمدلله وصلواته على سيدي محمد وآله وسلامه.
القول في الاستطاعة
اعلم أن هذا الباب موضعه علم اللطيف لأنه في ذكر معنى نوع من المعاني وهو القدرة وذكر بعض أحاكمها لكن لما كان الكلام فيه حسبما يذكره ينبني عليه صحة مذهب العدلية وفساد مذهب الجبرية ذكر في باب العدل من هذا الفن لأن من العدل أن الله تعالى ليس الفاعل لأفعال العباد ومنه أنه تعالى لايكلف ما لايطاق وذلك كله ينبني على أن القدرة متقدمة غير موجبة وأنها صالحة للضدين.
قوله: (بما يتوصل إليه بمشقة).
كان الأولى أن يقول: بما يتعلق من القدرة بالفعل الذي يلحق المشقة بإيجاده لأن هذا الوصف يفيد إعمال محل القدرة في الفعل وثبوت المشقة فيه.
فصل
قوله: (المقصود في هذا الباب) إلى آخره.
يقال: ظاهره حصر الغرض من هذا الباب على ما ذكره، والغرض المقصود في الحقيقة تقرير ما تقدم من كون أفعال العباد منهم لأن القول بإيجاب القدرة يقضي بأنها من الله تعالى إذ فاعل السبب فاعل المسبب ولهذا فإن عادة أكثر المصنفي أن يلحقوا هذه المسألة بمسألة خلق الأفعال ويجعلوها كالتتمة لها ولكن الذي ذكره المصنف يؤول إلى هذا.
قوله: (وخالفت المجبرة).
تحقيق خلافهم أن أكثرهم يذهبون إلى أنها توجب حال وجودها مطلقاً وهؤلاء هم القائلون بمقارنتها ومتأخروهم كالجويني والغزالي والرازي ذهبوا إلى أنها إنما توجب بشرط وجود الداعي فلا يوجبون مقارنتها إذ قد يتأخر الداعي عنها.
وقيل: بل يقولون بإيجابها عند الشهوة والغضب فإما أن لم يكن شيء من ذلك فلا يوجب، وإلى القول بإيجابها ذهبت الفلاسفة شاهداً وغائباً، والمختار عندهم كالموجب في اعتبار مقارنة الأثر للمؤثر وإيجابه لايفترقان إلا في الشعور لأن المختار يشعر بما يؤثر فيه دون الموجب.
قوله: (لأنه لاجهة لها بخلاف الاعتماد).
يشير إلى أن إيجاب الاعتماد لمسببه في غير محله كما إذا رميت بحجر فدفع حجر الآخر هو لكونه يختص بالجهة لأن الاعتماد لابد أن تكون في إحدى الجهات الست، ولهذا المعنى تقرير يتعلق باللطيف.
قوله: (وإما أن يكون إيجاب العلل).
قد قيل: إن المجبرة تجعل إيجابها كإيجاب العلل للصفات الصادرة عنها وشبهوه بذلك وبإيجاب الإرادة وتأثيرها فيو جوب الأفعال.
قوله: (والقدرة مشروطة بالبنية والحياة) إلى آخره.
يعني ومعلوم أن كثيراً من مقدورات القدر غير مشروطة بذلك كالأكوان والاعتمادات لكنه يقال: إنما وجب ما ذكر به لكون معلوله العلة يتوقف عليها وهي تتوقف على شرطها فيلزم توقف معلولها عليه والحاصل توقف وجود مقدور القدرة كالكون وغيره على البنية والحياة وذلك ملتزم بمعنى أنه لايحصل هذا الكون المعين الذي هو من مقدورات قدرة زيد مثلاً إلا مع كون زيد حياً مبنياً بنية مخصوصة وأما أنه يلزم ألا يوجد ذلك الكون إلا في محل مبنى بنية مخصوصة فغير لازم دائماً لزوم ذلك في العالمية لأنها صفة تجمل لجملة ولايكون حمله إلا مع الحياة والبنية مع أن العالمية تثبت للجملة كلها وليس كلها مبنياً بنية القلب التي هي شرط في العلم.
قوله: (ولولا هذا لصح حصول العلة مع استحالة المعلول).
فيه نظر لأن ذلك إنما يلزم من القول بأن للمعلول شرطاً غير شرط العلة لامن القول بأنه لايشترط فيه ما يشترط في العلة فهذا الكلام إنما يورد حجة على القول بأن المعلول لايقف على شرط منفصل ولكن المصنف وهم.
قوله: (فكان يلزم مثله في قدرة الباري).
يعني فيلزم قدم العالم إن كانت قديمة أو القول بحدوثها /3/ وهذا الإلزام ينبني على مذهبهم في إثبات القدرة معنى في حق الباري.
قوله: (ونحو ذلك). يعني كإيجاب الصفة.
قوله: (بحسب أحواله) يريد القصد والداعي والكراهة والصارف.
فصل وأما الركن الثاني
قوله: (فقد ذهب أهل العدل إلى أنها متعلقة بالضدين).
تحقيقه أن أصحابنا يذهبون إلى أنها تتعلق من الأضداد في الوقت الواحد بما لايتناهى والمراد جنس الد وفيما له ضد فيصح أن يفعل القادر بقدرة في هذا الوقت المعين كوناً في هذه الجهة وفي هذه وفي هذه وهكذا سائر الجهات ولايقع منه إلا على البدل لا على الجمع وأما الضد الحقيقي فقد يتعلق القدرة به مع ضده على البدل أيضاً، وقد روي عن الشيخين القول بأن لاسهو ضد للعلم، ولايقدر عليه وهذا يخالف قاعدتهم في أن القدرة تتعلق بالضدين، وقد وافقهما أبو عبدالله في قول له. وقال مرة: إنا نقدر عليه. وأما على قاعدة الجمهور من كون السهو ليس بمعنى فإطلاقهم سليم عن النقض.
قوله: (وقال ابن الروندي) إلى آخره.
هذا مذهب بعض متأخرين المبجرة وقواه ابن الراوندي وعيسى الوراق وحكي أيضاً عن أبي حنيفة واستبعد ابن متويه ذلك عنه.
قوله: (نحن نعلم بالضرورة) إلى آخره.
فيه نظر لأنه لامعنى لكون هذا دليلاً ولو علم ضرورة لاستغني عن الاستدلال وقد ادعى الشيخ محمود أيضاً الضرورة في تقدم القدرة لمقدورها بل ادعى أنه حاصل للمراهقين والبهائم. ونقل عن أبي الهذيل ما يقضي بذلك وهو أنه قال: حمار بشر أعقل منه فإنه إذا حمله على طفر جدول فإن كان ضيقاً ظفره وأن كان واسعاً امتنع منه فيعرف قبل محاولة الفعل ما يقدر عليه وما لايقدر.
قال مولانا عليه السلام: ولايعزب أن دعوى الضرورة في هذه الأحكام من قبيل الأوهام لن القدرة لاتعلم ضرورة فكيف يحكمها، ودعوى المصنف أن الكلام يعلم على الجملة ضرورة لايفيد فإن كلامنا في إثبات هذه الأحكام على سبيل التفصيل.
قوله: (يصح أن يوجدها الله في أحدنا وهو في المكان الأيسر).
وذلك أنه لاشيء يحيل ذلك فإن القدرة مما يختص القديم تعالى بالقدرة عليه ولاتلحقه في صفة ذاته بغير ولامانع عن إيجادها وهو بالمكان الأيسر ولامحيل له ولاضد لها فيقال أنه ممتنع وجودها حينئذ لوجوده.
قوله: (وهو المطلوب). وذلك لأن الحركتين في المكانين ضدان.
قوله: (وفي ذلك خروجها عما هي عليه). يعني صفتها المقتضاة.
قوله: (وإما أن تتعلق بالحركة في المكان الأيسر) لن انتقال محلها اقتضى حينئذ اختلاف تعلقها.
وأما إذا قيل: بأيها تتعلق؟ قيل: أنها تتعلق بالحركة في المكان الأيسر لأن انتقال محلها اقتضى حينئذ اختلاف تعلقها، وأما إذا قيل بأنها تتعلق بالحركة في المكان الأيمن فلا اختلاف لكن يلزمهم عليه عدم المقارنة لمقدورها لتعذر المقارنة حينئذ.
قوله: (فكيف يعترض) إلى آخره.
هذا مستقيم إلا إذا كان الدليل مثبتاً على تسليم مذهب الخصم فاعتراضه عليه حينذ بنفس مذهبه صحيح.
قوله: (دليل لو لم يكن أحدنا قادراً على الضدين).. إلى آخره.
اعلم أن المصنف خرج في هذا الاستدلال إلى معنى آخر غير ما كان فيه فإن أدلته الأولى واردة على مذهبه في كون القدرة متعلقة بالضدين وهو الذي جعل هذا الباب باباً له واستدلاله هذا رجوع إلى مسألة أخرى وهو أن القادر يصح أن يكون قادراً على الضدين إما بقدرة واحدة أو قدرتين، ولعل الخلاف في المسألتين واحد.
قوله: (وقد يكون لاختلاف المتعلق) إلى آخره.
هذا وهم من المصنف فإن اختلاف المتعلق ليس هو المؤثر في اختلاف العلمين وإنما اختلفا لما هما عليه كما في القدرة والعلم إذ الاختلاف من أحكام الصفة الذاتية مطلقاً لكن اختلاف المتعلق كاشف عن اختلافهما ودليل عليه وقد ذكر ابن متويه كلاماً في هذا المعنى حاصله أن الاختلاف قد يكون لمجرد اختلاف الصفتين كالقادرية والعالمية فلا يختلف بالموصوفين وقد تختلف باختلاف ما يوجبه ككونه عالماً بمعلومين لا أنه يرجع الاختلاف إلى مجرد الصفة فلهذا صح في الله أن يكون عالما /4/ بالأشياء كلها على التفصيل وله بكونه عالماً صفة واحدة ولايعلم اختلاف صفتي الواحد منا بكونه عالماً بمعلومين إلا بعد العلم بالمعنيين الموجبتين لهما وأنهما إذا تغايرا أو اختلفا اختلفت الصفتان الموجبتان عنهما.
فصل وأما الركن الثالث
قوله: (فإنما وجب تعلقها بالضدين لكي يصح) إلى آخره.
فيه نظر لأنه يقتضي تعليل تعلقها بالضدين بذلك وليس كذلك فإن تفاصيل التعلقات يعلم بأدلتها الواضحات ولايعلل بمثل هذه التعليلات.
قوله: (أو يكون في حكم المقارن).
يعني بأن يقارن أول حرمته كإرادة كون الكلام خبراً فإن مقارنتها لأول حرف منه كاف.
قوله: (وكما يجب تقدمه يجب أيضاً مقارنته). أما وجوب المقارنة فلكونه مؤثراً في وقوع الفعل على وجه كما في الإرادة، وأما وجوب التقدم فلكونه مؤثراً على سبيل الجواز كالقدرة إذ لايجب من العالم بالكتابة إيجادها محكمة بخلاف الإرادة فإنها تؤثر على سبيل الإيجاب إذ لايصح إرادة كون الكلام خبراً مع إيجاده غير خبر وخالف بعض المتأخرين في ذلك وذهب إلى أن الإرادة غير موجبة وأن سبب ما ذكر مقارنتها للداعي ومع حصوله والإمكان نفع الفعل على ذلك الوجه لامحالة.
قوله: (فهو مضمن بضده بدلاً منه).
وذلك كالجوهر فإنه لما كان مضمناً بالحركة كان مضمناً بالسكون.
قوله: (لما احتاج الفعل إلى الآلة ولا إلى العلم إذا كان محكماً ولا إلى الإرادة).
يقال: أما الآلة فالإلزام فيها مستقيم لأنه يحتاج إليها في وجود الفعل وأما العلم والإرادة فلا يستقيم لن إيجاد الفعل لايتوقف عليهما واقفعة على حصول الآلة مشروطة به فلا يرد عليهم شيء مما ذكر.
قوله: (لاستحالة انفكاك أحدهما عن الآخر).
يعني فيفارقان بذلك السبب المقارن والمسبب لأنه يمكن انفكاك المسبب عنه بعدم شرط أو وجود مانع وهم لايقولون بذلك في القدرة والمقدور ولاترد العلة ومعلولها لأن العلة بالتأثير أولى لأنها ذات والمعلول صفة أو حكم ولهم أن يقولوا ليس الاقتران وعدم الانفكاك يقتضيان عدم تميز المؤثر عن الأثر ألا ترى أن كثيراً من المقتضيات لاتنفك عن مقتضاها ولايقضي ذلك بعدم التميز ونحن نعلم أنه لايصح كون الحركة مثلاً موجبة للقدرة إذن للزم أن نوجبها للجماد وكذلك الاعتماد وغير الاعتماد فيتأمل.
قوله: (إلا إلى ضد أو ما يجري مجراه).
يعني إلى ضد وهو العجز إن ثبت، يعني على ما يقوله بعض الشيوخ، أو ما يجري مجرى الضد وهو ضد ما تحتاج القدرة إليه كتفريق البنية التي تحتاج إليها القدرة وتتوقف عليها.
قوله: (فيجب استمرار قدرة الباري تعالى).
أراد قادريته وإذا ثبت استمرار الصفة فهو دليل على استمرار ما يؤثر فيها في بعض المواضع وبقائه، فإن هذه قاعدة مطردة منعكسة أن كل صفة تستمر ولاتتجدد فالعلة التي تؤثر فيها كذلك وبالعكس والله أعلم.
قوله: (فإذا طولب أحدنا برد الوديعة) إلى آخره.
حاصل هذا الدليل أنه لو لم يكن قادراً حال الأمر لم تحسن مطالبته ولو لم تكن قدرته باقية من حال الأمر إلى الوقت الذي كان يمكنه فيه قطع تلك المسافة لم يحسن ذمه وقوي هذا الدليل ابن متويه لايقال إنما حسن ذمه لأنه لم يقطع أقرب الأماكن إليه لأنه لو انتقل إلى أقربها إليه حصلت له قدرة على المتأولة لأنا نقول: إنما ذمه العقلاء على أنه لم يرد الوديعة لا على ما ذكر، ولو كان الذم لأجله كان موجهاً إليه.
قوله: (ولانتقلت علينا في العلم بالكتابة) إلى آخره.
هذا إشارة إلى سؤال يرد على هذا الدليل هو .... ما أوردوه وهو المعارضة بالعلم وتقريره أن أحدنا إذا أمر بالكتابة فلم يفعل ومضى من الوقت ما لو فعلها فيه لوسعها فإنه يحسن ذمه على ترك ذلك وهي تفتقر إلى العلم فيجب أن يحكم ببقاء العلوم إذ لو لم يكن عالماً حال الأمر لما حسن أمره ولولا بقاء علمه إلى مضي /5/ الوقت الذي يمكنه فيه الكتابة لما حسن ذمه وأنتم لاتقولون بذلك.
قوله: (سواء كان أحدنا في المكان الأول أو العاشر).
يعني لأن تأثي العلم تأثير الشروط فمتجدده كباقيه ويقوم بعضه مقام بعض بخلاف القدرة فمتجددها ليس كباقيها لأن الباقية منها مقدوراتها واحدة وأما إذا تجددت فللقدرة المتجددة الحادثة مقدورات غير مقدورات الأولى.
قوله: (فإن تأثيرها هو تأثير حقيقي).
يعني فمتى أمر أحدنا بالفعل في المكان العاشر وهو في المكان الأل فهو مأمور بما هو غير قادر عليه على القول بأنها لاتبقى إذ الخصم يزعم أن أحدنا وهو في المكان الأول غير قادر على الكون في العاشر والفرق واضح ومعنى كون تأثيرها حقيقياً أنه تأثير في الإيجاد وهو تأثير الفاعلوتأثير العلم في الأحكام وهو غير حقيقي لأنه تأثير شرط وإلا فالتأثير فيه على التحقيق للقادرية.
قوله: (فصرح بأن الذي يقدر على الصوم ولايفعله عليه فدية).
هكذا كان الأمر في بدء الإسلام فرض عليهم الصوم ولم يكونوا قد تعودوه فشق عليهم ذلك فرخص الله لهم في الإفطار والفدية والأولى أن معنى يطيقونه هنا أنه لايضرهم ولايتعذر عليهم ويعضده أن لاصيام ليس أمراً ثبوتياً بل معناه عدم الأكل والشرب والنكاح والإمساك عن المفطرات والقدرة لاتتعلق إلا بفعل.
قوله: (وهذه مباهته).
هي مفاعلة من البهت فقال: بهته بهْتاً وبهَتاً وبهتاناً أي قال عليه مالم يفعله ولامعنى للمفاعلة هنا وإنما أراد المبالغة والمقصود معنى البهت.
فصل
قوله: (إذا ثبت وجوب تقدم القدرة) إلى آخره.
هذا الفصل فرع لما قبله لأنه لما ثبت أن القدرة متقدمة أراد أن يبين قدر تقدمها وحال المقدورات في ذلك يختلف بحسب اختلاف وجوهها وهي تنقسم إلى مبتدأ ومتولد فالمبتدأ كالإرادة يجب تقدم القدرة عليه بوقت بمعنى أنها توجب في الوقت الأول وفيه يصح الفعل بها ثم يوجد بها الفعل في الوقت الثاني، وقيل: بل توجد في الوقت الأول ويصح بها الفعل في الوقت الثاني ثم يوجد بها الفعل في الوقت الثالث ذكره في شرح النفحات للفقهي حميد، وأما المتولد فهو ينقسم إلى متراخ وغير متراخ بالذي لايتراخى كالتأليف والألم حكمه حكم المبتدأ لأن وقته وقت سببه والمتراخي كالإصابة مع الرمي إن كان سببه مبتدأ وجب تقدم القدرة على سببه بوقت وسببه يتقدم عليه بوقت فتتقدم القدر عليه بوقتين ثم إذا كان ذلك المسبب سبباً تقدمت القدرة على مسببه بثلاثة أوقات وعلى هذا فقس.
قوله: (مع الوقتين المذكورين).
يعني وقت وجود السبب والوقت المتقدم على وجوده.
تنبيه
اعلم أن كلام المتكلمين قاض بأنه لايصح تقدم القدرة على مقدورها إلا بما ذكر فما لم يوجد من المبتدأ والمسبب غير المتراخي في الوقت الثاني من وجودها فقد مضى وقت وجوده وخرج عن كونه مقدوراً وتعذر وجوده بمضي وقته فمقدور القدرة ليس له إلا وقت معين إن وجد فيه وإلا فقد خرج عن كونه مقدوراً ويلزم عليه أن كل قدرة توجد فلا يتهيأ بها فعل شيء من المبتدآت والمسببات الغير المتراخية إلا في الوقت الثاني من وجودها ولا المتراخية إلا في الوقت الثالث ونحوه فإذا لم يفعل بها شيء في هذين الوقتين مما ذكر فقد صار وجودها وبقاؤها كعدمها ولم يبق لها تأثير ولا للقادر بها انتفاع وأن فعل في الوقت الثاني مبتدأ واحداً شغل به ذلك الوقت فلا تأثير لها في غيره وإنما تحتاج إلى قدرة توجد فيه من بعد وفي هذا من البعد ما لايخفى وقد احترز المصنف رحمه الله عن ذلك بقوله: (أولاً فإنما يجب تقدم القدرة عليه بوقت واحد) ولم يقل كقولهم لايصح تقدم القدرة عليه إلا بوقت واحد ثم نبه عليه بما ذكره حيث قال: وهل يجوز تقدمها على المبتدأ بأكثر من وقت واحد إلى آخره.
وقد جرد الكلام في ذلك بما لامزيد عليه والله ولي التوفيق.
فصل في ذكر بعض ما يلزمهم
قوله: (متى يقدر أحدنا على /6/ الانتقال من الشمس) إلى آخره.
يقال عليه: توجد القدرة عليه حال مصيره في الظل في المحترك فإن الحركة توجد فيه حال مسيره في الجهة الثانية التي انتقل إليها، ولايقال: قد استغنى عن الحركة وبالجملة فالقدرة على القول بإيجابها كالحركة في إيجاب الانتقال والحق أن الحركة والمصير في الجهة الثانية يقعان في وقت واحد فكذلك يقول الخصم في القدرة على الانتقال إلى الظل والانتقال إليه يقعان كذلك في وقت واحد.
قوله: (هل يقدر على ذلك مثل وقوع الطلاق والعتق أو بعده). يقال: بل حاله.
قوله: (شاطي دجلة) دجلة بكسر الدال المهملة وسكون الجيم نهر بغداد.
قوله: (أليس لايقدر جبريل على حملها) يعني على قاعدتكم لأن قدرته علىحملها وجدت فيه لوجب وقوعه منه.
قوله: (أقدر على قتلها وهو حي) إلى آخره.
يقال: قدر على ذلك حال القتل وهو تفريقه لبنية نفسه وهو حينذ حي وليس فيه دلالة على ما نقوله من تقدم القدرة.
قوله: (ولو قدروا عليه لكانوا أكفر خلق الله وأظلمهم).
كان الأولى أن يقول: لكانوا كفرة وعصاة أو يقول: أولاً أليس الأنبياء والملائكة ما تركوا أن يكونوا أكفر خلق الله وأظلمهم رجاء لثواب الله وهكذا في قوله: فكانوا أفضل خلق الله وأتقاهم.
قوله: (فيقال مامعنى قوله تعالى: {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم}).
كان الأحسن أن يقول: فينبغي أن ينفعهم ذلك ويفوزوا به لقوله تعالى: {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم}.
فصل في مناظرات جرت في هذا الباب
قوله: (فقال مجبر).
هذا بكسر قولنا في الاستطاعة كسره لقولهم غير واضح إلا أن يكون من جهة أنه أمرهم ولو كانت القدرة موجبة لم يكن لهم اختيار فلا معنى للأمر.
قوله: (قال .....). هذا القائل لاحظ له في الإسلام.
قوله: (فخذ تلك الصعوة) قيل: هي عصفور أصفر والناسق من الطيور التي تقبل التعليم ويصطاد بها وهو أكبر من الصقر بقليل.
قوله: (قد فعل ذلك بهم) أي العذاب.
فصل في شبههم
اعلم أنها على ثلاثة أضرب).
ضرب استدلوا به على أن القدرة موجبة وضرب استدلوا به على أنها غير صالحة للضدين وضرب استدلوا به على أنها مقارنة، وقد رتبت شبههم العقلية على هذا الترتيب، وأما ما استدلوا به من السمع في آخر شبههم فهو يصلح متمسكاً لهم في إيجابها في مقارنتها لأن حاصلة الأخبار بعدم حصول الفعل لعدم حصول القدرة وذلك عندهم يدل على أنها لو وجدت لوجد فتوجبه وتقترن بها أما الشبهة الأولى ففيها ركة وليست جديرة بأن تسطر ولاتصدر.
قوله: (القادر واختياره).
يعني ويكون المخصص إرادته.
قوله: (توضيحه أن ذلك المعنى المقدر) إلى آخره.
يقال: ليس في هذا ما يمنع ما أورده الخصم بل هو تأكيد لكلامه لأنه أراد أن يلزم ما هو غير صحيح ولايلتزم.
قوله: (وأيضاً فكان يكون تعلق الإرادة بالمرادات واجباً) إلى آخره.
فيه نظر من وجهين أحدهما أنه لايناسب ما تقدم، ولايصلح وجهاً في الرد لشبهتهم وما تبعها من سؤالاتهم المقدرة. الثاني: أن تعلق الإرادة بالمراد من الأمور الواجبة لأنه حكم صادر عن صفتها المقتضاة والحكم بوجوب التعلق لايقتضي وجوب المتعلق فلا يلزم ما ذكره وليتأمل.
وله كالحال في سائر الموانع يعني كالقيد المانع للقادر على المشي عنه والمطيق عليه في نحو .... بحيث لايتمكن من الاحتراك إلى جهة من الجهات.
قوله: (لأن مع تغاير المتعلق يزول التضاد).
وذلك لأن تضاد الجنس الواحد مما يتعلق لايكون إلا مع اتحاد المتعلق وانعكاس التعلق كاعتقاد أن زيداً في الدار واعتقاد أنه ليس فيها وأما إذا تغاير المتعلق فلا تضاد ويقضي بالاختلاف كاعتقاد أن زيداً في الدار واعتقاد أن عمراً في المسجد فإن اتحد المتعلق ولم ينعكس التعلق فإنه يقضي بالتماثل كاعتقادين يتعلقان بكون زيد في الدار.
قوله: (اتحاد المتعلق فيما يتعلق).
يعني مع تعاكس التعلق كما سبق.
قوله: (لو تعلقت بالضدين لانقطعت /7/ الرغبة عن الله تعالى).
جعل هذه الشبهة في الشرح مما يقضي بالمقارنة فقال واحد ما يتعلقون به أن القول بتقدم القدرة لمقدورها يوجب انقطاع الرغبات عن الله تعالى أرادوا أنها إذا كانت متقدمة وباقية انقطعت الرغبة في أن يفوتنا على ما كلفنا إذ لاحاجة لنا إليها لوجودها من قبل وبقائها، وهذا بسبب ما ذكره المصنف من أن صلاحيتها للضدين يوجب انقطاع الرغبة إذ لاوجه يعقل لإيجاب الصلاحية لذلك، وأما جوابه فحسن ومما أجيب به أن من العدلية من لايقول ببقاء القدرة فتكون الرغبة في تجديدها حالاص بعد حال كما يقوله أبو القاسم وأصحابه البغدادية.
قوله: (لأن ألا يفعل عندنا جهة كافية في استحقاق المدح والذم).
يعني فمع فرض خلوه عن فعل الشيء وضده لايلزم خلوه عن الطاعة والمعصية لأنه بعدم فعله للطاعة عاص، وبسبب عدم فعله للمعصية مطيع كما لو فعل طاعة ومعصية.
قوله: (فهو يجيزه عند حصول مانع).
مثاله ما تقدم من المطبق عليه في تنور فإنه صار ممنوعاً عن الحركة وذلك ظاهر وعنده إنما منع من الشيء منع من ضده فلا يفعل السكون فصار حينئذ خالياً عن الأخذ والترك.
قوله: (فقد خالف حاله حال المجبرة).
يعني في قولهم لايجوز الخلو عن الأخذ والترك لأنهم لايجيزونه بحال.
قوله: (وعند سلامة الحال لابد من كونه فاعلاً عند أبي علي).
يعني ولا فرق حينئذ بين قوله وقولهم لكنه يمكن الفرق بأنه يجيز ذلك بل يوجبه حال وجود القدرة لأنه يوجب تقدمها وهم يوجبون عدم الخلو في أول أوقات وجودها وبأنه يقول بعدم خلوه عن الأخذ والترك من غير تعيين لأحدهما وهم يقضون بالتعيين لأن القدرة لاتصلح للضدين عندهم وبأنه يجيز الخلو في المتولدات ولم يذهب إلى ذلك إلا في المبتدأ وهم يطلقون ولايفرقون.
وقد حكى ابن متويه عن الجاحظ جواز خلو القادر بقدرة عن الأخذ والترك إذا كان ساهياً ومنع من ذلك في العالم.
قوله: (لكن قد حصلت الدواعي والوصارف على أبلغ الوجوه).
يعني لن من لازم التكليف بالطاعة وترك المعصية تعلق الشهوة بالمعصية والنفرة بالطاعة فيكون ذلك داعياً إلى المعصية وصارفاً عن الطاعة والعلم بما يحصل في الطاعة من الثنا والثواب وفي المعصية من الذم والعذاب داع إلى الطاعة وصارف عن المعصية فتتعارض الدواعي والوصارف ويختلف المكلفون في رجحان ما ترجح منها فمن رجحت دواعيه إلى الطاعة آثرها، ومن رجحت دواعيه إلى المعصية آثرها، ولايمكن الخلو مع حصول الدواعي لأن القادر المتمكن من الفعل إذا حصل داعيه استمر حصول الفعل عنده.
قوله: (وفي استحالة تعلقها بغير المقدور المعين) أي تعلق قدرتنا.
قوله: (أو صار في حكم الواقع).
يعني بوقوع سببه الموجب له.
قوله: (كاليد والرجل). يعني للبطش والمشي.
قوله: 0قلنا الذي يحتاج إليه عند الصحة) إلى آخره.
لو أجيبت هذه الشبهة بأن يقال مسلم ما ذكرته فالذي يحتاج إليه في صحة الفعل حصول القدرة والذي يحتاج إليه عند وقوع القصد والداعي لكان جواباً جيداً.
قوله: (أما أبو علي فأوجب تقدم المنع) إلى آخره.
اعلم أن المصنف لم يلخص العبارة هنا ولايخلو كلامه عن انضراب فإن ظاهره يقضي بأن الخلاف بين أبي علي وسائر الشيوخ في المنع مطلقاً وأن المنع إنما يكون بالضد أو ما يجري مجراه وليس كذلك فإن الضد وما يجري مجراه قسم من أقسام المنع والخلاف بين أبي علي وسائر الشيوخ في هذا القسم دون غيره ومثال المنع بالضد أن يوجد أحدنا في جسم سكوناً حال ما يحاول غيره تحريكه.
ومثال الجاري مجراه أن يحدث أحدنا في آخر الجسم تفريقاً في حال ما يحاول الغير تأليفه لأن التفريق يجري مجرى الضد للتأليف لأنه يضاد ما يفتقر التأليف إليه ويتوقف عليه وهو الاجتماع وحجة أبي هاشم والجمهور أن الضد إما يجري مجراه إذا تقدم فإن عدم لم يمنع وذلك ظاهر وإن بقي فالثاني لاتأثير له في المنع لأن تأثير الضد في نفي ضده ليس إلا في حال حدوثه بخلاف القدرة فإنها تقتضي صحة الفعل بها في ثاني /8/ وجودها فوجب تقدمها، وكذلك العجز لو فرض معنى يقتضي عكس ما يقتضيه وهو الإحالة في الثاني فيجب تقدمه وهذا فيما يمنع بنفسه كالسكون في منع الحركة، فأما ما يمنع بموجبه كالاعتماد المانع من جذب الحبل إلى جهة أخرى بما يوجبه من الكون في خلاف تلك الجهة فلا بد من تقدمه ويمنع مع بقائه كالنقل في الحجر المانع من تحريكه، والقسم الثاني من المنع هو ما لايكون بضد ولا ما يجري مجراه، وهو أيضاً ينقسم إلى ما يكون بعدم آلة كمنع عدم القوس والسهم عن الرمي وعدم القلم والمداد عن الكتابة وإلى ما ليس كذلك كالقيد والحبس في المنع عن المشي، وعلى اليد في المنع عن البطش، وليس هذا النوع نم المنع بمحل للخلاف بين الشيوخ فاعلم ذلك.
قوله: (حكمه القدرة في وجوب تقدمه).
وذلك لأنه يوجب من الأحكام ضد ما توجبه القدرة فإذا كانت توجب صحة الفعل في الثاني كان موجباً لاستحالته في الثاني وظاهر كلام المصنف المنع عن وجود الفعل حال العجز عنه مطلقاً، وليس كذلك فإنه يجوز في المسبب المتراخي كالإصابة بعد الرمي أن يقترن بها العجز عنها كما يجوز أن يقترن بها خروج الرامي عن كونه حياً وعن كونه حمله بل عن الوجود على القول بأن الفنا الواحد ليس ضداً لكل جسم.
قوله: (في أن التفرقة حاصلة بأمر متقدم).
يعني وهو فعل القبيح لأنه لايستحق الذم إلا من يأتي وجوده من جهته وما بعده.
قوله: (أو ممنوعاً أو ممتنعاً).
ذكر ابن متويه أن الممتنع هو من فعل في نفسه ضد الفعل الممتنع منه. قال: ولايكون ذلك إلا في المباشر من الأفعال ولايدخل في المتولدات ولا في أفعاله تعالى وبهذا يفارق الممنوع ويفارق الامتناع المنع وهذا مجرد اصطلاح، وأما في اللغة فالظاهر أن امتنع مطاوع منعته يقال: منعته عن كذا فامتنع نحو كسرته فانكسر فمعنى كونه ممتنعاً أن غيره فعل ما يمنعه عن الفعل فتم امتناعه عنه ولم يتمكن من دفع المنع.
قوله: (فهذا تقسيم للشيء على نفسه وعلى ضده).
فيه نظر لأنه قسم القادر إلى فاعل لما قدر عليه أو فاعل لفعل يمنع عن ذلك أو ممنوع عن فعل ما قدر عليه وهذا ما لا غبار عليه فإن الفاعل غير القادر والممنوع غير العاجز إذ يصح منه الفعل والمنع إنما منع عن وقوعه.
قوله: (إن أردتم أنه يصح وجود الفعل مع العجز عنه فغير صحيح).
قد تقدم أنه يصح ذلك في بعض الأحوال.
قوله: (فكذلك لايصح وجوده مع القدرة عليه).
ظاهره يقضي بأنه لايوجد الفعل بالقدرة إلا حال عدمها ولم يرد المصنف ذلك وإنما أراد أنه لايصح وجوده مع كون القدرة قدرة عليه لأنه حال وجوده قد خرج عن كونه مقدوراً وعن تعلقها به، وأما أن الفعل يصح أن يوجد مع بقاء القدرة المؤثرة فيه واستمرار وجوداه فظاهر.
قوله: (إنما يدل على أنه كان قادراً).
يعني ومقارنة الدليل لهذا المدلول لانفع لكم فيه.
قوله: (ثم ننظر في هل استمر به هذا الوصف أم لا).
كأنه احتراز عن أن يقال: فيلزم في حق الباري ألا يعلم إلا أنه كان قادراً فنبه على أن معرفة استمرار قادريته بنظر آخر وهو أن قادريته يستحقها لذاته ولايجوز الخورج عن صفة الذات.
قوله: (ولسنا أيضاً نسلمه).
أي نسلم وجوب مقارنة الدليل للمدلول بل قد يقارن كدلالة المعلول على العلة والمقتضيات التي لاتقف على شرط على المقتضي أو ما ثبت على شرط يقترن بالمقتضي ومنها ما يتأخر الدليل فيه عن المدلول كالمعجز والفعل ومنها ما يتقدم الدليل فيه على المدلول كإخبار الله تعالى بقيام الساعة وكدلالة السبب الذي يتراخى مسببه عنه عليه كدلالة الرمي على الإصابة حيث لامانع ومنها ما يجوز فيه الأمران وهي الأسباب أ, المقتضيات التي تقارن وتقف على شروط.
قوله: (وإنما يحصل حال الفعل استحقاق الولاية).
فيه نظر والأقرب أن الاستحقاق أيضاً إنما يثبت في الوقت الثاني من الفعل لأن الفعل يقتضيه فيه وقد دل على ذلك قولهم في حد الاستحقاق هو /9/ حسن أمر أو وجوبه لأجل أمر متقدم.
قوله: (كاليد والعين واللسان). يعني في البطش والإدراك للمرئيات والكلام.
قوله: (كاللسان للكلام). هذا مثال المحل الحقيقي فإن اللسان محل الكلام فوجبت مقارنته ووصله إليه من حيث أن الكلام إنما يقع متولداً عن الاعتماد الحاصل فيه في الوقت الأول فوجب تقدمه.
قوله: (واليد للبطش) يمكن جعلها مثالاً للمحل لأن الاعتمادات حالة فيها ويمكن جعلها مثالاً للجاري مجرى المحل إن جعلنا البطش لما يحدث في المبطوش به من الاعتمادات والأكوان ويكون جعلها جارية مجرى المحل من حيث يفتقر إلى مماستها للمبطوش به واتصالها بجسده.
قوله: (والعين للإدراك عند من يجعله معنى).
لاكلام في كونها على هذا القول محلاً وأما عند من لايجعله معنى فليست بمحل وهل تجعل جارية مجرى المحل لايتعدد ذلك لكون الإدراك الذي هو صفة حاصلاً للجملة التي هي بعض منها وهي أخصها به لحصوله بها.
قوله: (والسكين للقطع).
هذا المثال الصريح للجاري مجرى المحل لأن التفريق محله أجزاء المقطوع وإنما كان جارياً مجراه لأن الذبح إنما يحصل بتخلل السكين بين أجزاء المذبوح ولهذا وجبت فيه المقارنة ووجب التقدم لمثل ما مضى في اللسان فإنه لابد من تقدم الاعتماد فيه الذي يتولد عنه التفريق.
قوله: (وبهذا شبه البغداديون القدرة) إلى آخره.
يقال: كيف تصح مقالة البغداديين هذه وهي تستلزم القول بتقديم القدرة لإيجابهم حصولها في وقت متقدم على وجود الفعل وفي وقت وجوده فيصير لها في الوجود وقتان ومن مذهبهم أن القدرة غير باقية وهذا سؤال لاجواب لهم عنهن وأكثر ما يمكن أن يتمحل لهم القول بأن بعض القدر تخالف بعضاً ذكره ابن متويه ولا فرج لهم فيه فإن القدرة الثانية ليست قدرة على ذلك لافعل بل هي قدرة على غيره فإن كان ذلك مرادهم فمرجع كلامهم إلى أنه لابد من تقدم القدرة وأن يوجد مقدورها وللقادر قدرة أخرى على غيره وهذا كلام لا ثمرة له.
قوله: (كصلابة الأرض للمشي).
الأرض محل لما يحدث الشيء فيها من الاعتماد والأكوان وجارية مجرى المحل لما في الرجل من ذلك وهو المشي الحقيقي وإنما كانت جارية مجرى المحل لأنه لابد من مماسة الرجل للأرض واستقرارها عليها.
قوله: (الظاهر يقتضي أنه لايستطيع في المستقبل).
يقال: بل هو صريح في ذلك لايحتمل غيره لأن لن للنفي في المستقبل منصوص ذلك في كتب الأدب. قال بعض علماء العربية مالفظه: لن حرف نصب ونفي واستقبال. وقال ابن مالك: وينصب المضارع بلن مستقبلاً وغير ذلك من نصوصهم.
القول في استحالة البدل عن الموجود الحاصل
وجه اتصاله بما تقدم ما أشار إليه المصنف بقوله: (لما ألزمهم أصحابنا) إلى آخره.
واعلم أن مذهب العدلية وكثير من غيرهم أنه لايجوز البدل عن الموجود الحاصل لكن مامن موجود له ضد إلا وكان يصح وجود ضده بدلاً عنه قبل وجوده لا حاله وأجاز حسين بن محمد النجار ويغره من الجبرية وجود الإيمان حال الكفر فجوز العدل عن الموجود الحاصل.
قال الحاكم: وهو أ,ل من أجازه فراراً من أن يلزمه على قاعدته في إيجاب القدرة تكليف ما لايطاق، واعلم أن للبدل وصحته على ما يقوله أصحابنا شرائط أحدها أن يكون البدل والمبدل لايصح اجتماعهما في الوجود بأن يكونا ضدين فإن كانا مثلين أو مختلفين صح الجمع بينهما ولم يدخل فيهما البدل ونص الأصحاب على أنه لابد أن يكونا ضدين ولايبعد أن الجاريين مجرى الضدين كذلك كالتأليف والتفريق.وثانيهما أن يكونا معدومين ولايكون أحدهما موجوداً لأنه إذا صار موجوداً لم يقل فيه يصح أن يوجد بدلاً عن ضده إذ الموجود لايصح أن يوجد تابعاً ولايصح وجود المعدوم بدلاً عنه لأن وجوده قد حصل والبدل لايصح إلا عما لم يحصل. وثالثها: أن يكونا مستقبلين فإن قيل اشتراطكم لعدمهما يعني عن /10/ هذا. قلنا: بل لابد منه لأنه لو حضر وقت وجودهما ولم يوجدا فهما معدومان غير مستقبلين ولايصح البدل فيهما لأنه قد تعذر وجودهما من بعد.
ورابعها: أن يختصا بوقت واحد، فإن لم يتحد الوقت فالجمع بينهما في وقتين ممكن.
وخامسها: أن يكونا مقدورين لقادر واحد. ويعرف بما ذكرنا أن البدل والمبدل عنه في الاصطلاح موضوعان لمقدورين ضدين أو ما في حكمهما متعلقين بقادر واحد يختار إيجاد أحدهما في وقتهما المخصوص.
قوله: (لجاز مثله في صفات الأجناس).
يعني الصفات المقتضاة نحو كون الجوهر متحيزاً والسواد هيئة تجمع الشعاع والبياض هيئة تفرق الشعاع، هذا اصطلاحهم إذا أطلقوا صفات الأجناس، وأما المصنف فيقضي ما ذكره بعد بأنه أراد بها الصفات الذاتية كالجوهرية والسوادية.
قوله: (بخلاف وجود الكفر).
يعني فإنه جائز لاواجب.
قوله: (هذا فرق من وراء الجمع).
يعني لأن الجامع هو ثبوت المبدل عنه وقد حصل الاشتراك فيه والوجوب أو عدمه أمر آخر من وراء ذلك.
قوله: (وبعد فتأثير القدرة عنده على جهة الإيجاب).
لايقال أنه وإن كان كذلك إلا أن القدرة في الأصل حصولها جائز فإنا نقول هذا فرق من وراء الجمع كما تقدم نعم مما يجاب به أصل السؤال في الفرق بين صفات الأجناس وبين مسألتنا أن مذهب الخصوم فيها أنها جائزة ثابتة بالفاعل فلا يستقيم الفرق.
قوله: (لجاز عن الماضي) إلى آخره.
يرد عليه سؤالان الأول أن المبدل عن الماضي يمنع منه مجالان الوجود والمضي ففارق ما ذكرنا.
وجوابه أن وجه الإلزام اشتراكهما في أن كل واحد منهما ثابت ولا فرق في ذلك بين الحاصل والماضي وما ذكروه فرق من وراء الجمع. الثاني أن من شرائط البدل والمبدل أن يختصا بوقت واحد فيمتنع في الماضي لفقد هذا الشرط وأجيب بأنا نصور ذلك مع اتحاد الوقت كأن يقول القائل: أكلت الآن بدلاً من الأكل الواقع بالأمس على معنى أنه يجوز ألا يقع بالأمس بل يقع الآن بدلاً من الوقوع الماضي وليس بواضح بل الأحسن في الجواب أن يقال إذا جوزتم البدل مع وجود أحد البدلين فجوزوه مع اختلاف الوقتين فإن عدمهما شرط كاتحاد وقتهما فإذا لم يعتبروا ذلك الشرط حسن ألا يعتبروا هذا فليس بعد أحدهما في العقل إلا كبعد الآخر.
قوله: (يجب عدمه).
يعني يلزم أن يكون حينئذ معدوماً إذ لايجوز وجود الإيمان إلا مع ذلك.
قوله: (بشرط ألا يكون كان فيه). العجز ظاهرة تنبني على إثبات العجز معنى ويمكن تمشيته على مذهب الجمهور فيكون المراد بالعجز عدم القدرة وحصول ما هو كالضد لها من اختلال البنية.
قوله: (وقد فرقوا بوجوه).
وذلك لموافقتهم في أن العاجز لايكلف بالإيمان لأنه عادم للقدرة فتكلفوا الفرق بما لايجدي.
قوله: (قلنا إن معنى الصحة والجواز) إلى آخره.
ذكر في الشرح للجواز معاني خمسة بعد أن ذكر أن الجواز في الأصل هو الشك فقال: ثم تستعمل بمعنى الصحة نحو يجوز منه الفعل وبمعنى الإمكان نحو المحل يجوز أن يبيض ويجوز أن يسود وبمعنى أنه وقع موقع الصحيح نو ما يقوله الفقهاء يجوز التوضئ بالماء المغصوب وتجوز الصلاة في الدار المغصوبة أي تقع موقع الصحيح وبمعنى الإباحة نحو يجوز للمضطر تناول الميتة وذكر في بعض تعاليقه معاني ثلاثة غيرها الإجزاء نحو يجوز التوضئ بالماء المستعمل وما يقابل المحال يقال هذا خبر جائز أي صحيح ليس بكذب، وبمعنى الحلال نحو هذا المطعوم يجوز تناوله، أي يحل، وأما الصحة فيراد بها نفي الاستحالة نحو يصح أن يحترك المتحيز ويسكن وبمعنى التخير نحو يصح من القادر الفعل أي هو متخير في ذلك وهي في مقابلة الإيجاب، وبمعنى مقابلة السقم يقال: صح العليل أي زال سقمه وألمه وبمعنى اعتدال المزاج يقال: فلان صحيح، أي مزاجه معتدل، وبمعنى نوع من التأليف وهو /11/ تأليف أجساد الحيوانات وبمعنى الإجزاء نحو صلاة فلان صحيحة، وبمعنى اجتماع الشرائط المعتبرة شرعاً في العقود نحو هذا بيع صحيح ونكاح صحيح، وبمعنى وجوب القبول كما يقال شهادة صحيحة وخبر صحيح أي يجب العمل به، وبمعنى مقابلة الكذب نحو خبر صحيح أي ليس بكذب، ولايعقل من معاني الجواز والصحة هنا إلا إمكان أن يفعل وألا يفعل بحسب اختياره وهذا لايتصور إلا في حق القادر ولم يجعلوا الكافر قادراً على الإيمان فلا معنى لذلك فيه.
قوله: (فهو ترجيح أضعف المجوزين من غير مرجح).
جعل الوهم نفس الترجيح والأحسن أنه نفس الظن لما هو مرجوح، وقيل: الظن لأمارة كاذبة.
قوله: (قلنا: بل الكافر فيه أضداد كثيرة).
يقال: ليس للإيمان منها ضد إلا الكفر فقط وجوابه: أن ذلك على جهة التسامح سماها أضداداً لما كانت عندهم لاتجامع الإيمان كما سموا العجز ضداً للإيمان وإنما هو ضد للقدرة عليه.
قوله: (لاسيما على ما نقوله).
كان الأحسن حذف لاسيما فإنه إنما يلزم ما ذكره ويكون لابد منه على ما يقوله لأنه يتأتى على كلا القولين ويكون تأتيه على قولنا أظهر وأوضح ومما يجاب به عليهم في هذا الفرق عدم تسليم كون العجز معنى فلا وجه لجعله ضداً إذ المرجع به إلى زوال القدرة والكافر كذلك.
قوله: (وإلا كانت الجمادات مطلقة مخلاة).
كان الأحسن أن يقول: وإلا صح تكليف الجمادات بالإيمان لأنها غير ممنوعة إذا لم يشترط في التكليف إلا ذلك ولم يشترط حصول القدرة أو يقول: الإطلاق والتخلية لا يستعمل إلا في القادر وإلا لزم تسمية الجمادات مطلقة ومخلاة.
قوله: (على أن هذا ليس أولى من عكسه).
يقال: بل أولى لن المشيئة مرجحة لوجوده مكتسباً عندهم ولا أثر للإيمان فيها ويجاب بأن المشيئة والإيمان إذا لم يكن للعبد فيهما تأثر فلا فرق بينهما في حق الواحد منا بل هو مجبر مسخر.
فصل
ولهم في تجويز البدل عن الموجود شبهتان.
قوله: (في الأولى فليجز حال وجود أحدهما).
قالوا: لأن مرور الأوقات لا أثر له في عدم جواز ما هو جائز.
قوله: (والجواب أن يقال من سلم لكم تعلق الموجود بالقادر) إلى آخره.
هو كلام واضح ومما يجاب به حصول الفرق وذلك أن حال عدمهما جميعاً لامحيل يحيل وجود أحدهما بدلاص من الآخر ولاكذلك بعد وجود أحدهما فإن وجود الموجود منهما يحيل وجود الآخر بدلاص عنه فافترقا.
قوله: (لأن العلم بعدم الإيمان تابع لعدم الإيمان).
لم يقل المصنف لأن العلم تابع للمعلوم ويأتي به مطلقاً خيفة أن يرد عليه العلم بالأحكام فإنه مؤثر فيه والأحكام تابع له، والحاصل أن العلم على وجهين أحدهما ما يتعلق بالثبوت والانتفاء فهاذ تابع للمعلوم ولا أثر له فيه بل يتعلق بالذات على الثبوت أو الانتفاء من غير تأثير فيها وثانيهما ما يتعلق بالأحكام وهو مؤثر فيه غير تابع له بل الأحكام هو التابع وليس الكلام هنا إلا في القسم الأول.
الكلام في التكليف
قد ذكر في وجه إدخاله في باب العدل أنه فعل من أفعال الله الحسنة وفيه نظر لأنه لو كان ذلك مقتضياً لذكره لاقتضى أن يذكر غيره من أفعال الله تعالى فكلها حسن وقيل بل لأن منه ما يجب لكونه بياناً للعقلاء وهو التكليف بالشرعيات لأنها لما كانت لطفاً لهم ولايهتدون بعقولهم إلى معرفتها وجب أن يبين لهم ذلك وفيه نظر لأن الذي يتعلق بالعدل ذكر وجوب البيان جملة فأما أن يجعل لكل بيان باباً فلا فإن البيان أنواع والتكليف المكذور نوع منها والتحقيق أن التكليف لما كان قاعدة السعادة الأخروية وله تفاريع كثيرة منها ما يحتاج إلى معرفته وكشف القناع عنه في هذا الفن وهو تكليف من المعلوم من حاله أنه يكفر لأنه أقوى شبه نفاة الحكمة حسن ذكره في هذا الفن واستيفاء الكلام عليه والله سبحانه أعلم.
قوله: (هو في اللغة البعث على ما يشق من فعل أو ترك).
وحاصله /12/ أن ما لامشقة فيه فلا يسمى تكليفاً، ويفهم منه حد المكلَّف والمكلِّف والمكلَّف به.
قوله: (بأن له في الفعل أو الترك جلب نفع أو دفع ضرر).
هذا الحد يرد على طرده لو أعلم الله العبد بأن له في شرب هذا الدواء دفع ضرر لداء كذا وحصول قوة واضحة في بدنه فالأحسن أن يقال: إعلام الله العبد بوجوب بعض الأفعال عليه وقبح بعضها منه مع مشقة.. إلى آخره. وإن عددنا المندوب والمكروه من جملة ما العبد مكلف به زيد فيه: وندب بعض منها وكراهة بعض.
قوله: (مع مشقة تلحقه).
المشقة قسمان مشقة ترك وهي ما يحصل بتركا ما تميل النفس إليه ومشقة فعل وهي ما تلحق الجسد من وها وكلال.
قوله: (مع زوال الإلجاء).
هو بلوغ داعي الحاجة حداً لايقابله صارف يقاومه.
قوله: (وقد دخل فيه الإعلام) إلى آخره.
اعلم أن الإعلام بوجوب الواجبات وقبح المقبحات منه ما يحصل به العلم الضروري كالعلم بوجوب رد الوديعة وقضاء الدين وشكر المنعم وقبح الظلم والكذب ومنه ماليس كذلك وهو ما يحصل به العلم عن نظر ثم ذلك العلم ضربان ما نصبت عليه دلالة عقلية وهي المعارف الإلهية ونحوها وما نصبت عليه دلالة سمعية وهو ما ورد به القرآن وجاءت به السنة وما يتبع ذلك.
قوله: (ولا حاجة إلى اعتبار الإرادة).
أي إرادة المكلِّف أن يفعل المكلَّف ما كلفه به لأن ذلك وإن وجب في حق الحكيم لكنه ليس من شرط التكليف بل لو فرضنا صحة مقالة الجبرية في إرادة الكائنات فقط لم يكن ذلك قدحاً في التكليف.
قوله: (وإن لم تكن إرادة). هو من كان التامة أي وإن لم تحصل إرادة.
فصل
قوله: (في معنى أن الله حكيم).
موضع هذا أول باب العدل والحكمة وإنما استرجح المصنف إعادته هنا لما كان في التكليف ما يفتقر رده إلى العدل والحكمة وتصحيح قاعدة الحكمة وفهم معناها كتكليف من المعلوم من حاله أنه يكفر بل التكليف كله فإن العقل في الظاهر وبادي الرأي قد يتسارع إلى أنكاره واستشكال وجه الحكمة فيه أما تكليف من يكفر فظاهر وأما أصل التكليف فلما فيه من إلزام الشاق مع إمكان النفع ودفع الضرر من دونه ولما فيه من بعث دواعي القبيح والصوارف عن الواجب وذلك قد يتخيل أنه كالإغراء بالقبيح وترك الواجب.
قوله: (وقال أهل الجبر لايجوز أن يفعل لغرض).
هذا هو الظاهر من مذهبهم والذي تقضي به نصوصهم وكلامهم في كتب علم الكلام وصرح به الرازي في نهايته واحتج لصحته بأن الغرض في فعل الله إذا كان عائد إلى غيره فهل له في انتفاع ذلك الغير غرض يعود عليه فتلزم صحة الحاجة عليه أو لاغرض فيه يعود عليه فيلزم كون وجود ذلك الفعل وعدمه بالنظر إليه على سواء ومع ذلك فلا معنى لكونه غرضاص مرجحاً للإيجاد.
ويمكن الجواب بأن حاصل دليلك هذا إنكار أن يكون النفع العائد إلى الغير غرضاً وهو نفس المتنازع فيه فإنا نقول: بأنه غرض صحيح وأنه يعلم بالعقل حصول الغرض في إرشاد ضال عن الطريق وإ"عام جائع قد أشرف على التلف وإن فرضنا عدم العلم بحصول نفع في ذلك يعود إلى المرشد والمطعم بأن لايخطر بباله ثنا ولاثواب أو بأن يكون ممن ينكر ذلك أو يجهله.
فصل في بيان وجه الحكمة في ابتداء الخلق
لما كان ابتداء الخلق هو الأصل في التكليف إذ لو لم يخلق المكلف لم يكلف أراد أن يقدم على الكلام في حسن التكليف الذي هو المقصود ما هو أصل له وهو بيان حسن ابتداء الخلق إذ لو لم يكن حسناً لم يثبت حسن ما تفرع عليه وبيان المكلف ما هو والخلق هنا بمعنى المخلوق.
قوله: (فجهلت الملحدة) إلى آخره.
في جعل ذلك سبباً لنفي الملحدة للصانع خفا والظاهر أنهم نفوه لاعتقاد قدم العالم وغير ذلك من شبههم.
قوله: (ولايصح في ابتداء الخلق إلا الثلاثة الأول).
اعلم أن الذي عليه الزيدية والمعتزلة وكثير من الفرق الإسلامية والكفرية أن الله خلق /13/ الخلق حيواناً وجماداً لحكمة في ذلك فالحكمة في غير الحيوان كونه نعمة على الحيوان جسماً كان أو عرضاً فإن من الأعراض ما هو من حلائل النعم كالطعوم والألوان والروائح.
قيل: ... بل لولا الأعراض لما عظم موقع الانتفاع بالجسام والحياة أصل النعم وكذلك الشهوة والقدرة والعقل وأما الحيوان فمكلفوغير مكلفو كل منهما خلقه الله تعالى حياً لنفع نفسه بما ينفصل به عليه من المنافع الدنيوية وقد يكون في بعض من المكلفين نفع لغيره ويقصد ذلك بخلقه تبعاً لنفع نفسه، وأما غير المكلفين من الأحياء فلا يبعد أن يكون الغرض المهم من خلقهم نفع غيرهم من المكلفين بل قد صرح الجمهور بأنه ما خلقوا إلا لذلك وهو إما نفع دنيوي كركوب البهائم والحمل عليها، والانتفاع بأصوافها وألبانها وجلودها ولحومها وغير ذلك وأما ديني كما يحصل بها من الاعتبار عند النظر فيها والتأمل لأمرها وما يحصل بذلك من الشكر لله تعالى عليها عند مشاهدتها وقد ذهبت الجهمية وبرغوث إلى أن الله إنما خلق الخلق لأن الأمر أمره والملك ملكه وقيل بل خلق الخلق لإظهار قدرته وقيل خلق بعضهم للنار وبعضهم للجنة وقيل خلق الخلق لمحبة الرسول.
فصل
قوله: (وقد حصل مما تقدم امتناع تقديم الجماد على الحيوان).
يعني لما تبين من أن الله لايفعل إلا لغرض ولا غرض في التقديم وهذا هو مذهب العدلية وخالف في ذلك بعض أهل الحديث تمسكاً بظواهر وردت منه قد أشار المصنف إلياه وإذا اجتمعت شرائط صحة الخبر فيها أمكن تبقيتها على ظاهرها ويكون الغرض في تقديم خلقها أن يكون في علم الله أنه إذا خلق المكلفين من بعد كان لهم في العلم بتقدم خلق تلك الأشياء لطف كما ذكر مثله فين صب الميزان والحساب وشهادة الجوارح فإن الغرض فيها مع تأخرها ووقوعها في غير دار التكليف وعدم الحاجة إليها أن يكون في العلم بها لطف للمكلف واعتبار وقد تؤول ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (( أول ما خلق الله اللوح والقلم)) بأنهما حيان أو أن المراد أول ما خلق من الجمادات.
فصل
يصح أن يبتدئ الله خلقاً في الجنة وينعم عليهم بنعم خالصة لا شائب فيها ولايكونوا مكلفين والوجه في ذلك أن فيه غرضاً وهو نفعهم مع تعريه عن سائر وجوه القبح وهو معنى الحسن: وهذا هو مذهب أبي هاشم، وقال البغداديون: ونسب إلى أكثر العدلية أن ذلك لايجوز لأنهم إذا خلقوا في الجنة لم يعرفوا موقع النعمة إذ لايعرفها إلا من وقع في غيرها ولحقه مشقة ولأن ذلك يستلزم إباحة الجهل لهم لأن المعرفة لم تجب عليهم إذ لو وجبت لكانوا مكلفين وقد فرض عدم تكليفهم ويمكن رد ذلك بأنه لايعد جهلهم لقدر النعمة وجه قبح في ذلك مع أنه يمكن تعريفهم قدرها بالعلم الضروري، وكذلك معرفتهم بالله تكون ضرورية كمعرفة المكلفين في دار الآخرة هذا على فرض كونهم عقلاء، وأما إن لم يكن لهم عقول فلا إشكال.
فصل في المكلف الذي هو الإنسان ما هو؟
قوله: (عندنا أنه هذا الشخص) إلى آخره.
هذا مذهب الزيدية وجمهور المعتزلة وكثير من غيرهم من الفرق الإسلامية والكفرية وهو أن الإنسان هو هذه الجملة ذات الأعضاء والحواس لا أنه أمر غيرها داخل فيها أو خارج عنها وخالف فيه طوائف من أهل الإسلام وغيرهم وقد ذكر المصنف أقوال المخالفين إلا الفلاسفة فلم يعتن بتحقيق مذهبهم.
واعلم أن الفلاسفة يقولون بالنفس الناطقة ويحكمون عليها بأنها الإنسان ويجعلونها غير هذا الشخص لكنها أمر لها تعلق به وليست بجسم ولاعرض ولايجوز عليها الموت ولا غيره مما يجوز على الأجسام والأعراض بل هي حية باقية لاتموت.
قيل: ويذهبون إلى حدوثها بأن أوجبها عقل مجرد أزلي وليست أزلية لأنه يوجبها بشرط متجدد وهو حدوث المزاج المستعد لقبولها، وذهب الرازي في أحد قوليه /14/ وبعض كتبه أن الإنسان جوهر نوراني في أعماق هذا البدن فلا هو مجرد ولاهو البدن لأنه باق وإن كان إعدامه ممكناً.
قوله: (وقال النظام) إلى آخره.
ومن عباراته أن الإنسان هو الروح وأن الروح هو الحياة المشابكة لهذا الجسد وهو جوهر واحد مداخل للجسد لامختلف ولامتضاد وأنه قادر عالم حي لذاته ومداخلته للشخص هذا كمداخلة الدهن للسمسم.
قال الشيخ أبو القاسم: إني لأخاف على إبراهيم النظام لما ذهب إليه في الإنسان فإن الكتاب العزيز يقضي بخلافه.
قوله: (وحكي عن الأسواري أنه روح في القلب) ومما حكي عنه أنه لايدرك.
قوله: (وقال ابن الروندي) إلى آخره.
تقرب مقالته من قول الأسواري وقد جُعل مذهبهما واحداً، وحكي عن ابن الراوندي في قول أن في البدن أرواحاً كثيرة وإليها يرجع الإدراك والتألم.
قوله: (وقال الفوطي).
هو هشام بن عمر ومذهبه قريب من مذهب الأسواري وابن الرواندي إلا أن ابن الرواندي ذكر تسخيره للجملة وقد عد بعضهم مذهب الثلاثة مذهباً واحداً.
قوله: (وقال ابن الإخشيد) إلى آخره.
قيل: وإلى هذا ذهب افمام عماد الإسلام يحيى بن حمزة.
قوله: (ولايجوز أن يعلم الذات استدلالاً وصفتها ضرورة).
وذلك لأن العلم بالصفة فرع على العلم بالذات فكيف يكون الفرع أجلى من الأصل. نعم قد قيل لو ادعى أن الإنسان الحي القادر العالم هو هذه الجملة ضرورة لم يمتنع ذلك وأنه معلوم من اجماع المسلمين قبل حدوث هذا الخلاف.
تنبيه
قيل: اسم الإنسان يطلق عليه بعد موته كما يطلق في حال حياته واختلف الشيخان هل يطلق اسم الإنسان على هذا الشكل المخصوص وإن لم يكن فيه لحمية ولا دمية ولا ما في معنى ذلك كأن يكون من عود أو طين فالذي ذكره أبو هاشم وصححه المتلكمون أنه لايسمى بذلك وذكره أبو علي في قول له وفي أحد قوليه أنه يسمى .... وهو بعيد عن الصواب.
تنبيه آخر
قيل: الإنسان ليس هو كل الجرم المشاهد بل الإنسان منه ما حلته الحياة دون ما لاتحله كالعظام والشعر والدم وفاقاً فيهما وعلى قول أبي علي في العظام، وأما أبو هاشم فقد جوز حلول الحياة فيها لحصول التألم بانصداعها.
قيل: وإن كان الإنسان على التحقيق الجملة التي لايكون حياً إلا بها دون ما زاد عليه من الفضلات التي لايضر فقدها في إبطال كونه إنساناً وإن كانت تدخل في جملة الإنسان وكذلك الحكم في جميع أصناف الحيوانات من الملائكة والجن والشياطين والسباع والبهائم.
قوله: (شبهة النظام) إلى آخره.
قد عورض بالحركة فإنها توجب للجوهر كونه محتركاً وهي في نفسها غير محتركة والجوهر قبل حلولها فيه غير متحرك فكيف يصير محتركاً بضم ما ليس بمحترك إليه.
قوله: (وهو ظاهر البطلان).
يعني لما تقرر من اشتراك الجواهر في الجوهرية وأنها صفة ذاتية، وأن الإشتراك في الصفة الذاتية توجب التماثل.
قوله: (قالت الفلاسفة) إلى آخره.
ذكر احتجاجهم ولم يذكر في الأصل مذهبهم وقد ذكرناه.
قوله: (هذه الجملة تصح عليها الزيادة والنقصان) إلى آخره.
هذه الشبهة يتمسك بها المخالفون كلهم. وقيل: بل من جعل الإنسان شيئاً لايتبعض ولايزيد ولاينقص. قالوا: فإذا بطل كون هذه الجملة وجب أن يحكم على الحي بأنه شيء واحد وإذا ثبت أنه شيء واحد فهو في القلب لما علم ضرورة أن وجود العلم والشهوة والإرادة وأضدادها والفكر والظن من جهة القلب فعلمنا أن الذي صدرت عنه وتصرف فيها شيء مستقر فيه.
والجواب عنها على لاتحرير الذي أتى به المصنف كما ذكر وقد أجاد وأفادوا وأما على هذا التحرير الأخير فهو أن ما عللوا به لايقضي بأن الإنسان في القلب كما زعموا وإنما مقتضاه حصول تلك المعاني فيه وإذا ثبت أن الإنسان هو هذه الجملة فحصول تلك المعاني من جهته، وربما يحررون هذه الشبهة تحريراً آخر وهو أن قالوا: لو كان كما ذكرتم وحلت الحياة في الجملة المهزولة لكن القلب محل لها وأوجبت لها كونها حية ثم سميت والحياة توجب للجملة عندكم لزم أن تكون الحياة قد أوجبت /15/ حال بقائها لغير ما أوجبت له حال كون الجملة مهزولة والمعاني إنما توجب لأجل صفاتها المقتضاة وهي ثابتة عند وجودها ولايتجدد إيجابها لغير من أ,جبت له عند ابتداء وجودها ويكون الجواب على هذا التحرير أن الحياة لايتغير إيجابها للجملة والجملة لها هذا للإسم ولها احكام لاتختلف هي والإسم في حال سمن ولاهزال.
واعلم أن للفلاسفة شبهاً مثبتة على قواعد لهم غير مسلمة ننبه على شيء منها ليعلم أنها غير قادحة وهو أنهم احتجوا على أن الإنسان ليس بجسم ولا جسماني أي ولا حال في جسم بأنه قد ثبت أن الإنسان يعلم الأشياء التي لايصح انقسامها، والعلم بما يستحيل انقسامه يستحيل أن يكون منقسماً وإذا استحال انقسامه استحال أن يحل في منقسم ولاشك أن علم الإنسان حال فيه فوجب أن يكون الإنسان مما يستحيل انقسامه، وإذا كان كذلك ثبت أنه ليس بجسم ولاجسماني.
والجواب لم جعلتم العلة في استحالة انقسام العلم استحالة انقسام معلومه فإن وجه الملازمة في ذلك غير معلوم ولو لم تكن العلة في استحالة انقسام العلم إلا ما ذكرتم لزم صحة انقسام العلم المتعلق بما صح انقسامه ثم لم قلتم أن ما يستحيل انقسامه يستحيل أن يحل في منقسم وما وجه الملازمة أو ليس التأليف عرض لايصح انقسامه وهو مع ذلك يحل في جزئين يصح انقسامهما والوهم عندهم جسماني مع أنه لاينقسم ثم إن سلمنا ذلك فنحن نقول بموجبه وهو أن العلم يحل فيما يستحيل انقسامه وهو جزء من أجزاء القلب فإن الجزء لايتجزأ عندنا وإذا كان كذلك لم يلزم ما ذكرتم لكنهم بنوا على أنه لاينتهي الجسم إلى جزء لاينقسم وذهبوا إلى أن الجزء يصح تجزئه إلى ما لانهاية له وهي قاعدة فاسدة واحتجوا أيضاً بأن الإنسان قد شارك الأجسام في الجسمية وخالفها في الإنسانية فلابد أن يكون ما خالفها فيه أمراً غير الذي شاركها فيه فيكون الإنسان غير جسم.
والجواب المعارضة بنحوه في الفرس والحمار ونحوهما من أنواع الحيوان والتحقيق أنه خالفها بخواصه التي لاتوجد في غيره من الشكل والصفات التي تتميز بها.
تنبيه
اعلم أنه ورد من الكتاب الكريم ولاسنة النبوية ما يقضي بأن هنا أمراً زائداً على الجسد المشاهد والأعضاء المرئية من جنس الأجسام فيقرب أن يكون كالدليل على صحة قول من جعل الإنسان جسماً لطيفاً منساباً في الجسد كقوله تعالى: {والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم}، فدل على أن ثم شيئاً يخرج من الجسد والخروج من صفات الأجسام، وقوله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها} الآية، وفيه تصريح بقبض الأنفس عند الموت والنوم، وأنه يمسك النفس عند الموت ويرسلها إذا قبضها بالنوم والقبض والإمساك والإرسال لايتصور إلا في حق الأجسام، وقوله في الشهداء: {بل أحياء عند ربهم} الآية، وفيه دليل على أن المستشهدين غير هذه الهياكل إذ هي أموات بالضرورة وقد وصفهم الله بأنهم أحياء مرزوقون، وأما الأخبار النبوية فكثيرة منها ما ذكر في قصة المعراج من ملاقاته صلى اللّه عليه وآله وسلم للأنبياء ووصفه لخلقتهم، ومنها قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تأوي إلى سدرة المنتهى )) وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم في قتلى بدر: أهل القليب مخاطباً لأصحابه: ما أنتم بأسمع منهم.
والجواب عن ذلك أنه ليس في الآيات والأخبار المذكورة تصريح بأن هذه الأشياء المقبوضة والمرسلة والأرواح هي التي تسمى الإنسان ويتوجه إليها المدح والذم والثواب والعقاب، وهذا هو محل النزاع وأقرب الآيات إلى المعنى المتنازع فيه آية الشهداء والحكم عليهم بأنهم أحياء مع مشاهدة موت جثثهم والعلم به ضرورة ونحن نقول: لامانع من أن يحيي الله الجثث في قبوها كما هو الظاهر، والذي يقضي به كلام المفسرين. قال جار الله ما لفظه: بل أحسبهم احياء عند ربهم مقربون عنده ذووا زلفى كقوله: {فالذين عند ربك يرزقون} مثل ما يرزق سائر الأحياء يأ:لون ويشربون وهو تأكيد لكونهم أحياء ووصف لحالهم التي هم عليها من التنعم برزق الله. انتهى.
وما هذه الآيات إلا دالة على ثبوت الروح وهو /16/ أمر منعنا من الخوض فيه، وحجب عنا العلم به وتلك مسألة أخرى غير ما نحن فيه فإنه روح للإنسان لا أنه هو الإنسان وأما الإمام المهدي أحمد بن يحيى عليه السلام فقد حكم بأن المراد بالإنسان وهو المقبوض والمرسل والمحيا والذي في أجواف الطير الخضر هو الجملة التي لايصح كون الحي حياً إلا بها وبحصول مجموعها وهي متصلة بالهيكل هذا المشاهد كاتصال جسد المهزول بأجزاء سمته فقد صارت الجملة المذكورة التي هي الإنسان في الحقيقة متصلة بهذه الزيادة وصارت الزيادة وكذلك أجزاء الحياة التي في الأجزاء الزوائد فثبت أن الإنسان جملة لطيفة في هذا الهيكل المشاهد لاتصح حياته إلا بمجموعها وهي التي تنزع عن الهيكل فتبطل حياته والتي تنزعها ملائكة الموت بأمر ربها وتمكينه لهم من ذلك وهي الموضوعة في أجواف الطير الممسكة عند الموت المرسلة عند النوم المناداة يوم القليب المشاهدة من الأنبياء ليلة المعراج وهي والهيكل في حال الحياة كالشيء الواحد لن الحياة الحالة فيها توجب صفة الحيية لكل ما اتصل بها من الأجزاء التي فيها حياة.
قال عليه السلام: وعلى هذا يستقيم قولنا أن الإنسان هو هذا الشخص المشاهد وإن كان في التحقيق هو الجملة التي لايكون الحي حياً إلا بمجموعها وسائر الأجزاء تابعة غير مقصودة. هذا حاصل ما ذكره عليه السلام وهو كما ترى فيه تكلف وتعسف وهكذا حال الإنسان إذا حاول أن يعلم ما تفرد الله بعلمه ولم ينصب لنا دليلاً عليه ولاجعل للعقل فيه مجالاً، ذهب كل مذهب ولم يفز بمطلب، والأجزاء التي لايكون الحي حياً إلا بها أجزاء قليلة يسيرة فكيف يصح أن تكون هي الموجودة المشاهدة ليلة المعراج والمعلوم من لفظ الحديث إن صح أنها صور واضحة وأشخاص كاملة ذات أعضاء وجوارح ووجوه موصوفة خلقتها فلو كانت هي المنزوعة المقبوضة حال اليوم لوجب بطلان حياة النائم حال نومه حتى يستيقظ بعد ردها ومعلوم أنه حي في حال نومه ولهذا يدرك وكان يجب إذا قطعنا جسد الميت وفتحنا جسده أن نجد مكان تلك الجملة في جسده مفرغاً إذ قد انتزعت الجملة من وسطه ثم من المعلوم أن الإنسان هو العالم المريد الكاره الظان الناظر وهذه معان لاتوجد ولاتحل إلا في القلب، فأخبرنا هل القلب من تلك الجملة فهذا يقضي بأنها كثيرة واسعة إذ القلب مع كبره جزء منها وقد قلت أنها هي الأجزاء التي لايكون الحي حياً إلا بها أ, ليس القلب منها فكيف تكون هي العالمة الناظرة المريدة الكارهة وهذه المعاني في اجزاء غيرها لو ذهبت لم يقدح ذهابها في كونها إنساناً عالماً ظاناً ناظراً مريداً كارهاً وغير هذا من الإشكالات التي يمكن إيرادها على هذه المقالة لامحالة.
والحق الذي لامدفع له ولا محيد عنه أن الإنسان العاقل المكلف الممدوح المذموم المثاب المعاقب هو هذا الشخص المشاهد وأن النفس والروح التي أشير في الآيات والأخبار إليها هو أمر لايمكن الوصول إلى معرفته حقيقة إلا بالسمع ولم ينصب الله لنا دليلاً على معرفة حقيقته يتضمن التصريح بذلك بل قضت حكمته بإبهام ذلك علينا لمصلحة علمها لنا في الإبهام فلا يتكلف علم مالم نعلم بإيرادها على القلب قولك فيما لانعلم لا أعلم وقد أورد المهدي على نفسه سؤالات في تحقيق ما ذهب إليه والكشف عنه وتكلف الجواب عنها واعترف في البعض منها بعدم القطع والرجوع إلى الظن ......، وعن ذلك كله مندوحة وكل ذلك يناميه عليه السلام على أن العلم بالروح ممكن وأن الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {قل الروح من أمر ربي}، لاتقضي بأن حجب العلم به فإنه أورد سؤالاً حاصله كيف حار النظر في الروح والقطع بتميزها وقد سئل عنها رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم فلم يعلم الجواب عنها، واعترف بعدم إدراك حقيقتها مع /17/ علو درجته وارتفاع منزلته في العقل ومع كون السمع لايعلم إلا منه فكيف لايعلم الروح بما تنزل عليه ونعلمه نحن.
وأجاب بأن الآية لاتقضي بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لايعلم الروح ويحتمل أنه إنما أبهم الجواب على اليهود فيه لأنه أمر بإبهامه مع عدم جهله به فلم يضف الجهل إلا إلى السائلين إذ قال: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} ولم يقل: وما أ,تيتَ وإن فرض عدم علمه بها وأن عقله صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يدرك معرفة حقيقتها فمن الجائز أن الله سبحانه حجب عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم العلم بها دوننا كما منعه من الشعر والخط وأيضاً فمن الجائز أنه يمكنه النظر فيها والعلم بها لكنه لم يجتهد في النظر ولا بلغ الغاية فيه لعدم تكليفه بذلك ولايجب في النبي أن يكون أعرف الناس في كل شيء فلا إشكال على من نظر في الروح وتكلم بما أداه إليه عقله في معرفته وهذا الجواب كما ترى.
وقد روي في الكشاف عن أبي بريدة أنه قال: لقد مضى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وما يعلم الروح. قال: والأكثر على أنه الروح الذي في الحيوان سألوه عن حقيقته فأخبر أنه من أمر الله أي مما استأثر بعلمه، وقيل: خلق عظيم روحاني أعظم من الملك. وقيل: جبريل. قال: وروي أن رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم لما قال لهم ذلك يعني قوله: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} قالوا: نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه؟ فقال: (( بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلاً )) فقالوا: ما أعجب شأنك ساعة تقول: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} وساعة تقول هذا فنزلت: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام} قال جار الله: وليس ما قالوه بلازم فإن الشيء يوصف بالعلة مضافاً إلى ما فوقه وبالكثرة مضافاً إلى ما تحته .......... العبد حتى كبر في نفسها وقيل بالإضافة إلى علم الله.
فصل في حسن التكليف وبيان وجه الحكمة فيه
قوله: (وجعله شاقاً ليستحق به الثواب).
عد كونه شاقاً من معاني التعريض للثواب لأنه لو لم يكن شاقاً لم يستحق عليه ثواب إذ لاثواب مع عدم المشقة في الفعل المكلف به أو سببه أو ما يتصل به إذ لو استحق الثواب بغير مشقة لم يكن فرق بين ما كلفنا به وبين ما يلتذ به من الطعام والشراب والنوم، ومعلوم أن عدم استحقاق الثواب على هذه الملاذ إنما هو لعدم المشقة فيها ولأن الثواب جزاء على الأعمال كالأجرة عليها فكما أن من استعمل الغير في عمل يسير لايستحق عليه أجرة لعدم مشقته فكذلك الطاعات لو لم يكن فيها مشقة لايستحق الثواب عليها. هذا ما ذكره أصحابنا.
وفيه نظر أما أولاً فلقولهم: أن عدم استحقاق الثواب على الملاذ إنما هو لعدم المشقة فإنه يمكن أن يقال بل لعدم لاتلكيف بها ولعدم حصول المصلحة الدينية فيها. وأما ثانياً فقياسهم على العمل اليسير في عدم استحقاق الأجرة عليه وهو قياس غير صحيح فإن العمل اليسير لايستحق عليه أجرة ولو لحقت به مشقة فالعلة كونه يسيراً يتسامح بمثله في العادة لا كونه لامشقة فيه.
وأما ثالثاً فالملاذ قد يستحق عليها الثواب إذا قصد بها وجه الله كمن نوى بأكله التقوى على الطاعة وبلباسه ستر العورة وبنومه إمكان القيام للعبادة وليس النية المذكورة تخرجها عن كونها ملاذاً ولاتدخلها في كونها شاقة وكذلك قد ورد السمع بإثابة الرجل على تقبيل زوجته ومداعبتها ونحو ذلك مما فيه غاية اللذة، وقولهم: أن المشقة فيما تصل به من حفظ الفرج عن غير جائز الوطء كلام فارغ فإن ذلك أمر آخر كلفنا به فيه مشقة يثاب عليه ويعاقب على تركه فكيف يجعل شرطاً في استحقاق الثواب على تلك الملاذ المتعلقة بالزوجة.
ثم اعلم أن أصحابنا يجعلون المشقة شرطاً في استحقاق الثواب ولايجعلونها سبباً فيه فحينئذ لايلزم أن يكون الثواب على قدر المشقة لأن ذلك لايلزم إلا مع جعلها سبباً للثواب فالمسبب يقل بقلة السبب ويكثر بكثرته، وأما إذا كانت شرطاً لم يلزم ذلك والسبب هو فعل الطاعة وترك المعصية ولهذا يكثر الثواب بكثرتها ويقل بقلتها أي بكثرة موقعها في الوجه الذي لأجله وقع الوجوب أو الندب كما ورد في فضل ركعتين في الحرم فإنهما تفضلان الركعتين في غيره بكذا وكذا ضعفاً من الثواب، وكذلك صلاة الفريضة فيه وما ذلك إلا لكون موقع الفريضة وهو لطفيتها والنافلة وهو تسهيله للفرائض أكثر مما إذا كانت /18/ الفريضة أو النافلة في غيره وعلى هذا الاعتبار فقس.
قيل: والواجبات نوعان نوع لايختلف موقعه فلا يختلف القدر المستحق عليه في قلته وكثرته وهي الواجبات العقلية فإنها إنما وجبت لوجوه تقع عليها فلا يختلف موقعها باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، ونوع يختلف موقعه فيختلف القدر المستحق عليه من الثواب حسبما يتحصل من الغرض الذي لأجله شرع وهو الواجبات الشرعية كالصلاة والزكاة ونحوهما فإنها إنما وجبت لكونها ألطافاً في الواجبات العقلية ويقع فيها التفاضل فمنها ما يدعو إلى فعل واجبات كثيرة ومنها ما لايدعو إلا إلى فعل واجب واحد، ومنها ما يدعو إلى واجب ومندوب، ومنها ما لايدعو إلا إلى واجب فقط، ويصح اختلاف ذلك بحسب الأمكنة والأزمنة والأشخاص ولهذا كان ثواب ركعتين في الحرم أكثر من ثوابهما في غيره وصدورهما من الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم أفضل مما إذا صدرا من غيره وصلاة بعض الأوقات كجوف الليل ولاسحر وبين الأذان والإقامة أفضل من الصلوات في غير هذه الأوقات وهذا تقسيم وتعليل حسن على قواعد الأصحاب في وجه وجوب العقليات والشرعيات والله سبحانه أعلم.
قوله: (ويندفع به ضرر عظيم) إلى آخره.
فيه نظر لن اندفاع العقاب ليس بالتكليف إذ لو عدم التكليف لم يثبت عقاب، فالعقاب من فروعه لا أنه يندفع به وإنما يندفع بالطاعة.
قوله: (فإنه لاينال الثواب إلا به).
وذلك لتضمنه التعظيم والابتداء به من غير استحقاق له لايحسن لأن العقلاء يستقبحون تعظيم من لايستحق التعظيم.
قوله: (إنما اعتبر الرضا في الشاهد في الأمور التي يشتبه الحال فيها).
فيه نظر فإن الرضا ..... معتبر مع عدم الاشتباه وليس لأحدنا أن يكره الغير على عمل يسير بعوض كبير عظيم خطير فكان الأحسن في الجواب ما رجع إليه وإن لم نلخصه وهو أن اعتبار الرضا في الشاهد إنما هو لعدم الملك والولاية ولهذا حسن الإكراه من السيد لعبده ومن الأب لطفله والله سبحانه وتعالى هو المالك لنا الملك الحقيقي والمتولي علينا الولاية الحقيقية فإن لم يرد حاله على حال السيد في حق عبده والوالد في حق والده بدرجات كبيرة لم تنقص.
قوله: (وهو أن تحسن إلى الغير ليحسن إليك).
ظاهره أن المعتبر في المفاعلة صدور الفعل من أحد الفاعلين قصداً لأن يصدر إليه مثله والمشهور أنها كما ذكره ابن مالك لأقسام الفاعلية والمفعولية لفظاً والاشتراك فيهما معنى يريد أن مثل جاءني زيد وعمر أتوني به ليكون زيد فاعلاً وعمرو مفعولاً في اللفظ، وفي المعنى أن كل واحد فاعل ومفعول.
فصل في أن التكلف يحسن سواء قبل المكلف أو بعده
قوله: (اعلم أن تكليف من المعلوم من حاله أنه يكفر صار شبهة) إلى آخره.
أما النافون للصانع بسببه فهم الملاحدة. قالوا: لو كان لهذا العالم صانع حكيم يريد الخير بخلقه لما كلف من هذه حاله مع علمه بأنه يعصي ويخالف ما أمر به ونهى عنه ثم يدخل النار فليس إلا أنه لا صانع وأما المثبتون للثاني فهم الثنوية والمجوس، قالوا تكليف من هذه صفته قبيح والله لايفعله فليس إلا أن فاعله غير الله، وأما المجبرة فإنهم قالوا هذا صورته صورة القبيح فإذا فعله الله جاز أن يفعل غيره من القبائح كتعذيب من لاذنب له وتكليف ما لايطاق ولكنهم مع ذلك يقضون بحسنه من جهة الله تعالى وهذا أيضاً أعظم شبههم في نفي التحسين والتقبيح العقليين من حيث أنكروا كون مثل ذلك التعريض يحسن في الشاهد وكونه نعمة منه تعالى على المكلف بل هو مضرة عظيمة محضة لا أعظم منها فلو صدر من أحدنا مثل ذلك لكان قبيحاً وقد صدر منه تعالى ولم يقبح منه فعلمنا أنه لايقبح منه قبيح وهي أيضاً أعظم شبههم في نفي الغرض والحكمة هذا ما ذكره أصحابنا في غير موضع من كتبهم وفي نفسي شيء من حكمهم بأن تكليف من المعلوم من حاله أنه يكفر هو المؤدي /19/ للملحدة إلى نفي الصانع وللثنوية إلى إثبات الثاني لأن الملحدة والنثوية لايثبتون التكليف ولايعترفون بالسمعيات ولا يثبتون الجنة والنار فكيف يستقيم ما ذكروه عنهم.
قلت: قال مولانا عليه السلام: ومما أدى إلى تكليف من هذه حاله القول بعدم قدرة الله على هدايته وتوقيفه لأنه لو قدر على ذلك لوجب عليه وإلا لقبح التكليف مع عدم فعل ما يلتطف به وهو مذهب البهشمية وجمهور العدلية وأدى أيضاً إلى القول بعدم التعذيب وإيصال العقاب إلى الكافرين والمذنبين وهو قول طائفة من المسلمين.
وأما العدلية فذهبوا إلى حسنه وحسن إيصال العقاب بسببه وأنه لافرق في الحسن بين تكليف من المعلوم من حاله أنه يموت كافراً مستحقاً للعقاب وأنه يموت مؤمناً مستحقاً للثواب لكن اختلفوا في وجه حسنه فذهبت الزيدية والبصرية من المعتزلة إلى أن وجه حسنه أنه تعالى إنما أراد تعريضه للثواب بما يأتي ويذر من الأعمال وليس عليه تعالى أن يقبل. وذهب أكثر البغدادية إلى أنه إنما يحسن تكليفه حينئذ لنفع غيره وصرح أبو القاسم بقبح هذا التكليف وأنه تعالى لايفعله ولايحسن منه إلا بأن يكون لطفاً لغيره من المكلفين ثم اختلفوا فبعضهم اعتبر الكثرة فلا بد أن يحصل اللطف بتكليفه لمكلفين فصاعداً ومنهم من لم يعتبرها فقال: يحسن، وإن كان المكلفون جماعة وماتوا على المعصية إذا حصل بذلك التطاف مكلف واحد، ولو في طاعة واحدة.
وحكي عن ابن الملاحمي أن وجه حسن تكليفه ما ذكرته البصرية ولابد فيه من لطف لغيره وقد حكي هذا عن أبي الحسين أيضاً، وقيل: وجه حسنه وحسن تكليف من يموت مؤمناً مستحقاً للثواب لطف لغيره، وقد حكي هذا عن أبي الحسين أيضاًن وقيل: وجه حسنه وحسن تكليف من يموت مؤمناً مستحقاً للثواب ما لله تعالى عليهما من النعم ولايعتبر غير ذلك.
قوله: (ما قد ثبت بالأدلة القاطعة) إلى آخره.
يقال: إنكم ما لم تدفعوا ما ادعاه الخصوم من قبح هذا التكليف لم يتم لكم ما استدللتم به من عدل الله وحكمته . وجوابه: أن العدل والحكمة قد قامت عليهما الأدلة القاطعة ولم ترد هذه الشبهة على أي أركان تلك الأدلة ومقدماتها من كونه تعالى عالماً بقبح القبيح وغنياً عنه وعالماً باستغنائه عنه فلا يقدح ذلك فيما قد علمناه وتيقناه من العدل والحكمة ومع تيقنهما نقطع بأن كل فعل التبس علينا وجه الحكمة فيه فله وجه حكمة خفي عنا إذ مالم نعلمه أكثر مما علمناه.
قوله: (كما أن من قدم طعاماً إلى جائعين) إلى آخره.
قد ورد عليه أنه لامساواة بين الصورتين لأن لاجائعين على شفا جرف الهلاك فتحسن إرادة استنقاذهما وإن لم يقبلا أو أحدهما ولاكذلك الحيان قبل التكليف فإنهما في فسحة وسلامة ونعمة يتفضل الله عليهما بالحياة والملاذ من غير تكليف.
وأجيب بأن حال الحيين قبل التكليف أبلغ في العطب من حال الجائعين لأن لاضرر الذي ينزل بهما إذا لم يقبلا الطعام المقدم إليهما أكثر ما يكون زهوق الروح والضرر النازل بالحيين إذا لم يقبلا هو فوت نعيم الأبد والتعظيم الذي لايحد والرزء في فوات ذلك أعظم وأجل من زهوق الروح.
قلت: قال مولانا عليه السلام: وفيه نظر فإنه يجب بالعقل دفع الضرر وتحمل المشاق لأجله ولا يجب النظر في تحصيل النفع وإعمال الحيلة في ذلك ولاتحصل المشقة لأجله وأوضح من ذلك الإشكال أن يقال لانسلم استواء الصورتين فإن المقدم للطعام إلى الجائعين محسن إليهما بتعريضه إياهما للنفع ودفع ما بهما من الضرر ثم إذا لم يقبلا لم يوصل إليهما ضرراً بسبب عدم قبولهما ولم يعاقبهما عليه بخلاف المكلف أنه إذا لم يقبل ويفعل ما يفضي به إلى النعيم العظيم عوقب بالعقاب الشديد الأليم فالقياس غير سليم ولامستقيم والله سبحانه وتعالى أعلم.
قوله: (فلا يتم إحسان الباري تعالى ونعمته إلا بفعل أحدنا).
فيه نظر لأن لهم أن يجعلوا إتمام الإحسان متوقفاً على علم الله بالقبول لا على نفس القبول.
قولهك (وهذا مع كونه محالاً في الشاهد). إلى آخره.
نعني باستحالته /20/ أنا نعلم أنه لايتوقف كون إحسان أحدنا إلى غيره نعمة على قبوله.
قوله: (فإنه لولا حسن تكليفه تعالى) إلى آخره.
فيه نظر لأن قبول المكلف للتكليف لايتوقف على حسنه بل على إيقاعه فإنه يمكن قبول التكليف حسناً كان أو قبيحاً ولعله أراد أنه لايتأتى من المكلف القبول الحسن إلا مع حسن تكليفه تعالى وفيه تكلف.
قوله: (لأن وجه الحسن والقبح يجب أن يقارن).
هذا صحيح ووجهه ظاهر فإنهما المؤثران في الحسن والقبح ولايتأخر المؤثر عن الأثر وإن كان قاضي القضاة قد ذكر أنه يصح في وجه الحسن التقدم كنشر الصحف ونصب الموازين وإنطاق الجوارح فإن وجه حسنه علم المكلف به ليكون لطفاً له وذلك متقدم، والتأخر نحو أن يحتجم أحدنا أو يفتصد أو يشرب دواء كريهاً فإن وجه حسنه كونه دفعاً للضرر وهو متأخر ويمكن أن يقال بل الوجه في حسنه العلم بكونه يندفع به الضرر وهو مقارن ووجه الحسن في النوع الأول تصديق الإخبار به والوفاء بالوعدية والإخبار هو اللطف والله سبحانه أعلم.
قوله: (ولوجب فيمن كلف أن يقطع بأنه من أهل الجنة).
يعني للبناء على قبح تكليف من المعلوم من حاله أنه يكفر مع القطع بأن الله لايفعل القبيح، وقد استدل الشيخ أبو الحسين على حسن هذا التكليف بأنه لو قبح لقبح لكونه ظلماً أ, عبثاً إذ لاوجه يقتضي قبحه يمكن الإشارة إليه غير ما ذكر لايصح أن يقبح لكونه ظلماً لأنه إن جعل ظلماً لما يتبعه من العقوبة فلم يعاقب على نفس التكليف وإنما عوقب على فعل قبيح أو ترك واجب وهما جهتان لحسن العقابن فلييس العقاب ظلماً وإن جعل ظلماً لما يلحق من المشقة بسببه في الفعل أو الترك فالكافر الذي فرضنا الكلام فيه لم يفعل واجباً ولم يترك قبيحاً فلم تلحقه مشقة ولأنه يلزم في المؤمن أن يكون تكليفه ظلماً لنه الذي لحقته المشقة وإن جعل ظلماً لأن التكليف ضرر في نفسه فهذا الوجه ثابت في المؤمن فيكون تكليفه ظلماً ونفس التكليف لاضرر فيه ولامشقة فبطل أن يكون الوجه كونه ظلماً إذ لايتعقل كونه ظلماً إلا من الوجوه المذكورة وقد أبطلناها ولايصح أن يجعل الوجه كونه عبثاً لأن العبث ما لاغرض فيه أصلاً أو ما عري عن غرض مثله لايجوز أن يكون من النوع الأول لأن الغرض فيه حاصل ولامن النوع الثاني فإن التعريض لتلك المنافع العظيمة الدائمة غرض مثله بلا شك إذ مشاق التكليف يسيرة بالنظر إلى ما يحصل بها من نعيم الأبد.
قوله: (قلنا لو كان كذلك لكان غالب الظن) إلى آخره.
ما ذكره فيه نظر من وجهين أحدهما أنه قاس الأضعف وهو الظن على الأقوى وهو العلم وألزم من إثبات الحكم مع العلم ثبوته مع الظن وبينهما فرق واضح ومن حق الفرع مساواته للأصل إن لم يكن زائداً عليه، ثانيهما قياس تكليف من يعلم أنه لايؤمن على من قدم إليه الطعام مع العلم بأنه لايقبل وليس ...... واحداً إلا لو كان يحسن تقديم الطعام إلى من لايقبل ويتقل مثلاً لعدم قبوله ولعله نظر إلى عبارتهم حيث جعلوا عدم القبول هو الوجه في القبح من غير أن يشترطوا في وجه القبح إفضاء ذلك إلى عقابه وأنزال الضرر به.
والأولى في الجواب منع أن يكون عدم القبول وجهاً في القبح وأن العقل لايقضي بذلك إذن لشاركناهم في العلم بالقبح لمشاركتنا إياهم في العلم بما جعلوه وجهاً للقبح.
قوله: (إنما قبح منه لأنه إنما يأمر ولده) إلى آخره.
كان الأقوى والأولى في الجواب أن يقال: إنما قبح ذلك لأن الغرض من أرم الولد بالتجارة وصوله إلى النفع فإذا كان يعلم عدم حصول ذلك ووقوع ضده لم يحسن منه أمره بذلك والغرض في تكليف الله العبد تعريضه للمنافع التي لاتنال إلا بالتكليف وقد حصل وعدم انتفاعه به أتيه فيه من جهة نفسه.
وإنما قلنا إن هذا أولى لأن قصر الغرض في أمر الوالد ولده بالاتجار /21/ على ما ذكره فيه نظر، فإن الوالد يقصد مع ذلك حصول النفع لولده.
قوله: (كالقدرة والآلة والعلم).
أما القدرة والآلة فالكلام فيهما مستقيم، وأما العلم فليس كونه يمكننا من النفع والضر بالواضح.
قوله: (وقولهم أن التفضل متيقن) إلى آخره.
فه نظر لأنهم ما أرادوا بأنه متيقن أنه كائن لامحالة بل أرادوا أن يقع التفضل حيث أوصلت إليه المنافع التي كلف ليصل إليها تفضلاً يكون متيقناً إذ لايلحقه ضرر بوجه بخلاف التكليف إنه إن قبل وصل إلى النفع وإن لم يقبل فات النفع ولحقه ضرر كثير.
قوله: (يوضحه أنه قد كان يحسن من جهة العقل) إلى آخره.
يعني وفي ذلك دلالة على أن التكليف ليس هو لاسبب في الضرر إذن لم يحسن العفو من جهة العقل فتبين أن السبب هو المعصية التي هي ذنب يقتضي ثبوت حق العقوبة للمعصي ويحسن من جهة العقل أن يسمح حقه.
قوله: (كونها مسهلة للفرائض).
ليس المراد بذلك أنها تدعو إلى فعل الفرائض بل المراد أن الإنسان إذا تعودها وداوم عليها سهل عليه فعل الفرائض كما أن من تعود السفر سهل عليه بعد ذلك وإن لم يكن السفر الماضي داعياً إلى السفر الآخر.
قوله: (على أن كثيراً من الناس أوجب إتمام النوافل).
يعني زيد بن علي عليه السلام وأبا حنيفة واتباعهما جعلوا نوافل الصلاة ونحوها كنافلة الحج فيوجوب الإتمام بعد الشروع.
قوله: (فقد بطل غرض السائل).
فيه نظر لأن قول زيد وأبي حنيفة بوجوب الإتمام لايبطل غرضه من أنه لايستحق بتركها من الأصل عقاب وأيضاً فلا يستحقه بترك الإتمام عند الجمهور.
قوله: (فيما يتعلق بالتعريض بالتكليف والتمكين والألطاف ونحو ذلك).
يعني فقد أحسن سبحانه وفعل الاختيار له بأن عرضه لمنافع عظيمة بتكليفه إياه وبأن مكنه من الوصول إلى ذلك وطلف به وأراد بنحو ذلك حسن البيان له، والإيضاح والتبقية وقتاً يتمكن فيه من ذلك.
قوله: (إنما يقبح التكليف في الموضعين) إلى آخره.
تلخيص الجواب وتحقيقه أنه إنما قبح تكليف زيد إذا كان يكفر لأجله عمرو لكونه مفسدة وكل مفسدة قبيحة وأما تلكيفه مع العلم بأنه نفسه يكفر فليس من قبيل المفسدة بل هو بيان لما كلف به بالعلوم الضرورية وتنصيب الأدلة ومن حق المفسدة أن تكون بعد البيان والتمكين وكذلك اللطف فلا يتصور أن يكون تكليف الإنسان لنفسه مفسدة ف يحقه ولا لطفاً ويتصور ذلك في حق غيره.
قوله: (إن كان الغريق لايقدر على تخليص نفسه إلا بإدلاء الحبل).
يعني ولايتمكن من إهلاكها إلا بذلك.
قوله: (لأن الغرض واحد). يعني وهو التعريض للنفع الذي لاينال إلا بذلك.
قوله: (قلنا الغرض بالتكليف).
يعني التكليف الذي هو إكمال علوم العقل فقد ذكر بعض اصحابنا أن للتكليف في لسانهم مجريين: أحدهما هذا ولاكلام أن الغرض به التعريض للمنافع لاعظيمة والتمكين من الوصول إليها، والثاني إرادته منهم فع لالواجبات وترك المقبحات وأمره ونهيه بذلك والغرض بهذا حصول الطاعات وترك المعاصي وهو الذي قصدوه بقولهم في الاحتجاج على وجوب اللطف لو لم يلطف بهم لكان ناقضاً لغرضه بالتكليف أرادواب التكليف هذا المعنى الأخير، وأما بالمعنى الأول فالغرض به التعريض للمنافع وقد حصل سواء فعل اللطف أم لا.
قوله: (لأن أكثر ما يفعله المنعمون في الشاهد) إلى آخره.
يعني كإعطاء الدراهم والدنانير مما لاتنتفع به نفسه بل يتوصل به إلى النفع.
قوله: (بحسب اختلاف بين أهل هذه المقالة).
يعني فإن بعضهم لم يعتبر الكثرة بل بنى على أنه يحسن تكليف جماعة يعلم الله أنهم يموتون على الكفر لالتطاف مكلف واحد وبعضهم اعتبر الكثرة واشترط أن يكون تكليف من يعلم من حاله أنه يكفر لطفاً لاثنين فصاعداً وهو المشهور عن أبي القاسم.
فصل فيما يتناوله التكليف من الأفعال والتروك
قوله: (أو بألا تفعل).
هذا بناء على ما هو المختار من مذهب أبي هاشم وأتباعه وهو أن ألا تفعل جهة كافية في استحقاق المدح والذم ويتعلق بها التكليف وفيه خلاف وسيأتي تحقيقه في باب الوعد والوعيد إن شاء الله تعالى.
تنبيه
قد يذكر فيما يتناوله التكليف عبارة أخرى غير عبارة /22/ المصنف هذه فيقال: الذي يتناوله التكليف فعل وترك والفعل علم وعمل والعلم فرض عين وهو العلم بالمسائل الإلهية وما ينبني العلم بها على العلم به وكذلك العلم بأصول الشرائع كالعلم بوجوب الصلاة وتفاصيل أركانها الواجبة وأذكارها والعلم بوجوب الصوم والحج والزكاة ونحو ذلك في حق من وجب عليه عمل في ذلك، وفرض كفاية وهو العلم بالمعلومات الدينية التي ليس على العالم بها فيها عمل كالعلم بأحكام الحيض في حق من لايباح له الاستمتاع بذات الحيض والعلم بتفاصيل أحكام الزكاة في حق من لاتجب عليه والعلم بمناسك الحج في حق من لايجب عليه ونحو ذلك.
فأما العمل والترك فأثرهما ظاهر والكلام في ....... يطول وهو مذكور في مواضعه.
فصل في شرائط حسن التكليف
قوله: (نحو أن يعلم الله أنه إذا كلف زيداً).
فيه نظر فإن لامفسدة من حقها أن تكون أمراً زائداً على التكليف اللهم إلا إذا قصد في فعل معين كأن يعلم الله من حال زيد بعد أن قد صار من جملة المكلفين أنه إذا كلفه بهذا الفعل المعين أو الترك المعين كفر لأجل ذلك فهذا التكليف مفسدة ولايحسن، وأما أصل تكليفه فلا يصح أن يعد مفسدة في حقه.
قوله: (وقال أبو هاشم) إلى آخره.
اعلم أن أبا هاشم يوافق أبا علي في أنه لو لم يكن للعاصي زيادة ثواب مع دعا الشيطان له إذا أدى ما كلف أنه لايحسن حينئذ خلق الشيطان ولاتبقيته ولاتمكينه من الوسوسة والإضلال.
قوله: (حجة أبي علي) إلى آخره.
اعلم أن للشيخ أبي علي حججاً من هذا القبيل كقوله تعالى: {ولو بسط الله الرزق لعباده} الآية. وقوله تعالى: {كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} فأخبر تعالى وصرح بأن الغنى مفسدة في حق كل المكلفين أو بعضهم مع أن المشقة في الامتناع عن المعصية يزداد مع الغنى لأنه مع الغنى يتمكن من المعاصي ويسهل عليه فعلها وامتناع الإنسان عما يتمكن منه من المعاصي مع الغيبة والسعة أشق من ذلك مع عدم الغنى وسعة الرزق فلو كانت زيادة المشقة تخرج التكليف عن كونه مفسدة لما كان الغنى مفسدة أصلاً.
وأجيب بأنه لايبعد أن يكون الغنى الذي حكم الله عليه بكونه مفسدة لايزداد لأجله ثواب الممتنع عن المعصية معه وإن كانت المشقة معه في الامتناع أكبر لأن كثرة الثواب لا يلازم كثرة المشقة ولو فرضنا شيئاً من الغنى يزداد معه الثواب في ترك المعصية أخرجناه عن كونه مفسدة ولم يحكم عليه بذلك.
وذكر الشيخ محمود بن الملاحمي ما معناه أنه مع تساوي الثواب في التلكيفين الأشق والأخف يظهر أن الشهوة الزائدة والغنى الزائد مفسدة ولابد أن يسلم أبو هاشم أن المفسدة قبيحة وعند التعريض لزيادة الثواب ينبغي أن يسلم أبو علي أنه كالتكليف المبتدأ في كونه غير مفسدة.
قوله: (قال أبو هاشم يحسن لأن فيه مزيد ثواب والمكلف أتى من جهة نفسه).
فيه سؤال وهو أن يقال: إذا كان وجه حسن هذه الزيادة التي يصل المكلف بسببها كونها تعريضاً للثواب الأكثر لزم حسن سلب اللطف عن العبد إذا علم الله أنه مع الإتيان بالفعل المكلف به حيث سلبه اللطف يكون ثوابه أكثر لأن فيه تعريضاً للثواب وأنتم لاتجوزون سلب اللطف لهذا الغرض بل أبطلتموه بأن منع اللطف جار مجرى المفسدة لاستحقاق المكلف معه عظيم العقاب وذلك الغرض المذكور لايعتد به لأنه لايكون الشيء حسناً حتى يتعرى عن جميع وجوه القبح.
وجوابه أن زيادة الشهوة وتمكين إبليس من جنس التكليف فحسن ذلك للتعريض كابتداء التكليف بخلاف سلب اللطف فليس من جنس التكليف.
قوله: (وبه قال أهل الأصلح).
يعني أبا القاسم وأصحابه قالوا لأنه أصلح له والأصلح واجب على الله تعالى عندهم.
قوله: (وقال أبو هاشم لايجب).
وبه قال القاضي وابن متويه وجمهور المتكلمين.
قولهك (لأن التبقية في الأصل تفضل منه تعالى، وكذلك التكليف حال التبقية).
اعلم أن المتكلمين كثيراً ما يطلقون العبارة بأن التكليف يفضل ويذكرون في موضع أن شرائط التكليف متى اجتمعت في الحي وجب تكليفه وهذا يوهم التدافع وقد أجاب بعضهم بأن ذكرهم للوجوب /23/ تساهل في العبارة وليس مرادهم بقولهم يجب أن يكلف إلا أنه لابد من ذلك لكيلا يكون تعالى عابثاً بأن جمع الشرائط المذكورة في الحي ولم يكلفه فعلى هذا لو جمعها ولم يكلفه كان الذم على جمعها وعلى ظاهر القول بالوجوب يكون الذم على عدم التكليف وأوضح من هذا الجواب ما قد سبق من أن للتكليف في لسانهم مجريين فحيذ ذكروا أن التكليف يفضل أرادوا به أحدهما وهو إكمال علوم العقل فلا شك في أن إكمالها وخلقاه تفضل محض لايشتبه عدم وجوبه وحيث يذكرون وجوبه عند اجتماع شروطه أرادوا به المجرى الثاني وهو إرادة الطاعة منه وكراهة المعصية والأمر بالواجبات والنهي عن المقبحات فلا شك على قواعدهم أن من أكمل الله له العقل ومكنه بالقدرة والآلة لابد أن يخلقه ويأمره وينهاه وإلا لكان إكمال الشرائط عبثاً وكان عدم الأمر والنهي إخلالاً بما يجب من البيان والهداية.
قوله: (لأنها إن كانت لطفاً في الماضي) إلى آخره.
هذا ذكره القاضي. قال ابن الملاحمي: ولقائل أن يقول: يجوز أن يريد أبو علي بكونها لطفاً في الماضي أنها كاللطف إذ الغرض منه أن تزداد دواعيه إلى المطلوب منه فيفعله ليخلص من عقاب تركه وهذا المعنى حاصل في هذا التكليف لأنه يتخلص به من العقاب فيكون كاللطف.
قوله: (بمقالة أهل الأصل إن كان مؤمناً).
قال ابن الملاحمي ما معناه: فأما المؤمن هل يجوز أن يبقى إذا كان المعلوم أنه يفسق ينبغي أن يقال بجواز ذلك إذا كان من المعلوم أنه يتوب بعد فسقه إذ لايمتنع أن يستحق بالتوبة أزيد من الثواب الذي كان يستحقه لو لم يفسق ويتب ويحنئذ فليس في تبقيته نقض للغرض، وأما إذا كان من المعلوم أنه لايتوب بعد فسقه فإنه يجب احترامه لما في تبقيته من نقض الغرض.
قوله: (لاسيما وقد ورد الشرع) إلى آخره.
قد أجاب ابن الملاحمي عما ذكره بأنه لم يثبت إيمان إبليس قبل كفره بل أخبر تعالى عنه أنه كان من الكافرين ولاوجه لجعل كان بمعنى صار فإنه خلاف الظاهر وتأول قوله تعالى: {إن الذين آمنوا ثم كفروا} بأن المراد أظهروا الإيمان نفاقاً ثم كفروا ظاهراً ولهذا قال: {بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليما}، وتأول قوله تعالى: {كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم} بأن المراد إيمان قوم من اليهود الذي هو إخبارهم بالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قبل بعثته وقوله تعالى: {أكفرتم بعد إيمانكم} بأن المراد بعد إظهاركم الإيمان ورد في قوم منافين وكل ما ذكره خلاف الظاهرولا ملجئ للتأويل بغير دليل.
قوله: (أن كلفه تكليفاً ثانياً كفر).
أما أن علم أنه يكفر لأجل التكليف فهو عين المفسدة ولا يجوز بالاتفاق وأما أن علم أنه يكفر برد ما كلفه ثانياً أو كفراً ليس لأجل تكليفه فالأمر كما ذكره.
قوله: (وقال أبو عبدالله) إلى آخره.
هكذا ينبغي أن يكون قول أهل الأصلح ولاذي ياتي على قواعدهم.
قوله: (قال القاضي) إلى آخره.
كلامه هو المطابق للقواعد والجاري على سنن قياس ما تقدم للبهشمية في الصور الأول ورجحه بعض المتأخرين وقال هو الحق.
قوله: (وأما الشروط الراجعة إلى الفعل المكلف به فشرطان).
زاد بعضهم شرطاً ثالثاص وهو ألا يكون مفسدة ولايتصور كونه مفسدة إلا في حق مكلف آخر أو في عل آخر أو ترك واجب لأن لاشيء لايكون مفسدة في نفسه.
قوله: (فيخرج من ذلك المباح والفعل اليسير كما ذكر).
ويخرج منه أيضاً ما يقع من الساهي والنائم فعلا أو تركاً ويخرج منه فعل المقبحات والمكروهات وترك الواجبات والمندوبات فإن جميع ما ذكر لايتعلق به التكليف.
قوله: (وسيجيء الكلام عليهم).
يعني في أنه لا يجوز تكليف ما لايطاق والأولى أن يقال: وكلامهم مبني على قاعدة لو صحت لهم لم ننازعهم فيما ذكروه بالنظر إليها لكنها فاسدة قد بينا بطلانها وهي القول بإيجاب القدرة لمقدورها ومقارنتها له.
قوله: (لحصول العقل).
فيه نظر فإن من لاعقل له لاتكليف له إذ التكليف هو في الحقيقة خلق العقلاء فلا /24/ ينبغي أن يعد شرطاً، وإنما يصح ذلك على تفسير التكليف بالمعنى الثاني.
قوله: (والآلة).
يعني الآلات التي يحتاج إليها في إذا ما كلف بأن تكون حاصلة أو يمكنه تحصيلها والآلات ضربان منها ما لايقدر عليه فلا يجب علينا ما هي آلة فيه وإن لم يحصل لنا كلو كلفنا بالكتابة مع أمكان تحصيلنا القلم والمداد والكاغد.
قوله: (ونحو ذلك).
لعله أراد به اتساع الوقت للفعل المكلف به ليمكنه تحصيله فيه والأقرب أنه أراد به عدم الإلجاء فإن الأصحاب يعدونه هنا أحد الشروط.
قوله: (أن يكون مزاج العلة بالألطاف) إلى آخره.
الصحيح أن هذا ليس من شرائط حسن التكليف فإنه يحسن بكمال ما عداه من الشروط وإنما فعل اللطف واجب مستقل عند من أ,جبه فإذا لم يفعل كان إخلالاً بالواجب ولم ينكشف بتركه قبح التكليف.
قولهك (وصارف وهو المشقة).
اعلم أن المشقة شرط في التكليف ولاتكليف مع عدمها وقد أدرج المصنف ذكرها في هذا الشرط وكان ينبغي أن تفرد لكن لعله بنى على أنها داخلة في ماهية التكليف والشرط من حقه أن يكون زائداً على الماهية وقد صرح بذلك بعضهم.
قوله: (ومن هنا قال أصحابنا أن من استغنى بالحسن عن القبيح) إلى آخره.
هكذا قال الشيخ أبو هاشم وأتباعه وعدوا عدم الاستغناء المذكور شرطاً من الشروط الراجعة إلى المكلف وعدوا حصوله من الأمور الرافعة للتكليف فجوزوا أن يكون هو الوجه في ارتفاع تكليف أهل الجنة وجوزوا أن يكون الوجه في ارتفاعه الإلجاء.
وقال الشيخ أبو علي: أنه لايشترط في التكليف عدم الاستغناء بالحسن عن القبيح ولايرفع التكليف إلا الإلجاء فأ,جب على الله أن يلجئ أهل الجنة إلى ترك القبيح لعدم تكليفهم ويتفق الشيخان على أنه يجب صرفهم عن القبيح لكن قال أبو علي بطريقة الإلجاء فقط، وقال أبو هاشم به أو بالاستغناء المذكور.
تنبيه
أهمل المصنف شرطاً معتبراً هنا وهو أن يكون المكلف عالماً بما كلف وصفته والعلم بذلك ضربان: ضروري كالعلم بقبح الظلم والعبث وتكليف ما لايطاق على الجملة فما هذا حاله لايكلف إلا مع حصوله بل هو من العقل فهو داخل في نفس التكليف، واستدلالي كالعلم بالمسائل الإلهية والعلم بالشرعيات كالصلاة والصوم وما هذا حاصله لايشترط في التكليف حصوله بل التمكن منه.
قوله: (وهي أصول النعم).
سميت أصولاً لأن كلا منها مؤثر في الالتذاذ أو شرط فيما يؤثر فيه بحيث لايتم الالتذاذ من دونه وبحيث أنها إذا اجتمعت عقل الالتذاذ وإن فقد غيرها وإذا فقد واحد منها لم يعقل.
قوله: (وقدرية).
منهم من لم يعدها قسماً برأسه وجعلها داخلة في التمكين من المشتهى ومنهم من عدها وأراد بالتمكين غيرها وهو خلق المشتهى والتخلية بينه وبينه.
قوله: (ويجري ذلك مجرى الشكر المطلق).
اعلم أن العبادة توافق الشكر في أمرين الاستحقاق لأجل النعمة ومقارنة التعظيم والإجلال وتفارقه في وجوه أحدها أنه لايستحقها إلا المنعم بأصول النعم وثانيها تأديتها على نهاية ما يمكن من التذلل والخضوع وثالثها أنها يتغير حكمها بتغير الأحوال والأمان ويرد عليها النسخ، ورابعها وجوب إظهارها على سبيلا الاستمرار في أوقاتها والشكر لايجب إظهاره إلى عند بهمه، وخامسها أنها لاتتزايد بتزايد النعم والشكر يتزايد بتزايدها، وسادسها أنها لايعلم وجوبها إلا بالشرع ووجوبه معلوم بالعقل.
قوله: (قيل له) إلى آخره.
كان الأحسن في الجواب والأكثر إصابة ومطابقة أن يقال: وجب الثواب لكون الحكمة قضت باقتران العبادة بالمشقة العظيمة مع أنه كان يمكن تجريدها عنها بألا يخلق لنا نفرة عنها وتزال الصوارف الصارفة /25/ عنها ولايخلق فينا شهوة القبيح فهذا هو خلاصة الجواب وقد عاد إليه المصنف آخراً بقوله: وعلى الجملة وما قبله فيه تكلف لاحاجة إليه.
قولهك (أن يكون عالماً باجتماع الشرائط الراجعة إلى المكلف والمكلف به).
ينبغي أن يزاد: ولاتكليف.
قوله: (الرابع أن يكون عالماً أنه سيثيبه) إلى آخره.
قال في المحيط: ألتوفير للثواب ليس بشرط في حسن التلكيف بل الشرط التزام الثواب على الطاعة ولو فرض عدم اتصاله فلا يقدح في حسن التكليف مع استحقاقه كما أنه تعالى لم يلطف بالمكل فلم يقدح في حسن تكليفه على رأي البعض قيل: ومن تمام هذا الشرط أن يعلم تعالى مع علمه بأنه سيثيبه أنه سيزيد إثابته عند ذلك، ولايقال: يزيد إثابته من حال الفعل للطاعة لأن تقديم الإرادة عبث ويمكن أني قال لادليل على أن هذا من الشروط فإن الإرادة تقع تبعاً للداعي إلى الفعل والغرض المقصود الإثابة أريدت أو لم ترد وإن لم يكن بد منها في حق العالم المميز لفعله المقصود في نفسه.
تنبيه يشتمل على فوائد تتعلق بالشرائط المذكورة
الفائدة الأولى: ذكر في المحيط أن هذه الشرائط يقتضيها التكليف لا أنها شرط في حسنه والصحيح خلاف ما ذكره وأنها شرائط في الحسن إذا أحيل أحدها قدح في حسنه وهو الظاهر من كلام المتكلمين.
الثانية: أن الشرائط تنقسم فمنها ما يتقدم على التكليف وهو التمكين ونحوه ومنها ما يقارن وهو المشقة هذا على عدها شرطاً لنها لاتكون إلا بالشهوة والنفرة ولو تقدمتا لم يكن لها حظ في حصول المشقة ومنها ما يعتبر فهي التقدم والمقارنة وهو العقل وما يتفرع عليه من العلوم التي تناول الأفعال والتروك وأحكام الأفعال والتي يدعو إلى الفعل أو يصرف عنه. هكذا قيل. وفي عد العقل شرطاً نظر فإنه نفس التكليف في الحقيقة.
الثالثة: أنه لايشترط في التكليف وحسنه أن يقبل المكلف ولا أن يكون هناك لطف ولا أن يعلم كونه مكلفاً ولا ألا يعلمه الله بأنه يموت على الكفر مع بقاء تكليفه بل يجوز ذلك عند الأكثر. وقال أبو القاسم: لايجوز لأنه إذا علم أنه من أهل النار أيس من الانتفاع بالتكليف فيطرح علائقه فيكون إغراء. وهو قول طائفة من البغدادية ومتأخري الأشاعرة.
وأجيب بأن علمه أن عقابه إنما هو لكفره فقط زيادة في زجره عن الكفر فيكون لطفاً لا إغراء وانهماكه في العصيان عند علمه بذلك غير مسلم لأن العقاب مراتب وهو يعلم أنه ما ازداد كفره ازداد عقابه ورضاه بالأخف لايكون رضا بالأشد يوضحه قوله تعالى في أبي لهب: {سيصلى ناراً ذات لهب} فقد أخبر بأنه من أهل النار والقرآن خطاب وإعلام لجميع المكلفين وهو من جملتهم وأما إعلام المكلف بأنه يؤمن ويدخل الجنة فلا خلاف في حسنه.
الفائدة الرابعة: في ذكر فروع يتفرع على التكليف بعد ثبوته وكمال شرائطه ذكرها بعض أصحابنا:
الفرع الأول: في حكم من فعل الواجب أو ترك القبيح خشية من الذم في الدنيا والخزي والعقوبة العاجلة كالحد أو ضرر ينزله لاله به في نفسه أو ماله لا لوجوبه ولا لقبحه ولا لقصد الإمتثال حكمه أنه لايستحق الثواب لأنه جزا ولايستحق الجزاء من لم يطابق ما أراده المجازي، وأما لاعقاب فيسقط عنه إذ قد أتى بالواجب على وجهه كقضاء الدين ونحوه من الواجبات العقلية ولم يأت بالقبيح فأما نحو الصلاة من الشرعيات فالقرب أنه يستحق العقاب وإن أى بها على ذلك الوجه إذ هو في حكم المخل بها لأنه لم يأت بها على الوجه المشروع في نيتها فلا يقع على الوجه الذي لأجله وجبت وهو اللطفية لأن لاشرط في لطفيتها إيقاعها على لاشروط التي قضى الشرع باعتبارها ومن جملتها النية التي بها تتعين وتمتاز عن النفل وهي أن يفعلها لوجوبها.
الفرع الثاني: من فعل الواجب مخافة العقاب على تركه إن اقترن /26/ بذلك معرفته أنه لايعاقب إلا على ترك واجب فإن تلك النية تجزيه لأنه في التحقيق قد أداه لوجوبه فيستحق الثواب وينجو من العقاب، وإن اعتقد أنه تعالى يعاقب على ترك ما ليس بواجب لم تجزه نيته، وأما إذا ترك القبيح لهذه النية فإن عقابه يسقط بكل حال، إذ لايفتقر تركه إلى نية إلا لتحصيل الثواب فإن تحصيله يفتقر إلى تركه بنية الطاعة والامتثال.
الفرع الثالث: من فعل واجباً أو مندوباً أو ترك قبيحاً أو مكروهاً ليحصل الثواب قال لا إشكال أن هذه النية لاتجزي في الواجب والمندوب لأن الواجب لايكون لطفاً والمندوب لايكون مشبهاً للفرائض إلا مع نية التأدية للوجوب أو للندب فلا يستحق ثواباً ولايسقط عنه عقاب الإخلال وأما تركه للقبيح لذلك فيسقط عنه العقاب وأمأ الثواب فيه وفي ترك المكروهات يحتمل عدم استحقاقه لعدم نية الامتثال فإنه إنما ترك لغرض يخصه ويحتمل أن يستحقه لأن نيته قد تضمنت نية الامتثال لأنه لايصل الثواب إليه إلا مع الطاعة والامتثال وقد قصد وصوله هذا في حق الواجبات والقبائح الشرعية وأما العقليات فحكملها حكم القبيح الشرعي في سقوط العقاب والاحتمالين في استحقاق الثواب.
الفرع الرابع: لو فعل الواجب لوجوبه لكنه ضم إلى ذلك قصد أن يمدح عليه وكذلك ترك القبيح. قال: ألتحقيق أن الشرع قد نص على أنه يبطل استحقاق الثواب مطلقاً إذ سئل صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: لاشريك لله في عبادته فلا ثواب في فعل الواجبات الشرعية لذلك ولاسقوط للعقاب، وأما القبائح فلا عقاب إذ لم يفعلها بل قد تركها لكن يستحق العقاب على نية المدح وإرادته المحرمة وأما الواجبات العقلية فيسقط عقاب تركها لفعله لها وحصولها على وجه وجوبها ويعاقب على تلك النية ولايستحق ثواباً، وأما ترك القبيح العقلي فكذلك لايعاقب عليه إذ لم يفعله ويعاقب على تلك النية وهي إرادة المدح.
الفرع الخامس: لو ضم إلى نية فعل الواجب لوجوبه إرادة أن يثاب عليه أو ألا يعاقب على تركه. قال: لا إشكال أن هذه النية توجب سقوط العقاب، وأما الثواب فلا بد من مطابقة مراد الله منه لأنه جزاء ولاجزاء مع عدم إرادة الامتثال لأمر فاعل الجزاء لكن إذا علم أنه تعالى لايثيب إلا على ما أراده فقد قصده.
الفرع السادس: إذا فعر الواجب لوجوبه وترك القبيح لقبحه من غير قصد اتباع مراد الله. قال: ألتحقيق سقوط العقاب مطلقاً وعدم استحقاق الثواب إذ لاثواب إلا مع إرادة مطابقة مراد المثيب كما قدمنا لكن لايبعد أن يستحق بذلك العوض لأجل المشقة الت يضمنها الله تعالى لافعل والترك فهو بمنزلة المؤلم، هذا تلخيص ما ذكره بعض أصحابنا من هذه الفروع. وعندي أن ذلك أو أكثره بحكم لادليل عليه وأن أحكام النية وإجزاؤها وعدمه طريقة الشرع ولامجال للعقل فيه ولم يرد في الشرع ما يقضي بما ذكره إلا في تحريم النية التي يصير بها مرائياً وبطلان العمل لأجل المراياه وما عدا ذلك فهو مما تفرد بعلمه الله والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل في أن الله تعالى إذا أكمل للعبد شرائط التكليف فلا بد أن يكلفه
اعلم أن مع كمال الشرائط قد حصل التكليف بأحد المعنيين وهو مصير العبد مكلفاً والمراد هنا المعنى الثاني وهو أن يريد منه الطاعة ويأمره بها ويكره منه المعصية وينهاه عنها فالوجه فيه ما ذكره.
قولهك (كمن يصنع للغير طعاماً).
يعني ولايدعوه إليه ولايعرضه عليه فإن ذلك يعود على غرضه بالنقص.
القول في قبح تكليف ما لايطاق
قوله: (إلا الغزالي).
ليس وجه امتناعه عنده عقلاص، الوجه الذي تعلل به العدلية وهو قبحه وأن الله لايفعل القبيح لأن قاعدته نفي التقبيح العقلي /27/ بل علل بأن الطلب ممن لايتأتى منه المطلوب محال كما يستحيل طلب الحركة من الشجرة.
قولهك (إلا من لا يعبأ به الجمهور).
مهم على أنه ممتنع سمعاً فالقائل بجوازه عقلاً وسمعاً الأشعري وأتباعه وليسوا كما ذكر ممن لايعبأ به فإن الأشعري رأسهم وإمامهم الذي يعتزون إليه ويعظمونه وقد نسب إليه أصحابنا التصريح بذلك وذكر ابن الخطيب وابن الحاجب أنه لم يصرح بجواز تكليف ما لايطاق وإنما أخذ له من نحو قوله: لا تأثير لقدرة العبد في أحداث الفعل فإذا كلف به فقد كلف بما لايقدر عليه وغير ذلك من أصوله القاضية بالجبر وعدم الاختيار.
واعلم أن لما لايطاق صوراً إحداها ما لايدخل تحت مقدور قادر مطلقاً كالجمع بين الضدين وإيجاد ما لايتناهى وجعل القديم محدثاً وإدخال بعض المتحيزات في بعض. الصورة الثانية: ما لانقدر عليه نحن وهو مقدور في نفسه يقدر القديم سبحانه عليه كإيجاد الأجسام ونحوها مما لايتعلق به قدرنا.
الصورة الثالثة: ما لانتمكن من فعله لوجه يقع عليه وإن كان مما يدخل جنسه تحت مقدورنا كلاكلام الموجود في الحصى والشجر والطيران.
الصورة الرابعة: ما يدخل تحت مقدورنا جنساً ووجهاً وصفة إلا أن كل قادر يقدرة لم توجد فيه القدة على ذلك وإن كانت قد توجد في بعض القادرين فهذه صور أربع وهل الخلاف فيها كلها او في البعض منها الرواية عنهم في ذلك مختلفة.
قيل: والأظهر أنهم يجيزون التكليف فيها كلها وقيل لايخالفون إلا في الصورة الرابعة فأما الثلاث الأول فلا يصح عندهم التكليف بشيء منها وذكر محمود الملاحمي حاكياً عن الشيخ أبي الحسين أنه وجد في بعض كتب الأشعرية قال: اتفق أهل الحق على أن الله تعالى يصح أن يكلف ما لايطاق وإن اختلفوا هل يجوز تكليف العاجز والزمن السعي والضرير ..... المصحف والإنسان خلق الأجسام وخلق مثل القديم وجعل القديم محدثاً والمحدث قديماً، قال: فيمنع بعض أهل الحق من ذلك وأجازه آخرون وهم المصيبون المحقون واتفقوا جميعاً أنه لايصح أن يكلف تعالى الجماد.
ثم أن الشيخ أبا الحسين تعجب من هذا الكلام فقال: العجب من قوله أهل الحق وتسمية من قال بجواز تكليف ما لايطاق محقاً والمانع من ذلك مبطلاً وأعجب من هذا قوله: المحقون المصيبون وكونهم عنده من قال بجواز أن يكلف الإنسان خلق الحيوان وجعل القديم محدثاً والمحدث قديماً وكل ذلك مستحيل منا، ثم العجب كيف قضى بقبح تكليف الجماد وأجاز التكليف بخلق القديم محدثاً والجماد يصح أن يقدر بأن يجعل حياً قادراً والقدرة على جعل القديم محدثاً محال بكل حال.
قال مولانا عليه السلام: لعل وجه ذلك عندهم أن الجماد لايصح أن يخاطب ويتوجه إليه الطلب واعلم أنك إذا حققت وجدت الصواب على قاعدتهم طرد القضية في الصور الأربع لأن الوجه في جواز ذلك عندهم أنه تعالى لايقبح منه قبيح وهذه العلة مع جميع الصور على سواء فأما الواقع منه من تكليف ما لايمكن عندهم فهو الصورة الرابعة.
قوله: (وأعجب من هذا فرقهم بين تكليف من لايعلم) إلى آخره.
لعل وجه الفرق عندهم أن ما لايعلم لايمكن تصوره فلا يتصور تعلق التكليف به بخلاف ما يعلم ولا يقدر عليه.
قوله: (لنا العقل والسمع).
هذه المسألة مما لايصح الاستدلال عليها بالسمع إلا أن إيراد الأدلة السمعية عليها من قبيل الاستظهار والمعارضة لما أ,ردوه من ذلك.
قوله: (أما العقل فهو أن تكليف ما لايطاق) إلى آخره.
اعلم أن أهل العدل لايختلفون في أن قبح تكليف ما لايطاق معلوم على الجملة ضرورة وإنما اختلفوا في العلم بقبحه تفصيلاً وفي وجه قبحه وفي حق الله تعالى فالشيخان أبو الحسين ومحمود بن الملاحمي طردا القضية وقالا كل ذلك معلوم بالضرورة قيل لهما: لو كان ضرورياً لم تخالف فيه المجبرة فأجابا بأنهم صنفان عوام وعلماء فالعلماء منهم فيهم قلة فيجوز عليهم التواطؤ على أنكار الضرورة لأغراض دنيوية والعوام هم السواد منهم ومن غيرهم وهم نعقة للناعق.
وقال جمهور العدلية: لايعلم قبح تكليف ما لايطاق مفصلاً وفي حق الله ألا استدلالا وهو الأصح.
قوله: (وهو نفع المكلف كما تقدم).
فيه نظر /28/ إذ لو كان الغرض نفعه لم يكلف من يعلم أنه يموت كافراً بالصواب وهو تعريض المكلف للنفع.
قوله: (فقوله تعالى: {لايكلف الله نفساً إلا وسعها}).
هذه الآية فيها غاية التصريح بخلاف ما ذهب إليه الخصوم من وقوع تكليف ما لايطاق لا أنها تدل على عدم الجواز فلا دلالة عليه فيها والوسع ما يسع الإنسان ولايضيق عليه ولايخرج فيه ومن هنا نعرف أن الله تعالى نفى التكليف بما لايطاق وبشيء مما يطاق مما فيه حرج وضيق.
قولهك (و {إلا ما آتاها}).
يعني فصرح الله بأنه لايكلف أحداً أن ينفق إلا مما آتاه وفيه دلالة على أنه لايكلف ما لايطاق إذن لكلفه الإنفاق مما لم يؤته.
قوله: (وقد زعم بعض أغمارهم).
يقال: رجل غُمْر وغُمُر أي لم يجرب الأمور والجمع أغمار.
قوله: (على أن الحل لايثبت بالتكليف).
يقال: أليس في تأويل الخصم ما يقضي بذلك بل محصوله أنه لايكلف إلا بالحلال.
فصل في شبههم
قوله: (إن كان لها أثر لزم حصول المقدور حال حصول الأثر).
اختصر المصنف هذه الشبهة والذي يحررونها عليه أنها في الزمان المتقدم إما أن يكون لها أثر في الفعل أو لايكون إن كان لها أثر فتأثيرها في المقدور في الزمان الأول مع كون وجود المقدور غير حاصل فيكون تأثيرها في المقدور مغايراص لوجود المقدور والمؤثر إما أن يؤثر في ذلك المغاير حال وجوده فيلزم أن يكون موجداً للموجود أو قبل وجوده فيكون الكلام فيه كما تقدم ويلزم التسلسل وإن لم يكن للقدرة في الزمان المتقدم أثر وثبت أيضاً أنه ليس لها في الزمان المقارن لوجود الفعل أثر استحال أن يكون لها أثر البتة في الفعل، وإذا لم يكن لها أثر البتة استحال أن تكون قدرة على الفعل.
قوله: (فإن قيل لو قدرنا وقوع ما علم الله أنه لايقع).
هذا سؤال يرد على قولنا أنه لايستحيل خلاف المعلوم وأن القدرة تتعلق به فيقال: إذا كان جائز الوقوع فما الحكم لو قدرنا وقوعه؟
قوله: (ما قاله أبو الحسين).
هذا الجواب الذي أسنده المصنف إليه منصوب إلى البغدادية، وهو جواب حسن واضح لكنه قد اعترض بأنه جواب غير مطابق للسؤال لأن حاصل السؤال لو قدرنا وقوع ما قد ثبت في علم الله أنه لايقع فلا بد أن يكون الجواب مع بقاء السؤال بحاله وأنت قلت: إذا قدرنا وقوعه كأن الله غير عالم بعدم وقوعه وما فرضنا الكلام إلا مع علمه تعالى بعدم الوقوع.
قلت: قال مولانا عليه السلام: وهذا الاعتراض غير قادح في الجواب فإن المفروض أن الله عالم بأنه لايقع وأنه في نفس الأمر كذلك لاوقوع له في الخارج فلما قدر الوقوع الذي لاحقيقة له ولاحصول في الخارج قدرنا عدم العلم بعدم الوقوع كذلك، وما هذا الجواب المذكور إلا جواب واضح ميزانه راجح وخلافه من قبيل التكلف ومنسوج على منوال التعسف ونسب إلى أبي الحسين غير هذا الجواب وهو أن وقوع خلاف المعلوم محال من جهة العالمية فإذا قدر وقوعه اتبعناه تقديراً آخر وهو أنه يدل على الجهل ولزوم ........ ليس ببعيد وإنما البعيد لزوم المحال للجائز.
قوله: (فلا بد أن يخرج عن كونه عالماً بوقوعه).
صوابه عن كونه عالماً بأنه لايقع.
قوله: (وأما سائر الشيوخ) إلى آخره.
حاصل ما ذكروه أنه يحال السؤال بمعنى أنه يقال للسائل تقديرك هذا يستلزم الجواب عليه بنعم محالاً وبلا محالاً فلا يجاب بلا ولا بنعم إذ بأيهما أجيب نقض أصلاً قد علم علماً يقيناً.
قوله: (قال الرازي كلفنا الله بالعلوم النظرية) إلى آخره.
قد أجاد المصنف تحرير هذه الشبهة على جهة الإيجاز واستكمل معانيها وأطرافها بأخصر عبارة، وأما الرازي فله فيها بسط ذكره في محصوله وهو من أولى البسط، وله مدخل في التخليط والخبط ومن العجائب أن كتبه كلها مبنية على الأنظار فلا يكاد يعلم شيء مما فيها باضطرار فكيف يتجاسر على إنكار إمكان النظر ويتوصل بذلك إلى أن ينسب إلى الله ما ليس له بأهل من تكليف ما لايطاق ويقال له: لابد لك من الاعتراف بأن العلوم الضرورية غير كافية في تحصيل العلوم المكتسبة وإلا فليشترك /29/ العقلاء في العلوم المكتسبة لاشتراكهم في الضرورية، وإذا صح أثر لابد من أمر غيرها، فذلك الأمر إن لم يكن متوقفاً على اختيارنا لزم مثله في العلوم المكتسبة وقد ثبت أنها واقفة على الاختيار وحاصله بحسب القصود والدواعي الحاصلة لنا.
قوله: (وهذا تكليف بالجمع بين النقيضين).
وذلك من حيث أنه كلف بالإيمان وبأن يعلم عدم وجوده منه وهو لايتمكن من هذا العلم إلا مع عدمه إذ لايكون علماً إلا إذا تعلق به على ما هو عليه بتكليفه بهذا العلم وإن لم يكن نقيضاً للإيمان فهو يستلزم النقيض الذي هو عدم الإيمان.
قوله: (والجواب يقال لهم من سلم لكم) إلى آخره.
جواب المصنف هذا غير واضح لأنه إن كان معترفاً بأن الله قد أخبرنا بأن أبا لهب لايؤمن فليس له بد من الاعتراف بأن أبا لهب مكلف بأن يصدق الله فيما أخبر به من عدم إيمانه وكيف يصح أن يخاطب الله بخطاب ثم لا يريد من المكلف اعتقاد صدقه وإن كان منكراً لذلك إلا أن الله سبحانه لم يخبر بعدم إيمانه ومعتقداً أنه لادليل يدل على ذلك فكان الجواب بهذا المعنى أوضح وكان من حقه أن يبين عدم دلالة الظواهر القرآنية على ذلك، والمصنف ترك سلوك كل من هذين المنهجين في الجواب وأجاب بالمنع جملة وليس ذلك بشاق.
إذا عرفت ما ذكرناه فاعلم أن الجمهور أجابوا بالمنع كما ذكره المصنف مع الاعتراف بأن الله أخبر بأنه لايؤمن وذلك ليس بمستقيم. وقد أجاب بعض المتأخرين من أصحابنا بما حاصله أن الذي كلف به أبو لهب أن يصدق النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فيما جاء به على سبيل الجملة لا في كل من الأفراد إلا ما بلغه منها ولايسلم إن هذا مما بلغه إذ لايجب التبليغ إليه إلا لما له فيه مصلحة من حكم أو غيره ولامصلحة لأبي لهب في هذا وإن سلمنا أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أخبره فلم يخبره بأنه لايؤمن وإنما أخبره بأنه من أهل النار هو وامرأته وذلك لايتضمن أنه لايؤمن بما جاء به الرسول فإن كثيراً من المصدقين من أهل النار. سلمنا أن المصدقين ليسوا من أهل النار فالإطلاق الوارد في حقه بأنه من أهل النار مشروط بعدم التوبة كما في كثير من الإطلاقات الوعيدية نحو: {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده فإن له نار جهنم} فيكون قوله تعالى: {سيصلى ناراً ذات لهب} تقديره: إن مات على كفره ولم يسلم، وكذلك قوله تعالى: {تبت يدا أبي لهب وتب} لاتدل على القطع بهلاكه لجواز كونه مشروطاً بما ذكر كقوله: {ويل لكل أفاك أثيم} أي إن لم يتب وهذا جواب حسن.
قوله: (قالوا فكلف الملائكة ما لايعلمون).
يقال: فما وجه إيرادها في شبهة تكليف ما لايطاق وإنما يدل على تكليف ما لايعلم فهي من غير هذا الباب ولايصلح متمسكاً إلا للأشعري إن صح عنه القول بذلك.
قوله: (لاتعلق في ظاهرها).
المعنى: أن هذا ليس بأمر حقيقة وليس المراد طلب الإنباء منهم وإنما خاطبهم بذلك مبكتاً لهم ومقرعاً ومنبهاً على أنهم لايعلمون ما يعلمه ليقفوا عند أوامر ربهم ولايستهجنوا ما خفي عنهم فيه وجه الحكمة ولهذا قال: {إن كنتم صادقين} يعني في زعمكم أني أستخلف في الأرض مفسدين سافكين للدماء رداً عليهم وتعريفاً لهم بأن فمن استخلفه من الفوائد العلمية التي هي أصول الفوائد كلها ما يستأهلون لأجله أن يستخلفوا فأراهم بذلك وبين لهم بعض ما أجمل من ذكر المصالح في استخلافهم في قوله: {إني أعلم ما لاتعلمون}.
قوله: (أن المراد لاتحملنا ما يثقل علينا وتشتد كلفته). إلى آخره.
هذا وجه حسن وقد فسره جارالله بأن المراد لاتحملنا ما لاطاقة لنا به من العقوبات النازلة مبن قبلنا طلبوا الإعفاء عن التكليفات الشاقة التي كلفها من قبلهم بقوله: {ولاتحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا} ثم عما نزل عليهم من العقوبات على تفريطهم في المحافظة عليها ثم قال: وقيل المراد به الشاق الذي لايكاد يستطاع من التكاليف وهذا تكرير لقوله: {لاتحمل علينا إصراً}.
قوله: (والجواب أن المراد أنه يثقل ويشق) إلى آخر ما ذكره هو مستقيم إلا قوله: (والذي أمرنا أن نعدل بينهن فيه هو الجماع) فإنه لايجب العدل فيه إذ هو حق /30/ للرجل غير واجب عليه، وإنما يجب العدل في المثبت، وقوله: (ولين الجناب) فإن إلانة الجناب مندوبة غير واجبة.
قوله: (وحسن العشرة) هو يجمع الانفاق والمبيت وسائر حقوق الزوجية فلا يحتاج إلى قوله: (ونحو ذلك) والذي ذكره جارالله رحمه الله في تفسير هذه الآية ومحال أن يستطيعوا العدل بين النساء والتسوية حتى لايقع ميل البتة ولازيادة ولانقصان فيما يجب لهن فرفع ذلك عليكم تمام العدل وغايته وما كلفتم منه إلا ما تستطيعون بشرط أن تبذلوا فيه وسعكم وطاقتكم لأن تكليف ما لايستطاع داخل في حد الظلم {وما ربك بظلام للعبيد}.
وقيل: معناه إن تعدلوا في المحبة وعنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل ويقول: هذه قسمتي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك يعني المحبة، وقيل: إن العدل بينهن أمر صعب بالغ من الصعوبة حداً يوهم أنه غير مستطاع لأنه يجب أن يسوى بينهن في القسمة والنفقة والتعهد والنظر والإقبال والممالحة والمفاكهة والمؤانسة وغيرها مما لايكاد الحصر يأتي من ورائه فهو كالخارج من حد الاستطاعة هذا إذا كن محبوبات كلهن فكيف إذا مال القلب مع بعضهن.
قوله: (لاسيما على مذهبهم في أن الإدراك معنى).
يعني فإنه فعل من أفعال الله وأما إذا كان صفة مقتضاة عن كونه حياً فليس من قبيل الأفعال وإن كان مقتضى عن الحيية التي هي حاصلة بالحياة التي فعلها الله.
قوله: (فأورد ذلك على طريق التهديد والذم) فيه نظر، والأولى ما ذكره آخراً من أنه وارد على طريق التشبيه. قال جار الله: أراد أنهم لفرط تصامهم عن استماع الحق وكراهتهم له كأنهم لايستطيعون السمع ولعل بعض المجبرة يتوثب إذا غير عليه فيوعوع به على أهل العدل كأنه لم يسمع الناس يقولون في كل لسان هذا كلام لا أستطيع أن أسمعه وهذا مما يمجه سمعي.
وقال: (في قوله: {وكانوا لايستطيعون سمعاً}) يعني وكانوا صماً عنه إلا أنه أبلغ لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به وهؤلاء كأنهم أصمتت أسماعهم فلا استطاعة بهم للسمع.
الكلام في الألطاف
وجه كونه من باب العدل أن حاصل العدل أنه تعالى لايفعل القبيح، ولايخل بالواجب، واللطف معدود مما يجب عليه فذكر النص على أنه تعالى يفعله ولايخل به وإن كان قد دخل في مسألة عدل حكيم أنه لايخل بالواجب لكن احتيج إلى إفراد الكلام فيه ليدل على وجوبه وتفصيلاً لذلك المجمل وزيادة في طمائنينة النفس واليقين وكذلك أكثر مسائل العدل ووجه اتصاله بباب التكليف ماله من العلاقة به وكونه من توابعه ومذكوراً في شرائط حسنه.
قوله: (هو ما قرب من نيل الغرض).
هذه حقيقته في اللغة وأما في أصلها فاللطافة مقابلة للكثافة وهما من هيئات الأجسام وقيل: اللطف في اللغة الرفق.
قوله: (والمفسدة ما يقابله).
وتحديدها أن يبدل لفظ الطاعة في حد اللفط بالمعصية وزاد بعض المتكلمين في حدها ما لفظه: والثواب في الفعل المكلف به واحد. واحترز به عما إذا أراد الله في تكليفه للمكلف، وفي علمه أنه يعصي عند ذلك فإنه لايكون مفسدة لما يحصل به من التعريض لزيادة الثواب.
قوله: (يختار عنده الفعل). يعني فعل الواجب والمندوب.
قوله: (الذي يختار عنده الترك). يعني ترك المحظور والمكروه.
قوله: (احترازاً من أن يختار الإلجاء).
يعني عند أمر حدث، والمعنى أنه يحترز من أن يختار عند أمر الفعل أو الترك لا لذلك الأمر بل لأمر آخر وهذا زيادة في البيان وإلا فقوله يختار عنده مشعر بأن الاختيار لأجله.
قوله: (ليدخل فيه اللطف المطلق).
واللطف المطلق عند المتكلمين هو ما يدعو المكلف إلى فعل ما كلف فعله أو ترك ما كلف تركه /31/ فعل أو لم يفعل ترك أو لم يترك فهو في التحقيق يشمل أنواع اللطف، هذا معنى كونه مطلقاً لكن لما حسنوا اللطف الذي يفعل عنده بأن سموه توفيقاً والذي يترك عنده بأن سموه عصمة قصروا اللطف المطلق على ما عدا هذين النوعين.
قوله: (فليس بسديد) إلى آخره.
أما على ظاهر عبارتهم فكلامه مستقيم لكن المعلوم قطعاً عنهم أنهم لايقولون بأن الألطاف لاتكون إلا من قبيل الدواعي التي هي اعتقادات وظنون فقط فإنهم لايزالون ينصون على أن الآلام وغيرها وجه حسنها كونها ألطافاً لما يحصل بها من الالتطاف والاعتبار وإنما أرادوا بقولهم أن الألطاف تدعو أن الدواعي تنبعث معها وتحصل لأجلها ويقع اختيار الفعل الملطوف فيه عندها فمعنى عبارتهم في الحقيقة ومختار المصنف في العبارة واحد.
فصل
قوله: (ويسمى لطفاً) إلى آخره.
لما كان اللطف يسوق المكلف ويوصله إلى ما لم يكن ليصل إليه لولاه سمي لطفاًوهو مأخوذ من اللطافة لأن اللطيف من الأجسام يمكن دخوله الأماكن الضيقة الصغيرة للطافته وسمي مصلحة وصلاحاً لما فيه من النفع واستصلاحاً لما فيه من طلب صلاح المكلف.
قوله: (ويسمى توقيفاً).
هذا اسم خاص لنوع منه وكذلك العصمة وما تقدم أسماء غير خاصة.
قوله: (وكذلك لايقال أصلح الله فلاناً).
هذا نسبه في المحيط إلى قاضي القضاة فإن أراد حيث ورد للدعاء فغير صحيح لأن الدعاء بالإصلاح والهداية يصح للكافر والفاسق وإن أراد حيث ورد بمعنى الإخبار فكلامه ليس ببعيد وقيل: بل الصحيح خلافه لأن الله تعالى قد أصلح جميع خلهق بفعل اللطف لهم وإن كان منهم من لم يلتطف.
قوله: (فيجوز كل ذلك).
نحو فلان موفق لفعل الصلاة ومعصوم عن الزنا وأصلحه الله في أمر الصلاة ونحو ذلك.
فصل
قوله: (ليس يجب أن يكون لكل ما كلفناه لطف).
الخلاف في هذا لبشر بن المعتمر ومتابعيه ممن يقول بأن اللطف لايجب فإنهم قالوا لامكلف إلا والله قادر على اللطف به حتى يؤمن لكن لايجب عليه تعالى. قال الحاكم: ولقولهم هذا سموا أصحاب اللطف. يعني لا لنفيهم وجوب اللطف.
قوله: (وذلك ظاهر في الشاهد).
يقال: هذا صحيح لكن ثبوته في الشاهد لايستلزم ذلك في الغائب للفرق الواضح وهو أن الشاهد قاصر في علمه وقدرته والله سبحانه عالم لذاته وقادر لذاته.
قوله: (على أن أصحابنا) إلى آخره.
هو كما قالوه فإنه لايصح جعلها لطفاً في التكاليف الشرعية لأن من حق اللطف أن يكون زائداً على التمكين والإتيان بالشرعيات على وجوهها لايمكن مع فقد المعرفة وقوله العملية أراد به نحو قضاء الدين ورد الوديعة وشكر المنعم وتخرج العلمية نحو معرفة سائر مسائل التوحيد والعدل لمثل ما ذكر في الشرعيات.
فصل
قوله: (اتفق الشيوخ) إلى آخره.
يعني الشيوخ القائلين بوجوب اللطف.
قوله: (وهو أحد قولي أبي هاشم). هو الأخير من قوليه.
قوله: (لأن لطفه في المقدور) يعني فإذا لم يفعل للمكلف لم ..... عليه كمن لطفه في فعل حسن وفيه نظر فإن ترك فعل الله ما هو قبيح مما يدعوه إلى الطاعة لايعد علة للمكلف بها فإن القبيح في حق الله كالمستحيل وقد ذهب أبو علي إلى أنه يستحيل كون القبيح داعياً إلى الحسن فالمسألة مرتفعة من أصلها عنده ورد بعدم تسليم الاستحالة التي ذكرها إذ لايعلم ضرورة ولا دليل عليها وما المانع من كون القبيح داعياً إلى الحسن.
فصل وللطف شروط
قوله: (منها أن يكون ثابتاً).
حرف المصنف عبارة الأصحاب هنا لأنهم يقولون أن يكون موجوداً. قالوا: لأن المعدوم لا حظ له في دعا ولاصرف ذكره في المحيط فورد عليه أن اللطف يكون في الموجود وغيره، قيل: فكان ينبغي أن يقول موجوداً أو معدوماً ويصح وجوده لأن الاعتبار بأن يكون له أثر في الدعاء والصرف موجوداً كان أو معدوماً ولهذا بدل المصنف لفظة موجود بثابت وليس يحصل بذلك كل التخلص مما ورد /32/ وعبارته تشعر بأن مراده بالثابت المستمر لأنه قابله بالزائل ولا مانع من أن تحصل اللطفية بوجود أمر وإن كان قد زال كمرض يشفى منه الإنسان وفقر يتعقبه الغنى والله أعلم.
قوله: (مناسبة). معنى المناسبة أن يكون وجه تعينه على الملطوف فيه معلوماً.
قوله: (فقد يعلمها جملة). وذلك كالتكاليف الشرعية فإنا لانعلم وجه بعثها على ما هي لطف فيه، وهم التكالف العقلية مفصلاً بل على سبيل الجملة وهو أن الله لحكمته لم يكلفنا بها إلا لكونها لطفاً لنا.
قوله: (بأن نعلم أن الله لايفعل إلا ما هو صلاح).
هو غير مستقيم لأن ظاهره يوهم ثبوت اللطفية وعلمنا بها جملة في جميع أفعال الله وليس كذلك والمثال المستقيم ما ذكرناه وهو أن الشرعيات كالصلاة والزكاة والحج ألطاف كما قد تقدم وعلمنا لطفيتها جملة لأن الله كلفنا باه ولو لم تكن ألطافاً لم يكلفنا إياها.
قوله: (وكذلك الصلاة).
قيل: بل هي كغيرها في عدم العلم بالمناسبة تفصيلاً وليس في الآية إلا ذكر أنها لطف وأنه يحصل بها الانتهاء عن الفحشاء ولم يذكر ما وجه ذلك.
قوله: (فلا يخرجه عن كونه مختاراً).
وذلك لأن الغرض باللطف أن يأي بالطاعة على الوجه الذي يستحق به الثواب والإلجاء بنا في ذلك.
قوله: (ومنها أن يكون المكلف عالماً أو ظاناً) إلى آخره.
الأولى التفصيل فيقال: إن كان اللطف من فعل المكلف وكلف بتحصيله فإنه يكفي فيه أن يتمكن من العلم به أو الظن مع إمكان فعله وإن كان من فعل غيره فلا بد أن يعلمه أو يظنه ليثبت له حظ الدعاء والصرف لكن أن علمه فالمعلوم هو نفس اللطف وإن ظنه فالظن هو اللطف وفي الحقيقة أنه لابد أن يكون معلوماً لأن اللطف في المظنون هو الظن وهو معلوم.
قوله: (ويلزمه مثله في فعل العبد).
إنما ألزمه ذلك لأنه لايلتزمه فيه بل يوافق في جواز تقديم اللطف أو فإنا كثيرة كالصلاة فإن الملطوف فيها إنما يفعل بعد وقتها ولذلك وسع فيها إلى آخر الوقت.
قوله: (ولافرق على الصحيح).
يعني على القول الصحيح وهو قول أبي هاشم بجواز تقدمه، وأما على قول أبي علي فإذا منع تقدمه على الملطوف فيه بعد التكليف فأولى وأحرى قبله.
قيل: ومن صور المتقدم على التكليف أن يلتطف الصبي في كبره بما يعلمه في صغره. قلت: قال مولانا عليه السلام فيه نظر لأن التطافه بالعلم المتجدد الحاصل له في حال الكبر ألا ترى أنه لو كان قد نسي ما علمه في حال لاصغر لم يثبت له الالتطاف.
تنبيه
وعلى القول بجواز تقدمه على التكليف فلا قائل بأنه يجب تقدمه ولو فرض أنه مع التقديم أبلغ في الدعاء إلى الطاعة لأن سبب وجوبه التكليف فمهما لم يحصل السبب لم يحصل المسبب وهو الوجوب وكذلك لايجب مقارنته لمثل ذلك.
قوله: (أن يكون مدركاً أو في حكم المدرك).
المدرك كالآلام النازلة بالمكلفين وبغيرهم إذا حصل لهم بها التطاف والذي في حكم المدرك المعلوم ضرورة.
قوله: (وإنما يعتبر ذلك) إلى آخره.
هذا تأويل قاضي القضاة لقول الشيخ والذي ذهب إليه جمهور المتكلمين أنه لايشترط فيه ذلك مطلقاً وقد نبه المصنف بقوله: (قيل والصحيح خلاف ما ذكره) إلى آخره. على ما يحتج به للجمهور.
فصل
قوله: (ليس يصح أن يكون اللطف جهة في التكليف).
أي وجهاً في حسنه.
قوله: (ولاجهة في الطاعة أي وجهاً في وجوبها.
قوله: (كالإرادة التي هي جهة في الطاعة).
أي في كونها طاعة فإن إرادة كون السجدة لله هي المؤثرة في كونها طاعة إذ لو لم يرد بها ذلك وأراد بها غير الله لم تكن طاعة.
قوله: (ونحو ذلك من وجوه الأفعال).
يعني وجوه حسنها وقبحها ككون الكلام صدقاً أو كذباً وكون الفعل عدلاً أو ظلماً.
قوله: (جهة في صوم النهار).
أي في كونه طاعة وتأدية للواجب مثلاً.
قوله: (قيل ليست جهة في الصوم).
فيه نظر لأنه ليس المراد أنها جهة فيه نفسه بل في كونه طاعة ومجزياً /33/ كما قدمنا.
قوله: (وإنما وجب التثبيت) إلى آخره.
فيه نظر لأن ذلك لايخرج به عما ورد عليه فإن الذي استمر به النوم قد أثرت النية المتقدمة في صومه وصارت جهة له ولأنه يلزم على ما ذكره أنه لو كان قبل طلوع الفجر غير نائم وقد كان ثبت النية ولم يستحضرها في الوقت المتصل بطلوع الفجر ومع أول جزء من أجزاء النهار ألا تجزئه تلك النية الأولى وليس كذلك.
فصل
واللطف قد يكون من فعل الله تعالى، وقد يكون من فعل المكلف نفسه، وقد يكون من فعل غيره.
قوله: (وكذلك ما تقدمه أو قارنه).
أما ما تقدمه فظاهر، وأما ماقارنه فلأنه إذا كان التكليف هو المقتضي لوجوب اللطف لم يقتض وجوبه إلا في الحالة الثانية من حصوله.
قوله: (وهذا واجب عند الجمهور).
أراد من الزيدية والمعتزلة وسائر القائلين بالعدل لم يشذ عنهم في ذلك إلا بشر بن المعتمر وتفصيل جعفر بن حرب وإذا روي رجوعه فلا ينبغي أن يعتد بخلافه إلا أن يكون من أتباعه من لم يرجع لرجوعه ولعل القول بعدم وجوب اللطف فرع على القول بأنه لامكلف إلا وفي مقدور الله ما هو لطف له.
قوله: (قيل وقد رجع عن هذا).
نقل عنه أبو الحسين الخياط وحكاه في المحيط وغيره من كتب الكلام.
قوله: (وقال جعفر بن حرب) إلى آخره.
هو أحد قولي أبي هاشم وتلخيص هذه المقالة أن لامكلف إذا كان يستحق من الثواب على ذلك الفعل مع عدم تحصيل اللطف فيه أكثر مما يستحقه إذا فعله بعد أن حصل له اللطف فإنه لايجب لأن الغرض التعريض لمنافع الثواب وقد عرضه بعدم فعل اللطف لمنافع لاتنال مع فعله فإذا لم يفعل ما كلفه فقد أتي من جهة نفسه وتكون هذه الصورة كصورة زيادة التكليف بأنواع من التكاليف إذا علم الله أنه بسبب تلك الزيادة يخل بفعل ما كلفه فيستحق العقاب، فإن وجه حسن الزيادة مع ذلك كونها تعريضاً إلى منافع لاتنال إلا بها، وإن استوى الثواب في الحالين وجب اللطف لأنه إذا لم يفعله كان ناقضاً لغرضه من التكليف مع عدم مراعاة مصلحة أخرى. قال قاضي القضاة: وما ذكره جعفر يؤدي إلى ألا يجب على الله لطف إذ ما من فعل إلا وهو مع اللطف أسهل ومع عدمه أشق والثواب يزداد لكثرة المشقة.
قلت: قال مولانا عليه السلام: وفيما ذكره القاضي نظر، وهو غير مسلم على الإطلاق.
قوله: (وقال قوم لابد أن يفعله الله وليس بواجب).
هذا نسبة ما يقوله أبو القاسم أنه لايجب كما يجب قضاء الدين على المدين بل يفعله الله لامحالة ويجب من طريق الجود. قال الحاكم: وهذا الخلاف لفظي.
قلت: قال مولانا عليه السلام: وفي قوله نظر فإن الحق أنه خلاف معنوي لأنهم لايجعلون فعل اللطف واجباً في نفسه كقول الجمهور ومن الخلاف في هذه المسألة ما روي عن قاضي القضاة وهو أنه لايجب على الله تعالى من اللطف إلا ما كان توقيفاً أو عصمة وهذا القول عندي قوي جداً على قاعدة الجمهور، ومقتضى استدلالهم لأنه ما كان من الألطاف لايحصل به إلا مجرد التقريب ولا يقع الفعل عنده فتركه لايعد نقضاً للغرض. والله أعلم.
قوله: (في إزاحة علة المكلف).
يعني فكما أنه إذا كلف العبد ولم يمكنه كان له أن يقول يا رب كلفتني ولم تمكني فأنا معذور في ترك ما كلفتني به فلأي شيء تريد أن تعاقبني عليه، فكذلك إذا لم يلطف تعالى بعبده فإن للعبد أن يقول: يارب كلفتني وأردت مني الوصول إلى الثواب ولو فعلت في كذا لأطعت فعذري في ترك الطاعة من جهتك فلأي شيء تعذبني على معصيتك، هكذا قرره الأصحاب فلا يخفى ما فيه من تكلف القياس وبنائه على غير أساس فإن الله أن يجيب على المعتل بعدم اللطف بأن يقول: كلفتك وعرضتك للثواب العظيم ودللتك على طريقه وأوضحت لك أنك إن تنكبتها وقعت في العقاب العظيم بعد أن أكملت لك العقل ونصبت لك الدلالة وأقمت عليك الحجة. ولاجواب على من لم يمكنه فالفرق واضح وليس مثل هذا الدليل يؤخذ به في الفروع الظنية فكيف بالمسائل الأصولية القطعية.
قوله: (لاستوائهما في أن المكلف لايختار الفعل إلا عنده).
فيه نظر لأنهما ون استويا من هذا الوجه فلم يستويا من وجه آخر وهو أن المكلف لا يمكنه الفعل مع عدم التمكين ويمكنه مع عدم اللطف فلا مساواة ولأنه لو كلفه ولم يمكنه لكان تكليفاً لما لايطاق وقبحه معلوم ضرورة بخلاف ما إذا لم يلتطف /34/.
تنبيه
من عادة المتكلمين أن يحرروا الاستدلال في هذه المسألة على كيفية أخرى يصير بها هذا الدليل الذي ذكره المصنف دليلين أحدهما ما صدره وقدمه وهو أن اللطف يجري مجرى التمكين فيجب كوجوبه ويفردونه بما ذكرناه وهو معترض بما أوردنا.
الدليل الثاني أنه تعالى لو لم يفعل اللطف فلم يحصل كان ناقضاً غرضه في التكليف كما لو منع من ذلك الفعل إذ لافرق بين أن يمنع منه وبين أن يترك ما علم أنه لو فعله لفعل المكل فعند ما كلفه من غير صارف حاجة ولاصارف حكمة ولهم في هذا الدليل الأخير تحرير غير هذا التحرير ويرد عليه سؤال وهو أن هذا لايقضي بوجوب اللطف ولايقتضي استحقاق الذم على تركه وإنما يكشف عدم فعله عن كون المكلف كالعابث بالتكليف، وإنه لم يرد تعريض المكلف إلى الثواب إذ لو أراد ذلك لفعل ما يفعل المكلف عنده ما يستحق به الثواب أو يقربه منه، ولهذا ذهب قوم إلى أن اللطف غير واجب في نفسه ولكن لابد أن يفعل ويستحق الذم مع عدم فعله، لا على الإخلال به بل على أمر آخر وهو كونه كلف لغرض ثم لم يفعل مايفع عنده ذلك الغرض أو يقرب من الوقوع فيصير عابثاً بالتكليف.
قوله: (إلا إذا شاطره على ماله). أي أعطاه شطره.
قوله: (لما توجه الذم إلى التكليف).
أي لما توجه إلى الله لأجل التكليف واعلم أن الذي أورد على دليل أبي علي يرد مثله على دليل الجمهور في قولهم لو لم يلطف بالمكلف لكان ناقضاً لغرضه بالتكليف لأن معنى نقض الغرض انكشاف عدم الإرادة للفعل المكلف به ولتعريض المكلف إلى درجات لاتنال إلا به وإن كان يظهر أن الجمهور جعلو وجه وجوبه ألا ينتقض الغرض وأبو علي جعل وجهه ألاتنكشف عدم الإرادة وكلامهم في الظاهر أقوم وإن كان في الحقيقة أن المعنى واحد. والله أعلم.
قوله: (دليل لو لم يجب اللطف لما قبحت المفسدة).
هذا الدليل ذكره قاضي القضاة وقد قرره المصنف بما ترى وأورد عليه ما أ,رد ومال إلى تصحيحه وهو سقيم جداً وكيف يجعل عدم فعل اللطف مع أنه لايدعو إلى معصية كفعل ما يدعو إليها مع أنه يعلم قبح ما يدعو إلى القبيح كما يقبح فعله ولايعلم قبح ترك ما يدعو إلى الواجب ولاوجوب فعله وكيف يقاس فرع على أصل مع عدم المساواة وهو عمدة شروط القياس فالقياس من دونه لاقاعدة له ولا أساس.
تنبيه
لم يتعرض المصنف للرد على جعفر بن حرب في تفصيله وما أدلى به وأقامه الدليل على خلافه وقد ذكر في الرد عليه أن فعل اللطف مع حصول بعض النفع وهو ثواب الفعل الذي يحصل مع فعل اللطف أولى من تفويت جميعه لأجل أن يكون الثواب أكبر لو فعل مع عدم اللطف وأما قياسه على الزيادة في التكليف فجوابه أنها إن كانت مفسدة في بعض تكاليف المكلفين بها لم يجز فعلها وإن لم تكن مفسدة فالتكليف بها مصلحة محضة لم يحصل بها تفويت نفع لولاه لوصل المكلف إليه بخلاف الإخلال باللطف فإن فيه تفويت منفعة لولا عدم اللطف لوصل المكلف إليها وفيه نظر، فإنه حصل بزيادة التكليف تفويت منفعة وهي الثواب على الفعل الذي كان كلف به قبل الزيادة فلما وقعت فاتت تلك المنفعة ووقع في عكسها، فالفرق يدق، ثم يقال: التكاليف إما عقلية فلا يصح الزيادة فيها ولا النقصان بوجه وإما شرعية فهي إما واجب يكلف بفعله أو قبيح يكلف بتركه وإما غيرهما من مندوب ومكروه فالأولان لايصح الزيادة فيهما ولا النقصان لأنهما متى حسن التكليف بهما وجب ومهما لم يحسن فهو قبيح، وأما المندوب والمكروه فقد يمكن الزيادة فيهما والنقص لأن التكليف بهما لايجب لكنه يقال: لايحسن من الله الزيادة فيهما إلا حيث لامفسدة فيهما بتناول غيرهما من التكاليف فمتى كان في المعلوم أنه إذا زاد فيهما وقع العبد في المعصية /35/ قبحت الزيادة كما قلناه في منع اللطف من غير فرق.
قوله: (في ذكر السنة إذ لاتكليف إلا وفي المقدور ما هو لطف فيه).
يعني فإذا لم يفعل الله اللطف مع القدرة عليه دل على عدم وجوبه لأن حكمته تمنع من الإخلال بالواجب.
قوله: (فما المانع أن يكون قد فعل الله به اللطف المطلق).
هذا فيه نظر لأن المخالف يدعي أن في مقدور الله من الألطاف ما يفعل المكلف عنده ما كلفه قالوا: لأنه تعالى قادر لذاته والقادر للذات يقدر على جميع أجناس المقدورات ومن كل جنس على ما لايتناهى وما من مكلف إلا وله لطف في كل أمر كلف بفعله أو تركه ثم أن كلام المصنف يقضي بأن اللطف المطلق مما يجب على الله ويفعله لإزاحة علة المكلف، وقد تقدم ما روي عن قاضي القضاه ورجحناه من أنه لامعنى لإيجابه ولاتقتضيه القواعد.
وقد ذكر بعض المتأخرين من أصحابنا أنه تعالى لايفعل من الألطاف إلا التوفيق والعصمة وأن المقرب إنما يجب علينا لا عليه تعالى، وإذا قيل: أليس الآيات التسع التي أنزل الله لتدعو آل فرعون إلى الطاعة لم يحصل بها فعل ما كلفوه بل مجرد التقريب أجيب بأنه لايجب فيما أنزل بالمكلف أن يكون لطفاً بل يصح أن يكون لطفاً لغيره وقد دل الدليل على أن اللطف المقرب لايجب فلا يفعله الله فيقطع بأن تلك الآيات قد انتفع بها غير من نزلت به كما فيما ينزل بالأطفال والبهائم من ألم ونحوه. هكذا قرر.
قلت: وفيه ما يقضي بأن ما لم يجب فعله من الألطاف لم يجز وفيه نظر فإن عدم الوجوب لايمنع من الجواز ولايقتضي عدمه فليتأمل.
قوله: (وأيضاً فقد يكون اللطف من فعل المكلف كما سيأتي). إلى آخره.
فيه نظر لأن الخصم بنى قوله على أنه ما من مكلف إلا وفي مقدور الله من الأفعال ما يلتطف به فإذا لم يفعله دل على عدم الوجوب وليس كون له لطف في فعل الغير يسقط الواجب عن الله إذا ثبت الوجوب فيما يكون لطفاً له من فعله تعالى.
قوله: (على أن هذا يوصل بالعبارة).
أي يوصل بها إلى إثبات مذهبه وقع فيه التنازع والعبارات لاتحصل بها المعاني ولايستدل بها في المسائل العلمية القطعية.
قوله: (قالوا وقع التعبد) إلى آخره.
هذه الشبهة مبنية على أن من قواعد الجمهور الموجبين للطف أن كل ألم يفعله الله فلا بد فيه من لطفية وهذا يرد عليهم إلا من يقول أن العوض كاف في حسن إنزال الألم ومما يشابه هذا الذي أوردوه إلزام قبح التداوي لأن الألم إذا كان لطفاً يجب على الله فعله فرفعه لأجل التداوي لايجوز منه تعالى فلا أثر للتداوي، ومتى ارتفعت عنه اللطفية وجب رفعه إذ لايجوز إنزاله واستمراره إلا مع حصول الاعتبار فيه فالتداوي عبث لافائدة فيه على كل من التقديرين والإجماع ثابت على حسن التداوي وورد فيه ما ورد ففي الأثر عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( تداووا فما أنل الله من داء إلا وله دواء إلا السام والهرم )) واجمع الأمم على حسن تعلم علم الطب.
وقد أجيب بأنه لابد من أن يقطع بأن في فعل التداوي صلاحاً لنا ويكون واجباً تراة ومندوباً أخرى فيجب حيث يقطع من طريق العادة بأن الألم يرتفع به كان يغص بلقمة ويكون إنزالها بالماء أو نحوه ممكناً فيجب عليه لأن دفع الضرر عن النفس واجب عقلاً وشرعاً، ويندب حيث لايقطع باندفاع ضرر الألم بل يظن ذلك كالأدوية المركبة لتعديل المزاج عند غلبة إحدى المرر فيندب لمن غلب على ظنه نفع ذلك شرب الأدوية له لقوله صلى الله عليه وآله وسلم تداووا وظاهره الوجوب لكن أراد صلى اللّه عليه وآله وسلم حيث عرضت العلة وحصل الطبيب الذي يوثق ببصره وصدقه فإذا أخبر بأن العلة تندفع بكذا وجب على العليل استعمال ذلك دفعاً للضرر وإذا ثبت وجوبه أو ندبه شرعاً فلا بد أن يكون في فعله صلاح لنا في الدين زائد على إزالة الألم كسائر الواجبات والمندوبات الشرعية ويقوم ذلك الصلاح الحاصل بالتداوي مقام الصلاح الحاصل بالألم فيجب رفعه عند حصول الدواء فهذا وجه ظاهر في حسن التداوي ذكر هذا بعض أصحابنا المتأخرين، وقد جود الكلام وأحسن وأحكم غاية الإحكام.
قوله: (ولولا السمع منع) إلى آخره.
لا أعلم دليلاً من السمع يمنع من ذلك إلا أن يدعى الإجماع ولايصح ثبوته في هذه المسألة ولكن يعرف ذلك من وجوب دفع الضرر فيقال: إذا كان الواجب على العاقل أن يدفع الضرر عن نفس كالمرض بالأدوية وغير ذلك فبالأولى ألا تطلب الضرر ويسأله.
قيل: وقد اختلف في الدعاء على النفس بمضار الدنيا فقيل لا يحسن مطلقاً وقيل عدم حسنه مشروط بألا يكون فيه صلاح.
قوله: (على أنه لايمتنع) إلى آخره.
هذا الوجه قوي جداً وتحقيقه أنا قد تعبدنا بالدعاء بالعافية، قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لعمه العباس: (( سل الله العافية )) وكان كثيراً ما يدعو صلى اللّه عليه وآله وسلم بها فيقطع بأن في الدعاء مصلحة وأنه في نفسه طاعة والله سبحانه يفعل في استمرار الألم وأنزاله ورفعه بحسب ما يعلم من الصلاح في ذلك.
قوله: (على ما لايتم إلا به وهو اللطف).
يعني لأن الله ليس الفاعل للطاعة فيتوجه السؤال إلى ذلك والأفضلية لاتحصل إلا بزيادة الطاعات فيتوجه على الإطلاق وفي حال عدم الاستحقاق له لايحسن من الله فعله فلا يحسن حينئذ سؤاله ويجاب بأنه إذا لم يكن مستحقاً تعلق السؤال بفعل ما يستحق لأجله وهو الطاعة وسؤالها يعود إلى سؤال اللطف فيها وتسهيلها فيرجع إلى الوجه الأول. والله أعلم.
فصل
قوله: (ظاهر كلام أصحابنا أن اللطف من فعل الله يجب أن يفعل على أبلغ الوجوه).
معنى ذلك أنه إذا كان يمكن إيقاع اللطف على وجهين، هو بوقوعه على أحدهما أبلغ منه بوقوعه على الوجه الآخر، وجب أن يفعل على الوجه الذي يكون بوقوعه عليه أبلغ وأدخل في اللطفية ومثل ذلك في الشاهد بما إذا أعد الإنسان لغيره ضيفة وعلم أنه لايأتي إلا برسول قاصد لكن الإرسال يقع على وجهين أحدهما أبلغ في الدعاء من الآخر كإرسال ولده وإرسال عبده فإنه يتحتم الأدخل في الدعاء.
قلت: قال مولانا عليه السلام: وهذا إنما يتصور إذا كان اللطف على أحد الوجهين يفعل عنده الملطوف فيه وعلى الآخر يقرب من فعله ولايفعله فالكلام مستقيم ولاشك على القول بوجوب اللطف أنه يجب ويتعين ما يفعل عنده لا ما يقربه إذ لاغرض في التقريب مع عدم الفعل ومع هذه الكيفية فقد علم ذلك بما تقدم لأن اللطف في الحقيقة هو ما يفعل عنده لا ما لايفعل، وأما على تقدير أن فعل الملطوف فيه يقع مع كل من الوجهين كأن يعلم في المثال المذكور أن الرجل المطلوب يأتي سواء كان الرسول العبد أو الولد لكنه مع إرسال الولد أنشط إلى الإجابة وأطيب نفساً فالأصح أن الله تعالى مخير في أي الوجهين شاء لأن الغرض وقوع الفعل المكلف به لا غير.
إذا عرفت هذا مع تذكرك لما قدمناه من أنه لامعنى لفعل الله اللطف المقرب ولا لوجوبه عرفت أنه لامعنى لما ذكر من وجوب اللطف على أبلغ الوجوه ويمكن أن يقال: بل المقصود الوجه الثاني وهو أنه يأتي بالفعل مع كل من الوجهين لكن مع أحدهما يكون فعله له أكمل بزيادة إخلاص أو حد وازدياد رغبة أو نحو ذلك مما يكثر به ثوابه وفيه تكلف.
قوله: (وهذا هو الذي تقتضيه أجوبة هذه الشبه).
فيه نظر لأنه ليس في أجوبة هذه الشبه ما يقتضي ذلك.
قوله: (فلما لم ينتفعوا بها سلبهم إياها).
قد تقدم لنا في هذا كلام مضمونه أنه مع عدم الانتفاع بها لايعد سلبها عقوبة لأنه لاضرر عليهم في سلبها حيث لا انتفاع لهم بفعلها وتقدم ما يمكن في تقرير ذلك.
قوله: (وإزاحة العلة يحصل ببعض الألطاف).
يقال: إن حصل ببعضها فعل الملطوف فيه فصحيح ما ذكرت وإن لم يحصل بها وكان يحصل بفعل البعض الآخر فلا إزاحة وبالجملة فقد بينا في أول الفصل أنه لايتحصل معنى ما ذكر من كونه يجب على أبلغ /37/ الوجوه وإن الكلام في هذا الفصل كله أصله وتشكيله غير ثابت القاعدة ولامحصل الفائدة. والله أعلم.
فصل
إذا ثبت أن اللطف من فعل الله واجب فسواء كان لطفاً في واجب أو مندوب أو ترك قبيح أو مكروه.
قوله: (فيجب أن يزيح علينا في الجميع).
يقال: إن إزاحة العلة إنما يجب مع استحقاق العقاب وذلك لايتصور إلا في الواجب والقبيح لأن المكلف إذا ترك ذلك أو فعل هذا استحق العقاب فإذا أراد الله أن يعاقبه ولم يكن قد لطف به كان له أن يعتل بعدم اللطف به وأما ترك المندوب وفعل المكروه فلا عقاب عليهما والأولى في توجيه ما ذكره أنه تعالى لو لم يلطف بالمكلف فيما كلفه من فعل الواجب والمندوب وترك المحظور والمكروه لكان قد نقض الغرض بالتكليف بذلك إذ لاغرض له في التكليف به إلا التعريض للمنافع المستحقة بسببه فإذا لم يفعل ما يدعو إليه مما هو في مقدوره ولامفسدة يصرف من إيجاده كان ناقضاً لغرضه لاذي هو التعريض.
قوله: (كونه دفعاً للضر أو جارياً مجراه).
اعلم أن ترك الواجب وفعل القبيح يستحق به العقاب ولايندفع ضرر العقاب إلا بفعل الواجب والترك للقبيح فدفع الضرر هو بفعل الواجب وترك القبيح فإذا كانا لايقعان إلا بفعل اللطف الداعي إلى فعلهما والجار إليه كان اللطف جارياً مجراه فبين أن ما جري مجرى دفع الضرر لا أنه الذي يندفع به الضرر.
قوله: (وكذلك إذا كان اللطف من فعل غير المكلف وغير الله).
قد حكي عن أبي علي المنع من أن يكون للمكلف لطف من غير فعله وفعل الله وكلامه في غاية البعد فإن الأدلة قامت على كون تبليغ الرسل لما حملوه لطفاً وتبليغهم الشرائع وغير ذلك كوعظ وتركيز. قال أبو هاشم: ولم يقطع أبو علي على المنع من ذلك وإنما استبعده.
قوله: (فإنه لايقتضي وجوب ذلك اللطف).
يعني على من هو من فعله أما إذا كان فاعله غير مكلف فظاهر وأما إذا كان مكلفاً وهو غير الملتطف فإنه لايجب على مكلف أن يفعل ما هو جار مجرى دفع الضرر عن مكلف آخر.
قوله: (فإن كان لفاعل اللطف صلاحاً).
هذا من سهو القلم والصواب صلاح بالرفع لأنه اسم كان.
قوله: (واللطف للجاد فقط وللناظرين).
أما للجاد فيقطع به لأنه واجب شرعي كالصلاة وكل واجب شرعي لم يجب إلا لكونه مصلحة في الدين وأما الناظرون فمن الممكن كونه لطفاً لهم ويجوز عليهم عدم الالتطاف إذ لاوجه يوجب القطع بالتطافهم.
تنبيه
اعلم أن كلام المصنف في المحدود مستقيم وهو أنه إن كان قد تاب فالحد لطف له لأنه من قبيل الابتلاء والامتحان ونوع من الألم أنزل به ولابد فيه من اللطف له أو لغيره ليخرج عن كونه عبثاً ومن عرض له ليخرج عن كونه ظلماً.
قيل: وفيه زيادة زجره عن معاودة القبيح وإن كان مصراً فوجه حسنه كونه عقوبة عجلت له وقسطاً من العذاب في الدنيا وحقيقة العذاب حاصلة فيه فإنه مضرة أنزلت بمستحقها على وجه الاستحقاق ويشهد له قوله تعالى: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}، ونقل عن الشيخين كلام حاصله الاتفاق منهما على أن الحد مصلحة للمحدود ثم اختلفا فقال أبو علي: هي مصلحة في الدين، أي لطف له يدعوه إلى فعل واجب أو ترك قبيح. وقال أبو هاشم: بل مصلحة له دنيوية لأنه شرع لزجره عن المعاصي وإذا تركها مخافة أن يقام عليه الحد لم يستحق عليه ثواباً وإنما يستحقها حيث تركها لقبحها. وهذا كلام ليس له كل الاستقرار على قواعدهم.
قوله: (وكذلك أفعال الحفظة) إلى آخره.
يعني فإنها لطف لهم لاشك في ذلك لما يعرفون من مطابقة الواقع لما اخبروا به ولنا في العلم بذلك لطف ومصلحة ظاهره.
تنبيه
ينبغي أن يلحق بهذا الفصل فوائد:
الأولى: أن اللطف الذي من فعل الله تعالى لايجب إذا كان فيه وجه من وجوه القبح، بلا لايحسن لأن من حق الحسن والواجب أن يتعريا عن وجوه القبح وقد سبق الكلام فيما إذا كان للمطلف لطف قبيح في المقدور هل يحسن أن يكلف بملطوفه مع عدم فعله أو لايحسن.
الثانية: أنه إذا كان للمكلف لطف في شيء من فعله نفسه ولطف في مقدور الله وعلم الله أن المكلف لايفعل /38/ ما يكون لطفاً له هل يجب عليه تعالى أن يفعل ما هو لطف له في مقدوره أولا. قيل: لا لأن الله تعالى إذا كان في مقدوره ما هو لطف وجب عليه فعله ولم يحسن أن يكلف ذلك المكلف بفعل يكون له لطفاً لأن في مقدوره تعالى ما هو مغن عنه. هكذا ذكر المتكلمون قالوا: فلو قدرنا أن للمكلف لطفاً في العلوم الضرورة بالمسائل الإلهية لما كلف الله تعالى العبد اكتسابها ولقبح منه تعالى إيجابها لأن تكليفه حينئذ بها ليس إلا لمجرد تحصيل الثواب وهو نفع وطلب النفع لايجب وهذه الفائدة ذكرها بعض المتأخرين، ثم قال: وما ذكروه صحيح حيث يكون اللطف واجباً وأما اللطف غير الواجب وهو حيث يكون لطفاً فيما ليس بواجب ولاقبيح فيصح منه تعالى تلكيف العبد به بأن يندبه إليه لأن طلب النفع يحسن ولاندب إليه أو إلى ما يؤدي إليه يحسن.
قلت: قال مولانا عليه السلام: وهذا الكلام منضرب جداً لأنه صدر الفائدة بتقدير أن يكون للمكلف لطف من فعله ولطف في مقدور الله وفرض أن المكلف لم يأت بما كلفه مما هو لطف له فهل يجب أن يفعل الله اللطف الذي في مقدوره أو لاثم رد الكلام إلى وجه آخر وهو أنه إذا كان للعبد لطف في مقدور الله وكان له في فعل منه لطف أيضاً لم يكلفه الله بتحصيل ذلك اللطف لأن في مقدوره ما يغني عنه فهما مسألتان وكان الأحسن أن يقول: إذا قدر أن للمكلف لطفاً من فعله تعالى وأن لذلك المكلف لطفاً في فعل له فهل يصح أن يكلف بذلك أو لا لكون في مقدور الله ما يغني عنه، ثم إذا فرضنا صحة تكليفه به فكلف به لوم يفعله هل يجب على الله أن يفعل اللطف الذي في مقدوره ليزيح علته أو لايجب لأن المكلف لو شاء لفعل ما يدعوه إلى ذلك الفعل الملطوف فيه فإذا ترك مع القدرة لم يجب على الله أن يفعل اللطف وإذا اعتل بأن الله لم يزح علته أجيب عليه بأنك الذي فرطت في حق نفسك ولو فعلت ذلك الفعل لدعاك إلى فعل هذا ففعلته وكنت مثاباً عليه غير معاقب على تركه.
العلة الثالثة: إذا كان في فعل غير الله تعالى ما يقوم مقام فعل الله في اللطف فإن علم تعالى أن ذلك الغير يفعل ذلك اللطف سقط الوجوب عنه لزوال علة الوجوب وإن علم أن ذلك الغير لايفعله وجب عليه تعالى.
الفوائدة الرابعة: أنه إذا كان للمكلف لطف من فعله تعالى معين تعين عليه فعله وإن كان في أشياء متعددة كانت بصفة الواجبات المخيرة.
الفائدة الخامسة: أنه تعالى إذا كان في مقدوره تعالى ما هو لطف للمكلف لكن علم أنه يفعل ما كلفه وإن لم يفعل ذلك اللطف فإنه لايجب فعله لأن الغرض في فعله قد ارتفع بل لايبعد أن يكون فعله عيباً فيحكم بقبحه على قواعدهم.
فصل
قوله: (اتفق الشيوخ على أن الإخلال باللطف لايقدح في حسن التكليف).
في دعواه الاتفاق نظر لأن الحاكم وغيره نسبوا هذا إلى أبي هاشم وحكوا خلاف أبي علي فيه وأنه يذهب إلى أن ترك فع لاللطف يقضي بقبح التكليف ويعود حينئذ عبثاً وظلماً ورد ما ذكره بأن الشيء لايقبح لما سيأتي بعده ولابد أن يقارن وجه القبح وجود ذلك الفعل أو يكون في حكم المقارن إذ المقتضي لقبح الفعل وقوعه على وجه مخصوص.
قال الحاكم: وسبب قول أبي علي هذا قاعدته المشهورة وهي أنه لايستحق الذم على ألا يفعل بل على أن يفعل فجعل الذم في ألا يفعل اللطف موجهاً إلى فعل وهو التكليف لما لم يجد فعلاً بوجه الذم إليه غيره.
قوله: (واتفقوا على أنه لايقدح في حسن العقاب لأن المعاقب حينئذ غير مزاح العلة).
يمكن أن يقال: ليس عدم إزاحة علته يستقل وجهاً في قبح عقوبته لأن وجه استحقاقه للعقاب قد حصل على أتم الوجوه وهو إتيانه بالمعصية بعد تكليفه بتركها ونهيه عن فعلها وتوعده عليه بالعقاب الشديد ووعده على الترك بالثواب المفيد /39/ وهو متمكن من ذلك وليس ترك فعل يجب على الله اقتضى وجوبه ألا يكون ناقضاً لغرضه وهو مما لايتوقف ترك المعصية عليه يكون سبباً في سقوط حق بعد حصول موجبه، كما ذكره القاضي في الذم سواء.
قوله: (وهو ألا يكون في حكم المستفسد له المسقط لحقه).
يقال: ليس تركه للطف قبل فعل المعصية يكون سبباً في فساد استحقاق العقاب بعد ثبوته بفعل المعصية ولامسقطاً له لأن المسقط من حقه أن يتأخر عن المسقط.
فصل فيما يصح أن يكون لطفاً من أفعال المكلفين وما لايصح
وكذلك ما يصح أن يكون مفسدة وما لايصح
قوله: (كما لاتتم هي إلا به). مثاله لاقيام وفتح الباب في رد الوديعة وشرب الدواء في دفع ضرر الألم ونحو ذلك.
قوله: (وما يتصل بها).
يعني من معرفة وعده ووعيده واستحقاق الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية.
قوله: (وكأكثر الشرعيات). يعني وهي الواجبات منها.
قوله: (وبين ما يكون سببه) أي سبب وجوبه طاعة كالنذور فإن لفظ النذر قربة كما إذا نذر بركعتين وتصيران بذلك السبب واجبتين.
قوله: (واعترضه بعضهم).
كان في أصل النسخ وهي التي بخط المصنف تصريح بأن المعترض شيخه القاضي سليمان بن إبراهيم النحوي ثم خدش اسمه وأبدله بلفظ: بعضهم.
قوله: (إن كان من قبيل الدواعي).
نظراً إلى ظاهر عبارة الجمهور وليس مرادهم أن الألطاف لاتكون إلا من قبيل الدواعي التي هي اعتقادات وظنون فإنهم مصرحون بلطفية كثير من الأفعال وليست كذلك بل أرادوا أن الألطاف تدعو إلى فعل الملكوف فيه وقصدوا بذلك ما قصده المصنف يقوله أن يختار عندها فعل الملطوف فيه.
قوله: (ولامتممه للألطاف).
لعله أراد بالمتممة ما يقصده أهل علم الأصول بالمكملات للضروريات التي هي حفظ العقل والنفس والنسب ونحو ذلك كتحريم قطرة من الخمر فإن ذلك لا لكونها يحصل بها ضياع العقل بل على جهة التكميل.
قوله: (ولهذا حكمنا بأن بعثة الرسل) إلى آخره.
يعني لاعتقادنا كون الشرعيات واجبة في نفسها لقيام الدليل على ذلك حكمنا بما ذكر ولو لم يكن واجبة في نفسها بل أوجبت لتحصيل الثواب لم يجب التكليف بها وكذلك البعثة التي هي للتعريف بها.
قوله: (فأما المفسدة من فعل المكلف) إلى آخره.
ظاهر كلام المصنف أنه يجوز وقوع المفسدة من فعل المكلف سواء كانت مفسدة في حقه أو حق مكلف غيره والمروي عن الشيخين أن أبا علي يمنع من وقوعها وأن أبا هاشم يجيز أن يقع من المكلف حيث هي مفسدة في حق نفسه ويمنع من جواز وقوعها إذا كانت مفسدة في حق غيره مطلقاً، ويوجب على الله ألا يمكنه منها مهما أراد بنفيه التكليف وكذلك إذا كانت من فعل غير المكلف.
قوله: (أو دفع ضرر عاجل).
أراد ضرر الخوف الحاصل عند عروض الخاطر.
قوله: (أو لوجوب شكر المنعم).
يعني على التفصيل لأنه مفصلاً لا يمكن إلا بعد معرفة المنعم.
فصل في الكلام على أهل الأصلح
اعلم أن الذي تقدم كلام على الأصلح في باب الدين وقد ذكر مذهب الجمهور في وجوبه على الله لأن المراد بالأصلح في الدين الألطاف التي يدعو المكلف إلى امتثال ما كلفه وأما الأصلح في غير باب الدين كمصالح الدنيا من الأرزاق وغيرها فقالت البصرية من المعتزلة وكذلك الزيدية وغيرهم من الفرق الإسلامية أن هذه المصالح الدنيوية غير واجبة على الله وإنما هي تفضل منه وجود وكرم كما إذا أحسن الواحد منا إلى غيره. وقالت البغدادية: الشيخ أبو القاسم وغيره أن ذلك واجب على الله واختلفوا فمنهم من قال بوجوب ذلك عليه مع ..... كوجوب قضاء الدين حتى لو قدر إخلاله به لاستق الذم.
وقال أبو القاسم: بل يجب وجوب وجود وتفضل لا أنه يصير مستحقاً عليه وهو خطأ في العبارة حيث سمى الجود والتفضل واجباً وليس الواجب من هذا الجنس إلا ما كان مستحقاً وهذا الخلاف هو في المصلحة الدنيوية /40/ ومعنى كونها دنيوية أنها لا أثر لها بدعاء وصرف في شيء مما كلفناه فعلاً أو تركاً سواء كانت تلك المصلحة في الدنيا أو في الجنة.
قيل: وحقيقتها المنفعة التي يصح أن ينتفع بها العبد ولاضرر فيها على غيره ولا وجه من وجوه القبح مع تعريها عن الدعاء والصرف في الدين.
قوله: (والنظر في العقليات أي هو المثال في العقليات).
يعني النظر في معرفة الله لأنها لاتتم المعرفة إلا به والظهور هو المثال في الشرعيات لما لايتم الواجب إلا به فإن الصلاة لاتتم إلا بالطهور.
قوله: (وكالاعادة). يعني فإنه لايتم الواجب من الإثابة للمطيعين ولاعوض للمؤلمين والانتصاف من الظالمين للمظلومين إلا بها.
قوله: (واستحالته لاتخرجه عن كونه واجباً).
فيه نظر بل تخرجه وكيف يجب ما لايطاق فإن الذي لا يتناهى مستحيل والمستحيل لايطاق والذي لايطاق لايجب.
قوله: (بحيث لايعلم بها المكلفون). يعني فلا يقدر أن في علمهم بها مفسدة.
قوله: (لأنه إذا حصل وجه الوجوب وجب الفعل).
فيه نظر لأنه لابد أن يتعرى عن وجوه القبح وإلا فإنه إذا تعارض وجه وجوب ووجه قبح فترك المفسدة أهم من تحصيل المصلحة.
قوله: (ولوجب أن ينقي الله الكفار كلهم). يعني إن كانت التنقية أصلح.
وقوله: (أو يميتهم كلهم). يعني إن قدرنا أن إماتتهم أصلح.
قوله: (سائر المباحات). يعني كالأكل والشرب وهو يلزمهم حيث في المباح نفع فأما ما لانفع فيه فلا يلزم لكن يقال: إن الذي لانفع فيه يخرج عن حد المباح إلى العبث الذي هو نوع من القبيح وفي الإتيان بلظفه سائر هنا نظر فإنه إنما يقال سائر كذا بعد أن يؤتى بشيء منه كأن يقال: الأكل وسائر المباحات ونحو ذلك وقد عد الحريري هذا من غلطات الخواص في كتابه درة الغواص.
قوله: (ويقتضي اعتبار قيد زائد).
يعني وهو ألا يكون فيه ضرر ولو التزموا هذا لم يضرهم لكنهم لم يرد في كلامهم اعتبار هذا القيد.
قوله: (كسائر الواجبات). يعني فإنها لاتخلو عن ضرر ومشقة.
فصل في شبههم
قوله: (يجري مجرى التمكين).
يعني من الفعل المكلف به ومعنى كونه جارياً مجراه أنه إذا لم يفعل كان تركه علة للمكلف في ترك ما كلفه كما إذا لم يتمكن.
قوله: (يجري مجرى الاستفساد).
أي طلب الفساد بفعل المفسدة لأنهم قد ذكروا أن ترك اللطف في نقض الغرض كفعل المفسدة.
قوله: (فأما الشرع فقد جاء بوجوب الزكاة) إلى آخره.
هذا لامعنى له فإن الزكاة لاتتعين على ربها صرفها في فقير معين كما لايتعين عليه أن يتفق على الغير من ما له فكان الأحسن أن يقول فأما الشرع فقد ورد بأنه يجب على المؤسر أن يسد رمق المشرف على الهلاك من ماله ويصير ذلك من جملة الواجبات الشرعية كما أن الشرع أجاز ...... خشي على نفسه التلف أن يأخذ من مال الغير وإن كره لأن حرمة النفس آكد.
قوله: (فأنهم يعتقدون وجوب إضافة الضيف).
ظاهره أن وجوب الإضافة لا أصل له في الشرع وقد ذكر علماء الشرع بها يجب على أهل الوتر وله أصل في الأثر.
قوله: (قلنا ليس هذا وزان المسألة) إلى آخره.
جواب صحيح وقد يجاب بأنه إنما قبح من أحدنا ذلك من حيث أنه لا غرض له في المنع من ذلك حتى لو قدرنا أن له في ذلك غرض صحيح لم يقبح منه المنع. والله تعالى لايصح كون عدم خلقه لما ينتفع به الأحياء ويتنعمون به من قبيل التفضل عبثاً.
القول في الآجال
وجه إدخال القول في الآجال والأرزاق والأسعار في علم الكلام واتصالها بباب الألطاف جواز كونها ألطافاً أما الأجل فقد يكون حياة الإنسان وموته لطفاً لغيره وأما هو فلا يصح أن تكون حياته لطفاً له لأن اللطف لابد أن يكون زائداص على التمكين ولاموته لأنه لاتكليف بعده لكن العلم بذلك يمكن كونه لطفاً له ولايقطع بذلك ويقطع بأن الموت لطف لغيره إذ لابد فيه من اعتبار /41/ وهو متعذر في حقه فيثبت لغيره، وأما الأرزاق فمن الجائز الممكن المستقرب كونها ألطافاً وأن الله سبحانه يفعلها ويبسطها طلباً للاح عبده وتعريضاً له للشكر والعفاف وغير ذلك من الطاعات، وأما الأسعار فما كان منبته من غير الله تعالى فلا يقطع فيه بلطف ولا خلافه وما كان من جهة الله ويحصل به ألم أو غم فلا بد فيه من لطف للمتألم أو المغتم أو غيره والذي لا ألم فيه ولاغم يجوز ذلك فيه ولايقطع به، وقد نبه المصنف على هذه المعاني في آخر الأبواب.
قوله: (الأجل هو كل حادث) إلى آخره.
الظاهر من اللغة أن الأجل في أصلها مدة الشيء وفي عرفها إذا أطلق فلوقت الموت ولايستعمل في غيره مطلقاً بل مقيداً كأجل الدين.
قوله: (إن مات الأمير). هذا من أمثلة النفي لأن الموت انتفاء الحياة عند الجمهور.
قوله: (فعبده حر) كذلك لأن الحرية انفتاء الملك وأما مثال الصفات فكان يقال: إذا حصل الوجود للجوهر تحيز.
فصل
قوله: (ومعنى أن الله جعل للشيء أجلا) إلى آخره.
يقال: بل المعنى الأظهر في كون الله جعل له أجلاً أنه حد له وقتاص لايتعداه إلى غيره ويكون انقطاع الحياة مثلاً في آخره يفعله تعالى أو نحو ذلك.
فصل
قوله: (ولايصح فيمن قتل غيره).
أو يقال أنه قطع أجله هذا مذهب أبي هاشم وأصحابه بناء على أنه ليس للموت إلا أجل واحد وقالت البغدادية بل للموت أجلان مقدر ومسمى واختلف في تفسيرهما عنهم فقال الحاكم: المقدر الذي يموت أو يقتل فيه والمسمى الذي لو لم يقتل مثلاً أو لم يغرق أو يصيبه الهدم أو يحترم لبقي إليه.
وقيل: بل الأقرب أن المخالف يعكس فيجعل المسمى هو الذي يموت فيه أو يقتل أو نحو ذلك والمقدر يختص بالمقتول والغريق ونحوهما وهو الذي يقدر بقاؤه إليه لو لم يبق له ذلك لأن هذا أنسب إلى العبارة ولايبعد أن يكون مذهبهم هذا متفرعاً على قطعهم بأن المقتول لو لم يقتل لعاش.
والحجة الواضحة للبهشمية أن الأجل هو وقت الشيء الذي يقع فيه فلو جعلنا للموت أجلين لزم ثبوت موتين في هذه الدار وخلافه مقطوع به واحتج البغدادية بقوله تعالى: {ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده}.
وأجيب بأنه تعالى لم يرد أجلين للموت وإنما أراد بالأول أجل الموت وبالثاني أجل القيامة هكذا ذكره جار الله في تفسيره.
قال: وقيل الأجل الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت، والثاني ما بين الموت والبعث وهو البرزخ. وقيل: الأول: النوم والثاني الموت.
واعلم أن احتجاج البغدادية هذا يقضي بصحة تفسير الحاكم لقولهم والذي عكس نظر إلى ظاهر العبارة فقط والمعول عليه ما ذكره الحاكم ومعنى كون الأول مقدراً أن الله قضاه وقدره لا بمعنى أنه تقديري ومعنى كون الثاني مسمى أنه سماه ولم يقض به والله أعلم.
واحتجت البغدادية أيضاً بقوله تعالى: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم} الآية فإنه نقل عن الحسن البصري في تفسيرها أنهم قوم هربوا من الطاعون فماتوا قبل آجالهم، وأجيب بتسليم أن للمذكورين في الآية أجلين فإنهم أميتوا في الدنيا مرتين والخلاف إنما هو فيمن يموت مرة واحدة.
قالت: قال مولانا عليه السلام: الخلاف في الحقيقة إنما هو في القاعدة التي بنى البغداديون كلامهم عليها وهو أن المقتول ونحوه لو لم يقع فيما وقع فيه لعاش قطعاً فلو صحت لهم لم ينازعوا فيما ذكروه من الأجلين وكان كلامهم فيه مستقيماً.
قوله: (ما ورد في الحديث أن الرجل ليصل رحمه) إلى قوله: الخبر تمامه: وإن الرجل ليطع رحمه وقد بقي من عمره ثلاث وثلاثون سنة فيبتره الله عز وجل إلى ثلاث سنين.
وقوله: (وفي رواية الحديث: فيرده الله). الذي في شمس الأخبار: فيمدها الله. ومثل هذا ما نقل عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( احتضر رجل بار بأهله وفي جواره عاق بأهله فقال الله للملك ـ وهو أعلم بذلك ـ: كم بقي من عمر هذا العاق؟ قال: ثلاثون سنة. قال: حولها إلى عمر هذا البار واقبض روح هذا العاق )).
فصل
قوله: (ذهب الجمهور من شيوخنا إلى أن المقتول لو لم يقتل لجاز أن يموت وجاز أن يعيش).
هذا قول الزيدية وجمهور المعتزلة منهم الشيخان وقاضي القضاة وأتباعهم.
قوله: (لجواز أن يعلم الله من حاله) إلى آخره.
هذه الزيادة غير محتاج إليها ولا هي بمستقرة المعنى.
قوله: (وقال أبو الهذيل) هذا أيضاً منسوب إلى الحشوية والجبرية لكن عللوا بغير ما علل به وهو أن وقوع خلاف المعلوم محال ورد ما ذكروه بأن تقدير بقائه لو لم يقتل لايكون فيه خلاف ما علم الله لأن الله سبحانه قد علم أنه يقتل في ذلك الوقت وعلم أنه لو لم يقتل لعاش إلى وقت آخر يكون موته فيه.
قوله: (وقال بعض البغداديين).
الذي في غير هذا الكتاب نسبته إلى جملتهم وهكذا الخلاف في كل من مات بسبب من هدم أو غرق أو تحريق والظاهر بقاء كلام الجمهور على ظاهره وقال الحاكم: بل المراد التجويز في حق المقتول لو لم يقتل وأما بعد القتل فيقطع أنه لم يكن يجوز غيره لأن الأجل عبارة عن وقت الموت فإذا قتل في ذلك الوقت فقد مات في أجله وإلى هذا أشار صاحب شرح الأصول حيث قال: ولاخلاف فيمن مات حتف أنفه أو قتل أنه مات بأجله لأن الأجل هو وقت الموت وهما جميعاً قد ماتا وإنما الخلاف في المقتول لو لم يقتل كيف كان يكون حاله في الحياة والموت.
قوله: (على أنه قد فوت عليه بالقتل أعواضاً كثيرة).
يعني لأنه إاذ مات حتف أنفه أو بسبب من الله فآلام الموت وغمومه من جهته تعالى فعوضها عليه والعوض المستحق عليه يبلغ في الكثرة مبلغاً لايبلغه ما كان من غير الله تعالى أو بسبب منه كما سيأتي فيكون ظلمه إياه لتفويته تلك المنافع عليه ومما حتج به أبو الهذيل ومن قال بقوله قوله تعالى: {قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم} أراد مصارع الموت.
وأجيب بأن المعنى لو كنتم في بيوتكم وقد علم الله أنكم تقتلون في وقت كذا بموضع كذا لبرز المعلوم ذلك من حالهم إلى تلك المصارع باخيتارهم لداع يدعوهم إلى ذلك كما ورد في الخبر عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه إذا علم الله وفاة عبد في جهة جعل له فيها حاجة.
فصل
قوله: (ومعنى كون الأجل لطفاً ... يختلف) إلى آخر كلام المصنف في هذا الفصل جيد واضح.
قوله: (ويجوز أن يكون علم زيد بأنه يموت) إلى آخره. هو صحيح ويتصور مثله في علمه بحياته في مدة عمره، ويتصل بهذا الباب فائدة ينبغي أن تعد فصلاً من فصوله وهي أن الله تعالى هو المميت لكل حي وهذا أمر ظاهر لايجهله مسلم والمسلمون مجمعون عليه ولو ادعى كونه معلوماً بضرورة الدين لأمكن وخالفت فيه المطرفية فقالوا: إن الله تعالى لايميت الأطفال ولا من لم يبلغ عمره مائة وعشرين سنة ومن مات دون ذلك فموته لأسباب عارضة لا أن الموت من الله وينبغي أن يسألوا عن سبب موت من حكموا بأن الله لم يمته. فيقال لهم: هل مات لأمر أو لا. لايصح أن يحكم بأن موته لا لأمر لنه حينئذ لايكون بأن يموت أولى من ألا يموت وإن كان لأمر وقد ثبت أن الموت إما معنى مقابل الحياة أو عبارة عن التفريق المضاد لما تحتاج الحياة إليه فهذا العفل لايصح أن يكون إلا من فاعل والفاعل لايصح أن يكون هو الميت إذ لايقف على قصده وداعيه ولاينتفي لصارفه وكراهته وإن قيل بأن المؤثر غيره لم يصح لأنه إن كان موجباً قديماً فلا قديم مع الله، وكان يلزم حصول الموت قبل أوانه لأن ذلك الموجب القديم حاصل قبله بل كاني لزم ألا يوجد حي، وإن كان موجباً محدثاً فما هو ولأنه إنما يكون سبباً فالمؤثر فيه إذاً محدثه، وإن كان مختاراً فلا يصح أن يكون عرضاً ولاجماداً إذ لا اختيار لما هذه صفته وإن كان قادراً بقدرة فمن هذه صفته لايفعل فعلاً في غيره إلا بواطسة الاعتماد ولايعلم شيء من ذلك في حق من مات، وأما من مات بسبب من الغير /43/ فإن موته مضاف إلى فاعل ذلك السبب وأعواضه عليه، وإن كانت الدلالة قد قامت بأن الله تعالى هو المميت له وأن ملك الموت يتولى قبض روحه ويدل على ذلك من جهة السمع قوله تعالى: {خل الموت والحياة}، والظاهر الاستغراق لحصول أداته، ومثله: {الله يتوفى الأنفس حين موتها}.
القول في الأرزاق
الرزق في اللغة العطاء، قيل: ومن معانيه الشكر. قال تعالى: {وتجعلون رزقكم} الآية. وقيل: الرزق في أصل اللغة عبارة عن كل ما يغتذي به الحيوان اقتناء على وجه لاترجح مضرته على نفعه ولايساوى ولامنع منه ليخرج نحو الدم والخنزير وما أشبه ذلك ويفترق الرزق والملك فالرزق أعم إذ يدخل فيه ما ليس بملك كلاماء والكلا. وإذا قيل: رزق الملك جنده. فالمعنى أعطاهم رزقهم المفروض لهم ويقال: رزقك الله ولداً صالحاً أي وهب لك فإن كان المعطي مما يسمى رزقاً فهي نسبة حقيقية وإن لم يكن كذلك فهي مجازية كقولهم: رزقك الله العافية.
قوله: (فلأسباب حادثة).
قال صاحب شرح الأصول: سبب الملك ربما يكون الحيازة وربما يكون الإرث وربما يكون المبايعة وربما يكون الهبة هذا في الآدميين قال: وأما في البهائم فينقسم أيضاً إلى ما يكون رزقاً على الإطلاق وذلك نحو الماء والكلا وغير ذلك وإلى ما يكون رزقاً على التعيين وذلك نحو ما حواه فمه والمعنى أنه إذا حاوه فمه فقد تعين له فلا يجوز لغيره أخذه.
قيل: والرزق يكون من عند الله كتوالد المواشي ونما الزرع وإجراء الفلك إلى الجهة المقصودة لطلب الرزق وقد يكون سببه من فعل العبد كالإجارة والتجارة وأنواع الاكتساب.
فصل
والرزق لابد أن يتعرى عن وجوه القبح والحظر.
قوله: (خلافاً للمجبرة).
المحكي عنهم أن الرزق هو المأ:ول والمشروب والملبوس والمنكوح ونحو ذلك مما يلتذ به حلالاً كان أو حراماً.
قوله: (كما قال تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق}).
المراد بالزينة الثاب وكل ما يتجمل به وبالطيبات المستلذات من المآكل والمشارب. قال جار الله: ومعنى الاستفهام إنكار تحريم هذه الأشياء. وقوله تعالى: {قل أرأيتم ما أنزل الله من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً} أي أنزله رزقاً حلالااً كله فبعضتموه وقلتم هذا حلال وهذا حرام كقولهم: هذه أنعام وحرث حجر، وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، ووجه الاحتجاج أن الاستفهام فيها للإنكار أنكر عليهم كونهم قضوا على شيء من الرزق بكونه حراماً.
قوله: (ويتعبد الإمام بقطع يده).
يعني لن النصاب المسروق على وجه يوجب القطع هو عندهم من أنواع الرزق.
قوله: (فقال: {وأنفقوا مما رزقناكم} ، ومدح على ذلك فقال: {ومما رزقناهم ينفقون}).
وجه الاحتجاج بهاتين الآيتين أنه تعالى مدح على الإنفاق من الرزق وأمر به وهو لايأمر بالإنفاق من الحرام ولايمدح به لأن ذلك قبيح وهذا الاستدلال معتمد عند الأصحاب. وضعفه بعض المتأخرين وقال: إن هذا لايرد على الخصم إلا لو قال بأنه لاشيء من الرزق إلا الحرام فأما وهو يجعل الرزق قسمين حراماً وحلالااً فلا ينتهض الدليل عليه لأنه لم يأت في الآيات بلفظ يعم كل ما يسمى رزقاً وإنما أتى بمن التي للتبعيض فللخصم أن يقول ذلك البعض هو الحلال. قال: والأولى الرجوع في الاستدل إلى موضوع الرزق لغة عند أئمة اللغة وهم لايسمون ما اعتقدوا تحريمه رزقاً.
قلت: قال مولانا عليه السلام: ظاهر الآيتين الكريمتين الأمر بالإنفاق من أي رزق كان والمدح على ذلك من غير تقييد والظاهر أنه إذا أنفق مما رزق فقد امتثل الأمر واستحق المدح. واعلم أن تطويل الأصحاب في هذه المسألة احتجاجاً وشبهة وجواباً مما لم يكن إليه كل الحاجة فإن لفظة الرزق لفظة لغوية يرجع في موضوعها إلى أهل اللغة وأن اصطلح فيها اصطلاحاً آخر فلكل اصطلاحه، فليست من مسائل الكلام التي ينبغي أن يطول فيها الكلام.
فصل في طريق الوصول إلى الرزق
/44/ قوله: (اعلم أن الرازق في الحقيقة هو الله تعالى).
يعني وأما تسمية الواحد منا رازقاً فمجاز لأن الرزق لايقدر عليه إلا الله تعالى إذ هو أشياء ينتفع بها كالمأكول والمشروب أو غرض من فعله تعالى كنفس الطعوم والألوان والقوة مما لايدخل جنسه تحت مقدورنا أو يدخل جنسه تحت مقدورنا لكن لانقدر على فعله بتلك الكيفية كالعقل فإذا أضيف الرزق إلى الواحد منا فمن قبيل التجوز كما يقال: رزق فلان خادمه. أي أعطاه ومنه قوله تعالى: {فارزقوهم منه} ووجه التجوز كون له سبب فيه كالهبة والصدقة وأما استعماله حقيقة فهو في فاعل الرزق نفسه وليس إلا الله تعالى. هكذا ذكره أصحابنا وفيه نظر لأنه قد ثبت أن الرزق لغة بمعنى الإعطاء فإذن يكون رزق الملك جنده ونحوه مستعملاً في أصل ما وضع له فهو حقيقة لامجاز.
وقد قيل: التحقيق أن لفظ الرزق له معنيان أحدهما: العين المنتفع بها نحو: {في السماء رزقكم} أي المطر فلا يضاف بهذا المعنى إلا إلى الله إذ لايقدر عليه غيره. والثاني بمعنى الإعطاء ومنه قوله تعالى: {لايملكون لهم رزقاً من السموات والأرض شيئاً} أي لايملكون أن يرزقوهم شيئاً، وهذا فيه معنى المصدر ولهذا عمل النصب في شيئاً وبهذا المعنى يصح إضافته إلى العباد لأنه بمعنى الإعطاء ومنه: {فارزقوهم منه} أي أعطوهم.
قلت: قال مولانا عليه السلام: وهذا أحد وجهين ذكرهما الزمخشري في تفسير الآية والوجه الثاني أن الرزق ههنا بمعنى ما يرزق ويكون شيئاً بدلاً منه يعني قليلاً أو يكون تأكيداً للا يملك أي لايملك شيئاً من الملك. وقالت المجبرة: لايصح إضافة شيء من الرزق إلى العباد بل الجميع من الأرزاق والتسبيب وغيره من الله بناء على نفي أفعال العباد. ويقال لهم: إذا كان الجميع من الله لزم ألا يستحق الواحد منا على هبته ونحوها مدحاً ولا ثواباً والمعلوم خلافه.
قوله: (كالمواريث ونحوها). هو ما لايفتقر إلى قبول من التمليكات كالنذر على المختار.
قوله: (من بيوع وغيرها). يعني كالهبة على عوض.
قوله: (والإباحات ونحوها). يعني كالعارية.
قوله: (فكالمواريث والوصايا). يقال: أما المواريث فلا بأس، وأما الوصايا فهي في حكم الهبات عقلاً.
قوله: (وكذلك الصدقات). لعله قصد الصدقة الغير المعينة وكلام المصنف في هذا الفصل ليس بالجيد.
فصل
قوله: (زعم المتآكلة وأهل الكسل).
هم قوم من الصوفية يلزمون موضعاً مخصوصاً رجاء أن يحصل لأحدهم بذلك ما يقتاته وجرت لهم العادة بأن من سلك هذه الطريقة أوصل إليه الكفاية فجعلوا ذلك ديناً لهم ومذهباً.
قوله: (حاكياً عنهم أن طلب الرزق محظور).
قالوا: لأن فيه ترك التوكل على الله. واعلم أن هذا الفصل موضوعه حسن طلب الرزق لكنه صدره بمذهب الخصوم وكان الأحسن أن يقول مثلاً: فصل في أنه يحسن طلب الرزق. الذي عليه جمهور أهل الإسلام: أن طلب الرزق حسن فمنه واجب ومنه مندوب ومنه مباح وقد يكون في التكسب ما هو محظور وما هو مكروه ثم يذكر خلاف من خالف في ذلك ثم يذكر الدليل للمذهب الصحيح ويعقبه بذكر متمسك المخالف ونحن نتتبع ما يحتاج إلى الكشف من كلامه ثم نرجع إلى ذكر ما أهمله.
قوله: (من طلب مالاً حلالاً ليصل به رحمه) الخبر . لم يدل على هذا الخبر في مظانه التي من كتب الحديث عندنا على سعتها واحاطتها .... أكثر مما علمنا.
قوله: (وقال عليه السلام: لو توكلتم على الله..) ألخبر.
أي قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وروي أنه قاله لجماعة وجدهم واقفين في مسجد ينتظرون ما يأتيهم من الرزق ويصفون أنفسهم بأنهم متوكلون.
قوله: (فأخبر بأنها تغدو وتروح).
يعني والمفهوم أنه أراد أن تلك صفة التوكل. قيل: وفيه نظر إذ ليس معنى الخبر إلا أنه يرزقهم لو توكلوا كرزق الطير وليس فيه ...... فعل الطير توكل ولا أن الطلب توكل بل مسكوت عن ذلك، فالأولى أن يقال: التوكل طلب الرزق من حله وعدم الجزع من فوته وعلمه أن الله تعالى لم يؤخره عنه إلا لضرب من الصلاح.
قلت: قال مولانا عليه السلام: في تنظيره نظر /45/ لأن شبيههم لو توكلوا بالطير مع ذكر صفة طلبها للرزق يفهم منه بالذوق السليم أن فعل الطير توكل إذ لو لم يكن توكلاً لم يصح التشبيه فما وجه الشبه حينئذ. وعن عمرو بن الخطاب رضي الله عنه أنه مر بقوم فقال: (( من أنتم؟ )) فقالوا: نحن المتوكلون. قال: (( إنما المتوكل رجل ألقى الحب وهو ينتظر الغيث )) يعني الزراع لأنه أ[لغ الناس توكلاً لشدة اعتنائه في العمل من حرث وغيره من إصلاح الأرض ثم إلقاء البذر فيها وليس معه في ذكل إلا التوكل على الله في إتمام ما فعله وصرف ما يفسده إذ لولا ثقته بالله وتوكله عليه لما سمح بإلقاء البذر وهو بضعة من ماله لايتسامح به مع تجويزه لبطلانه بأنواع واسعة من العوائق، وبعد الزراع في التوكل المسافر في البر والبحر للتجارة فإنه يقطع الآفاق ويخوض البحر الدفاق لابتغاء فضل ربه الرزاق متوكلاً عليه في صرف ما منع من غرضه وعاق.
قوله: (وأما من يقول أن المعاملات قد فسدت).
هؤلاء فرقة أخرى من الصوفية أيضاً يمنعون من التكسب لهذه الشبه التي اعترضت لهم ومما يبطل به قولهم وإن كان واضح البطلان أن في المكاسب ما لاتلتبس الحال في حله فيحسن طلبه كالاحتشاش والاحتطاب من الفلوات واستقاء الأمواء من الأنهار العظيمة كدجلة وهذا الاستدلال مستقيم، وإن كان المراد بذلك تناول ما يحتاجه منه، وأما إذا احتش أو احتطب أو اغترف الماء ليبيعه وينتفع بثمنه فالاحتجاج غير مستقيم، ويدل على حسن التكسب من العقل أنه يعلم بالعقل حسن طلب الانتفاع بما لاينتفع به مما لاضرر على أحد فيه، ولاورد الشرع بالمنع منه، ومن القرآن ما ذكره المصنف وقوله تعالى: {فانتشروا في الأضر وابتغوا من فضل الله}. وقوله تعالى: {أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض} فجمع بين الإنفاق من الكسب والإنفاق مما أخرجت الأرض مما هو باصل الإباحة.
ومن السنة ما روي عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( من طلب من الدنيا حلالاً تعطفاً على والد أو ولد أو زوجة جاء يوم القيامة ووجهه على صورة القمر ليلة البدر )).
ومن الإجماع أنه لاخلاف بين المسلمين في حسن طلب الرزق على وجه يحل أما من المباحات كالاحتطاب والاحتشاش ونحو ذلك، وإما من جهة تملك المملوكات بالبيع والشراء والهبة والصدقة ونحوها وإجماع الصدر الأول على ذلك كالمعلوم الذي لا تتطرق إليه الوهوم.
تنبيه
قد ذكرنا فيما تقدم انقسام طلب الرزق إلى جميع أقسام متعلقات الأحكام من واجب ومندوب ومباح ومكروه ومحظور، أما الواجب فحيث يخشى بتركه الضرر على نفسه بجوع أو عرى ولايندفع عنه ذلك إلا بأن يتكسب فيجب عقلاً لأن دفع الضرر عن النفس واجب، وكذلك إذا خشي الضرر على أبويه العاجزين وطفله فيجب شرحاً وكذلك يجب بالشرع لطلب ما ينفق على زوجته وإن لم يتضرر وكذلك حيث يعرف من نفسه أو يخاف عليها أنه إن لم يكتسب ما يحتاجه من نفقة ونحوها ويكون معداً لذلك وقع في الحرام فإنه يجب عليه وإن لم يتضرر بالترك ولايستغرب مثل هذا ويقال: كيف يجب طلب الرزق مع أنا مأمورون بالزهد في الدنيا ورفض الحب لها وعدم الاتفات إليها فقد بينا وجه الوجوب في ذلك، ولقد ذكر بعض أصحابنا المتأخرين شيئاً حفظه عن بعض العلماء وهو أن التكسب للنفس والأولاد من أهم الواجبات وإنما لم يقع تصريح من جهة الله بذلك اكتفاء بما ركب فينا من حب المال والحرص على جمعه فلا حاجة إلى التصريح بإيجابه كإيجاب الصلوات والزكوات والحج.
قال: ووجه ذلك ما في تحصيل المال من الاحتراز عن أذاء الناس بالسؤال وتحمل مننهم ولما في جمع المال من حفظ الورع عن أموال الناس وقد نبه صلى اللّه عليه وآله وسلم على ذلك حيق ال: دطلب الحلال فريضة على كل مسلم بعد الفريضة )) أو كما قال: (( نعم العون على التقى المال )) .
وأما المندوب فحيث لاوجه من وجوه الوجوب بأن يكون معه كفايته لكن يكسب ليتصدق أو لئلا يلحقه في المستقبل حاجة /46/ أو ليتجمل بما يكتسبه عند الناس.
وأما المباح فيكسبه ليتوصل بما يكتسبه إلى التلذذ بالمباح من مطعوم ومشروب ومنكوح ومركوب ومسكن ولايقصد غير ذلك.
وأما المكروه فحيث يكون معه كفياته والتكسب يشغله عما هو أفضل من طاعة الله وما يقرب إليه أو يكون تكسبه بحرفة تنقص قدره وتضع منه أوو يكون في منصب الاقتداء فيخشى أن يقتدي به غيره من العوام فيكسبهم ذلك الحرص على جمع المال والغفلة عن الآخرة والاستعداد للموت.
وأما المحظور فحيث التكسب من وجه محظور أو من حلال للمكاثة والمفاخرة أو حيث يشغل عن أداء واجب عليه ولايبعد أن يعد من هذا النوع التكسب بالسؤال لما ورد فيه من الأخبار القاضية بتحريمه وليس مما أردناه بقولنا يحسن طلب الرزق فإن الغرض بغير السؤال كالتجارة والإجارة والنجارة والفلاحة وسائر المهن والاصطياد واستخراج نفائس البحر والمعادن والاحتطاب والاحتشاش ليبيع ذلك وإحياء الأرض لبيعها وغزو ديار الكفار للاغتنام منها.
وقيل: ليس الفلاحات من التكسب وكذلك قبول الهبات والوصايا والنذور لأنها وإن كانت عملاً في تحصيل الرزق فلا تسمى كسباً لغة ولاعرفاً ولاشرعاً.
قلت: قال مولانا عليه السلام: وفي ذلك نظر لاسيما الفلاحة.
ويلحق بما تقدم فوائد:
الأولى: أنه لايجب عليه تعالى أن يرزق أحداً من عباده إذ الغرض منه التبقية وهي لاتجب عليه مطلقاً إلا ما يقوله الأصحاب من أنه يجب عليه تبقية المكلف بعد تكليفه وقتاً يسيراً يتمكن فيه من فعل شيء مما كلفه لئلا تبطل فائدة التكليف وهي ممكنة وأكثر منها من دون رزق. وأما قوله تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} فهو وإن كان ظاهره يقتضي الوجوب للإتيان بلفظة على التي تدل على الاستحقاق مؤول بأن الله تعالى لما تكفل بالرزق ووعد باستمراره وأمن العباد من قطعه إيناساً منه لهم وصرفاً لهم عن استغراق الأوقات بطلبه صار كأنه واجب.
قال جار الله: فإن قلت كيف قال الله على الله رزقها بلفظ الوجوب وإنما هو تفضل؟ قلت: هو تفضل إلا أنه لما ضمن أن يتفضل به عليهم رجع التفضل واجباً كنذور العباد.
الفائدة الثانية: أن لله تعالى أن يفاضل بين عباده في الرزق وقد خالف في ذلك بعض المطرفية فقالوا: بوجوب المساواة ومنع المفاضلة وخلاف ما ذكروه معلوم بضرورة الوجدان وبما ورد في القرآن كقوله تعالى: {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق}، وقوله: {يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر}، وقوله: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض} ولأن الرزق تفضل فلا تجب فيه المساواة.
تنبيه
لو اشترى التاجران في جودة البضاعة ومكارم الأخلاق والتحبب إلى الناس وجميع ما يدعو إلى مثلهما وكان الناس إلى أحدهما أكثر انصرافاً وانجذاباً فقد اختلف فيه بعض الشيوخ هل ذلك بسبب من الله أو لا؟
قيل: والتحقيق أنه لابد من مرجح للناس في ذلك إذ مجرد الإرادة لاتكفي في الفعل فيكون ذلك المرجح اعتقاد جهل أو ظن لزيادة فيه من دون علم بالزيادة لأنا قد فرضنا الاتسواء من كل وجه ولايكون الجهل والظن من الله.
الفائدة الثالثة: أنه تعالى يرزق العصاة وهو مذهب المسلمين كافة وخالفت فيه المطرفية فذهبوا إلى أنه تعالى لم يرزق العصاة بل العاصي مغتصب لنفسه ورزقه ولعل هذا اختص به طائفة منهم إذ المحكي عنهم جملة أنه تعالى لم يرزق أحداً لامؤمناً ولا عاصياً وإنما كل حي يحتال في طلب رزق نفسه وهو خلاف ما علم ضرورة من الدين وكذلك قولهم هذا في العصاة فإن الله سبحانه قد صرح برزقه للكافرين كقوله تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالا ممدودا} الآيات وغير ذلك وغيره.
فصل
اعلم أن الرزق قد يكون لطفاً وقد لايكون.
قوله: (لأجله منه). يعني من الرزق وكلامه في هذا الفصل جيد لا غبار عليه واضح لايتطرق اللبس إليه.
القول في الأسعار
قوله: (السعر هو تقدير الثمن). جعل ما هية الشعر نفس التقدير /47/ كأن يقول القائل: ابتع الرطل من هذا بكذا.
وقيل: إن السعر في اللغة عبارة عن قدر ما يباع به الشيء. يقال: سعر الطعام أي كم القدر الذي يباع به فهو على هذا اسم للثمن. وقال في الضياء: الشعر هو الذي يقوم عليه الثمن وهو قريب مما قال المصنف. قيل: والسعر غالب في المأكولات المثليات. وقيل: بل يختص من المثليات بالمكيلات في الغالب.
إذا عرفت هذا فالثمن هو الذي يستحق في مقابله المبيع هكذا ذكر صاحب شرح الأصول، ونظر بأن المستحق في مقابلة المبيع قد يكون مبيعاً أيضاً والأحسن أن يقال: أما في اللغة فالثمن ما دخلت فيه الباء والمبيع مالم تدخل فيه، وأما في اصطلاح الفقهاء فلهم تفصيل يذكر في مواضعه.
قوله: (فهو غلا).
هو مأخوذ من الغلو وهو تجاوز الحد ومنه لاتغلوا في دينكم.
قوله: (فهو رخص). مأخوذ من الرخص الذي هو اللين يقال: كف رخص البنان إذا كانت لينة اللمس.
فصل
ومعنى إضافة الرخص والغلا إلى الله تعالى هو أنه فعل الأشياء التي تقتضي ذلك.
قوله: (ونحو ذلك). يعني ككثرة الانتظار وصلاح الثمار وتقليل الشهوات للطعام.
قوله: (وكذلك قد يكون سبب الغلا من جهة الظلمة).
يعني فيكون الغلا وكذلك الرخص منهم حيث السبب منهم وقد خالفت الحشوية في ذلك فقالت: جميع الأسعار من الله ولاشيء من العباد ورد بأن الله سبحانه نهى عن الاحتكار للقوتين على ما هو مقرر بشروطه في موضعه وما نهى عن ذلك إلا لئلا يقع الغلا فدل على أن لهم أثراً في التسبيب في ذلك.
قوله: (في آخر الفصل ونحو ذلك). كأن يمنعوا المبتاعين للحب من دخول المصر فترخص الحبوب لكثرتها مع عدم طالبيها.
فائدة
هل يجوز التسعير أم لا؟ فالذي عليه الأئمة عليهم السلام والمعتزلة وجمهور الفقهاء أن ذلك لايجوز وذهب مالك إلى جوازه وجه المنع نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك والمجيز له زعم أن النهي لم يكن إلا عن التسعير في تلك الحال لعدم المصلحة فأما إذا ظهرت المصلحة صح وجاز.
قيل: وهو القوي لكن لايجوز إلا لذي الولايات إذ إليهم النظر في المصالح العامة فإذا رجح عندهم أن في التسعير مصلحة شاع ذلك.
القول في الآلام والغموم
اعلم أن الألم جنس من الأعراض متميز عن غيره غير راجع إلى النفي واللذة من جنسه ولايتميز أحدهما عن الآخر إلا بمقارنة الشهوة أو النفرة فما قارنته الشهوة فلذة وما قارنته النفرة فألم ودليل كونهما جنساً واحداً أن الواحد منا قد يتألم بما يلتذ به ويلتذ بما يتألم به كالحك وغيره وحقيقة الألم على هذا القول ما ذكره المصنف وهو قول جمهور المتكلمين.
وقال أبو إسحاق بن عباس: المرجع بالألم إلى النفي، وهو خروج الجسم عن حد الاعتدال أو إلى أمر ثبوتي غير ما ذكره الجمهور وهو حصول آخر بمنزلة حمل الثقيل والصحة عكسه في الوجهين، وذهب ابن زكريا المتطبب إلى أن اللذة يرجع بها إلى النفي أي الخروج عن الألم وحكي عنه مثل ذلك في الألم وهو الخروج عن اللذة.
قوله: (بمحل الحياة فيه).
هو يمتاز بهذا الحكم عن سائر المدركات لأن سائرها يدرك بمحل الحياة في غيره فلهذا كان ما ذكره فضلاً له عن سائر المدركات والكلام في تصحيح ما ذهب إليه الجمهور وتزييف قول من خالفهم مبسوط في مواضعه من علم اللطيف وليس مما يهمنا الكلام فيه هنا لأن الذي نحن بصدده لايتوقف على صحة ما ذكر ولافساده.
قوله: (والغم) إلى آخره.
هذه الحقيقية مثبتة على ما اختاره أبو هاشم من كون الغم من قبيل الاعتقاد أو الظن وليس جنساص مستقلاً وذهب أبو علي إلى أن الغم والسرور جنسان مستقلان ليسا من قبيل الاعتقاد ولا الظن والذي قاله أبو علي هو الصحيح وإنما الاعتقاد والظن المذكوران في الحد لابد منهما أو من أحدهما في حصول الغم والله أعلم.
ولبسط الكلام في ذلك ونظر أدلة المذهبين موضع أليق به من هذا وليس ذلك مما يتوقف عليه ما نحن فيه.
قوله: (في المستقبل). أما ابن متويه /48/ فلم يشرط الاستقبال فيه بل قال: إما في الحال أو في الاستقبال وهو الأحسن.
قوله: (ويفارق الخوف مفارقة العام للخاص في بعض صوره).
هذا الكلام غير واضح المعنى ولامطابق للمقام فإنه لاحاجة إلى ذكر تميز الخوف عن الغم هنا ولو دعت إليه حاجة فاللائق حينئذ أن يذكر حقيقة الخوف ثم ينبه على وجه افتراقهما كما قال ابن متويه رحمه الله: الخوف الاعتقاد أو الظن لنزول ضرر به في المستقبل أو فوات نفع عنه إما فيه أو في من يجري مجراه وكذلك الخشية. قال: ويفارقان لاغم لأنه لايدخلهما طريقة العلم ولأنهما لايدخلان فيما وقع ومضى ولافيما هو موجود في الحال وليس كذلك الغم ولايستقيم أن يكون هذا ما أراده المصنف بقوله في بعض صوره لأنه قد جعل الغم مساوياً للخوف في اعتبار الاستقبال ولعله أراد من حيث أن الغم يكون مع العلم وغيره والخوف لايكون مع العلم والله أعلم.
فصول في الوجوه التي يسحن عليها الألم ويقبح
قوله: (ضل كثير من الناس).
اعلم أن وجه ضلالهم كون الآلم مضرة عاجلة ووجوه حسنها خفية غير واضحة وقد أشار إلى بعض الفرق الضالة بسببها فقوله حتى كان ذلك شبهة في إثبات ثان إشارة إلى الثنوية لأنهم جعلوا لها فاعلاً غير فاعل الخير لاعتقادهم كونها شراً محضاً، وأن الفاعل الواحد لايصح أن يفعل الخير والشر.
قوله: (وفي جواز كل قبيح على الله).
إشارة إلى المجبرة فإنهم لما اعتقدوا قبح الآلام مع صدورها عن الله جوزوا صدور غيرها من القبائح عنه وقالوا: لايقبح منه تعالى قبيح وله أن يفعل في ملكه ما شاء.
قوله: (وفي التعطيل).
عند ابن الراوندي الأصحاب يذكرون أنها السبب في تعطيل الدهرية وأنهم يقولون لو كان للعالم صانع مختار لما صدرت عنه هذه الآلام الضارة التي لاغرض فيها وأما المصنف فجعل تسببها في التعطيل مقصوراً على ابن الراوندي لأنه قد كان من علماء الإسلام فقاده الجهل بنفي جنسها إلى نفي الصانع والتعطيل بسبب الآلام في حقه أظهر وكذلك أبو عيسى الوراق وأهمل المصنف من الفرق الضالة بسببها البكرية والتناسخية وسيأتي ذكرهم وتفصيل مذهبهم، وممن ضل فيها وبسببها المطرفية فإنهم ذهبوا إلى أنها حاصلة بالفطرة والتركيب بمعنى أن الله تعالى خلقها على وجه يتألم عند مجاورة جسم آخر وقضوا بقبحها فلم يضيفوها إلى الله.
قال بعضهم: ما خلق الله ليفني ولا أحيا ليميت ولا أغنى ليفقر.
قوله: (في رواية البيت: كم عالم عالم).
الأشهر في الرواية: كم عاقل عاقل. وتكرير اللفظ للتأكيد.
قوله: (وكان السبب في جميع ذلك نفار الطبع عن هذه الآلام).
قد صرح بعض من قال بقبح الآلم بأن هذا هو الوجه في قبحها وأن المرجع بالقبح والحسن في العقل إلى الاستحلا والنفرة وصرح به بعض الأشعرية.
فصل
يحسن الألم من فعلنا إذا كان لنفع إلى آخره.
قوله: (إيلام من آلمه أو غيره). أي أو آلم يغره فهو معطوف على الضمير المنصوب في آلمه.
قوله: (لأن المنزل له يكون مقدماً على ما لايأمن كونه ظلماً).
يعني وقد تقرر أن الإقدام على ما لايؤمن قبحه كالإقدام على القبيح. فإن قيل: يلزمكم مثل هذا حيث أقدم مع ظن النفع أو دفع الضرر.
أجيب بأن ذلك لايلزم ولايساوي بين الوجهين إذ قد تقرر في العقول تقرراً أولياً استحسان الآلام للنفع ودفع الضرر المظنونين بخلاف ظن الاستحقاق وفيه نظر.
قوله: (وقد دخل في جميع هذه الجملة بطلان جميع الأقوال المتقدم ذكرها).
يعني لكون مبناها على قبح الآلام مطلقاً وكذلك يدخل فيه بطلان قول التناسخية والبكرية لأنهم بنوه على أنها لاتحسن إلا مستحقة.
فصل
قوله: (وإن كان الألم من فعل الله) إلى آخره.
اعلم أن الآلام النازلة بنا من غير اختيارنا ولا اختيار غيرنا من القادرين بقدرة هي فعل الله تعالى وكذلك غيره /49/ من المضار التي لاتتوقف على اختيارنا كفساد الثمار واجتياحها بالبرد والبرَد، والذي عليه أهل الإسلام وكثير من الخارجين عنه أن جميع ذلك فعل الله تعالى والمخالفون فيه قد تقدم ذكرهم ودليل ما قلناه أنها محدثة بلا شك ولامحالة فإنها تتجدد ويجوز العدم عليها والمحدث لابد له من محدث وليس محدثها إلا الله تعالى إذ لايصح أن تحدث نفسها قطعاً، وغير الله إما موجب قديم فلا قديم مع الله لأن ذلك يستلزم قدمها وإما موجب محدث، وإما علة والعلل لاتؤثر إلا في الصفات والآلم ذوات على ما هو مقرر في موضعه، وإما سبب فلا بد له من فاعل وهو المؤثر فيها في الحقيقة وإما إن كان المؤثر فيها فاعلاً مختاراً غيره تعالى فغير الله من الفاعلين لايصح منه أني فعل فعلاً متعدياً عن محل قدرته إلا بسبب هو الاعتماد ونحن نجد هذه الآلام النازلة بنا ولدينا من غير إحساس باعتماد معتمد علينا.
وبهذا الاستدلال نبطل قول الملاحدة والمطرفية والثنوية ويتوضح فساد مذاهبهم الردية وللأصحاب في الرد عليهم بسط لاحاجة بنا إلى ذكره.
قوله: (وكان أبو علي) إلى آخره.
هذا المذهب الذي رجع عنه ذهب إليه أصحاب اللطف بشر بن المعتمر وأصحابه لما مر من مذهبهم في عدم إيجاب اللطف، هكذا ذكره بعض أصحابنا.
قلت: قال مولانا عليه السلام: وفيه نظر إذ قاعدتهم لاتمنع من الإيلام للعوض والاعتبار ولامن اشتراط حصولهما وإنما يمنع من إيجابه لأجل الاعتبار وقد نقل عن أبي علي تجويز كون الألم في حق الكافر والفاسق عقوبة معجلة كالحدود والخسف ونحوه.
ورد بأنا نعلم من الدين وجوب صبرهما على الآلم النازلة بهما وقبح الجزع والحدود لايجب فيها ذلك بل للمحدود أن يجد في الهرب عنه كما فعل ماعز.
قوله: (وقد ذهب عباد) إلى آخره.
اعلم أن كلام عباد إن كان على عمومه بحيث أنه يقول يحسن منه تعالى إيلام الأطفال ونحوهم لمجرد أن يحصل بذلك اعتبار للمكلفين أو بعضهم وإيلام مكلف لمجرد اعتبار يصحل لغيره فقد أبعد ومذهبه في غاية الضعف فإن الإضرار بشخص لنفع يحصل لغيره من أوضح الظلم ولو جاز ذلك لأجزنا جميع أنواع الظلم فإنه لايكاد يخلو شيء منها عن نفع لغير المظلوم وإن أراد أن الألم يحسن لمجرد اعتبار يحصل به للمؤلم وهو اللائق بعلمه وفهمه فمذهبه في غاية القوة وأي نفع للمكلف أعظم من نادية الألم هذا إلى كونه من أهل الجنة والسعادة الأبدية.
وقول الجمهور في الرد عليه أن الثواب في مقابلة لاطاعة فهو وإن كان صحيحاً. يجاب عنه بأن الألم هو الداعي إلى الطاعة وهو في حكم المسبب عنه فالنفع حاصل في الحقيقة لأجله ولولاه لم يحصل وقد حكموا بأن تحمل الإنسان لمشاق السفر وأخطاره حسن لما في ذلك من النفع المظنون وهو حصول دراهم أو دنانير مثلاً وليس الانتفاع حاصلاً بها نفسها لكنها تؤدي إليه ثم أنهم يذهبون إلى أنه يجب على الله فعل الألم لأجل الاعتبار ولو تركه كان مخلاً بواجب فإذا كان الاعتبار قاضياً بوجوبه فأولى وأحرى أن يقضي بحسنه لأن الوجوب زائد على الحسن.
قوله: (حاكياً عن عباد وأيضاً فلو حسن من الله للعوض لحسن منا له).
قد نسب إلى أبي هاشم تجويز تحميل غير المكلف المشقة في مقابلة نفعه عقلاً كالبهائم فجعل العقل قاضياً بحسن ركوبها وغيره من الانتفاع بها لتعهدها بالسقي والعلف وبهذا أجاب من سأل عن وجه ركوب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم للبهائم قبل بعثته إذا لم يكن متعبداً بشريعة من قبله وأنكر ذلك أبو علي ولم يجز عقلاً تحميلها أشياء من المشاق في مقابلة نفعها لأن اعقل لايهتدي إلى قدر العوض وإنما حسن ذلك للسمع، وأما إنزال الألم بالعاقل لنفعه من غير مراضاة له فقد اختلف الشيخان فيه فقال أبو هاشم ومعه الأكثر أنه يعلم حسن ذلك عقلاً كأن يكره على القيام من مكانه لأخذ صرة فيها ذهب كثير ليس بينها وبينه /50/ إلا قدر الخطوة ويعد ذلك تفضلاص عليه.
قيل: ولعلهم يعنون حيث لايكون السبب في امتناعه الزهد في الدنيا والخلوص عن تحمل المنة ونحو ذلك من المقاصد الحسنة بل علم ضرورة من حاله أنه امتنع لأجل الكسل. وقال أبو علي: لايحسن غ:راهه ويعلم قبحه عقلاً لجواز أن يكون هذا المتكاسل يلتذ بالدعة أبلغ من لذته بالمثاقيل.
قيل: وهو الصحيح وأما إجباره لدفع مضرة كأن يكون تحت جدار متداع يخشى انهدامه في الحال فلا يبعد اتفاق الشيخين على حسنه ويتفقان على حسن إيلام البهائم ونحوها لدفع المضرة عنها.
قوله: (أنه معارض بالاعتبار) إلى آخره.
قيل: هذه المعارضة لاتصح لأن أحدنا لايعلم هل يقع الاعتبار أم لا وإذا وقع فهل يفعل ما يقع الدعاء إليه أم لا، وما ذلك المدعو إليه ولا كذلك الله تعالى فإنه عليم بذلك كله.
قلت: قالم ولانا عليه السلام: وفي هذا نظر لأن المعارضة هي على تقدير حصول الاعتبار بما يفعله من اللم وليس ذلك متعذراً كما لو أخبرنا نبي صادق بأن إنزال أحدنا الضرر بمكلف يكون لطفاً له ثم أن وجه جعله للاعتبار مستقلاً بتحسين الألم كونه نوعاً من النفع وظن النفع كالعلم به.
قوله: (فهلا حسن منه تعالى الإيلام لدفع الضرر).
حسن الإيلام لذلك مذهب البغداديين.
قوله: (الضرر المزال) إلى آخره.
يستكمل المصنف أقسام هذا الطرف والأولى أن يقال: وإن كان من فعل غيره تعالى فلا يخلو إما أن يكون مفسدة أو لا، إن لم يكن مفسدة لم يحسن من الله تعالى إنزال الضرر لدفعه بل النهي لذلك الغير إن كان مكلفاً كاف مع افنصاف منه إذا لم ينته والإنصاف من غير المكلف كاف وإن كان مفسدة فلا يخلو إما أن يكون مفسدة لفاعل الضرر أو لغيره إن كانت لغيره لم يمنكنه الله تعالى منذ لك الضرر ويختم منعه عنه ولو خرج عن كونه مكلفاً بالنظر إليه أو لايكلف من المفسدة هذه حاصلة في حقه بما هي مفسدة فيه، وإن كان الضررم فسدة في حق فاعله فالنهي والوعيد كافيان في منعه منه عند أبي هاشم وحيث لم يمتنع فقد أتي من جهة نفسه.
وأما أبو علي فقال: يجب المنع منه أيضاً لن المنع بالقهر من المفاسد كلها مطلقاً واجب عنده ويمكن أن يقال لأبي هاشم ولم قضيت بأنه لايحسن الإيلام لدفع الضرر الذي هو مفسدة لفاعله حيث مع إنزال الألم به وقلت: أنه يكفي نهيه وتوعده مع علم الله أنه لاينزجر بذلك والمعلوم قطعاً أن إنزال الألم به حينئذ أنفع له وتفضل في حقه لأنه يندفع به عنه ضرر آخر، ويسلم بذلك من الوقوع في الهلكة ويكون له فيهاعتبار يبلغ به إلى نعيم الأبد.
قوله: (وإلا أنصف المضرور من أعواض الضار).
ظاهره أن إنصاف المضرور من أعواض الضار غير المكلف ومن أعواض الضار الذي هو مكلف كاف وإن كان ذلك الضرر مفسدة وهو غير صحيح وقد قدمنا أنه يجب منع المكلف من المفسدة في حق غيره أو عدم تكليف ذلك الغير بما هي مفسدة فيه وهكذا الكلام في حق غير المكلف على ما تقتضيه قواعد الأصحاب والله أعلم.
قوله: (لما كان فرق بين أن يوضع الصبي في النار) إلى آخره.
ظاهره يقتضي بأن البكرية تقول أن الصبي لايتألم مطلقاً والمشهور أن الآلم الحاصلة من جهته تعالى لما ذهبوا إلى أنها لاتحسن إلا مستحقة والله تعالى لايفعل إلا الحسن والصبي لايستحق عقاباً /51/ ولكن مثل ما ذكره المصنف قد ذكره غيره وما هو أوضح منه في المعنى المشار إليه وهو قولهم في الرد على البكرية: كان يجب أن يكون تقطيع الصبي وضربه السياط عنده كالانتقال من جانب المنزل إلى جانب آخر ويلزم ألا يكون أحدنا ظالماً بجرحه وضربه لأنه لاضرر عليه في شيء من ذلك وكلام البكرية مستغن عن التطويل في دفعه فإن خلافه معلوم ضرورة.
قوله: (وقال أهل التناسخ).
تحقيق مذهبهم أن أرواح هؤلاء عضواً في أجساد مكلفة وهي التي عنوا بالهياكل ثم نقلت أرواحهم إلى أجساد هؤلاء يسمون أهل الهياكل والتناسخ وتنقل الأرواح.
قوله: (مع ما تقدم). يعني من بيان أن الآلام تحسن غير مستحقة.
قوله: (وهو عندنا باطل). يعني فإن الإنسان هو هذه الجملة المشاهدة.
قوله: (لاسيما إذا كانت حاله عظيمة). يعني لتعذر تطرق النسيان إلى مثل ذلك.
قوله: (وأن الله عدل حكيم). ليس يشترط في إنزال العقاب بمستحقه علمه بعدل الله وحكمته وفيه نظر.
قوله: (وأن يكون له طريق إلى تلافيه بالتوبة).
يعني لأنه الآن في دار التكليف وأما المعاقب في الآخرة فلا طريق له إلى التلافي لانقطاع دار التكليف ولهم أن يقولوا خروجه عن الهيكل الأول فيه قطع لتكليفه كما إذا .... المكلف في الغير وعوقب عندكم.
فصل في الوجه الذي يقبح عليه الألم
قوله: (وكان أبو هاشم يذهب) إلى آخره. مثل قوله هذا حكي عن القاضي.
قوله: (ويجعل الوجوه التي تقتضي حسنه مخرجة له عن كونه ضرراً).
هكذا ذكر وقال أبو علي: لايخرج الضرر عن كونه ضرراً بإيقاعه لنفع أو دفع وهو الأظهر. قيل: ويشهد له قوله تعالى: {ولايتعلمون ما يضرهم ولاينفعهم} فلو كان ما كان فيه نفع من الضرر لايعد ضرراً كان قوله: ولاينفعهم زيادة مستغنى عناه وفيه خفا فإن أبا هاشم إنما أراد والله أعلم أن الوجوه التي تقتضي حسنه تخرجه عن حكم الضرر وتصيره في الحقيقة غير ضرر لا أنه لايسمى ضرراً ثم إن قصد ذلك فله أن يقول: قوله تعالى: {ولاتنفعهم} من قبيل التأكيد ووروده سابغ شايع.
قيل: والأقرب أن الخلاف لفظي راجع إلى وضع لفظ الضرر لماذا فأبو هاشم والقاضي يقولون إنما وضع للألم القبيح ويجعلون كونه ضراً حينئذ وجه قبحه ككونه ظلماً وأبو علي يجعل الضرر اسماً لما يتألم به حسناً كان أو قبيحاً والمرجع في ذلك إلى ما نقله أئمة اللغة.
قوله: (ما رجع إليه آخراً). فيه تصريح بأن ذلك قديم قوليه، وقيل: بل هو الأخير منهما.
القول في الأعواض
قوله: (المستحقة) يخرج به التفضل.
قوله: (لا على جهة .......) يخرج به الثواب وهذا الذي ذكره المصنف حقيقته اصطلاحاً، وأما في اللغة فهو ما فعل لأجل أمر آخر على جهة المقابلة سواء كان ذلك في ضر أو نفع.
فصل والعوض قد يستحق على الله تعالى
قوله: (وقد يستحق على المخلوقات). صوابه: المخلوقين فإنه يجب تغليب العقلاء.
قوله: (أو سببها) هو كأن يفعل سبب الألم من الأكوان أو سبب المصائب كعصف الريح في انكسار السفن وشدة البرد في إهلاك الثمار وإحداث البرد. وغير ذلك.
قوله: (بأن يأمر). يعني أمر إيجاب كأمره بذبح الهدي أو أمر ندب كأمره بذبح الأضحية ويدخل في هذا شرب الدواء والفصد والحجامة لدفع المضار.
قوله: (أو يبيح ذلك) كإباحة ذبح البهائم لا أكلها وتأديب الخادم.
قوله: (أو يلجأ) كمن ألجأه سيل إلى أن يطأ زرع الغير أو شيئاً من الحيوان.
قوله: (وقد يستحق لأنه في حكم الفاعل). نحو أن يضع أحدنا صبياً في النار أو يلقيه إلى الأسد فالفاعل للإحراق والأكل وإن كان غيره فهو في حكم الفاعل له، والعوض عليه، وسيأتي تحقيقه.
قوله: (ومنها العموم). اعلم أن الغم كالألم في لزوم العوض لأجله بأن يفعله الله تعالى أو يفعل سببه أو يكون في حكم الفاعل له إما بإيجاب كالحاصل بحجر الحاكم تعذر /52/ إن طلبه الخصم وشهادة الشهود بعد أن طلبت منهم أو بإباحة كإخبار رجل آخر بموت ولده أو ذهاب ماله لا إذا أخبره بأن زيداً قتل ولده عدواناص ونحوه، فالعوض على زيد لأنه كأنه المخبر وإن كان الله هو المبيح للخبر هكذا ذكره بعض الأصحاب وفيه نظر.
الأحسن أن الغم مسبب عن المخبر به لاعن الخبر فالعوض على الله في الصورة المذكورة أو لا لأنه فعل سببه لا لأنه أباح الإخبار به وعلى زيد لأنه الفاعل لسببه لا لما ذكر من أنه كالمخبر.
قوله: (فربما يبني الله بنية بعض الأشخاص بنية يشرع معها الخوف) لعل لفظه: بنية الأولى من سهو القلم أو يكون بنية بمعنى جملة.
قوله: (والزائد لا عوض فيه).
يقال: إذا كان السبب في زيادة غمة تلك البنية التي بناه الله عليها فالقياس أنه يستحق العوض على الزائد وقد ذكر بعض الشارحين المسألة علىص ورة أخرى حسنة وهو أن يغتم الإنسان لأمر من الأمور غماً زائداً على ما يحتمله الحال وكان يمكنه دفع ذلك عن نفسه فإنه لاعوض له لكونه أتي من جهة نفسه ونظيره من تألم ألماً يمكنه دفعه فإنه لاعوض له ولو كان سببه من الله كمن تألم بجوع أو برد وعنده طعام وما يستدفئ به ولامانع له من ذلك.
قوله: (كالممرور).
هو من علقت به المرة وغلبت عليه والمرء اسم إحدى الطبائع الأربع وهي الصفراء والبلغم والسودا والدم والأغلب أن الذي يكثر ..... وتعلق به العموم لأجل تلك التخيلات هو من غلبت عليه مرة السودا.
قوله: (وقال القاضي يجب).
كلام القاضي هذا في غاية الركة وتعليله واستدلاله إنما يوجب أن استحقاق العوض على نفس الضرر الذي لم يعلم به ولانزاع في ذلك وإنما النزاع في الغم الذي يلحقه على تقدير أن يعلم به.
قوله: (ولم يكن دفع ذلك الضرر واجباً).
يعني فأما مع وجوبه فهو يستحق على المشقة اللاحقة به ثواباّ وكذلك حيث يكون مندوباً.
قوله: (كدفع ضرر الأمراض) الخ.
يقال: إن من قواعدهم أن دفع ضررها مع العلم أو الظن لاندفاعه بشرب الأدوية واجب فكيف يعده مباحاً ولعله أراد مع عدم العلم أو الظن.
قوله: (مثاله أن يلحقه برد شديد) إلى آخره.
في عبارة المصنف هذه ركة لأنه قد فرع من التمثيل.
قوله: (أن يلزمه ابنه طلب قوت لغيره) لاموجب هنا لذكر الإلزام لأن العوض يستحق على الغم الحاصل لفقد القوت الجارية عادة مثله بتحصيله سواء كان لازماً أو غير لازم.
قوله: (بالنسبة إلى إيتاء جنسه) وذلك كاغتمام رجل بنقص خلقته على ما ذكره المصنف بالنسبة إلى رجل آخر أما لو اغتم بنقص خلقته عن خلقة من ليس من جنسه كالملائكة فلا عوض له في ذلك.
قيل: فلو اغتمت المرأة بكونها لم تكن من جنس الرجال ففيه احتمالان أحدهما ألا عوض كما ذكر آنفاً، الثاني أنها إذا اغتمت لأجل ما فضل به الرجال استحقت العوض كما ذكروه فيمن اغتم بسبب فقده ما تقع به المنافسة من ظهور فضل الله على الغير.
قلت: قال مولانا عليه السلام: الاحتمال الأول أرجح ووجهه أوضح.
قوله: (لأجل الجنون أو الدين ونحو ذلك). كالصغر مع التمييز والسفه والتبذير عند من يقول به.
قوله: (في كل هذيه يجب العوض على الله تعالى).
يقال: أما في الإلجاء بسيل أو نحوه إلى العدو على زرع الغير فيحتمل أن يقال مهما بقي للملجئ فعل هو سبب الإفساد فالظاهر أن قيمة الزرع يجب عليه فلا يستحق صاحبه عوضاً على الله بل يكون الملجئ هو لامستحق للعوض في مقابلة ما لحقه من الغرم ويستقيم الكلام حيث لم يبق للملجأ فعل أو صدر منه ما لايوجب عليه حقاً في الشرع وغرماً مع لحوق ألم أو غم.
قوله: (إن حكمها حكم ما تقدم). هذا هو الذي اختاره بعض المتأخرين والأظهر أن الخلاف شامل لناقصي العقول من السباع والحيوانات والصبيان والمجانين ويدعم ذلك قول المصنف التي يصدر ممن لاعقل له وصرح به ابن الملاحمي وقيل: إنما الخلاف فيمن ليس بعاقل من غير بني آدم /53/.
واعلم أن الخلاف إنما هو في العوض الذي ليس فيه غرامة دنيوية فأما ما كان كذلك فتلك الغرامة هي عوضه وهي على من أوجبها الشرع عليه على ما هو محقق في الكتب الفروعية فقد تكون على الصغير ونحوه، وقد تكون على مالك البهيمة، وقد تذهب هدراً فتكون حينئذ محل الخلاف.
تنبيه
قال بعض الذاهبين إلى أن العوض هنا يجب على الله ولابد أن يكون في الآلام الواقعة ممن لايعقل مع العوض الواجب على الله لطف واعتبار والألم يحسن من الله خلق النفرة عنه لمجرد التعويض عبث فلا يحسن.
قيل: وعلى هذا يعلم أن كل ألم يغر مستحق سواء كان من الله تعالى أو من غير المكلف أو من المكلف فلا بد فيه من الاعتبار مع العوض إما من فاعله أو من غيره على ما مر، أما الألم من فعل الله فلما تقدم وأما من فعل غيره مكلفاً أو غيره فلأنه لولا الاعتبار ... حسن خلق النفرة عنه.
وقيل: أما ما يصدر من المكلف فلا يشترط فيه الاعتبار ولايعد تمكينه من الإيلام وخلق النفرة عنه مع عدم الاعتبار عيباً لأن الوجه في حسن خلق النفرة أنه يتضمنها التكليف بترك الظلم مع ما فيه من التعريض لمنافع لايحسن الابتداء بمثلها لأن علمه بتضرر من يؤلمه شرط في تكليفه بتركه.
قلت: قال مولانا عليه السلام: وينبغي أن يتأمل هذا الكلام فلن يخلو عن مبالغة وغلو وتعسف والله أعلم.
قوله: (لأنه مكنها من ذلك) إلى آخره.
هذا الذي ذكره المصنف حاصل ما يعول عليه من حجج أبي الحسين وأتباعه ومما يحتج به له أن العوض كالعقاب فكما لايستحق العقاب على غير مكلف كذلك لايجب العوض عليه وفيه نظر لأن الذي يقتضي عدم التكليف امتناع الوجوب، والجمهور يسلمون ذلك ويقولون العوض لايجب عليها بل الوجوب على الله يجب عليه أن يأخذ ذلك من أعواضها وكما أنها تستحق العوض ولاتستحق الثواب يصح أن تستحق عليها العوض ولايستحق العذاب.
قوله: (وقال القاضي والجمهور).
هذا هو الذي عليه الزيدية وجلة المعتزلة.
قوله: (لأنه لم يلجها) إلى آخره.
يعني مع كونها الفاعلة لذلك الضرر ولاينتقل العوض عن فاعل الضرر إلى غيره إلا بأن يكون في الحكم كأنه من فعله بإيجاب أو ندب أو إباحة أو إلجاء والثلاثة الأول لاتتصور مع عدم التكليف وإنما يتصور الإلجاء وهو منتف بما ذكره، وهذا حاصل ما احتج به لمذهب الجمهور.
وقد اعترض المصنف أدلتهم اختياراً منه لمذهب أبي الحسين وتقوية له وإن لم يصرح بذلك واعلم أنك إذا تأملت أدلة الفريقين لهذه المسألة ونحوها وجدتها عن البرهان وإفادة اليقين بمراحل، ومن دون منزلته بدرجات ومنازل، وحيث لم تكن عملية فيؤخذ فيها بالظن ولاحصل فيها دليل قاطع وبرهان ساطع، فالأولى أن يرد إلى علم الله الذي وسع كل شيء وقصر عن دركه كل حي.
قوله: (قال الجمهور قد حسن منا أن نمنع من لاعقل له) إلى آخره.
هذا أحد ما يستدلون به على مذهبهم وله تحرير آخر وهو أن يقال: لو كان عوضها على الله لكانت في حكم أفعاله ولكان عوضها بالغاً في الكثرة إلى حد لاينبغي أن يسمح به لأن هذا حكم الأعواض التي على الله، ولو كانت في حكم أفعاله لكانت حسنة ولو كانت حسنة لم ينبغ أن يقع المنع عنها ولو كان عوضها كما ذكر لكان المانع لها عن الإضرار بمن قصدت الأضرار به جانياً عليه لحرمانه له العوض العظيم ومعلوم قبحها إذ فيها حقيقة الظلم، وإن الذاب عمن أرادت الإضرار به محسن إليه وقد اعترض صاحب المحيط ما ذكر بأن جواز المنع لايستلزم قبح الممنوع عنه ألا ترى أن للمحدود أن يهرب ويمنع الحاد مع حسن الحد.
ثم أجاب عن ذلك بأن حسنه في الحد لكونه ضرراً /54/ محضاً فيحسن منه دفعه في حقه لا ف يحق غيره بخلاف إيلام الحيوانات لنا أو لغيرنا فليس بضرر محض لما فيه من العوض العظيم من الله عند الخصم فإذاً لايحسن منا المنع منه.
قوله: (وعلى الجملة فلا يصح أن يقال: أيها يحسن منهم) إلى آخره.
يقال: هذا متفق عليه ولكن المحتج ألزم حسنها لكونها في الحكم من فعل الله تعالى فأقوى ما يرد به هو المعارضة بما إذا ألجيء إليها كما سبق.
قوله: (وأما المنع) إلى آخره.
قد ذكر بعض الشارحين فيه تفصيلاً أكثر إحاطة مما ذكره المصنف فقال: أما إضرار الحيوانات بأموال الآدميين بأكل أو فساد فقد ورد الشرع بالمنع منه وللعقل مجال في ذلك، فإنه يقضي بحسن المنع عن مضرة الغير وأما إضرارها بالحيوانات فإن كان بغير الأكل وجب منعها منه وقد ذكره قاضي القضاة، وقيل: لايجب إلا عند من يقول بأن القبح يدخل في فعلها ومن لايقول بذلك يجعله حسناً فقط وإن كان إضرارها بالأكل فالحكم كذلك أيضاً.
وذكر ابن الملاحمي أن الواجب منعها من الإضرار بمواشينا أو حيث يلحقنا غم بمشاهدة إضرارها ببعض الحيوانات فأما ما عدا ذلك فلا يلزمنا منعها عنه. قال: وليس في أدلة العقل والشرع ما يدل على وجوب ذلك ولاسمع عن أحد إيجاب الخروج على البراري لمنع الآساد ونحوها عن الاصطياد والافتراس.
قوله: (قال الجمهور: قد ثبت أن الصبي إذا جنى) إلى آخره.
هذا أوضح ما يتمسك به لمذهبهم وهو قياس جلي فإن الأروش في الدنيا بمنزلة الأعواض في الآخرة ولهذا لايجب الأرش والعوض معاً ولكنه مع وضوحه لايرتفع عن ريبة الظني وجواب المصنف عليه ليس بالقوي.
قوله: (قال الجمهور قال تعالى: {وإذا الوحوش حشرت}).
مما يؤيد احتجاجهم بهذه الآية تفسير قتادة، قال: المعنى يحشر كل شيء حتى الذئاب للقصاص. ويضعفه تفسير ابن عباس قال: المراد بحشرها موتها، وجواب المصنف قوي فإن حشرها لايستلزم ما ذكروه ولجوبه وجه غير ذلك وهو أن يوفر عليها ما تستحقه من جهة الله تعالى أو من جهة المكلفين فإن لم يكن لها ذلك أو لبعضها فإعادتها تفضل عليها وهو حسن لايعارضه شيء من وجوه القبح.
قوله: (آحادي وإن ثبت فمعناه) إلى آخره.
أما كونه آحادياً فصحيح ولايؤخذ بالآحادي في المسائل لاقطعية وأما التأويل الذي ذكره فمن التأويلات البعيدة لأن ذلك ليس من الانتصاف ولأن لفظة من تفيد أن ذلك من القرناء لا لأجلها والله أعلم.
قوله: (ولم يحصل ما يقتضي نقله عنه).
يعني بأن توجيه الله عليه أو يندبه إليه أو .... له أو يلجئه إليه.
قوله: (متعدهاً للكذب أو على وجه قد نهي عن الإخبار عليه).
لعله يريد أن يخبر بصفة البغي المحرم ومع كونه صادقاص فالاغتمام لأجل المخبر به والعوض على فاعل السبب في الغم كما تقدم.
قوله: (نحو أن يلجئ أحدنا غيره إلى العدو على زرع الغير).
إن كان الإلجاء على وجه يخرجه عن حد الاختيار والقصد إلى الفعل فصحيح ما ذكره لأنه قد صار في حكم الإله للملجئ وإن كان قصده إلى الفعل باقياً وإنما هو مكره خشي من عدم الفعل التلف أو الضرر فالعوض عليه نفسه، وله عوض على ملجئه بسبب مالحقه بإلجائه من الضرر.
قوله: (كأن يضع صبياً في النار أو البرد).
هذا وجنسه جدير بأن يعد من الضرب الأول لأنه في حكم المباشر ولا أقل من أن يكون هذا من قبيل ما فعل سببه.
قوله: (بحسب الخلاف المتقدم).
لعله يريد في الملقي له إلى الأسد هل العوض على الأسد أو عليه وإذا جعل على الأسد فالخلاف فيه كالخلاف في من افترسه الأسد من غير أن يلقي إليه هل العوض عليه أو على الله.
قوله: (ونحو أن يشهد شهود الزور) إلى آخره.
اعلم أن أصحابنا يتكلفون ذكر صورتها هنا /55/ في هذا الضرب الثاني من القسم الثاني يشابه الصور التي في الضرب الثاني من القسم الأول.
قالوا: فيستحق على الواحد منا إذا أباح أو أوجب أو ندب أو ألجأ فأما الإلجاء فظاهر، وأما سواه مما ذكر فعلى جهة التجوز فإن المبيح والموجب والنادب حقيقة ليس إلا الشارع الحكيم لكن المعنى أن الفعل الصادر عن الواحد منا كان سبباً في الوجوه أو الندب أو الإباحة فيمثلون الإباحة بما إذا شهد شاهدا زور على آخر بأنه أتلف عليه مالاً أو أن معه له ديناً أو لمورثه مثلاً فاستوفاه فإن الشاهدين هما اللذان أباحا له ذلك وأما إذا أخذه بغير حكم ظاهر وأما إذا أخذه بالحكم فقد يقال لم لايكون العوض على الحاكم لأن الاستباحة كانت بحكمه وجوابه: أن الحكم كان لأجل شهادة الشاهدين فالإباحة مستندة إليهما، ومثال الإيجاب أن يشهد الشاهدان على آخر أنه شرب الخمر ونحو ذلك فإنه يجب على الحاكم الحكم بشهادتهما وأن يحده فإذا فعل وجب العوض عليهما، ومثال الندب لو شهدا بأمر يوجب التعزير إذا قلنا أن الحاكم لايجب عليه التعزير بل يندب وهذا مالم يكن المشهود له عالماً بأنه لايستحق ذلك ولم يكن الحاكم عالماً بكون الشهادة غير صحيح، فغ، كانا عالمين معاً والمحكوم له فقط فالعوض على المحكوم له، وإن كان العالم هو الحاكم فقط فالعوض عليه كما أن العوض عليه مطلقاً حيث علم في الحد والتعزير.
فصل في المضار التي يشتبه الحال في أعواضها على الله أو على غيره
أو هل فيها عوض أم لا
قوله: (ولهذا يوجب الفقاهء الدية أو القود).
أما إيجاب الدية فظاهر وأما إيجاب القود على حافر البئر فلا أعلم قائلا به. وأما إيجابه على واضع السم فكذلك لم يقل به إلا حيث وضع اللقمة المسمومة في يد الآكل مع جهله بأنها تقتل وعلم الواضع ففيه خلاف قيل الدية وقيل القود.
قوله: (على الملجئ أو من في حكمه).
لعله يريد بمن في حكمه حيث الإلجاء ممن لاعقل له فإن العوض على الله لتمكينه منه على قاعدة أبي الحسين وهو في حكم الملجئ وأما هذا الملجئ فلا يستحق عليه العوض.
قوله: (كإضرار البهيمة به وبنفسها).
يعني في أن العوض على الله على ما قاله أبو الحسين ورجحه المصنف واعلم أن كلام المصنف في مسألة حفر البئر إلى آخرها لايخلو عن نظر والأحسن في أمرها أن يعتبر فيها بالقاعدة الفروعية المذكورة في كتب الفقه فحيث يجب الضمان فإن سلم وإلا فالعوض واجب، وحيث لاضمان فلا عوض والله سحبانه وتعالى أعلم.
قوله: (دون الزائد).
فيه نظر لأنه وإن لم يكن فاعلاً للزائد فهو الفاعل لما جر إليه وما هو كالسبب فيه فالقوي على القواعد أن العوض كله عليه.
فصل
ذهب الجمهور إلى أنه لايجوز أن يتفضل الله بالأعواض التي تستحق على العباد.
قوله: (وقال ابن الملاحمي وغيره يجوز).
هذا مذهب الشيخ أبي القاسم فإنه ذهب إلى جواز أن يتفضل الله على الجاني بما عليه من الأعواض للمجني عليه وقد حكاه قاضي القضاة عن بعض الشيوخ.
قوله: (أنه يجب الانتصاف).
يعني والتفضل لايسمى انتصافاً لغة ولاشرعاً ألا ترى أن الحاكم لو سلم مالاً للمدعي في مقابلة بناء على المدعى عليه له لم يسم منتصفاً له وإذا قيل أن الحاكم إذا ملك الظالم ذلك الذي سلمه وأعطاه من نفسه ثم قضاه المظلوم عنه سمي منتصفاً له لحصول حقيقة الانتصاف أجابوا بأن لاتمليك في الآخر غير متأت فلا يمكن أن يمك الله الظالم تلك الأعواض ثم يوفرها عنه إلى المظلوم وأحسن من ذلك أن يقال: هذا غير ما ذهب إليه الخصوم فإنهم إنما أجازوا أن يتفضل الله بإيفاء المظلوم حقه من غير تمليك، ومرجح الجمهور أن الانتصاف لو كان بالتفضل لكان في ذلك إغراء للظلمة وغيرهم وكأنه قيل لهم: افعلوا /56/ ماشئتم فنحن نتفضل بتوفير ما وجب عليكم، ولهم أن يحسبوا بأن الإغراء إنما يكون مع القطع على ذلك فأما مع التجويز فلا.
واحتج ابن الملاحمي ومن يقول بقوله أن الواجب للمظلوم إيصال نفع في مقابلة ما نزل به من المضار عوض له ثم لافرق بين أن يصل إليه ذلك من جهة الظالم أو من جهة غيره، وقد ذهبت المجبرة إلى أن الانتصاف يكون بالثواب والعقاب فإن كان للظالم ثواب أعطي المظلوم من ثوابه وإلا طرح عليه من عقاب المظلوم وعلى ذلك ظواهر من الأحاديث تقضي به، إلا أن قواعد العدلية تمنع منه لأن الثواب يستحق على وجه التعظيم والعقاب على جهة الاستحقاق ومتعلقهما الأعمال ولأن ذلك لايتصور ف يحق من لايستقح ثواباً ولاعقاباً كالصبيان والمجانين والحيوانات. وذهبت المطرفية إلى أن الانتصاف يكون بمعاقبة الظالم ويبطله أن ذلك لايعود منه نفع إلى المظلوم فلا إنصاف في حقه.
فائدة
ظاهر كلام الأصحاب أن الخلاف هذا في كيفية الانتصاف من الظالم على سبيل الإطلاق سواء تاب أو لم يتب والتحقيق أن في الثابت خلافاً يخصه فنقول: اعلم أن المؤلم لغيره إذا كان مكلفاً يلزمه حق لله وهو العقاب وحق للمظلوم وهو العوض فإذا تاب سقط حق الله بالاتفاق، وأما حق المظلوم فلا يسقط إلا بايصاله إليه فيجب على الله أن يستوفي للمظلوم من أعواض الظالم التائب. وقال الشيخ أبو القاسم: بل التوبة قد صيرت ذلك الفعل كأن لم يكن فيبطل ما يفرع عليه من عقاب وعوض ويجب على الله أن يقضي عنه ورد بما تقدم من أن ذلك لايعد انتصافاً وبأن التوبة لاتسقط ما يجب بالجناية للغير كالأرش ولأن العوض وجب في مقابلة الجناية لا في مقابلة المعصية والتوبة إنما ترفع حكم المعصية لا حكم الجناية.
قوله: (تنبيه لما ذهب الجمهور) إلى آخره.
هذا فرع ينبني على قاعدة الجمهور ولم يشترطوا أن يكون الجاني في حال تمكينه من الجناية له من العوض حينئذ ما يفي به بل العبرة بما في معلوم الله من حاله عند موته فإذا كان يعلم أنه سيحصل له ما يوفي المظلوم مما يوافي به العوضة جاز تمكينه من إيلامه وخالف في ذلك الشريف المرتضى فاشترط في حسن التمكين أن يكون الظالم في تلك الحال مستحقاً من الأعواض ما يوفي المظلومن ورد بأن المعتبر في الإيفاء وقت التناصف لا وقت الفعل واحتج بأن التبقية للحيوان غير واجبة وكذلك إيلامه فيما بعد غير واجب فكيف يمكن من الإيلام والحال هذه.
قلنا: صحيح ما ذكرته ولكن علم الله بأنه يوافي العرضة وله ما يوفي عنه كاف ولو لم يجب ما ذكر. فإن قيل: فلو قدر أن الله تعالى أماته بعد أن جنى أو لم يؤلمه ما يكون الحكم هل يحكم بانكشاف قبح التمكين المتقدم أو يقضى بقبح اجترامه وعدم إيلامه.
قلنا: هذا من قبيل تقدير وقوع خلاف ما علم الله أنه لايقع فلا يستحق جواباً وإذا لم يكن بد من الجواب قابلناه بتقدير آخر وهو تقدير أن الله تعالى لم يمكن الظالم من الإيلام وفيه من الخبط ما قد تقدم ذكره في نظائره.
فصل في إسقاط العوض
قوله: (فقيل لايسقط).
هذا مذهب جمهور المتكلمين وحجتهم ما أشار إليه المصنف ومما احتجوا به أنه ليس إليه استبقاؤه فلا يكون له إسقاطه كالصغير.
قوله: (وقيل يسقط).
هو مذهب الشيخين أبي الحسين وابن الملاحمي والفقيه حميد ورجحه بعض المتأخرين.
قوله: (لأن الشرع ندب إلى إسقاطه).
يعني بما ورد في ذلك عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقد روي عنه: من كانت عليه مظلمة لأخيه في نفس أو مال فليتحللها.
قيل: وما ورد في الأربعين السيلقية في المظلوم الذي أمر بالنظر إلى الجنان فرأى ما أعجبه من الخير والنعمة فقال: لمن هذا يا رب. فقال: لمن أعطاني ثمنه. فقال: ومن يملك ذلك يارب؟ فقال: /57/ أنت. قال: بم ذلك؟ قال الله تعالى: بعفوك عن أخيك. فلولا أن البراء يصح لم يستحق عليه مثوبة.
فائدة
فأما الثواب فلا يصح إسقاطه اتفاقاً ولعله لبلوغه في الكثرة والعظم مبلغاً لاتمح النفوس بمثله ولأنه يشتمل على التعظيم وليس مما يصح إسقاطه.
فرع
هل يصح نقل العوض إلى الغير. قيل: حيث لايصح إسقاطه لايصح نقله، وحيث يصح إسقاطه يصح نقله بطريق النذر والوصية لأنهما يصحان بالمعدوم وفي نقل العوض غرض وهو نفع المنقول إليه فلا وجه يقضي بمنعه.
فصل في دوام العوض
قوله: (فقال الجمهور).
هم الزيدية وأكثر المتكلمين فمنهم أبو هاشم وقاضي القضاة وتلامذته والشيخ أبو عبدالله وغيرهم.
قوله: (وقال أبو الهذيل) إلى آخره. من القائلين بهذا القول الصاحب الكافي.
قوله: (يوضحه أن العقلاء يستحسنون تحمل المشاق في الأسفار).
هذا في الحقيقة دليل مستقل تقريره أن دوام العوض لو كان هو الوجه في حسن فعل الألم لوجب ألا يحسن من أحدنا إنزال الألم بنفسه ولابمن له التصرف عليه من مملوك أو ولد صغير لأن المنافع الحاصلة بذلك غير دائمة ومعلوم أنه يحسن ذلك ذكر هذا الدليل أبو هاشم.
وقد اعترض بأن الواحد منا إذا آلم نفسه فهو يرضاه فلم يجب أن يكون ما يقابل ذلك دائماً بخلاف إيلام الباري إيانا ويدل على اختلاف الحالين أن أحدنا يؤلم نفسه لمنفعة مظنونة وإن كانت في حقيقة الأمر غير حاصلة ولاكذلك إيلام الله إيانا فإنه لايحسن إلا مع علمه بحصول النفع فتبين افتراق الحالين.
قوله: (ليس العلم معتبراً في الأعواض).
يعني لايجب أن يعلم المعوض أن هذا النفع الذي وصله هو عوضه فيما لحقه من الألم وهذا مذهب الجمهور لما ذكره المصنف ونقل عن صاحب الخلاصة أنه لابد من أن يعلم ذلك ولعله يريد في حق العقلاء.
قوله: (فإن من حقهما الإجلال أو عكسه فلا بد من العلم).
يعني بأن ما وصل إليه هو ثوابه أو عقابه وإلا كان قد عرضه لاعتقاد قبيح وهو اعتقاد تعظيم من لايستحق التعظيم أو الاستحقاق بمن لايستحقه.
قوله: (إنما يقدح ذلك في حسن ايصاله دفعة واحدة).
يعني وهو غير محل النزاع، وليس جواز انقطاعه يستلزم جواز اتصاله في وقت واحد بعد استحقاقه على ألم طويل لنعمة ساعة وإن بلغت في الكبرة الغاية، ويصح أن يختار الألم في يوم لنعمة أيام كثيرة.
قوله: (والجواب أنه ينقطع على وجه لايتألم بانقطاعه كما سيتضح).
يعني في الفصل الذي يلي هذا وقد أجيب عن هذه الشبهة بأنه يلزمهم مثل ذلك في التفضل إذا انقطع وفي الثواب الذي كان قد اجتمع في الأوقات السالفة حتى انتهى إلى وقت اتصاله فإن ذلك يصل إلى العبد ثم ينقطع ولايدوم له إلا القدر المستحق على الطاعة في الأصل وبأنه وإن انقطع، فمن الجائز أن يتفضل الله عليه بمقدار تلك على الاستمرار فلا يلحقه غم وبأنه وإن انقطع فلا يسلم أنه يلحقه بانقطاعه غم لأن الله تعالى يرضيه ويقنعه كما في أهل الجنة تتفاوت درجاتهم ولايغتم غير ذي الدرجة العليا.
قوله: (فلوجه حكمة وهو أن يرى) إلى آخره.
الأحسن إبهام وجه الحكمة وإجماله وليس من فرضنا التكلف للكشف عنه على أن انقطاع العوض بعد توفير القدر المستحق لايفتقر إلى بيان وجه الحكمة فما لم يكن واجباً لم يجب أن يتكلف وجه حكمة في عدم فعله.
تنبيه
وإذا ثبت أن العوض لا دوام له فأجزاؤه لاتتزايد ....... كما في الثواب لأن الواجب من العوض أجزاء منحصرة معلومة والثواب يستحق منه ما لا نهاية له فإذا تأخر لزم اتصال ثواب تلك المدة كما سيأتي ونقل عن أبي علي أنه يلزم تزايده كالثواب لأنهما دائمان وهو بناء على قاعدتهم في دوام العوض، ولو صحت لصح ما بنى عليها لكن قد تقدم إبطالها.
فصل في كيفية إيصال العوض إلى مستحقه
اعلم أنه يجوز إيصاله في دار الدنيا بالشرطين اللذين ذكرهما المصنف فيما مضى وهو ألا يكون فيه مفسدة وألا يكون على مستحقه عوض لغيره /58/ عند من لايجيز أن يتفضل الله بإيفاء الحق عن الظالم.
قوله: (وجاز أن ينقله إلى صورة يلتذ بها أهل الجنة) إلى آخره.
ظاهره أن ذلك مع تبقية الحياة فيه وصرح بعضهم بأن المراد سواء كانت الصورة حيواناً أو جماداً بعد أن يميته ...... وقد جعل السيد صاحب شرح الأصول إقرار التفضل بعد انقطاع الأعواض تبقية المعوضين غير المكلفين أقرب الوجوه وعلله باتفاق الأمة على أنه لا موت بعد الحشر واعترض بعدم تسليم الإجماع وإن سلم فالمراد أنه لاموت معه ألم، والمراد لاموت لمن له حق لم يستوفه واعلم أن ظاهر كلام المصنف أن الوجوه التي ذكرها في حق من ليس بمكلف ثابتة سواء كان من صغار بني آدم أو غيرهم.
وقيل: بل تلك الوجوه المجوزة في حق غير المكلفين من غير الآدميين فأما غير المكلفين منهم فإن السمع ورد بأن الله تعالى يدخلهم الجنة ويعوضهم فيها أو قبل دخولها ثم يتفضل عليهم بأنواع النعيم في الجنة ويديم التفضل عليهم. وقيل: إن أولاد الكفار يكونون خداماً لأهل الجنة بحيث يتلذذون بذلك ولايلحقهم نصب ولاغم.
قوله: (أو في النار على وجه لايقع به اعتداد بأن يخفف من عقابه) إلى آخره.
قد أورد على ما ذكر سؤالان، أحدهما أن يقال: أليس من قواعدكم أن العوض يكون في قدرة وصفته بحيث لو خير المؤلم قبل إيلامه بين لحوق الألم له مع ذلك العوض وبين ألا يتألم لإخبار الألم وإذا كان وصول عوض المعاقب إليه على الصفة المذكورة فالعاقل لايختار إنزال الألم به لأجل أن يحصل له ما ذكرتم مما لايعتد به ولايحصل له به روح.
وأجيب بأنا شرطنا ما ذكر بالنظر إلى نفس العوض ونفس المعوض والذي عوض للمعاقب من عدم الروح والاعتداد بما أوصل إليه أبي قبة من جهة نفسه لأجل دينه إذا قدم إلى أحدنا أطعمة شهية لذيذة فجرح نفسه وأحل بها آلاماً بحيث لم يقع له بذلك الطعام التذاذ، الثاني أنكم إذا أجزتم التخفيف من عقابه لأجل ما يستحقه فقد رجعتم إلى ما أنكرتم من قول أبي علي وهو أن العوض يسقط العقاب ورجعتم إلى ما كنتم نفيتموه من لحوق الروح بالمعاقب فإن التخفيف أبلغ روح في حقه وراحة.
فأما الطرف الأول فأجيب عنه بأن أبا علي يقول بأن الجزء من العوض يسقط الجزء من العقاب ونحن لانقول بذلك بل نقول أنه يسقط عنه جزء من العقاب في مقابلة جزأين أو أجزاء من العوض لأن جزء العقاب فيه ضرر وله صفة وهي الإهانة والعوض جزؤه فيه نفع من غير تعظيم فيسقط نفع جزء العوض في مقابلة ضرر جزء العقاب ونفع جزء آخر من العوض أو أجزاء في مقابلة صفة العقاب التي هي الإهانة.
وأما الطرف الثاني فقد أشار المصنف إلى جوابه بقوله ولايلزم أن يكون قد .... روح وراحة إلى آخره. وربما ينظر أنكاره لوقوع روح للمضروب بالسياط بترك ضربة فإن لذلك أثراً ظاهراً في الاستراحة وقد أجاب بعضهم عن ذلك بجواب أبسط مما ذكره المصنف وهو أن الروح إنما يقع لو سقطع العقاب وقتاً واحداص وأوقاتاً ولسنا نجيز ذلك وإنما نقول: يسقط عنه كل وقت قسط من العقاب بحيث يعلم ذلك فيكون قد وصل إليه نفع العوض والنفع يكون باللذة وبدفع الضرر ولاراحة لأنه لم يسقط من العقاب ما هو مستمر مثاله أن يستحق المعاقب في كل وقت ألف سوط فيضرب في كل وقت بتسع مائة وتسعة وتسعين سوطاً فإنه لاينال بذلك راحة.
قال المجيب: والأصح أن يوصل عوض المعاقب على أحد وجهين إما في الدنيا وإما بأن يرزق في النار مطعماً ومشرباً مما يلتذ به غيره وأما هو فلا يلتذ به لأجل وقوعه في النار ومصير فيه وبطنه ومعاه ناراً.
ولعمري لقد حبط هذا المجيب وتعسف فلم يأت من قريب وأي نفع له في أن يمكن مما لاسبيل له إلى أن ينتفع به، وأين هذا مما قد قطعتم به من كون الأعواض بالغة في النفع المبلغ العظيم زائدة على مقدار الألم النازل بأضعاف مضاعفة وكل أقاويل الأصحاب في كيفية تعويض أهل النار بتكلفة متعسفة على قواعدهم وأيسرها وأقربها تعويضهم في الدنيا إذا صح عدم اشتراط علم /59/ المعوض بإيصال عوضه، وإما أن اشترط قياساً على اشتراطهم ذلك في الإثابة فلا يصح، وعندي أن أحسن مما قالوه وأقرب مما تكلفوه أن المعاقب يسقط من أجزاء ضرر عقابه بقدر أجزاء نفع عوضه دون ما يستحقه من الإهانة والاستخفاف فلا يسقط منه شيء، وإذا قيل: ففي ذلك راحة. قلنا: لا لأن قلة أجزاء عقابه بقدر استحقاقه لا تعد راحة لولا ذلك لكان الفساق من أهل النار في راحة لأن عقابهم دون عقاب الكفار وأقل أجزاء منه وليس كذلك وكان يلزم أيضاً مثله إذا أطاع المعاقب في الدنيا طاعة تسقط بها أجزاء كثيرة من أجزاء عقابه أن يكون قد ناله راحة وليس الممتنع إلا أن يوصل إلى المعاقب حال عقابه لذة ونفع، وأما أنه يلزم أن يكون عقابه بالغاً في الكثرة المبلغ العظيم وإلا عد في روح وراحة فذلك غير لازم.
فإن كان أبو علي قصد هذا المعنى في قوله: يتخابط العقاب والعوض فكلامه سديد، وإن قصد أنه يسقط في مقابلة أجزاء العوض أجزاء من العقاب ضررها وماي قترن بها من الاستخفاف فلا يصح اللهم إلا على ما ذكره بعضهم وقد حكيناه عنه أنه يسقط في مقابلة جزء العقاب والعوض فكلامه سديد، وإن قصد أنه يسقط في مقابلة أجزاء العوض أجزاء من العقاب ضررها وما يقترن بها من الاستخفاف فلا يصح اللهم إلا على ما ذكره بعضهم، وقد حكيناه عنه أنه يسقط في مقابلة جزء العقاب أجزاء من العوض بعضها يقابل الضرر وبعضها يقابل الاستخفاف، وفيه نظر لأن التساقط لايصح إلا مع التقابل وليس النفع يقابل الاستخفاف. والله أعلم. وقد يقال على ما ذكرناه أن الاستخفاف تابع لإنزال الضرر فكلما فرض سقوطه من أجزاء العقاب لحقه سقوط ما يقترن به من الاستخفاف، ويجاب بعدم تسليم الملازمة.
قوله: (بل لايمكنه الله من أن يخطر انقطاعها بباله).
الأصوب أن بعد هذا وجهاً ثانياً، فيقال: أما أن يوصله الله مفرقاً على وجه يعتد به ولايعتد بقطعه ولايتأثر به وإما أن يوصله لا على ذلك الحد في التفريق ولكن إذا قطعه شغله عن أن يخطر الانقاطع بباله لئلا يغتم به.
الكلام في القرآن الكريم
قيل: هو في اللغة البيان ومنه: {فاتبع قرآنه} والاجتماع أيضاً ولكل من الوجهين سمي القرآن قرآناً لنه بيان لما كلفناه ومجموع سور وآيات، وقال في الضياء: القرآن القراءة، وقيل: سمي قرآنا بالاجتماع حروفه. قال تعالى: {أن علينا جمعه وقرآنه} أي تأليفه وظاهر تفسير الزمخشري: أن قرآنه في الموضعين بمعنى القراءة.
قوله: (بل أقل ما يثبت فيه الإعجاز ثلاث آيات).
يعني لأن التحدي وقع على وجوه فأقل ما وقع به السورة وأقل السور ثلاث آيات وقد قيل في حده اصطلاحاً هو الكلام الذي نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي تعبدنا بتلاوته المنقول نقلاً متواتراً.
إذا عرفت حقيقة القرآن فاعلم أن وجه ذكره والكلام عليه في باب العدل قيل هو كونه فعلاً من أفعال الله يصح أن يقع على وجه فيقبح وعلى وجه آخرفيحسن وباب العدل كلام في أفعاله تعالى وما يجوز عليه وما لايجوز وضعف هذا الوجه بأنه يستلزم أن يذكر في باب العدل كل فعل لله كالسماء والأرض والماء والحجارة والنبات والحيوان لأنه مامن شيء من ذلك إلا وهو إذا وقع على وجه حسن وإذا وقع على وجه آخر قبح فالوجه الصحيح أن العدل لما كان كلاماً في أن الله لايفعل القبيح ولايخل بالواجب والقرآن لطف لنا، وبيان لما كلفناه واللطف والبيان واجبان على الله تعالى ذكر في العدل لأنه من قبيل الواجب عليه تعالى.
فصل في حقيقة الكلام والمتكلم
لما كان القرآن من جنس الكلام احتيج إلى ذكر حقيقة الكلام وفاعله وهو لامتكلم ولما سيأتي من الخلاف في ذلك.
قوله: (وزاد بعضهم المتواضع عليها).
ممن نقل عنه ذلك أبو هاشم فإنه اعتبر كون الكلام مقيداً ومما نقل عنه اعتبار كون الحرفين غير متماثلين ورد بوروده كقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( ما /60/ أنا من دد )).
وقال الإمام المعتضد بالله الداعي يحيى بن المحسن في كتاب المقنع: إن المهمل لايسمى كلاماً إلا على جهة التجوز لأن من سمعناه فصل بين حرفين كالباء مع الباء والألف مع الألف لايوصف بأنه متكلم ولأن لفظة الكلام إذا أطلقت لم يسبق إلى الأفهام إلا المستعمل دون المهمل.
قال: فأما من قال ليس بكلام فبعيد لأن أهل اللغة قسموا الكلام إلى مهمل ومستعمل.
قوله: (نسبتها بالنظام).
هذا إشارة إلى جواب سؤال تحقيقه أن الانتظام لايكون إلا في المتحيزات إذ المنظوم ما أدخل فيه النظام وهو الخيط ونحوه مما يدخل في ثقب الخرز والجواهر. وجوابه: أن نسبة الانتظام إلى الحروف على جهة المجاز ولابأس أن يحد باللفظ المجازي مع القرينة المفهمة للمعنى والقرينة هنا ما يعلم بالعقل من عدم تحيز الحروف.
قوله: (لأن الحرف الواحد لايكون كلاماً).
نقل الخلاف في ذلك عن أبي علي فذهب إلى أن الحرف الواحد يسمى كلاماً إذا عرف أن المتكلم يصله بغيره وقواه الشيخ الحسن الرصاص واحتج له بأن النحاة قسموا الكلام إلى اسم وفعل وحرف جاء لمعنى، ومثلوه بالباء واللام ونحوهما.
وأجيب بأن ذلك اصطلاح صناعي لا لغوي فلا يستقيم الاحتجاج به.
قلت: قال ملاونا عليه السلام: وما ذكره السائل والمجيب غير مستقيم فإن ذلك تقسيم من النحاة للكلمة لا للكلام الذي نحن بصدد تحقيقه ولهم اصطلاح آخر ليس هذه الحقيقة واردة على مقتضاة.
قوله: (قولهم عِ الكلام وش الثوب ونحوه).
أراد قِ نفك الشر، وهذا إشارة إلى ما يحتج به أبو علي ومن قال بأن ..... وأما الحرف الواحد كلام.
قوله: (,أنما حذفت الياء تخفيفاً).
يعني لإجراء الأمر مجرى المجزوم وأصله عي وشي ولايقتصر على العين والشين إلا مع وصله بكلام فلو لم يوصل لم يكن بد من هاء السكت فيقال: عه وشه وقه.
قوله: (بدليل رجوعها في التنبيه وفعل المتكلم).
أراد بالتنبيه الفعل المبني للإثنين نحو عيا وشيا، ويفعل المتكلم المضارع نحو: أعي.
قوله: (أرادوا بذلك الكلام الاصطلاحي لا اللغوي).
يعني المصطلح عليه في عرف النحاة فإن المتكلمين حدوا الكلام لغة ولايفرقون بينه وبين الكلمة والنحاة لهم صاطلاح آخر فيجعلون الكلمة هي اللفظ الذي وضع لمعنى مفرد والكلام ما تضمن كلمتين بالإسناد ويشترطون فيه الإفادة فالكلمة كزيد والكلام نحو: زيد قائم، وعند النحويين أن هذا الذي ذكروه هو معنى الكلمة والكلام لغة، وأن الذي ذكره المتكلمون هو صاطلاح لهم ورجحه الرازي لأن النحاة نقلوه عن أئمة اللغة كسيبويه.
قوله: (وهذه مباهتة).
هذه عبارة ركيكة يستعملها المصنف وغيره وليس للبهت هنا معنى، وأما المفاعلة منه فأبعد لأن البهت مصدر بهته إذا قال عليه مالم يفعل.
قوله: (لن من ينفي الكلام النفسي) إلى آخره.
يقال: لايحسن منك أن تحكم عليه بالبعد لعدم تسليم الخصم له لأن هذا لايعد وجهاص في بعده.
قوله: (كلام الممرور).
يعني المصروع لأن سبب ذلك غلبة المرة عليه لا ما يعتقده العوام من مداخلة الجن له وهذه مسألة خلاف بين المتكلمين، فالجمهور أن الكلام للمصروع ولاصرع الذي يصيبه لكثرة البلغم وغيرها، ويزول العقل في تلك الحال حكمة من الله تعالى وعدلاً ويتكلم في تلك الحال بما يسمع منه ويفعل ما يفعل بجوارحه، وقال الشيخ أبو الهذيل وابن الأخشيد وغيرهما: إن ذلك كلام الجن.
قيل: والأصح أنه يجوز حصول ذلك من الجن فيتكلم الجني بلسان نفسه ويحرك حينئذ لسان المصروع، وأما حركة جوارحه فإمكان كونها من الجن /61/ مما لامانع منه.
قلت: قال مولانا عليه السلام: وقد تقوم قرائن على ذلك منها ما صح لنا عن الثقة أن كلام المصروع قد يكون بلغات لايعرفها متعددة متنوعة وقد يجري من الكلام حينئذ ما لايمكن أن يكون منه وغير ذلك ويمكن أن يحتج بقوله تعالى: {كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس}. فإن الغرض به المصروع لكن تأوله جار الله بأنه ورد على ما يعتقد العرب في زعمائهم أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع وإذا لم يكن ذلك مستحيلاً فلا وجه للتأويل وليس زعمهم لذلك يقضي أن يروده الله في معرض التقرير له.
قوله: (وقالت المجبرة هو من قام به الكلام).
أما بروغ منهم فيجعل الكلام صفة ذاتية فالمتكلم عنده المختص بتلك الصفة وأما باقيهم فما ذكره المصنف حد المتكلم عندهم.
قوله: (وهذا إحالة).
يعني بكل من المجهولين إلى الآخر وهذا يرد عليهم إن قصدوا طريقة التجديد وأما إذا أرادوا بيان مذهبهم فلا وجه لما ذكروه واعلم أن الذي عليه جمهور الزيدية والمعتزلة أن الكلام من قبيل الأصوات إلا أنه أصوات مخصوصة متميزة كل جزء منه يتميز عن الآخر وذلك نحو زيد فإن الزاي متميز عن الياء والياء عن الدال والخلاف في ذلك مع الشيخ أبي علي والأشعرية والكلابية فإنهم جعلوا الكلام زائداً على الأصوات باقياً، وأبو علي والأشعرية قالوا بذلك شاهداً وغائباً وإن خالفهم في ذلك الأمر الزائد ما هو والكلابية قالوا بذلك في الغائب لا في الشاهد فكقول الجمهور.
قوله: (وأيضاً فليس للمتكلم بكونه متكلماً حال).
هذا عين ما خالفت فيه المجبرة فإنهم يذهبون إلى أن كلامه صفة له تعالى كقولهم في القدرة والعلم والحياة فالمتكلمية عندهم كالقادرية والعالمية ويختلفون هل المتكلمية مزية موجبة عن معنى هو الكلام، أو هي نفس المعنى كاختلافهم في القادرية والعالمية سواء.
قوله: (ولأنه لو كان للمتكلم حال) إلى آخره.
يعني لأنه يلزم أن يكون حالاً للجملة كالقادرية والعالمية إلا أن بناء الدليل على تقدير المضادة مع عدم حصولها ليس بالقوي.
قوله: (أكثر هذه باطل بالاتفاق).
لعله يريد ما عدا كونه من قام به وقول أو لأنه كلامه غير مستقيم وما معنى أن المتكلم يسمى متكلماً لأن كلامه وهو غير بعيد لكن ركت العبارة ويجاب بأن يقال: وإنما يكون الكلام كلامه فإن من جهل ما يكون له المتكلم متكلماً جهل ذلك أيضاً ولايعرض لإبطال أنه من قام به لأنه سيأتي الكلام علهي مبسوطاً.
قوله: (وكذلك في الصدا).
قال الجوهري: الصدا الذي يجيئك بمثل صوتك في الجبال وغيرها يقال: صم صدا وأصم الله صداه أي أهلكه لأن الرجل إذا مات لم يسمع الصدا منه شيئاً فيحييه.
قوله: (ولايكاد يوجد حرف إلا ومخرجه غير مخرج الآخر).
أما أهل علم التصريف فقد يذكرون في حروف متعددة أنها من مخرج واحد كقولهم في الهمزة والهاء والألف أنها من أقصى الحلق وفي الحاء والعين أنهما من وسطه ونحو ذلك، ومنهم من يجعل المخرج متفاوتاً تفاوتاً يسيراً وعن بعض علماء العربية مثل كلام المصنف وهو أن ما ذكره أهل التصريف على سبيل التقريب، وفي الحقيقة أن لكل حرف مخرجاً على حياله.
قوله: (كالجوهر والكون).
يعني فإن الجوهر مضمن بالكون لأنه لايوجد إلا متحيزاً ولامتحيزاً إلا وهو كائن في جهة.
فائدة
المتكلمون يقسمون حاجة الأمور بعضها إلى بعض قسمين، حاجة أصلية وهي الأكثر ويسمونها حاجة مواجهة كحاجة المعلول إلى العلة والفعل إلى الفاعل والمسبب إلى السبب، الثاني حاجة التضمين وتسمى حاجة التبعية ومعناه أن يتوقف ثبوت أمر على آخر ليس للحاجة إليه ولكن للحاجة إلى أمر آخر ذلك الأمر يحتاج إليه /62/ وله صورتان أحدهما ما ذكر في الجوهر والكون ، الثاني ما بين الرطوبة والاعتماد السفلي فإنه إذا صادف حدوثه حدوثها لزم وصار باقياً وهو في الأصل غير باق لكن بقي لتلك المصادفة فلو لم تكن الرطوبة حادثة لم يلزم كما إذا ألقيت جسماً خفيفاً في ماء ثم أحدثت فهي اعتماداً فإنه لايلزم وشرط بعضهم كون فاعل الاعتماد والرطوبة الله تعالى وبيان حاجة التضمين هنا أن الرطوبة توجب انغماز المحل عند حدوثها ولاتنغمز إلا مع تدافعه واندفاعه لايكون إلا بالاعتماد فلما كان حكم الرطوبة يلازم حكم الاعتماد، وحكم الاعتماد يتفرع على ثبوته كان بينهما حاجة التضمين هكذا ذكروه وليتامل.
فصل
قوله: (والذي به يعرف إضافة الكلام إلى المتكلم في الشاهد).
إما أن يشاهده يصدر منه ويعلم وقوفه على قصده وداعيه فيه نظر لن مشاهدتنا لصدور الكلام منه كافية في معرفة إضافة الكلام إليه ولو لم يقف على قصده وداعيه ككلام الساهي والنائم وأهمل المصنف وجهاً ثالثاً وهو الخبر المتواتر بصدور كلام من متكلم معين فإن هذه طريق واضحة.
قوله: (فإنه ليس من ضرورة المعجز أن يكون فعلاً لله).
يعني بل وقوعه من القادر بقدرة على وجه لايتأتى من غيره من القادرين بقدرة إيقاعه عليه كاف في إعجازه، ويكون المعجز في الحقيقة إقداره على ذلك.
فصل
لاخلاف بين الناس في أن القرآن كلام الله وإنما اختلفوا في القرآن ما هو هذا الذي ذكره المصنف كما ترى وغيره يأتي بالخلاف على وجه آخر ويجعل محل الاتفاق أن هذا المتلو هو القرآن ومحل الخلاف هل القرآن هذا كلام الله أم لا وهذا أولى مما ذكره المصنف. قال بعض الشارحين: فالذي عليه أهل العدل بل جميع الفرق المقرة بنبوة محمد صلى الله عليه أنه كلام الله ووحيه وتنزيله، أي كلامه عرفاً لالغة لأن المتكلم لغة المحدث للكلام ومخرجه من العدم إلى الوجود، والمتلو ليس كذلك بل المحدث له والمتكلم به هو المتفوه به وهو الذي يمدح على قراءته ويذم ويثاب ويعاقب بحسب اختلاف الأحوال والمتكلم في العرف من كان منشأ أصل ذلك الكلام ونظم ألفاظه منه، وإن احتذى غيره على ذلك ونطق به كما نطق به المبتدئ وذلك ظاهر كما يقال في القصائد المنسوبة إلى الشعراء والخطب المنسوبة إلى الخطباء، والرسائل المبتكرة لقوم ويحكيها عنهم آخرون فما هذا حاله ينسب في عرف اللغة إلى المبتدئ لا إلى الحاكي، والقرآن كلام الله بهذا المعنى. وخالف في ذلك الأشعرية والكلابية والمطرفية والباطنية فهؤلاء جميعاً قالوا هذا القرآن ليس بكلام الله تعالى لغة ولاعرفاً ثم افترقوا فقالت الأشعرية: كلام الله معنى قديم قائم بذاته والمتلو عبارة عنه ومثله قالت الكلابية إلا أنهم أبدلوا لفظة قديم بأزلي، ولفظة العبارة بالحكاية، وقالت المطرفية: كلام الله صفة قائمة بقلب ملك يقال له ميخائيل، فبعضهم قال: إن الله أجبر الملك عليه وبعضهم قال: إن الملك صفت طبيعته وخلصت جوهريته واستنبط القرآن، والذي يتبنى حكاية ذلك.
وقالت الباطنية: هو كلام الرسول حصلت معانيه بالفيض من النفس الكلية إلى نفسه الجزئية فصاغ هذا القرآن وهو لفظه.
قوله: (وقال شيخنا أبو علي وأبو الهذيل) إلى آخره.
ظاهر كلامه أنهما لايثبتان ذلك المعنى إلا مع الكلام المسموع وأبو علي مصرح بأن القرآن إذا كان متلواً حل ذلك المعنى مع الصوت وإذا كان مكتوباً حل مع الكتابة، وإذا كان محفوظاً فمع الحفظ فيجعله موجوداً في المحل بغيره كما أوجب وجود الجوهر في جهة بالكون.
قوله: (من جنس واحد).
يعني وإذا اتحدت الجنسية لم يصح الافتراق في قدم ولاحدوث وذلك لأن الحكاية مأخوذة /63/ من المحاكاة وهي المشابهة.
قيل: ودخول الحكاية في الأقوال إن أريد المعنى لم يعتبر فيها المماثلة وإن أريد القول لم يكن بد من المماثلة ومسألتنا من هذا القبيل وأما الحكاية في الأفعال فتدخل في المتماثل كقولك هذا السواد يحاكي هذا وفي المختلف كهذه الكتابة تحاكي هذه مع اختلاف اللفظ وفي المتضاد كهذه المشية تحاكي هذه مع تضادهما.
قيل: وإذا أ"لقت حكاية القول فشرطها اتفاق اللفظ والمعنى وذلك نحو تلاوتنا القرآن وروايتنا للأحاديث وشروط حكاية القول مطلقاً قصد الحاكي ذلك وأن يأتي به معرباً لاملحوناً وإلا يرويه مطلقاً إن كان مقيداً ولا مقيداً إن كان مطلقاً بل يأتي بالكلام كما قيل.
وأبو هاشم هو الذي شرط عدم اللحن وقال غيره إن غير اللحن معنى المحكي خرج عن كونه حكاية وإلا فلا.
قوله: (لأن العبارة لابد أن تكون من جنس المعبر عنه.
قيل: ولايدخل إلا في القول فإن أ"لقت أو قصد العبارة عن اللفظ فلا بد من التماثل كالحكاية وإن قصد عن المعنى لم يعتبر إلا تحصيله لا تماثل الألفاظ ومثال الحكاية للمعنى والعبارة عنه قول بعضهم:
إني من النفر الثلاثة حقهم ... أن يرحموا لحوادث الأزمان
مثرا قلّ وعالم مستجهل ... وعزيز قوم ذل للحدثان
حكاية لمعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ارحموا ثلاثة عزيز قوم ذل وغني قوم افتقر وعالماً بلغت به الحمقى )) وعبارة عنه.
قوله: (أن يبين أولاً أن الكلام من جنس الحروف والأصوات ثم يبطل الكلام النفسي).
يقال: لم تفعل هكذا بل قدمت إبطال الكلام النفسي شاهداً وغائباً وجعلت بيان كون الكلام من جنس الحروف والصوات ضمنياً.
القول في إبطال الكلام النفسي شاهداً وغائباً
قوله: (وبعد فلا بد من القول بصحة إدراك هذا المعنى النفسي).
لعله يريد على قاعدتهم في كون الإدراك معنى لأنه يلزم إذا وجد الإدراك الذي هو معنى لشيء ألا يتوقف إدراكه على شرط لأن هذا حكم العلل وفي هذا الاستدلال ركة ورقة ولقد كان مستغنياً عن إيراده بما هو أوضح منه وأوصل إلى مراده.
قوله: (لايصح التوصل بالعبارات إلى المعاني).
يرد هنا سؤال وهو أن يقال: ألستم توصلون بالحدود وهي عبارات إلى معنى المحدود وبالأدلة وهي عبارات إلى العلم بالذوات المستدل عليها وأجيب بأن الذي جوزناه كون العبارات تعرف بها معاني ثابتة في نفس الأمر لكن جهلها جاهل فعرف بالحد والدليل ما هو ثابت وليس كذلك ما ذكرتم فإنكم تريدون إثبات ذوات لما يثبت بالعبارة لا على جهة التحديد ولا على جهة الاستدلال.
قوله: (فما عندكم لو لم يخلق الله العرب).
يرد هنا سؤال وهو أن يقال: إن هذا الذي قدحت به اختلال العكس والعكس في الأدلة لا يجب وإنما يجب فيها الاطراد وأجيب بأن لزوم العكس هنا من حيث أنه لاطريق إلى هذا المعنى إلا الكلام فإذا لم يقع الكلام لزم ثبوت معنى لاطريق إليه هكذا ذكروا.
قوله: (وأما قوله تعالى: {يقولون في أنفسهم} التلاوة ويقولون.
قوله: (للزم إذا أخطر أحدنا بباله أن يطلق امرأته) إلى آخره.
يقال: ليس هذا بلازم لأن الشارع علق وقوع ما ذكرنا للفظ الذي هو حكاية أو عبارة عندهم.
قوله: (لأنه كان نصرانياً).
اعلم أنه إنما يحتج من كلام أهل اللغة بما أوردوه لمعنى من المعاني فيستدل بذلك على أن اللفظ موضوع لذلك لامعنى ولامعتبر في الاحتجاج بذلك عدالة اللافظ به وأما إذا نقل الناقل أن اللفظ الفلاني عند أهل اللغة موضوع لما هو كذا فلا بد في قبول ذلك من عدالة الراوي وكونه موثوقاً بحفظه، والذي ذكره الأخطل ليس من أي الوجهين إنما يقضي بأنه يذهب /64/ إلى ..... أن الكلام معنى في الفؤاد وسواء كان عدلاً أو غير عدل فليس قوله بحجة مع أنه كان كافراً كفراً صريحاً ومما ينسب إليه من الشعر:
فلست بصائم رمضان عمري ... ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بقائم كالعير يدعو ... قبيل الصبح حي على الفلاح
ولقب الأخطل من قولهم رجل أخطل إذا كان طويل الأذنين وإذا كان أيضاً بذيء اللسان ويقال أنه لقب بذلك لأن ابني جعيل وأمهما تحاكموا إليه فقال:
لعمرك ابني وابني جعيل ... وأمهما لإنسان لئيم
فقالوا له: إنك لأخطل فغلب عليه ذلك.
قوله: (وأقل ما يتوصل بذلك إلى نفي كونه معجزاً).
أي إلى نفي كون هذا القرآن المتلو معجزة لنه ليس بكلام الله في الحقيقة بل كلام الله غيره وفيه نظر ويلزم منه أن كل من قال من علماء الإسم بأن كلام الله معنى قائم بذاته يلزمه نفي الإعجاز وليس ذلك بلازم لهم.
قوله: (لما صح منه وصفه بأنه ساكت إذا حلف بطلاق امرأته) إلى آخره.
يقال: إن مراده ما أثبت بلفظ وكلام منتظم من الأحرف والعبرة في الحنث بالقصد.
قوله: (ويصح منه القذف).
فيه نظر لأن القذف لايصح منه ولايثبت إلا بأن ينطق به تصريحاً أو كناية أو تعريضاً.
قوله: (ونحن نجيز وقوعها بغير الكلام).
يعني من إشارة أو كناية.
قوله: (لايلزم ذلك).
يعني لأن الصوت جنس أعم غير مساو للكلام كالحيوان والإنسان فإنه ليس يلزم من كون الإنسان من قبيل الحيوان أن يكون كل حيوان إنساناً.
قوله: (إذا كان لا علاقة بينها وبينه).
يعني لكونها ليست مؤثرة فيه ولاهو بمؤثر فيها ولابينهما تلازم فإنه يصح وجوده من دونها فما الوجه في دلالتها عليه.
فصل
قوله: (وأما إبطال الكلام في حق الباري تعالى).
يعني الكلام النفسي.
قوله: (وكان ما يفعله من العبارة دليلاً على ذلك المعنى).
يحتمل أن يكون حرف المضارعة في يفعله هو الياء للغائب والضمير عائد إلى الله تعالى ويكون المعنى ما يفعله من العبارة كالذي يحدثه في الحصى والشجر ويحتمل أن يكون هو النون للمتكلم مع غيره ويكون المعنى ما يحدثه من التلاوة لما هو عبارة عن المعنى.
قوله: (لكان إذا قال أحدنا لغيره) إلى آخره.
فيه ركة ظاهرة فلا ينبغي أن يعول عليه.
قوله: (وهي لاتفيد جميع ما يفيده المعنى النفسي).
يعني لأن المسموع قد يكون خبراص أو أمراً مثلاً، والمعنى النفسي يشتمل على جميع معاني الكلام الإلهي وأنواعه وجميع الكتب المنزلة عندهم.
قوله: (هذا ظاهر الفساد).
يعني لأنه إذا كان إتيانه معنى واحداً وشيئاً منفرداً فاسداً قد قامت الأدلة على فساده فأ,لى ,احرى إذا جعل أشياء كثيرة ففساد ذلك يكون أظهر وأوضح.
قوله: (وإما أن يكون كما يزعمون شيئاً واحداً).
اعلم أن الأشعرية والكلابية يتفقون على أن هذا المعنى النفسي غير حرف ولاصوت وأنه مع ذلك قرآن وتوراة وإنجيل وزبور وغير ذلك من سائر الكتب وأنه أمر ونه يوخبر ووعد ووعيد مع كونه معنى واحداً.
قوله: (لكان القرأن الكريم قد نزل على جميع الأنبياء).
وقوله: (ولكان يصح وصف القرآن) إلى آخره.
مما يمكن المناقشة فيه لأن هذا إنما يلزم لو جعلوا النازل على محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم والقرآن المتلو هو نفس المعنى وهم لايقولون بذلك وإن كان كلامهم غير متضح المعاني ولا متطابق المباني.
قوله: (بما يصح وصفه بأنه إن شاء أمر) إلى آخره.
يقال: بل يصح لأن المشيئة معلقة بإحداث هذا القول الذي هو عبارة.
قوله: (وإنما يكون مفيداً بالمواضعة) إلى آخره.
يقال: هذا في الكلام الذي هو من جنس الحروف والمعنى الذي أثبتوه هو غيره.
قوله: (لكان هاذياً عابثاً).
فيه نظر من جنس ما تقدم وكذلك في قوله: (تقتضي /65/ أن يكون جميع القرآن مجازاً) إلى آخره.
قوله: (فهلا جاز إثبات لون قديم) إلى آخره.
لهم أن يقولوا إنا إنما أثبتنا الكلام القديم بأدلة لنا عليه ولايلزم من إثبات ما عليه دليل إثبات ما لادليل عليه.
فصل
وبأكثر هذه الوجوه يبطل كونه تعالى متكلماً لذاته.
قوله: (كما ذهب إليه برغوث).
هو محمد بن عيسى أحد رجال الجبرية وعلمائهم ولم يقل بمقالته هذه أحد غيره إلا من اتبعه من بعده.
قوله: (لكان متكلماً بجميع أنواع الكلام).
يقال: لايلزم من كونه متكلماً لذاته إلا صحة كونه متكلماً بما ذكره لا وقوعه كما في قولكم أنه تعالى قادر لذاته فيقدر على القبيح وغيره ولايلزم من ذلك وقوعه.
وأجيب بالفرق فإن معنى كونه قادراً صحة الفعل منه لا وقوعه ومعنى كونه متكلماً إيقاع الكلام لاصحته فإنه لايوصف من صح منه الكلام ولم يتكلم بأنه متكلم.
قوله: (فكأن يكون في كلامه الرفث والفسوق وسوء الثنا على نفسهوالهذيان).
عد هذه أنواعاً للكلام وليست بأنواعه المعروفة وإنما ينبغي أن تعد من أقسامه وضروبه والرفث الفحش والقبيح من القول والثناء المدح، والمراد به هنا ضده من قبيل التجوز مع قيام القرينة وهي إضافة السوء إليه والهذيان التكلم بما لايعقل.
قوله: (على أن أصولهم في الجبر) إلى آخره.
يقال: إنما تستد عليهم طرق العلم بصدقه إذا جعلوا الصدق والكذب من الأفعال وأما مع جعل الصدق صفة ذاتية فلا تمنع من ذلك أصولهم الجبرية.
قوله: (حتى يلزم أن يتكلم بكلامه جهرة).
يقال: كلمة جهرة وراءه جهرة أي جهاراً من غير إسرار، وقيل: المراد هنا من غير واسطة ولم يكن ذلك إلا لموسى.
قوله: (لأنا نقول ليس أحدهما عامة والأخرى خاصة).
كان الأحسن أن يقول ليس أحدهما بعام والآخر بخاص والمعنى أن العالم هو المختص بصفة لمكانها يصح منه الإحكام على بعض الوجوه والمعلم هو المحاول لأن يكسب الغير علماً فأحدهما بمعزل عن الآخر وأما المتكلم فمعناه معنى المتكلم مع قيد زائد وهو أن يكون موجهاً لكلامه إلى الغير.
قوله: (فكان يلزم ألا تتغير فائدته) إلى آخره.
ولايلزم مثله على قولنا لأنه تعالى قال ذلك فيما مضى قبل الإرسال والإهلاك ثم عدم ذلك الكلام وتقضى وصار تعالى غير متكلم بذلك بعد الإرسال والإهلاك وإذا تلوناه فالكلام لنا لا له.
فصل وشبهتهم إلى آخره
قوله: (إنما يطلقان على المتكلم بآلة).
يعني أن المرجع بالخرس إلى فساد آلة الكلام وبالسكوت إلى تسكينها عنه هكذا يذكر الأصحاب والمرجع في مثل هذا إلى أهل اللغة.
قوله: (ومحله القلب). يعني عندهم لجعلهم له معنى.
قوله: (فالجماد ليس بمتكلم ولا أخرس ولا ساكت).
يقال: إنما خرج عن الوصف بالكلام وضده لعدم مصححهما في حقه كما أن اللون لما خلا عن التحيز لم يوصف بحركه ولاسكون.
قوله: (لقيل لهم لو لم يكن فاعلاً فيما لم يزل لكان عاجزاً).
فيه نظر لأن كونه عاجزاً لايضاد كونه فاعلاً بل يضاد كونه قادراً.
قوله: (مأووف الآلة).
هو من بآلته آفة وهو معنى الخرس.
قوله: (وهو لايصح لأن ذلك الغير يكون الكلام أخص به).
اعلم أن كلامهم هذا مبني على قاعدة لهم وهو أن أسماء الفاعلين مما يسبق لمن قام به الفعل وللأصحاب قاعدة أخرى وهو أن الاشتقاق لمن صدر منه الفعل ولو قام بغيره وهي مسألة معروفة مبسوطة في غير هذا الموضع.
قوله: (ليؤدين إلى صحة حلول الكلام).
هذه اللفظة بهذه الصيغة وهي الإتيان باللام وبنون التوكيد إنما يصلح جواباً للقسم ولا معنى له هنا، فالقياس ..... وقد يصح ذلك على تأويل وتكلف لاموجب له هنا.
القول في أن القرآن الكريم هو هذا الذي نتلوه بيننا في المحاريب ونكتبه في المصاحف
المحاريب: جمع محراب، والمراد به هنا صدر المسجد.
قوله: (وقد خالف في ذلك المثبتون للكلام النفسي).
يعني خالفوا في قصر اسم القرآن على هذا المتلو والمكتوب فإنهم يسمون المعنى النفسي قرآناً وتورات وإنجيلاً، وأما أنهم يمنعون من تسميته هذا قرآناً فإن كتبهم ومصنفاتهم مصرحة بذلك.
إذا عرفت هذا ظهر لك ضعف احتجاج المصنف عليهم لأنه إنما يستقيم مع إنكارهم لتسمية هذا قرآناً.
قوله: (لاينكر هذا إلا مباهت). قد تقدمت الإشارة إلى ركة هذه العبارة.
القول في أن القرآن الكريم محدث
قوله: (إن هذا القرآن مرتب في الوجود) إلى آخره.
قد ورد عليه سؤال وهو أن هذا يدل على حدوث ما كان من ذلك بتلاوتنا وليس فيه دلالة على أنه كان كذلك في ابتداء وجوده وأجيب بأنه وإن وجد في الأصل هكذا استقام الدليل فيه، وإن وجد معاً دفعة واحدة لم يعلم به أصلاً معنى لأن معناه لايعرف إلا بانتظامه وترتبه بأن يوجد حرف بعد حرف.
قوله: (وقوله: {إنا نحن نزلنا الذكر}) إلى آخره.
هذا استدلال على أن الذكر هو القرآن.
قوله: (والسبب يشهد بهذا). أي سبب نزول الآية الأولى وهي قوله تعالى: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} يشهد بأن الذكر هو القرآن.
قوله: (والحسن من صفات الأفعال).
وذلك لأن حقيقة الحسن ما للقادر عليه فعله والحسن كون للقادر عليه فعله وهذا حكم للمقدور هكذا ذكروا.
قوله: (والحديث نقيض القديم).
اعلم أن للحديث معنيين أحدهما هذا لكنه غير مراد في الآية، الثاني الحديث المعروف الذي هو بمعنى الخبر وهو نوع من الكلام وهو المراد هنا ودليله سياق الآية وهو ما رواه ابن مسعود أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ملوا ملة فقالوا له: حدثنا حدثنا، فنزلت.
وقد أجيب بأنه وإن كان المراد هنا العلة لكن أصل وضع الحديث له لكونه محدثاً فيدل على حدوثه بالنظر إلى الوضع الأصلي.
قوله: (والقديم لايتشابه).
يعني لأن التشابع بفاعل ولايكون إلا مع تعدد الفاعل والتعدد على القديم محال، وأما لو قدرنا صحة التعدد في القديم فالتشابه لازم فلا يخلو ما ذكره عن نظر.
قوله: (معناه المحكم). فيه نظر والظاهر في تفسيره أن المراد ذو الحكمة أولأنه دليل ناطق بالحكمة كالحي أو لأنه كلام حكيم فوصف بصفة المتكلم به وهكذا يأتي في قوله في البيت حكيمة.
فصل في شبههم
قوله: (إن لفظ كن حروف).
لعله أراد قبل حذف حرف العلة منها، وأما بعده فهو حرفان فقط.
قوله: (لأن الحروف متماثلة). يعني لاتختلف باختلاف الفاعلني وكذلك تأثير العلل لايختلف باختلاف فاعلها.
قوله: (وبعد فقد عقب كُنْ) إلى آخره.
قد يحرر هذا الوجه تحريراص آخر وهو أن يقال: إذا كانت كن قديمة موجبة للعالم لزم قدمه.
قوله: (وإنما أراد المبالغة في سرعة وقوع المراد) إلى آخره.
قال جار الله: هو مجاز من الكلام وتمثيل لأنه لا يمتنع عليه شيء من المكونات وإنه بمنزلة المأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع.
قوله حاكياً عنهم: (والإسم هو المسمى).
اعلم أن هذه مسألة خلاف فالمحققون على أن الإسم عبارة عن اللفظ الموضوع للمسمى فهو غير المسمى مثاله رجل فالإسم عبارة عن هذا اللفظ وهذا اللفظ عبارة عن مسماه المعروف، وعن الكرامية أن الإسم هو المسمى يريدون أن لفظ اسم زيد عبارة عن زيد نفسه لا عن اللفظ الموضوع له، وروى الرازي عن أصحابه أن الإسم هو المسمى وعن المعتزلة أنه التسمية وعن الغزالي أنه وضع الإسم. قال: والتحقيق أن الإسم هو اللفظ الدال بالوضع على معنى من غير دلالة على زمان ذلك المعنى والمسمى هو الشيء الذي يقع ذلك اللفظ بإزائه.
قال: وقد يكون غير المسمى فإن لفظ الجدار مغاير لحقيقته ضرورة، وقد يكون مثل المسمى فإن لفظ الإسم اسم لما دل على المعنى المجرد عن الزمان ومن جملة تلك الألفاظ لفظة الإسم فإنها لفظة دالة على معنى مجرد عن الزمان فيكون الاسم اسماً لنفسه من حيث هو اسم فالإسم .... هو المسمى.
قيل: وهذا وهم فإنه غير المسمى وإن كان مثله في هذه الصورة فقد يكون اللفظ موضوعاً على لفظ مثله والمثل غير مثله وذلك في لفظة اسم فمن جملة مسمياتها لفظة اسم /67/، فالإسم هنا والمسمى مثلان في الصورة والمثلان غيران ولايصح قوله: الاسم ههنا هو المسمى بل مثل المسمى وهو مراده، فإنه قال في أول كلامه: وقد يكون مثله لكن تسامح كما تسامح في قوله: (قد يكون غير المسمى وقد يكون مثله) والمثل غير أيضاً فكيف يصح عطفه على الغير لكن أرادب الغير المخالف والاسم إنما يكون مثل المسمى حيث يكون عاماً لمسميات يدخل في حقيقتها لفظ الاسم وجملة ما حضر في الذهن من ذلك ثلاثة عشر لفظاً وهي الاسم كما قدمنا والموجود والمعلوم والشيء والذات واللفظ والقول والنطق والصوت والمعنى الاصطلاحي والماهية والحقيقة والأمر فالاسم في هذه الألفاظ مماثل لبعض المسمايت والموجود لكل معلوم ليس بمعدوم، ومن ذلك لفظ الموجود وكذلك سائرها إذا تتبعها وأكثر الأسماء الخاصة لايدخل في مسمياتها كالحيوان فإنه ليس من مسمياته لفظ الحيوان وهذا كلام جيد.
قلت: قال مولانا عليه السلام: وظاهر كلام الأصحاب أن محل الخلاف في أن اللفظ الموضوع للمعنى هو نفس المعنى كلفظة رجل التي هي راء وجيم ولام، هل هي نفس المسمى الذي هو الحيوان الناطق الذكر أم لا ويبنون على هذا احتجاج الخصم والجواب عليه وعندي أن هذا مما لاينبغي أن يختلف فيه وأن أحداً من العقلاء لايذهب إلى أن اللفظ هو المعنى الذي يدل عليه وأن تطويل الكلام في ذلك كما ذكره المصنف وغيره مما لاطائل تحته.
قوله: (ولافرق عند أهل اللغة بين الاسم والتسمة).
فيه نظر لأن التسمية مصدر سمى فهي في الحقيقة وضع الاسم وقد يستعمل في اللفظ الذي هو الاسم وهو مراد الرازي بقوله: إن المعتزلة يذهبون إلى أن الاسم هو التسمية ولعل مراد المصنف أن الاسم هو التسمية بهذا المعنى لا على الإطلاق.
قوله: (وأنما يريد أحدنا أن يظهر ذلك).
يعني يظهر الحلف بالله.
قوله: (وأما بسم الله الرحمن الرحيم) إلى آخره.
اعلم أنه ليس لهم فيه حجة، لأن مراد المتكلم قطعاً التبرك بالبداية باسم الله لا أنه أراد أن يبتدئ بذات الله.
قوله: (فمجاز) وجه العلاقة ما بين الاسم والمسمى من الملابسة.
فصل في كيفية حدوث القرآن وكيفية إنزاله
قوله: (لاستحالة المباشر والمتعدي في أفعاله).
إنما استحالا لأنهما لايتصوران إلا مع كون القادر قادراً بقدرة حالة فيه فالمباشر ما وجد بالقدرة في محلها والمتعدي ما وجد بالقدرة في غير محلها بواسطة فعل في محلها.
قوله: (فلو جاز وجوده لا في محل لايقلب جنسه).
هذا مبني على دليل استدل به بعضهم وهو أنه إذا كان الصوت من فعلنا لايوجد إلا في محل وجب أن تكون حاجته إلى المحل لجنسه لأنه لامانع يمنع من هذا التعليل.
قال ابن متويه: ويعترض ذلك بأن يقال إن التعليل يجب أن يكون للحاجة إلى محل بعينه لأنه ليس يحتاج إلى محل ما فقط فإذا كان كذلك وجب في كل ما هو من جنسه أن يحتاج إلى هذا المحل المخصوص وذلك باطل.
قوله: (وأيضاً فلو وجد لا في محل وقدر وقوع التضاد). إلى آخره.
زعم ابن متويه أن هذا أقوى الوجوه ولايخلو عن اختلال ويرد عليه سؤالات نذكر منها سؤالين الأول أن تقدير التضاد تقدير لقلب الجنس فكيف يبنى الاستدلال عليه وأجاب ابن متويه بأن مثل هذا التقدير صحيح متى أثمر علماً على أن حال الزاي لايتغير في الوجه الذي يدرك عليه سواء حصلت مضادة للرا أو غير مضادة لها.
السؤال الثاني: أن يقال: قولك فكان لايوجد حرفان ختلفان في العالم غير لازم، فإن شرط التضاد الحقيقي أن يوجد كل واحد على حد وجود الآخر إما بأن يوجدا في محل واحد أو يوجدا معاً لا في محل فأما إذا تعددت المحال أو وجد أحدهما في محل والآخر لا في محل لم يلزم التنافي لعدم حصول شرطه ولم يكن تضادهما إلا في الجنس فقط وهذا واضح كما ترى فتبين أنه ليس بأصح الوجوه وأقواها بل أضعفها وأوهاها.
قوله: (لكن لايمتنع أن يكون في وجوده في بعض المحال صلاح) إلى آخره.
قيل: وقد دلت الأدلة السمعية على أنه تعالى واحدة مكتوباً في اللوح /68/ المحفوظ ثم يجوز كونه تعالى خلقه فيه كتابة لاصوت معها وأن يكون خلقه أصواتاً في محل ثم كتبه في اللوح وأن يكون العلم جرى تكتيبه وفي تلك الحال يسمع أصوات كلمة وحروفه وآياته وورد أن الله تعالى خلق اللوح من درة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق والمغرب وكانت كتابة ما في اللوح المحفوظ بالقلم من نور أصله في حجر ملك محفوظ من الشياطين ومن أن ينقل أو يغير ولله تعالى في اللوح في كل يوم وليلة ثلاث مائة وستون نظرة يحيي ويميت ويعز ويذل ويؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويفعل ما يريد، وورد أن في اللوح المحفوظ بيان أصناف الخلائق الأحياء وغيرهم وبيان أمورهم وذكر آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم والقضية النافذة فيهم وما تؤول إليه أمورهم والعاقبة لهم وورد أن القلم من نور طوله ما بين السماء والأرض خلق الله تعالى القلم ثم نظر إليه فانشق رأسه نصفين فقال تعالى له: اجر. قال: بما أجري؟ قال تعالى: بما هو كائن إلى يوم القيامة. فجرى على اللوح بذلك. وقيل: بل جرى بما هو كائن إلى الأبد ومما ورد أن اللوح فوق السماء السابعة وأنه لايطلع عليه إلا الملائكة.
قوله: (فكذلك لايوجده في وقت مخصوص إلا لوحه حكمة).
هذه إشارة إلى وقت حدوثه وقد ورد في الأثر النبوي ما يقضي بأن الله تعالى خلقه قبل كل شيء وهو كان الله ولاشيء ثم خلق الذكر.
قيل: وظاهره أنه خلقه قبل كل حيوان غيره والدلالة العقلية تمنع من ذلك لأن الوجه في حسن خلق ما ليس بحيوان أن ينتفع به الحيوان فخلقه ولا حي ينتفع به عبث فيحمل على أن المراد به خلقه ولاشيء بعد أن خلق حياً ينتفع به.
قلت: قال مولانا عليه السلام: ليس ببعيد أن يبقى الخبر على ظاهره ويكون الغرض في ذلك لطفية تحصل لبعض المكلفين إذا علموا ذلك فمثل هذا يخرجه عن كونه عبثاً.
قيل: والذكر اسم لجميع الكتب المنزلة من عند الله على الرسل وهي كلها مخلوقة قبل البعثة لمن أنزلت عليه.
قوله: (بأنه أنزل إلى سماء الدنيا دفعة واحدة).
يعني أنزل من فوق السماء السابعة في رمضان في ليلة القدر كما أخبر الله به لكن قيل أنزل إليها جملة واحدة وقيل بل أنزل أوله إليها وكان ينزل في كل سنة إليها ما يحتاج إلى نزوله إلى الأرض في تلك السنة وقد أشار المصنف إلى وقت نزوله إلى الأرض بطريقة الإيحاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (ثم كان ينزل منها شيئاً بعد شيء).
والمذكور أن ابتداء نزوله إليه صلى اللّه عليه وآله وسلم في اليوم الخامس والعشرين من رمضان واكن نزوله على حسب الحاجة والمصلحة شيئاً فشيئاً سورا صوآيات على لسان جبريل عليه السلام وتكامل نزوله في ثلاث وعشرين سنة منذ بعثته عليه الصلاة والسلام وقيل في عشرين سنة واختاره الزمخشري وكيفية حفظ جبريل له إما بأن يتحفظه من اللوح وإما بأن يسمعه أصواتاً فيحفظه وينزله وكان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يلقيه إلى من حوله ويأمرهم بحفظه والعمل بما فيه ويرتب السور والآيات يأمر بوضع كل شيء منها في مكانه بحسب المصلحة وما يوحى إليه فيقول عليه السلام لكتاب الوحي: اجعلوا هذه الآية في موضع كذا وبعد الآية التي هي كذا.
قوله: (فقال: {لنثبت به فؤادك}).
قد تضمنت هذه الآية بيان وجه الحكمة في تفريقه والرد على الطاعنين بعدم إنزاله جملة واحدة فإن ذلك كان من اعتراضاتهم واقتراحاتهم الدالة على سرادهم عن الحق أنكروا كونه لم ينزل كالكتب الثلاثة وهم قريش وقيل اليهود ووجه التثبيت في تفريقه أنه يعيه ويحفظه لأن المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئاً بعد شيء وجزءاً عقيب جزء ولو أنزل جملة واحدة لغى تحفظه مع كونه صلى اللّه عليه وآله وسلم أمياً والأنبياء المتقدمون كانوا قارئين كاتبين وكان ينزل على حسب الحوادث وجوابات السائلين.
قال جار الله: ولأن بعضه ناسخ وبعضه منسوخ ولايتأتى ذلك إلا مع التفريق.
القول في صحة وصف القرآن بأنه مخلوق
قوله: (قيل إياجد الفعل مطابقاً للمصلحة). /69/ هذا قول الزيدية والمعتزلة البصرية.
قوله: (وقيل إيجاد الفعل مخترعاً). هذا قول البغدادية وعباد بن سليمان، وقد يقولون وجود الفعل بغير آلة، ونقل عن بعض البصرية أن الخلق موضوع في العرف المصطلح عليه للفعل المقدر على حسب الغرض والداعي.
قوله: (ولهذا لايصح إطلاق لفظ الخالق إلا على الله).
يعني لأن الخلق لايصح في فعل العبد على كل من التفسيرين مع عدم التقييد، وأما مع التقييد فيصح عندنا وصف العبد بأنه خالق لفعله وأما البغدادية وعباد فيمنعون ذلك مع التقييد أيضاً.
فصل
ذهب أبو هاشم وأبو عبدالله إلى أن الخلق معنى، وأما الشيخ أبو علي فيذهب إلى أن الخلق هو التقدير، والمخلوق الفعل المقدر بحسب الغرض والداعي المطابق له على وجه لايزيد عليه ولاينقص منه، وعليه الجمهور.
قال السيد صاحب الشرح: وهو الصحيح للمذهب.
قيل: والأقرب أن الخلاف يؤول إلى الوفاق، فإن الشيخين أبا هاشم وأبا عبدالله إنما أرادا تفسير التقدير ففسره أحدهما بالإرادة والآخر بالفكر وأبو علي والجمهور لابد أن يفسروه بأحدهما أو بالعلم أو بالتخطيط وقد ذكر بعض أهل التعاليق أن المراد بالتقدير الذي يعبر عنه بأنه الخلق هو الفكر، وقيل: إنه الاعتقاد أو الظن أو الإرادة والأصح أنه الفكر وقد ذكر ذلك ابن الملاحمي والشيخ أبو عبدالله وصححه بعض المتكلمين وهذا يقضي بأن الله تعالى لايوصف بأنه خالق لكن وقع التعارف بأن الخلق في حقه تعالى الفعل المقدر المطابق للمصلحة فوصف تعالى بذلك عرفاً لغوياً وشرعياً وسمى ذلك خلقاً عرفاً، لأنه في الشاهد يقع عقيب الفكر.
قوله: (والجمهور يجعلونه إيجاداً مخصوصاً).
فيه نظر لأن أبا هاشم وأبا عبدالله لايخالفان في هذا بالمعنى الاصطلاحي وإنما الخلاف في حقيقة مسمى الخلق لغة.
قوله: (أن يوصف بأنه مخلوق وهو معدوم لصحة إرادته حينئذ وكذلك يلزم أبا عبدالله).
يمكن أن يقال: أنهما لايجعلان نفس الإرادة أو الفكر خلقاً بل أرادا مع كون ذلك تقديراً والتقدير لايتعلق إلا بأجزاء معينة والمعدوم غير متعين فلا تقدير إلا في موجود فحينئذ لايلزمهما وصف المعدوم بأنه مخلوق.
فصل
قال أهل الحق: يصح وصف القرآن بأنه مخلوق.
اعلم أن الكلام في هذا الفصل والخلاف فيه لايتأى إلا مع القول بأن القرأن من جنس الحروف والأصوات وأن هذا المتلو في المحاريب والمكتوب في المصاحف يسمى قرآناً، وأما المثبتون للمعنى النفسي والرادون لاسم القرأن إليه فلا مدخل لخلافهم في هذا الفصل ولهذا لم يتعرض المصنف لذكرهم لأنه لو صح لهم أصلهم لصح لهم المنع من وصف القرآن بأنه مخلوق فنحن إنما نكالمهم في إفساد قاعدتهم لا في إفساد ما بنوه عليها.
قوله: (وأبطلنا أساطيرهم).
هو جمع أسطورة على وزن أفعولة بضم الهمزة وقيل: جمع أسطار مثل أقاويل جمع أقوال، والإسطارة بالكسر لغة في أسطورة ومعنى الأساطير الأباطيل، ومعنى إبطالها بيان بطلانها وأنها باطلة في نفسها.
قوله: (إلا من باب الأعم والأخص) يعني فالمخلوق أخص والمحدث أعم لأن المخلوق فيه حقيقة المحدث وهو الموجود من جهة من كان قادراً عليه مع قيد زائد وهو الاختراع أو مطابقة المصلحة من غير زيادة ولانقص.
قوله: (وبعد فكل شيء لابد أن يكون خالقاً أو مخلوقاً).
يقال: هذه دعوى فعليك أن تدل عليها فهو نفس ما نازعك الخصم فيه.
قوله: (والجعل هنا هو الخلق).
مثله في قوله تعالى: {وجعل الظلمات والنور} هكذا ذكر جار الله في تفسير هذه الآية فإنه قال ما لفظه: جعلناه بمعنى صيرناه معدى إلى مفعولين أو بمعنى خلقناه معدى إلى واحد كقوله: {وجعل الظلمات والنور} انتهى. وكلامه في تفسير وجعل الظلمات والنور يقضي بأن جعل لايأتي بمعنى خلق، قال هناك ما لفظه: جعل /70/ يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ كقوله: {وجعل الظلمات والنور}، وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صير ثم قال: والفرق بين الخلق والجعل إن الخلق فيه معنى التقدير وفي الجعل معنى التضمين كإنشاء شيء من شيء أو تصيير شيئ شيئاً أو نقله من مكان إلى مكان ومن ذلك: {وجعل منها زوجها}، {وجعل الظلمات والنور} لأن الظلمات من الأجرام المتكاتفة والنور من النار وجعلناكم أزواجاً {أجعل الآلهة إلهاً واحداً}.
قوله: (وكذلك سائر ما أنزل الله من الكتب).
هذا هو المصحح وإلا فظاهر كلام السيد صاحب شرح الأصول وغيره أن الذكر اسم يختص به القرآن.
قوله: (بنص الكتاب).
يعني في كون القرآن ذكراً وهو قوله تعالى: {إن هو إلا ذكر وقرآن}.
قوله: (وبعد فقال تعالى: {وكان أمر الله مفعولا} إلى آخره.
فيه نظر من وجهين أحدهما أنه لاتصريح في هذه الآيات بالخلق الذي هو محل النزاع فلا يصح الاستدلال بها عليه لاسيما في حق من يعترف بحدوثه وقد أجيب بأنه إذا ثبت كونه مفعولاً وهو لايفعل إلا بحسب المصلحة الدينية أو الدنيوية فذلك معنى الخلق وكذلك قوله: {قدراً مقدوراً} فإن المراد كونه جارياً على الحكمة أو قضاء مقضياً.
الثاني: أن الأمر ههنا ليس المراد به القرآن، قال جار الله: يعني وكان أمر الله الذي يريد أن يكون مفعولاً مكوناً لامحالة وهو مثل لما أراد كونه من تزويج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زينب ومن نفي الحرج عن المؤمنين في أجزاء روح المتبنين مجرى أرواح البنين في تحريمهم عليهم بعد انقطاع علائق الزواج بينهم وبينهن ويجوز أن يراد بأمر الله المكون لأنه مفعول بكن وهو أمر. فقوله: (وكان أمراً مفعولا} التلاوة وكان وعداً مفعولاً.
قوله: (لاسيما على أصولهم). لايتبين اختصاص أصولهم بمزية في كون القرآن من أمر الله.
فصل في شبههم
قوله: (فقد وقع الإجماع على صحة وصف كلام الله الأنبياء والملائكة بأنه مخلوق).
يقال: كيف الإجماع على ذلك وعباد والمجبرة يمنعون من وصف غير الله بأنه خالقم طلقاً ومقيداً.
قوله: (يكنون عنه بقولهم محدثة).
ينظر في صحة هذا فالمشهور أنهم يقولون فيما تلك صفته مخلوقة ومتحولة ومصنوعة لامحدثة.
قوله: (وعلى هذا يحمل قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم إن صح عنه: (( القرآن كلام الله فمن قال أنه مخلوق فقد كفر )) )..
ذكر بعض المتأخرين من علماء الحديث وحفظته إطباق أئمة الحديث على أن هذا الحديث موضوع غير صحيح وأشار إلى ذلك الدامغاني في رسالته.
قوله: (لأن المعنى .........).
أما جار الله فقال: أختلاقهم الإفك تسميتهم الأوثان آلهة وشركاء لله أو شفعاء إليه أو سمى الأصنام إفكاً وعملهم لها .... لها إفكاً.
قوله: (فمعناه افتعال).
فيه نظر لأن الافتعال وزنه لا معناه فليس يصح أن يقال: معنى فلس فعل، وإنما يتبين بلفظة افتعال وزن اختلاق، وأن أصله الخلق وقد ذكر جار الله ما يقارب كلام المصنف فقال في تفسير اختلاق أي افتعال وكذب وهو كما ترى.
قوله: (وبما ورد به الكتاب من أنه محدث).
يعني وإذا ثبت حدوثه مع كونه مطابقاً للمصلحة ثبت معنى الخلق فيه وصح وصفه به وهذا يصلح للرد على المجبرة لأنهم منعوا من وصفه بمخلوق لاعتقادهم قدمه وأما محمد بن شجاع وأصحابه فهم يعترفون بكونه محدثاً ويمنعون من وصفه بمخلوق لإيهام الخطأ فلا يحتج عليهم بمثل ذلك.
قوله: (فعند كثير من الناس أن الخلق غير المخلوق).
ذهب الشيخ أبو علي إلى أن الخلق هو التقدير والمخلوق الفعل المقدر بالغرض والداعي المطابق له على وجه مخصوص وإليه ذهب السيد صاحب الشرح فالخلق عندهما غير المخلوق وهذا بالنظر إلى وضع اللغة وهو كلام أكثر المتكلمين والظاهر من إطلاقهم وذهب الشيخ أبو علي بن خلاد والرازي في محصوله إلى أن /71/ الخلق والمخلوق لغة بمعنى واحد اوختاره بعض المتأخرين وحمل كلام أبي علي على أنه أراد بما ذكر الخلق لغة والمخلوق شرعاً واصطلاحاً، وأما الخلق والمخلوق شرعاً واصطلاحاً فهما متغايران فالخلق وقوع الفعل بحسب مصلحة الأحياء من غير زيادة ولانقصان والمخلوق الفعل الواقع كذلك وعند البغدادية الخلق وقوع الفعل بغير آلة أو مخترعاً والمخلوق الفعل الواقع كذلك.
واعلم أنه كثيراً ما يطلق الخلق على من وقع عليه وهو المخلوق كقوله تعالى: {هذا خلق الله} أي مخلوقه فقيل: لأن الخلق والمخلوق صارا في العرف بمعنى واحد. وقيل: مجاز من قبيل وضع المصدر موضع المفعول مبالغة كوضعه موضع اسم الفاعل نحو رجل عدل.
قوله: (والمعنى قيل أفرده بالذكر) إلى آخره.
اعلم أن سياق احتجاجهم وجواب المصنف عليهم مبني على أن المراد بالأمر هو هذا المصطلح عليه وهو ضد النهي الذي ينطوي عليه القرآن وإذا كان المعنى على ما ذكره جار الله وهو أن المراد في الآية هو الذي خلق الأشياء وهو الذي صرفها على حسب إرادته سقط الاحتجاج وكفينا المؤنة وما ذكره هو الذي ينساق إليه الذوق السليم والطبع المستقيم، والقول ما قالت حذام.
قوله: (إن بعض مشيختهم).
مشيخة بمعنى شيوخ وجمع مشيخة مشائخ.
قوله: (وإنما هم لضيق عطنهم).
العطن واحد الأعطان والمعاطن وهي مبارك الإبل عند الماء لتشرب عللاً بعد نهل واستعير هنا لموضع المناظرة والمحاجة.
الكلام في النبوات
الواو، وهي الأولى مع التشديد، والنبوة مصدر، فإن همزت فهي بمعنى الأنباء كما ذكر؛ لأن النبي مخبر عن الله ومبلغ عنه، وإن لم يهمز فهي من التنبوء نبا المكان .... إذا ارتفع، ومنه تسمية ما ارتفع من الأرض نبياً، قال:
لأصبح رثماً دقاق الحصى ... مكان النبي من الكاتب
والطريق أيضاً تسمى نبياً، ومنه الحديث نهي عن الصلاة على النبي ـ أي الطريق ذكره في الضياء، قال فيه: والنبي واحد الأنبياء واشتقاقه من النبي المكان المرتفع؛ لأن النبوة أرفع المنازل، ومن النبي الطيق؛ لأنه طريق إلى الخبر، وعلى ذها فالنبوة صفة للنبي، ومعنى فيه، إما بمعنى الأنبياء أو بمعنى الرفعة، أو بمعنى كونه طريقاً إلى الخير.
قوله: (وهي والرسالة في الإصطلاح بمعنى واحد وهو ما يحمله الإنسان..) إلى أخره.
فيه نظر، ويلزم أن يكون القرآن وما بلغه الرسول من الأحكام نفس النبوة هو بعيد، كما ترى، والأولى أن يقال: وهي تحمل الإنسان لما تحمله عز الله إلى الخلق من غير واسطة يسر ولم يذكر الرسالة لغ وهي في اللغة الألوكة.
قيل: ومنه سمى الملائكة ملائكة؛ لأنهم يحملون الرسائل وهي الألوكات عن الله إلى الخلق، فنمهم بتبليغ السرائع والإنتقامات كجبريل، ومنهم بالحفظ لعمل العباد، ومنهم بغير ذلك، والرسالة تقع على ما تحمله الرسول من غير إلى غير، ولا فرق بين أن يكون مالاً يحمل أو كلاماً يبلغ، وتقع رسالة أيضاً وإن لم يكن هناك شيء يتحمل كما في إرسال الله الملائكة لحفظ أعمال العباد، وكنايتها، وكما في إرسال الطلائع والعيون للدرية بما هو مجهول.
قوله: (من غير واسطة تسر).
هكذا عبارة المتكلمين في هذا الحد، ونقل عن والدنا الإمام الهادي علي بن المؤيد أن الأولى أن يقال: بواسطة غير يسر، ولعله أراد أن هذه العبارة تحصل بها ما أرادوه من الاحتراز، وما أرادوه من التثنية على أن يحمل الأنبياء لما تحملوه من الله عن واسطعة بطريق المنطوق لا المفهوم، وعبارتهم لا تفيده إلا من قبيل المفهوم فقط، لكنه يقال: إن هذه العبارة التي اخترعنا نخرج عنها ما يحمله نبي من غير واسطة كموسى عليهم السلام /72/ ووكنبينا صلى الله عليه وآله وسلم فيما روي من مناجاة الله إياه ليلة العراج وعناية الجمهور الجرح عنها، ذلك إذ لا يمكن أن يقال عطف الرسل للتعظيم، يعني لكون الملائكة أفضل منهم، وهذا بناءاً على قاعدة العدلية من تفضيل الملائكة، لكن في كلامه نظر ن وهجين، أحدهما: أن كلامنا في منع تسميتهم أنبياء، وليس في هذه الآية ما يشعر به الوجه الثاني أن احتجاجه مشعر بأنه لا يصح تسمية الملك رسولاً، والقرآن قد نص على خلافه، قال تعالى: {جاعل الملائكة رسلاً} وقال تعالى: {يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس}، والمصنف لا يجهل ذلك، ولكن بني على أن تسمية الملك رسولاً إنما هو لغة لا إصطلاحاً، وأما في الإصطلاح بمعنى الرسالة المصطلح عليها غير حاصل فيه كما يشعر به تخفيفها المذكور، وقد ذكر بعض المتأخرين أنه يجوز تسمية الملائكة رسلاً وأنبياءاً لغة وشرعاً، وعلى اصطلاح المتكلمين؛ لأن معنى ذلك موجود فيهم، إذ فيهم من أرسل إلى الأجناس من الخلق، وهم عند الله بمكان رفع به منازلهم وأجبرهم، وهم مجبرون عن اله ولذهابه إلى هذا المعنى قال في حد النبوة والرسالة: هي تحمل الشرائع عن الله إلى الخلق، ولم يقل كقول المصنف ما يحمله الإنسان وكلاه لا بأس به إلا في لفظ النبي، فلم يطلق على الملك لغة ولا عرفاً، ولا سمع بذلك في استعمالات الشرع وأهله ولا كلام أهل اللغة.
قوله: (والنبي فعيل بمعنى منبئ).
اسم فاعل أو بمعنى منبئ اسم مفعول نظيره نذير بمعنى منذر بكسر الدال وحكم في وصف لاقرآن بمعنى محكم بفتح الكاف وهذا مع البناء على كونه مهموزاً وأما مع التشديد فهو فعيل بمعنى فاعل كعليم وسميع، هذا على تقدير كونه من النبوء، وهو الارتفاع، وأما إذا جعل التشديد من قبيل تخفيف الهمزة وتسهيلها فهو كالمهموز.
قوله: (وفي صحة استعماله بالهمز خلاف بين الشيو، ذهب أبو هشام وأصحابه إلى جوازه أخذاً له من الأنباء، وهو الأخبار مع عدم مانع من استعماله، كذلك أدلابوهم الخطأ، وقال أبو علي: لا يجوز إطلاق ذلك.
واختلافهم نقل في جو نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ولعل سائر الأنبياء في حكمه.
قوله: (والحق جواره).
يعني لاقتضاء قواعد اللغة صحته، ولوروده في القرآن من القراءات السبع قراءته نافع.
قوله: (دائماً أنكر عليه السلام إلى ى×ره إشارة إلى حجة أبي علي في المنع عن استعماله مهموزاً في الأثر أن أعرابياً قال: يا نبيء الله بالهمز، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: <لست نبيئ الله وإنما نبيُّ الله>، أنا وهو ظاهر الدلالة على ماذكره أبو علي، لكن قد تُؤُوِّل لمعارضته القراءة السبعية، والجري على القادة اللغوية بما ذكره المصنف وحاصله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهم من الأعرابي أنه قصد بذلك الوضع عن منزلته، وفطن لما أراد ن أنك إنما أن منبئ، ومخبر فقط من غير علو درجة وارتفاع منزلة، فأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقريعه وتوبيخه وتنبيهه على فهم مراده، والله أعلم.
قوله: (وقال الشيخ محمود هو المؤدى عن الله) إلى آخره.
هذا الحد يقضي بصحة تسمية الملائكة أنبياء لحصوله فيهم.
فصل
قوله: (ولا فرق عند أصحابنا بين الرسول والنبي).
يعني في الشرع واصطلاح المتكلمين والخلاف في ذلك معزو إلى الخشوية وإلى الإمامية وإلى الزمخشري، وقاضي القضاة، وقد مر ذكر حقيقة النبي ممن حصلت فيه تلك الحقيقة فهو عندنا رسول ونبي مع حصول الوحي من الله تعالى إليه على لسان ملك بكلام ظاهراً، وخفي بلغته في باطن سمعه أو بكلام من الله بخلقه لا بواسطة، وحصول معجزة تدل على صدقه وشريعة تأتي بها أو يحيى شريعة قد اندرست كان قد أتى بها نبي قبله وسواء كان ما أتى به قليلاً أو كبيراً والمخلافون اتفقوا على أن الرسول من أرسل بشريعة مستجدة، وأنفقوا على أن معنى النبي يخالفه لكن اختلفوا في معناه، فحكى بعض المغفلين عن الإماية أن النبي من نبيّ إلى نفسه ولم يبعث رسولاً /73/ إلى غيره، ونقل عن الحشوية أنه يصح أن يسمى بعض الأشخاص نبياً من غير وحي ولا معجزة ولا شريعة متحددة، ولا أحياء مندرسة، بل يكون له بتوترات وإلهامات تفارق بها سائر اليسر وعنهم أنه الذي يرى في المنام ما لا يختلف ونسبه الوحي والمنقول عن الزمخشي وقاضي القضاة أن النيب من بعث لتقرير شريعة جاء بها غيره وأحياء ما اندرس منها، كهارون ويوشع وأكثر أنبياء بني إسرائيل بعد موسى فإنهم مقررون لأحكام التوراة محددون لمندرسها فقط، ورد ما ذكرته الإمامية والحشوية بأنه إذا تنبأ الله بنبأ لا يمكن أن يدل عل نبوته إلا المعجزة؛ إذ لا طريق إليها غيره، ولابد إليها من طريق، وإلا كانت النبوة عبثاً، والنيب لا بد فيه من معنى الإرسال ولا يصح أن يكون رسولاً إلى نفسه ولا يتصور فرق بينه وبين الأفاضل من أمية أو أهل وفيه ألا يكونه بوحي إليه ويظهر المعجز على يديه ويهتدي إلى ما لا يهتدي إليه غيره، ويهدى إليه.
قوله: (وأما قوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول ولا نبي}) إلى آخره.
هذه حجة القائلين بالفرق بينهما، قال الزمخشري: هو دليل بين على تغاير الرسول والنبي، قال: والفرق بينهماأن الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه والنبي غير الرسول من لم ينزل عليه كتاب وإنما أمر أن يدعوا الناس إلى شريعة من قبله، وقد أجيب عن ذلك بما ذكه المصنف وهما وجهان أدخل أحدهما في الآخر.
الأول قوله: قالوا: فلا يدل على الفصل، كقوله: وملائكته، فحاصله أن العطف قد لا يكون للتغاير بل للتفخيم، واعترض بما ذكره وهو واضح.
الثاني: ما جعله جواباً على الاعتراض، وهو لا يصح جواباً عنه، ,غنما هو وجه مستقبل في بيان معنى للعطف غير التغاير الذي احتجوا بالعطف عليه.
قوله: (كما يقال فلا قادر وعالم).
يقال: أما إاذ جعلتههه من هذا القبيل فهو حجة عليك لا لك؛ لأن القادر والعالم متغايران مختلفان في المعنى، ومما يجاب به احتجاجهم بالآية أن الشيء قد يعطف على نفسه مع اختلاف اللفظ للتأكيد.
قوله: (قيل ولا يبعد أن يكون الرسول) إلى آخره.
هذا كلام الزمخشي إلى قوله: بتغرير شريعة، وأما قهل: فتغيير، فإن من باب الأعم والأخص فكلام المصنف ركيك المعنى غير صيح ولا واضح، فإنه لا أعمية في أحدما ولا أخصية في الآخر، بل لهما معنيان متباينان، وإنما يوجد أن كل رسول يسم نبياً من ظاهر كلام المخالفين وما لا بد لهم منه، وهو تسمية الرسل أنبياء، فالقياس أن يقولوا: النبي كل من بعث وأوحي إليه، والرسول لا بد فيه من قيد زئاد، وهو أن يكون بعينه بكتاب وشريعة متحددة.
قوله: (ويمكن أن يعجل الفرق بينها هذا كلا يقتضي أن الرسول أعم ولا بأس به في تأويل الآية، وأما في مسألة الاختلاف فلا يصلح تأويلاً لكلام المخالف ولا تقرير المحل المنازع فيه، فإنه أمر متفق عليه، واعلم أن الزمخشري والقائلين بقوله يحتجون بما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه سئل عن الأنبياء فقال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، قيل: فكم الرسل منهم، قال ثلاثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً، وفي المصابيح أن الأنبياء مائة وعشرون ألفاً، والرسل منهم ثلاثمائة وستون ثمانية منهم من العرب، أولهم إبراهيم وآخرهم محمد، وقد أجيب بأن الخبر أحادي، والمسألة قطعية، وأنه مخالف لما قضت به الأدلة العقلية ويتأوله بأن يريد بالأنبياء من يصلح للنبوة وبالرسل من أرسل، وفيه نظر، ويلحق بهذا الفصل فائدتان:
الأولى: أنه لا يطلق لفظ النبي والرسول على أحد من البشر شرعاً واصطلاحاً إلا في حق الأنبياء عليهم السلام، وأما مع التقييد بالإضافة إلى غير الله تعالى فيجوز في حق غير الرسل، كأن يقال: فلان رسول فلان أو نبي فلان، بمعنى أنه أنبأ عنه أو أخبره وأنبأه، وقد صار الأسبق إلى الاتهام والغالب بعرف الشرع من إطلاق لفظة الرسول أو النبي أو إضافته إلى الله كرسول الله ونبي الله، أن المراد بذلك خاتم الأنبياء صلى الله عليه.
الفائدة الثانية: في ذكر الأسماء التي يشترك فيها الأنبياء ويطلق على كل منهم /74/ وهي النبي والرسول والمصطفى والمجتبى والمختار والبعث والمبعوث والمرسل والحجة، وغير ذلك، لكن أكبر الإستعمال للفظي الرسول والنبي، وقد ورد في كلامهم قال: المبعثو، وقال: الحجة، وقال: النذير، واختلف في اسم الحجة، هل يستعمل في غير النبي كالإمام أولاً فالأظهر من كلام المتكلمين المنع، قالوا: لأن النبي إنما سمي حجة؛ لأن أقواله وأفعاله يحتج بها، وليس الإمام كذلك، وقالت الإمامية: بل يجوز وصف الإمام بذلك.
قيل: وهو الصحيح بل لو قيل: أنه يوصف بذل جميع الأحياء، بل الأجسام، بل الأعراض المستدل بها على الله تعالى، لكان ذلك جائز إلا أن الشرع منع من ذلك؛ لأن هذه اللفظة موضوعة للتفخيم والتعظيم، فاختصت الأنبياء والأئمة تلوهم والعلماء تلو الأنبياء فلا وجه للمنع من ذلك،.
قال مولانا عليه السلام: ولا يخلو عن نظر، فإن لقائل أن يقول: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}، فمفهومه أن الحجة بعدهم قد صارت لله، ومثل هذا لا يوجد في غير الأنبياء، ونقل عن أبي الهذيل وعناد صحة أن يوصف بذلك العدد الذي يحصل العلم عند خيرهم.
فصل
في أنه يحسن بعثة الأنبياء عقلاً.
قوله: (قد خالف في ذلك البراهمة).
قيل (سموا براهمة لإنكارهم حسن البعثة، والنبوات إلا نبوة إبراهيم وآدم، وقيل: لانتسابهم إلى رجل اسمه برهم، وقال بان الملاحمي: بل إبراهيم، وخلافهم في هذا الفصل ظاهر، وقد نسب الخلاف فيه إلى فرقة ينكرون الملل كلها، ذكره بعضهم وعزا الإمام يحيى في التمهيد الخلاف فيه إلى الملحدة والزنادقة والمعطلة والدهرية، وججمع من الطبائعية ويمكن أن يقال: لا وجه لذكر خلافهم هنا؛ لأن خلافهم في إثبات الصانع المختار يرفع قاعدة النبوة، فخلافهم فيها إنما تفرع على الخلاف فيه.
قوله: (وهذا هوس محض).
شبه قولهم هذا بالهوس، وهو طرف من الجنون لمخالفته ما علم من الدين ضرورة، ورده لصريح القرآن.
قوله: (إنه لا يمتنع أن يكون في أفعالنا ما هو لطف لنا) إلى آخره.
ظاهره أن الذي يحصل بإرسال الرسل من البيان كاف في حسن البعثة.
قيل وفيه نظر؛ لأن مجرد التعريف بذلك لا يكفي في حسن البعثة؛ لأنه سبحانه قادر على أن تعرفنا بها كا الملائكة والأنبياء فلا بد أن يكون في نفس البعثة مصلحة وإلا كانت عبثاً، وتلك المصلحة ما ذكروا من أنه لا بد فيها من لطف للمنعوت، والمنعوت إليه، وقد يقال: فكيفية التنظير أن في مقدوره تعالى ما يقع به البيان من غير بعثة، إما يخلق المعلوم الضرورية بما كلفنا، وإما بأن يخلق لنا من اللكلام ما سمعه ويبين به.
وأقول: إن هذا التنظير وهم؛ لأنه إنما يصلح، وأرادا على القول بوجوب البعثة، فيقال: لا يجب إلا إذا لم يمكن البيان بغيرها مع أنه أيضاً إنما يصلح قادحاً في القول بتعيين وجوبها، وأما إذا جعلت واجبة على التخيير فلا، أما على القول بحسنها فلا معنى له؛ لأن إمكان البيان بغيرها مع كونها طريقاً من طرقه لا يقتضي كونها عبثاً ويخرجها عن حيز الحسن إلى خير القبيح، وأما قول من قال: إما يخلق المعلوم الضرورية بما كلفنا فكيف يصح ذلك مع كون المكلف لا يعلم ضرورة.
قوله: (هل استتر أم).
معى الاستتار ظاهر، وهو هنا كونه سائراً لا مستوراً، وفي بعض النسخ: هل استترم، والمعنى هل حان أن يرمى، أي صلح.
قوله: (لمصلحة أعظم من ذلك).
يعني وهي المصلحة الدينية لما يحصل به من اللطفية.
تنبيه
لم يتعرض المصنف في هذا الفصل لذكر وجوب البعثة، وهو بحث مهم على قاعدة الأصحاب، وقد أساء إليه في الفصل الذي يلي هذا إيثاره تسييره غير مقصودة، والقول بوجوبها يبتني على أصلين:
أحدهما: أنها لطف.
والثاني: أن اللطف واجب عليه تعالى.
فأما الأصل الثاني فقد مر الكلام فيه /75/ وأما أنها لطف فللإصحاب في تقريره تحريرات تأتي منها بما ذكره الإمام يحيى في التمهيد، وهو أنا نعلم قطعاً بالضرورة بعد الخبرة، واستقل العادة أن الخلق إذا كان لهم رئيس قاهر يمنهم عن المحظورات ويحثهم على فعل إداء الواجب ويذكرهم بالله ويخوفهم عقابه، فإن حالهم إلى أداء الواجب وترك القبيح قرب من حالهم لو لم يكن ذلك مع ما يخصه الله به من إظهار الإعلام البين دالة على صدقه، ولا معنى للطف إذا ذال، واعترضه الإمام عليه السلام بمنع كون البعثة لطفاً، وإنما هي فضل وإحسان كأصل التكليف ولا يسلم إنما ذكر يكفي في الدلالة على كون البعثة لطفاً إلا بتق خلو البعث عن جيمع جهات القبح، فإن كون الفعل مصلحة من وجه لا ينافي كونه مفسدة م نوجه آخر، فعليكم أن تقيموا الدلالة على أن البعثة خالية عن جميع جهات القبح، ويمكن الجواب بأنا قد علمنا حسنها بما تقدم، وبأن الله سبحانه وتعالى لا يفعل إلا الحسن، فإذا لم يكن المانع من الوجوب إلا نحو تزان للقبح وجهاً، فقد حصل ما يدفع هذا التجويز والله سبحانه أعلم.
فصل
إذا قلت أن وجه حسن البعثة كونها لطفاً لم تجب أن يكون في كل زمان نبي خلافاً لقوم.
قوله: (لأن الحسن في البعثة ملازم للوجوب).
هكذا ذكر أصحابنا، فإن أرادوا الوجوب المعين فغير مسلم؛ لأن البيان إذاً كان يحصل بها وبغيرها حسنت ولم تتعين لقيام غيرها مقامها، وإن أريد الوجوب على التخيير فصحيح والله أعلم.
قوله: (كالثواب وكشكر النعمة).
يعني فإن الثواب متى لم يجب لم يحسن؛ لأنه يتضمن تعظيم من لا يستحق التعظيم، ومتى حسن وجب وكذلك الشكر فيه تعظيم للمشكور، فإن لم يكن منعماً لم يحسن شكره، ومتى أنعم أحسن، ووجب، وكان الأولى أن يقول: والشكر ولا تقيده بالنعمة؛ لأن شكر النعمة واجب بكل حال، فلا يمكن أن يقال فيه: متى لم تجب لم يحسن.
قوله: (أولاً مرد ينوي).
أدرج المصنف هذا القول في معرض الاحتجاج لأولئك القوم الذين حكى خلافهم وغيره يترجم المسألة في هذا المعنى بأن البعثة لا تجب إلا إذا كانت لطفاً للمنعوت نفسه، والمنعوت إليه، ثم يحكي هذا الخلاف ويقول مثلاً خلافاً لأبي القاسم فزعم أيها يجب لمصالح الدنيا كمعرفة اللعاب والسموم والأعدية، وكذلك الأدوية، والصانع والمعادن، وإلى هذا أشار بقوله: ونحو ذلك، وقوله: بجميع الظالم والرجز عن الفساد فيه فيه نظر؛ لأن هذا ديني لا دنيوي، ولو كان فيه صلاح دنيوي.
قوله: (على أنه لو وجبت البعثة لما يرجع إلى البعثة وحفظ الصحة) إلى آخره.
يعني إذا ملتم بوجوبها للتعريف بالأغذية والسموم والأدوية التي نحصل بمعرفتها رعاية الصحة وحفظها وحصل التنقية لكان ذلك قاضياً بوجوب التنقية؛ لأن البعثة لأجلها تتفرع على وجوبها كما أن البعثة لأجل الشرائع فرع على وجوبها، وإذا وجبت لم يجز من الله الاحترام؛ لأن فيه إخلالاً بالواجب، وفيه نظر؛ لأن الذي يستلزم وجوب البعثة لذلك وجوب طلب التنقية على المكلف و الاعتناء بتحصيلها لا وجوبها على الله فليتأمل قوله: ولما حسن بنفيه من علم جهل ما يعب به الأنبياء تقرير هذه الوجه: أنها لو حسنت التنقية من دون ذلك يستقم القول بوجوب البعثة لأجل التنقية؛ لأنه لا يحسن منه تعلى تنفيه المكلفين من دون أن يبعث إليهم من يعرفهم بحكم الأغذية والسموم والفصل بينها، فإذا لم يبعث فيجب التنقية، وهذا فيه من المكلف ما لا يخفى، ومن البين عدم استلزام ترك البعثة لقبح التنقية، وإن ان الغرض من البعثة ما ذكره الخصم.
فصل
قد تقدم أن البعثة متى حسنت وجبت.
قوله: (وعلى الجملة فإنما يحس) إلى آخره.
الأولى أن هذا وجه الوجوب لا وجه الحسن، وأيها يحسن لمجرد البيان والتعريف بالشرائع، وإن أمكن ذلك بغيرها، لكن إذا أمكن من دونها لم تجب، وقد قدمنا الإشارة إلى هذا، والأصحاب يقررون هذا المعنى /76/ بأن يقولوا: أما كونها مصلحة للمرسل إليهم فلأنها لو خلت عن ذلك كانت عبثاً لإمكان تعريفنا المصالح من دون واسطة، كإعلامه للملائكة والأنيباء، فلا بد من وجه لأجله إخبار أعلامنا بالمصالح بالسنة الأنبياء، وأما كونها مصلحة للمرسل نفسه؛ فلأنه لا يتبين من وجه لإيجاب تحمل الرسالة وأدائها عليه كسائر الواجبات الشرعية، وليس ذلك إلا اللطفية، وقد يعللون ذلك بأنه لا يجوز تحميله المشقة لما فيها من نفع غيره فقط، لكنه يقال في مقابلة المشقة ما يخبرها من نفع الثواب ويلزمكم ألا يحسن إيلام الأطفال لمافيه من اعتبار المكلف.
قوله: (ولهذا قال تعالى: {قل لو في الأرض ملائكة يمشون..} الآية).
نزلت هذه الآية في الرد على من قال: {أبعث الله بشراً رسولاً} إنكاراً لإرسال البشر، وطلباً لإنزال الملائكة فرد الله عليهم ما أنكروه وعرفهم بأن خلافه هو المنكر؛ لأن قضية حكمته ألا يرسل ملك الوحي إلا إلى أمثاله أو الأنبياء وقرر ذلك وأخبر بأنه لو كان في الأرض ملائكة يمشون على أقدامهم كالإنس ولا يطيرون مطمئنين ساكنين في الأرض وقارين فيها لأنزل عليهم من السمء ملكاً رسولاً يعلمهم الخير ويهديهم المراشد.
فصل
قوله: (ذهب جمهور الشيوخ إلى أنه يبعث رسول إلا بشريعة).
كان الأولى أن تقول إلا بفائدة متحددة بتحمل بعثته، وقد عاد إلى هذا المعنى بقوله: ومعنى ذلك إلى آخره، ولا تخلوا العبارة عن انصراف، فإنه ليس معنى الشريعة المتحددة أحيا شريعة دارسة وعبارة غير المصنف أقوم وألم كقولهم: لا يحسن البعثة إلا حيث يحصل بها لمن بعث إليهم من العلم بألطاف ومصالح في الدين، وهي التكاليف الشرعية ما لولاها لا علم، فإن ان الذي يحصل بها يمكن حصوله بغايرها على سواء فإنهما يكونان واجبين على التخيير.
قوله: (وقد يكون طريقه العمل فقط، هذا النوع من التكليف هو ما كان المطلوب فيه مجرد إيجاد الفعل من غير استمرار وتكرر كما إذا أمر الشارع بفعل معين وأخبر بذلك الرسول من غير قد زائد.
قوله: (فإن العلم والعمل شامل لكل مكلف).
أما العمل فظاهر، وأما العلم فإن كان المراد بوجوبها فصحيح وإن ان بتفاصيلها وأركانها وشروطها وفروضها، فمنه ما هو معلوم ومنه ماهو مظنون، ويختلف فرض المجتهد والمقلد في ذلك على ما تقتضيه الوقاعد، وليس هذا الموضع بسسطه وتحقيقه، وكان الأولى أن يقول: شاملان ولا يستقيم قوله: شامل إلا على تأويل والله أعلم.
قوله: (قد حكي عن الشيخ أبي علي) إلى آخره.
تحقيق ما يقل عنه أن تجوز ويحسن لزيادة في التكليف أو زيادة تنبيه للمكلفين وتحديد وتأكيد، أما لما قد سبق في العقول من التكاليف العقلية أو لشريعة متقدمة من غير أن يكون قد انطمس من أكامها، واحتج على ذلك بأن الغرض بالبعثة حصول اللطف للمكلفين، وهو تحصيل هذه الوجوه السابقة، وذلك كاف في حسنها، بل في وجوبها، قال أبو علي كما في تعزيز النبي: نبي آخر لمجرد التأكيد والتقوية.
قوله: (ألا أن لقائل أن يقول) إلى آخره.
هذا تنبيه من المصنف على تقوية ما ذهب إليه الشيخ أبو علي، ولم يذكر حجة الجمهور، ولهم حجة متكلفة وهي أنه لا يحسن من الله البعثة إلا بمعجز يدل على صدق المبعثو لا معجز إلا ويجب النظر فيه عقلاً لدفع ضرر، وهو الخوف من تركه ولا خوف إلا مع تجويز الجهل ببعض المصالح الدينية وهي التكاليف الشرعية، فبذلك التجويز يحصل الخوف فيحث النظر دمعاً للضرر ولا يخفى ما في هذا الاحتجاج من الاعتساف، ويقال لهم: إن مجرد التجويز كاف في التخويف، فمن أين يجب وقوع ذلك المجوز، فإذا بعث بعض الأنبياء بما ذكره أبو علي فالنظر في معجزته تجب لتجويز أن يكون مبعوثاً لتعريف مصلحة، وأما قول أبو علي في تعزيز النبي بنبي آخر لمجرد التأكيد، فلو سلم له الجمهور ذلك لكان أقوى حجة عليهم لكنهم يمنعونه ويطلقون /77/ القول بأنه لا بد من تعريف مصلحة أخرى، واعلم أن السيخ أبا القاسم قد ذهب إلى أن البعثة تحسن لمجرد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال: لأن هذا كاف في حسنها ومخرج لها عن كونها عبثاً.
فصل
والطريق الذي يعرف به كون الرسول رسولاً هو في الحقيقة المعجز فإما خبر الصادق فهو وإن دل على ذلك فإنما يعلم صدق المخبر بالمعجز، فقد عاد الأمر إلى أنه هو الدليل الحقيقي، اعلم أن الأصحاب يذكرون أن الطريق إلى ذلك أمران:
أحدهما ظهور المعجز على يديه.
الثاني: خبر من قد علم أنه نبي. وأشار المصنف إلى أن مرجع الأمر الآخر إلى الأول وأيهما في الحقيقة شيء واحد، وليس ما ذكره بواضح، فإن الذي قد علمت نبوته إذا نص على نبي آخر فطريقنا إلى ثبوت نبوة هذا الأخير مجرد إخبار الأول لا معجزته، وإنما معجزته تدل على صدق خبره.
قوله: (وأيضاً فلا بد أن يظهر المعجز عقيب دعوى ن أخبرنا الصادق بنبوته).
هذا غير مسلم، فإنه إذا نص على شخص حاضر وأخبر بنبوته تميزنا بالإشارة إليه، وإن كان عابثاً عنه فقد يمكن غيره بذكر اسمه الذي لا شارك فيه، ووصفه الذي يختص به، والله أعلم.
فصل
وحقيقة المعجز هو الفعل الخارق للعادة المتعلق بدعوى المدعي للنبوة على جهة المطابقة، هذه حقيقة المعجز اصطلاحاً، وأما لغة فقيل: هو الأمر الذي يتعذر على القادر الإتيان بمثله في صورته، وقد تكون بعض الأمور معجز القادر غير معجز لآخر بحسب التعذر والإمكان والمعجز الإصطلاحي، لا بد أن يتعذر على جميع القادرين غير الله في زمان حصوله، وما ذكره النص في تحقيقه إصطلاحاً حسن ولكن لو قال الفعل الخارق للعادة الدال على صدق دعوى المدعي للنبوةةكان أأيسر وأسلس وأرجح وأوضح، وقد قيل: وتحديده هو مايتعذر على القادر بقدرة الإتيان بمثله في جنسه كالجواهر والحياة أو نوعه كالقدر أو مقداره كثقل الجبال ونحوها، أو كيفيته كتأليف آخر الحي على حد يصح حلول الحياة فيها أو صفته كفصاحة القرآن وجودة معانيه أو وقوعه على وجه كالكلام في السحر والحجر؛ إذا كان فعل ذلك الأمر على يد مدعي النبوة.
قوله: (واعتبرنا كونه فعلاً) إلى آخره.
قد ورد عليه سؤال وهو أنه يتصور كون المعجز غير فعل كأن يقول مدي النبوة معجز في ألا تطلع الشمس غداً من المشرق وألا تبدوا القمر والنجوم في السماء من غير سحاب حائل فينبغي أن يبدل لفظ الفع ل بالأر.
قوله: (ليفور ماؤه، وقوله: (قعار ماؤه).
الأصوب ماؤها في الموضعين؛ لأن لفظ البئر مؤنث.
قوله: (وقد اختلف في هل يعتبر في المعجز كونه عقيب الدعوى، اعلم أن مذهب التسمية أنه لا يجوز تقديم المعجز على الدعوى، ومعنى عدم جواز ذلك أنه لا يعمد معجزه، ولا يدل على صدق الدعوى المتأخرة لا أن مرادهم أنه لا يجوز وقوع الخوارق قبل دعوى المدعي للنبوة، فإن ذلك جائز قطعاً، وقال أبو القاسم: بل يجوز تقدمه. يعني ويحكم عليه بأنه معجز، ويكون تقدمه إرهاصاً ـ أي توطئه وتمهيداً وتوافق ـ على أنه لا يكفي بل لا بد من معجز عقيب الدعوى، ومثل أبو القاسم ذلك بقصة الفيل، فإنها عام مولده صلى الله عليه وآله وسلم فهي من معجزاته، وقصة الغمامة المروية في بعض أسفاره، وهي أنها كانت تظله في حر الهاجرة، وتدور معه حيث دار.
قال مولانا عليه السلام: أما قصة الغمامة فمتعذر ذلك فيها، وأما قصة الفيل فلا تعلق لها به صلى الله عليه وآله وسلم، وإنا هي من كرامات البيت وآياته، وقد رد على أبي القاسم بأن المتقدم على دعوى المدعي للنبوة لا تعلق له بدعواه، فهو معه، ومع غيره على سواء، ونحو ركون وقوعه اتفاقاً كسائر الاتفاقيات لعدم الخصوصية.
قال مولانا عليه السلام: أما مثل قصة الغمامة ففيها دلالة على عظم بيان المظلل بها ولها خصوصية /78/ به دون غيره، فالواو تلزم من قول أبي القاسم أن يجوز في المعجز الواقع بعد الدعوى كونه معجزة ليبنى آخر سيأتي لا لمن ظهر على يديه، وفيه نظر فإن تعلقه بدعواه، ووقوعه بعد إخباره به، وقوله: حجتي أنه يقع كذا فوقع قاض تكونه معجزة له لا لغيره، وقد قيل في الرد عليه: إن قصة الفيل والعمامة كانتا معجزتين لنبي كان في ذلك الوقت، قيل إنه خالد بن سنان الذي قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ابنته حين وفدت عليه أن أباها بنى ضيعة قومه، وفيه يعد، واعلم أنه لا خلاف في الحقيقة، فإن أبا القاسم يوافق الجمهور في أن المعجز المتقدم على الدعوى ليس دليلاً على صدق المدعي، ولا كإفناء في الحجة على نبوته، وإنما هو إرهاص من قبيل الألطاف الباعثة على تصديقه في المستقبل وقبول دعواه بعد ظهور معجزته المتعلقة بها، والجمهور لا يمكنهم مخالفته في ظهور ما ظهر من كرامات النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل بعثته الدالة على عظم شأنه وعلو مكانه، وكذلك المسيح وغيره، وإنما يكون محل النزاع تسمية مثل ذلك معجزاً فالخلاف لفظي.
تنبيه
من أمثلة المعجزة المتقمة عند أبي القاسم التي يجعلها إرهاصاً كلام عيسى في المهد، وهو مثال واضح، لكن لا يستقيم إلا على مذهبه في أن عيسى حينئذٍليس بنبي، وأما البصرية فذهبوا إلى أنه عليه السلام كان نبياً حينئذٍ لقوله: {واجعلني نبياً} وظاهره في الحال، ولا مانع.
قيل: وكلامهم لا يستقيم إلا مع البناء على أن الله أكمل خلقته عقيب ظهور معجزته بالكلام في المهد، وأنه لم يبق على حاله في صغر الجسم ساعة واحدة بعد ذلك؛ لأن بقاءه صغيراً ينفر عن القبول.
قال جار الله في كشافه: واختلفوا ي ثبوته، فقيل: أعطيها في طفوليته، وأكمل الله عقله واستنبأه طفلاً نظراً في ظاهر الآية، وقيل: معناه أن ذلك سبق في قضائه أو جعل الآتي لا محالة كأنه قد وجد.
قوله: (وأجاز غيره تراخيه).
اعلم أن كلامه مشعر بوقوع الخلاف في جواز التراخي، ولهذا استحسن التفضيل الذي ذكره، وذهب إليه، والظاهر أن جواز التراخي متفق عليه، لكن لا يكفي إلا إذا اختر به ذلك النبي فوقع مطابقاً لخبره؛ إذ لو لم يخبر به لم ين له به تعلق، ولو لم يطابق لكان دالاً على كذبه، فكلام المصنف لا يخلوا عن انصراب وأشد انصراباً من ذلك.
قوله: (فأما التقدم) إلى آخره بعد أن قد تقدم ذكره لخلاف أبي القاسم، ولم أقف لغيره على مثل ما ذكره من حكاية جواز التقدم مطلقاً أو مع كنه في نفس المدعي والتحقيق في الخلاف هو ما قدمناه، وقد ذكر بعضهم مرتباً من تفصيله في بيان التراخي، قال: لأنا مكلفون بتصديقه عند أن يدعي فلا بد من معجزة عقيب الدعوى وإلا كنا قد كلفنا ما لا نعلم، وهو قبيح، وفيه نظر، فأما إنما نكلف تصديقه عقيب ظهور المعجز، فإذا كان لله حكمة في تقدم الدعوى وتأخر المعجز جاز ذلك وتأخر التكليف بالتصديق، ولا مانع كما في تأخير بعثته من الأصل.
فصل
قوله: (ومن شروط دلالة المعجز) إلى آخره.
إنما أتى بمن لأن المذكور في هذا الفصل بعض الشروط وبعضها قد دخل في ضمن تحقيق المعجز في الفصل الذي قبل هذا، وهو أن يكون على يد مدعي النبوة، وأن يكون عقيب الدعوى، وأن يكون ما ناقضاً للعادة، وهذا الشرط وهو كونه خارق للعادة، وإن كان من دخل في الفصل الأول وتضمنه ألفاظ الحقيقة بغيره، لذلك ترك المصنف إعادة ذكره فهو يفتقر إلى بسط وتحقيق وينبغي استيفاء الكلام عليه، وحاصله أن يقال: المراد بكونه خارق للعادة وناقضاً لها نقض عادة من كان المعجز بين ظهرانيهم، وإن لم ينقض عادات الخلق على الإطلاق وإن كان في المعجزات ما هو كذلك، ومثال ما ذكرناه نزول الثلج، فإنه ناض للعادة، فما كان من الأقطار شديد الحر خاصة في أيام الفيظ وكاللسان العربي حيث تكون الولادة والنشأة في بلاد السودان، وقد يكون نقض العادة في زمان دون زمان /79/ كأن يحطب ثمره ويدرك في غير جنيها إذا عرفت هذا، فأعلم أن شروط المعجز.
قيل: جنسه هذه الثلاثة التي أشرنا إليها والسرطان اللذان ذكرهما المصنف في هذا الفصل.
وقيل: بل أربعة أن يقع عقيب الدعوى، وأن يكون ظهور المعجز مع بقاء التكليف وإلا جوزناه خارق للعادة من جملة الخوارق الجاذبة حال ارتفاع التكليف كخروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها، كونه من فعل الله، وكونه يتعذر مثله منا عادة، لوو دخل تحت جنسه مقدورنا، وهذان الأخيران ينبغي أن يعدا شرطاً واحداً، وهو أن يكون فعلاً لله أو جارياً مجرى فلع، وقد قيل: لا حاجة إلى أن يشترط بقاء التكليف لأن الكلام في المعجز الدال على صدق المدعي للنبوة، والنبوة يستلزم بقاء التكليف؛ إذ لا بد فيها من تكيف جديد على ما مر.
قوله: (أو جارياً مجرى بعلة).
المراد به ما لا يحصل إلا بأن يؤتي الله فاعله من القدرة ما هو زائد على المعنى، وذلك كالمشي على الهواء، وعلى لاماء، وتبق الجبال.
قوله: (فلق البحر ونتق الجبل وهو من الأجناس المقدورة للخق).
يعني؛ لأن مرجعهما إلى الاعتماد والأكوان، وهما من أجناس مقدورات العباد، ونتق الجبل قلعه ورفعه وهو من فعل جبريل عليه السلام معجزة لموسى، وذلك أن موسى لا جاء قومه بالألواح وقرأوا ما فيها من التكاليف الصعبة عظم عليهم ذلك فامتنعوا من قبولها فأمر جبريل عليه السلام فقلع الطور من أصله ورفعه وظلله فوقهم، وقال لهم موسى حينئذٍ إن قبلتم وإلا ألقي عليكم، فقبلوا، وفلق البحر شقه، والفصل بين بعض منه، وبعض حتى صارت فيه مسالك فكانوا يسلكونه ويتفرق الماء عند سلوكهم، روي أن قوم موسى قالوا له حين سلوكهم في الحبر: ما لنا لا نرى أصحابنا. قال: سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم، قالوا: لا نرضى حتى نراهم، فقال: اللهم أعني على أخلاقهم السيئة، فأوحي إليه أن قل بعصاك هكذا، فقال: بها على الحيطان، فصارت ...... فتراؤوا فيها وتسامعوا كلامهم، وفي المصنف وهو من الأجناس المقدورة للخق ما يشعر بأن الفاعل له الله، وقد تقدم أن نتق الجبل، فعل جبريل، وأن لموسى عملاً في فرق الحبر على ما ذكره أهل التفسير.
فصل
والفرق يبن المعجز والحيل من وجوه أعلم أن الحيل على ضربين:
أحدهما: بطريق السحر، ومعناه أن يرى الأمر ظاهراً والباطن بخلافه، كأن يخيل أن غير الحي حي، وأنه يذبح الحيوان ثم يحييه، ونحو ذلك.
الضرب الثاني: بطريق المشعبذة وهي على وجهين:
أحدهما: ما ذكر في السحر، لكن يتمير عنه باعتراف المشعبذ أنه لا حقيقة لذلك بخلاف الساحر، فإنه الذي يدعي أن لفعله حقيقة.
الوجه الثاني: أن يفعل صاحب الشعبذة ما لا يعتاده أكثر الناس ولا يتمكن منه غيره، لكثرة ممارسته، لذلك كن يمسي على ندية ورحلته في الهواء أو يمسي على الخيل الذي لا يعتاد المشي على مثله، ويقعد عليه، ويضطجع مع كون ذلك صحيحاً نحققاً، فالسبب فيه مايتفق لبعض الناس من الخفة في دييه وممارسة ذلك من وقت الصغر مع اعتياد هذا مخصوص بياني معه، هذه الأفعال.
قوله: (والمعجز على ظاهره).
يعني يعلم حقيقته وما عليه بالضرورة كالعلم بفلق لابحر ونتق الجبل، وإخراج ...... من الصخرة، واستمرار حياتها، قال تعالى في معجزات موسى: {واستيقنتها أنفسهم}.
فصل
قوله: (بل يدركها كل من مارسها).
ليس على إطلاقه لأنا نعلم أن كثيراً من الناس لا يدركونها ولو بالغوا في تعلمها.
قوله: (ومنها أن الجبل لا يدوم) إلى آخره.
هذا في معنى الوجه المتقدم، وهو قوله: أن الجبل يرى على وجه، وهي في الحقيقة على خلافه، لكن إعادة على تحرير آخر فيه نظر، فإن قوله: لا يدوم مشعر بأن لها ققة، لكنها شريعة الزوال، وليس كذلك، فإنه لا حقيقة لها، من الصل، فلا يمكن وصفها بالانقطاع، وإنما الذي ينقطع يخيل صحتها، ولا يدوم إلتباس الأمر فيها.
قوله: (أن الجبل يحتاج إلى آلة).
يعني في الأغلب، وقد ذكر من وجوه العرف غير ما ذكره المصنف من ذلك أن الجبل توقف أصولها وتعرف بطلانها عند شدة البحث بخلاف المعجز، ومن ذلك أن الأنبياء لم تجر عادتهم من حال الطفوية إلى دعوى النبوة بمخالطة المختالين، ولا التعلم منهم والمتالون يعرف منهم التعلم والمخالطة لمن يكتبهم ذلك.
تبنيه
اعلم أن المجوج إلى بيان وجوه الفرق بين المعجز والخيل أن الباقي لقاعدة النبوة رغم في معجزات الأنبياء أنها خيل، قالوا: فن الجائز أن يظفر بعض الناس ويطلع على كثير من خواص الأشياء فيتأتى منه ما يمتنع على غيره، ومن المعيين لذلك البراهمة، وحكي عن الباطنية، وذكره ابن الراوني، حكى ابن الأصمعي عن ابن الروندي وابن زكريا في الطعن على المعجز أن أيها أمور يتمكن من فعلها بالخيل والمواطأة، قال ابن زكريا كما فعل بني المجوس فإنه نصها الصفر المذاب على صدره، لوم يؤذه عن بعض جذام إلا وبان أنه كان منجساً على سيف قد خرج من ظهره، ولا يسيل منه دم بل ماء أصفر، وذكر أنه رأى رجلاً يتكلم من إبطه وآخر لم يأكل خمسة وعشرين يوماً وهو مع ذلك ناعم البدن وكلامهم ظاهر البطلان وحكاياتهم هذه غير موثوق بها وأن صحت فأين هي من إحياء الموتى وفلق البحر وإخراج..... من الجبل ورفع الطور، وإن صح ما يقولوه، فلعل واضح الصفر على صدره حصل عليه من الأدوية ما يمنع النار من الإحراق، فقد قيل: إن ناساً يدخلون التنور المسحور، وصاحب السيف مشعبذ لا محالة، ومثل هذا كثير من من أفعال المشعبذين والمتكلم من إبطه
القول في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
اعلم أن هذا الفصل هو المهم المقصود من هذا الباب والقطب الذي يدور عليه رحى الكلام في النبوات، وهذه المسألة أصل للقواعد الشرعية، وعمدة مسائل أصول الدين بعد معرفة توحيد الله وعدله وعليها مدار العلم بجميع أنبياء الله وملائكته وأحوال الآخرة وجميع التكاليف العملية إلاَّ ما قضى به العقل منها قضية مطلقة، ولهذا ينبغي أن نرمق إليه عيون الحد ونستفرغ في الإطلاع على حقائقه وتفصيله الجهد.
قوله: (وقد خالف في ذلك أهل الإلحاد).
الأولى على ذكر خلافهم هنا لأنَّه مع جحدهم للصانع المرسل لا يتصور منهم إثبات رسول له، وإنَّما ينبغي ذكر خلاف من يثبت الصانع كاليهود والنصارى والمجوس والصابئين والبراهمة وعباد الأوثان والنجوم، فإن هؤلاء يقول ثبوته صلى الله عليه وآله وسلم إلاَّ فرقة من اليهود وقد ذكرهم المصنف ونسبهم إلى البَلَه؛ لأنهم إذا اعترفوا بكونه رسولاً إلى العرب فالرسول صادق في كل ما جاء به ، وقد جاء بأنه رسول إلى الناس كافة فلا بد من تصديقه. قيل: ومن المخالفين في ثبوته صلى الله عليه وآله وسلم الباطنية والمطرفية لكن المذكورون أولاً من المخالفين خالفوا لفظاً ومعنى، وهؤلاء خالفوا في المعنى فقط، وأما اللفظ فيوافقون فيه ويقرون بأنه رسول الله وإنَّما حكم عهلمي بالخلاف في المعنى؛ لأنهم ينكرون كونه منعوياً من جهة الله على الحد الذي يقوله، فمنهم من يوقل النبوة تفعلها النبي لنفسه فمن شاء كان نبياً، ومنهم من يقول: هي جزاء على العمل ، ومنهم من قال: هي حكم وتسمية، والباطنية يقولون: النبوة ما دة ترد من السابق على قلب من وقعت للتالي به غيابه، وأن المعجزات تظهر على يد النبي لما اختص به من العلم بطبائع الأشياء وخواصها وهي من قبيل الحيل.
قوله: (وقال بعضهم؛ لأنَّه ليس له معجزهم قيمة).
وإلى مثل هذا ذهبت النصارى وعللوا بمثل هذه العلة، قال الحاكم: واتفقت اليهود على نبوة أنبيائهم بعد موسى، وأنه أنزل بعد التوراة سبعة عشرة كتاباً إلاَّ السامرية، فتقول نبوة من بعد موسى وهارون ويوشع واتفقت اليهود أيضاً على إنكار نبوة المسيح، إلاَّ شرذمة قليلة وعلى إنكا نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلاَّ فرقة اعترفوا بكونه أرسل إلى العرب خاصة، واتفقت اليهود أيضاً على تأبيد شريعة موسى إذا عرفت ذلك واعلم أن الطريق إلى ثبوت نبوة النبي مطلقاً، أما أن ينص عليه نبي آخر قد علمت نبوته، وأما أن يظهر المعجز على يديه، فالطريق الأولى لا يعتمد عليها في إثبات نبوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم إذ ليس في زمانه نبي أخبر بثبوته والمتقدمون لم يرد عنهم أخبار صريحة في ذلك، وإنَّما وردت عنهم بشائر تبني له صفات كصفاته عليه السلام مع كون الرواية عنهم في ذلك غير متواترة بالنظر إلى غير القرآن، وأما الطريق الأخرى فهي المعتمد عليها والمرجوع إليها، ومعجزاته صلى الله عليه وآله وسلم كثيرة قد دونت فيها أسافر كثيرة لكن عادة المصنفين أن يقدمو منهما المعجز العظيم وهو القرآن /92/ الكريم؛ لأنَّه أوقع في النفوس وأضح في الدلالة لوجوه لا يعقلها إلاَّ العالمون منها، إن وجه إعجازه الفصاحة الَّتِي هي صيغة المبعوث هو بين أطهرهم وكانوا فرسانهما ومن ينتهي إليه غايتها؛ لأن المعجز من حقه أن يكون من جنس ما يتعاطاه أهل ذلك الزمان الذي ظهر فيه وتولى به على حد لا يستطيعون الإتيان بمثله، وربما أن معجزته لو جعلت من قبيل إحياء الموتى وإبراء الأكمه لحيل إليهم أنهم لو كانوا أطباء لأمكنهم ذلك، ومنها أنَّه معجز محفوظ مع المسلمين يتداولونه أبداً وينقلونه نقلاً متواتراً، ومع ذلك فلا يتلى على وجه الدهر ولا يندرس على مرور الأيام ولا يمكن المخالف إنكاره، فهو أبلغ من معجز يوجد بمعدم، ولا ينكر في الأزمان، ومنها أنَّه لاستمراره في كل
... كالمعجز المتكرر الحادث الذي ينكر التحي به لأهل كل زمان، ولا كذلك غيره ومنها أن سورة وآياته مشتملة على التكاليف العلمية والعملية من فعل وترك ولا كذلك غيره من معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم. قيل: ومنها أن كون القرآن معجزاً يحتاج إلى كلفه ونظر ول يحصل معرفة ذلك إلاَّ بعد مشقة وما حصل كذلك، فالنفوس أحرس على حفظه وملازمته.
تنبيه
قد ذكر بالطريق إلى معرفة نبوة الأنبياء فأما طريق النبي إلى معرفة نبوة نفسه فبان مجيء جبريل أو غيره من الملائكة بذل لكن لا بد أن يظهر على يدي الملك معجزة يدل على صدقه وطريق جبريل إلى معرفة رسالة نفسه سماع كلام رب العزة بخلقه في جسم ويقرنه بما يدل على أنَّه ليس من كلام غيره يجيب أن جبريل يعلم ذلك ولا ينكر فيه، قال: مولايا عليه السلام ومثل هذا يتصور في حق النبي فيعلم كونه مرسلاً كما كان في حق موسى عليه السلام.
قوله: (فهي معلومة ضرورة بالتواتر).
قيل: ينبغي أن يفصل فيها فيقال: أما كونه صلى الله عليه وآله وسلم ادعى النبوة فلا شك أنَّه معلوم ضرورة لجميع المكلفين، وأما غير ذلك فيعلمه كل مكلف مع البحث والمخالطة لأهل العلم أو من يتصل بهم والإقامة في أمصار المسلمين وهجرهم؛ غذ من المعلوم جهل كثير من أهل الإسلام بذلك.
قوله: (وعني القرآن من المعجزات).
فيه نظر؛ لأن مثل هذا بيعد إسفالاً وهو مغيب. قيل: بالأولى أن يجاب بأنا نعلم أن بعض القرآن أنزل على حسب ما ... للرسول علهي من الحوادث وهذا القدر كبير من سورة فيستقل معجزاً كافياً في الدلالة على الصدق كقوله تعالى: {وادارؤوا تجارة أو لهواً} الآية {وإذا سر النبي} الآية {إذ أخرجه الذين كفروا} الآية {وإذ يقول للذي أنعم الله} الآية {ويوم حنين} الآية {ولقد نصركم الله بدر} الآية وغير ذلك.
قوله: ( وهو أنَّه تحدى العرب).
قيل: التحدي: طلب الفعل منن عرف الطالب عجزه عليه إظهاراً لعجزه عنه مأخوذ من حد الإبل وهو حبها على السير بكلام مخصوص.
قوله: (لكن بعد الفحص هذا هو الأصح).
وقد قيل: أنَّه معلوم ضرورة على الإطلاق. وقيل: بل يعلم استدلالاً فقط، فإن كتاب الله مشحون بآيات التحدي وهو قول الجمهور.
وقوله: (إنه كان يعشي محافل العرب).
وجمع محفل اسم كان من حفل القوم حفلاً وحفولاً إذا اجتمعوا.
قوله: (أنه ان يدعي الفصل على جميع الناس).
قيل: وتحرير هذا الوجه أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان في قومه صغيراً يتيماً فقيراً وفيهم ذوو الزعامة وأولو النزه والمكان الشهير الذي لا يدافع صاحبه فيما يقول ثُمَّ ادعى سفيه أحلامهم وضلال سعيهم واستحقار دينهم، وسب آلهتهم الَّتِي هي عندهم أحب من الآباء والأبناء واعدهم مع ذلك ناراً يصلونها في الدنيا والآخرة إن لم يطيعوا.
قوله: (ويمتثلوا مره، ويكون له عليهم حكم السيد المالك مع العبد المملوك، ولم يكن منه ذلك إلاَّ لما جاء به من القرآن).
وهذه الأمور الَّتِي ادعاها يصيبهم منها من الغم والصغار أعظم ما يكون من التحدي ويحملهم ذلك بالضرورة الَّتِي يعتاد من البشرية على معارضته فيما ادعى أنَّه يستحق هذه /93/ الأحوال به مع ماهم عليه من التجوه والكبرياء وعدم الانقياد.
قوله: (وبعد فالقرآن مشحون).
أي مشحون مملوء يقال: شحن السفينة أي ملأها قال الله تعالى: الفلك الشمحون وهذا على جهة المبالغة، وقد قيل: إن كتاب الله تعالى مشحون بذلك من جهة المعنى.
قوله: (قبيل هذا الأمر العظيم لا يتم كتمانه..) إلى آخره.
فيه نظر لأنكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات وحي عنا غليه سهل يسير بخلاف ما رامه خلفاء الدولتين، فإنهم أرادوا كتم شيء قد علمه الناس فشاع منهم.
قوله: (لنقلت معارضته على حد نقله).
قال الإمام يحيى في التمهيد: بل يجب أن يكون اشتهار المعارضة أولى من اشهار القرآن؛ لأن القرآن حينئد صير كالشبهة، وتلك العارضة كالحجة، ومتى كان لمر كذلك كانت الدواعي متوفرة إلى إسقاط أبهة المدعى وإبطال رونقه، وكان اشتهار المعارضة أولى من اشتهار الأصل.
قوله: (كمعارضة مسلمة وابن المقفع).
روي عن مسلمة في معارضة سورة الكوثر إنا أعطيناك الجواهر فصل لربك وجاهر ولا تطع كل شيح فاجر. وتعرفى إلى ابن المقفع معارضة ركيكة لا يعول على نقله، وأبلغ ما نقل من المعارضات، ما عرى إلى المتنبي الشاعر المعروف، فكان قد ادعى النبوة وتبعه خلق كثير من بني كلب وغيرهم، فحنس حتَّى كاد يهلك ثُمَّ تاب فأطلق، قال: والنجم الستار والفلك والدوار والليل والنهار إن الكافر لفي إخطار، امض على سبيلك وانف أثر من قبلك من المرسلين، فإن الله قامع بك زيغ من ألحد في دنيه، وصل عن سنبله وابن هذا على بلاغته من عدوته الكلام الإلاهي وجوده ألفاظه ومعانيه وحسن رونقه، قال بعضهم: ما أجهل أبا الطيب فيما رام، أين قوله: امض على سبيلك إلى آخره من قوله: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين}.
قوله: (فيما يتصل بالنفس والمال).
الذي يتصل بالنفس إقامة الحدود من قبل وغيره، وإبغائها في طعاته والجهاد معه ونحو ذلك، والذي يتصل بالمال أخذ الحقوق منه والستعانة ونحو ذلك.
قوله: (على أنَّه ليس من حق المعارضة أن تشابه المعارض من كل وجه..)الخ.
هذا الجواب ليس بالمطابق لأصل السؤال؛ لأن حاصل السؤال أن العارضة لا ينقطع بها السجادة، فجواب ذلك ما ذكره أولا، ولعله لمح إلى أن السائل متى على أن البعض لها وتقربت على اشتراط مساواتها فيكون النزاع في حصول التساوي، فأجاب بأن التساوي غير مشروط بل يكفي التشابه.
قوله: (وأما الملائكة فنحن وإن جوزنا قدرتهم على مثله إلىه.
قيل: أن قوله تعالى: {فأتو بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله } تجد لكل أحد من الجسن و والإنس والملائكة لأنَّه قال: فادعوا من استطعتم من دون الله أي ادعوهم إلى أن يعبثوا على الإتيان بمثله، فإنهم لا يستطيعون الإعانة على ذلك، وفي هذا إخبار بعجز من دون الله قد خلت الملائكة في ذلك.
قوله: (يكفي في العلم بكونه ناقصاً لعادة العجم..) الخ.
هذا كلام ركيك، فإنه ليس وجه إعجاز القرآن في حق العجم كونه ناقضاً لعادتهم أنفسهم، فإن كل كلام عربي فصيح أو غيره يثبت فيه ذلك وإنَّما وجه الاعجاز في حقهم هو وجه الاعجاز في حق العرب وهو كونه ناقصاً لعادة العرب مع كونه من جنس ما يتعاطونه، فإذا علم العجم أنَّه أتى بكلام من جنس كلام العرب وارد على صنعهم وعجزوا مع ذلك عن التيان بمثله كفاهم ذلك في كونه معجزاً دالاً على صدقه، وقد ورد من الأسألة في هذه المسألة أسئلة أخرى غير ما ذكره المصنف فمنها أنَّه كيف يتبنا لكم الحكم بكون القرآن معجزاً مع أن كثيراً من سور القرآن، وآياته محكية عمن تقدم من الأنبياء والأمم بكيف يحتج بها ويقال: إنها كلام لله ومعجزة، وقد أجيب بأن الكلام الوارد في الحكاية هو كلام الله وفعله.... والصادر عن الأنبياء والأمم هو معناه حفظ، ومنها أن من سور القرآن ما أتا به وألففاظه قليلة كسورة الكوثر وشبهها ومن أصولكم أن كل سور مستقلة بالاعجاز على انفرادها، ومن التعبد أن يتعذر على الفصحاء الاتيان بقدر ثلاث آيات ألفاظها جزيلة /94/ ومعانيها رائقة، وأجيب يمنع ذلك، فإن الفصحاء وإن أنواععاً هذا حاله فلن يرتقى إلى درحة القرآن إلى درجة القرآن في حسن المعاني وجودة الألفاظ، ومالها من الدرونق والطلاوة، وأجيب أيضاً بأنه لا يمتنع حمل ما ورد من التحدي بالسورة على السورة البار الَّتِي يطول سياقها، قال مولانا عليه السلام: وهذا خلاف الظاهر وما تم ما تكلف على العدول إليه.
تنبيه
قيل: ما ذكره المتكلمون من كون دواعي العرب متوفرة إلى المعارضة ليس على حقيقته ؛ لأنهم يعلمون ضرورة بعذرها عليهم، وما كان كذلك لم تتوفر الدواعي إليه، وإنَّما ينبغي أن يقال: دواعيهم متوفرة إلى التخلص مما لديهم من الحجة بإظهار العمجز وهم يعلمون أن ذلك لا يتم إلاَّ بالمعارضة، فإذا يبلغوها علمنا عجزهم عنها، قال مولانا عليه السلام: هذه منافشة لا حاجة إليها، فإن المراد أن دواعيهم متوفرة إلى المعارضة على تقدير إمكانها، فلو كانت محكته لحصلت منهم، فلما لم يحصل ذلك دلتا على عدم الإمكان.
فصل في وجه إعجاز القرآن
قوله: (ذهب الجمهور إلى وجه إعجازه هو كما ذكر).
قيل: وقد اختلف المتكلمون في حقيقة ذلك من الفصاحة كقوله: {وقيل يا أرض بلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين}. وقوله تعالى: {بل يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا زاهق} وقوله: تعالى: {واخفض لهما جناح الذل من الرحة} الآية، وقوله تعالى: {كم تركوا من جنات وعيون} الآيات، وقوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} وبعضه ليس كذلك.
قوله: (واعلم أن الفصاحة) إلى آخره.
هذا معنها المصطلح عليه وأما في الأصل فتنبي عن الإبانة والظهور يقال: فصح الأعجمي وأفصح إذا انطلق لسانه وخلص من اللكنة، فلم يلحن وأفصح به أي صرح ومعنى كونها في مفرد الألفاظ ومركبها أنَّه يحصل حقيقتها وما هيتها في كل من النوعيين.
قوله: (وتوصف بها الكلام والمتكلم).
كان الإكمال أن يقول ويوصف بها الكلمة والكلام والمتكلم؛ لأن الكلمة مما يحصل معنى الفصاحة فيه، يقال: لكمة فصيحة وكلام فصيح في النثر وقصيدة فصيحة في التعلم ويقال: كانت فصح وشاعر فصيح.
قوله: (والبلاغة كالفصاحة) الخ.
يعني في الاصطلاح وأما في أصل اللغة فيعني عن الوصول والنتهاء.
قوله: (فلا يقال كلمة بليغة).
يعني ويقال: كلام بليغ ومتكلم بليغ، وقد تفسر في الاصطلاح بأنها التيان بالكلام فصيحاً مع مطابقته لمقتضى الحال.
قوله: (فالفصاحة في اللفظ المفرد) إلى آخره.
مثال التنافر لفظه مستسررات في قول امرء القيس: غداين مستسررات إلى العلى. وهو حال للكلمة يقتضي كونها ثقيلة في نطق اللسان بها ومثال الغرابة لفظه مسرحاً في قول العجاج: ووقاحماً ومرسناً مسرجاً. والمرسن الأنف ومراده بقوله مسرحاً: إما أن أنفه كالسيف السريحي في الدقة أو كالسراح في البريق وفي كلهما غرابة ومعناها كون الكلمة وحسنه غير ظاهرة المعنى، ومثال مخالفة القياس لفظه لأجلك في قوله الحمد لله العلي الأجلل.
قال القياس الأجل أن الإدغام واجب هاهنا وضابط المخالفة أن يؤتى بالكلمة على خلاف القانون المستنبط من نبع لغة العرب كوجوب الإعلال والإدغام وغير ذلك مما يشتمل عليه علم التصريف.
قوله: (وفي اللفظ المركب خلوصه) إلى آخره.
ويعتبر مع ذلك كون مفرداته صحيحة، والمراد يضعف التأليف أن يكون تأليف آخر الكلام على خلاف قانون النحو، أما عند النحاة كافة أو عند معظمهم بحيث يكون ممتنعاً عن الجمهور كالإضمار قبل الذكر لفظاً ومعنى نحو ضرب غلامه زيداً وإن أجازه بعض أهل النحو والتنافران تكون الكلمات ثقيلة على اللسان /95/ وينقسم إلى مثناه في الثقل كقوله: وليس قرب قبر حرب قبر. وإلى ما هو دون ذلك كتكرار لفظه أو مدحه في قول أبي تمام: كريم مني أمدحه أمدحه والورى معي ومتى ما لمته لمته وحدي.
والتعقيد ألا يكون دلالة الكلام على المراد منه ظاهره إما لخلل في النظم بأن لا تترتب الألفاظ على وفق ترتيب المعاني سبب تقديم أو تأخير أو حذف أو إضمار أو عني ذلك مما يوجب صعوبة فهم المراد كقول الفرزدق في مدح إبراهيم بن هشام المخزومي خال هشام بن عبد الملك:
وما مثله في الناس إلاَّ تملكاً ... أبوامه حي أبوه يقاربه
فإن مقتضى الترتيب ليس مثله في الناس حي يقاربه إلاَّ مملكاً أنوامه أي أم ذلك المملك أبوه أي أبو إبراهيم الممدوح، وأما الخلل في انتقال الذهن من المعنى الول المفهوم بحسب اللغة إلى المعنى الثاني المقصود لبعد اللوازم وخفا القرائن كقول العباس بن الأحنف:
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا ... وتسكت عينياي الدموع لتجمدا
معناه أن عادة الزمان الاتيان بنقيض المقصود فصار من بيانه أن يطلب عكس ما يريد ليقع ما يريد فيطلب بعد الدار ليقع القرب وتسكت الدموع والمراد الكناية عن الكآبة والحزن لفراق الأحبة وهذا صائب؛ لأنَّه كثيرياً ما يجعل البكاء دليلاً على الحزن لكنه أخطأ في قوله لتجمدا وجعله كناية عما يوجبه التلاقي والوصال من الفرح والسرور؛ لأنَّه إنَّما ينتقل من جمود العين إلى نحلها بالدموع لا إلى ما قصد.
قوله: (مع مطابقة المقام) إلى آخره.
هذا خلاف ما يذكره أهل علم البلاغة، فإنهم لا يشرطون في فصاحة الكلام مطابقته للمقام، وإما هذا القيد شرط في الكلام البليغ، فالبليغ من الكلام ما جمع شروط الفصيح مع مطابقة المقام، وربما استعملت الفصاحة في مكان البلاغة وإلى هذا لمح المصنف والله أعلم.
قوله: (فإن المقامات مختلفة) إلى آخره.
يعني أن المقام الذي يناسبه تعريف المسند غليه أو المسند بأي أنواع التعريف يباين مقام تنكيره والمقام الذي يناسبه إطلاق الحكم أو التعلق أو المسند إليه أو المسند أو متعلقه ببيان مقام يفسد شيء من مؤكد أو أداه قصر أو تابع أو شرط أو مفعول أو ما يشبهه، والمقام الذي ينابه تقديم المسند إليه والمسند أو متعلقاً به بباين مقام تأخيره، والمقم أو ما يشبهه والمقام الذي يناسبه ذكر ما ذكر بباين مقام حذفه، والمقام الذي يناسبه الاتياه بالمسند غليه أو المسند أو أو غيرهما ظاهر يباين مقام الاتياه به مضمراً والمقام الذي يناسبه فصل إحدى لاجملتين عن الأخرى بأن لا يؤتى بالواو العاطفة تباين مقام الوصل وهو الاتيان بها، والمقم الذي يناسبه الاتحاد وهو الإتيان بلفظ قليل له معنى كثير يباين مقام الإطناب وهو عكس الاتحاد، وكان الأحسن أن يقول: يباين مقام خلافه ليشمل الاطناب والمساواة وهي حيث يستوي اللفظ والمعنى.
قوله: (وبالجملة فلكل مقام مقال).
يعني مما ذكره وغيره كخطاب الذكي وخطاب الغبي بأن مقام الأول يباين مقام الباقي فيتناسب الذكي من الاعتبارات اللطيفة والمعاني الدقيقة مما لا يناسب الغبي.
قوله: (ولا بد في الكلام الفصيح من جزالة اللفظ وحسن المعنى، المراد بحزالة اللفظ ما سبق من جمعه لشروط الفصاحة والمراد بحسن المعنى مطابقة الكلام للمقام، وهذا لا بد منه في الكلام البليغ لا في الفصيح، كما ذكره المصنف فإنه يشترط فيه جزالة اللفظ فقط.قوله: وقد ذهب النظام وغيره أراد بغيره أبا إسحاق النصبي المعتزلي والشريف المرتضى الإمام ومقتضى مذهبهم أن الله تعالى لم ينزل القرآن إلاَّ لبيان الحلال والحرام وتعليم سائر الأحكام لا ليكو من حجة على النبوة وإنَّما لم يعارضه العرف؛ لأن الله تعالى صرفهم عن ذلك وسلبهم علوم معارضته مع قدرتهم عليها، هكذا ذكر الإمام يحيى في التمهيد، قال مولانا عليه السلام: وفيه نظر لأن المشهور/96/ أن الصرفة وجه إعجاز القرآن ذلك تصريح بإعجازه، ولا معنى لكونه حجة على النبوة إلاَّ كونه، فالمشهور عنهم خلاف ما ذكره وأول كلامه قاض بذلك، فإنه قال: وأما تفاصيل وجوه الاعجاز فلليأس منه مذاهب المذهب...... الرواية الشارح العلامة في شرح مفتاح السكاكي لكن كلامه أشد نظاماً وأبلغ أحكاماً فقال ما لفظه: أن العلماء اختلفوا في إعجاز القرآن، فذهب لنظام إلى أنَّه ليس بمعجز في نفسه، وأنه تعالى ما أنزله ليكون حجة على الناس سنه عليه السلام بل هو كسائر الكتب المنزلة لبيان الأحكام من الحلا والحرام والعرب إنَّما لم يعارضوهه لأن الله صرفهم عن ذلك وسلب علومهم به وقدرتهم عليه؛ لا لأن الاتيان بمثله غير ممكن وذهب الباقون إلى أنَّه في نفسه معجز، وقد حكي عن أهل هذا القول الاختلاف في تفسير الصرفة هي ممَّن قابت بل هي سلب الدواعي إلى المعارضة عم أسبابها الَّتِي جرت العادة بتوفر الدواعي عندها، وقد تقدم بيان مقتضى .... عنهم، ومن قائل أنَّها سلب .... الَّتِي يمكن معها العارضة وقد اشار المصنف إلى ذلك والرد عليه.
قوله: (لأن المعلوم ضرورة خلاف ذلك).
يعني وهو أن دواعيهم كانت متوفرة إلى معارضة القرآن، وفيه نظر وإما المعلوم ضرورة حصول أسبابا توفر الدواعي في حقهم، وقد استدل على إبطال قول النظام ومن معه بوجوه غير ما ذكره المصنف منها أنا نعلم بالضرورة أن العرب كافة كانوا مستعظمين لفصاحة القرآن معجبين بها عجب لفظها حتَّى قال الوليد بن المغيرة: أن له لحلاوة وأن عليه لطلاوة وأن أعلاه لمورق وأن أسفله لموثق، وحاول مسلمة المعارضة فما قدر، وقال أمية لو شئنا لقلنا مثل هذا فلم يتم له وحاول كثير معارضته كالمعري وغيره، فعجزوا، ومنها أنهم لو كانوا يقدرون على مثله وإما صرفوا عنه لكان يعجبهم من تعذر ذلك عليهم بعد أن كان مقدوراص لهم كما أن ينالوا، قال معجز بي أن أضع يدي على رأس هذه الساعة وأنتم تتعذر عليكم ذلك وكان الأمر كما قال: لم يكن معجبهم من يضع يده على رأسه بل من يعذر ذلك عليهم بعد إمكانه، والمعلوم ضرورة أن يعجب العرب ما كان إلاَّ من فصاحة القرآن.
قوله: (أي له أسلوب يخالف أساليب الكلام).
قالوا: لا سيما في المقاطع مثل يعلمون ويجهلون ويتقون.
قوله: (واعترض) إلى آخره.
كان كان الأحسن أن يقال: وهو باطل أو وأبطل، وقد ذكر في إبطاله وجوه هي وضح مما ذكره المصنف منها أن الفصاحة قد تظهر فيهما ليس فيه أسلوب مخالف كالأية الواحدة معجزة كقوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} ولا أسلوب هناك لقصرها وتقارب أطرافها، ومنها أن يقال: وما وجه الاعجاز في الأسلوب إن كان الفصاحة لكنها مخالفة لسائر أساليب الكلام الفصيح، فهذا صحيح ومرجعه إلى قولنا: ,إن كان مخالفته للشعر والخطب من غير اختيار فصاحة، فهذا أخطأ لأن الفصاحة هي الأصل في الاعجاز، ذكر هذين الوجهين الإمام يحيى ويمكن تنظير الأول بأن الاعجاز إنَّما يتحقق بسورة أو بعده إلىأباحها، والثاني: بأنه احتجاج بنفس المذهب؛ لأن كون مجرد الفصاحة هي الأصل في الاعجاز نفس مذهبنا والخصم لا يسلمه ومنها أنَّه يلزم أن يكون كل من أتى باسلوب غريب ذا معجز وأسلوبه معجزاً ذكره الشارح العلامة.
قوله: (وكذلك ففيه مايصلح أن يدخل في الشعر كقوله وتخزهم}.
إلى آخره كان الأولى أن يقول ما يقارب أسلوب الشع؛ لأن الآيات الكرمة الَّتِي أوردها لم يناف أن يكون ذكلك إلاَّ مع تحريك ال الميم من نحرهم وإسباغها وزيادة الألف الإطلاب في مؤمنين والتلاوة ليست كذلك ومما يعرف من أسلوب الشعر.
قوله تعالى: {لن ينالوا البر حتَّى ينفقوا مما يحبون} فإنه مع حذف النونم يكون نونه بعض يجوز الشعر، ولعله الذي قصده المصنف بقوله: ونحو ذلك.
قوله: (وقال/97/ قوم: وجه إعجازه الاخبار عن الغيوب).
وذلك نحو قوله تعالى: {وهم من بعد عليهم سيعلمون في سبع سنين} وقوله تعالى: {سنلقي في قلوب الذين كفروا لعرب}، وقوله تعالى: {ليدخلن المسجد الحرم إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين} وغير ذلك مما يكبر عدة ولا يعد من ذلك الاخبار عن أحوال الآخرة؛ لأن معرفة صدقه يتوقف على صحة النبوة وصدق القرآن.
قوله: (واعترض) إلى آخره.
قد أبطل هذا القول بما ذكره المصنف وعده اتراضاً وبغيره من ذلك أنَّه يلزم من هذا القول إلاَّ ثبتت لمن كان في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم في أول الأمر العلم بوجه إعجاز القرآن؛ لأن الغيوب الَّتِي فيه منها ما هو سائق كإخبار الأنبياء الأمم الماضية بما كان معلوماً منها من غيره فلا حجة فيه، وما كان لا يعلم إلاَّ فيه لم يعلم صدقه إلاَّ بعد ثبوت النبوة ومنها ما هو متأخر كأخبار قيمة والجنة والنار، وهذا كما ذكر لا يعرف صدفه إلاَّ بعد ثبوت النبوة أو المشاهدة، ذلك في الدار الآخرة، ومنها ما هو متأخر عن وقت دعواه وإظهاره المعجزة وإن علم صدقه من بعد بالمشاهدة كالإخبار بغلبة الروم ودخول المسجد الحرام وانهدام الجمع فهذا لا يعرف صدقه إلاَّ من بعد فيلزم ألا تثبت الحجة على ثبوته إلاَّ بعد مدة مديدة من دعوته، ومنه أن الأخبار عن العبث جرى على لسانه صلى الله عليه وآله وسلم في غير القرآن كقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعمار: <تقتلك الفئة الباغية> وغير ذلك مما لا ينحصر فلو كان التحدي بالقرآن لأجل ما فيه من الإخبار بالغيب لوقع التحدي بغيره، لذلك قال الشارح العلامة: ولأن كلام صاحب الكهانة وأحكام ..... والتعبير مشتمل على الأخبار على الغيب مع أنَّه ليس بمعجز.
قوله: (وبهذا يبطل قول من جعل وجه الاعجاز السلامة عن التناقض والاحتلال يعني وهو أن ما أنزل الله من الكتب المتقدمة سالمة عن ذلك وليست بمعجزة.
قوله: (فإن الله إنَّما تحداهم بما يساويه في الفصاحة ينبغي أن يعد هذا وجهاً مستقلاً ولا يدرج في الوجه الأول لانفصاله عنه ويرد عليه أن التحدي إنَّما ورد بالتيان بمثل القرآن من غير ذلك الفصاحة، وإن كان مفتري، والمترى قد يكون متناقضاً بل هو أدخل في عدم السلامة من التناقض.
تنبيه
حكى الإمام يحيى مذهباً آخر في وجه الإعجاز وهو سلامة ألفاظهه من التعقيد وبراءته من الثقل على الألسنة الواقع في مثل قول لشاعر:
وليس قرب قبر جرت قبر. مثل أن هذا البيت لا ينسده أحد ثلاث مرات إلاَّ عثر فيه لسانه، قال: وهذا المذهب يحكى عن الحافظ وهو فاسد، أما أولاً فلأن أكثر الألفظاظ سليمة عن مثل هذا التعقيد، ولا تكاد توجد مثله إلاَّ نادراً، وأما ثانياً فلأن خلوةه عن التعقيد، إما أن ينضم إليه وصف الفصاحة، فهي كافية في الاعجاز ولا حاجة إلى ذكر سلامته من ذلك وإن لم ينضم لم يكن معجزاً؛ لأن أكثر الخطب والقصائد كذلك.
قال مولانا عليه السلام: السلامة من التعقيد والثقل .... آخر الفصاحة، فلم يخالف صاحب هذا المذهب إلاَّ بالاقصتار على بعض أجزائها وقصر وجه الاعجاز عليه.
قوله: فثبتأن الأصل في الاعجاز هو الفصاحة يعني لقيام الدليل على بلوغه فهيا مبلغاً لم يعط أحد من العلم ما يتمكن معه من الاتيان بمثله، ولبطلان الأقوال المخالفة لذلك قال الإمام يحيى ولأن التحدي ورد على سبيل الاطلاق غير متعلق بأمر معين بمعنى أنَّه لم يبين هل وقع بالفصاحة أو بالنظم أو بالمعاني ثُمَّ أن العرب لم يستعملوه عن ذلك فوجب أن يكون ترك الاستفهام لكونه جارياً على عادة التحدي المقررة بينهم، والمعلوم من عادة الشعراء والخطباء في حديثهم أنَّه لمجموع أمرين الفصاحة والبلاغة ولم يعهد قط في زمانهم التحدي بدقة معاني الشعر ولا باشتماله على الأخبار بالأمور لغيبية /98/ ولا يعدم التناقض فيجب في التحدي بالقرآن مثل ذلك.
قوله: وإن صح أن يكون في هذه الأمور المذكورة ما يصير وجهاً في الاعجاز، يعني كالإخبار بالغيب بعد تحقق وقوع مضمون الخبر، وكذلك سلامة جميعه من التناقض مع طوله وكثرته وتكرار الأخبار فيه مرة بعد أخرى.
قوله: فإن كل هذه لا يستقل وجهاً في الاعجاز، ولكنها مولدة).
يعني أن كل واحد منها لم يقصد جعله وجهاً في الاعجاز وسبباً في التحدي وإن كان يمكن استقلال بعضها بالدلاة على النبوة فقد قيل:
إن القرآن يتضمن ثلاث معجزات كل واحدة منها مستقلة في الدلالة على صلى الله عليه وآله وسلم:
الأولى: الفصاحة.
الثانية: الإخبار بالغيوب في المواضع المذكورة، ولا يعترض بالكهنة وأهل علم الفلك لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يختلف أخباره بالغيوب شيئاً من الاخلاف بخلاف هؤلاء فإنهم يمرحون الصدق بالكذب، بل كذبهم أكبر من صدقهم.
الثالثة: إخباره عن الأمم المتقادم عهدها، وأحوالهم وأقوالهم كآدم وابنيه ونوح، وما كان منهم وصالح ومعجزته وما كان منها وإليها وغيره، لك وغيره وطائفت اختاره ما في الأمم لكتب السالفة وخبر نقله الكتب المنزلة ولا يمكن أن يجعل السبب في ذلك مطالعة الكتب ولا دراستها أو مخاطلة علماء أول الكتاب والأخذ عنهم أو عن عبرهم؛ لأن تواتر العلم بأحواله وكونه لم يتعلق الخط ولا غاب عن وطئة عينه يحتمل أن يعلمه فيها بدفع ذلك القول في القرآن الكريم محروس عن المطاعن.
قوله: (اعلم أن الطاعنين في القرآن) إلى آخره.
أما الملحدة فطعنوا فيه قد جاء منهم في كون القرآن كلام حكيم، وأما غيرهم فطعنه فيه ليس قصداً منهم للقدح، وإنَّما كان ذلك لطر وشبهته عرضت له.
قوله: (فرقة تزعم أن فيه تبديلاً وتعبيراً)
هؤلاء هم الروافض، وقد نسبت إلى بعضهم وأكثر فرق الإسلام على أن القرآن محفظوظ لا زيادة فيه ولا نقصان ولا تحريف ، ومعنى التحريف تبديل لفظ بلفظ آخر وظاهر ما حكي عن الرافضة تجويز ذلك فقط، قالوا: فقد حكي أن سورة الأحزاب كانت حمل بعير وسجر بين الصحابة في كثير من الآيات وبعض السور خلاف شهير. قيل: ومن المالفين هنا الباطنية أرادة منهم لهدم قواعد الشرع بالحيلة لما عجزوا عن الشرف وليلبسوا على المسلمين دينهم لئلا يميزوا بين المشروع وغيره، والإمامة إنَّما تزلوا بغرور أولئك، فإذا ألزموا عدم الوثوق بشيء من الأحكام . قالوا: إما يرجع إلى الإمام ويعرف منه الزيادة والنقصان وكلامهم باطل بما ذكره المصنف ولأن في تجويزه هدم للإسلام إذ لا يوثق مع ذلك شيء من الأحكام لتجويز التبديل والزيادة وحذف الناسخ وإبقاء المنسوم، وكذلك القصص والأخبار عن قيمة وعن الجنة والنار وهي معلومة ضرورة من الدين، فما أدَّى إلى تجويز بطلانها فهو باطل قطعاً؛ لان ما ذكروه من تجويز الزيادة بقدح كونه معجزاً؛ لأنَّه قد أمكن العباد أن يأتوا بمثله.
قوله: وقد قال تعالى {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} يعني ولا يستقيم أن يكون المراد إلاَّ حفظه عن الزيادة والنقصان والتبديل لأحرفه وألفاظه.
قوله: (وأشباهها).
يعني كقوله تعالى: {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ}، شبهه المخالفين أنَّه كان فيما يتلى: (الشيخة والشيخة إذا زنيا فارجموهما) وكان أيضاً مما يتلى: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لا يبغي إليهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاَّ التراب ويتوب الله من تاب) ونحن نجيب عليهم بأنه إن صح ما ذكروه فأكثر ما تواتر القرآن السبع، فذهب الجمهور إلى تواترها لا غيرها، وذهب بعضهم إلى كونها أحاديثة، قيل: وهذا مما عدا الهتاف كتخفيف الهمزة وكيفية الادغام والمد والغنة، فهي أحادية اتفاقاً، وقيل: بل الخلاف فيها كغيرها ممَّن قال بالتواتر/ 99/ في القرآن، قال به فيها، واحتج الجمهور بأن من القرآن نحو ملك ومالك، فلو كانت غير متواترة لكانت هذه اللفظة غير متواترة، وهي بعض من القرآن فيكون بعض القرآن غير متواتر، ولا يمكن أن يحكم بالتواتر على ملك وحده أو على مالك ويصار إلى أحدهما بعينه ويقال ذلك الواحد هو القرآن؛ لأنهما مستويان في النقل فيكون ذلك بحكماً باطلاً.
فصل
قوله: وأما الكلام على المدعين للحن والخطأ فيه الذي اداه ابن الرويدي ومن تابعه. قوله: في البيت إلاَّ مسحتا أو مخلف المسحت الذي أذهب كله والمخلف الذي أجد من جوانبه ووجه الاتراض على الفرزدق رفع مخلف؛ لأنَّه باع لمسحت وحكم التابع حكم المتبوع لا يختلفان في نصب ولا غيره ومسحتاً منصوب ببدع؛ لأن العامل فرع له فحذف المستثنى منه، وقد تكلف ليوجهه بأنه رفع لفظه مخلف من قبيل الحمل على المعنى؛ لأن لم يدع يعود في المعنى إلى أنَّه لم يبق من المال إلاَّ ما ذكر ولو وضعت لم يثق موضع لم يدع اقتضا الرفع والمعنى لم يثق من جور ذلك الزمان أو من جور العص أو يعذر لفظه لفظه هو بعد أو فيكون مخلف خير للمبتدأ ويكون أو متقطعة بمعنى بل. قبيل: أو يكون مخلف مصدراً معطوفاً على عض ويكون المعنى وعض زمان أو مخلف زمان لم يدع إلاَّ مستحتاً.
قوله: (فقد علق عمل الفعل).
هذه من خصائص أفعال القلوب، وهي علمت وظنننت وأخواتهما، وهي أنَّه يجوز فيها التعليق عن العمل وهو ترك العمل لفظاً ويكون حينئذٍ عامله في الجملة الَّتِي دخلت هي عليها، فالجملة بعدها في موضع نصب، أما مع إسقاط حرف ال جر إن كان فعل القلب يتعدى به نحو فكرت أهذا صحيح أم لا، وأما لا مع إسسقاطه إذا كان الفعل يتعدى إلى واحد نحو: عرفت أنهم عندك أو إلى مفعولين، وتكون الجملة سادة مسدهما نحو علمت أزيد عندم أم عمرو.
قوله: (ووجه آخر هو أن لأي صدر الكلام) إلى آخره.
هذا ليس بوجه مستقل وإنَّما هو من ثمة الأول والحاصل أن لأي صدر الكلام لأنها من أدوات الاستفهام، فما كان يعمل فيها النصب من الأفعال، فمن شأنه أن يتأخر ولا يصح تقدمه؛ لأنَّه لا يصح وجوده غير عامل، ولا يصح أن يعمل فيها مع تقدمه لاستحقاقها الصدر إلاَّ أفعال القلوب فيصح تقدمها ولا يعمل لفظاً ويكون عامله في المعنى خاصة اختصت بها من دون سائر الأفعال.
قوله: (فلأنها قد صارت مبنية بحذف صدر صلبها) إلى آخره.
هذا مذهب سيبويه رغم أن أي الموصولة إذا حذف صدر صلبها تثبت على الضم، وهي هنا مفعولة في المعنى، وقد غلط في ذلك حتَّى قال النخاس: لا أعلم أحداً من النحويين إلاَّ وقد خطأ سيبويه، وقال الرجاح: ما تبين لي أن سيبويه غلط في كتابة إلاَّ في موضعين هذا أحدهما: قال: وقد أعرب سيبويه: أنا هي فرد، فكيف يبنيها وهو مضافة، والأصح أنَّها معربة وعلى ذلك ففيها هنا أقوال أحدها للخليل أن أيهم أسد مبتدأ وخبر محكي أي الذين يقال فيهم أنهم أشد الثاني ليونس إن أيهم أشد مبتدأ أو خبر في موضع نصب ينزعن معلقاً عنه. قيل: ومعنى ينزعن يمس فهو قريب من معنى العلم الثالث للكسائي أن معنى لينزعن لننادين فعلومل معاملته، قيل: وتدى تعلق إذا كان بعده جملة الرابع للمترد أن أيهم مرفوع بسبعة والتقدير لينزعن من كل فريق سبعة أنهم ويلزمه أن يقدم مفعولاً محذوفاً لينزعن الخامس للزمخشري، وهو أن المنزع واقع على من كل سبعة أي لينزعن بعض كل سبعة، فكان قابلاً قال: من هم قبيل هو أنهم أشد ويكون أنهم موصولة خبر مبتدأ محذوف.
قوله: (لغة بني الحرب هكذا في التسهيل والكشاف)
وقال في المنجد: لغة كتابة حكاها عنهم أبو الخطاب /100/ وغيره وحكاها الكسائي عن بني العبير ومراد وعذره، وقيل: لغة بني الحرب بن لعب وجنعم وزبيد وجماعة من قبائل اليمن ومن أسفارهم تزود منا بين أدناه ضربة دعته إلى هام التراب عقيم. وقال أبو زيد: سمعت من ثعلب كل يا ينفتح ما قبلها ألفاً.
قوله: (قال شاعرهم أن اباها البنت الحجة في غايتاها فإن الألف في اللغة الكبرى ينبغي أن تقلب بالآية منصوب).
قوله: (فأطرق أطراف الشجاع البيت في قوله لناباه وهو شاهد على إنفاء الألف في المبني المجرور الأول شاهد على إبقائها في المنصوب وفي نسخة الأصل الَّتِي يخط المصنف مصيباً لناباه. قيل: والرواية مضياً قبلك وهم ولعلة من سهو القلم.
قوله: (وقد قيل أن الياء لا تجوز في الآية لأنَّه ألف هذا) إلى آخره.
هذا الكلام فيه غرباة ولم أقف على مثله في كتب النحو المتداولة ومعنى كون الألف عماداً أنَّها لا تزول بحال.
وقوله: (وكان قياسه هذا أن بألفين كلام تبقى إلى تكميل).
وهو أنَّه أجمع ساكنان فحذف ألف التثنية؛ لأن النون يدل عليه فبطل عمل أن؛ لأن عملها في ألف التثنية وكان القياس حذف ألف هذا لأ،ها الأول ولكن حذفت الثانية لأن الأول أصلية أو عماد كما ذكرنا.
وقوله: (أصلية عند القراء).
لم أقف عليه والذي نسب إلى الكوفيين القول بأنها زائدة، والنصر فوق يقولون: أنَّها منقلبة عن أصل، قيل: يا وقيل واو، وفي الآية على هذه القراءة وجوه غير ما ذكره المصنف منها ما ذكروه قدماء النحاة أن هذان ليس باسم إن وإنَّما اسمها ضمير بيان حذف وهذا أن مبتدأ ولساحران خبره، وهما خبر اسم أن المحذوف وصعب بأن حذف هذا الضمير هنا لا يجيء إلاَّ في الشعر، وبأن دخول اللام على خبر المبتدأ ساد ومنها ما ذكره الرجاح، وهو ميل هذا الوجه؛ إلاَّ أن اللام دخلت على مبتدأ محذوف أي لهما ساحران واستحسنه شيخه المبرد ومنها أن ها ضمير القصة، ودار لساحران جملة خبر أن صعب بدخحول اللام وبمخالفة خط المصحف فإن ها متصلة بذا فيه ومنها ما ذكره المبرد والأخفش الصفة وهو أن أن بمعنى نعم، وهذان لساحران مبتدأ وخبر واللام على ما تقدم من الوجهين ومنها ما ذكره ابن كيسان أن المبني لما لم يغير له الواحد لم يغير هو في نصب ولا رفع ولا جر حملا على الواحد وهو هذا، وهذاالوجه قريب من الوجه الآخر الذي ذكره المصنف، وقد قال النخاس لابن كيسان حين سأله ما أحسنه لو تقدمك به أحد يريد أنَّه خلاف الإجماع.
قوله: (بل هو كلام مقطوع مستأنف).
أي فهم يعتذرون إلى آخره الصَّحيح خلاف ما ذكره وأن المراد نفي الاعتذار، وإن رفع يعتذرون بالعطف على ديون وهو منخرط في سلك النفي، والمعنى لا يكون لهم إذن واعتذار منعقد له. والنصب إنَّما يلزم لو جعل الاعتذار مسبباً عن الأذن، وقيل: لم ينصب في جواب النفي لتشابه روس لأي والوجهان جائزان، واعترض بأن ظاههره استواء الرفع والنصب في المعنى، وليس كذلك؛ لأن النصب على معنى السببية بخلاف الرفع.
قوله: وعلى هذا قول الشاعر:
ألم تسأل الربع الفوا فينطق ... وهل يجزيك النوم يبدأ سملق
الفوا الأرض الفقر والبيداء المغارة والجمع يبدو، المسلق الأرض الأجرد المستوي.
قوله: (لأنه لا يصح العطف على المحرم إلاَّ بإعادة الحازم هذا خلاف المنصوص والمشهور المذكور في كتب لعربية وإن قال: إنَّما ذكره مقابل فقول شاذ لا يعتد به.
قوله: وإنما هو منصوب/ 101/ بتقدير أن قد وجه نصبه بوجهين أحدهما : ما ذكره فتكون الواو ومع أو مع الَّتِي تنصب بعدها الفعل بإضمار أن بعد نهي أو نفي، أو ما في حكمهما نحو لا يأكل السمك وتشرب اللبن والثاني أنَّه في المعنى محروم بالعطف على ولما يعلم ولكن فيجب الميم اتباعاً لفتحة اللام كفراه لما يعلم نسخ الميم.
قوله: (وقيل: أن الواو وأو مع).
أي مع علمه بالصابرين هذا ليس بوجه آخر، بل بمعنى الأول وهو تقدير أن؛ لأنَّه لا بد من تقديرها بعد واو مع لتصير هي والفعل الذي فعلها بمنلة المصدر.
قوله: (فيكون نصبه ينزع الخافض كلام مختلح لأن النصب ينزع الخافض، إنَّما يكون في الاسماء نحو: {واختر موسى قومه سبعين رجلاً} أي من قومه، فلما نزع حرف الجر وعدى الفعل إلى المجرور نصب.
قوله: (والباقي المصادر للتوحيد لا للتأنيث كلام توهم أن الَّتِي للتوحيد كعرفه وظلمه ليست للتأنيث، وليس كذلك فإنها مع ذلك للتأنيث.
قوله: (بمعنى الثواب إلى آخره قد قيل: بل التذكير؛ لانها بمعنى الرجم، وقيل: بمعنى الغفران، وقيل بمعنى المطر، وقد قيل في توجيه الآية الكريمة أنَّه بعث لمذكر محذوف أي شيء قريب، وقيل: شبَّه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول، قال الجوهري والزمخشري: أو لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي، ورد بأن ذلك لا يقتضي التذكير إلاَّ مع تقديم المسند نحو طلع الشمس، وأما مع التأخير فلا يقول إلاَّ الشمس طلعت أو طالعة بالتأنيث إلاَّ في ضرورة.
قوله: (فأتت قيمة وهي بعد للدين).
هذا غير مستقيم؛ لأن لفظه دين مضافة إلى قيمة، ولسيت موصوفة بقيمة، وكيف يصح أن يكون المضاف إليه صفة للمضاف اصطلاحية بحيث يعتبر فيها المطابقة في التذكير والتأنيث، ,إنما يصح هذا الاعتراض على قراءة عبد الله، وذلك الدين القيمة بتعريف الدين ورفع القيمة صفة له وبوجه بأن الهاء فيه للمبالغة أو على تأويل الدين بالملة كقوله: ما هذه الصون أي ما هذه الصحة ، وأما على قراءة الجمهور فالقيمة وصف لمحذوف بقديره الأمة أو الكتب، وقال جار الله: التقدير دين الملة القيمة، وأما قول المصنف لتناسب رؤوس الآي فكلام ركيك ولا حاجة إليه.
فصل
قوله: (وأما الكلام على من يدعي التناقض).
ممَّن ادعاه المتزندق ابن الويدي.
قوله: (أي العرب كانوا أعرف منكم بالتناقض).
أصل هذا الاحتجاج الشيخ أثر الهديل، قال المعترض بالتناقض: إنَّما أشكل عليك ذلك؛ لأنك دخيل في لغة العرب ولست تعرف وجوه المجاز والحقائق ولو عرفت لم تقل ذلك، أما علمت أن العرب أعلم الناس بالمناقضات وأحرصهم على إبطال أمر النبي، فلو وجدوا مطعناً لأوردوه.
قوله: (وبعد فمن شرائط التناقض) إلى آخره.
اعلم أن النقيضين كل قضيتين إذا صدقت إحدهما كذبت الأخرى، فإن كانت القضية شخصية ليست مسورة بكل ولا بعض فلاشرط في التناضق تبديل النفي بالإثبات والعكس، مع اتحاد موضوع القضية ومحمولها في الإضافة، مثل زيد أب زيد ليس باب ويكون المراد في كليهما أب لبكر ليس بأب له، فلو قصدت في أحدهما أبوية لبكر وفي الأخرى أموية لعمرو لم يتنافيا، ومع الاتحاد في الجر والكل مثل: زيد أسود زيد ليس بأسود، فلو أردت في أحدهما جره وفي الآخر كله لم يتنافيا والاتحاد في القوة والفعل مثل الخمر في الدن مسكر ليس بمسكر، فلو أردت في أحدهما بالقوة والآخر بالفعل لم يتنافيا وفي الزمان مثل الشمس حارة المشس ليس بحارة ويراد في وقت واحد وفي المكان زيد جالس زيد ليس بجالس، ويراد في مكان واحد وفي الشرط مثل الكاتب متحرك الأصابع ليس بمتححرك الأصابع، ويكون المعنى ما دام كاتباً فيهما وإلاَّ فلا يناف وإن لم تكن القضية شخصية / 102/ لزم مع ما ذكر اختلاف الموضوع في النقيضين بأن يكون في أحدهما كلتا نحو كل الإنسان كانت وفي الآخر .....نحو ليس بعض الإنسان بكاتب، هذا مصطلح المنطقيين في النقيضين، وأما تعارف أهل اللغة فالأقرب أن التناقض هو التدافع وإن كل كلامين في أحدهما ما يدفع الآخر ويعاكسه فهما متناقضان ولو لم يجتمع الشرائط المذكورة كما لو قلت كل إنسان حجر ولا شيء من الإنسان بحجر، ومراد المصنف بالمنسوب ما يسميه المنطقيون المحمول وبالمنسوب إليه ما يسمونه الموضع ولعله أراد توجه الشبه القوة والفعل.
قوله: (لأن الكتابة في قوله: {لا تسأل عن ذنوبهم}..) إلى آخره.
أراد بالكتابة ضمير الغائبين المجرور بإضافة ذنوب إليه وهذا التفسير بعيد عن الصواب وكذلك قوله: أي عن ذنب الذي يرسل عليه. وهو خلاف الظاهر ولا محوج إلى المصير إليه وإنما المراد في الآية الأولى أن الله تعالى لما ذكر قارون من أهلك من قبله من القرون الذين كانوا أقوى منه وأغنى قال على سبيل التهديد له: {والله مطلع على ذنوبهم} المجرمين لا يحتاج إلى سؤالهم عنها وإستعلامهم وهو قادر على أن يعاقبهم عليها كقوله: {والله خبير بما يعملون} وما أشبهها وكذلك قوله تعالى: {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه أنس ولا ......} فالمعنى أنهم لا يسألون لأنهم يعرفون بسيماء المجرمين وهي سواد الوجوه وزرقة العيون إذا عرفت هذا فالجواب المعتبر ما ذكره آخراً من الوجهين وتحقيقهما أن يوم القيامة يوم طويل فيه مواطن فيسألون في بعضها ولا يسألون في الأخر.
قال قتادة: قد كانت مسألة ثم ختم على أفواه القوم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.
الوجه الثاني: أنهم لا يسألون عن ذنوبهم ليعلم من جهتهم بل يسألون سؤال توبيخ.
قوله: (ثم أثبته بقوله: {غير مجذوذ}).
يعني: لأن المعنى غير مقطوع.
قوله: (قيل المراد: سموات الآخرة وأرضها).
ممن ذكر هذا جار الله، قال: والدليل على أن لها سموات وأرضاً قوله: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات}. قوله تعالى: {وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء}. ولأنه لا بد لأهل الجنة مما يقلهم ويظلهم إما سماء يخلقها الله أو يظلهم العرش وكل ما أظلك فهو سماء.
قوله: (وقيل المراد: المبالغة في التبعيد).
هذا الوجه ذكره جار الله أيضاً، وقال: وإن تكون عبارة عن التأبيد ونفي الانقطاع كقول العرب: ما دام نعار وما أقام ببير وما لاح كوكب وغير ذلك من كلمات التأبيد وهذا أجود مما ذكره المصنف من قوله: (وليس من حق المثل المضروب..) إلى آخره.
ومن أستشهاده بالآية فإن ذلك من قبيل التشبيه وهو غير ما نحن فيه.
قوله: (وأما الاستثناء فهو من أول الوقت لا من آخره).
فيه نظر وأجود منه ما ذكره الزمخشري رحمه الله فالقول ما قالت حذام وهو أنه أستثناء من الخلود في عذاب النار ومن الخلود في نعيم الجنة وذلك أن أهل النار لا يخلدون في عذاب النار وحده بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع من العذاب سواء عذاب النار وبما هو أغلظ منها كلها وهو سخط الله عليهم وكسعه لهم وإهانته إياهم وكذلك أهل الجنة لهم سواء الجنة ما هو أكبر منها وأجل موقعاً وهو رضوان الله كما قال: {ورضوان من الله أكبر}. ولهم ما يتفضل الله به عليهم سواء ثواب الجنة مما لا يعرف كنهه إلا هو.
قوله: (إنما أراد بقوله: {يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} ولا يشاء أن يعذب إلا المستوجبين للعذاب).
وعن عطاء: يغفر لمن يتوب إليه ويعذب من لقيه ظالماً.
قوله: (والجواب أن المراد بالضعف..) إلى آخره.
كلام لا بأس به إلا أنه لا غنيه عن بيان معنى الآيتين ليعرف عدم التناقض فإن الذي ذكره المصنف لا يكفي في دفعه بل فيه ما يشبه أن يكون تقريراً له لأنه قرر ضعف كيده مع وصفه بالأستحواذ والغلبة في الآية الأخرى ونحن نقول قوله تعالى: {الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا} ترغيب للمؤمنين وتشجيع لهم بأن أخبرهم أنهم إنما يقاتلون في سبيل الله فهو وليهم وناصرهم وأعداؤهم يقاتلون في سبيل الشيطان فالأولى لهم ألا هوكيد الشيطان للمؤمنين بالنظر إلى كيد الله للكافرين أضعف شيء وأهونه.
قوله: (أستحوذ عليهم الشيطان).
المعنى فيه: أنه ملكهم بطاعتهم له في كل ما يريده منهم حتى صاروا بأختيارهم رغبة له وحرباً وهو من جاد الحمار الغاية إذا أجمعها وساقها غالباً لها ومنه الأجودي وأنت إذا تأملت معنى الآيتين عرفت عدم التناقض فيهما.
قوله: (ومنها: قوله: {إنا جعلنا على قلوبهم أكنه..} إلى آخره).
أعلم: أن دعوى التناقض في هاتين الآيتين لا معنى له لعدم ظهوره فيهما.
والجواب الذي ذكره لا بأس به والمعتمد عليه أن ذكر الأكنة والوقر مثل في نبق قلوبهم وآذانهم عن القبول وأعتقاد الصحة وأسنده تعالى إلى ذاته بقوله: {جعلنا} للدلالة على أنه أمر ثابت فيهم لا يزول عنهم كأنهم مخبولون عليه أو أنه حكاية لما كانوا ينطقون به من قولهم: {وفي آذاننا وقر}، و{من بيننا وبينك حجاب}.
قوله تعالى: {فما أختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم}.
أي: ما وقع منهم أختلاف في دينهم وتشعب إلا من بعد ما قرؤا التوراة وكسبوا العلم بدين الحق ولزمهم الثبات عليه وعلموا أن الاختلاف فيه تفرق عنه.
وقيل: هو العلم بمحمد واختلاف أهل الكتاب في صفته وبعته وأنه هو أو ليس به بعدما جاءهم العلم والبيان أنه هو.
قوله: (يجوز أن يكون وصفها باللعب..) إلى آخره.
المعتمد عليه أن المراد بقوله: {وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو} أن أعمال الدنيا لعب ولهو وأشتغال بما لا يعني ولا تعقب منفعة كما تعقب أعمال الآخرة المنافع العظيمة.
قوله تعالى: {وللدار الآخرة خير للذين يتقون}).
دليل على أن ما سوى أعمال المتقين لعب ولهو ومعنى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين} أي: عابثين نفياً للعب في خلقهن وأنه لم يكن إلا لوجه الحكمة.
قوله: (والجواب أنه لا تنافي..) إلى آخره.
أعلم: أن قوله تعالى: {يرونهم مثليهم رأي العين}. ............................ الخطاب فعلى قراءة بالخطاب يكون المعنى يرون ... مشركون المؤمنين مثلي عدد المؤمنين ويكون المراد بالخطاب من حصر الوقعة من مشركي مكة.
فإذا قيل: هذا فهو متناقض لقوله في سورة الأنفال: {ويقللكم في أعينهم}.
أجبت: بأنهم قللوا أولاء في أعينهم ليجترؤا عليهم فلما لا لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا فكان التقليل والتكثير في حالين مختلفين وعلى قراءة ...... يكون المعنى يرى الكافرون المسلمين مثلي الكافرين كثرهم في أعينهم ليهابوهم وكان ذلك مدداً من الله كما أمدهم بالملائكة وكان هذا في الانتهاء، وفي الابتداء قللهم في أعين المشركين ليلاقوهم كما تقدم.
وقيل: يرى الكافرون المسلمين مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفاً وعشرين.
وقيل: المسلمون يرون المشركين مثلي المسلمين ستمائة وسته وعشرين وكانوا ثلاثة أمثالهم على ما قرر الله عليهم أمرهم عن وجوب مقاومة الواحد لأثنين لئلا يقول المؤمنون قتال هؤلاء غير واجب علينا فينقلبوا وكانوا ثلاثة أمثالهم.
قوله: (يجوز أن تكون المواقف متغايرة..) إلى آخره.
هذا قطع به المفسرون فقالوا: القيامة مواقف ففي بعضها يختصمون ويتكلمون وفي بعضها يختم على أفواههم.
قال جار الله: أو جعل نطقهم كلا نطق لأنه لا ينفع ولا يسمع.
قوله: (وقال الشاعر:ـ
فلو أن قومي
البيت قائله عمرو بن معدي كرب الزبيدي من أبيات أولها:ـ
ولما رأيت الخيل زواراً كأنها جداول زرع أرسلت فاستطرت
ومعنى أجرت شدت مكان الجرة وهو الحلق كما إذا غص البعير بجربة فإنه لا يقدر على الرغا.
وقيل: من أجررت لبيان الفصيل إذا شققته لئلا يرتضع والمجرور المحلول لسانه من الفصلان ومعنى البيت: أن قومه لو كانوا ممن يقاتل ويبلى البلاء الحسن ذكر ذلك وفخر به ولكنهم أسكنوه وقطعوا لسانه باعتيادهم الفرار.
قوله: (ويجوز أن يكون المراد فهم لا يتسألون عما أجابوا به الرسل..) إلى آخره.
تحقيق هذا الوجه وهو المعتمد أن المعنى لا يتسألون أي لا يسأل بعضهم بعضاً في شأن الأنباء التي عميت عليهم في قوله تعالى: {فعميت عليهم الأنباء}، أي: فصارت الأنباء كالعمى عليهم جميعاً لا يهتدي إليهم فلا يسأل بعضهم بعضاً في شأنها كما يتسأل الناس في المشكلات لأنهم مستوون في عماء الأنباء عليهم والعجز عن الجواب، والمراد بالنبأ الخبر عما أجاب به المرسل إليه رسوله.
قال جار الله: وإذا كان الأنبياء يتعتعون في الجواب عن مثل هذا السؤال ويفوضون الأمر إلى علم الله بدليل {يوم يجمع الله الرسل} الآية، فما ظنك بالضلال من أممهم ومعنى {وأقبل بعضهم على بعض يتسألون}: يسأل بعضهم بعضاً عن أحواله وأعماله وما أستوجب به نيل ما عند الله.
قوله: (أي: وللرحمة خلقهم).
قال جار الله: الإشارة إلى ما دل عليه الكلام الأول وتضمنه المعنى أي: ولذلك من التمكين والأختيار الذي كان عليه الاختلاف خلقهم ليثيب مختار الحق بحسن أختياره ويعاقب مختار الباطل بسوء أختياره.
ولقائل أن يقول: على كل من الوجهين المذكورين لا يندفع التناقض الذي قصد المعترض لأن الحاصل أنه ذكر هنا أنه خلقهم لغيرما ذكر في آية الذاريات أنه خلقهم له وهو العبادة سواء كان الاختلاف أو الرحمة أو التمكين.
والجواب: أما لو ثبت أنه خلقهم للاختلاف فلا كلام في التنافي وعدم التلاؤم بين الآيتين وأما إذا كان للرحمة فخلقهم للعبادة لا ينافيه لأن خلقهم لعبادته من رحمته التي تقتضي إرادة الخير لهم وكذلك تمكينهم وتخييرهم بحيث يصيرون متمكنين مما يرفعهم الدرجات العاليات، والله أعلم.
قوله: (لأنه جمع ولفظ ذلك مفرد).
هذا كلام ركيك لا ينبغي صدوره ممن له ذوق سليم فإن الإشارة عندهم إلى الاختلاف لا إلى لفظ الجمع كما أنه جعل الإشارة إلى الرحمة لا إلى لفظ الموصول فيمن رحم.
فصل
وأما الكلام على من يدعي الطعن من جهة التكرار
قوله: (فيتنزل عليهم في كل حال ما يسليهم به).
هو كما ذكره مع التسلية يقع بذلك تثبيت لهم وتسكين لدهشتهم وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك}.
قوله: (فذلك يأتي على وجوه:
منها: أن يرد بلفظ الأول إلى قوله.
ومنها: أن يكون المعنى بغير لفظ الأول).
فيه نظر لأنه قسم التكرار بإعادة اللفظ تعينه إلى أقسام:ـ
أحدها: هو تعينه وهو قوله: منها: أن يرد بلفظ الأول.
والثاني: غيره وهو قوله: منها: أن يكون المعنى بغير لفظ الأول.
والثالث: هو نفسه لكن مع تبنيه على موجب الإعادة.
والرابع: كذلك وهذا تقسيم فاسد وكان اللائق أن يقول: وأما التكرار في غير القصص فقد يكون بإعادة المعنى بلفظ غير الأول وهو حسن عند أهل الفصاحة وقد يكون بإعادة نفس اللفظ إما لكذا أو لكذا.
قوله: (أتساعاً وتأكيداً وتفحيماً للسان).
يعني: أتساعاً في الكلام وتأكيداً للمعنى المراد وتفحيماً لذلك السان الذي سبق له الحديث.
قوله: (فإن البلاغة لا تظهر في اللفظ الواحد).
قصد: اللفظ المفرد فصحيح لكن نحو أمرك بالوفاء ليس كذلك بل هو كلام تام وإن قصدنا باللفظ الواحد الجملة الواحدة الكاملة فلا نسلم ما ذكره بل تظهر البلاغة فيها ولعله أراد لا تظهر كل الظهور ولا تتضح كل الإيضاح.
قوله: (ومن هذا القبيل قوله: {فبأي آلاء ربكما تكذبان}).
فهو كما ذكره قال ابن قتيبة: لما عدد الله في هذه السور نعماءه وأذكر عبادة آلاءه ونبههم على قدرته جعل بين كل نعمتين فبأي آلاء ربكما تكذبان ليفهم النعم وتقررهم بها كما يقول الرجل لم أسكنك منزلاً أفتنكر هذا ألم أعطك مالاً أفتنكر هذا لم أنصرك على عدوك أفتنكر هذا.
قوله: (ومنها: أيضاً ما يرد على منوال الرجز نحو: {ويل يومئذ للمكذبين}. المنوال الخشب الذي تلف عليه الحائك الثوب ويقال للقوم إذا أستوت أخلاقهم على منوال واحد ورقوا على منوال واحد أي رسق واحد.
وقد قيل: أن قوله تعالى: {ويل يومئذ للمكذبين} على تكراره أراد به المذكبين بيوم الفصل فيكون تكرار فائدته توكيد الوعيد والتخويف.
وقيل: يرجع في كل آية إلى ما قبله ففي الأولى أراد المكذبين بيوم الفصل وفي الثانية أراد المكذبين بأهلاك الأولين وعلى هذا فقس وحينئذ فلا يكون تكراراً.
فصل
وأما الكلام على الطاغين بدعوى الكذب فيه والفساد
قوله: (المراد الإسلام اللغوي).
يعني: وهو الإستسلام لأمره وعدم الإمتناع عن حكمه وهذا يبقى اللفظ على عمومه ومن المفسرين من حمله على المعنى الشرعي وقال: طوعاً بالنظر في الأدلة والإنصاف من نفسه وكرهاً بالسيف وبمعاينة ما يلجئ إلى الإسلام كنتق الجبل على بني أسرائيل وإدراك الغرق لفرعون والأشفا على الموت {فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده}.
قال مولانا عليه السلام: وعلى هذا التفسير لأن أستعمال اللفظ العام في بعض مدلولاته أمر سائغ وشائع واسع في اللغة ويعتمد في المقصود على القرينة.
قوله: (والإسلام السرعي لا يكون كرهاً).
يقال: ليس وقوعه كرهاً منع من تسميته إسلاماً وإنما يعتبر عدم الإكراه في كونه مقبولاً مرضياً.
قوله: (ومنها: قوله: {وكذلك زينا..} إلى آخره.
هذه من شبههم في دعوى الفساد فيه لكن يقال وما معنى دلالتها على أن القرآن فيه فساد إن كان المراد أنها تدل على أن الله يزين للعباد أعمالهم القبيحة فليس هذا فساداً في القرآن بل دليلاً على أن الله تعالى يفعل ما يقع به الفساد من التزيين ولعل مرادهم أن ذكر مثل هذا في القرآن يقع به فساد لأن العصاة إذا سمعوه أستأنسوا به وأنشرحت قلوبهم بفهم تزيين الله أعمالهم.
قوله: (المراد عملهم الذي أمرهم به هذا أحدنا وتلاتها.
وقيل: المعنى خليناهم وشأنهم ولم يكفيهم حتى حسن عندهم سوء عملهم أو يكون المعنى أمهلنا الشيطان حتى زين لهم عملهم.
قوله: (والجواب أن التسبيح يستعمل..) إلى آخره.
هذا كلام المحققين أن التسبيح في الآية مجازاً يراد به التنزيه بلسان الحال وشهادة الاستدلال.
قالوا: ولا يحمل على المقال لأنه لا يصح من غير حي ولو جوزنا في غير الحي أن يكون قادراً عالماً متكلماً لم نجد دليلاً على أن الله حي.
قال الرازي: وهذا كفر.
وقيل: بل تسبيح قولاً وهو باق مستمر.
وقيل: كانت الجمادات أول ما خلقها الله ناطقة مسبحة.
عن وهب: ما من شيء إلا وقد كان يسبح الله ثلاثمائة سنة.
وقال ابن الجوزي: أختلف في تسبيح غير العقلاء من قال أنه نطق.
فقال إبراهيم النخعي: هو عام في كل شيء حتى الثوب والطعام وصرير الباب.
وقال عكرمة: هو عام في كل نام من شجر ونبات الشجرة تسبح والأسطوانة لا تسبح.
وقال قوم: كل شيء لم يغير عن حاله فهو يسبح فإذا غير أنقطع تسبيحه.
قوله: (أي يخضع ولا يمتنع عما يفعل).
في هذا أحد القولين وهو أن المراد أن كل من في السموات والأرض تنقاد وتخضع لما أراده الله فيه ولا يقدر أن يمتنع ومعنى طوعاً وكرهاً على هذا أن بعض ما يريد الله إحداثه قد يكون مما يمثل إليه طبعه ..... وقد يكون مما ينفر عنه كالمرض والموت والهرم مع عدم القدرة على المدافعة.
القول الثاني: أن المراد وضع الجهد على الأرض وعلى هذا ففي من قولان:ـ
أحدهما: أنه عموم يراد به الخصوص فبعض الساجدين يسجد طوعاً وهم المؤمنون من الملائكة وغيرهم وبعضهم يسجد كرهاً وهم المنافقون.
وثانيهما: أنه على عمومه وفيه وجهان:ـ
الأول: أنه خبر في معنى الأمر بمعنى أنه يجب على كل من في السموات وألأرض أن يسجد لله طائعاً أو كارهاً وهو حيث يشق عليه السجود لمرض أو أمر شاغل.
والثاني: أن المراد أن في خلق من في السموات والأرض وتصويرهم ما يدل على وجوب السجود لله طوعاً وكرهاً.
قوله: (في البيت:
يجمع تصل البلق في حجراته ترى الآكم فيها سجد للحوافر).
أراد بالجمع ...... والبلق نوع من جنس الخيل قال في الصبا البلق كل لون خالطه بياض ويصل بفتح الباء الفوقانية المثناة وكسر الصاد المهملة وتضعيف اللام ومعنى الصليل صوت لأجواف الخيل عند العطش والحجرات جمع حجرة وأصلها حظيرة الإبل وحجرة الدار معروفة والآكم أصله الأكم بضم الكاف مخفف وهو جمع اكام واكام جمع اكم واكم جمع اكمه وهو معروفة.
قوله: (قالوا: فكيف يجوز في الحكيم أن يفعل هذا القبائح).
أعلم: أنه لا ينبغي أن تورد مثل هذه الآيات في معرض الطعن في القرآن وإنما ينبغي إيرادها في عرض الطعن في العدل والحكمة كما مضى.
قوله: (قالوا: فأقسم الله بالأشياء الخسيسة).
كان الأحسن أن يقول فتضمن القرآن القسم بهذه الأشياء لأن ذلك في معرض القدح فيه ودعوا انطوائه على الفساد.
قوله: (قد يكون لتحقيق الأمر المخلوف عليه).
يعني: وإن لم يكن المقسم به عظيماً عند المفسم من هذا القبيل قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((أفلع وأبيه إن صدق)). لمن سأله عن الفرائض فلما علمه إياها أقسم لا زاد عليها ولا نقص فما قصد صلى اللّه عليه وآله وسلم إلا تأكيد الخبر وتحقيقه لا تعظيم أبيه فإنه كان كافراً.
قوله: (وليس شيء من خلق الله بخسيس)
ليس على عمومه فإن أشياء من المخلوقات تلحقها الخسة إما بأصل الخلقة كالكلب والخنزير ونحوهما وأما لأمر مكتسب كالكافر ونحوه لكن أما التين والزيتون فقد قال جار الله: أقسم الله بهما لأنهما عجيبان من بين أصناف الأشجار المثمرة.
وروي أنه أهدي للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم طبق من تين فأكل منه وقال لأصحابه: ((كلوا فلو قلت أن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه)). ومر معاذ بشجرة الزيتون وأخذ منها قضيباً فأستاك به وقال سمعت رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: ((نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة)).
قوله: (فيقال: أنتم فعلتم أي آباؤكم).
من هذا القبيل قوله تعالى: {قل قد جأكم رسل من قبلي بالبينان} وبالذي قلتم فلم قبلتموهم فإن القائلين والذين خانهم الرسل هم آباؤهم لا هم وإذا أجمل قوله تعالى: {خلقناكم ثم صورناكم}، ثم قلنا للملائكة على ظاهره فالمعنى ثم أنا نخبركم أنا قلنا للملائكة.
قوله: (فقد قيل: أن ثم هنا بمعنى الواو).
هذا لا يوجه به الكلام إلا من ضاق عطنه وأتيان ثم بمعنى الواو غير مشهور وقوله: {ثم الله شهيد} توجه بأن المراد مقتضى الشهادة وهو العقاب وهو متأخر عن مرجعهم إليه أو يراد ثم الله مؤد شهادته.
قوله: (ومنها: أن الله جعل القرآن بعضه محكماً وبعضه متشابهاً).
المحكم ما أحكمت عبارته بأن حيطت من الاحتمال والاشتباه.
وقيل: ما وافق الدليل القاطع والمتشابه ما خالفه مثال المحكم: {لا تدركه الأبصار}، {ليس كمثله شيء}، {إن الله لا يأمر بالفحشاء}. ومثال المتشابه: {إلى ربها ناظرة}، {الرحمن على العرش أستوى}، {وأمرنا مترفيها ففسقوا فيها}. ولقد أحسن المصنف فيما أتى به من الوجوه المقتضية لحسن ورود المتشابه في القرآن.
قال جار الله: ولما في تقادح العلماء وأتعابهم القرائح واستخراج معانيه ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة والعلوم الجمة ونيل الدرجات عند الله ولأن المؤمن المعتقد ألا مناقضة في كلام الله ولا أختلاف إذا رأى فيه ما يتناقض في ظاهره وأهمه طلب ما يوفق بينه ويجريه على سنن واحد فكر وراجع نفسه وغيره ففتح الله عليه وبين مطابقة المتشابه المحكم أزداد طمأنينة إلى معتقده وقوة في إيفائه.
قوله: (من التجوز والاستعارة والتشبيه والكتابة).
يعني: لأن الذي يعرض من التشابة بسبب سلوك هذه المسالك ولو أتى بالكلام على حقيقته لم يعرض فيه أشتباه وعدة للتشبيه من الأسباب في التشابه فيه نظر لأنه من قبيل أستعمال الحقائق لا المجازات مثال التشبيه: زيد كالأسد. والاستعارة مبنية عليه لكنها من قبيل المجاز وهي أن يطوى ذكر المشبه ووجه التشبيه وأداته وتقتصر على الإتيان بالمشبه به نحو: رأيت أسداً وأنت تريد الرجل الشجاع والتجوز ظاهر وهو الإتيان بالمجاز والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له والكناية التعبير عن الشيء بلوازمه كقولهم في الكناية: طويل نجاد السيف، وعن الكريم: كثير رماد القدر.
قوله: (والملاحة يقال: ملح الشيء بملح).
ملحاً وملاحة وملوحة أي حسن فهو مليح ومُلاح بالتخفيف.
قوله: {لأنه بالإشتباه يحتمل أكثر من معنى واحد).
هذا يتفق في بعض المتشابه أنه يحتمل معاني متعددة أو معنيين كقوله تعالى: {إلى ربها ناظرة}. فإنه يحتمل نظر العين ويكون المعنى إلى ثوابه ونظر الانتظار.
القول في سائر معجزاته صلى اللّه عليه وآله وسلم
قوله: (وقد روى الحاكم له ألف معجزة).
قيل (ي): وذكر محمود بن الملاحمي والإمام يحيى عليه السلام: أن له صلى اللّه عليه وآله وسلم ثلاثة آلف معجزة وأرادوا بذلك ما ظهره له وعلى يديه من حد الطفولة بل من حال الحمل به ثم إلى أن بُعث ثم إلى أن توفي.
قوله: (وأعلم أن أكثرها متواتر ضروري..) إلى آخره.
هذا ما ذهب إليه الشيخ أبو القاسم البلخي فإنه ذهب إلى تواتر كثير من المعجزات غير القرآن كمجيء الشجرة بحد الأرض وتسبيح الحصا في كفه وانفجار الماء وحنين الجذع وإشباع الخلق الكثير من الطعام اليسير وكلام الذراع المسموم وكلام الذئب ورد الشمس عن غروبها لما خشي فوت صلاة العصر وحديث الإستسقاء والمعراج والأخبار بالغيوب وإنقضاض الكواكب فقال: هذه متواترة لكن لا على حد تواتر القرآن.
وقال الشيخان أبو علي وأبو هاشم: لم يتواتر من معجزاته صلى اللّه عليه وآله وسلم سوى القرآن وإلا لما أنكره مخالفونا من اليهود والنصارى وغيرهم ولكانوا مشاركين في العلم بوجوده كمشاركتهم في العلم بوجود القرآن.
وقيل (ي): هي منقسمة إلى ما هو متواتر معلوم بالضرورة وإلى ما هو متواتر في المعنى وإن لم يتواتر إفراده وإلى ما يعلم كونه معجزاً بالدلالة ومعنى ذلك أن هذه المعجزات على كثرتها لا تصح من جهة العادة كونها كلها كذباً لأن ذلك مما لم تجريه العادة فيجب أن يعلم بما بلغنا منها أن هناك معجزات أو معجزاً وإن لم تعلم عينه.
قال مولانا عليه السلام: ولا يخلوا هذا الكلام عن ركة.
قوله: (على فخذ شاة وعش من لبن وهم أربعون رجلاً في رواية جئت شاة وقدح من لبن وأنهم ثمانية وأربعون والعش القدح العظيم.
قوله: (فأشبعهم وأرواهم).
وفي رواية واللحم واللبن بحالهما وكان الواحد منهم يأكل الجذعة ولما أنفق ذلك.
قال أبو لهب: يا بني عبد المطلب لو لم يكن من سحر ابن أخيكم إلا ما ترون.
قوله: (وصاع من شعير).
وقد قيل: أنه ستة آصع.
قوله: (فصدروا وهو بحاله).
المروي أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم لما قرب الطعام واللحم أورد الناس عليه على عشرة عشره حتى صدروا وبقي شيء.
قال جابر: أكلنا منه وفسمنا ما بقي.
قيل: وكان الآكلون منه مئة وهم أهل الخندق وثلاثة آلاف.
قوله: (وجمع الناس مرة أخرى على أقل من صاع من التمر).
هذا أشارة إلى ما روي أنه أتته بشير بن سعيد دعتها أمها وهي أخت عبدالله بن رواة فأعطتها حفنة من تمر وأمرتها أن تذهب بها إلى أبيها وخالها وهما في عمل الخندق فلما مرت عليه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: ((هاتي ما معك)). فصبته في كفته فما ملأهما ثم أمر بثوب وبسط وجيء بالتمر عليه فتمدد فوق الثوب ثم قال لرجل عنده: ((أدع أهل الخندق هلم إلى الغداء)). اجتمعوا فأكلوا منه حتى صدروا وإنه ليتساقط من أطراف الثوب.
قوله: (وإن آخر زاده ضياح من لبن).
هو بفتح أوله لبن رقيق يخلط الماء عليه.
قوله: (وإن أمته تملك كنوز كسرى).
روي أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم كتب إلى كسرى المسمى ...... فمزق الكتاب فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((اللهم مزق ملكه وسيمزق عليه أما إنكم ستملكون أرضه)). فكان كما أخبر صلى اللّه عليه وآله وسلم مزق ملكهم وشتت جمعهم وملك العرب رقابهم في خلافة عمر.
قوله: (وكأخباره بقتل الحسين وموضع قتله).
إشارة إلى ما روي عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((يقتل أبني الحسين بظهر الكوفة الويل لقاتله وخاذله ومن ترك نصرته)). ونحوه مما ورد عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم في هذا المعنى.
قوله: (وإن علياً ستخضب لحيته من رأسه).
إشارة إلى مما روي عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم والراوي له علي عليه السلام فإنه عليه السلام قال في بعض مقاماته حدثني الصادق المصدوق البار صلى اللّه عليه وآله وسلم أني لن أموت حتى تخضب لحيتي هذه من دم رأسي يضربني أشقى هذه الأمة كما عقر ناقة الله أشقى ثمود.
قوله: (وإخباره بوفاة النجاشي يوم توفي).
قيل: أن النجاشي لما مات بالحبشة طوى الله الأرض حتى نظر صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى جنازته فصلى عليه هو وأصحابه ثم قال: ((أستغفروا لأخيكم)).
قال مولانا عليه السلام: أما على هذه الرواية فليس وجه الإعجاز الأخبار بالغيب فإنه قد شاهد ذلك بل يكون وجه الإعجاز طي الأرض له ومشاهدته لما بعد عنه البعد المفرط ولعلهم جعلوه من قبيل الإخبار بالغيب بالنظر إلى غيره صلى اللّه عليه وآله وسلم.
قوله: (وكذلك قتل جعفر يوم مؤتة القصة أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم بعث جيشاً وجعل أميرهم زيد بن حارثة وقال لهم: ((إن أصيب جعفر وإن أصيب جعفر فعبدالله بن رواحة)). فكان في حال معركتهم وهو صلى اللّه عليه وآله وسلم قاعد في مسجده يخبر بما جرى لهم قال: قتل زيد وأخذ الراية جعفر ثم قال: قتل جعفر ثم أمسك ساعة وقال: أخذ الراية عبدالله بن رواحة. وذلك أنه توقف عن أخذ الراية ثم أخذها ولم يبادر كجعفر ثم قال: قتل عبدالله فكان الأمر كما أخبر.
قوله: (وإخباره بقتل شيرويه لأبيه كسرى).
في السيرة النبوية عن الزهري أنه قال: كتب كسرى إلى باذان وهو عامله باليمن أنه بلغني أن رجلاً من قريش خرج بمكة يزعم أنه نبي فسر إليه فأستتبه فإن تاب وإلا فأبعث إليَّ برأسه فبعث باذان بكتاب كسرى إليه صلى اللّه عليه وآله وسلم فكتب إليه رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((إن الله قد وعدني أن يقتل كسرى في يوم كذا من شهر كذا)).
فلما أتاه الكتاب توقف لينظر فقال: إن كان نبياً فسيكون ما قال فقتل الله كسرى في اليوم الذي قال رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم.
قال ابن هشام: قتل على يد أبنه شيرويه وفي ذلك قال خالد بن حق:ـ
وكسرى إذ تقسمه بنوه بأسياف كما أقتسم اللجام ... لمخضب المنون له بيوم أتى ولكل حامله تمام
فلما بلغ ذلك باذان بعث بإسلام وإسلام من معه من الفرس إلى رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم وقالت الرسل من الفرس إلى من نحن يا رسول الله؟.
قال: ((أنتم منا وإلينا أهل البيت)). أنتهى.
وفي رواية أن كسرى ...... أمر عامله باليمن وهو باذان أن أبعث إلى هذا الرجل وكتب باذان إليه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنك إن أحسست كتبت فيك وسمعت وإن لم تحب فهو كسرى تخرب بلادك ويستأسر قومك ونزل جبريل عليه السلام بعد ذلك فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام فيقول: سلطت على كسرى أبنه فقتله لخمس ساعات مضت من ليلة كذا فدعا صلى اللّه عليه وآله وسلم رسل باذان وكتب إليه وأخبره بذلك وعده على الإسلام أن يستعمله فأسلم باذان والله أعلم.
قوله: (وأختاره بأن عتبة بن لهب يأكله الأسد).
المشهور أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم دعا على عتبة وكان يؤذيه كأبيه وطلق ابنته صلى اللّه عليه وآله وسلم بأمر والده وكانت تحته ومزق ثياب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: ((اللهم سلط عليه كلباً من كلابك)). فخرج إلى الشام تاجراً مع نفر من قريش فلما كان ببعض من الطريق عرشوا ليلاً فسمعوا زئير الأسد فقال عتبة: هذا والله آكلي فقيل: وكيف تخافه أنت من بيننا؟
فقال: إن محمداً توعدني به، وقل ما قال شيئاً إلا كان فجعلوه في وسطهم وباتوا فتخطاهم الأسد إليه وأخذ برأسه فأحتمله من بينهم وذهب به وحطمه وكان يستغيث فلم يغثه أحد وهي من آياته صلى اللّه عليه وآله وسلم العظيمة وقد ذكر ذلك حسان في شعره له فقال:ـ
إذ سلط الله عليه كلبه يمشي الهويناء مشية الخادع ... حتى أتاه وسط أصحابه وقد علتهم سِنة الهاجع ... فألتقم الرأس بنافوخه والنخر منه فغرة الجائع ... من عاد فالليث له عائد أفضع به من خير شائع ... من يرع العام إلى أهله فما أكيل السبع بالراجع
قوله: (ونحو ذلك كثير).
من ذلك أن عمر بن الخطاب استأذنه صلى اللّه عليه وآله وسلم في أن يفعل سوء بسهيل بن عمرو فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: دعه يا عمر فلعل له مقاماً يسرك فلما مات صلى اللّه عليه وآله وسلم هم أهل مكة بالردة فخطبهم سهيل بمكة كخطبة أبي بكر بالمدينة كأنه سمعها فلما بلغ ذلك عمر قال صدق صلى اللّه عليه وآله وسلم لقد قام مقاماً سرني ومن ذلك أنه لما وقع الفتح لمكة هرب عكرمة بن أبي جهل فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم سيأتي عكرمة ويسلم فلا تذكروا أباه بحضرته فكان الأمر كما أخبر ومن ذلك أنه قال: لوفد عبد القيس إن شئتم وصفتم بلادكم وإن شئتم وصفتها لكم؟
فقال: صفها لنا نزدد بذلك إيمامناً فوصفها لهم.
فقالوا: لأنت أعلم ببلادنا منا وغير ذلك وغيره.
قوله: (ومنها تسبيح الحصا في يده).
روى أبو ذر أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أخذ في كفه سبع حصيات أو تسعاً وكان لتسبيحهن دوي كدوي النحل فلما وضعهن أنقطع ذلك ولما أراد الله إكرامه بالنبوة كان إذا خرج لحاجة أبعد إلى شعاب مكة فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: عليك السلام يا رسول الله.
قوله: (وتكلم العضو المسموم له).
لما فتح خيبر أهدت له امرأة منه شاة مسمومة وفي رواية أنها سألت عما يرغب إليه صلى اللّه عليه وآله وسلم من اللحم فقيل الذراع فوضعت السم فيه فلما أراد صلى اللّه عليه وآله وسلم أكله قال: إني مسموم فتركه صلى اللّه عليه وآله وسلم وقال للمرأة: ما حملك يا عدوة الله على ما فعلت؟
فقالت: قتلت خالي. قلت: إن كان ملكاً أرحت الناس منه وإن كان نبياً فسيعلم.
وفي رواية: أنه كان مع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم رجل أسمه بشر بن البراء فتناولا من اللحم فأساع ما مضع فهلك وأما النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فلفظ ما ان في فمه.
وقيل: أن سبب موته صلى اللّه عليه وآله وسلم تلك المضغة وأنه لما شارف الموت قال: ما زالت آكلة خيبر تعادني فلات حين قطعت أبهري فأدرك صلى اللّه عليه وآله وسلم فضيلة الشهادة مع النبوة فقال: عادته اللسعة إذا أتته لعداد وكره الجوهري.
قال: في الحديث ما زالت آكلة خيبر تعادن فهذا أوان قطعت أبهري. والأبهر عرق........ للصلب إذا إنقطع مات صاحبه قال في النظام في الجسم عرق حيمنا قطع مات صاحبه فهو في العتق الودج والوريد في الصدر النياط.
وقيل: أن القلب معلق به وفي البطن الوتين وفي الظهر الأبهر وفي الفخذ النسأ وفي الرجل الأنجل وفي اليد الأكحل.
قوله: (وكذلك الجمل والظبية والضب والذئب).
أما الجمل فنقل عن بعض الأنصار أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم خرج في نفر من أصحابه فأقبل جمل يهدر.
فقالوا: يا رسول الله إنا نخاف من هذا البعير.
فقال: دعوه فإنه جاء مستغيثاً فأقبل يمشي حتى وضع مسفره على عاتق رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم.
فقال: أنا بالله وبك يا رسول الله أستغيث إن موالي أشتروني فصيلاً وكدوني حتى بلغت من السن ما ترى وإنهم يريدون نحري فإنا بالله وبك يا رسول الله أستغيث فشفع فيه رسول الله.
فقالوا: شأنك به هو فداك فأمر بتسريحه حيث شاء ...... ....... الجمل قليلاً ثم خر لرسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم ساجداً.
فقال: أصحابه نحن أحق بالسجود منه فلو أذنت لنا في ذلك؟
فقال: لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد ولو أمرت أحداً بالسجود لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها.
وأما الظبية فروي أن ظبية تورطت في حبالة ورسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم منها بمكان قريب.
فقالت له: يا رسول الله إن لي ...... وقد وقعت في الشبكة فحلني حتى أرضعه وأنا أرجع فخلاها وجلس حتى رجعت وجعلت يدها في الشبكة فلما جاء صاحبها شفع فيها فخلى سبيلها فأتخذذ الناس ذلك الموضع مسجداً.
وأما الضب: فروي أن أعرابياً قال له صلى اللّه عليه وآله وسلم: باللات والعزى لا أومن لك حتى يشهد لي هذا الضب وأخرج ضباً من كنه.
فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: يا ضب من ربك؟
فقال الضب: الله ربي الذي في السماء ملكه وفي الأرض سلطانه وفي البر والبحر سبيله.
ثم قال: أيها الضب من أنا؟
فقال: أنت محمد بن عبدالله سيد النبئين وأمام المتقين وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم قد أفلح من آمن بك وصدقك وأتبعك وخاب وخسر من كذبك وخالفك.
وأما الذئب: فقد روي أن الذئاب جاءت إليه صلى اللّه عليه وآله وسلم تطلب رزاقها.
فقال لأصحابه: إن شئتم صالحتها على شيء تخرجونه إليها وإن شئتم تركتموها تعدو عليكم وعليكم حفظ أموالكم؟
قالوا: بل تتركها ونحفظظ ما أستطعنا.
وروي أن رجلاً راعي غنم جاءه ذئب فأخذ عليه شاة فأستنقذها الرجل منه.
فقال الذئب: تمنعني رزقاً ساقه الله إلي
بسم الله الرحمن الرحيم
الكلام في الوعد والوعيد
قوله: (الوعد والوعيد هو الخبر).
هذا جنسه القريب ويخرج به من الكلام ما ليس بخبر كالأمر والنهي.
وقوله: (عن أتصال نفع أو دفع ضرر يصل له عن عكس ذلك فإنه وعيد، وعما ليس كذلك من الأخبار).
وقوله: (في المستقيل يفصله عن الأخبار بأتصال نفع أو دفع ضرر في الماضي فليس بوعد).
وقوله: (من المخبر إلى المخبر يفصله عن البشارة وهي أخبار بإتصال ذلك من غير المخبر).
وقوله: (والوعيد عكسه).
يعني في بعض الحد فإنه الخبر عن إتصال ضرر أو تفويت نفع ونفيه القيود بحالها والإحترازات فيه تعرف مما ذكر آنفاً.
قوله: (والخبر .. إلخ).
إنما ذكر حده لوروده في حد الوعد والوعيد، وينبغي ذكر حد الصدق والكذب لذكرهما في حد الخبر الذي أورده ......... للخبر جيد إلا أن الأولى بحيث لفظه كل في الحد لأن الحد هو للماهية المجردة عن التعدد والوحدة والأولى أن يعدل فيه عن لفظ القول إلى لفظ الكلام لأنه جنسه القريب، فإن القول يشمل الكلمة والكلام والخبر نوع من الكلام وحقيقة الصدق هو الخبر المطابق للواقع والكذب عكسه ثم نذكر حقيقة الخلف لأنه لابد من عروض ذكره في هذا الباب.
قال السيد صاحب شرح الأصول: هو أن يخبر أنه يفعل فعلاً في المستقبل لا يفعله.
قال: فإن أخبر عن نفس الفعل فكذب، وإن أخبر عن عزمه على الفعل وقد عزم فليس بكذب.
قال: .....كان العزم مستحيلاً على الله تعالى لم يكن وعده ووعيده إلا خبراً عن الفعل فلو وقع خلف مدة عن ذلك كان من قبيل الكذب.
وقيل في حقيقته: عدم الإيفاء بما وعد أو توعد، والوفاء هو الصدق فيما وعد به أو توعد.
قيل: (وبه يغلب أن الوفاء لا يستعمل إلا في الوعد بالنفع لا بالضرر وقد أعترض بعضهم).
قسمه السيد للحلف إلى كذب وغيره، وقال لا معنى لذلك بل الحلف كذب كله.
وقوله: (إنه إذا كان خبراً عن العزم فليس بكذب غير مستقيم لا أنه إذا أخبر عن عزمه فقط فليس بحلف).
لكن مراد السيد أنه حلف بالنظر إلى الظاهر وليس بكذب ولا حلف إذا كان قصده الإخبار بأنه عازم على ذلك فقط.
فصل:2
وللوعد والوعيد جنبتان: هو بفتح الجيم وسكون النون، والواحدة جنبة، بمعنى ناحية، ويقال: أعتزل جنبه: أي ناحية.
قوله: (والعقلية تشتمل على بيان ما يستحق على الأفعال).
يعني: من المدح واالذم والثواب والعقاب.
وقوله: (وصفة ما يستحق).
يعني: ذكر صفات المدح والذم والثواب والعقاب وخصائصهما.
وقوله: (وما يزيل الإستحقاق).
إشارة إلى الكلام في مسألة التوبة وفروعها وما يتعلق بها وزيادة الثواب على العقاب والعكس.
قوله: (وما يحسن إسقاطه وما يجب).
إشارة إلى الكلام في أنه ييحسن العفو عقلاً وإسقاط العقاب تفضلاً وإسقاط الثواب بزيادة العقاب وإلى أنه يجب إسقاط العقاب بالتوبة أو بزيادة الثواب).
قوله: (وكيفيته الإسقاط).
إشارة إلى بيان كيفية الإحباط والتكفير وفروعهما وإلى الحساب ونحو ذلك، يعني بنحو ذلك إنطاق الجوارح، وكلامه توهم أنه يذكر أحوالاً للقيامة غير ذكر الصراط والميزان والحساب وليس كذلك فإن هذه هي للأحوال التي ذكرها.
قوله آخر الفصل: (ونحو ذلك).
يعني: كذكر خلود الفساق وذكر الشفاعة، والقول في الجنبة العقلية.
قوله: (اعلم أن الذي يستحق على الأفعال هو المدح والذم والثواب والعقاب).
يعني: الذي يستحق على أفعال المكلفين فالمدح والثواب يستحقان على الطاعة، والذم والعقاب يستحقان على االمعصية.
قوله: (هو كل خبر يرد عليه أن لفظة كل تفيد العموم والحد).
إنما هو للماهية المفردة لا لمجموع الأفراد فالأحسن أن يقال هو الخبر المبني إلى آخره، والخبر جنس يشمل المدح وغيره وهو أولى من قول بعضهم هو القول المبني إلى آخره، لأن القول جنس يفيد.
قوله: (كالمدح على النعمة).
يعني: الخارجة عن كونها طاعة لا يقصد فاعلها بهما وجه الله، وقيل: المراد أنه لا يبتغها ثواب من المنعم عليه.
قوله: (وعلى سائر صفات الكمال).
يعني كحسن الخلقة وكرم النفس والشجاعة والفصاحة مما لا يعد طاعة وإنما هو خلقة أو غريزة.
وقوله: (سائر).
أقامة مقام كل وجميع مما يفيد أستغراق، وعد الحريري هذا في درة الغواص من غلطات الخواص فإنما يستعمل سائر بمعنى نفيه ......قال: كالمدح على النعمة وعلى حسن الخلقة والشجاعة وسائر صفات الكمال ومن المدح الذي لا ينفعه ثواب مدح الباري على ما فعله من الواجبات وغيرها من أفعاله الحسنة كالذم على الإساءة، يقال: إن الإساءة معصية بالذم عليها ........ الععقاب وقد يكلف لتصحيحه بأن المراد الذم على الإساءة من حيث هي إساءة لا من حيث هي معصية فإن للذم عليها وجهين هذا.
و الوجه الثاني: من حيث هي قبيحة أو يكون المراد به لا ...... المسآء إليه.
وقوله: (أختراز من الحكاية).
وقوله: (ومن التعريف للحكاية يكون لقوله ضرر من غيره ..... ... والتعريف ما قصد به بيان الحال والإخبار به فقط.
قوله: (والثواب إلى آخره).
هذا حده إصطلاحاً، وأما لغةً: فهو الجزاء مطلقاً سواء كان بنفع أو ضر.
قال: ......... ثواب الكفار سواء كان الجزاء عاجلاً أو آجلاً دائماً أو منقطعاً.
قوله: (أحترازاً من قول من يُجَوِّز تحمل المشاق لأجل المدح والسرور).
أشار المصنف إلى أن بعضهم يذهب إلى أن المدح وما يحصل من السرور يكفيان في حسن التكليف بالمشاق، وقد أشار إليه في فصل الدليل على إستحقاق الثواب على الطاعة بقوله: فإن قال: هلا كفى إستحقاق المدح إلى آخره واللذاهب إلى ذلك الفلاسفة الإسلاميون.
قوله: (والتعظيم هو كل قول أو فعل أو ترك، إلخ القول).
كأن يمدح أحدنا غيره، والفعل كالقيام في الوجه والإلتقاء للواصل وكالعبادة في حق الله تعالى والترك كما يعتاد من ترك مد الرجل في وجه من يراد تعظيمه وترك الأختباء ونحو ذلك.
وقوله: يبني على أرتفاع حال من وجه إليه أقوى من قول المتكلمين عن إرتفاع حال الغير لأنه يرد عليه أن أحدنا قد يعظم نفسه، إما بالقول كأن يمدحها، أو بالفعل كأن يركب أو يجلس أو يتهيأ بما جرت العادة بكونه علامة للتعظيم وكذلك ترك كثير من الأفعال التي يعتاد أنه لا يفعلها إلا من لا يعظم نفسه.
قوله: (مع القصد).
أحتراز من الحكاية والتعريف ومما يصدر من الأئمة والصالحين من الأفعال والتروك في معاملة الكفرة والفسقة وظاهرها التعظيم فإنها لا تعد تعظيماً في الحقيقة لعدم القصد وإنما يصدر منهم لمصلحة دينية.
قيل: (وقوله: مع القصد).
مستغني عنه بقوله ينبي لأنه ما ذكر لا يبني عن الإرتفاع إلا مع القصد ويلحق بهذا الفصل فوائد:ـ
الأولى: ذهب أبو هاشم إلى أن التعظيم معنى في القلب غير القصد والأعتقاد وليس من أفعال الجوارح وإذا صدر من الله فهو معنى يوجد لا في محل وهذا فيه غاية البعد والصحيح ما تقدم أنه من جنس الأفعال والأقوال والتروك، وأن أريد بالمعنى الإرادة فليس بتعبد إذ لابد من أن يقترن بما ذكر لكن ليست هي وحدها التعظيم بل جزمية أو شرط فيه.
الثانية: أسباب التعظيم تختلف فقد تكون من قبيل أختصاص المعظم بأحوال شريفة، وإن لم يكن له في ذلك أثر، ومنه تعظيم الله تعالى لاختصاصه بصفات الكمال والإلهية، وكذلك تعظيم أهل البيت......... الشريف، وقد يكون من قبيل الإنعام والإحسان، وقد يكون من قبيل فعل الواجب وترك القبح، وقد يكون لأتصال المعظم بمن يستحق التعظيم لأجل بعض الأسباب المذكورة.
الثالثة: قال أبو هاشم: قد يحسن التعظيم من دون إستحقاق كتعظيم من يتصل بمن يستحق التعظيم.
وقال أبو على: لا يحسن إلا مستحقاً أو لقبح التكليف إذ وجه حسنه كونه تعريضاً إلى ما لا ينال إلا به.
قيل: وينبغي ألا يكون بينهما خلاف في الحقيقة لأن أبا هاشم إنما أراد أنه يحسن غير فعل وإن لم يكن بد من سبب، وأبو علي أراد به لا بد من سبب.
الرابعة: التبجيل والإهانة في معنى التعظيم والإستحقاق ولذلك يستعملان مكانهما، وذكر بعضهم أن التبجيل يفارق التعظيم من وجهين:ـ
أحدهما: أنه لا بد أن يقع به رفع لمنزلة من وجه إليه، فلا يتصور في حق الله تعالى لأنه سبحانه وتعالى من الجلال والكبر بالحال لا أرفع منه فلا يمكن الزيادة عليه.
ثانيهما: أن التبجيل لا يتصور في حق الموتى والجماد كالكعبة وغيرها مما صدر في حق من هذه صفته مما ينبي عن أرتفاع حاله فهو تعظيم لا تبجيل، ذكره قاضي القضاة، قال في المحيط: لأنه لا بد في المبجل من أن يكون مريداً ذلك طالباً له، وكذلك الإهانة يفارق الإستحقاق بوجهين:ـ
أحدهما: أنه لا بد فيها من حصول وضع منزلة من وجهت إليه كما يفعله الملوك بخدامهم وأمرائهم.
وثانيهما: أنها لا تكون إلا في حق الأحياء ذكره قاضي القضاة.
فصل:
وهذه الأمور كما تستحق على الفعل فقد تستحق على ألا يفعل، هذا قول أبي هاشم والقاي وتلامذته وجله المتكلمين ويشبه بعضهم إلى الزيدية كلهم والخلاف فيه لأبي علي وأبي القاسم البلخي والجاحظ.
اعلم أن أبا علي بنى مذهبه هذا على قاعدة له وهي أن القادر بالقدرة لا يخلو عن الأخذ والترك، فإذا كلف بترك فعل فمتعلق التكليف فعل تركه الذي لا يمكن الإنفكاك عنه إلا إليه وهو متعلق المدح والثواب وإذا ذم على ترك الواجب وعوقب عليه فمتعلق الذم والعقاب فعل ضده الذي تغير عنه بأنه ترك له ولا يمكن الإنفكاك عنه إلا إليه.
قوله: (وهذا معلوم تآويل العقول).
أراد به يعرف بالعقل من غير تأمل ونظر.
قوله: (ولهذا يعرفه من ينفي الأفعال لعلة).
أراد بنفاة الأفعال بعض الفلاسفة والأصم و....... وهشام بن الحكم وهم الذين ينفون الأكوان رأساً ويزعمون أنه لا شيء زائد على الجسم.
قوله: (فليصح أن يكون مخبراً عنه خبراً ينبي عن أرتفاع أو أتضاع).
هذا كلام فيه ركة وليس من حق صحة أن يخبر عنه بما ذكر أن يستلزم كونه جهة لمدح الغير أو ذمه وأي وجه للملازمة.
قوله: (بكلامهم إنما ......ضد من الأفعال).
يعني لأنهم قد بنوا على أن ما نهى عنه فالتكليف متعلق بتعلق ضده وما أوجب وعوقب على تركه فالعقوبة والذم على فعل ضده فإذا كان من الأفعال ما لا ضد له لم يتم لهم ما قالوه.
قوله: (كالنظر والإعتماد).
أراد على الصحيح المختار وإلا فأبوا علي يذهب إلى أن الإنظار متضادة بحسب إختلاف تعلقها فكل نظرين في أمرين يتضادان على كل وجه سواء كان المتعلق متضاداً أو لا ويذهب أيضاً إلى أن الإعتمادات تتضاد بحسب إختلاف الجهة فما أختلفت...... .. الأعتماد حكم عليه بأنه متضاد فيجريها مجرى الحركات، ولا يجوز أن يجمع في الجسم الواحد اعتمادان مختلفان لتضادهما هكذا نقل عنه إبن متويه.
قوله: (على أن المتولدات لا يص أن يكون لها ترك).
اعلم أن أبا علي يوافق في المتولدات وإنما يقول بعدم جواز خلو القادر بقدرة من أحد والترك في المباشر من الأفعال حيث لا منع.
قال ابن متويه: ولم يقل هذا القول في المتولد من فعلنا فجوز خلو القدرة عن المتولدات من أفعالنا.
قال بن متويه: وإنما قلنا أنه لا يقع في المتولدات التروك لأن من حق الترك والمتروك أن يتضادا والمتولدات من الألم والتأليف والأعتماد والصوت لا يقع فيها تضاد إلا الأكوان فإنه يدخلها التضاد والترك في المتولد بينها لا يصح لأنه إتصل بترك كون متود يكون مبتدأ مضاد له لم يصح لأن ما يتولد من الأكوان محصوله من سبب تولده في الثاني وهو الإعتماد والكون المبتدأ يكون حاله وجوده حال وجود الإعتماد فلا يحصل ما شرطنا من كون الوقت ..... وإن فعل الكون المبتدأ في الحالة التي يقصد فيها المسبب وقد صح أنه لا يوز أن يفعل مبتدأ أريد مما يفعله متولد أما المتولد بالوجود أحق لوجود سببه فإن قدر أنه ترك كون متولد مثله فإن تساوي السببان فليس أحدهما بالإيجاب أولى من الآخر وإن زاد أحدهما فموجبه بالوجود أحق.
واعلم أن الترك والمتروك في الإصطلاح عبارة عن شيئين كان يصح وجود أحدهما بدلا عن الآخر من القادر بقدة وحد أحدهما وهو الترك فاستحال وجود آخر وهو المتروك لأجل وجوده ويسميان أيضاً أحداً وتركاً فالأحذ الموجود والترك بهذه العبارة ما أستحال وجوده.
قوله: (شبههم أن القادر لا يجوز أن يخلو عن الشيء وضده).
في هذا نظر لأن هذه ليست تشبهه لهم وإنما هي القاعدة التي بنوا عليها مذهبهم وإلا فليس أستحالة الخلو من الشيء وضده تكفي في الدلالة على أن لا يفعل ليس بجهة للمدح والذم ونحوهما.
وقوله: (......... ليس بمعنى أبو علي يخالف في هذا ويزعم أنه ضد ثالث للإرادة والكراهة ولكن الصحيح خلافه ولا دليل على ما ذهب إليه).
قوله: (وكذلك القادر القوي ..إلخ).
تحقيق هذا الوجه أن الواحد منا إذا وضع يده على وسادة فأزيلت من تحت يده هوت على سبيل الإستمرار فإن كان يفعل بما فيها من القدرة السكون فقد كان من حقها أن تقف كما تقف لو سكنها في الجو وإن كان يفعل فيها الحركة فإذا وجب نزولها أبد وهلا تحركت في جهة من الجهات غير جهة السفل هكذا حرره ابن متويه.
قوله: (وقال أبو علي كيف ندم ويمدح إلى قوله وهل هذا إلا جبر).
تحقيق هذا الوجه على ما حرره في شرح الأصول أن مذهبكم هذا يضارع مذهب جهم حيث جوز أن تعاقب العمد على ما يتعلق به أصلاً بل حالكم أسوأ من حاله لأن أكبر ما جوزه أن تعاقب العمد على ما يتعلق به وأما ألا يكون هناك فعل ينصرف إليه أستحقاق الذم والعقاب فلا وأنتم جوزتم أن ندم وتعاقب وإن لم يكن هناك فعل ولا كف ولا أخذ ولا ترك ولا صغيرة ولا كبيرة وذلك أدخل في الجهالة من قول جهم.
قال السيد صاحب الشرح: وهل هذه الطريقة إلا طريقة التشنيع الذي لا يعجز عنه عاجز والفرق بيننا وبينه أنه جوز أن يعاقب المرء على ما لا يتعلق به ولا ............. البتة بل على ما لا يقدر عليه ولا يطيقه أصلاً وليس كذلك حالنا فإنا إنما جوزنا نادمه ومعاقبته على أحلاله بما وجب عليه بعد ما أعطى القدرة على ذلك وخلى بينه وبين فعله وألا يفعله وأزيحت علته فيه فكيف يشبه أحد المذهبين الآخر.
قوله: (وذلك مفقود هنا).
يعني لأن أستحقاق الذم ليس بصفة ومزية تأتيه للمستحق ........ له بعد إن لم يثبت مع كون الحال واحدة والشرط واحداً.
قوله: (قالوا بوصفين لم يرد الوديعة ..إلى آخره).
تحقيق تحرير هذه الشبهإن من لم يرد الوديعة أو لم يقض دينه يسمى ظالماً وعاصياً ومتعدياً إلى غير ذلك من الألاظ والإسامي المشتقة عن الأفعال فلو لا أن هناك أفعالاً أخذت ..... هذه الأسماء فاشتقت إلا لما صح ذلك، وتحقيق الجواب من وجوه:ـ
أحدها: ما ذكره المصنف.
وثانيها: أن هذا يوصل بالعبارة إلى إفساد ما قد ركبه الله في العقول حتى علم تأويلها.
وثالثها: أنهم يسمون من لم يرد الوديعة ظالماً مع القطع بعدم علمهم بفعل وجهوه التسمية إليه.
ورابعها: أن أهل اللغة قد يجرون لفظة الفعل على عدم الفعل الذي يقف وجوده على الأختيار كما يقولون لمن لم يطالب غريمه بالذين ولم يستوف منه القصاص أحسن في فعله ولمن لم يرد الوديعة ....... فعل.
قوله: (في التنبيه فإن كل فعل يشتغل به عن الواجب فإنه ترك له).
يعني ويكون قبيحاً لكون منع الواجب من وجوده وذلك كالبيع وصلاة الجمعة ونحوه.
وقوله: (ما لا يمكن الإنفكاك من الواجب المضيق إلا إليه).
هذه الصورة نادرة الوقوع ومثالها أن يكون المكلف في مكان وهو محاط عليه إلا من جهة واحدة فيكلف السكون ولا يمكنه الإحتراك إلا إلى تلك الجهة ومثال ماله تروك كثيرة أن يكلف السكون في مكان مع إمكان الإحتراك في كل جهة من الجهات لعدم المانع وكتكليفه بالصلاة مع إمكان التشاغل عنها بأكل وشرب واضطجاع وغيره ذلك.
قوله: (ولم يكن أيضاً هو واجباً مضيقاً ........ عن نحو الصلاة في آخر الوقت مع المطالبة برد الوديعة.
قوله: (وقيل يقبح كل واحد منها على الجمع).
يعني فكل ما أتى به منها أستح العقاب عليه.
قوله: (وقيل على البدل).
يعني فيكون القبيح منها ما وقع به التشاغل عن الواجب ومنع من فعله وما عداه فلا يحكم عليه بقبح ولا يستحق عليه عقاب وكلما تكشف أن المفعول المانع حكم بقبحه.
فائدة: يقتضي القياس على أصل .......... إن الذي لم يفعل الواجب واشتغل عنه بفعل يمنع عن وجوده يستحق العقاب من جهتين:ـ
أحدهما: كونه لم يفعل الواجب ويكون عقابه من هذه الجهة كاملاً لكمال جهة الإستحقاق وهي أن لم يفعل ويستحق عقاباً آخر على ذلك الفعل المحكوم عليه بالقبح لمنعه عن الواجب وإذا أخل بالواجب ولم يشتغل بففعل من جهة أن يمنع عنه أستحق العقاب من الجهة الأولى فقط، ونقل عن أبي هاشم في ذلك كلام مختلف فذكر تارة أنه إنما يستحق عقاب فعل الضد لأن الوجه الذي لأجله أستحق الذم على كونه لم يفعل الواجب قد حصل بالفعل فلم يستحق إلا عليه وذكر مرة أخرى أنه يستحق قدراً من الذم واحد .......... يستحقه على الوجهين جميعاً أخلاله بالواجب وفعله للقبيح لأن جهة الإستحقاق واحدة فالفعل إنما قبح لكونه ترك واجب والإخلال بالواجب جهة أستحقاق فلما كان وجه قبح القبيح هنا كونه متضمناً للإخلال بالواجب لم يستحق عليه أكثر مما يستحق على الإخلال بالواجب واستحق عليهما معاً تجريهما مجرى الشيء الواحد. قال الحاكم في شرح العيون: وهذا هو الذي أختاره الشيوخ.........
قيل: والوجهان متقاربان لأتفاقهما في أن المستحق عقاب واحد لا عقابان لكن علق في أحد الوجهين بالفعل فقط وفي أحدهما بالجهتين معاً.
قلت: (والذي ذكرناه أولاً هو مقتضى قواعدهم لأنهم إذا حكموا على ألا يفعل بأنه جهة في أستحقاق قدر بم ينضم إلى ذلك فعل الضد المحكوم عليه بالقبح فلا بد من أستحقاق العقاب على فعله لقبحه وإنضمامه إلى ألا يفعل لا يقتضى بطلان كونه جهة في إستحقاق ذلك القدر من العقاب والله سبحانه أعلم).
فصل:
والشرط في أستحقاق المدح والذم والثواب والعقاب علم المكلف بصفة ما أقدم عليه أو تركه أو يمكنه من العلم.
اعلم أن المصنفأقتصر على ذكر هذا الشرك بناء على ظهور ما سواه وعدم أحتياجه إلى الذكر إذ لا يجهل أحد أشتراك قبح الفعل في أستقاق الذم والعقاب واشتراط كون الفعل طاعة في أستحقاق المدح والثواب أو بنى على أن كون الفعل قبيحاً وكون الترك تركاً للواجب سبب في إستحقاق الذم والعقاب لا شرط وكذلك كون الفعل طاعة وكون الترك تركاً للقبيح والمكروه وقد صرح بذلك السيد في شرح الأصول، وأما الذي يذكره الأصحاب فحاصله أن الذم الذي يستحق على الفعل له شروط أربعة:ـ
أحدها: أن يكون الفعل قبيحاً.
ثانيها: ألا يكون ملجى إلى فعله.
ثالثها: ألا يكون له من المدح ما يزيد على ما يتحقه من الذم.
رابعها: أن يكون عالماً أو متمكناً من العلم يقبحه والعقاب المستحق على الفعل يشترط فيه ما ذكر وشرط آخر وهو أن يكون فاعله فعله لشهرة أو شبهة.
قالوا: والمراد بهذا الشرط الإحتراز من القبيح وقدر وقوعه من الحكيم ...... فإنه لا يستحق عقاباً عليه لعدم حصول هذا الشرط والمراد بما يفعل لشبهة العقائد الفاسدة والظنون القبيحة ونحو ما يفعله بعض المجوس من إلقائهم أنفسهم في النار لاعتقادهم التخلص بذلك من عالم الظلمة إلى عالم النور، وأن الذم الذي يستحق على الترك له شروط أربعة:ـ
أن يكون المتروك واجباً وعدم الالحاد.
وكونه لا مدح للتارك يزيد على ذمه.
وكون التارك لذلك الفعل عالماً بوجوبه أو ممكناً من العلم.
وهذه هي الشروط في إستحقاق العقاب مع كون ترك ذلك لشهوة أو شبهة.
قلت: (وهذا الشرط الخامس لا حاجة إليه لأن الكلام في شرائط أستحقاق المكلف لما ذكر ولذلك لم يذكر المصنف أشتراط عدم الإلجاء لأنه ينافي التكليف وكلامنا في المكلف ولم يذكر أشتراط الا يزيد ما يستحقه من المدح أو الثواب على ما يستحقه من الذم أو العقاب أستغناء عنه بما سيأتي في مسائل الإحباط والتكثير، وأما شرائط المدح والثواب على فعل الطاعة وترك المعصية نفسها على ما ذكر وهي أن يكون للفعل صفة زائدة على حسبه، وأن يكون المتروك قبيحاً أو مكروهاً ........... الألجاء وكونه لا يستحق ما يزيد على المدح ولا عقاب يزيد على ثوابه، وأن يكون فعله للطاعة لأجل كونا طاعة وتركه للقبيح والمكروه لأجل كونه كذلك، ولا شك أن المصنف أختصر الكلام في هذا الفصل أختصاراً مخلاً.
فصل:
قوله: (والدليل على أستحقاق الثواب على الطاعة وترك المعصية..إلخ).
اعلم أولاً أن القول بأستحقاق الثواب على ما ذكروا وجوبه على الله تعالى هو قول البصريين من المعتزلة، وقال الشيخ أبو القاسم أنه غير مستحق ولا واجب، قال: وإذا قلنا بوجوبه فالمعنى أنه وجوب جود وتفضل بمعنى أن جوده وكرمه يقضي بأن ينعم به تعالى لأنه حق للمثاب عليه وظاهره أنه خلاف في الحقيقة، والمعنى وأنه يقول لو أحل الله بذلك لم يستحق بعدما وأنه لو يستحق الطاعة لما له من سابق النعم. وقيل بل خلاف لفظي لموافقته في أنه لا بد أن يفعل وإنما منع من أجر العبادة بالوجوب على الله، وأما المجبرة فخلافهم ظاهر من وجهين:ـ
أحدهما: أنهم لا يوجبون على الله واجباً ويرفعون القاعدة العقلية في ذلك.
والثاني: أنهم ينسبون الأفعال إلى الله فكيف يستحق الثواب عليه والفعل فعله فهذه جهة من الأختلاف.
الجهة الثانية: أختلف في دليل ذلك هل هو عقلي وسمعي أم سمعي فقط فقالت المعتزلة جميعاً يستدل على ذلك بالعقل كما ذكره المصنف وبالسمع وهو تسمية الله للثواب جزاء وأجراً لقوله:{........ بما كانوا يعمملون ويوفيهم أجورهم}. ونحو ذلك، ومثل هذا يقضي بأنه كالدين إذ لا يعبر بالوفاء إلا عما هو مستحق ولا يسمى التفضل وفاء ويقضي بأنه شيء قد علم قدره كالأجرة المعلومة وتسميته جزاء دليل واضح على كونه مستحقاً إذ لا يسمى التفضل جزاء والخلاف في هذه الجهة للمجبرة فإنهم ينفون دلالة العقل بناء على قواعدهم فأما المجبرة فالكلام بيننا وبينهم في القواعد التي بنوا عليها.
وأما أبو القاسم فيقال له: إن من أنعم على غيره ثم أمكنه أستخدامه على وجه لا يلحقه به مشقة فإنه يقبح منه أن يعدل إلى أستخدامه على الوجه الشاق لأجل النعم السابقة إذ هو بمنزلة من أنعم على غيره بألف دينار ثم جعل يضربه ضرباً عنيفاً لمكان ذلك الإحسان وكذلك من أنعم على غيره نعمة ثم أنه كلفه لأجل ذلك الإشتغال بمدحه والثناء عليه من دون وجه سواء ما سبق له من النعمة قاصداً الأحسان ولأنه لو كان التكليف لأجل النعم السابقة لزم ألا يختلف تكليف المكلفين بها إلا لأجل أختلافهم في النعم ونحن نجد في المكلفين من تكليفه أشق والإنعام عليه أقل ولأنه لا يقع لله في تكليفنا فيلزمنا أياه لأجل إنعامه علينا ....... في نفي التحسين والتقبيح العقليين ويقولون لا طريق إلى أستحقاق الثواب إلا السمع إذ الإستحقاق مقتضيه وعده تعالى به لا لأجل العمل هكذا قدر الخلاف من هذه الجهة بعض المتأخرين بهذا.
قلت: وفيه نظر من وجهين:ـ
أحدهما: يشبه القول بدلالة العقل والسمع هنا إلى جميع المعتزلة ودعوى أتفاقهم عيه مع خلاف أبي القاسم المتقدم فإنه لا يقول بالإستحقاق فضلاً أن ييقضي بدلالة العقل عليه.
الثاني: أنه لا معنى لتشبه القول بالإستحقاق سمعاً فقط إلى المجبرة فإنهم ينفونه عقلاً وسمعاً وإنما يبنون بالسمع أتصال الثواب الموعود به لا أستحقاقه فقواعدهم تأباه فليتأمل.
قوله: (أو يزيل الشهوة النفار).
يعني يزيل شهوة القبيح والنفرة عن الحسن أو تحولهما فيجعل النفرة متعلقة بالقبيح والشهوة متعلقة بالحسن.
قوله: (يجري مجرى إنزال المشقة).
يعني فكما أنه لا يحسن أن ينزل بنا مشقة لا ليقع ولا أستحقاق لا يحسن أن يلزمنا فعلاً شاقاً لا ليقع ولا أستحقاق مع إمكان أن يجعل فعل ما أمرنا به وترك ما نهانا عنه غير شاق.
قوله: (ولأن التكليف يقتضي وجوب يقع من جهة المكلف والتفضل لا يجب فيه نظر لأنه أحتجاج بنفس المذهب أو أتكال على ما سبق ورجوع إليه).
قوله: (فإن قال هلا كان له أن يلزمنا المشاق.. إلى آخره).
إشارة إلى ما ذهب إليه أبو القاسم وخروج إلى ذكر ما يبطل به قوله في ذلك وقد قدمنا ما يبطل قوله على جهة الإستقلال وهو قريب مما ذكره المصنف ههنا ضمناً لجواب هذا السؤال.
قوله: وتجري هذه العبادات مجرى الشكر لها لم يجعلها شكراً حقيقياً لأنها لا تخلوا عن مخالفة للشكر على ما قرر في غير هذا الموضع.
قوله: (وبعد فحسن التكليف مشروط بأصول النعم إلى آخره).
كلام غير واضح فليس أشتراط أصول النعم في حسن التكليف يدفع أن يكون ما كلف به ساقطاً ثوابه لأجل تلك النعم هي وغيرها ولا يمنع من ذلك بل ......... فإنه يقال لولا حصول تلك النعم التي يتوجه لأجلها على العبد تلك الطاعات لما حسن من الحكم إلزامه أياها ألا ترى أن الشكر لا يحسن إلا مع تقدم النعمة التي يشتد عنه فحسبه مشروط بحصولها ولا يمنع ذلك من أن يكون في مقابلها ومن كون المنعم لا يجب عليه للشاكر ثواب فجزاء غير ما تقدم منه من الإنعام عليه.
قوله: (وبعد فهذا يؤدي إلى أن يسقط وجوب شكر نعمة الله علينا.. إلى آخره).
يقال: إن الشكر من جملة الواجبات المستحقة لأجل نعمة الله فلما كانت نعمة الله جليلة القدر..... الحصر وجب على الواحد منا في مقابلتها واجبات الشكر باللسان أحدها فلا معنى لإلزام سقوطه.
قوله: (بل كان يلزم ألا تبقى علينا له نعمة).
غير سديد فليس مقابلتنا للنعمة بما يجب لأجلها من الشكر وما يجري مجراه يلزم منه أنتفاؤها ومصيرها في حكم العدم بل يلزم منه قيامنا بحقها وحسن المقابلة لها بما يستدعيه وسقوط الواجب عنا في ذلك.
قوله: (فإن قال هلا كفى أستحقاق المدح على الطاعة إلى آخره قد نسب القول بذلك إلى بعض الفلاسفة الإسلاميين فذكر أنهم يذهبون إلى أن المدح وما يقع من السرور كان في حسن التكليف بالمشاق.
قوله: (فإنا رأينا العرب يبذلون الرغائب).
((جمع رغيبه والرغيبة العطاء الكثير. ذكره الجوهري)) وتلخيص ذلك أن يقال المعلوم أنه قد يلتذ بالمدح أعظم الألتذاذ بالطعام والشراب ويجد الناس يتحملون المشاق العظيمة في طلب المدح ويبذلون المهج ونفائس الأموال في ذلك.
قوله: (لم يقع به اعتداد).
فيه نظر فإن المعلوم أنهم قد يعتدون بالمدح وإن لم ينضم إليه نفع.
قوله: (لإعتقاد النفع).
فيه نظر فإنهم يبذلون ما ذكر للألتذاذ بالمدح نفيه لا لأعتقاد عود نفع منه.
قوله: (يستحق عليه لو لم يكن شاقاً).
تحقيق هذا الوجه أن المدح والثناء قد يستحق على ما ليس بشاق كما يستحقه الله على النعم أو لا مشقة في حقه، وكذلك رد أحدنا الوديعة من غير مشقة فلا يجعل الواجبات شاقة علينا فلولا أن في مقابلة المشقة ما لا يحس ألا لأجلها وهو الثواب كان جعل الواجبات شاقة عبثاً وظلماً وهو تعالى عدل حكيم لا يظلم أحداً.
قوله: (وأما السرور.. إلى آخره).
رد لما نسب إلى الفلاسفة على ما ذكرناه وإن لم نذكره في المتن.
قوله: (فلا يصح أن يجعل ي مقابله الشاق).
تلخيص ذلك أن يقال ما تريدون بالسرور هل السرور الحاصل بالمدح فهو تابع له وفي حكمه وقد بينا أن المدح لا يستقل وجهاً في حسن التكليف لإمكان حصوله ووصوله من غير إلزام الشاق، وإن أردتم السرور لا بالمدح بل السرور المطلق وأنه يحصل بفعل الطاعة فالسرور على ما نذكر علم الحي أو ظنه أو أعتقاده بحصول يقع له أو دفع ضرر عنه في المستقبل ولا يصح أن يستقل ذلك وجهاً في حسن إلزام الشاق أما الظن والأعتقاد فلأنه لا يقع بهما أعتداد من الجائز عدم مطابقتهما، وأما العلم فإن كان علما بحصول يقع فليس إلا الثواب وهو الذي يقول وإن كان علما بدفع ضرر وهو العقاب فدفع هذه المضرة كان ممكناً مع عدم إلزام الشاق، فإن سلبنا شهوة القبيح ............ شهوة الحسن.
قوله: (ودليله أن الثواب نظير المدح.. إلى آخره).
هذا الدليل فيه ضعف كما ترى وليس كون الثواب مستحقاً على الطاعة كالمدح يلزم منه تساويهما في الإستمرار والدوام كما لا يلزم منه تساويهما في غير ذلك فالمعتمد في دوامه دليل السمع فإن القرآن فيه تصريح بذلك وتأكيد له وكذلك السنة النبوية والأخبار الصحيحة المروية.
قوله: (لأدى ذلك إلى التبعيص فيه ضعف أيضاً ويمكن أن يقال التبعيضينتفي بعلم الإستمرار ولو تفضلاً وليس تأدية قطع الثواب إلى التبعيض يكون سبباً في وجوب دوامه إذا لم يكن واجباً من الأصل بل إذا لم يكن واجباً من أصله لم يقع مبالاة بالتبعيض بعد إيفاء الواجب.
قوله: (لكان أعلى حالاً).
فيه نظر بل اللازم أن يكونا مستويين في جواز قطعهما وفي جواز إستمرارهما تفضلاً لا وجوباً ولا مانع من أستواء الثواب والتفضل في ذلك مع أمتياز الثواب بمقارنة التعظيم وغيره من المزايا.
قوله: (ولقبح التكليف لأجل الثواب).
كلام لا طائل تحته فليس تقدير إنقطاع الثواب مع عظمة وسعته ومقارنة التعظيم له وكونه لا ينال إلا بالتكليف يقتضي قبح التكليف لأجله.
قوله: (ولأخبار العقلاء التفضيل الدائم .. إلى آخره).
كلام ركيك ولا يتقرر إلا لو كان من لم ....... ثواباً منقطعاً تفضل عليه تفضلاً دائماً ولا قائل بذلك.
قوله: (وأيضاً فإذا كان لا يمكن تقديره بوقت دون وقت.. إلى آخره).
هذا خطل من القول ويقال عليه ما تريد هل لا يمكنا نحن تصحيح لكن ليس ذلك يستلزم عدم إمكان التقدير من المثبت القدير العالم بالمقادير أو لا يمكن ........ فغير مسلم وصار الحال في ذلك كالحال في كمية أجزاء الثواب فإنه لا يمكنا معرفة مقدارها والباري يعلم ذلك ولا يصح أن يقال إذا كان لا يمكن تقدير أحوالها بقدر دون قدر فوجب ألا يتناهى.
قوله: (ومن هنا زال التكليف عن المثابين وصاروا ملجئين).
يعنيلكون التكليف يستلزم المشقة والتبعيض وإذا زال لا بد من أن يكونوا في حكم الملجئين حيث لم يقابل دواعيهم إلى الحسن صارت عنه ولا صواب فهم عن القبيح داع إليه وليس ثم ........ حقيقي فكان ينبغي أن يقول في حكم الملجئين.
قوله: (ومنها أن يكون بالغالي الندر مبلغاً عظيماً لا يحسن الإبتداء بمثله في المقدار لتفارق التفضل).
وقوله: (فلا بد أن يكون منافع الجزء الواحد أكبر من منافع التفضل بالغة ما بلغت).
هكذا قال أبو هاشم ورجع إليه أبو علي وأطلقه المتكلمون وهو عندي من الغلطات العظيمة وحاصله ومؤداه يقتضي أن يكون ثواب أقل جز من الطاعة وأدنى ما يكون من القربة بالغاً في الكثرة حداً لا يتناهى إذا ما من قدر ينتهي إليه إلا ويجوز التفضل بمثله لا محالة فإن التفضل لأحد له ينتهي إليه ويحكم على ما بعده بالقبح بل من المعلوم أن أراد زيادة التفضيل زيادة في الفضل والإحسان فتؤدي هذه المقالة إلى محذورين:ـ
أحدهما: أنه يجب أن يبلغ ثواب كل طاعة وإن قلت ودقت ما لا يتناهى واستحقاق ما لا يتناهى في الوقت المنحصر محال لأن حصوله وإيصاله كذلك محال.
الثاني: تأديته إلى إستواء مقادير ثواب الطاعات وأنه لا فرق بين أدناها وأعلاها إذ لا زيادة على ما يتناهى يمكن الإشارة إليها وقد تكلف المصنف وغيره في تصحيح ذلك ما وقعت الإشارة إليه بقوله: (والوجه في ذلك أن الصفة التي هي التعظيم.. إلى آخره)، وهو تعسف ويلزم عليه أن تصح الإبانة بقدر من المنافع من دون تعظيم بأن يكون فيها كثرة فبعضها هو القدر المستحق وبعضها يقابل التعظيم ومن قواعدهم المشهورة أنه لا بد من مقارنه التعظيم منافع الثواب وإن زيادة ........ لا يقوم مقامه ولا ينبغي أن يصغي إلى هذا الكلام إذن ولا أن يلتفت إليه فإنه كلام فاسد منهار القواعد خال عن الفوائد والقول الفصل والحق العدل أن الثواب يمتاز بمقارنة التعظيم والإستحقاق ويستحق منه قدر معلوم على قدر الطاعة وهو بمنزلة الأجرة في الشاهد فكما أن من أستعمل غيره في أمر شاق أو أستهلك منافع عين لغيره يجب عليه تعويضه بقدر قيمة تلك المنافع وأجرة مثله ولا يشترط أن يبلغ ذلك مبلغاً لا يحسن التفضل بمثله كذلك هاهنا فقد يكون للأجرة المستحقة ....... ويحسن من المستحقه هي على أن يتفضل على ذلك المستححق بقنطار وما أتي للأصحاب في هذا ونحوه إلا من التعسف والتكلف ولأقتراح وعن ذلك مندوحات ومخلص من عدة جهات والله الموفق.
قوله: (ولا شك أن الواحد ثواب والتسعة الثانية تفضل إلى أجره ذكر في اتهذيب ما يقتضي بمثل ذلك فإنه في في تفسير {وعشر أمثالها}: المراد أمثالها في كونها حسنة لا في الكثرة لأن هذه بعضها تفضل والتفضل لا يساوي الثواب في الكثرة عن أكثر الشيوخ. وقيل مثها في الكثرة ثم أختلفوا من وجه أخر، فقيل: واحد منها ثواب وتسعة تفضل. وقيل: العشرة كلها تفضل والثواب غيرها لأنه قال: {عشر أمثالها}. يريد الحسنة والثواب لا يقابل الحسنة لأنها طاعة شاقة وهو والتفضل من قبيل الملاذ فيجب أن يقدر عشر أمثال أجزائها أي ثوابها فيلزم أن تكون العشرة غير الثواب وللقائل أن يقول من أين لكم هذا؟ فإن الله سبحانه صرح بأن كل واحدة من العشر مثل فدل ذلك على أن العشر متماثلة لا تزيد واحدة منها على واحدة وقد ذهبت إلى أن الثواب لا بد أن يكون بالغاً في القدر مبلغاً عظيماً فهذا هو المبلغ المذكور أن الطاعة يستحق عليها عشر أمثالها وتكون العشرة كلها ثواب ........ لا أن الثواب واحد منها فقط وظاهر الآية يقضي بأن العشرة مستحقة مستوية ويمكن الجواب بأنه يمنع من ذلك أن الله سبحانه قد نص على أنه لا يستحق على الستة إلا مثلها والذي يستحق على السته إن لم يرد على ما يستحق على الطاعة لم ينقص منه بل قد نص محققوا العلماء على أن الذي يستحق على المعصية من أجزاء العقاب بالنظر إليها أكثر مما يستحق من أجزاء الثواب على الطاعة بالنظر إليها لأن طاعة المنعم بأصول النعم ليست في عظم الموقع معصيته ومقابلة أحسانه بعصيانه.
قال الزمخشري في منهاجه: معصية الله أعظم من طاعته لعظم إنعامه كما أن لطم ثلاثة أعظم من تقبيل رأسه أنتهى.
فإذا كان لا يستحق على السته إلا مثلها فكيف يستحق على الطاعة عشرة أمثالها ولأنه لا معنى للمماثلة بين الطاعة والجزاء إلا أنه قدر المستحق عليها أو لا يتصور المماثلة بينهما في الجنسية ولا غيرها سوء ما ذكر فلم يكن بد من القول بأن الزائد على القدر المستحق تفضل.
وأما قولهم: لا بد أن تكون منافع الواحد وهو المستحق أكثر من منافع التسعة فبعيد وغير سديد وكيف يعد أمثالاً له والحال هذه وتقليلهم بأن الثواب لا بد أن يمتاز عن التفضل ليس بواضح فإنه يمتاز بمقارنة التعظيم فالعشر أمثال في النفع والواحد الذي هو ثواب يمتاز بكونه مستحقاً ومقاربة التعظيم ولو كان أجزاء النفع المستحق ثواباً يمتاز عن التفضل بالكثرة لزم أن يستحق على أقل الطاعات من المنافع ما لا يتناهى لأنه ما من قدر من المنافع إلا ويجوز التفضل بمثله والله أعلم.
فصل:
قوله: (والذي يدل على أن العاصي يستحق العقاب.. إلى آخره).
اعلم أن جمهور المعتزلة يذهبون إلى أن أستحقاق العقاب يعلم عقلاً أو سمعاً، وأبو القاسم يوافقهم هنا فالعقل ما ذكره المصنف وغيره، والسمع يسميه الله العقاب جزاء كقوله: {ذلك جزيناهم ببغيهم }. فلو لا أستحقاقه لم يسم جزاء. وقوله: {وما ظلمناهم ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون}. ولولا الإستحقاق لكان العقاب أشد الظلم ولأن الله سبحانه وتعالى صرح في القرآن بأنه يعاقب العصاة وكرر ذلك في غير موضع وقد دلت البراهين القطعية على عدله وحكمته فيعلم من ذلك أن العقاب مستحق إذ لا وجه يقتضي حسنه إلا الإستحقاق فمن المعلوم أنه ضرر عظيم وأنه لا يقع فيه ولا دفع ضرر يقاربه ولا يدانيه فضلاً أن يزيد عليه أو يساويه فدل ذلك على أنه مستحق ولا يبعد أن يكون مثل هذا الإستدلال مركباً من العقل والسمع.
وقال السيد أبو القاسم المرتضى من العدلية: فالكراميه من المجبرة لا يعلم إستحقاق العقاب إلا بالسمع ولا مجال للعقل في ذلك.
قوله: (هو أن الله جعل العقل شاقاً علينا.. إلى آخره).
هذا الدليل ذكره أبو هاشم وتُوبِعَ عليه، وهو عندي في غاية الضعف، فإن مناسبة خلق شهوة القبيح فينا ونفرة للحسن وحصول الدواعي إلى القبيح والصوارف عن الحسن لعدم أستحقاق العقاب أكثر من مناسبتها لاستحقاقه فما أضعف هذا المسلك وهو يتقرر أن يقال أنت يا هذا العاصي تستحق العقوبة لأن الله خلق لك شهوة تدعوك إلى الفعل الذي تستحق العقاب عليه ففعته لأجل الشهوة المركبة فيك التي لا تقف على إختيارك ولا يكمل لك الإختبار معها فما أرك هذا القول وأسمجه وأكثر ما ........ أن يكون ذلك دليلاً على أن الله لا ب أن ينذره ويتوعده بأيصال العقاب إليه، وأما على نفس الإستحقاق فلا ولكن البرهان الساطع والدليل القاطع دليل السمع الصادر عن العدل الحكيم الذي لا يظلم العباد ولا يريد الفساد وهو الدليل المركب الذي قدمنا ذكره والإشارة إليه فلا تعدل عنه إلى هذا البرهان التي لا يفيد ولا يبلغك ما تريد ولا يبلغ بك إلى مرتبة الظن فضلاً عن العلم اليقين والله المعين.
قوله: (وبعد فقد أوجب علينا الطاعة.. إلى آخره).
هذا الدليل الثاني من جهة العقل على أستحقاق العقاب وهو الذي حرره قاضي القضاة وتبعه عليه الحاكم والسيد صاحب شرح الأصول وغيرهم.
قيل: والتحقيق أنه دليل مركب من العقل والسمع لأنه مبني على ورود للأمر بالطاعات وهو سمعي وعلى أن الله عدل حكيم فلولا أن المكلف يتخلص بفعل الواجب من ضرر عظيم لما حس منه .... هذا الإيجاب وهذا عقلي وهو عندي كالأول في الركة وناهيك بأنهم حكموا فيه بأن وجه حسن التكليف دفع ضرر العقاب والعقاب لا يستحق إلا بعد التكليف فجعلوا وجهه الحسن متأخراً ومن المعلوم أن وجوه الأفعال لا يؤثر فيها ما يتأخر عنها وهذه قاعدة من قواعدهم المشهورة المذكورة في غير موضع وإنما يتصور ذلك لو كان يصح أستحقاق العقاب قبل التكليف ومع عدمه فيقال وجه حسنه دفع ذلك الرر وقد أورده على الأسئلة الواردة على الدليل الثاني.
وبقوله: (فإن قال هلا كفى أستحقاق الذم.. إلى آخره).
وهو من الأسئلة الواردة على الدليل الأول وقد أستكملها الإمام المهدي رحمه الله في الغايات وبسطها وتكلف الجواب عنها ومع ما قدمناه من أستصحاف هذين الدليلين لا ينبغي الإشتغال بكثرة الأسئلة الواردة عليهما والأجوبة فإنما يشتغل بذلك مريد التصحيح ومتكلفه، ومن العجائب ما ذهب إليه قاضي القضاة من كون أستحقاق العقاب لا يصح أن يعلم إلا بالعقل ولا يصح الإستدلال بالسمع عليه وأسترجاح الإمام المهدي لذلك.
وقوله: (والمختار ما ذكره قاضي القضاة).
وعلل ذلك بتعليل بسط فيه وليس بشيء وحكي عن أبي رشيد أستدلاله بما قدمنا ذكره وهو الدليل المركب واعتماد بعض المتأخرين عليه وتربيعه للأدلة العقلية كما قدرناه سواء وهو الحق، وكان رقمنا لذلك وتقريرنا له قبل أن يطلع على أنا قد سبقنا إليه وإنما هو من قبيل نوادر النظار الموفقة المنورة. والحمد لله.
قوله: (فإن قال إنما يحسن إنزال الضرر لأجل التشفي).
هذا يرد على أصل المسألة وهو القول بأستحقاق العقاب لا على واحد من الدليلين المذكورين.
قوله: (لأنه نظير الذم ولأنه لو كان منقطعاً.. إلى آخره).
قد تقدم التنظير على مثل هذا في دليل دوام الثواب ومثله يرد هنا وزيادة بأن دوام العقاب الذي هو ضرر عظيم يفتقر القول به إلى الدليل القاطع والبرهان الساطع فإن الحظر في إدامته والقول بها أشد من الحظر في دوام الثواب والقول به إذ لا ظلم هناك يمكن تقديره، وأما العقاب فإن دوامه ما لم يثبت أستحقاقه بالدليل القطعي لا يحسن الإقدام عليه ولا على القول به ولا يعقل عما قدمناه من كون الأعتماد على دليل السمع فقد صرح الله سبحانه بأدامة العقاب وخلود أهل النار وأنهم لا يغيبون عنها فأرجع إليه وأعتمد عليه ورت على ذلك العلم بأستحقاقه فلولاه لما وقع من العدل الحكيم ولا يعتمد على هذه الأدلة المتكلفة التي إذا عرضتها على قوانين البراهين وحدتها عنها بمراحل وكيف يستدل على أن العقاب العظيم للأليم الذي يدهش الألباب ذكره فضلا عن الوقوع فيه يستحق دوامه أبد الأبدين ودهر الداهرين بأن المنقطع يسهل على كثير من الناس ولا ....... ما الوقوع في النار لحظة وطرفة عين يسهل على أحد وأما كونهم مع العلم بدوامه أبعد عن المعصية بصحيح لكن ذلك لا يقتضي أستحقاق الدوام كما أنه لا يقتضي أستحقاق عقاب الكفر على الفسق وعقاب الكبيرة على الصغيرة مع أنا نعلم أن العلم بذلك يقتضي كون العالم به أبعد عن مواقعة الفسق وأقتراف الصغيرة.
قوله: (ولمثل ذلك يجب أن يبلغ مبلغاً عظيماً.. إلى آخره).
فيه نظر فليس أقتضاء البعد عن المعصية يوجب أستحقاق ذلك كما قدمناه آنفاً إذن لأقتضىذلك أستحقاق ما لا نهاية له لأنه ما من قدر إلا والعلم بما هو أعظم منه أبلغ في كون العالم به أبعد عن المعصية وإنما الحق أن لكل معصية قدراً يستحق من العقاب عليها يحيط الله بعلمه ويوصله إلى مستحقه ليس لنا فيه مجال ولا مقال فلنقتصر حيث مبلغ علمنا والعلم علم الملك المتعال.
وقوله: (لتفارق الإمتحان).
يقال: هو تفارق بغير ذلك فإن الإمتحان وجه حسنه التحريض عليه واللطف فيه وعدم الإستحقاق وهذا مستحق لا نفع فيه ولا أعتبار لكن الإستحقاق مما يعلم أستحقاق العصاة له ومما صرح به القرآن لا لهذا الوجه المذكور.
قوله: (لمثل ما تقدم).
يقال: الذي تقدم خلوص الثواب عن كل تبعيض وفسقه لوجهه المذكور وليس هو الوجه في خلوص العقاب عما ذكر والذي يقضي به العقل أنه يحسن من الله سبحانه إيصال ما يستحقه العبد من أجزاء العقاب إليه وأنه يحسن منه مع ذلك الأحسان إليه كما قد صرحوا بأن العقل يقضي بحسن العقود وإنما الطريق إلى ذلك السمع ولا كلام إن ظواهره تقتضي بأن أهل النار لا ينالون رَوْحَاً ولا راحة ولا يجابون إلى ذلك مع سؤالهم له وهي ظواهر كثيرة شهيرة.
قوله: (وقال قوم: لا يستحق على الصغيرة).
هذا القول ينسب إلى جعفر بن ........).
اعلم أن مع القول بأن المعاصي تنقسم إلى كبيرة وصغيرة متعمدة لا ينبغي لقائل أن يقول بأن العقاب لا يستحق على ما هذا حاه كما نسب إلى جعفر مع جلالة قدره أنه لا يستحق العقاب على الصغائر ولا يجوز العقاب عليها ولو أنفردت حيث لا ........ عليها وأي وه يحسن هذا القول أو يلبس على صاحبه وإنما ذهب جعفر إلى ذلك بناء على قاعدة له وهي: إن كل عمد كبير وإن الصغير ما وقع سهواً فقط والساهي لا يستحق عقاباً رأساً وهذه القاعدة لو صحت لصح ما بناه عليها فلا ينبغي أن ينازع فيه بل ينقل الكلام إلى قاعدته التي بنى عليها.
فصل:
واستحقاق العقاب والثواب هو من حال الطاعة والمعصية.
قوله: (على معنى أن للمكلف الحكيم.. إلى آخره).
هذا من فروع القول بأستحقاق الثواب والعقاب من حال الطاعة والمعصية وهو مذهب البصرية وله فرع آخر هو محط الفائدة، فإن أتصال الثواب والعقاب في الدنيا لا يتهنا منه إلا اليسير، وذلك الفرع هو: أنه يستحق منذ فعله للطاعة والمعصية في كل وقت أجزاء معلومه منهما ويحسب له ما يجمع في دار الدنيا ولا ينقص منه شيء حتى يُوَفَّاه كاملاً في الآخرة فإذا فعل طاعة يستحق عليها في كل يوم مثلاً خمسة أجزاء من الثواب وعاش مأتي يوم فقد يوفر له ألف جزء فيوفى هذا القدر في الآخرة ثم تستمر له الخمسة، ولا يقال أنه يلزم أستمرار الألف وإلا وقع التبعيض في الجنة بقطع تلك الجملة لأنه إذا لم يصر إليه في الوقت الثاني إلا نصف عشر العشر مما كان قد أعطي في الوقت الأول فلا بد أن يعتم لذلك لأنا نقول إن سلم من الإعتمام وكان في معلوم الله أنه لا يعتم بمانع يمنع الإعتمام ويشغل عنه وإلا أوصل تلك الجملة مفرقة على وجه لا يلحق بإنقطاعها معه أعتمام، هذا ما تقتضيه قاعدة الأصحاب، وإليه ذهب أبو علي وصرح به.
وقال أبو هاشم: بل يجري له الله مثل تلك الجملة في كل وقت تفضلاً لئلا يقع التبعيض.
قيل: وهو باطل لأنه إن جعل هذا الذي يجري ثواباً صار واجباً وهو خلاف ما فرض وإن جعله تفضلاً فذلك يقتضي أن له أن يجريه وله أن لا يجريه، وأبو علي والجمهور لا يمنعون من ذلك.
قوله: (وأختلف القائلون بالموافاة هم بشر بن المعتمر وهشام العوطي ومن تابعهما).
ومعنى القول بالموافاة إن فاعل الطاعة والمعصية لا يحكم له بأنه قد أستحق الثواب والعقاب في الحال بل ينتظر وينظر في أمره فإن وافى الممات ولم يفعل ما يبطل به ثواب الطاعة وعقاب المعصية ثبت أستحقاقه لذلك وإن لم يقع منه موافاة الموت إلا وقد فعل ما يبطل ثوابه لو ثبت أستحقاقه أو عقابه أنكشف أنه لم يستحق ذلك ثم أختلفوا والمشهور في أختلافهم أن بعضهم يقول الموافاة شرط حقيقي في أقتضاء الطاعة للثواب والمعصية للعقاب فلا يثبت الإستحقاق إلا بعد حصول الشرط وهو الموافاة فإذا وافي ولم يتقدم منه ما يسقط ذلك ويبطله أستحق الأجزاء المعلومة من الثواب والعقاب من ححين الموت ولم يعتد بما تقدمه من الأوقات، وبعضهم يجعل الشرط العلم فإن علم الله أنه يوافي بالطاعة حتى أنه لا يصدر منه ما يبطلها أستحق الأجزاء المعلومة من الثواب من حال فعلها وإن علم منه خلاف ذلك لم يستحق عليها شيئاً وكذلك المعصية وقد أشار المصنف إلى هذه الجهة من الأختلاف، وحكي أختلافاً آخر وهو أنه هل المعتبر موافاة الموت أو موافاة القيامة، والفرق بينهما غير واضح لأنه لا حالة بعد الموت يمكن فيها إبطال الطاعة أو المعصية إلا أن يتمخل لذلك وجه يدق وهو أن يقال قد يمكن أن يقع بعد الموت وقبل القيامة ما يبطل الطاعة ويحبطها كمن رمى مسلماً ومات بعد الرمي وأصابه السهم بعد الموت فقتله وفيه تكلف فإن ذلك في حكم الواقع قبل الموت والسبب معصية متقدمة للموت ولعل القائلين بالموافاة لا يختلفون من هذه الحيثية وإنما أختلفت عبارتهم فقط فبعضهم بعبر بالموت وبعضهم بالقيامة يظن أنه لأختلاف في المعنى ولا أختلاف فيه وقد صرح بعض أصحابنا بالخلاف بين أهل الموافاة من هذه الجهة على كيفية حسنه وهو وهم أختلفوا هل يستحق الثواب والعقاب من وقت إنقطاع التكليف أو من وقت الإعادة أو من وقت القيامة، وقال بكل واحد من المذاهب المذكورة طائفة منهم لكن وأي وجه لمن يجعل الإستحقاق وقت
الإعادة أو القيامة مع أن المانع لا يتصور أن يكون إلا بقاء التكليف وكون المكل ممكناً من إبطال ما قد وقع منه من طاعة أو معصية فإذا أنقطع التكليف بالموت فقد زال المانع فما وجه التحكم في تأخير الإستحقاق لوقت الإعادة أو القيامة.
قوله: (إلى حال دخول الجنة والنار أولاً).
يعني فمن لا يعتبر الموافاة يقول بتوفير ما كان يستحقه في الأوقات الماضية على فعل الطاعة والمعصية إلى أن يموت ومن يعتبرها يقول لا يوفرها له مع الموافاة ما تقدمها إلا من قال منهم إن الأعتبار بالعلم بالموافاة لأنها نفسها.
فصل:
والذي لأجله أمتنع إيصاله ذلك في الدنيا وجوه.
اعلم أن مذهب المحققين أن الدنيا وقت لاستحقاق الثواب والعقاب منذ فعل الطاعة والمعصية كما تقدم ولا يصح كونها وقتاً للأتصال فلا يكون أتصال الثواب وتوفيره وأتصال العقاب إلا في الآخرة إلا اليسير حسبما نذكره بعد أو عذاب الإستئصال.
وقال أهل التناسخ: بل يستحقان ويقعان عقيب فعل الطاعة والمعصية ولا يجوز تقدم أستحقاقهما على وقوعهما ويجعلون تكليف الشاق والأمراض والعموم من العقوبات.
وقالت المرجئة: يجوز تعجيل الإستحقاق والوقوع وتأخيرهما جميعاً.
وقال أبو القاسم: يجوز تعجيل بعض الثواب واستحقاقه وبعض العقاب كذلك لا كله فلا بد أن يتأخر أستحقاق البعض ووقوعه إلى الآخرة هكذا قيل عنه.
قلت: وقاعدة أبي القاسم في جعله للثواب من قبيل التفضل وعدم إيجابه له وما يذهب إليه من أنه لا يشترط خلوصه عن كل منغص يقضي بإجازة إيصاله كله في الدنيا وتأخيره إلى الآخرة ........ لفظه الأستحقاق.
وقال أهل الموافاة: بتأخر الإستحقاق والوقوع فقيل إلى أنتظار التكليف وقيل إلى القيامة وقيل إلى الأعادة.
قوله: (لأمر يرجع إلى الحكمة).
يعني وهو أن من حق الحكيم أن يوصل إلى المكلف ثوابه على وه يعلم معه أنه قد وصل ما يستحقه وتنزه الحكيم عن ظلمه وما لم يصل إليه على هذه الكيفية فلا خروج به عن عهدة الواجب هكذا يذكرالأصحاب وفرقوا بين الثواب والعوض في ذلك فجوزوا أتصال العوض وإن لم يعلم المعوض أنه عوض على ما ناله من ألم أو نحوه فيه نظر.
قوله: (وهذا هو الوجه في حسن ......).
يعني كون المكلف مع العلم به أقرب إلى فعل الطاعة لكونها طاعة وترك القبيح لقبحه ويمحص بضده لذلك لأن علمه بالفناء يبعد النفع الموعود هونه والضرر المتوعد هونه.
قوله: (نعم قد يجوز إتصال بعض العقاب في الدنيا كالحدود ونحوها).
أراد بنحوها التعزيرات وظاهر كلامه أن هذا يختص بالعقاب دون الثواب وقد سبق له ما يقضي بذلك فإن الوجوه التي ذكر في منع أتصال الثواب تشمل الكثير واليسير لأنه ذكر أنه لا بد أن يعلم المكلف فيما وصل إليه أنه ثواب أو عقاب ولا بد أن يقارب التعظيم ويعلم أن الحكيم قصد ذلك وظاهر كلام الأصحاب أنه يجوز أتصال اليسير من الثواب وهو ما لا يصير المكلف بتقديمه ملجي.
وقيل: القدر الذي لا يعقد بنقضانه في الآخرة لأنها دار الجزاء فإذا نقص عليه في الآخرة وقت المجازاة ما يتألم بفواته في تلك الحال كان تبعيضاً لأهل النعم.
قلت: ولعلهم يشترطون علم من أوصل إليه بكونه ثواباً ومقاربة التعظيم وعلم المثاب بأن المثيب قاصد له وذلك يتصور بالوحي في زمن الأنبياء والله أعلم، ومما يجوز أتصاله في الدنيا عذاب الأستئصال لأنه لا مانع عنه إذ لا تكليف بعده فيقال أنه يكون في حكم الألجاء.
فصل:
(يجوز من جهة العقل سقوط الأستحقاق مع ثبوت سببه المؤثر فيه).
يعني فيصح أن يسقط أستحقاق الثواب مع حصول الطاعة التي هي سبب فيه ويسقط أستحقاق العقاب مع حصول المعصية التي أقتضته وقد جعل هذا الفصل تمهيداً لما سيأتي من أسباب سقوط الثواب والعقاب لئلا يستنكر سقوطهما بعد حصول ما هو سبب فيهما.
قوله: ونحو ذلك لهذا المعنى أنواع وتفاريع كسقوط القصاص مع ثبوت سببه في القتل العمد العدوان للأبوة ونحوها.
فصل:
والذي به يسقط أستحقاق الثواب سببان.
قوله: (الندم على فعل الطاعة لأنها طاعة مستندهم في ذلك التباس على التوبة فقد صح أنها تصير المعصية الموجودة في حكم المعدومة ويذهب بحكمها وهو أقتضاء العقاب لما دل على ذلك ممن العقل والسمع وهذا من قياس المساواة ويمكن أن يمنع التساوي فيقال العاصي لا بد أن يكون له طريق إلى التخلص من معصيته والخروج عن مقتضاها مع بقاء التكليف إلا فما الفائدة في بقائه مكلفاً ولا سبيل له إلى ذلك إلا بالتوبة وليس كذلك الحكم في المطيعفلا يصح أن يقال أنه لا بد أن يكون له طريق إلى الخروج عن ثواب طاعته وتلافي صدروها منه إذ لا وجه يقتضي ذلك ولا لبقاء التكليف دلالة عليه وأيضاً فقد دلت الأدلة السمعية على أسقاط التوبة للعقاب ولم يرد في هذا دليل سمعي.
قوله: (لأنها طاعة).
كلام مستقيم، إذ لو ندم على فعلها لمضرة لحقته أو منفعة فاتته أو غير ذلك لم يحسن القول بإسقاط الندم لثوابه.
قوله: (عند من تخير المساواة).
أجازها عقلاً لا سمعاً أبو هاشم وقاضي القضاة وأجازها مطلقاً عدة من فضلاء أهل البيت كزين العابدين والقاسم والمؤيد، ومن التابعين الشعبي ومن شيعة أهل البيت جعفر والشيخ الحسن الرصاص والفقيه حميد.
قوله: (لا يجوز أسقاطه بإسقاط العبد المستحق له).
كان القياس أن له أسقاطه فإنه مطلق التصرف فيما يرجع إليه كما أنه يسقط العوض الذي يستحقه على غيره بالأمر أو الأسقاط إلا أن يقال إن صحة الإسقاط هو باعتبار ............ المسقط عنه به فلما كان الله سبحانه لا ينتفع بإسقاط الثواب المستحق عليه ولا ندب إلى ذلك ولا يعلم المسقط الكمية ولا له المطالبة به لم يمتنع ألا يجعل لإسقاطه مع ذلك حكم والله سبحانه أعلم.
قوله: (وبهذين السببين يسقط العقاب).
يعني: الندم على المعصية لكونها معصية وإن يفعل طاعة يستحق عليها من الثواب ما يزيد على عقاب تلك المعصية أو يساويه عند من يجني المساواة إلا أنه لابد مع الندم من العزم كما سيأتي في ذكر التوبة.
قوله: (ويسقط بسبب ثالث ..) إلى آخره.
هذه إشارة إلى مسألة جواز العفو عن العاصي وهي من مسائل الخلاف ذهبت البصرية إلى أنه يجوز عقلاً أن يعفو الله عن العاصي.
وقال أبو القاسم وبشر بن المعتمر: بل لا يجوز من جهة العقل وهاهنا جهة من الخلاف أخرى وهي أنه يحسن من الله عقلاً أن يعفو عن عاصٍ دون عاصٍ ولا يشترك في حسن العفو أن يعم المستوين في العصيان هذا ما ذهب إليه البصرية وذهب أبو القاسم ومحمد بن شبيب إلى أن ذلك لا يحسن لأن محاباة الأختصاص بالأحسان لأحد المستويين في وجه حسن حياتهما به .................. إذا كان الأتصاص لمزية ولما كانت العرب يكره المحاباة ظن أبو القاسم أنهم يستنتجونها أستنتاجاً عقلياً وليس كذلك إنما ترى العرف أن التسوية مع أستواء المعطين أولى ولا مانع من أن يفعل الحكيم غير الأولى إذا كان حسناً كما في عقاب العاصين فإنه لا شك أن الأولى العفو، وأبو القاسم يخالف هذه القاعدة ويقول أنه لا يجوز من الله فعل غير الأولى ولا ترك ما فعله أولى وأنه بمثابة فعل القبيح وترك الواجب ولا وجه لذلك والعفو عن عاص دون عاص كالإحسان إلى شخص دون شخص ولا شك في حسنه وله سبحانه أن يتفضل على من يشاء بما شاء.
قوله: (لنا أنه حق الله تعالى ..) إلى آخره.
يقال: فيلزم أن يصح من المنعم إسقاط الشكر لأنه حق له ويجاب بأن المصنف قد أحترز عن هذا بقوله: (وإليه أستبقاؤه). والشكر ليس كذلك بل يكون نظير ........... قضاء الدين فإنه حق لصاحبه وإليه أستيفاؤه وقد قيل الواجبات المتعلقة بالغير منقسمة فما لم يجب إلا لكونه حقاً للغير كقضاء الدين ورد الوديعة سقط بإسقاط من هو له وما كان واجباً بنفسه لم يكن كذلك كشكر المنعم ومعرفة الله فإن الشكر إنما وجب لكونه أعترافاً بالنعمة الواصلة والمعرفة إنما وجبت لكونها لطفاً لا لكونها حقاً لله فلو جاز إسقاط الشكر لكان فيه جواز إنكار وقوع النعمة وإباحة ذلك ولو جاز إسقاط المعرفة لكان فيه إسقاط وجوب اللطف.
قوله: (بل هو أيضاً حق للمذموم).
كان الأولى أن يقول بل هو حق لكان أحد جتى المذموم نفسه يستحق الذم لنفسه لئلا يتوهم أنه لا يشارك المعصي فيه إلا العاصي المستحق له وحده.
قوله: (ويكون في حكم المغري على المعصية).
يعني بخلو الشهوة مع التجويز وعدم القطع بالعقوبة عليها.
قوله: (إن ظن نزول العقاب المستحق يكفي في التخويف ..) إلى آخره.
هو كلام حسن جيد وقد بالغ بعض المتأخرين فأدعى أنه لا بد من التجويز ولا يجوز القطع بالعقاب لأن مع القطع به يصير ملجي فلا بد من تجويز سقوطه بعفو أو توبة.
قوله: (وليس من حق الزجر أن يكون على أبلغ الوجوه وإلا وجب ألا يسقط بالتوبة).
يقال: إما أنه لا يجب أن يكون الزجر على أبلغ الوجوه فصحيح والألزام أن يجعل عقاب أصغر المعاصي أبلغ نوع من العذاب ونحو ذلك من المحالات وأما أستظهار المصنف بلزوم وجوب ألا يسقط بالتوبة فللقائل أن يقول ذلك أمر واجب فلا يلزم الإخلال به من أجل حصول المبالغة في الزجر ويجاب بأن المخالف في المسألة لا يقول بوجوب قبول التوبة لأنه يجعل وجوبها وجوب جود لا وجوباً تقتضيه الحكمة.
قوله: (لو تركنا ......... لما ..... ) إلى آخره.
كلام غير مستقيم لأنه يشعر بأنه إنما يستحق الذم لأجل لحوق العقاب به لكن سباق كلامه يقضي بأنه أراد لأجل أستحقاق العقاب وهو غير صحيح بل لأستحقاق الذم والتحقيق أنه إذا فعل المعصية أستحق أمرين الذم والعقاب وحسن من المستحق لكل منهما أتصاله إليه فالذم يستحقه كل أحد حتى المذموم والعقاب يستحقه الله سبحانه، وليس يلزم من سقوط أحدهما بإسقاط المستحق له سقوط الآخر ولا من مسامحة أحد المستحقين مسامحة الآخر.
فصل: في الإحباط والتكفير.
وهي خمسة فصول ذكرها المصنف في الأحباط والتكفير وما يستدعيانه ويتعلق بهما وكيفيتهما وقدم عليها ذكر حقيقتهما في الأصطلاح.
وأما حقيقتهما لغة: فالأحباط هو: الإهلاك وأصله تلف الحيوان بالحبط وهو أن يأكل الدابة فتكبر فينتفخ بطنها قال صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((........ مما ينبت الريح ما يقتل حبطاً أو بلم)). ثم أستعير كل ما يحصل به تلف غيره فلما كان سقوط الثواب بالعقاب بعد أستحقاقه يشبه تلفه بعد مصيره إلى مستحقه وحصوله سمي إحباطاً.
والتكفير لغة: التغطيةة فلما كان سقوط القعاب بالثواب كساتر له والحائل دونه شبهوا الثواب بالغطاء مكانه مغط للعقاب وساتر له عن أعين الناس، ولم يسموه إحباطاً هرباً عن تسميته بما يشعر بالهلاك والتلاف مع أنه السعادة العظيمة وجعلوا الإحباط أسماً لما هو أهل للتسمية به وأحق بذلك وهو عليه العقاب الذي هو أعظم الهلاك.
قوله: أذ كثره المعاصي كان الأولى أن يقول أو زيادة عقاب عصيانه وكذلك قوله: أو كثرة الطاات كان الأولى فيها أن يقول أو زيادة ثواب طاعته وأحسن من ذلك وأخصر أن يقال الأحباط سقوط الثواب بأمر ما والتكفير سقوط العقاب بأستحقاب الثواب أو سقوطه بأمر ما.
فصل:
قوله: ومتى جمع المكلف بين الطاعات والمعاصي فلا شبهه في تعذر أتصال الثواب والعقاب إليه).
وذلك لأن الثواب يستحق على سبيل الإعظام والعقاب يستحق على سبيل الإهانة وأستحالة تعظيم أحدنا لغيره مع أستخفافه به في حالة واحدة معلوم بالضرورة والأستحقاق يبنيى على صحة الأتصال.
قوله: (خلافاً لما يقوله بعض المرجئة).
أختصر المصنف حكاية الخلاف في هذه المسألة وينبغي أستيفاؤها ففيها أنواع من الخلاف وقد حررها للإمام المهدي عليه السلام وحققها تحقيقاً شافياً فحصل ذلك حتى قال ما لفظه: فصار المنكرون للأحباط والتكفير ثلاث فرق:
فرقة قطعت بحصول أثابه الفاسق ودوامها وحصول عقابه في الآخرة وأنقطاعه، وهذا هو قول الخالدي منا والرازي من المجبرة وغيرهما.
وفرقة قطعت بحصول الثواب الأخروي ودوامه للفاسق وأنه لا عقاب عليه رأساً وهذا قول مقاتل بن سليم وأصحابه.
وفرقة قطعت بحصول ثوابه في الآخرة ودوامه ووصول العقاب إليه في الدنيا فقط وهذا قول جماعة من أهل الحديث، وحكي أيضاً عن بعض منكري الأحباط والتكفير أنه من غلب ثوابه عقابه أستحق الثواب الأخروي الدائم والعقاب الدنيوي المنقطع، ومن غلب عقابه ثوابه أستحق العقاب الأخروي الدائم والثواب الدنيوي المنقطع، والذي ينسبه الأصحاب إلى أكثر المرجئة أنهم منعوا من إسقاط أحدهما بالآخر وذهبوا إلى أتصالهما جميعاً في الآخرة والمشهود عن عباد أنه يقول: لا يسقط الأقل بالأكثر. وذهب إلى أن عقاب المعصية لا يسقط أبداً إلا بالتوبة فمهما لم يتب لم يسقط عقابه بوجه من الوجوه وكذلك الثواب لا يصح عنده سقوطه بعد ثبوته وتحقيق مذهبه أن المستحق على المعصية نوعان:ـ
العقاب الأخروي وذلك حيث كانت معاصيه عالية لطاعاته.
النوع الثاني: التفرقة فقط وذلك حيث غلبت طاعاته معاصيه ومعناها أنه دون من خلصت طاعاته عن المعاصي في المرتبة ولمن خلصت طاعاته مرتبة عليه وكذلك المستحق على الطاعة نوعان:ـ
الثواب الأخروي وذلك لمن غلبت طاعاته معاصيه.
والنوع الثاني: التفرقة وذلك فيمن كانت معاصيه عالة على طاعاته فلا يستحق بطاعاته إلا التفرقة فقط وهي مرتبة ........ له على من خلصت معاصيه عن الطاعات، وقد ذكر المصنف ما يدل على المنع مما ذهب إليه المخالفون على جهة الأختصار وترك شيئاً مما يستدل به الأصحاب ومما يستدلون به ما يعلم قطعاً من أن أحدنا لو كسر لأخر رأس قلم ثم أنقذه من غرق أو نحوه فإن ذمة على كسر القلم بسيط بذلك وكذلك لو أهدى له قلماً أو نحوه ثم قبل بعض .......................... هذه العمى تسقط ما كان يستحقه من الشكرعلى تلك المنة اليسيرة وقد أورد الرازي وغيره على هذذه الأدلة سؤالات حاصلها يرجع إلى المنع مما ذكره الأصحاب ولها أجوبه نذكر في البسائئط ولم يذكر المصنف ما يدل على ما ذهبنا إليه من جهة السمع وهو من أقوى الأدلة في هذه المسألة ولعل الأعتماد عليه أولى كقوله تعالى: {الحسنات يذهبن السيئات}. وقوله: {ولا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى}. وقوله: {أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}. وغيره هذه الآيات مما لا تنضبط لكثرته.
قوله: (وبهذا يفارق الثواث والعوض).
إشارة إلى ما يورده الخصم من الأعتراص بالعوض وكون مذهبنا فيه أنه لا بد أن يوصل إلى المعاقب ما يستحقه منه فبين الفرق بين العوض والثواب وهو أن هذه الوجوه المانعة من مجامعة الثواب للعقاب غير حاصلة فيه فإنه لايستحق على سبيل الإخلال ولا يشترط خلوصه عن كل شائب ولا يستحق على جهة الدوام وأيضاً فلا يتعدى إيصاله في الدنيا بخلاف الثواب كما مر فبان الفرق بينهما وهذا الأعتراض لا يرد على أبي علي لما ذهب إليه من أن العقاب يسقط العوض كما يسقط الثواب وقد تقدم تحقيق ذلك.
قوله: (شبههم ..) إلى آخره.
ذكر المصنف شبههم من جهة السمع ولم يذكر ما يوردونه من الشبه العقلية وقد أورد الرازي شبهاً عقلية متعددة وطول الكلام عليها وتممها على ما يعتاده في كتبه من محاولة تقويم الأود وتصحيح ما فسد فلا يشتغل بذكرها وذكر ما أجبنا به عنها لعدم الحاجة إليه والشبهة العقلية الشهيرة لأهل هذا المذهب أن قالوا: كل واحد من سببين الثواب والعقاب قد حصل في حق من صدرت عنه طاعة أو معصية فيجب حصولهما له على الجمع ووصولهما إليه.
والجواب: أن السبب وإن حصل فقد بينا ما يمنع عن مسببه والأسباب لا تقتضي إلى المسببات إلا مع عدم المانع وقد حصل الإتصال بنفس المعصية لا بعقابها والمعصية تبطل بمجرد الطاعة لا بثوابها.
قوله: (وقال ابن الأخشيد: بين الطاعة والعقاب).
هذا أيضاً مذذهب أبي القاسم وظاهر حكاية المصنف أنه لا مخاطبة إلا بين الطاعة والعقاب وليس كذلك بل التحقيق في هذا المذهب أن المخاطبة الفعل والمستحق فيقع بين أحد العملين وجزاء العمل الأجزاء إما بين الطاعة والعقاب وإما بين المعصية والثواب.
قوله: (وقال أبو هاشم والجمهور).
ممن ذهب إليه قاضي القضاة وهو رأي سائر المحقين فإنهم ذهبوا إلى أنه يقع بين الثواب والعقاب.
قيل: والتحقيق أنه بين أستحقاقهما لا بين أجزائهما وقد ذكر المصنف ما يدل على المختار ومما أستدل به عليه أن الأحباط والتكفير قد يقعان حيث لا فعل كترك الواجب وترك القبيح إلا أن أبا علي يجيب أن الترك عنده فعل وأستدل أيضاً بأن الأحباط والتكفير يتبعان القلة والكثرة وإنما يتصور ذلك في الثواب والعقاب لأنه قد يقع تقليل الأفعال من طاعة أو معصية أسقاط ما هو كبير ألا ترى أن أستحلال جرعة من خمر أو الفجور لحطة تبطل عمل طاعات مدة مائة سنة أو أكثر وكذلك التوبة في لحظة تسقط عقاب معاصي مائة سنة.
وأحتج أبا الأسلم أنهما يحسنان في وقت واحد بل لا بد في الوقت الواحد من أن يكون أحدهما حسناً والآخر قبيحاً ثم إن التخاي ليس مقتضية الحسن والقبح بل يتنافى الأستحقاقين.
وأحتج أيضاً بأن الثواب والعقاب لا نهاية لهما والإسقاط إنما يقع باعتبار القلة والكثرة ومع أتفاقهما في أنه لا نهاية لهما لا يتصور أن يكون أحدهما أقل أذ ما لا نهاية له لا ينقص عما لا نهاية له ولا يزيد عليه.
والجواب: أن المستحق ......... متناهٍ باعتبار كل وقت فإنا أجزاء معلومة تكون أقل من أجزاء الآخر وأكثر، وعدم التناهي إنما هو باعتبار الأوقات لا باعتبار الأجزاء.
وأجتح أيضاً بأن الثواب والعقاب معدومان فكيف يقع التساقط بينهما.
والجواب: أن التساقط في الحقيقة بين الأستحقاقين وهما أمران ثابتان معلومان ولو جعلناه بين أجزاء الثواب والعقاب المعدومة في تلك الحال فلا مانع من ذلك لأنه أمر معقول معناه إن أجزاء ما حبط يبطل أستحقاقها ويمتنع أيصالها فإنه لا يحسن من الله ما كان يحسن من أتصال العقاب أو لا يجب عليه ما كان واجباً من أتصال الثواب وليس الغرض أن هناك تأثيرات كتأثير المؤثرات وما يجري مجراها.
وأحتجت الأخشيدية: بأن المععلوم أنه لا يصح أجتماع المعصية وأستحقاق الثواب، فعلمنا أن التنافي بين الفعل والمستحق وأجبت بأنه قد يستحق الثواب مع المعصية إذا كانت صغيرة بل وكبيرة كمن رمى مؤمناً ثم بان حال الإصابة أو قبلها وقد حصل مقدم الإتصال على الوجه الممكن وهو أنه يسقط من الأكثر ما يقابل الأقل فحيث كان ثواب الطاعة أقل لم بعدم...........بل أسقط عنه ذلك ما يقابله من تلك المضار العظيمة وأي نفع أبلغ من ذلك وحيث كانت معصية أقل فقد أسقط عقابها ما يقابله من ثوابه وفاتت عليه منافع عظيمة ويالها من مضرة.
قوله: (وهي أعراض لا تصح عليها الإعادة).
فقال: ليس من لازم الأعراض ألا تصح أعادتها فمنها ما تصح أعادته، والجواب أنه لم يرد أن أمتناع أعادتها لكونها أعراضاً بل لأنها من مقدورات القدر ولا يصح أعادة شيء مما هذا حاله على ما تقدم.
قوله: (فصاحب الجنة ..) إلى آخره.
تحقيق هذا الوجه وهو المعول عليه أن المراد بقوله تعالى: {يره}. في الآيتين، أنه يرى جزاء ذلك ويوصل إليه ولا يتأخر عنه، فإذا كان من فريق السعداء ......... لجزاء ما عمله من المعاصي وما لاقاته لذلك وأتصاله إليه هو ما ناله به من نقصان ثوابه وفوات ما فات عليه من منافعه، وإن كان من فريق الأشقياء .......... لما عمل من الخير وأتصاله إليه هو بإسقاط ما أسقط عنه من عقابه وذهاب بعض من المضار الذي كان يستحقها وتأول جار الله الآية بأن المراد فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره من السعداء، ومن يعمل مثقال ذرة من فريق الأشقياء لأنه جاء بعد قوله: {تصدر الناس أشتاتاً}.
قوله: (وبعد فهب أنه عام ..)؟
يعني في كل من جاء بحسنة.
قوله: (فلفظ الحسنةة المذكورة شامل ..) إلى آخره.
هذا بناء على أن التعريف فيها للأستغراق والظاهر خلافه، وأن المقصود به تعريف الجنس إذ لا يستقيم أن يكون المراد من جاء بكل حسنة ولا يناسب ذلك السياق ولا يساعد عليه الذوق فلا يلتفت إلى هذا الوجه بل المعتمد بعد ما تقدمه.
قوله: (قالوا قال الله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات.. ) إلى آخره.
لا معنى لتمسكهم بهذه الآية إلا لو كانوا يقولون بأن الطاعات تكفر المعاصي والمعاصي لا تحيط بالطاعات وأما مع قولهم بأنه لا تكفير ولا أحباط فهي حجة عليهم كما تدم لما فيها من التصريح بثبوت التكفير إذ لا معنى لأذهابها إلا إذهاب ما يستحق عليها فأما هي فقد ذهبت في نفسها بعد فعلها واعترض بأن هذا يخال ما يذهبون إليه من أن الموازنة ليست بين الطاعة والمعصية بل بين الجزائين فإذا قلتم المراد أن جزاء الحسنات يذهب جزاء السيئات فخلاف الظاهر ويجاب بأنه وإن كان لا بد من تقدير ما ذكر فالمعنى يقود إليه والسياق يدل عليه وهو من قبيل المجاز البليغ الكثير الوقوع في القرآن الكريم فإذا حملت الآية على خلاف ذلك وهو ما قيل أن المراد أن من أكثر الطاعات كانت لطفاً له في الإمتناع عن المعاصي كما ذكره المعترض ففيه تعد وتعسف فلا يصار إليه وقد تأول جار الله الآية بالوجهين وفسرها عليهما والصحيح الأول وهو الأظهر الذي عليه المعول.
فصل:
قد ثبت أستحالة أستحقاق الثواب والعقاب جميعاً وأختلف الناس في هل يصح ألا يستحق المكلف واحداً منهما.
قوله: (بأن تستوي طاعاته ومعاصيه).
المراد بأستواء الطاعات والمعاصي أستواء ما يستحق عليهما من أجزاء الثواب والعقاب.
قوله: (فذهب الجمهور إلى أستحالة أستوائهما).
تحقيقالخلاف في هذه المسألة أن أبا علي منع من أستواء الثواب والعقاب عقلاً وسمعاً أما السمع فلما سيأتي وأما العقل فلأنه لو جاز أستواؤهما فأما أن يتساقطا فليس ........ الثواب في سقوط العقاب أولى من العكس فيلزم ألا يسقط أيهما فيستحقان جميعاً وهي محال وأما ألا يتساقطاً فيلزم كون الأنسان في الوقت الواحد مستحقاً للتعظيم والإستحقاق وهما متدافعات ولا يخفى ركة هذا الأستدلال على المتأمل.
وقال أبو هاشم، وقاضي القضاة: بل يجوز ذلك عقلاً إذ لا يمتنع من جهة العقل أن يستحق المكلف أجزاء من الثواب على طاعات له وأجزاء من العقاب على معاص منه وتكون تلك الأجزاء مستوية فيتساقطان كما يتساقط الدينان ويبقى كمن لم يستحق ثواباً ولا عقاباً ولا مانع إلا السمع وهو أنعقاد الأجماع على أنه لا بد من أن يستحق المكلف في الآخرة الجنة أو النار وأنه لا دار في الآخرة إلى الجنة أو النار ولا دار ثالثة غيرهما، وأنه لا يدخل الجنة مكلف إلا مثاباً والخلاف في ذلك لزين العابدين والقاسم والمؤيد والمنصور بالله والشعبي من التابعين والقاضي جعفر والشيخ الحسن الرصاص والفقيه حميد المحلي فهؤلاء أجازوا أستواء الثواب والعقاب عقلاً وسمعاً وأن يدخل المكلف الذي هذا حاله الجنة متفضلاً عليه لا مثاباً وكذلك الصوفية جوزوا الأستواء وإن من تلك حاله يدخل داراً ثالثة والأرجح ما قاله زين العابدين كرم الله وجهه ومن تابعه من جواز ذلك عقلاً وسمعاً إذ لا مانع منه والإجماع المدعى لا وجه يقضي بصحته ولا نقل يشهد له مما يؤخذ به في مثل هذا فمن كان كذلك لم يدخل النار إذ عقابه ظلم لا شك فيه والله يتعالى عن ظلم العباد وجاز دخول الجنة متفضلاً عليه (وما كان عطاء ربك محظوراً}، وأما ما قاله الصوفية من إثبات دار ثالثة فلا دليل عليه بل قد ورد ما يدل على خلافه كقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((وما بعد الدنيا من دار إلى الجنة أو النار)).
قوله: (إلا ما يحكى عن بعض الصوفية وبعض الشيخ من أن الأعراف المذكورة في القرآن دار غيرهما الحكاية المستفيضه).
أن هذا المذهب للصوفية ولم أقف على أن أحداً غير المصنف عزاه إلى بعض الشيوخ وتممسك الصوفية في ذلك بخبر أحادي يروونه وليس مما يؤخذ به في نحو هذه المسألة.
قوله: (وهي عند الجمهور مواضع عالية في الجنة الذي ذكره جار الله رحمه الله أن الأعراف عبارة عن الحجاب وهو السور المضروب بين الجنة والنار وهي عالية جمع عرف أستعير من عرف الفرس وعرف الديك وإن الرجال المذكورين عليها من المسلمين من أجرهم دخولاً لقصور أعمالهم كأنهم المرجون لأمر الله يحبسون بين الجنة والنار إلى أن يأذن الله لهم في دخول الجنة وأنهم المعنيون بقوله تعالى: {أدخلوا الجنة}. وذلك بعد أن يحبسووا على الأعراف وينظرون إلى الفريقين ويعرفوهم بسيماهم ويقولوا ما يقولون وفائدة ذلك بيان أن الجزاء على قدر الأعمال وأن التقدم والتأخر على حسبها وأن أحداً لا يسبق عند الله إلا يسبقه في العمل ولا يتخلف عنه إلا بتخلفه فيه ولترغيب السامعون في حال السابقين ويحرصوا على أجزاء قصتهم.
قلت: ولا يخفى على مميز أن كون الأعراف ما ذكره جار الله أو ما ذكره المصنف من أنها مواضع عالية في الجنة أو ما ذكرته الصوفية من أنها دار ثالثة ليس في العقل ما يخيل شيئاً من ذلك ولا ما يدل على شيء منه لأن العقل لا مجال له في الأمور الأخروية الغيبية ولا شيء مما ذكر يستحيل في القدرة ولا في الحكمة فالقطع بصحة شيء من هذه الوجوه أو باستحالته لا يصح إلا بدليل سمعي قطعي وليس من أدلة أهل المذاهب هذه ما يرتقي إلى درجة القطعي لا من الأحاديث ولا من الأجماع وأكثر ما يقضي إليه الظن فقطع الصوفية بأنه ثَمَّ دار ثالثة خطأ والقطع بأنه لا دار ثالثة لا برهان عليه والله سبحانه أعلم .............. على القلب قولك فيما لا يعلم لا أعلم.
قوله: (وللقائل أن يقول ..) إلى آخره.
كلام جيد لا غبار عليه.
فصل:
إذا أثبتت أستحالة أستحقاقهما وأستحالة الخلو منهما لم يكن بد من أن يزيد أحدهما على الأخر لا شك في ذلك لكن يقال أما أستحالة أستحقاقهما معاً أستحقاقاً مستمراً وأتصالهما معاً فقد صح ذلك ودل القاطع عليه لتنافي أوصافهما وتعاكسها، وأما أستحالة الخلو منهما فغير مسلمة كما تقدم.
قوله: (فلا يكون بد من أن يسقط الأقل بالأكثر).
هذا صحيح مطابق لقواعدهم لكنه يرد عليه سؤال وهو أنه يقال من مذهبكم أنه لو فعل طاعة يستحق عليها عشرة أجزاء من الثواب فعاش حتى توفر له مائة جزء ثم فعل معصية يستحق عليها أحد عشرة جزء من العقاب فإنه يعاقب ويبطل تلك المائة التي قد توفرت فما وجه بطلانها وليس في مقابلها عقاب وقد أجبت بأن العاصي يحصل هذه الصورة بمنزلة أجير استؤجر على عمل وله في كل يوم أجرة معلومة مشروطة بسلامة العمل حتى تقع المجازاة فتوفرت في ذمة المستأجر أجزاء كثيرة ولم يقبضها حتى أفسد ذلك العمل الذي أستحق للأجرة عليه بالكلية فإنه أبطل بذلك أستحاقه للأجرة فلا يستحق منها شيئاً وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
فصل:
وأختلف الشيوخ فيما به يقع الأحباط والتكفير.
قوله: (وقال أبو علي يقع بين الطاعة والمعصية).
تحقيق مذهبه أن الطاعة تنحبط، ولأن دليلهم هذا يقابل ما ذكرناه من الأدلة والتنافي بين الثواب والعقاب أظهر وأوضح.
والجواب: هذا مبني على أن الإصابة المذكورة وقتل المؤمن على تلك الكيفية كبيرة وأن قاربته التوبة أو سبقته وهو الظاهر من كلام أبو هاشم بوصف بأنها فسق وإن كان المرمي ...... فكفر ولا يسمى فاعلها فاسقاً ولا كافراً وإنما يسمى فاعل فسق بكفر، وأما أبو علي فقال: لا تسمى المعصية بعد التوبة فسقاً ولا كفراً.
فصل:
في كيفية الأحباط والتكفير.
قوله: (ذهب الشيخ أبو علي إلى أن الأقل يسقط من كل وجه).
قيل: ولا يعلم تعيين أتباعه في ذلك.
قوله: (وقال أبو هاشم بالموازنة).
قيل: وهذا الذي عليه الزيدية وجميع أهل العدل من المعتزلة والإمامية ولا يعلم قائل منهم بخلافه.
قوله: (لما ححسن من الكافر والمصر على الكبيرة أن يفعل شيئاً من الطاعات إذ لا فائدة له في ذلك فيه نظر لأن مقتضاه أن وجه حسن الطاعة الأنتفاع بها وليس كذلك فإنها تحسن لغير ذلك على أختلاف حالها في وجوب وغيره فكان الأحسن تحرير هذا الوجه على كيفية أخرى وهو أنه يلزم من قول أبي علي أن يكون العاصي بفعل الكبائر من غير طاعة أحسن من حال من فعل الكبيرة وأطاع إذ كلاهما صاحب كبيرة ويستحقان قدراً واحداً من العقاب والمطيع لم يفد إلا بتحمل المشقة فقط من دون أن تغني عنه شيئاً وقد تحرر هذا الوجه على كيفيتة أخرى وهي أنه يلزم أن يكون عقاب من أطاع مع المعصية أشد من عقاب الذي عصى ولم تصدر منه طاعة وبيانه أنه إذا فعل طاعة يستحق عليها عشرة أجزاء من الثواب ثم فعل معصية يستحق عليها أحد عشر جزء من العاب بمقتضى كلام أبي علي أن العشرة تسقط وتوصل إليه الأحد عشرة جزء فقط.
قوله: (لم يكن فرق بين بعض الكبائر وبعض).
فيه نظر لأن الفرق على مذهب أبي علي حاصل وهو كثرة أجزاء عقاب بعضها وقلة أجزاء عقاب البعض الأخر بمذهب أبي علي لا يؤدي إلى عدم الفرق بالكلية وإنما يؤدي إلى عدم الفرق بينها كان معه طاعة وبين ما لم يكن شيء ولعل المصنف قصد هذا ولكنه لم يحكم تحرر هذا الوجه وهو أوضح الوجوه وأقواها وتحقيقه أنا نعلم ضرورة الفرق بين من أساء بعد أحسان قد صدر منه وبين من أساء ولم يحسن قط ونعلم ضرورة أن الذي تقدمت إسأته أن لا يستحق من الذم مثلما يستحقه من لم يتقدم منه شيء من الأحسان ولم يشب إسأته المحضة أحسان قط وما ذاك إلا لأن الأحسان المتقدم قابل ما يستحق عليه من المدح بعض ما يستحق على الإسأة من الذم.
قوله: (ونحو ذلك من الآيات).
هي كثيرة واسعة في هذا المعنى كقوله تعالى: {ولن يتركم أعمالكم}. وقوله: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا}. وقوله: {لا نضيع أجر عمل عامل منكم}. ولا ........ ومضمون هذه الآيات إلا إذا قلنا بالموازنة ألا ترى أنه لو لم يسقط من العقاب شيء في مقابلة الثواب كان ثواب عمله غير واصل إليه ولا له به أنتفاع فلم ير مثقال ذرة وضاع عمله بخلاف ما إذا قلنا بالموازنة فلا تذهب الفائدة ولا تقع الإضاعة لأن دفع المضرة بمنزلة جلب النفع.
قوله: (إن حقيقة الثواب غير حاصلة فيمن خفف من عقابه..) إلى أخره.
يعني لأن الثواب أسم للمنافع التي يقع بها الإلتذاذ والتنعم دون ........ ساقط العقاب فلا يسمى ثواباً، وكذلك فالعقاب أسم للمضار التي يقع بها التألم العظيم والهوان الجسيم دون ما ساقط الثواب.
قيل: وإن كانت الأجزاء التي أسقطت ما قابلها من العقاب يسمى ثواباً والعكس فلا يعد في أن يكون مثاباً معاقباً لعدم المنافع من أجتماعهما على تلك الكيفية.
وأحتج أبو علي أيضاً من جهة العقل بوجوه أخرى غير ما ذكره المصنف منها:
أن الطاعة ليست ..... يقابل بعصا من أجرى العقاب أولى من بعض إذ لا مخصص.
فجوابه: أن ذلك إنما يلزم لو كان الأجزاء أعياناً موجودة وأما ولا وجود لها فمثاله مثال الدين المستحق إذا ثبت على صابه للغريم مثل نقصه لوديعة فإنه يقع سقوط ما قابل ذلك ولا يحتاج إلى مخصص.
ومنها: أنه يفعل المعصية كالجاني على طاعاته فهو المبطل لثوابها كما لو ندم على فعل الطاعة.
وأجيب: بأن الندم على الطاعة يبطل الثواب بنفسه كما يبطل عقاب المعصية بنفس الندم عليها بخلاف المعصية فإنها لا تعلق لها بالطاعة ولا للطاعة بها فلا تبطل أحدهما الأخرى بنفسها بل بما يستحق عليها فوجب الحساب والموازنة، وأما الندم على الطاعة فهو متعلق بها فكان جناية عليها ومبطلاً لها.
ومنها: أن فاعل المعصية بعد الطاعة كمستأجر على أن يخيط قميصاً فلما أكمل خياطه فبقه وأذهب كلما قد فعل فكما أنه لا يستحق شيئاً من الأجرة كذلك لا يستحق العاصي شيئاً من أثواب الطاعة لا يعتد به ولا تحسب له.
والجواب: إن سقوط أجرة الخياطة لعدم تسليم العمل فوازانه في ............ لو أتى المطيع بالطاعة لا على الوجه المشروع والمسألة مفروضة حيث أتى بالطاعة على ما شرع فقد سلم عمله صحيحاً فيستحق الأجرة كاملة فوزانها في الشاهد أن يستأجر على خياطه قميص يخيطه له ويسلمه إليه ثم يفتق قميصاً للمستأجر ويغير خياطته بحيث تنقص من قيمتهيما يزيد على أجرة ما خاطه فليتأمل ذلك.
قوله: (وأما من جهة السمع.. ) إلى آخره.
وجه أحتجاجه بما ذكر أن معنى قوله: {أن تحبط أعمالكم}. أنها تبطل عليكم منفعتها ولا يتم ذلك مع الموازنة ولا معنى لقوله: {ولا تبطلوا أعمالكم}. إلا إذا كان يبطل بالمعصية ما قدموه من الأعمال الصالحة ومع الموازنة لم تبطل عليهم شيء ولا معنى لقوله: {فجعلناها هباءاً منثورا} إلا إبطال أنتفاعهم به كما لا ينتفع بالهباء المنثور والهباء ما يخرج من الكوة مع ضوء الشمس شبهه بالغبار، وفي أمثالهم أقل من الهباء والمنثور خلاف المنتظم، قال جار الله: شبه العمل بالهباء في قلته وحقارته عنده وأنه لا ينتفع به ثم بالمنثور منه لأنك تراه ........... مع الضوء فإذا حركته الريح رأيته قد تناثر وذهب كل مذهب.
قوله: (يحتمل أن يصرف هذه الآيات إلى الكفرة).
فيه نظر لأن الكفار إن فرض أنه لا طاعة لهم ولا يمكنهم الأتيان بها على الوجه الذي كلفوا أن يأتوا بها عليه فلا طاعة ولا إبطال، وإن كانت لهم طاعة ويستحق عليها ثواب فالحكم واحد كما أعترف به المصنف بقوله: وإن كان فعل الطاعة يقتضي تحقيقاً عنهم وهكذا حال الفساق فلا فرق.
قوله: (ويجوز أن تصرف إلى أهل الصغائر.. ) إلى أخره.
كلام في غاية الركة وما الملجي إلى أن تصرف إلى أهل الصغائر والمعنى الذي أتى به حاصل في أهل الكبائر الذي هو محل النزاع وممكن فيه بل هو أوضح والبطلان والأحباط فجعل الأعمال هنا منثوراً بتغفل في جودي الكبيرة الذي سقط جميع ثوابه لا في حق صاحب الصغيرة الذي بقي له من الثواب ما يسعد به دائماً ويفضي به إلى نعيم الأبد، وإذا لم يسلم الخصم أن يكون عمل صاحب الكبيرة ساقطاً إذا .............. من العقاب مع بقاء ما يستحق به الخلود في النار ولم يسم ذلك بطلانا فكيف نسلم أن سقوط اليسير من ثواب ذي الصغيرة مع بقاء أكثر ثوابه أو بعضه يكون إبطالاً لعمله وإضاعة له فلقد عل في التأويل إلى ما هو أبعد عن التحصيل وأي وجه لهذا التعسف ولِمَ لم يقل المحبط والمبطل والمجعول له هنا من أعمال أهل الكبائر والفساق ثوابها الذي قارب بعض عقاب المعصية وقائلها وذلك معنى إبطاله لأن العاصي بعد الطاعة في حكم من أبطل على نفسه الإنتتفاع بطاعته لأنه قد كان يستحق لأجلها نعيماً دائماً فصار الآن مستحقاً لعذاب دائم فلذلك وصف بإبطال عمله وكذلك لما فوت على نفسه النعيم الدائم بفعل المعصية صار فعله للطاعة كأنه هباء منثورا بالنظر إلى فوت ما قد كان أستحقه من النعيم الدائم والسرور ويكون بنزيل فوات معظم النفع منزله فواته كله من قبيل المجاز والداعي إلى حمل الكلام عليه أن يكون السمع مطابقاً لعقل فيما قضى به من عدل الله وحكمته فإن من مقتضى العدل والحكمة ايفاء كل ذي عمل أجر علمه وألا يتحسن منه شيء كما يقضي به وعده الصادق وحكمه السابق.
فصول في التوبة:
وهي إثنا عشر فصلاً نذكر بعد ذكر حقيقة التوبة ووجه أتصال ذكرها بما تقدم أنها تسقط عقاب المعصية وتكفره فلذككرها مناسبة وإتصال بذكر الأحباط والتكفير وهي في اللغة الرجوع وفي الأصطلاح كما ذكر المصنف وقد زيد في الحد على ما ذكره مع تلافي ما يجب تلافيه وإلا قرب عدم الحاجة إلى هذه الزيادة لأن التلافي إنما هو شرط في صحتها ودليل على حصول حقيقتها التي هي الندم إذ لا يتحققو الندم إلا بذلك لا أنه ركن من أركانها والمراد بالتلاقي غرامة ما يجب غرامته بتك المعصية من قصاص أو مال أو أعتذار من أساءة ونحو ذلك والندم نوع من الغم يتعلق بالفائت فيما مضى فيقابل العزم حيث أنه لا يتعلق إلا بالمستقبل.
قوله: (في الحد لكونها معصية).
أحتراز عما إذا ندم عليها خوفاً من العقاب أو لرجاء الثواب ولما لحقه من ذم وصَغَار فإنه إذا لم يكن ندمه إلا لمجرد ذلك لم يكن توبة.
قيل: وإن ضام الندم عليها لأجل كونها معصية ما ذكروا شيء منه فالأقرب صحتها إذا كان كونها معصية هو الأهم في الندم.
قوله: (لا بد من أعتبار الندم إتفاقاً).
يعني: لأنه لم ينقل خلاف في أن التوبة تصح بغير ندم ولا سمع عن أحد بذلك.
قوله: (والعزم خلافاً لقوم).
يعني العزم لا بد من أعبتاره لكن مع خلاف فيه، والمخالف في أعتباره ابن الملاحمي فإنه قال: حقيقة التوبة الندم على المعصية لكونها معصية فقط ولم يذكر العزم في الحد وإليه أشار صاحب الأكليل ورواه في المحيط عن بعض المتكلمين.
قيل: وهو القوي ومقتضى الآثار تؤيده قوله تعالى: {وآخرون أعترفوا بذنبهم}. والأعتراف بذلك بصحبة الندم ولم يشترط العزم ولم يقع خلاف في أن الذاكر للمعصية في المستقبل لا بد أن يعزم على ألا يعود لمثلها في المستقبل وأنه لو لم يعزم على ذلك لم يصح كونه نادماً على الماضي لأن الداعي إلى أحدهما يدعوا إلى الأخر فمن ندم فهو عازم ومن عزم فهو نادم ولكن ليس ذلك عند من لا يعتبر العزم جزء من حقيقة التوبة لكنه لا بد منه من باب الداعي وإنما تظهر فائدة الخلاف لو ندم العاصي على المعصية في الماضي وكان ساهياً عن المستقبل فمن لا يعتبر العزم بقول توبته صحيحة ومن يعتبر العزم في التوبة لا يقول بصحتها.
قوله: (فهو عازم على قتل الولد الآخر.. ) إلى آخره.
قد عرفت ما ذكره بعض المتأخرين كما حكيناه آنفاً من أن مثل هذه الصورة من صور الأتفاق وأنه لا خلاف في أنه لا بد أن يعزم في المستقبل ألا يعود مع ذكر المستقبل وأخطاره بالبال وسيأتي ذلك قريباً في المتن.
فصل:
وأختلف المعتبرون للعزم: فقال أبو هاشم: هو جزء من التوبة.
قوله: (لما تقدم).
يعني من الدليل على أعتبارهما وأن التوبة لا تكمل إلا بهما قياساً على الأعتذار وإذا كانا معتبرين معاً فلا معنى لجعل أحدهما أصلاُ والآخر شرطاً إذ لا مخصص.
قوله: (وقال السيد صاحب شرح الأصول.. ) إلى آخره.
هو كلامه الأصح والذي يقوى على النظر للوجه الذي ذكره وإنما يعتبر العزم ويشترط لأن عدمه يكشف عن عدم صحة الندم وكيف يندم أحد على فعل من الأفعال وهو عازم على العود إليه وقد أختلف هل الخلاف في كون العزم ركناً أو شرطاً خلاف في المعنى وله فائدة وثمرة أو لفظي لا يختلف المعنى فيه مع أعتبارهما معاً ويوقف ثمرة التوبة عليهما فمن قال بأنه خلاف معنوي قال فائدته أنه لو نسي العزم أو كان يتعذر عليه معاودة ما تاب عنه كتوبة المجنون عن الزنا فإن التوبة تجزيه عند من جعله شرطاً لا عند من يجعله أحد ركنيها بل لا بد عنده أن يضمرانه لو قدر ما فعل وفيه تكلف.
قوله: (قلنا يتعلق بفعل الواجب لوجوبه وبكراهة فعل القبيح أو بأرادة فعل ضده.. ) إلى آخره.
هذا من التكلف والتعسف الذي ألجي إليه بصحيح تلك القاعدة وهو أن العزم إرادة والإرادة لا تتعلق بالنفي وهكذا كثير ما يبني المتكلمون على قواعد ويجدون في تقرير أطرادها فيلجيهم ذلك إلى أقتحام المضايق ومن المعلوم قطعاً أن العزم الذي يجده التائب من نفسه ليس متعلقاً بأن يفعل كراهة للقبيح ولا إرادة ضده ولو سلم لهلم ذلك لم يحصل الغرض المقصود من هذا العزم فإنه لا مانع من أن يعزم على فعل كراهة للقبيح مع عزمه على فعل القبيح فلا تنافي بين العزمين وكذلك العزم عليه والعزم على إرادة ضدده ونحن بحمد الله في غنيه عن هذه التكلفات البعيدة فالعزم أمر موجود من النفس يعلمه العازم من نفسه ضرورة ونجد من أنفسنا العزم على ألا نفعل................ وإذا صح لهم أنه من قبيل الإرادة وأن من لوازم الإرادة ألا تتعلق بالنفي جعلناه متعلقاً بالكف عن الفعل والكف عن الفعل فعل عند أهل التحقيق والله ولي التوفيق. وقد لمح السيد صاحب شرح الأصول إلى هذا المعنى الذي ذكرناه وقال المراد أن يعزم على ترك أمثاله ف يالقبح والترك فعل يصح تعلق العزم به وناقشه بعض المعلقين على كتابه فقال: يقال أما على رأي أبي على فالترك فعل كما ذكرت وأما عند الجمهور فالترك قد يكون مجرد الأخلال بالفعل وعدم إيجاده وذلك نفي محض وأجاب عن المناقشة بأن أبا هاشم وإن أجاز أن يكون ترك القبيح بمعنى ألا يفعله فليس ذلك يمنع من جعله العزم هنا متعلقاً بترك هو فعل يشغل العازم بأتخاذه أو يعزم على أتخاذه ليكون متعلقاً للعزم وذكر في الأكليل أن معنى العزم هنا الكراهة فحيث ندم على القبيح فعزمه على ألا يعود كراهة أن يحدث ما هو قبيح وإن ندم على الأخلال بالواجب فالعزم هنا أرادته .........ما وجب عليه في المستقبل وهو كلام جيد لا غبار عليه.
قيل: وتسمية تلك الكراهة عزماً من قبيل الأستعارة والمجاز.
قوله: (لأنه من قبيل الغم والأسف).
يعني وهماً مما لا يشترط تعلقه بالأثبات ولا يحكم فيهما بأنهما لا يتعلقان بالنفي.
قال ابن منويه: فأما الندم فهو غم وأسف هكذا قال أبو هاشم والمراد به أي أعتقاد أن عليه فيما سلف منه مضرة أو فوت نفع ولولا ما فعله لم يكن ليلحقه ذلك وربما أنتبه أبو هاشم جنساً مخصوصاً غير هذا الأعتقاد وهو ظاهر كلام أبي علي مثل قوله في الغم والسرور ويفارق الغم بأن الندم لا يتعلق إلا بالماضي والغم ليس كذلك ولا يتعلق الندم إلا بفعل نفسه دون الغم.
قلت: أراد بقوله في الوجهين دون الغم أنه لا يقصر على ذلك بل هو أعم فحاصله أن الندم نوع من الغم قد نضر ابن منويه القول بأن الندم جنس برأسه بوجهين:ـ
أحدهما: أن الندم لو جعل من قبيل الأعتقاد كالغم ويكون أعتقاد مضره في أمر مضى لوجب في كل من أعتقد الوعيد ثم أرتكب كبيرة وعلم المضرة التي تلحقه بذلك أن يكون نادماً ونحن نقطع أنه ليس بنادم في الحقيقة ولا يجد الندم من نفسه إذن لا يصرف عن فعل مثل ذلك.
الثاني: أنه قد ثبت قبح الندم على الحسن لكونه ندماً على الحسن لا غير فلو كان أعتقاداً لم يقبح إلا إذا تعلق بالشيء لا على ما هو به ولا يعتبر في قبح الأعتقاد وأجلى الأمور ما يجده الأنسان من نفسه.
فصل:
قوله: (وأعتبرنا أن يندم على المعصية لكونها معصية إلى قوله: لم يكن ثابتاً).
كلام صحيح لا غبار عليه وقد تقدم ما ذكره بعضهم من أنه إذا ندم على القبيح لقبحه وليس من هذه الوجوه ليكن المهم المقصود في حصول الندم القبح فالتوبة صحيحة وهو كلام لا بأس به.
فصل:
قوله: (وأعتبر بعضهم أن يندم على القبيح لعظمه في القبح ..) إلى آخره.
هذه المذاهب المحكية في هذا الفصل غريبة خالية عن الوجوه الصارفة إليها ولا ينبغي أن يعول عليها ولا أعلم قائليها وأي وجه لأن يشترط في التوبة أن يتوب عنه لجنسه فإن جنس الزنا النكاح الذي هو الوطء وليس كونه نكاحاً يقتضي أن يتاب منه وكذلك لا معنى لاشتراط أن يتاب عنه لعظمه في القبح فإن التوبة لأجل مجرد قبحه أو في المراد وأقصى بالأنقياد والله سبحانه أعلم.
فصل:
قوله: (وأعتبر بشر بن المعتمر وأصحابه في التوبة الموافاة).
المراد بها أن التوبة لا تصح إلا إذا كان التائب لا يوقع بعدها معصية وقد أختلف في معنى الموافاة فقيل نزول الموت وقيل التعب وقيل موافاة عرضة القيامة.
قيل: والمعنى في ذلك واحد لأن من أرتكب كبيرة ثم تاب عنها ولم يأت بكبيرة بعد توبته إلى الموت فهو يموت عليها أو يبعث عليها أو يرد العرضة عليها.
قلت: وظاهر ما ينقل عن أهل هذا المذهب بشر وأتباعه أنهم أرادوا أن من كان في معلوم الله أنه لا يبقى على التوبة ولا يموت عليها فلا حكم لتوبته وإن وجودها كعدمها والذي حكاه الإمام المهدي في الغايات يقضي بخلاف ذلك وإن معنى ما ذهبوا إليه أن التوبة إذا وقعت منعت من أستحقاق العقاب وصحت فإذا نقصت بأرتكاب المعصية عاد أستحقاق العقاب على المعصية الأولى وحرر المسألة على هذه الكيفية فقال ما لفظه: قالت البصرية من المعتزلة ويقطع بأن من تاب من معصية ثم عاد أنه لم يعد لأجل عودة عقاب المعصية الأولى. وقال بشر بن المعتمر بل يعود أستحقاق العقاب كالثواب وليس هذا معنى الموافاة فليتأمل.
قوله: (وخالفه الجمهور).
نسب هذا إلى الزيدية والبصرية من المعتزلة وغيرهم ويدل عليه ما ذكره المصنف وأستدل إيضاً بأن الشرط هذا الذي شرطه المخالف مما لا يعلمه المكلف حال التوبة والمعروض عليه أن يبلغ جهده في تلك الحال في تلافي ما صدر منه وبأن الشر من حقه أن يكون مقارباً وهذا شرط متأخر متراخ.
فصل:
والتوبة واجبة عقلاً وسمعاً.
قوله: (إن كانت المعصية كبيرة).
هذا لا خلاف فيه بين المتكلمين.
قوله: (سمعاً فقط).
إن كانت صغيرة هذا ما ذهب إليه أبو هاشم وجمهور المتكلمين ودليله أن الوجه في وجوب التوبة عقلاً دفع الضرر ولا ضرر على مرتكب الصغيرة وطلب النفع لا يجب.
وقال أبو علي: بل تجب التوبة عن الصغيرة عقلاً لأنه لو لم يتب عنها لكان مصراً عليها والأصرار على القبيح قبيح فتجب التوبة لأن بها يقع ترك القبيح.
وقال أبو الحسين: تجب التوبة عقلاً عن الصغيرة لما ذكره ابو علي لكن لأن التوبة تجب عن القبيح لقبحه كانت فيه مضرة أو لم تكن.
قوله: (وأما من جهة السمع فهو معلوم ضرورة ....... في ذلك والأخبار لا توصف بأنحصار كقوله تعالى: {توبوا إلى الله توبة نصوحاً}. {وأنيبوا إلى ربكم ثم توبوا إليه}. {واستغفر ربكم إنه كان غفارا}. وكقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم حاكياً عن ربه عز وجل: ((يا عبادي إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم)). وروي عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((توبوا إلى الله قبل أن تموتوا)). وإجماع المسلمين على وجوب التوبة ظاهر ولا يعلم مخالف منهم في ذلك ولو خالف فيه أحد لم يعتبر خلافه لخروجه عن الإيمان برد ما علم ضرورة من الدين.
قوله: (ثم المعصية قد يعلم جملة فتجب التوبة عنها جملة.. ) إلى آخره.
لعله أراد بالجملة إذا نسي تفصيل ما عصى به وسهى عنه لتقدم ومنه أو غير ذلك ولم يغزب عنه أنه قد عصى معصية كبيرة أو معصية ما وبالتفصيل ما إذا كان عالماً لمعصية وأنها زنا أو شرب خمراً أو سرقة أو نحو ذلك.
فصل:
والتوبة تسقط العقاب.
قوله: (عند الجمهور).
أراد جمهور المتكلمين من العدلية فمذهبهم أن العقوبة تسقط لأجل التوبة وجوباً.
قوله: (قال أبو اللهذيل.. ) إلى آخره.
تحقيق كلام المخالفين هنا وهم أبو الهذيل والبغدادية والمرجئة أن أبا الهذيل يقول بعدم سقوط العقاب بالتوبة وجوباً وإنما يتفضل الله بإسقاطه ولو أنه لم يسقطه وفعل العقوبة لم يكن ذلك ظلماً ولا قبحاً بل حسناً، ونسب ذلك إلى الشريف المرتضى وغيره.
قلت: وربما أنهم يقطعون بأنه لا يعاقب التائب لدلالة السمع الصريحة، وأما المرجئة فيقولون كما ذكر لا يجب إسقاط العقاب بالتوبة بل يحسن المعاقبة بعدها ولا أدري ما يقولون في أدلة السمع هل تورثهم القطع بما تضمنته من الوعيد وغيره وأما البغدادية فهم وإن لم يحكموا بوجوب سقوط العقاب أستحقاقاً فقد أوجبوه من جهة الأصلح وكونه مققتضى الجود.
قيل: ولا خلاف بيننا وبينهم في الحقيقة وإنما هو خلاف لفظي لأنهم لا يجوزون العقاب بعد التوبة.
قلت: أما من هذه ......... فكما ذكره لا ثمرة للخلاف وأما من حيث الأصل في إسقاط العقاب فالخلاف خلاف في المعنى والحقيقة هل يسقط العقاب بها لاستحقاق سقوطه أو لكونه أصلح للمكلف فقط.
قوله: (روي عن أنب عباس والحسن البصري ..) إلى آخره.
وهذا أيضاً مذهب البكرية وقد روي عن الحسن الرجوع عنه لمناظرة فيه أتفقت بينه وبين عمرو بن عبيد وظاهر كلام المصنف الآتي بعد أنه دس بها عمرو إليه ولم يشافهه بها وهذا مذهب شاذ لا وجه له وهو خلاف ما عليه أهل القبلة غير من ذكر، ولهذا أنكر كثير من العلماء هذه الرواية عن ابن عباس لمحلة من العلم فإنه البحر جليل القدر وتأوله بعضهم بأنه أراد أنه لا يقبل مجرد الندم والعزم من غير تلافي ما يجب وهو القود أو الدية إذا أختارها ولي الدم.
قوله: (والجامع ما تقدم).
يعني وهو أن كل واحد منهما بذل الجهد في تلافي ما وقع ودفع ما يستحق عليه من دم أو عقاب ومعنى التلافي لغة السعي في تدارك ما خشي تلفه من تلافي البهيمة إذا ردها عن التلف أو عن أن يحرم أكلها بالموت ويستعمل في الأفعال مجازاً فيقال: فلان تلافى ما فرط منه من الفعل القبيح باعتذار أو نحوه.
قوله: (وبعد فكان يجوز ألا يتفضل الله بالأسقاط.. ) إلى آخره.
فيه نظر لأن أبا هذيل ومن يقول بقوله يلتزمون ذلك لولا السمع، والبغدادية يجيبون بأنه إنما لم يجر لوجوبه من جهة الأصلح بناء على قاعدتهم.
قوله: (فكان بقبح التكليف ..) إلى آخره.
يعني لأن وجه حسن التكليف هو التعريض لنيل المنافع التي لا تنال إلا به فإذا كان عقاب المعصية الكبيرة لا تسقطه التوبة ولا تسقطه ثواب الطاعات وإن كثرت لم يبق للمكلف طريق إلى الإنتفاع بما كلف.
قيل: وفيه نظر لأن للخصم أن يذكر عرضاً في بقاء التكليف وهو تقليل عقابه بما يفعله من الطاعة.
قوله: (فأما ما يحكى عن ابن عباس والحسن ..) إلى آخره.
قد أستدل على بطلان ما به عزي إليهما من عدم قبول توبة القابل بوجوه:
منها: أنه لا خلاف في إسقاط التوبة لعقاب الشرك فأسقاطها لعقاب القتل أولى لأن عقابه دون عقاب الشرك.
ومنها: أن العلة التي لأجلها كانت التوبة مسقطة لعقاب المعاصي حاصلة في القتل وهي أن التائب بذلك الجهد في تلافي ما وقع منه وأستفرغ الوسع في ذلك.
ومنها: إجماع الصدر الأول وابن عباس وإن كان منهم فالرواية عنه غير مسموعة وذلك متأول بما سبق ذكره هنا وفي المتن، وشبهة من ذهب إلى ذلك ما ورد من تشديد الوعيد في حق القائل بالنار والخلود فيها وتأكيد ذلك بالغضب واللعنة فدل ذلك على أنه لا بد للقاتل من الخلود في النار من غير فصل بين تائب وغير تائب.
والجواب: أن ذلك لا يمنع من القول بقبول توبته كما لا يمنع من قبولها في غير القتل ما ورد عليه من الوعيد الشديد كما في سائر الكبائر وهي عمومات مخصصه أحيل بتخصيص التائب منها إلى أدلة العقل والنقل ويكون المراد بذلك الوعيد من مات غير تائب.
ولهم شبهة أخرى وهي: أن من حق التوبة عما هو أساءة إلى الغير الأعتذار إلى المسب إليه والمقتول لا يصح ذلك في حقه فلا تصح توبة قاتله.
والجواب: المعارضة بمن غصب ماله ثم مات فإن الغاصب تصح توبته عن ذلك والورثة قائمون مقام الميت في الصورتين والتحقيق أن الأعتذار إلى المساء إليه لا يشترط إلا حيث يتأتى قبوله العذر من المساء إليه والمقتول لا يصح منه قبول والحق قد أنتقل عنه إلى وارثه وصار قائماً مقامه.
قوله: (ونحو ذلك).
يعني من تيسر الأمور الداعية إليها كتيسر سماع وعظ أو قراءة قاريء فالنعمة هنا صحة السمع المؤدية إلى ذلك روي أن سبب توبة بعض أكابر الفضلاء وكان من العصاة أنه سمع حال محاولته لبعض المعاصي قارئاً يقرأ: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله}. فقال: بلى والله آن. فتاب توبة نصوحاً وأخلص لله حتى صار من أئمة أهل الفضل.
قوله: (ووجوب الفعل لا يخرجه عن كونه نعمة ..) إلى آخره.
يقال الظاهر أن النعمة من قبيل التفضل وأن الواجب ينبغي أن يؤدى لوجوبه لا للأحسان والألم يخرج المؤدى له عن عهدة الواجب فالمعمد في جواب السؤال ما تقدم.
فصل:
قوله: (وإذا ثبت أن التوبة تسقط العقاب فهي تسقطه بنفسها لا بكثرة ثوابها).
هذا مذهب الزيدية وجمهور المعتزلة وتحقيقه أن عقاب المعاصي يسقط بنفس التوبة ولا يسقط من ثوابها شيء في مقابلته يتفق الشيخان أبي العباس والمؤيد بالله وأتباعهاهنا على أن التساقط بين الفعلين التوبة والمعصية دون المستحقين لأن التوبة تتعلق بنفس المعصية من غير التفات إلى العقاب المستحق عليها بحيث أن التائب تصح توبته وتقبل وإن لم يذكر العقاب ولا خطر له ببال.
قوله: (خلافاً لقوم).
هذه العبارة تشعر بأن المخالف مجهول وفي بعض كتب الأصحاب نسبة هذا القول إلى البغداديين وهو أن التوبة تسقط العقاب بكثرة ثوابها وفي الغايات مثل ما في المتن من عدم التصريح بنسبته إليهم وإبهام القائل به.
قوله: (لنا أنها نظير الأعتذار ..) إلى آخر الوجهين المذكورين.
هذان الوجهان أقوى ما يستدل به على أنها تسقط العقاب بنفسها وقد يحتج الأصحاب بغيرهما من ذلك قولهم أن التوبة قد تسقط عقاب المعصية في حال لا يكون لها فيها ثواب بأن تصدر من مصر على كبيرة يعتقد أنها غير معصية فإنه إذا تاب عما عداها قبلت توبته ولا ثواب له لأن ثوابه محبط بتلك الكبيرة التي أعتقدها ....... عنه بأنها إنما أسقطت عقاب ما تعلقت به من شرب المسكر وغيره بثوابها فتسقط ثوابها في مقابلة عقاب تلك المعصية وأن بقيت منه بقية سقطت لأجل عقاب تلك االكبيرة ولا مانع من ذلك.
قوله: (في الشبهة).
نقول: إنها تسقط العقاب بثوابها ولا ثواب لطاعة المختضر ومن في الأخرة، وإنما يلزم على القول بأنها تسقطه بمجردها فإنها حاصلة من المحتضر ومن في الآخرة فالمعارضة هذه غير صحيحة.
قوله: (والتحقيق أن أهل الآخرة إلى أجره حاصلة).
إنا لم نقل بأنها تسقط العقاب بنفسها على كل وجه بل حيث تكمل شروطها ومن شروط صحتها أن تقع مع بقاء التكليف وأن يندم على القبيح لقبحه وليس كذلك المحتضر ومن في النار فلا تكليف ولا ندم لأجل القبح بل الألجاء، وللمخالفين شبه أخرى:ـ
منها: أنها لو أسقطته بنفسها لوجب مثل ذلك في كل طاعة إذ الفرق بين طاعة وطاعة.
والجواب: أنها لم تسقط العقاب بنفسها لكونها طاعة فيلزم ما ذكر بل لكونها بذل المجهود في تلافي ما فرط وليس كذلك غيرها من الطاعات فلا تعلق له بما سبق من المعصية.
ومنها: أنه يلزم المساواة على القول بأنها مسقطة للعقاب بنفسها بين من أستمر على المعاصي دهراً طويلاً ثم تاب ومات وبين من عصى معصية واحدة فقط ثم تاب ومات لأن التوبة أسقطت ما قبلها بنفسها وبقي لهما ثوابها في الصورتين معاً وأجبت بالألتزام لأن التوبة تجب ما قبلها وتصيره في حكم المعدوم فكان كل واحد من المذكورين لم يصدر منه عصيان.
فصل:
قوله: (وإذا أسقطت التوبة عقاب المعصية فليس يعود الثواب الذي أسقطته المعصية خلافاً للكعبي).
أعلم أن للمتكلمين من أصحابنا في هذه المسألة خطباً كثيراً وأقوالاً مختلفة ومذاهب متكلفة وأكثرهم يجري في حكاية المذاهب على نحو ما ذكره المصنف ويحصل ما أطلعنا عليه من نقل المذاهب في هذه المسألة أن الذي يذهب الجمهور إليه أن الثواب الذي سقط بعقاب المعصية المتقدمة على التوبة لا يعود بالتوبة وكذلك العقاب الذي سقط بالتوبة لا يعود بمعصية تتعقب التوبة، ومذهب أبي القاسم: أن الثواب المذكور يعود ويذهب إلى أن العقاب لا يعود في الصورة الأخرى، وبشر بن المعتمر يذهب إلى أنهما يعودان في الصورتين.
مثال المسألة: أن يطيع المكلف طاعة يستحق عليها في كل يوم عشرة أجزاء من الثواب، ويمضي له على ذلك عشرة ايام فيستحق فيها مائة جزء من الثواب ثم يأتي بمعصية يستحق عليها كل يوم أحد عشرة جزء من العقاب فتسقط المائة التي قد أستحقها لأنه بمنزلة من عمل عملاً بأجره ثم أتلفه قبل تسليمه وهو يستحق في كل يوم أحد عشر جزء من العقاب وعشرة أجزاء من الثواب فيسقط في مقابله عشرة أجزاء من العقاب ويبقى عليه في كل يوم جزء من العقاب فإذا تاب عن تلك المعصية فالظاهر من كلام الجمهور أن تلك الطاعة المتقدمة قد سقطت وبطلت بالكلية ولا يعود للتائب شيء من ثوابها الذي كان قد أجتمع ولا من ثوابها الذي يسقط في الأيام التي بعد فعل المعصية ولا من ثوابها في المستقبل ومن مذهب أبي القاسم أنه يعود له ذلك الثواب الذي كان قد أجتمع وهو مائة جزء والقدر الذي كان يستحقه في كل يوم بعد فعل المعصية وفي المستقبل وهو عشرة أجزاء وذكر المهدي أحمد بن يحيى عليه السلام أن نقل مذهب الجمهور على هذه الكيفية غفلة ووهم من الحاكم وغيره وأنه لا يصح على قولهم بالموازنة إذا اللزمهم ما لزم أبا علي من أستواء حال من أحسن وأساء وحال من أساء فقط كما إذا عبدالله رجل مائة سنة لا يكل ولا يمل ثم أتى بكبيرةثم تاب ثم مات من فوره فإنه على هذا يستوي حاله وحال رجل أستمر على الكفر والفسق والفواحش مائة سنة ثم تاب فمات من فوره ويلزم أن يكونا في الجنة والأثابة على سواء وهذا لا يحسن في حكمه الله وعدله وحمل كلام ........ والجمهور على ما ذكره ابن الملاحمي ورحجه وهو أنه لا يعود ما مضى إلى وقت التوبة ويعود الأستحقاق في المستقبل، وقال كنت أقول بذلك نظراً برهة من الزمان حتى وجدته نصاً للشيخ محمود بن الملاحمي وحاصله أن من تاب بعد أنحباط ثوابه بمعصية فعلها تجدد له بعد التوبة أستحقاق الثواب في المستقبل على طاعاته الماضية كالمستقبله لأن سقوط ثوابها الماضي بالموازنة لا
يصيرها كالمعدومة وبهذا يتضح الفرق بين هذا الطرف والطرف الأخير وهو عود عقاب المعاصي الساقطة بالتوبة حيث عاد إلى المعصية بعد التوبة فإن كلام الجمهور فيه مبقى على ظاهره لأن سقوط عقاب المعاصي المتقدمة علىالتوبة ليس بالموازنة بل بمجرد التوبة فقد صيرتها التوبة كالمعدومة فلا يعود من عقابها شيء لا في الماضي ولا في الحال ولا في المآل لمصيرها كأن لم تكن بخلاف ثواب الطاعات الذي يسقط بالمعصية فإنه إنما يسقط بالموازنة فيسقط في كل وقت بما يقابله من أجزاء العقاب المستحق فإذا زال أستحقاق العقاب المانع من تجدد أستحقاق الثواب في الأوقات المستقبله عاد الثواب إلى أستمرار التجدد لأنه مستحق على سبيل الدوام فثبت أستحقاقه في كل وقت ما لم يسقط بمنافيه.
قلت: وهذا مبني على أن عشرة الأجزاء من الثواب في المثال المتقدم باقٍ أستحقاقها بعد أتيان المكلف بالمعصية التي يستحق عليها الأحد عشرة جزء من العقاب في كل وقت على سبيل الدوام وأنها إنما تسقط في الأوقات المتقدمة على الثوبة لمقابلة مثلها من أجزاء العقاب وأنه يبقى عليه في كل وقت الأجزاء من العقاب وسيأتي لهذا مزيد تحقيق على قواعد الأصحاب لكن أعجب من كونهم قضوا بسقوط المائة التي أجتمعت لا في مقابلة شيء وقضوا بأن العشرة المستحقة في كل وقت لا تسقط إلا بمقابل من أجزاء العقاب وإذا تأملت ما يذكرونه في هذا الباب من القطع بالمقادير وكيفية المساقطة وهذه التحكمات وجدتها من قبيل التكلفات التي ليست بمرضيه والتعسفات في طلب الأطلاع على الأمور الغيبية ثم أنا نذكر ما أحتج به الجمهور على ما أطلقوه من أن الثواب والعقاب لا يعودان وما أحتج به بشر على ما أطلقه من عودهما وما أحتج به أبو القاسم على ما ذهب إليه من التفضيل وهو أنه يعود الثواب دون العقاب فإن المصنف رحمه الله لم يستوف الكلام في ذلك أما الجمهور فأحتجوا على أن الثواب لا يعود بما ذكره المصنف في المتن وهو جيد لا غبار عليه وبأنه يلزم أن يكون سبب أستحقاق عودة التوبة لا الطاعة المتقدمة لأنه قد كان سقط حتى حصلت ولو صح ذلك لزم أن يستحقه من لم يكن قد أطاع فينبغي الفرق بين تقدم الطاعة وعدمه والأجماع واقع على أنه لا يستحقه من لم يكن قد أطاع وأحتجوا على أن عقاب المعصية الذاهب بالتوبة لا يعود بع نقضها بما تقدم من أن سقوط عقاب المعصية بالتوبة نفسها لا بالموازنة فيصير بالتوبة كالمعدون ويصير المعصية كأنها لم تكن، وأما بشر بن المعتمر فأحتج على عود الثواب بما يحتج به أبو القاسم فالحجة لهما على ذلك واحدة وسيأتي وأما على عود العقاب فقال المهدي عليه السلام: لا يعرف لبشر بن المعتمر حجة إلا أني أظن أنه ممن يقول: أن التوبة إنما تسقط العقاب بثوابها لا بنفسها وإذا
كان كذلك لزم ما قاله بشر لأن أستحقاق ثواب التوبة مانع من أستحقاق عقاب المعصية حينئذ فإذا زال أستحقاق ثواب التوبة بمعاودة المعصية فقد زال المانع من تجدد أستحقاق العقاب بالمعصية الأولى التي تمانع عقابها وثواب التوبة فلما زال المانع تجدد أستحقاق العقاب كما قلنا في عود الثواب فهذا أقوى ما يحتج به بشر.
قلت: وهذا في الحقيقة ليس بحجة له لأنا لا نسلمه وإنما هذه قاعدة له إذا صحت صح ما بنى عليها ومع الحكم ببطلانها كما تقدم فالذي تفرع عليها باطل.
وأما الشيخ أبو القاسم فأحتج على ما ذهب إليه من التفضيل بأن سقوط العقاب بالتوبة تفضل وليس التوبة بمانعة من أستحقاقه فإذا تفضل عليه بأسقاطه عند التوبة فلا وجه لعودة إذا عاد الذنب بخلاف سقوط الثواب المعصية فإنه عقوبة فالتوبة تسقط العقوبات ومن جملتها إسقاط الثواب فإذا أسقطت الأحباط عاد الثواب، وبما يحتج به له أن يقال يلزم أن يستوي حال من أطاع الله ثم عصاه ثم تاب وحال من لم يصدر منه إلا العصيان ثم التوبة، وأحتج أيضاً بأن الثواب لو لم يعد لما كان طلحة والزبير أفضل من أحدنا والمعلوم خلافه، وأحتج أيضاً بأن من أنعم على غيره ثم أساء إليه ثم أعتذر إليه فإنه يجب أن يعود وجوب شكره فكذلك الثواب.
وأعلم أن هذه الحجج التي أورجها قد أجبت عنها بأجوبة مقررة في البسائط ولكن إذا بنى على أن الجمهور يقولون بعود أستحقاق الثواب في الأوقات المستقبلة ولا يقولون بعدم العود إلا في الأجزاء المجتمعة والأوقات الماضية المتقدمة على التوبة فهذه الحجج كلها لا ترد عليهم إلا الأولى فقط.
وأما الثانية: فغير واردة لأنه لا يلزمهم أستواء حال الثانية الذي تقدمت له طاعات على معاصيه وحال ممن لم يسبق له طاعة ولا يلزمهم نفي فضله طلحة والزبير لأنه يعود ثواب طاعاتهم العظيمة في المستقبل ولا يكون عود وجوب الشكر حجة عليهم لأنهم يقولون وكذلك يعود وجوب الثواب في المستقبل.
وأما الحجة الأولى فجوابها: إن أستحقاق أجزاء العقاب الساقطة في مقابلة أجزاء الثواب لم يزل بالتوبة فتعود أجزاء الثواب كما أنه لم يزل بالتوبة حسن ذمة فيما مضى لكن زال بمقابلة الأجزاء المستحقة من الثواب فتساقط الماضيان من الثواب والعقاب وإذا تاب أسقطت التوبة تجدد الأستحقاق للعقاب وما كان زائداً من أجزائه على ما يقابل أجزاء الثواب كمتعمداً من الذم فيتجدد أستحقاق الثواب على تلك الطاعات التي أنحبط ثوابها الماضي ويستمر الأستحقاق ولا يغير من أجزاء الثواب ما كان قد سقط وبطل ....... من أجزاء العقاب.
قوله: (وجعل أيضاً التوبة عن الصغيرة بعيد المدح والثواب المستحقين عليها).
هذا وهم والصواب بعيد المدح والثواب الساقطين في مقابلة ما أستحق عليها من العقاب.
قوله: (ومثل هذا يجيء الخلاف فيمن عصى ثم أطاع إلى قوله: ثم ندم على الطاعة).
هذه المسألة كمسألة من أطاع ثم عصى ثم تاب من غير فرق ولا يتقرر أن الشبهة هنا أدخل وقد بنى المهدي فيها على مثل ما سبق له في المسألة الأولى وهو أنه يعود عقابه المستمر في الأوقات المستقبلة ولا يعود ما كان قد أجتمع وسقط في مقابله ثواب الطاعة لأنه قد سقط من الثواب ما يقابله قبل سقوطه بالندم على الطاعة وأما عقاب الأوقات المستقبله فلما بطلت الطاعة وأنقطع ثوابها زال المانع من أستحقاقه فيستحق ومن فروع هذه المسألة إن من أطاع الله نزهه من الزمان ثم عصاه نزهه وندم على فعل الطاعات المتقدمة ثم تاب من ذلك كله فإنه لا يعود له ثواب الطاعات التي ندم عليها لأنها قد صارة بالندم كأن لم يكن فيعتبر كالمبتدأ بالتكليف.
تنبيه: ينطوي على ذكر ما وعدنا به من مزيد التحقيق فيما سبق ذكره من كيفية أستحقاق الثواب والعقاب وتساقطهما وعود ما يعود منهما وهو في الحقيقة كالقاعدة لما سبق من مسائل عود الثواب والعقاب والخلاف في ذلك فنقول لا كلام وأن الجزاء المستحق على الطاعة أو المعصية لا بد أن يكون قدراً معلوماً ولا بد أن يتجدد في كل وقت لما ثبت دوام الثواب والعقاب وإن أستحقهما منذ وقع الفعل وقد سبق ذكر ذلك وإقامة الدليل عليه، فإذا تعقب ذلك العمل الذي يستحق الجزاء عليه ما يبطله وذلك أحد أمرين: إما ندم، أو فعل يستحق عليه جزاء ينافي ذلك الجزاء فإن كان الندم فحكمه أن يبطل جزاء ذلك العمل الذي تعلق به ما قد أجتمع منه وما يستقبل ويصير ذلك العمل كأن لم يكن ويصير الجزاء المستحق الذي قد ثبت كأن لم يثبت والأستحقاق نفسه كأن لم يكن ثم إذا زال الندم وعاد النادم إلى مثل ما ندم عليه من طاعة أو معصية أو أزيد منه فإنما يستحق جزاء ما عاد إليه ولا يعود له ولا عليه شيء مما كان قد تعلق به الندم لا ما كان منه أصلياً ولا ما كان يتجدد في الأوقات المستقبلة لما ثبت أنه يصير ما ندم عليه كأن لم يكن طاعة كان أو معصية، وإن كان المتعقب للعمل الأول ويتوب الجزاء عليه عمل أجزء له جزاء ينافيه وأجزاؤه أكبر وأوفر فلا يبطل بذلك أصل العمل الأول ولا ما يستحق عليه مستمر أولاً ما قد أستحق عليه لأجل مرور الأوقات ولكن يكون ثمرة الأكثر جزاء المتعقب فعله أن يمنع من أتصال الجزاء الأول ويدافعه وما سقط أستحقاق وصوله إلى العامل لأجل الأكثر لم يحسن أتصاله إليه بعد ذلك هكذا قيل وهو مستقيم جاز على قياس قولهم وقواعدهم في الموازنة والذي ذكره هنا من قوله: (ولا ما قد أستحق عليه لأجل مرور الأوقات).
يخالف ما تقدم من مذهبهم إن أجزاء الثواب المجتمعة تذهب بفعل المعصية التي يزيد عقابها المستمر على ثواب تلك الطاعة المستمرة لا بمقابل وقد أشار الإمام المهدي في الغايات أن ذلك من جملة مذهب البهاشمة وأهل الموازنة ولذلك تعجبنا منه لمخالفته قوانينهم وقواعدهم وقد عللوه بما ذكرناه فيما مضى ولا شك أن الذي ذكرناه هنا أولى وأرجح على قاعدتهم ويعود إلى عام ما كنا بصدده فنقول ثم إذا عاد المكلف بعد أن عمل العمل الأخر الذي جزاؤه أكبر إلى جنس العمل الأول الساقط جزاؤه حتى صار جزاء العمل الأول وما فعله من جنسه أكبر من جزاء العمل الآخر الذي قد كان أكبر الحكم أن الذي قد كان سقط من جزاء العمل به أول وقت قلته لا يسن أن يعادله ثواباً كان أو عقاباً وأما ما يستحق على أصل العمل في كل وقت فإنه يعود أستحقاقه في مستقبل الأوقات ويحسن أتصاله سواء كان المستحق أولاً ثواباً أو عقاباً مثال ذلك: أن يفعل طاعة يستحق عليها في كل يوم عشرة أجزاء من الثواب ومضى على ذلك عشرة أيام فأجتمع له مائة جزء ثم فعل في اليوم الحادي عشر معصية يستحق عليها كل يوم عشرين جزء من العقاب فإنه يحبط حينئذ المائة المجتمعة التي قد كان أستحقها. ذكره المهدي وعلى ما ذكره القاضي عبدالله بن حسن لا يسقط تلك المائة إلا بما يقابلها من أجزاء العقاب الزائدة على أجزاء الثواب ثم يستحق في كل يوم من اليوم الحادي عشر عشرين جزاء من العقاب على المعصية وعشرة أجزاء من الثواب على تلك الطاعة المتقدمة فإذا مضت عشرة ايام منذ فعل المعصية صار له ما يتأخر من العقاب ومائة جزء من الثواب فيسقط من المائتين مائة في مقابله أجزاء الثواب هذه وتسقط المائة الأخرى في مقابله المائة التي قد كانت أجتمعت على ما ذكره القاضي وعلى ما ذكره المهدي تبقى المائة هذه من العقاب مستحقة مع ما يزيد في مستقبل الأوقات من أجزاء العقاب على أجزاء الثواب ثم من بعد ذلك يستمر في كل يوم بقاء
أستحقاق عشرة أجزاء من العقاب وتسقط عشرة في مقابلة عشرة من الثواب فإذا بقي على ذلك عشرة أيام أُخر أجتمع من أجزاء عقابه مائة من غير ما سقط في مقابله أجزاء الثواب فيصير المتحصل له من العقاب مائتي جزء على قول المهدي ومائة فقط على قول القاضي إذا فعل طاعة يستحق عليها ثلثين جزء من الثواب وبقي على ذلك عشرة أيام فإنه يستحق عليها ثلثمائة جزء على طاعته الأولى مائة جزء صارت أجزاء الثواب أربعمائة، ويستحق من أجزاء العقاب مائتين فيسقط في مقابلتها مثلها ويبقى له ما يتأخر من الثواب فيسقطان في مقابله المائتين الباقيتين من أجزاء العقاب قبل هذه الأوقات أو مائة في مقابلة مائة فقط بأعتبار القولين المذكورين وتبقى مائة ثم هكذا يستحق في كل يوم أربعين جزءاً من الثواب وعشرين من العقاب فتسقط عشرين من أجزاء الثواب ويبقى منها عشرون فإذا تاب من تلك المعصية سقط عقابها بالكلية وأستمر له ثواب الطاعة المتقدمة على المعصية وهو عشرة أجزاء في كل يوم وثواب الطاعة المتأخرة وهو ثلاثون جزءاً في كل يوم ولم يعد شيء مما قد سقط من ثواب الطاعة الأولى المجتمع قبل المعصية والمستمر في حالة الأصرار قبل التوبة لأنه قد سقط بمقابل وذهب بذهابه ولا يعود أيضاً ما سقط من ثواب الطاعة الأخرى في مقابلة ما زاد من عقاب المعصية على ثواب الطاعة الأولى.
قيل: ومثال ذلك من الأمور المشاهدة نهر يجري من عين فقطع ذلك النهر فأهراق ماؤه إلى غيره مجراه ثم ختم ذلك القطع فعاد النهر إلى مجراه الأول فالذي كان قد أهراق قبل ختم القطع قد فات وتعذر عوده وبطل نفعه وحصل العود في المستقبل والنفع بالنهر مثال العمل طاعة أو معصية والقطع مثال العمل المتعقب الذي جزاؤه أوفر والختم مثال العمل المنافي للعمل المشبه بالقطع وجريان الماء في النهر بعد الختم كتجدد جزاء الطاعة والمعصية وأستمراره في الأوقات.
قلت: وهذا التمثيل ليس بالمطابق كل المطابقة من كل وجه وليس إليه حاجة فالمسألة متعقلة متصورة من دونه وقد أطلنا الكلام في هذا الفصل محبة لبيان حقيقة ما بنوا عليه فيه لأن المصنف رحمه الله أختصر الكلام ولم يأت منه إلا بطرف وإن كنا لا نجزم بتلك التحكمات ولا نقطع بصحتها وإنما الذي يقطع به أن الله تعالى لا يضيع عمل عامل وإن التائب عن الذنب ناج يستحق الثواب ويؤول إلى دار الكرامة وأن من زادت طاعاته على معاصيه يستحق الثواب والجنة ومن كان بالعكس أستحق العقاب والنار ولا تكليف علينا في تلك الغوامض والدقائق وتحرير الحساب فذلك مما يستأثر الله بعلمه ويقضي فيه بحكمه من لا معقب لحكمه.
وأما بالنظر إلى قواعد البهشمية من العدلية في الأستحقاق وكونه من وقت العفل والموازنة وكيفية الأحباط والإسقاط وأن التوبة تسقط العقاب بمجردها لا بكثرة ثوابها وتصير المعصية باطلة واهية فالذي ذكر جار عليه ومطابق له إلا ما ذكره الإمام المهدي من ذهاب ما أجتمع من أجزاء الثواب قبل المعصية بغير شيء يقابلة من أجزاء العقاب فهو غير مستقيم والذي علل به من القياس على أجره من أتلف عمله قبل تسلميه فمقتضي ذلك يبطل أيضاً أستحقاق أجزاء الثواب على ذلك العمل في المستقبل منذ فعل المعصية ولا يعود بعد التوبة لأن ذلك العمل قد بطل كما لا تعود أجرة الأجير بعد بطلان عمله بندم ولا بعمل آخر وهذا هو ظاهر حكاية المصنف ومقتضى ما ذكره الحاكم وغيره على قاعدة البهاشمة، وإما أن قاعدة البهشمية تقتضي أن تبطل أجزاء الثواب التي قد أستحقت ووجبت بغير ما يقابلها ولا يبطل الأجزاء التي تستحق في المستقبل إلا بما يقابلها فغير مستقيم لكنه يرد على القول بأن الأجزاء المجتمعة من الثواب لا تسقط إلا بما يقابلها من أجزاء عقاب الكبيرة أشكال وهو أنه يلزم ألا تكون الكبيرة كبيرة لأن الكبيرة هي المعصية التي يستحق فاعلها من العقاب أكثر مما يستحقه من الثواب فإذا كانت مائة الجزء في المثال المتقدم لا تسقط إلا بمقابله والمعصية التي فعلها الكبيرة لا يستحق عليها ألا أحد عشر أجراً وهي تستحق على الطاعة عشرة أجزاء لزم ألا تكون كبيرة إلا بعد مضي مائة يوم منذ فعلها وأنه لو مات قبل مضي مائة اليوم المذكورة كان من أهل الجنة ولم يكن صاحب كبيرة وتمكن أن يجاب عنه بأنها كبيرة بالنظر إلى ما يستحق في كل وقت وما هو أصل الجزاء عليها وعلى تلك الطاعة المتقدمة إذا مات قبل سقوط جميع أجزاء الثواب المجتمعة فليس من أهل الجنة لأن الأستحقاق باقٍ مستمر في الأوقات المستقبلة فلا توافي العوضة إلا قد ذهبت بقية أجزاء ثوابه وسقطت بما يقابلها من زائد أجزاء عقابه وهذا كله
كما ترى وإنما يقود إليه العلو في الأمور المغيبة والله أعلم.
فصل:
في كيفية التوبة.
قوله: (كفاه الندم والعزم).
قيل: ولا بد أن يرد مع ذلك الأخبار لمن أطلع على معصية بأنه قد تاب عنها فإن هذا يجب عليه دفعاً للضرر عن نفسه.
وقيل: بل لا يشترط ذلك لصحة التوبة وإن كان واجباً عليه إذا أخل به أثم.
قلت: والصحيح هو عدم أشتراطه في التوبة، وأما وجوبه في نفسه فهو واجب لأزالة التهمة ودفع مضرة الذم والأستحقاق.
قوله: (إلا أن يعفو أهل الحق).
يعني الورثة إن كانوا وإلا فالإمام لأنه يجب تسليم الدية إليه مع عدم الورثة، وأما الأنقياد للقصاص ففيه خلاف.
قيل: يجب وللإمام قتله لا لأن الأصلح للمسلمين الدية وعلى الإمام توخي الأصلح.
قوله: (سلَّمه إلى أهله إن كان باقياً).
يعني في يده أو يد غيره حيث يمكنه أستفداؤه ولو بأضعاف قيمته ما لم يرض صاحب المال بعوضه.
قوله: (وإن كان عرضاً).
يعني وإن كان الذي فرط منه النيل من عرض مسلم على وجه يقبح كأن يغتابه أو بتهمته أو بشتمه من غير مسوغ لذلك.
قوله: (وقال القاضي يصح أعتذاره).
قيل: وكلام القاضي هو الأقوى والأرجح.
فصل:
وأختلفوا في القبيح إذا تاب عنه ثم ذكره هل يجب تجديد التوبة كلما ذكره أم لا.
قوله: (بناء على أن علة وجوب التوبة القبيح أي قبيح ما فعله وجبت التوبة عنه لأجله).
وفي الحقيقة أن الوجه أتيانه بالقبيح فإذا كانت هي العلة فهي ثابتة مستمرة فيجب تكرار التوبة لحصول العلة وفقد ذلك بالذكر لأنه لا تكليف على غير الذاكر فالنسيان رافع للتكليف.
قوله: (وإن كان قد فسره مرة.. ) إلى آخره.
الظاهر أختلاف معاني هذه التفسيرات الثلاثة.
وقيل: بل يعود إلى معنى واحد وهو العزم على فعل المعصية.
قال: لأن ترك التوبة عنده فعل ضدها ولا ضد لها عنده إلا العزم ولا يعقل من معنى الثبات على المعصية بعد فعلها إلا العزم على معاودتها.
فصل:
عند الجمهور أنه لا تصح التوبة من معصية دون معصية.
قوله: (مع العلم بأن الأخرى معصية).
يعني لا إذا لم يعلم كون الأخرى معصية إما جهلاً لشبهة وإما غفلة منه أو نسياناً فالتوبة حينئذ تصح ومن هنا وقع الإتفاق على صحة توبة الخارجي عن نحو شرب الخمر مع بقائه على الخارجية وهذا قول جمهور الزيدية والمعتزلة وغيرهم، وأفضل القائلين به وأولهم أمير المؤمنين وسيد الوصيين علي عليه السلام ثم القاسم وعلي بن موسى الرضا وإليه ذهب أبو هاشم وواصل بن عطاء والحسن البصري وجعفر بن ميسر وبشر بن المعتمر وأبو عبدالله وقاضي القضاة وغيرهم وقال أبو علي والمؤيد بالله والمنصور بالله والشيخ أبو القاسم وابن الملاحمي تصح التوبة عن معصية دون معصية ثم أختلفوا فقال أبو علي: ما لم تكن المعصية الأخرى من جنسها كما ذكره المصنف عنه وأطلق المؤيد بالله والبغداديون ذلك ولم يقيدوه بما ذكر، وقيده ابن الملاحمي بما سيأتي ذكره.
قوله: (على ما ليس من جنسها).
يعني فتصح توبته عن الزنا وشرب الخمر دون كأس ولا عن ترك صلاة مفروضة دون أخرى.
قوله: (وإلى هذا مال الشيخ محمود).
المحكي عنه القول بأنه إذا أنضم إلى القبيح صارف أخر غير قبحه نحو عظمه أو كثرة الزواجر عليه أو أستسياغ العقلاء له صحت توبته عنه دون غيره وسيأتي عنه ما يشعر بذلك.
واعلم أن من منع من صحة التوبة عن ذنب دون ذنب لم يمنع منه إلا من حيث الداعي والتكليف لا من حيث الإمكان.
قيل: ولا خلاف في أحكام ......... أنه يحكم بصحة التوبة عن ذنب دون ذنب كما في توبة اليهودي عن القود مع إصراره على غصب المال، وإنما الخلاف في صحة توبته بالنظر إلى حكم الأجرة وهو أستحقاق العقاب على المعصية التي تاب عنها.
قوله: (إلا أن توبته تكون محبطة في جنب الأصرار على الكبيرة وأعتقاد حسبها).
يعني فلا يستحق عليها ثواباً وأما عقاب الزنا الذي تاب عنه فقد أسقطته وأراد بالكبيرة خارجيته وجعل الأعتقاد حسبها مدخلاً في الأحباط ولا شك أنه معصية لأنه أعتقاد لشيء لا على ما هو به فهو جهل قبيح ولا يقطع بكثرة لكن له عقاب ينضم إلى عقاب المعصية التي هي الخارجية ومجموع عقابه هو المحبط لثواب توبته.
قوله: (قال أبو علي وقع الإجماع.. ) إلى آخره.
فقال: كيف يصر من مثل أبي علي على جلالته في العلم دعوى الإجماع على ما يخالف فيه الجمهور وينافي قول أمير المؤمنين وكثير من أعيان أولاده وغيرهم من أجلاء التابعين وتابعيهم.
والجواب: أن المشجع له على ذلك إجماع الأمة على أن يهودياً لو تاب عن اليهودية مع إصراره على غصب درهم أو غيره من المعاصي أخربت عليه أحكام المسلمين وزالت عنه أحكام اليهودية فلولا صحة التوبة لبقيت أحكام اليهودية عليه فالأجماع إذن قائم على صحة التوبة عن ذنب دون ذنب وسيأتي الكلام على ذلك بما ترفع به الأشكال.
قوله: (قالوا ولا يضر الجهل بعلة الفرق).
إشارة إلى ما ذكره السيد صاحب شرح الأصول فإنه أبطل تعليل أبي هاشم للفرق بأن الفعل شاق دون الترك بأن المشقة غير حاصلة في حق القديم مع أنه لا يجب إذا تفضل تعالى نوعاً من التفضل لحسنه.
قالو إحساناً أن يتفضل بسائر أنواع التفضل ثم قال الحكم معلوم وإن أمكن أن يطلب له علة صحيحة فذاك وإلا لم يقدح في صحة الحكم ويكون من الأحكام التي لا تعلل لأنه بأي شيء علل فسد.
قوله: (والحق أنه لا فرق.. ) إلى آخره.
كلام حسن وتوجيه عجيب في الأمثلة التي ذكرها ولا غبار عليه إلا أن يرد عليه ما أورده السيد على كلام أبي هاشم وهو أن يقال ما ذكرته لا يتصور في حق القديم وقد علمنا أنه يتفضل على شخص دون شخص بنحو الغناء وهبة الولد ونحو ذلك مما دعا إليه أرادة الأنعام ولا صارف يتصور في حق القديم إذ لا ضرر عليه في الأعطاء لا غير ذلك من لحوق مشقة أو حصول منفر.
فإذا قيل: ما أنكرت أنه تعالى إنما لم يتفضل على زيد بمثل ما تفضل به على عمرو لعدم أستواء الحال وهو أن يقدر أن ...... في ذلك التفضل لطفاً ولا لطفته لعمرو في مثله أو لأن زيداً لا يقع بالتفضل عليه مفسدة دون عمرو فلعل في المعلوم أن في التفضل عليه بمثل ذلك مفسدة.
قلنا: بفرض المسألة في حق أهل الأجرة فكان يلزم ألا يصح أن يتفضل على واحد من أهل الجنة إلا بما يفعل مثله لسائر أهلها فلا .......هناك ولا مفسدة فظهر لك رجحان ما مال إليه السيد من صعوبة التعليل وإن كل فرق يذكر فهو عليل.
قوله: (حجة الشيخ محمود.. ) إلى آخره.
حجة هذه تقضي بصحة ما نقل عنه من أنه يصحح التوبة عن ذنب دون ذنب إذا أقترن ما تيب عنه بوجه من تلك الوجوه المذكورة وهذا في الحقيقة يخالف ما قاله أبو علي لأنه لم بشرط ذلك ولا يتأتى أن يكون ما ذكره هنا حجة على صريح مذهب أبي علي شاملة لا طرافة.
قوله: (فأما أنه يسقط عنه عقاب اليهودية).
فالحقيقة أن اليهودي لأجل يهوديته يستحق العقوبة العظمى في الآخرة ويستحق في الدنيا عقوبات بحق الأحكام الدنيوية فالعقوبة الأخروية فتبقى العقوبة الأخروية لعدم صحة التوبة بالنظر إلى ما يقضي به العقل ويسقط بدليل السمع ما يعيدنا بأجزاءه عليه في الدنيا فغير ممتنع أن تكون المصلحة في رع تلك العقوبات الدنيويه عنهم حينئذ وإن كانت العقوبة الأخروية باقية وفيه نظر فمن التعبد أن يستوي حال الباقي على اليهودية والتائب عنها في الأجرة لتلك العلة العليلة.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (غير صحيحة).
فيه نظر والظاهر صحتها مع الأتيان بها لأجل القبح ولو أنضم إليه ما ذكر وأما لو قدر أنه لم يتب لأجل القبح ولا دعاه ذلك إلى التوبة بل لأجل الوجوه الزائدة فقط فلا يبعد عدم صحة التوبة.
قوله: (وليس جزاء منها ولا شرط فيها).
يعني وأما إذا جعلنا العزم على ألا يعود إلى ميله في القبح جزاء أو شرطاً فالتوبة عما ذكر فقط غير صحيحة لعدم حصول ركنها أو شرطها، وعلى هذا فلفظة لا سيما غير واقعة موقعها لأنها تأتي لأمتياز ما بعدها ......... فيما أشترك فيه هو وما قبلها فكان الأولى حذفها وإن يقول وهذا قوي كما ترى على القول بأن العزم دليل على التوبة.
وأعلم أن الله سبحانه أمر بإخلاص التوبة وبالتوبة النصوح ولا يتصور ذلك مع الإصرار على قبح يعلم أنه قبيح ومعصية لله فالأظهر أنه لا توبة مع الأصرار على ذنب ولا خروج عما أسلف من القبيح مع بقائه على شيء منه والله سبحانه أعلم.
القول في الوعيد السمعي
فصل: في إنقطاع التكليف.
قد دل العقل على ذلك لما ذكره المصنف ولأنه قد ثبت أن الله إنما كلف المكلفين تعريضاً لهم إلى نيل الثواب وهذا يوجب إنقطاع التكليف لأن أتصال الثواب مع بقائه غير ممكن إذ المكلف حينئذ يصير ملجى إلى الأمتثال والألجاء مع التكليف وهذه الدلالة تختص بالمثابين ومثلها يتصور في المعاقبين فيقال قد ثبت بأخبار الله أنه لا بد من أتصال العقاب إلى مستحقه فلا بد من إنقطاع التكليف إذ لو أوصل إليه مع بقائه لصار ملجى.
قوله: (وكله محال في ذكر ما يلزم في حق أهل الجنة).
وقوله: (كله محال في ذكر ما يلزم في حق أهل النار).
لم ترد به الأستحالة العقلية فذلك من الممكنات بل أراد وهو لا يصح لقيام الأدلة على خلافه فلم يرد خلاف الأمران بل خلاف الصحيح.
قوله: (وكل سمي يجعل شبهة في تكليفهم).
يعني تكليف أهل الأجرة على ما يذهب إليه أبو القاسم والمجبرة.
فصل:
كأن يصح من جهة العقل أن ينقطع التكليف بالموت فقط أو الجنون أو النوم.
قوله: (أو نحو ذلك).
يعني كالألحاد أو سلب شهوة القبيح ونفرة الحسن والأستغناء بالحسن عن القيح أو الموت.
قوله: (وأختلف الناس في معنى الفناء).
أعلم أن للناس في أم الفناء وما يتعلق به أختلافاً كبيراً وللناقلين مذاهبهم في ذلك أختلافاً في النقل ومن أحسن المصنفين أش........................ الخلاف وتحريراً للنقل الإمام يحيى عليه السلام في التمهيد ونحن نأتي بحاصل ما ذكره على أختصار مع زوائد وفوائد أختلف الناس هل الأجسام نافية أولاً، فحكي عن النظام أنها غير نافية وأن الله يحدث الجسم حالاً بعد حال وسائر الناس يذهبون إلى نفائها وقد ذكر الرازي والإمام يحيى أن مراد النظام ما بقوله الفلاسفة من أحتياج الأجسام إلى المؤثر في حال بقائها فظن أنه يقول بتجدد الجسم حال بقائه وليس كذلك ثم أختلف القائلون ببقائها هل يصح عدمها أو لا فذهبت الفلاسفة إلى أنه لا يصح عدمها وأنها أزلية واجبة الوجود لكن لا لذاتها بل لوجوب حصولها مع علتها وهي ممكنة لذاتها وهكذا ذهب الجاحظ وبعض الكرامية إلى أستحالة عدمها مع أقرارهم بحدوثها فهؤلاء القائلون بأنه لا يصح عدمها وذهب أبو الحسين إلى التوقف هل يصح عدمها أولاً وذهب غيرهم إلى أنه يصح عدمها ثم أختلف الشيخان فقال أبو هاشم لا يعلم صحة عدمها إلا بالسمع لأنه قد دل على العدم وهو يترتب على الصحة وقال أبو علي بل يعلم ذلك بالعقل لأن من حق القادر على الشيء أن يقدر على جنس ضده وقد ثبت أن الله قادر عليها فلا بد أن يقدر على ضد لها والضد من حقه أن يعدم ما هو ضد له عند وجوده وهذا مبني على أن لكل مقدور ضداً وهذه قاعدة غير مسلمة وإذا لم يثبت ذلك فلا دلالة في العقل على ثبوت ضد لها وإنما دل السمع عليه لما دل على أنها تعدم.
والحجة الواضحة على صحة العدم عليها وجهان:ـ
الأول: أنها محدثة وكل محدث يصح عليه العدم إذ لو أستحال عدمه لكان إما لأجل عدمه السابق وهو ........ لأنه نفي محض والعدم لا يكون جهة للتأثير في شيء ولا فرق بين نفي المؤثر وبين مؤثر هو نفي أو لأجل وجوده الخلاف ولو أحال عدمه فائتاً لأحال عدمه ولا يصح أن يخيل عدمه أولاً لئن كل محدث مسبوق بتقدم العدم أو يكون لمجموعهما ولا يصح لأن الوجود والعدم يقضيان فلا تمكن أجتماعهما فلا يمكن على أثر واحد.
الثاني: إنا لو فرضنا أن القادر على الأجسام صرفه صارف عن إيجادها فيما مضى وأستمر الصارف إلى هذا الوقت الذي فرض صحة عدمها فيه لجاز كونها معدومة فيه وإذا كان كذلك فتقدم حدوثه فيما قبله من الأوقات لا يمنع من جواز العدم عليه في ذلك الوقت.
وأجتج القائلون من المسلمين بأستحالة عدم الأجسام مع قولهم أنها محدثة بوجهين:ـ
أحدهما:أنه لو صح ذلك لكان إما بأعدام معدوم أو طرؤ ضد أو أنتفاء شرط وكلها باطلة:
أما أولاً: فلأن الإعدام ليس بأثر فتتعلق به القدرة بل هو سلب محض.
وأما الثاني: فلأنه لا طريق إلى الضد وهو الفناء وأثباته بحكم لا مستند له.
وأما الثالث: فلأن البقاء ليس المرجع به إلا إلى أستمرار الوجود لا إلى أمر زائد عليه فلا يمكن أن يقال أن الجوهر مفتقر في بقائه إلى شرط.
الثاني: أنه لو صح عدم العالم لوجب القضاء بوجوب إعادته فيكون في حالة العدم محكوماً عليه بوجوب الأعادة لا محالة وذلك محال لئن الحكم بالشيء على الشيء معناه أعتقاد ثبوت الصفة للموصوف وذلك يتوقف على ثبوت الموصوف في نفسه ومعلوم أن الشيء في حال عدمه لا دأب له ولا خصوصية فأستحال أتصافه بصحة الأعادة.
وأجبت: عن هذا بما هو ظاهر وهو أن الحكم على المعدوم كالحكم هنا بوجوب الأعادة على ما ثبت له العدم إنما يتوقف على تصور الماهية ويكفي ذلك في أسناد الحكم وإن لم يكن للحقيقة وجود.
وأجبت عن الوجه الأول: بأنه ليس فيه دلالة قاطعة تدل على أستحالة تعلق الإعدام بالفاعل فيبقى الأمر موقوفاً على التجويز ثم إن الإمام يحيى بعد ذكره لما ذكرناه من أدلة الفريقين العقلية وبعد ذكره للأدلة السمعية التي يتمسك بها القاطعون بثبوت العدم على العالم وأعتراض أدلة الفريقين.
قال: فإذا بطل القطع من كلا الجانبين وجب التوقف وليس الوقف في الإعدام وألا أعدام يخل بشي من أمور الديانة لأنا نقطع بصحة الإعادة من غير إعدام وهو الذي تتأوله ظواهر الشريعة كما سيجيء، وكيفية الأفناء فأختار مذهب أبي الحسين في الوقف كما هي عادته عليه السلام فإنه لم يزل ناصراً لمذهب أبي الحسين مستمراً على ذلك كما أن بعض الأئمة المتأخرين لم يزل ناصراً لمذهب أبي هاشم حتى لقد ......... العجب من ذلك فإنه لا ينبغي أن يحمل سالك هذه الطريقة في المبايعة والمطابقة في جميع الأقوال على التقليد لجلالة قدر من ذلك حاله وكون المسائل هذه ليست من مسائل التقليد وإذا جعل من قبيل تطابق الأنظار فعجيب غريب وهذا من الأمور المستبعدة أن تتطابق الأنظار في هذه المسائل الكلامية من أولها إلى آخرها وبعد هذا من النوادر فإن الناس فيها مركبون ومخيلون على التنازع الكلي والتشاجر والأختلاف حتى الوالد وولده كما كان بين أبي علي وأبي هاشم وفي كثير من أدلتها غموض وإشكالات تقتضي التفاوت والتنازع فيها والعلماء الأخيار رحمهم الله ونفع بعلومهم محمولون على كاهل السلامة وحسن القصد وأستفراغ الوسع والجهد في الأطلاع على الحقائق والبعد عن المضايق بتجاوز الله عنهم وشكر لهم صالح سعيهم.
وأما أختلاف الناس في معنى الفناء فقال الإمام يحيى: أعلم أن الذين قطعوا بفناء العالم أختلفوا في كيفية فنائه على ثلاثة مذاهب:ـ
المذهب الأول: مذهب القائلين بأنه يفنى بإعدام معدم وأختلف هؤلاء:
فمنهم: من قال يعدمه الله فيصير معدوماً كما أوجده ويجعلون الإعدام متعلقاً بالقدرة كالإيجاد وهو مذهب ابن الملاحمي من المعتزلة وبعض الأشعرية.
ومنهم: من يقول إن الله تعالى يقول له إفن فيفنى كما أنه لما أراد أحداثه في الإبتداء قال له كن فكان، وهذه طريقة أبي الهذيل في الأفناء والإيجاد.
وثانيها: مذهب القائلين بأن فناء العالم إنما يكون بضد وهم جلة المعتزلة والشيخين وأتباعهما ويسمون ذلك الضد فناء ثم أختلفوا في كيفية إعدامه للأجسام فمن قائل أنه يحصل في الجبر على سبيل الأستقلال وهو مذهب الأخشيديه زعموا أن الفناء وإن لم يكن متحيزاً فهو يحصل في جهة معينة مستقلاً فيها فإذا أوجده الله في تلك الجهة عدمت الجواهر بأسرها.
ومنهم: من يجعله قائماً بالمتحيز وهذا وهذا يحكى عن محمد بن شبيب زعم أن الله يحدث الفناء في كل جوهر ثم يقتضي ذلك الفناء عدم الجوهر في الوقت الثاني.
ومنهم: من يحكم عليه بالوجود لا في محل فيؤثر في الأفناء حال حدوثه ثم أختلفوا، فقال بعضهم: الفناء الواحد كاف في عدم كل الجواهر وهو قول أبي هاشم وقاضي القضاة وجمهور أهل العدل.
ومنهم من قال: لا بد لكل جوهر من فناء يخصه وهو قول أبي علي ومحمد بن عمرو الضمري وابن الأخشيد.
وأحتجوا: بأن القول يكون الفناء الواحد يعدم به جميع الجواهر يؤدي إلى تعجيز الله عن أفناء بعض الأجسام دون غيره.
قيل: ورجع أبو علي أخيراً إلى مثل قول أبي هاشم في النسخة الأخيرة من نقض التاج.
وثالثها: مذهب القائلين بأن فناء العالم إنما يكون بإنقطاع شرط، ثم أختلفوا:
فمنهم من قال بأن ذلك الشرط موجود لا في محل وهو قول بشر زعم أن الجوهر يبقى ببقاء موجود لا في محل فإذا عدم ذلك البقاء عدم الجوهر.
ومنهم من يقول: أن الجواهر إنما تنتفي لانتفاء الأعراض ثم من هؤلاء من يقول لا تنفى كل الأعراض وهو قول بعض الأشعرية فإنهم ذهبوا إلى أن الجوهر يجب أتصافه بنوع من كل جنس من أجناس الأعراض إذا كان قائلاً له وهي غير باقية فإذا عدم واحد من هذه الأجناس عدم الجوهر.
ومنهم من يقول: الأنتفاء بعضها ثم أختلف هؤلاء أيضاً:
فقال بعضهم: الجواهر تبقى ببقاء قام بها وذلك البقاء غير باق بل يجدده الله حالاً بعد حال فإذا لم يجدده الله تعالى وجب أنتفاء الواهر أجمع وهذا يحكي عن البلخي من المعتزلة وبعض الأشعرية.
وبعضهم يقول: إن شرط أستمرار الجوهر في الوجود حصول الأكوان فيه غير باقية فمتى لم يخلق في الجوهر لزم عدمه وهذا يحكى عن بعض الأشعرية.
هذا حاصل ما ذكره الإمام عماد الإسلام من تحرير نقل المذاهب وتحقيقها وقد أجاد وأنت إذا تأملت ما ذكره المصنف من حكاية المذاهب وحدثه لا يخلو هو وكلام الإمام عن طرف أختلاف.
قال ابن منويه، وقال أحمد بن أبي علان: أن في المقدور كوناً لا يبقى فإذا أنتهت الأجسام إلى الجهة التي يوجد فيها ذلك الكون وعدم ولم يخلقه غيره عدمت الأجسام.
قوله: هو الأمانة وتبديد الأجزاء فقط).
إلى هذا ذهب الإمام يحيى وقوى هذا القول وأحتج له.
قال: (والمختار عندنا في كيفية فناء العالم أنه يكون ببطلان نظامه وتفريقه وزوال بنيته).
وهو الذي تشير إليه ظواهر الشريعة ويقتصر من ذلك على خمس آيات:
الأولى: {وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة ونسفت السماء فهي يؤمئذ واهية}.
الثانية: {يوم تمور السماء موراً وتسير الجبال سيراً}.
الثالثة: {ويوم تسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً}.
الرابعة: {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب}.
الخامسة: {وسيرت الجبال فكانت سراباً}.
وقوله تعالى: {وتكون الجبال كالعهن المنفوش}.
قال عليه السلام: (فهذه الآيات وغيرها تشير إلى ما ذكرناه ثم ما في القرآن الكريم من وصف السماء بالأنفطار، والشمس بالتكوير، والكواكب بالأنتثار، والنجوم بالطمس، والبحار بالتفجر، والأرض بالزلزلة، والجبال بالنسف، فيه دلالة قاطعة على صحة ما قلنا).
قال عليه السلام: (والذي يسببه الحال فيه من هذه المذاهب ليس إلا أن إعدامه يتعلق بالفاعل كما أن إيجاده متعلق بالفاعل وهذا ضعيف لأن الإعدام ليس أمراً محققاً فيجعل متعلقاً بالقدرة وإنما هو نفي بخلاف الإيجاد، فأما الكلام على أهل الفناء وكونه ضداً وعلى أهل الشرط فكلها تحكمات ضعيفة وخيالات فاسدة).
قلت: وكلامه عليه السلام في غاية القوة إلا أن القطع بأن الإعدام غير مقدور وأستضعاف القول بذلك لا دليل قاطع يدل عليه والآيات القاضية بأن العالم ينتثر نظامه وتتبدد أجزاؤه لا يمنع من الإعدام بعد ذلك إن قام دليل عليه وأعدل القول عندي في هذا الباب وإن كانت الأدلة ليست بتلك القاطعة القول بصحة الإعدام وأنه داخل في مقدوره تعالى وعدم القطع بوقوعه مع القطع بتبديد الأجزاء وبتر نظام العالم وتغيير أحواله والله سبحانه أعلم.
قوله: (ويبطله أن هذا القول يتعلق بالقادر.. ) إلى آخره.
هذه مواحدة من المصنف لأبي الهذيل بظاهر قوله فإنه يقضي بأن قوله أفنى هو المؤثر في الإعدام كما أنه يظهر من قوله الحكم على لفظه كن بأنها مؤثرة في الإحداث وأما السيد صاحب شرح الأصول فتأول ذلك بأن معناه أن الله سبحانه إذا أراد إحداث فعل فهو من الأفعال بشيء فذلك الشيء أيما هو بأن يقول له كن لا أن مراده أن الله لا يقدر على الأحداث إلا بهذه الطريقة وتأويل كلامه في الإحداث يستدعي تأويل كلامه في الإفناء إذ الطريقة واحدة وهو اللائق بجلاله قدر أبي الهذيل فإن ظاهر قوله في الإفناء والإحداث مما لا ينبغي أن يصدر عن مثله.
قوله: (لأنه جنس الفعل).
يعني ليس يقع على وجوه مانعة من أن يقع في تلك الحال بل هو فعل مجرد عارٍ عن ذل ففي أي وقت قصد القادر عليه إلى إحداثه لم يمتنع ذلك.
قوله: (لتعدى ولا حاضر).
يعني فكان يلزم أن يتعلق بالماضي والنافي وغير ذلك كالأعتباد فإنه لما تعدى في تعلقه لم يقف تعلقه على حد بل يصح أن يتعلق بالموجود والمعدوم والباقي والقديم، والصحيح والمستحيل.
قوله: (لوجب أن يقف عدم كل شيء.. ) إلى آخر كلامه.
يقال: هذا عكس والعكس لا يجب وإنما الذي يلزم الطرد وهو أن يصح من كل قادر أعدام ما بقي من مقدوراته التي وجدهاوأما ما لا يبقى فعدمه في الوقت الثاني حكم يرجع إليه في نفسه لا يقف على أختيار مختار.
قوله: (فليس للمعدوم بكونه معدوماً حال).
فيه نظر لأنه يقال لم يجعل الخصم التأثير في حال المعدوم بل ي حال الموجود وهو سلب صفة الموجود.
قوله: (وورود الموت على الأجسام.. ) إلى آخره.
جواب لسؤال يرد على الأحتجاج بهذه الآية وممن أورده الإمام يحيى......... أن الآية دالة على كونه أخر على الأطلاق وبأي أعتبار ما فإنه يصدق عليه قولنا ....... ونحن نقول بموجبها ونجملها على أنه تعالى يبقى حياً بعد موت جميع الأجسام.
قوله: (والهلاك في الحقيقة هو العدم.. ) إلى آخره.
قد قرر الأستدلال بالآية على كيفية أخرى وهي أن يطلق ويراد به أمران:ـ
أحدهما: خروج الشيء عن كونه منتفعاً به.
وثانيهما: العدم ولا يجوز أن يراد به الأول لأنه لا يمكن خروج العالم عن كونه منتفعاً به فإنه سواء أن بقي موجوداً أو صار معدوماً فإنه يمكن الأستدلال به على الصانع وذلك من أعظم المنافع فيجب حمله على المعنى الثاني، وفيه دلالة على فناء جميع المحدثات اعترض بأن الهلاك إنما هو خروج الشيء عن كونه منتفعاً به والإنتفاع المخصوص بالإنسان من حيث هو إنسان لا من حيث يستدل به على الصانع بل من وجه آخر وكذلك فإن الثوب إذا بلي قيل أنه خرج عن أن ينتفع به لخروجه عن النفع المهم في حقه وإن لم يخرج عن كل نفع.
قوله: (وقال تعالى: {ويبقى وجه ربك}.. الآية.
كان ينبغي أن أن يأتي تأولها فإن دلالة ظاهره على ما يزيد أثباته وهو قوله تعالى: {كل من عليها فان}. فإن الفناء هو العدم فإذن ظاهر الآية يدل على إعدام من على الأرض وهو المطلوب، وأعترض بأنا لا نسلم ذلك بل الفناء خروج الشيء عن الصفة التي ينتفع لأجلها ألا ترى أن يسعمل الفناء في الموت فيقال: أفنتهم الحرب، وأفناهم الدهر، فيكون معنى الآية كل من على وجه الأرض من الحياء فهو ميت ويبقى حياً غير ميت وجه ربك ومن الآيات الدالة على أن الفناء هو الإعدام قوله تعالى: {كما بدأنا أول خلق نعيده}. جعل الإعادة كالإبتداء أو شبهها به والأبتداء كان بعد عدم، وقوله تعالى: {وهو الذي يبدؤ الخلق ثم يعيده}. وإعادة الخلق لا يتصور إلا بعد عدمه هكذا قرر الإمام يحيى الإستدلال بها بين الأثنين ثم أجاب عنهما بأن الخلق هاهنا بمعنى المخلوق والخلق يطلق ويراد به الإيجاد كقول تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم}. وتطلق ويراد به التقدير كما قال تعالى: {وبدأ خلق الإنسان من طين}. وقوله تعالى: {خلقكم من تراب}. فلم قلتم أن المراد بالخلق هاهنا هو الإيجاد دون التقدير فيكون المعنى هو الذي أبتدأ خلق المقدورات أولاً ثم يعيدها ثانياً إلى حالتها الأولى وعلى هذا ...... في الآية الأخرى.
قوله: (وليست تحتاج في وجودها إلى شيء.. ) إلى آخره.
يعني أنه لا يستغنى في أنتفاء شيء من النافيات عن الضد إلا فيما كانت هذه صفته وهو أن يكون محتاجاً في وجوده إلى شيء ولذلك الشيء ضد ينفيه فإذا أطرأ عليه ضده فنفاه أنتفى ذلك المحتاج إليه بأنتفائه من غير ضد كما يقوله المتكلمون في اللون أنه ينتفي بالفناء لا لأن الفناء ضد له بل لأنه ينفي الجوهر واللون محتاج إليه لا يوجد إلا حالاً فيه وكما تنتفي الحياة بتفريق البنية لأنتفاء ما يتوقف هي عليه وهو البنية مع أن البنية وهي التأليف المخصصوص أما ينتفي بالتفريق لإنتفاء الإجتماع الذي يحتاج إليه التأليف لا لأنه ضد للتأليف على قواعدهم.
قوله: (يوضحه أن صحة أستمرار الوجود حكم يثبت لما هو عليه في دأبه.. ) إلخ.
من قواعدهم أن صحة البقاء وهو أستمرار الوجود حكم مقتضى عن الصفة المقتضاة عن صفة الذابت ثابت لأجلها وفيما ذكره نظر من وجهين:ـ
أحدهما: أنه جعل هذا موضحاً لما تقدم وهو أمر غامض غير واضح لا يطلع عليه إلا الخواص من الخائضين في غمار هذا الفن وما ليس بواضح في نفسه فأولى ألا يكون موضحاً لغيره.
الثاني: أنه إذا ثبت ما ذكره من كون صحة أستمرار الوجود حكم مقتضى عن الصفة المقتضاة فالذي يقتضيه ذلك أن الحكم هذا وهو الصحة لا تختص بوقت دون وقت وأما أنه يقتضي ذلك في حق الوجود بنفسه فلا.
قوله: (أن يتخذ المحل).
يعني: في الأضداد التي تتضاد على المحل كالألوان والأكوان لا مطلقاً فهذا الفناء الذي بينوه معنى وجعلوه ضداً للجواهر لا يتصور فيه أشتراط إيجاد المحل لأنه عندهم يوجد لا في محل وضده موجود قطعاً لا في محل ويلحق بما تقدم فوائد:ـ
الفائدة الأولى: في أحكام الفناء عند مثبته وهي ثمانية:ـ
أحدها: أنه مقدور لله ...... وهذا حكم واضح لا منازعة فيه مع أثباته.
الثاني: أنه غير باقٍ وهذا يححكم وما الطريق إليه فأما من جهة العقل فمتعذره، وأما من جهة السمع فقد أستدلوا بقوله تعالى: {هو الأول والآخر}. فلولا أن الفناء بعدم لعدم بقائه لم يثبت كونه تعالى آخراً.
الثالث: أنه يستحيل وجوده في محل لأنه ضد له وفي الجهة لأنه ليس بمتحيز وقد سبق ذكر من يخالف في ذلك.
الرابع: أنه غير مرئي لنا وأما في حق الله فمنهم من قال: أنه غير مرئي له، ومنهم من يقول: أنه يراه لأن ضده المتحيز يرى ومنهم من يوقف في رؤيته تعالى له هكذا.
قيل: والعبارة فيها ركة لأن عدم رؤية الرائين من الخلق له ليس في ذككره فائدة لأن الكلام مبني على أنه يفنيهم أجمعين فكيف يرونه وإنما الأولى أن يجعل الكلام والخلاف في هل هو مرئي في نفسه فيراه من لا يجوز الفناء عليه وهو الله سبحانه أو ليس بمرئي في نفسه ولعمري لقد بالغ المتكلمون في التكلف وغلوا في ذلك وإن حكمهم عليه بهذه الأحكام مع كونه لا طلايق لهم إليه فضلاً أن يتطرقوا إلى ثبوت أحكامه ويتسع خلافهم فيها من المجاوزة للحد في التطلع إلى علم ما لم يعلموه.
الخامس: أن الله قادر من جزئياته على ما لا يتناهى وهذا صحيح مع ثبوته.
السادس: أن الفناء الواحد يفنى به جميع العالم عند أبي هاشم وأتباعه وقد مضى ذكر الخلاف فيه.
السابع: أن الله لا يصح منه من جهة الحكمة أن يوجده قبل إيجاد العالم لأن ذلك عبث لا فائدة فيه ولا يصح منه حكمة أن يوجد فنائين للغنية بأحدهما وكون المتأخر عبثاً فإن أوحدهما معاً فقد حكموا بقبحهما مغالاته لم يتميز الحسن عن القبيح وعلى رأي أبي علي يجيء مثل ذلك في خلق فنائين لجوهر واحد لا لجوهرين.
الثامن: قال أبو هاشم لا يجوز أن يفني الله حياً قبل موته، لقوله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت}. وأجاز القاضي أن يرد الفناء مع وجود حي أو أحياء فيكون هو المذهب للحي وحياته.
قيل: وهو الصحيح لأن الموت لا بد معه من ألم وآخر الآحياء لا يحصل بألمه أعتبار فيقضي هذا بوجوب أن يفنى آخر الأحياء قبل موته إلا أن يقدر أنه يموت من غير تألم ويرد على المثبتين للفناء سؤال وهو: إن يقال من قواعدكم أنه لا يصح ثبوت ذات سمعاً فقط وهذا الفناء لا مستند لكم إلا السمع في إثباته.
وأجيب: بأنا لم نستند إلى السمع إلا في ثبوت حكم له وهو إعدام الأجسام فلما علمنا حكمه بالسمع أستدللنا عقلاً على ثبوته بحكمه وإنما منعوا من ثبوت الذوات بالسمع من حيث أنه لا يجب أن يرد السمع بثبوت تلك الذات فلو قدر أنه لم يرد ولا مانع من تقدير ذلك لزم ثبوت ذات لا دليل عليها وإذا تأملت هذا عرفت أن السؤال وارد عليهم في الفناء فيقال لو لم يدل السمع على ثبوت حكمه الذي أستدللتم به على ثبوته أليس يلزمكم ألا يكون إليه طريق فلا بد من الأعتراف بذلك.
الفائدة الثانية: ورد في الأخبار أن الله تعالى إذا أراد فناء العالم أمر سبحانه إسرافيل أن ينفح في الصور النفخة الأولى فيهلك بها جميع الأحياء وإليها الإشارة بقوله تعالى: {ونفخ في الصور فصعق من في السموات والأرض إلا من شاء الله.
قيل: ......... بالمشبه الملائكة الأربعة جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وهؤلاء الأربعة أفضل الملائكة عند الله وأعلاهم منزلة فإذا هلك كل حي ولم يبق إلا هؤلاء الأربعة أوحى الله إلى عزرائيل يقبض روح إسرافيل فيقبضه ثم يقبض روح ميكائيل فيقبضه ثم إن الله سبحانه يميت ملك الموت ولا يبقى إلا جبريل وهو أعظم الأربعة درجة عند الله فيقول تعالى: يا جبريل لم يتوخى إلا أنا وأنت ولا بد أن يموت أحدنا. فيقول جبريل: بل سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت الدائم الحي الباقي وأنا الميت الفاني ثم يخر ميتاً بإذن الله. وفي رواية: أن آخرهم موتاً عزرائيل وأن جبريل ممن يقبض ملك الموت روحه فإذا لم يتوخي إلا الله تعالى خلق الفناء فيعدم العالم عند وجوده ثم يعدم الفناء في الحالة الثانية من وجوده لأنه غير باقٍ ففي هذه الحال لا يبقى حي ولا موجود إلا الله تعالى وهي التي يكون فيها سبحانه الآخر كما قضت به الآية الكريمة، إذ قوله: {هو الأول}. معناه الموجود قبل الموجودات وكذلك قوله: {هو الآخر}. ليزدوج الكلام ويتطابق ولو حمل على أن المراد بكونه الآخر أنه حي ولا حي معه بعد أن يميت كل حي لم يزدوج ولا يتقابل أتم المقابلة.
فإن قلت: قولي: وجه الحكمة في الفناء الذي هو الإعدام عند مثبته وما وجه عدم الأكتفاء بالأمانة أوبها وبتبديد الأجزاء وتفريقها وتصييرها هباءً منثوراً فإن ذلك كاف في الفصل بين مدة التكليف ومدة المجازاة وزمانيتها وقطع التكليف.
وإن قيلإن في الفناء أعتباراً ومصلحة فمع زوال التكليف كيف يصح ذلك.
فالجواب: قال الشيخ الحسن بن أحمد بن منويه: قد أختلف كلام شيخنا في ذلك فقال أبو علي: إن فيه لطفاً وهو أن المكلف إذا عم أن المجازاة تتراخى عن حال التكليف على أقوى ما يكون من وجوه التراخي بأن يفنى ويعاد كان أبعد من أن يأتي بالطاعات طمعاً في المنافع أو خيفة من المضار بل يفعلها للوجوه التي يجب ويحسن ومن حق اللطف أن يفعل بالمكلف على أبلغ الوجوه فيجب أن يفنى ليصير علمه بذلك لطفاً.
وقال أبو هاشم: لولا الفناء لم يحسن التكليف لأن التكليف لا يحسن إلا مع زوال الإيجاد بالأفناء فهو أبلغ وعن الألجاء أبعد.
قال ابن منويه: والوجهان متقاربان إلا أن الشيخ أبا علي أعتبر ثبوت اللطف وأبا هاشم أعتبر زوال الألجاء ثم قال: ومتى أمكن قطع التكليف بكل واحد من الأمرين صار عز وجل في حكم المخير في فعل أي واحد منهما شاء فلا يقال هلا قطعته بأحدهما ....... لا سيما وفي الأفناء.
الفائدة الزائدة التي ذكرناها: وبعد فالموت لا يعم جميع المكلفين فيحتاج في كل واحد منهم إلى معنى محدد وفي الفناء يكفي الجزء الواحد أنتهى وهو كما ترى.
الفائدة الثالثة: إن محل كل حي غير الله لا بد أن يموت فمن شاهدنا موته فقد علمناه بالضرورة ومن لم نشاهده علمنا ذلك في حقه بقوله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت}. وغيرها من الألزامات وهو مما يعلم ضرورة من الدين وإجماع المسلمين، والموت عبارة عن زوال الحياة وليس بمعنى عند جمهور العلماء من الزيدية والمعتزلة بدليل إنا معتى علمنا زوال حياته علمناه ميتاً وإن لم يعلم غير ذلك فدل على أن ذلك هو الموت، وذهب أبو علي وأبو القاسم والإمام المنصور بالله: أن الموت معنى يضاد الحياة فإذا حل محلاً فيه حياة أزال الحياة عن الجملة والجملة للحياة والموت كالمحل الواحد ولبسط الكلام في ذلك وأستيفاء الأدلة عليه مقام آخر إذا عرفت ما ذكر فمن المشهور أن المتولي لقبض الأرواح وإزالة الحياة ملك الموت عليه السلام وهو من أعظم الملائكة شأناً وأسمه عزرائيل وهو الموكل بقبض الأرواح كما أن إسرافيل الموكل بنفخ الصور ورد أنه لا يزال ملتقماً بفمه لموضع النفخ من الصور مترقباً ورود أمره تعالى له بذلك، وميكائيل موكل بالبحار والأمطار والنبات وفي الأثر أنه تعالى ينزل الغيث في سنة إلى الأرض قدراً مقدراً ألا يزيد في ذلك سنة عن سنة إلا أنه تعالى إذا أراد بالناس خيراً جعله في المواضع التي يعود بنفعها عليهم وإذا أراد البركة في الثمار مزج المطر بماء الجنة فما كثر المزاج عظمت الثمرات وكثرت البركات، وإذا لم يرد سبحانه إحداث الخيرات جعل الأمطار على البحار والقفار وما بعد عن العمران وجبريل عليه السلام هو الموكل بتبليغ الرسالة إلى الأنبياء عليهم السلام وبالنعم الدنيويه من الخسف والصاعقة ونحو ذلك فهؤلاء الملائكة الأربعة هم أعظم الملائكة شأناً وأعلاهم مكاناً وأخصهم بالرب سبحانه وتعالى، ثم نعود إلى ما كنا بصدده فنقول كل حي من بني آدم فالظاهر أنه لا بد من حضور ملك الموت عند موته وخروج روحه، وأما غير الآدميين من الملائكة والجن والشياطين
والأنعام والسباع.
قيل: فظواهر الآثار أنه لا بد من حضوره فنص روح كل حي منها أيضاً ويحتمل خلاف ذلك وأورد على ما ذكر سؤالان:ـ
الأول: كيف يتصور قبضه لروح نحو من مات في بطن أمه أو غريقاً في لجة البحر وغماره أو تحت دار أنهدمت فوقه، ومن مات على ظهر الأرض فالإشكال باقٍ في حقه فإن الأرواح في باطن الأجسام وكل على قاعدته في الروح وقبض الروح ونزعها لا يتهيأ إلا بدخوله حيث هي أو إدخال آلة لجذبها وذلك غير متصور فإن ملك الموت عليه السلام من جملة الأجسام والآلة لا تكون إلا من قبيل الأجسام ودخول متحيز في متحيز لا يصح. وقد أجبت عنه بوجهين:ـ
أحدهما: أن نازع الروح ومخرجها عن الباطن هو الله تعالى ونسبة ذلك إلى ملك الموت مجازاً ما الأعلام الله له بذلك وكونه يتفق بعلم منه وأما لقبضها بعد خروجها بأن يمكنه الله من ذلك ومن رؤيتها مع لطافتها ودقتها.
وثانيهما: أن يجري ذلك على ظاهره ويمنع أستحالته ويحكم بإمكانه لما في الجسد من المنافذ الخفية ولهذا يخرج منه الماء وغيره عند الشرب وفيه حروق ظاهرة كالفم والمنخرين والأذنين والعينين والسبيلين وجسم الملك رقيق شبيه بأجزاء الهواء فيدخل إلى باطن جسد الحي من هذه الحروق كما تدخل الشياطين للوسوسة في الصدور وكما يدخل الملك لألقاء الخاطر في القلب هكذا ذكر القاضي عبدالله الدواري، قال: إلا أن فيما يذكره المتكلمون من رقة جسد الملك نظراً كلامياً من حيث أنه حي قادر والحياة والقدرة ونحوهما تفتقران إلى محل فيه تأليف مخصوص وكثافة.
قلت: بل في الوجهين أنظار كثيرة وكلاهما من التعسفات العسيرة ونقل عن الغزالي أن موت الأحياء يكون بسبب مرونة شخص ملك الموت فإذا رآه الحي هلك لخاصة في ذلك.
قال: وللأشياء خواص معلومة مستمرة لا تختلف ولو صح هذا وقع التخلص به من الأشكال المذكور.
السؤال الثاني: كيف يتأتى من ملك الموت قبض روح كل حي وقد يموت العدد الكثير في وقت واحد في أماكن كثيرة من السماء والأرض مشرقها ومغربها وشامها ويمنها ومن المستحيل أن يكون ملك الموت في أماكن كثيرة في وقت واحد. وأجبت بوجوه:ـ
الأول: حمل القبض على أعلام الله أياه بذلك والأعلام يتأتى على كل تقدير لكن هذا تأويل نادر لا توافق عليه تلك الظواهر ولا تساعد.
الثاني: أن يحملعلى قبضها بعد خروجها ونزعها وذلك يمكن وإن خرجت في وقت واحد ويكون قبضه إياها في أوقات.
الثالث: أن ذلك لا يبعد إذا مكنه الله منه كما يروى أن السموات والأرض وما بينهما من الأحياء بين يدي ملك الموت كما يكون الإناء بين يدي من يلتقط منه.
الرابع: أنه يتولى ذلك بأن يبعث أعواناً له لقبض الأرواح........ عنه وإضافة قبض الأرواح إليه بهذا المعنى صحيحة كما يضاف إلى صاحب الحال في الشاهد ما فعله أعوانه.
الفائدة الرابعة: هل يمكن معرفة أمد الدنيا ووقت وقوع الفناء وما قد مضى منها قبل مبعث رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم فأما منذ بعث إلى وقتنا هذا فمعروف.
الذي عليه جمهور المسلمين أنه لا يمكن ذلك لأن معرفة أمدها لا يعرف إلا بمعرفة آخرها وآخرها قيام الساعة وقد قال تعالى: {إنما علمها عند ربي}. وقال: {إلى ربك منتهاها}. ودلت الأخبار أيضاً على أن ذلك مما أستأثر الله بعلمه، وقد حكي عن ابن عباس أن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وروي عنه الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة ونقل مثله عن الطبري وبه قالت اليهود والنصارى وعن وهب بن منبه أن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وروي عن بعضهم أن مدة الدنيا خمسون ألف سنة وأحتج بقوله تعالى: {تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة}. وحمل اليوم على أن المراد به مدة الدنيا لا ما ذكره المفسرون أنه يوم القيامة لأنه تعالى أخبر أن ملائكته تعرج إليه فيه باالأمر منه إلى عباده ويوم القيامة لا تكليف فيه فلا يكون للملائكة فيه عروج ولا هبوط لانقطاع أرسالهم إلى الخلق وأما ما مضى من مدة الدنيا إلى أن بعث صلى اللّه عليه وآله وسلم ففيه روايات كثيرة وهذا يمكن ضبطه ومعرفته بالوحي وما ينقل من الأخبار الصحيحة وقد نقل عن ابن عباس في قدر ما مضى من الدنيا إلى بعثته صلى اللّه عليه وآله وسلم روايات مختلفة أنه سبعة آلاف سنة وخمسمائة وسبعون سنة وخمسة آلاف وخمسمائة سنة وستة آلاف سنة وقال الواقدي من هبوط آدم إلى ولادة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم أربعة آلاف سنة وستمائة وأثنتان وأربعون سنة وقال اليونانيون من النصارى الماضي منها إلى الهجرة ستة آلاف سنة إلا أشهراً. وقالت المجوس الماضي منها أربعة آلاف سنة ومائة سنة وأثنتان وثمانون سنة وعشرة أشهر وتسعة عشر يوماً وقالت الروم الماضي منها ستة آلاف سنة ومائة سنة وسبع عشرة سنة، حكى ذلك القضاعي في تأريخه ولا يتيقن صحة لشيء من ذلك والله أعلم.
فصل:
قوله: (كان يحسن من جهة العقل ألا يعيد الله من يستحق العقاب).
شرع المصنف في الكلام على الإعادة بعد الفراغ مما أورده في الإفناء وبدأ بذكر من يجب إعادته ومن لا تجب وما يجب أعادته ممن يعاد وأقتصر على ذلك ونحن قبل ذلك نذكر ما لا غنيه عن تقديمه من ذكر ما هية الإعادة وكيفيتها ثم الخلاف في صحة الإعادة وعدمها وذكر شروطها عند القائلين بصحتها وذكر الدليل عليها وشبه المانعين منها ثم نعود إلى ما ذكره المصصنف بتكميله ....... عليه أما حقيقة الأعادة فهي وجود بعد عدم سبقه وجود والمعاد الموجود بعد عدم سبقه وجود والمعبد فاعل الأعادة وأما كيفيتها فهي على حسب الخلاف في الإفناء فمن قطع بأن الأفناء هو الأعدام فلا أعادة الله للعالم إيجاده بعد عدمه ومن ذهب إلى أن الأفناء هو زوال هذا النظام وتفريقه قال الأعادة هي ....... وأجتماعه وعوده إلى حالة الأولى وأما الخلاف في صحتها فالقول بأنها تصح قول جمهور المتكلمين فإنهم يقولون بجواز إعادة المعدوم ولكن أختلفوا من وجه آخر فعند المعتزلة أن المعدوم لو بطلت ذاته وحقيقته أستحالت أعادته وأتفق الأشعرية على أن صحة الأعادة لا تتوقف على أثبات الذات في حالة العدم والخلاف في ذلك لمن لم يصحح أعدام العالم فلا تثبت الأعادة التي هي إيجاد بعد عدم بل بالمعنى الآخر وهو التأليف وجمع شتات الأجزاء المنتثرة، وأما شرائط الأعادة عند القائلين بصحتها على معنى أنها الوجود بعد العدم فهي شروط أربعة:ـ
أحدها: أن يكون المعاد نافياً.
وثانيها: ألا يكون من مقدورات القادرين بقدرة.
وثالثها: أن يكون سبباً غير مسبب وهذه الشرائط الثلاث متفق عليها وقد تقدم الكلام عليها في مسألة الأفعال.
ورابعها: ألا يكون المعاد من جنس مقدور القادرين بقدرة وإن كان من فعل الله وباقياً غير مسبب ذكر هذا وشرطه أبو علي والذي عليه ابو هاشم والجمهور أن ذلك لا يسترط وأحتج إبو علي بأنه لو جازت إعادة ما هو من جنس مقدورنا لجاز أن يعيد ما هو من مقدورنا من جنسه.
وأجبت: بأن أمتناع ذلك منا لأجل القدرة لا لأجل الجنسيه ولما كان الله سبحانه قادراً لذاته صحت منه إعادة مقدوره الذي يقدر على حبسه ولم يصح ذلك منا لأجل كوننا قادرين بقدرة إذا عرفت ذلك فاعلم أنه لا مخالف من المسلمين وأهل الملة في وقوع المعاد وهو معلوم من ضرورة الدين وإجماع المسلمين ومن خالف فيه فليس بمسلم ولا خلافه يعتد به وإن وقع الخلاف في كيفية الأعادة وحقيقة المعاد على ما ذكر والخلاف في أمر المعاد محكي عن بعض الفلاسفة قال الإمام يحيى أظنه جالينوس فقد حكى عنه أنه كان متوقفاً في صحة أمر المعاد ويدل على ثبوته على سبيل الجملة وكل فيه على أصله من إيجاد بعد العدم أو تأليف وأنتظام بعد الإنتثار مسالك ثلاثة:ـ
الأول: ما تقرر من كونه تعالى قادراً على كل الممكنات وعالماً بكل المعلومات فإذا ثبت ذلك فالأعادة ممكنة إن فرضنا أن الفناء الأعدام فمن قدر على النشأة الأولى والإيجاد أولاً قدر على النشأة الأخرى والإيجاد ثانياً وإن فرضنا أن الفاء نثر نظام العالم وتقربوا خرابه متميز أجزائها بعضها عن بعض وضم كل جزء إلى ما كان منضماً إليه ممكن في حق العالم القادر لذاته ولو لم يقطع بصحة الأعادة لزم أن يكون إنزال الشاق من التكليف وإنزال الآلام الشاقة ظلماً فلا بد من القضاء بوجوب الأعادة لتوفير ما يستحق من هذين الأمرين.
المسلك الثاني: النصوص الواردة في الكتاب والسنة كقوله تعالى: {كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا}. وقوله تعالى: {كما بدأكم تعودون}. وقوله: {.............................إلى يوم القيامة}. وأما السنة فنصوصها على ذلك أكثر من أنت تحضى.
المسلك الثالث: أنا نعلم بالضرورة أجتماع الأنبياء على وجوب الأعادة وأنهم يدينون بذلك، ويعلم ضرورة إجماع المسلمين عليه، وأما شبه المنكرين للمعاد فأشقها ثلاث:ـ
الأولى: أن الإعادة لو صحت لكان الله سبحانه إما أن يعيد جميع الأجزاء البدنية الحاصلة في مدة العمر أو الأجزاء الحاصلة عند الموت الأول باطلة فإنا لو قدرنا أن أنساناً أكل آخر وصارت أجزاء المأكول غذاء للآخر........ لزم إعادة تلك الأجزاء في الأنسانين معاً وهو باطل.
والثاني: باطل لأنه يلزم منه الأعادة على صفته التي مات وهو عليها فيعاد الأعمى أعمى والمجذوم مجذوماً ونحو ذلك ولا قائل به.
والجواب: أن هذا الذي ذكروه لا يقضي بأستحالة الأعادة ولا يمنع إمكانها والتحقيق أن الذي تتوجه أعادته الأجزاء الأصلية وما عداها فضلات لا يجب أعادتها فالواجب عندنا من الإعادة إعادة تلك الأجزاء الأصلية فقط.
الشبهة الثانية: قالوا لو عبد الأنسان لكان ........ إما أن تعاد صفاته التي لمكانها يتميز من غيره........ أو لا يعاد إن لم يعد كان الله معيداً من ذلك الشخص ما لا يتميز به عن غيره فلا فائدة في الإعادة وإن أعتدت مع أنها كانت قد عدمت كان ذلك قولاً بإعادة المعدوم.
والجواب: أنا لا نسلم أستحالة إعادة المعدوم فإنها من الأمور الممكنة وحق قادر الذات، وأجاب الإمام يحيى حضور الموت يأمر الله الملائكة بقبض تلك الأجزاء التي هي الأنسان بالحقيقة من غير أن يقع فيها تبديل وتغيير ويفرق في صفاتها فيعيدها سبحانه وتعالى على تلك الصفة والكمية.
الشبهة الثالثة: قالوا: صحة المعاد على ما جاءت به الكتب وأخبرت به الرسل غير معقول من وجوه ثلاثة منحت أن يكون باطلاً:ـ
أولها: أن تكوير الشمس وأنتثار الكواكب محال.
وثانيها: أن بقاء الحياة في المعذبين مع دوام الأحتراق محال.
وثالثها: أن ........ الأخبار دالة على أن الله يعظم أبدان المعذبين وذلك ظلم.
والجواب: أن الأنبياء إذا ظهرت عليهم المعجزات وأخبروا بشيء من الأمور الممكنة وجب تصديقهم في كل ما أخبروا به ولا نسلم أن أنتثار الكواكب محال بل هو من الأمور الممكنة ولو كان مستحيلاً لما أخبروا به ولا نسلم أن بقاء الحياة مع دوام الأحتراق محال فإن الحياة إنما تفتقر إلى البنية وأعتدال المزاج وهذان حاصلان فيجب دوام الحياة في كل وقت هكذا ذكر الإمام يحيى وهو صحيح فإنه لا مانع من أن يجعل الله سبحانه بين النار وبين محال الحياة التي لا بد منها في بقاء حياة المعذب حائلاً أو يصرف النار عن إحراقها بمشيئته فيبقى البنية المحتاج إليها ولا يقع لها أحتراق ولا تفريق للأجزاء التي تحلها تلك البنية.
قال عليه السلام: وقد حكي أن إنساناً من منكري البعث أورد عليه هذا الأشكال فأجابه بأن مثل هذه الحالة موجودة فيما بيننا ونشاهده وذلك أن الأطعمة الغليظة تنظج بحرارة المعدة بحيث لا ييحصل مثل ذلك إلا بطباخ إذا جعل في قدر للطبح وليس ذلك إلا لمكان حرارة المعدة وذلك يدل على أن حرارتها أقوى من حرارة القدر أو يكون قريباً منها ثم إنا لا نتألم من هذه الحرارة بل لو تناقصت هذه الحرارة لظهر من الألم والضعف ما لا يخف فإذا جاز ألا تكون الحرارة القوية مؤلمة فلأن يجوز بقاء الحياة معها أولى.
وحكي أيضاً عن جالينوس: أنه شق بطن حيوان مغافصة وأدخل يديه فيه وجعل أصبعه في قلبه فما قدر على أمساك الأصبع من شدة حرارة القلب وحكي أن السمندل تعيش في النار وروي أيضاً أن بعض الدود يتولد من مواضع الثلوج العظيمة، فدلت هذه الأشياء على أن شدة الحر والبرد لا تنافي الحياة ونحو رد قامها مع ذلك.
وأما قوله: (إن تعظيم أبدان المعذبين ظلم).
فهو باطل لأن المعذب الجملة المستحقة ......... وعذابها مستحق فبل ما أوردوه ووجب القطع بأثبات المعاد على ما قضت به الشريعة. وأما من يحب أعادته فهو من له حق من ثواب أو عوض على الله أو على غيره لوجوب الأنصاف والإنتصاف ووجوبها معلوم عقلاً وشرعاً لأنه لا بد من توفير ما يستحقه عليه ولا يتم ذلك إلا بالإعادة فيجب وأما من يستحق العقاب وسائر الحيوانات التي لا تستحق عوضاً فلا نعلم أعادتها إلا بالشرع الدال على ذلك كقوله تعالى: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون}. وقوله: {وإذا الوحوش حشرت}. إلا أن هذه الآية الأخيرة لا دلالة فيها على إعادة من لا حق له لأنه يجوز أن يكون للوحوش أعواض على الله بما يلحقها من الآلام أو لبعضها على بعض وأما الجمادات فلا وجه لوجوب أعادتها ولا ورد دليل عليها إلا الأصنام فقد ورد قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله خطب جهنم أنتم لها وآردون}. ووجه الحكمة فيه أن يزداد بحشر الكفرة ........ حين يرون آلهتهم التي جعلوها شركاء لله معهم في النار وأما المقدار الذي تجب إعادته فقد أشار إليه المصنف.
بقوله: (واعلم أن الذي تجب أعادته.. ) إلى آخره.
وفي هذه المسألة خلاف، قال الإمام يحيى عليه السلام: أختلف القائلون بصحة المعاد على ثلاثة أقوال:ت
الأول: أن المعاد ليس إلا هذه النفس الناطقة وهو قول الفلاسفة.
الثاني: أن المعاد النفس الناطقة مع الجسم وقد ذهب إلى هذا طائفة من المسلمين.
قلت: وتحقيق ما ذهبوا إليه أنهم أثبتوا النفس الناطقة كما يقوله الفلاسفة وذهبوا إلى أنها هي الإنسان في الحقيقة المكلف المطيع والعاصي والمثاب والمعاقب والبدن يجري مجرى الآلة لها وأنها تبقى بعد فساد البدن فإذا وقع الحشر خلق الله لكل نفس بدناً وردها إليه ونسب القول بذلك إلى الغزالي وأبي الحسين الحليمي وأبي القاسم الراغب ومعمر وأبو الهيصم وهو من الكرامية وكثير من الصوفية والرافضة وهذا هو مذهب جمهور النصارى و......... إلا أنهم يخالفون المسلمين من وجهين: أثبات قدم الأرواح هذه وأنهم يقولون ترد إلى الأبدان في هذه الدار وينكرون الآخرة والجنة والنار.
الثالث: أن المعاد هذا البدن وهو قول أكثر أهل الإسلام ثم أختلفوا فمنهم من ذهب إلى أنه لا يعاد من البدن إلا ما لا يكون حياً إلا به دون سائر الأبعاض والأوصال وهو قول أبي هاشم ومنهم من قال بإعادة البدن كله وسائر أوصاله وأبعاضه تى أنه يجب إعادة ما قطع من البدن وهو قول أبي علي وأختلف المتكلمون في الأمور التي بها يتعين ذات كل شيء ويتميز عن غيرها فزعم بعضهم أن التميز يكون بالتخطيط والتشكيل، وقال بعضهم يكون بالتأليف وذهب بعضهم إلى أن التميز يكون بالحياة وسائر الأعراض، وقال بعضهم يكون بالأجزاء المعينة.
قال عليه السلام: والمختار أن المقدار الذي يجب إعادته هو هذه الأحوال التي لا يكون الإنسان إنساناً إلا بها وأن التميز إنما هو واقع بها ويدل على ذلك أن الذي تجب إعادته هو المثاب المعاقب وليس إلا هذه الجزاء فيجب أن تكون هي المعاد دون ما سواها.
قلت: وكلامه عليه السلام تقضي بأنه لا تعاد إلا الأجزاء المذكورة وليس كذلك بل القصد أنها الذي يجب أعادته وأما فضلات الأجساد والشعور فلا يجب أعادتها.
قيل: إلا أن في الآثار النبوية أن المعادين يعادون على فخامة وعظم في أجسادهم فأهل الجنة كذلك على أتم حال في صورهم وألوانهم و........ أعضائهم لأن ذلك أقر لعيونهم إلا شعر اللحى فإنها لا تعاد ففي الأثر: ((ألا تراهم يدخلون الجنة خرداً مرداً مكحلين)). وأما أهل النار ففي الأثر: ((أنهم يعادون كذلك في عظم أجسامهم الواحد منهم كالجبل تشديداً في عذابهم)). فما أزدادت أجزاء العاصي وأخر حياته كان ذلك أزيد في عذابه.
قوله: (فقال أبو هاشم يجب أعادتها).
يعني البنية فيجب أعادة التأليف بعينه وهذا قوله القديم ثم رجع عنه وأبو علي لا يوجب أعادته بعينه بل لا يحيزها لما سلف له من أن من شروط المعاد ألا يكون جنسه داخلاً تحت مقدورنا.
قوله: (قيل والحق.. ) إلى آخره.
هذا مذهب قاضي القضاة أنه لا يجب أعادة التأليف بعينه وكذلك الحياة.
قوله: (أو مثلها).
يعني مثل البنية التي هي تأليف مخصوص والمعنى تأليف على شكل التأليف الذي كان في الدنيا.
قوله: (فقيل يجب أعادتها بعينها).
هذا قول لبن عبدالله وهو قول أبي هاشم أيضاً لكن حكى عنه قاضي القضاة أنه قال بعد يحب ذلك وهو مذهب أبي علي قال لأن حياة زيد تصح أن تكون حياة لعمر.
وقوله: (مما كان لا يصح أن تكون ححياة إلا له).
يعني: ما لا يصح أن تحل إلا في أجزائه بناء على قاعدتهم في أن لكل معنى محلاً معيناً لا يجوز أن تحل في غيره.
تنبيه:
وأما سائر الأعراض فلا قائل بوجوب إعادتها.
فائدة: ينطوي على نكتتين:ـ
الأولى: أن المعاد يعاد بمعنى أنه يبتدأ إيجاده أختراعاً لأقتداره تعالى ومشيئته، ومعنى الإعادة إيجاده ثانياً وذلك بالفاعل وذهب عباد وهشام وأبو بكر الرازي إلى أن المعاد يعاد والمعنى وبه أيضاً قال هشام وعباد في المحدث أنه يحدث لمعنى.
الثانية: أن الوجود الحاصل للمعاد وهو عين وجوده الأول وصفته التي كانت له في الدنيا لا غيرها لأن وجود الذات لواحدة لا يصح تعدده هكذا ينبغي أن يقال على قواعد المتكلمين من أصحابنا، ويحتجون بأنه لو صح كونه على حالين بالوجود في وقتين لصح كونه عليها والوقت واحد وذلك يقضي بصحة وقوع التزايد في صفة الوجود وهو باطل.
قيل: ويأتي على قول من يحيز مقدراً بين قادرين ويحككم على كل قادر بالتأثير في صفة وجود غير الصفة التي يؤثر فيها القادر الآخر جواز أن يعاد بصفة وجود صفة غير الوجود الأولى.
فائدة أخرى: قد تقدم ذكر النفخة الأولى التي بها يموت بقية الأحياء إلا من أستثنى ثم تكون الإعادة بالنفخة الثانية التي هي عبارة عن البعث وذلك أن الله تعالى بعد نفخة الصور الأولى وموت جميع الخلائق ثم فنائهم يجي إسرافيل عليه السلام ويعيد الصور فينفخ فيه إسرافيل نفخة أخرى فيقع لذلك صيحة شديدة تنفرج بها القبور عن رؤوس الموتى فيثورون دفعة وأحدة من قبورهم، قال تعالى: {ونفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون}. يثورون مبهوتين فزعين متغيري الوجوه والأجساد لطول أقامتهم في التاب ولهول ما يتوقع قال تعالى: {فإذا نقر في الناقور فذلك يؤمئذ يوم عسير}. والصور الذي يقع فيه النفخ ويسمع منه الصوت كهيئة البوق ودائرة رأسه كعرض السموات والأرض وردت الآثار بذلك وبين النفختين أربعون سنة هكذا ذكره غير واحد من أصحابنا.
قلت: وفي هذا الكلام طرف غفول عن قاعدتهم في أثبات الفناء فإنهم ذكروا أن العالم يعدم بعد النفخة الأولى ثم ذكروا أن النفخة الثانية تقع فيثورون من القبور بظاهره أنهم وقبورهم لم يعدموا بل باقون على صفتهم بعد الموت والدفن إلا أن يكون من كلامهم أنهم يعادون.
قيل: النفخة الثانية يوجدون وتوجد أجدثهم ويعادون إلى مثل تلك الحالة التي كانوا عليها بعد الموت واللدفن فيتأمل.
فصل:
في عذاب القبر وسؤال الملكين. الكلام من ذلك يقع في فوائد ست:ـ
الأولى: في ذكر الأختلاف فيه.
الثانية: في الدليل عليه.
الثالثة: في كيفية وقوعه.
الرابعة: في وقته.
الخامسة: في فائدته.
السادسة: في شبه المخالفين فيه.
الفائدة الأولى: قوله: (إلا ما يحكى عن ضرار).
تحقيق الكلام في أن الذي عليه الأكثرون القول بالحياة في القبر قبل البعث وأنه لابد فيه من عذاب لأهل النار وبشارة لأهل الجنة ووصول شيء من أرائحها ونعيمها إليهم كما ورد: ((القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار)). والخلاف في ذلك مع بعض البغدادية منهم بشر المريسي ويحيى بن كامل وغيرهما وروي ذلك عن بعض الزيدية منهم الناصر الحسن بن علي عليه السلام والمرتضى والناصر أبنا الهادي فهؤلاء منعوا من الحياة بعد الموت إلا في البعث يوم القيامة.
قوله: (ونحو ذلك).
يعني كأن يذهب في تجزأ أو تتبدد أجزاؤه على وجه الأرض ولعل كيفية ذلك أن تعاد أجزاؤه وتؤلف وتجيء في أي مكان ثم يوصل إليه ذلك وهذا داخل في حيز الأمكان مع كوه مستبعداً غاية الأستبعاد والمعتبر الدليل السمعي وقد قصر المصنف الكلام على هل النار والصحيح أن الكلام فيهم وفي أهل الجنة والخلاف واحد كما أشرنا إليه.
الفائدة الثانية: في ذكر الأدلة على ذلك.
قوله: (إنما يكون لعذاب أو بشارة).
يعني وإلا كان الإحياء عبثاً لا فائدة فيه والحكيم ميزه عنه.
قوله: (ولم يذكر الحياة التي هم فيها يعني في الآخرة وهذا جواب عن سؤال يرد هنا تقريره لو كان الأمر كما ذكرتم لكان الله قد أحياهم ثلاث مرات فلم جعله مرتين.
وجوابه: ما ذكره المصنف وحاصله أنه إنما ذكر الأمور الماضية ولا حاجة إلى ذكر الحياة التي هم فيها.
ووجه آخر: وهو أن المراد الحياة التي هم فيها والأحياء في القبر لكونهم عرفوا الله فيهما ضرورة، ولهذا قالوا: {فاعترنا بذنوبنا}. ولم يذكروا ولم يذكروا الإحياء في الدنيا فلم يكونوا معترفين فيه بذنوبهم ذكره الإمام يحيى.
قيل: ويجوز أن يكونوا أغفلوا حياة القبر لقصر مدتها وذكر حياتين لا بدل على أنتفاء الثالثة لأن تعليق الحكم تعدد لا يدل على نفي ما عداه.
قوله: (فإن قيل: الأمانة الأولى هي خلقه إياهم بعد أن كانوا أمواتاً).
هذه عبارة ركيكة فاسدة وكيف يتصور أن تكون الأمانة الأولى خلقهم بعد أن كانوا أمواتهم إنما كانوا معدومين فالعبارة الحسنة في ذلك ما قاله السيد في شرح الأصول: ومتى قالوا أن إحدى الأمانتين إنما هو خلق الله الخلق من نطفة هي موات.
وجوابه: أحسن من جواب المصنف وهو أن الأمانة في الحقيقة إنما هي إبطال الحياة وإزالتها وتفريق البنية التي تحتاج هي في الوجود إليها ولا يتصور ذلك في النطفة التي لم تكن حية أصلاً وقد جعل الله الأمانة مرتين وعلى ما ذكرتم يقتضي أن يكون ذلك مراراً فقد قال تعالى ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ولم يصر حياً بعد ذلك بل صار علقة كما قال تعالى: {ثم خلقنا النطفة علقة فجعلنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً}.
قوله: (وأما قوله تعالى: {لا يذوقون فيها الموت.. }) إلى آخره.
هذه إشارة إلى ذكر ما يحتجون به وسيأتي الكلام عليه ...... إن شاء الله تعالى.
قوله: (فبين أنهم يعرضون على النار أي آل فرعون).
يعني وإذا ثبت ذلك في آل فرعون ثبت في غيرهم من المستحقيق للنار للأتفاق على أن الحكم واحد في ثبوت عذاب القبر أو عدم ثبوته.
قوله: (إن كان المراد بالأغراق الموت الآية وآردة في قوم نوح ولا كلام في موتهم مقترن بإغراقهم.
قال جار الله: جعل إدخالهم النار في الآخرة كأنه متعقب لأغراقهم لا فتراته ولأنه كائن لا محالة فكأنه قد كان أو أريد عذاب القبر ومن مات في ما أو نار أو أكلته السباع أو الطير أصابه ما يصيب المقبور من العذاب أنتهى.
وقوله: (وقد وردت الأحاديث في ذلك فيما ورد منها كثرة إلا أنها أحادية ولا يعتمد عليها إلا على جهة الأستظهار فمنها ما روي عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر)). وعنه صلى اللّه عليه وآله وسلم وقد سمع هذه في غشية أوان غروب الشمس هذه أصوات اليهود يعذبون في قبورهم، وعنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((إن الموتى ليعذبون في قبورهم حتى أن البهائم لتسمع أصواتهم)). وعنه صلى اللّه عليه وآله وسلم وقد نفرت ناقته أنه قال: ((نفرت من صوت صاحب هذا القبر فإنه يعذب)). وعنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((من لم يؤمن بعذاب القبر عذبه الله)). وعنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((هو أول منازل الآخرة فمن نجا منه بعد أيسر منه ومن لم ينج منه فما بعده أشد منه)).
قوله: (أي عندهما).
يعني وإن كان كبيراً في نفس الأمر لأنه لا يستحق إيصال العقاب إلا على كثيرة فهو كما ورد عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((إن الرجل ليتكلم بكلمة يهوي بها في نار جهنم وما كان يظن أن يبلغ بها ما بلغ)).
قوله: (لا يستتر من البول).
هذه رواية وفي رواية لا يستتره بأثبات الهاء وهما بالتاء الفوقانية المثناة بعد السين المهملة ونون يعد ها زاي معجمة فالتي بالهاء من النزاهة وهو البعد من السوء والأخرى من ...... بفتح النون وككسرها وهو ما يتخلب من الأرض من الماء ذكره في الصحاح والزاي في رواية وحذف الهاء مضاعفة.
قوله: (وأما سؤال منكر ونكير.. ) إلخ ذلك.
اعلم أن الأكثر أجازوا دخول الملكين القبر لسؤال الميت بعد إحيائه عن ربه ودينه ونبيه وقضوا بذلك لما ورد من الأدلة النقلية عليه فإن كان الميت من المثابين وفق الجواب فيؤنسانه بعد ذلك ويبشرانه بما أعد له من النعيم الدائم وإن كان من المعاقبين أنعقد لسانه وتحير في الجواب فيهددانه ويعدانه ويوقعان الحسرة في قلبه والغم لما فاته من جزيل الثواب وما أعد له من عظيم العقاب، وخالف في ذلك البستي وضرار بن عمرو فذهبا إلى أنه لا يجوز دخول الملكين على الصفة المذكورة ولعلهما بنيا ذلك على نفي عذاب القبر فإن هذا من فروعه ومن نفاه نفا سؤال الملكين المذكورين.
قيل: وممن أنكر أمر الملكين وما ورد فيهما الشيخ أبو القاسم البلخي.
قوله: (وقد ورد من عرف أهل الحديث جعل أسم الأثر لما أثر عن غير النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من الصحابة والتابعين ولم يكن مرفوعاً إليه صلى اللّه عليه وآله وسلم والخبر لما كان مرفوعاً، وأشار المصنف بذلك إلى ما ورد عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((يقول الله لملك الموت أنطلق إلى وليي فأتني به فإني قد بلوته في السراء والضراء فوجدته حيث أحب ـ إلى أن قال ـ فيبعث الله ملكين أبصارهما كالبرق الخاطف وأصواتهما كالرعد القاصف يطيان في أشعارهما بين منكبي كل واحد منهما مسيرة كذا وكذا قد نزعت منهما الرحمة والرأفة يقال لهما منكر ونكير مع كل واحد منهما مطرقة لو أجتمع عليها ربيعة ومضر لم ينقلوها ....... فيقولان له: من كنت تعبد ومن ربك ومن نبيك )). قالوا يا رسول الله: ومن يطيق الكلام عند ذلك وأنت تصف من الملكين ما تصف؟ فقال رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (({يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين} فيقول المؤمن: كنت أعبد الله.. ) الخبر. إلى قوله: ((فينظر فوقه فإذا باب مفتوح من الجنة فيقولان له هذا منزلك يا ولي الله)). قال صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((فوالذي نفسي بيده أن يصل إلى فرحة لا تزيد أبداً)). ثم قال: ((ويقول الله عز وجل لملك الموت أنطلق إلى عدوي فأتني به فإني قد بسطت له رزقي وسربلت له نعمتي فلأنتقمن منه)). الخبر إلى قوله: ((ويبعث الله ملكين على تلك الصفة فيقولان له يا عدو الله ما كنت تعبد وما دينك ومن نبيك فيقول لا أدري فيقولان له يا عدو الله لا دريت ولا تليت ويضربانه ضربة تتطاير شرراً في قبره)). إلى آخر الخبر وغير هذا مما روي في معناه فإذا كان قد ورد الخبر بذلك ولا مانع عنه عملاً وجب قبوله ولا يقطع به إذ الخبر أحادي فلا يثمر لقطع لكن يثمر الظن ويصير محوراً رجحاً وفيه إشكال على النظر من حيث ذكره عظم جسم كل واحد من الملكين على ذلك الوجه
المفرط في العظم وكيف يتصور دخول من لك صفته في اللحد وإقعاد الميت فيه.
وإن قيل: بأنه يوسع.
ففيه إشكالات أخر، ولكن نؤمن بالله وما جاء به رسوله وبكل ما..... إلى علمه فهو يعلم ما لا نعلم وقدرته الواسعة وحكمته البالغة.
قوله: (ويشاهدهما على صورة حسنة).
هذا مقتضى القياس وربما أنه ورد في بعض الأحاديث وإلا فظاهر هذا الخبر الذي نقلناه خلاف ذلك وهو أن الصورة واحدة ولا مانع منه فإنه يمكن ألا يحدث روعة مع المؤمن بعاصم من عند الله ويكون في علم المكلفين بذلك لطف وأعتبار.
قوله: (إنما تكون التسمية ذماً بالقصد إلى ذلك).
يعني والأعلام لا يقصد بها أصلها ولا تفيد ما تفيده.
قيل: التسمية بها من مدح أو ذم وقد ورد السمع بذلك ولا مانع منه.
قوله: (والغرض بهذه التسمية.. ) إلخ.
هذا وجه آخر درجة في الأول وحاصله أنا لو علمنا أن الأعلام تفيد ما تفيده قبل التسمية بها فلا معنى لمنكر ونكير، قبل العلمية إلا أنهما غير معروفين وليس بذم وقد أجيب بأن الملكين الداخلين على أهل الجنة يسميان مبشراً وبشيراً.
الفائدة الثالثة: في كيفيته وهي أنه لا بد أن يحيى الميت إذ لا يصح تعذيب الجماد ولا بد في المعذب أن يكون عاقلاً ليعلم أستحقاقه لما أوصل إليه وإلا أعتقد أنه مظلوم ومع ثبوت عقله فإنه يعلم ضرورة الصانع وتوحيده وعدله ولا يصح منه حينئذ أعتقاد جهل بأنه مظلوم لأن معارف أهل الآخرة ضرورية وقد صار في أول أحوال الآخرة وزال التكليف وقد ذهب قوم إلى أنه يعذب ميتاً وهي جهالة فإن الميت لا يدرك العذاب لزوال حياته فالقول بأنه يعذب وهو ميت يؤول إلى القول بأنه لا يعذب.
قيل: ولعل هؤلاء لا يعنون أنه تعذب روحه دون جسده ولا مانع من ذلك على ما هو الصحيح من القول فإن الروح ....... فبقي ........ يصح أنفصالها وهي التي لا يكون الحي حياً إلا بها.
قلت: ولعلهم يحتجون على ما ذهبوا إليه بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم في الميت أنه يسمع خفق النعال. فظاهره أنه يسمع وهو ميت لكن ذلك لا يتأتى لهم فإن إدراك غير الحي معلوم بضرورة العقل أنه ...... والخبر متأول إما بأن المراد من كان ميتاً لا في تلك الحال أو من يظنونه ميتاً.
وقيل: إن ذلك على سبيل التخييل كأنه يسمع.
الفائدة الرابعة: في وقته.
واعلم أنه لا يجب العلم بتفاصيل عذاب القبر في وقته وكيفيته ولا البحث عن ذلك ولا وجد ما يدل عليه وإنما قامت الأدلة على وقوعه جملة فيعتقد كذلك ومن ثم ذهب الشيخان والمحققون إلى أنه أنقطع بوقته هل هو عقيب الموت أو بين النفختين اللتين قدمنا ذكرهما أو قبلهما وهل هو طويل ممتداً أو قصير منقطع بل توقف في أمره على ما ورد فإن ورد في شيء من ذلك أخبار ولو أحادية وجب قبولها وصار مظنوناً.
قلت: هكذا ذكر أصحابنا وفيه نظر لأن قبول الأخبار الأحادية في الأمور العلمية التي لا يتوقف عليها عمل لا يخلو عن إشكال فليتأمل، وقد ورد في الأحاديث النبوية وكلام أمير المؤمنين عليه السلام ما يدل على أن ذلك عقيب الدفن وهكذا نقل عن قاضي القضاة.
قيل: وقد تواتر النقل بمشاهدة النيران في القبور وسماع الصياح والأنين منها وهو معلوم ضرورة لكن لا يقطع بذلك على أن المعذب والذي يصيح هو ذلك الميت المودع ذلك القبر بل الأمر محتمل وإن كان الأغلب أنه هو وكذلك قد شوهد بعض الموتى قبل دفنه ظاهرة فيه آثار العذاب وتغير جسمه، ومما يدل على ذلك ما أثر عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن القبر يكلم الميت عند وضعه فيه إما بلسان الحال أو المقال يقول حين يوضع في القبر: ((ويحك ألم تعلم أني بيت الفتنه وبيت الوحدة وبيت الوحشه وبيت الظلمة فما غرك بي)). وروي عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: أن العبد الصالح إذا وضع في قبره أحتوشته أعماله الصالحة فتأتي ملائكة العذاب فتقول أعماله الصالحة إليكم عنه لا سبيل لكم إليه ثم يقال: ...... طيبب حياً ومياً ويفتح له في قبره مد بصره ويؤتى بقنديل من الجنة فيستضيء بنوره إلى يوم بعثه، وفي الأثر أيضاً أن المستحق للعقاب إذا وضع في قبره أتاه آتٍ قبيح الوجه منتن الريح، فيقول له: أبشر بسخط الله والعذاب الأليم. فيقول له الميت: من أنت؟ فيقول له: أنا عملك الخبيث والله إن كنت لسريعاً إلى معصية الله بطيئاً عن طاعته فجزاك الله شراً ثم يقبض له أصم أعمى أبكم مع مرزية من حديد لو أجتمع عليها الثقلان ما أستطاعوا نقلها فيضربه بها ضربة يصير تراباً ثم يفرش له لوحان من نار ويفتح له باب إلى النار يأتيه ن حرها وسمومها إلى أن يبعث وورد أيضاً أنه لا بد لكل ميت من ضغطة القبر يضغط مستحق العقوبة ضغطة يدخل منها جانبه الأيمن في الجانب الأيسر والأيسر في الأيمن، وعنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال في أبنته زينب: ((لقد ضعطها القبر ضغطة سمعها من بين الخافقين غير الجن والأنس)).
قيل: والمراد بما يصيب المؤمن من ذلك وقوعه بغير ألم ولا غم.
وقال أبو الهذيل، والنظام، وبشر بن المعتمر: وهو مقتضى كلام السيد في شرح الأصول، أنه بين النفختين وأحتجوا على ذلك بقوله: {ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون}. والبرزخ الأمر الهائل.
ووجه الأحتجاج: قوله بعد ذلك: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يؤمئذ ولا يتسألون}. ففيه غشارة إلى أن النفخة الثانية التي يحيى بها الأموات واقعة عقيب البرزخ لمجيء الفاء في قوله: {فإذا نفخ في الصور}. والفاء للتعقيب. فدل على أن تلك النفخة عقيب البرزخ والبرزخ في اللغة الأمر الهائل العظيم ولا يستعظم بعد الموت إلا التعذيب أو التنعيم فيلزم كون ذلك بين النفختين إذ لا قائل بأستمراره من وقت الموت إلى يوم القيامة وإنما المسألة مرة واحدة.
قيل: وهذا واضح اللزوم لو كانت الآية وآردة على هذه الكيفية لكنها ليست كذلك بل أخبر سبحانه أن الذي يحضره الموت يتمنى أن يزاد في عمره وينفس في أجله لعله يعمل صالحاً فأخبر سبحانه أنه لا يجاب إلى ما طلب وإن بينه وبين مطلوبه برزخاً أي أمراً عظيماً هائلاً يمنع عن ذلك وهو ذوقه شكرة الموت ومنعه من العود إلى مثل الحال التي كان عليها قبل الموت إلى يوم يبعثون.
وقال جار الله في تفسير قوله: {ومن ورائهم برزخ}. الضمير للجماعة أي أمامهم حائل بينهم وبين الرجعة إلى يوم البعث، وليس المعنى أنهم يرجعون يوم البعث وإنما هو أقناط كلي لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلا إلى الآخرة.
الفائدة الخامسة: في ذكر فائدة عذاب القبر والإخبار به.
فالغرض في ذلك ما يتعجل للمؤمن من الثواب والمسرة وما يتعجل للعصاة من العذاب وفائدة العلم بذلك في الدنيا ما يحصل به من الدعاء إلى الطاعة والصرف عن المعصية وفيما يشاهد من العذاب ونحوه لطف للملائكة فيما كلفوه.
الفائدة السادسة: في شبه المخالفين: ولهم شبه ثلاث:ـ
الأولى: أن الإنسان إذا أحرق صصار رماداً ففرقته الريح في كل جهة أو فرسته السباع أو أختطفته الطير وتفرقت أجزاؤه كيف يصح تعذيب من هذا حاله.
والجواب: إن إعادة البنية وتعذيبه بعد ذلك ممكن وليس يشترط أن أن تكون البشارة والعذاب في حفرة هي قبر ولا مانع من أن يجمع الله الأعظاء من بطون السباع ونحوها أو يجمع الأجزاء الأصلية من كل حي ويحييها ويبشرها أو يعذبها فكل ذلك مقدور.
قال الإمام يحيى: أو يقول أنه تعالى يعذب أرواح الذين أفترستهم السباع وتفرقت أجزاؤهم إن كانوا من المعذبين كما أنه يثيب أرواح الشهداء فيجعلها في أجواف طير خضر وكل ذلك داخل في الإمكان.
الشبهة الثانية: قالوا لو صح عذاب القبر لوجب ان يسمع أنين المعذبين فيه وصياحهم ولوجب إذا فتح على أحدهم قبره أن يوجد جسده وعظامه محرقة بالنار أو على صفة من صفات العذاب ومن المعلوم أنها قد فتحت قبور أقوام يستحقون العقوبة فلم يوجد في أجسامهم شيء من ذلك.
والجواب: أنا لسنا نقطع بوقوع العذاب عاجلاً فقد جوزنا كونه بين النفختين على ما ذكره كثير من العلماء ثم أنه لا مانع أن يعذبوا في أوقات ولا يطلع على ذلك لحكمة يعلمها الله ولا مانع أيضاً أن يعذبوا حال الأطلاع عليهم ويكون عذابهم باطن أجسادهم فلا يطلع عليها ثم إن ذلك قد شوهد في بعض الموتى قبل الدفن وبعده وإن كان نادراً.
الشبهة الثالثة: من السمع تمسكوا بآيتين:ـ
الأولى منهما: {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى}. ولو أحيوا في القبر لذاقوا موتتين.
الآية الثانية: قوله تعالى: {وما أنت بمسمع من في القبور}. فدلت على أنهم ليسوا بأحياء.
والجواب: أما الأولى فإن الله تعالى وصف نعيم أهل الجنة وأنه لا ينقطع بالموت كما ينقطع نعيم الدنيا فيجب أن يكون معنى الآية لا ينقطع نعيمهم ولا يتنغص عيشهم كما كان في الدنيا.
قال جار الله: فإن قلت: كيف أستثنيت الموتة الأولى المذوقة قبل دخول الجنة من الموت المنفي ذوقه.
قلت: أريد أن يقال لا يذوقون فيها الموت البتة فوضع قوله إلا الموتة موضع ذلك لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل فهو من باب التعليق بالمحال كأنه قيل لما كانت الموتة يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها، وأما الآية الثانية فالغرض من سياقها تشبيه الكفرة في عدم الأصغاء والقبول للحق بحال الموتى ونحن نعترف بأن الذين في القبور لا يسمعون حال كونهم موتى فبطل ما ذكروه، ويلحق بما تقدم فائدة وهي: أنه قد جرى فيما حكيناه من الآثار ما يقضي بوجود الجنة والنار وهي مسألة خلاف بين علمائنا رحمهم الله تعالى. ذهب أبو علي وأبو الحسين إلى أنهما مخلوقتان موجودتان. وذهب أبو هاشم وقاضي القضاة إلى أنهما غير مخلوقتين.
قال الإمام يحيى عليه السلام: والمختار هو الأول والمعتمد فيه ثلاث آيات:ـ
الأولى: قوله تعالى: {سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين}. وقال في النار: {التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين}. ولا شك أن الاعداد صريح في ثبوت الشيء وتحققه ووجوده لأن ما كان معدوماً لا يقال أنه معد.
الآية الثانية: {ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنهى عندها جنة المأوى}. ليست إلا ذار الثواب بإجماع الأمة فصح أنها في السماء وأنها موجودة مخلوقة.
الآية الثالثة: ما ينطوي على ذكر نصه آدم وحوى وإسكانهما الجنة وإخراجهما عنها وهي مكررة في عدة مواضع وفي ذلك نص صريح على خلقهما ولا يجوز حمل ذلك على بعض....... الدنيا لإجماع الأمة مثل أبي هاشم على أن التي أهبط الله منها آدم هي الجنة التي سيعود إليها يوم الجزاء وإنكار ذلك يجري مجرى القول بأن الذي عصى ما كان أباً للبشر وإنما كان رجلاً آخر يسمى آدم لأن الجنة في عرف المسلمين أسم دار الثواب فصرفها عنها غير جائز وقد أعترض هذا الأستدلال بأن ما ذكر لا يفيد القطع إذ قد يعبر عن المستقبل بالماضي كقوله تعالى: {وسيق الذين كفروا} إلى قوله: {وسيق الذين أتقوا إلى ربهم}. {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار}. {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة}. {ونادى أصحاب الأعراف}. ونحو ذلك مما يطول تعداده مما ورد بلفظ الماي المفيد للوقوع والحصول والمراد به المستقبل وكذلك ما يروى عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه رأى في الجنة كذا معناه إذا كان في الآخرة رأى ذلك هكذا قيل. وقد تؤولت الآيات أيضاً على ما سبقت الإشارة إليه وإلى الجواب عنه وهو أن المراد جنة الدنيا وهي جنة آدم عليه السلام.
قال أبو هاشم لا يمتنع أن تكون في السماء حياتاً شتاً سوى جنة الخلد نحو الجنة التي كان فيها آدم ويكون فيها كثير من الملائكة والأنبياء الأن قيل والحق في هذه المسألة ما ذهب غليه أبو القاسم من التجويز لأن أدلة القاطع بخلقهما مبنية على أن نحو قوله تعالى: {أعدت}. مقطوع به.
قال الإمام يحيى وللمنكرين لخلقهما شبهتان:ـ
الأولى: أنه لا فائدة في خلقهما، وما لا فائدة فيه وجب تركه فيجب ألا يكونا مخلوقتين.
والجواب: أن في خلقهما لطفاً للمكلفين وترغيباً لهم فإن علمهم بخلقهما وما أعد فيهما من نعيم مقيم وعذاب أليم يكونون معه أقرب إلى الطاعة وأدخل فيها وفي الأنكفاف عن المعصية.
قال عليه السلام: أو يقول في خلقهما مصلحة استأثر الله بعلمها.
الشبهة الثانية: قالوا: قد ثبت أن كل شيء هالك فلو كانت الجنة مخلوقة لوجب أن تكون مما يهلك بالفناء ولا يجوز ذلك فيها لقوله تعالى: {أكلها دائم}. والدائم ما لا يزول ولا يتغير.
قلت: وهذه الحجة متمسك أبي هاشم لأنه لا يمنع من خلقهما إلا سمعاً وغيره ممن ذهب مذهبه منع من ذلك عقلاً وسمعاً ومتمسكه من جهة العقل ما تقدم.
وأجاب الإمام يحيى بوجهين:ـ
أحدهما: أنا لا نسلم دخول الجنة في الهلاك ولا أندراجها تحت قوله: {كل شيء هالك إلا وجهه}. وإذا قام الدليل على خلقها ومنع دليل آخر عن هلاكها وجب إخراجها من العموم وتخصيصها منه وتخصيص العموم جائز.
الوجه الثاني: أن الدائم هو الذي لا يفنى ولا يتغير ومعلوم أن مأكولات أهل الجنة تفنى وتعدم عند أكلهم لها فإذن هي غير دائمة فلا بد من حمل الآية على غير ظاهرها وتأويلها، فنقول: بأن الجنة مما تفنى وتهلك ونتأول الآية بأن معنى كونها دائمة أن الله تعالى يحدث أمثالها عقيب عدمها فالدوام بهذا التفسير لا ينافي تغيرها وزوالها.
فصل:
قوله: (وأما الميزان شرع المصنف في ذكر شيء من أحوال القيامة وأهوالها وبدأ بذكر الميزان وأهمل ذكر ما قبله وقد ذكرنا فيما مضى أول أحوال القيامة وأهوالها وهو النفخة الثانية وقيام الناس من قبورهم فزعين مروعين فتلك أول حالة.
والحالة الثانية: المساق إلى أرض المحشر لجميع الخلائق الملائكة والأنس والجن والشياطين والوحوش والطير وسائر الأحياء فإنهم يساقون إلى أرض المحشر أرض بيضاء وقاع صفصف ليس فيها ربوة عالية ولا وهدة منخفضة بل صعيد واحد بسيط لا تفاوت فيه وورد أن الناس يحشرون أصنافاً ركباناً ومشاة على أرجلهم ومشاة على وجوههم، فقيل له صلى اللّه عليه وآله وسلم: كيف يستطيعون المشي على وجوههم ـ إنكاراً من السائل لما لم يعتاد ـ فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((الذي أقدرهم أن يمشوا على أرجلهم يقدرهم أن يمشوا على وجوههم)). ومن أحوال ذلك اليوم وأهواله طوله وقد قال تعالى: {كان مقداره خمسين ألف سنة}. وورد أنه كذلك وأن المكلفين يقفون فيه خمسين موقفاً كل موقف ألف سنة ومن أحواله وأهواله أنه لا شمس فيه ولا قمر ولا نجوم وأن السماء تنشق وهي غليظة غلظها مسيرة خمسمائة سنة ثم تسيل كالفضة المذابة ويخالطها حمرة كما قال تعالى: {فإذا أنشقت السماء فكانت وردة كالدهان أي حمراء كالدهن اللزيت والملائكة في حافاتها وعلى أرجائها والجبال تصير فيه كالعهن المنفوش وهو الصوف ويشتبك الخلائق بعضهم ببعض، ورد أنهم يحشرون كل صنف كالحلقة ...... بها الصنف الآخر ثم كذلك حتى يكمل جميع أجناس الحيوانات ثم تبدو الشمس بعد أزدحام الخلائق في المحشر وقد تضاعف حرها وتدنوا من رؤوس الخلائق حتى تصير قاب قوسين، ولا يبقى ظل إلا ظل العرض ولا يستظل به إلا المقربون المتقون فيزدحم الخلائق ويشتد عليهم وهج الشمس وحر الأنفاس ويفيض عرق كل حي من كل حر من بدنه ومن تحت كل شعرة من شعره، فمنهم من يبلغ عرقه عقبيه، ومنهم من يبلغ نصف ساقيه، ومنهم من يبلغ خاصريه، ومنهم من يبلغ فاه، وغيره ذلك.
قيل: تقف الخلائق شاخصة أبصارهم، منفطرة قلوبهم لا يتكلمون ولا يكلمون ولا ينظر في أمرهم ثلاثمائة عام، وعنه صلى اللّه عليه وآله وسلم، أنه قال بعد وصفه ليوم القيامة وهوله وطوله: ((والذي نفسي بيده أنه لحقيق على المؤمن حتى يكون أيسر عليه من تأدية مكتوبه)).
قلت: ولا يستبعد ما أنطوت عليه هذه الأخبار فهذا كتاب الله المتلو الذي لا ريب فيه يقول الله سبحانه فيه: {يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد}. ثم نعود إلى تتبع ما يفتقر إلى بيان أو التذييل من كلام المصنف فيما أورده من ذكر بعض أحوال يوم القيامة.
قوله: (فقد أثبته الجمهور على الحقيقة).
أي أثبتوه على حقيقته وظاهره، وأنه ميزان ذو كفتين ولسان ينصب في المحشر يوم القيامة فتوضع الحسنات في كفة والسيئات في أخرى فإذا رجحت كفة الحسنات علم أن الموزون عمله من أهل الخير وإن رجحت كفة السيئات علم أنه من أهل الشر وإن تساويا عند من تحيز استواء الثواب والعقاب علم أنه ليس من هؤلاء ولا من هؤلاء.
قيل: وهو ميزان.
وقيل: بل موازين متعددة، وهو ظاهر الآية الكريمة.
قوله: (فليس على الحقيقة).
قد حمله بعضهم على حقيقته وهو باطل لما ذكره.
وقوله: (ومما لا تجوز عليه الأعادة هو لما تقدم من أن مقدورات العدد لا تصح إعادتها من القادر عليها لما ذكر هنا ولا يصح إعادتها من القادر للذات لتأديته إلى مقدور بين قادرين.
قوله: (ويجوز أن يجعل الله في إحدى الكفتين نوراً علامة للطاعة وفي الأخرى ظلمة علامة للمعصية.
قال أبو هاشم: فإن قيل: النور والظلمة أجزاء حقيقه لا نقل فيها فكيف يصح وزنها.
أجبت: بأنه يجوز أن يخلق الله فيها نقلاً بقدر ما جعلت علامة له من الثواب والعقاب.
وقد قال بعضهم: بوضع الشخص في كفة وعمله في كفة وهو غير منصور ولا مقابله بينه وبين عمله إنما المقابلة بين العملين.
قوله: (ويجوز أن تكون الأعمال مكتوبة في صحائف.. ) إلى آخره.
هذا الوجه أرجح وأظهر وقد ورد من الأخبار ما يقضي به فإنه روي عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((يؤتى يوم القيامة لابن آدم بسبعين سجلاً كل سجل منها مد البصر مكتوب فيها ذنوبه ثم يؤتى بقرطاس يوازي قدر الأنملة فيها شهادة ألا إله إلا الله فترجح بتلك السبعين)).
قيل: وهو محمول على أن تلك الذنوب صغائر أو أنضمت التوبة عنها إلى الشهادة.
قوله: (وفائدة ذلك تعجيل المسرة.. ) إلخ.
هو كلام جيد لا غبار عليه وهو إشارة إلى رد حجة المنكرين للميزان الحقيقي فإنهم أحتجوا بأنه لا فائدة فيه.
قوله: (ويكون في العلم به لطفاً للمكلفين).
هكذا في المتن فيه خلل من جهة العربية ولعله من سهو العلم وتحقيق اللطيفة أن المكلف إذا علم ذلك عرف الأهتمام بحاله وأنه غير معقول عن محاسبته بنصب الميزان الذي هو الغاية القصوى في تحقيق الحساب والزيادة والنقصان فيكون أقرب إلى التحفظ فيما كلفه خوفاً من هتك الأستار والفضيحة على أعين الأشهاد.
قوله: (وقد ذهب بعض الشيوخ إلى أن المراد بالميزان في الآخرة العدل).
أرادوا العدل في تحقيق الحساب السوي وإن الجزاء على حساب العمل وأنه لا يعقل عن صغيرة الأعمال وكثيرها من غير أن يظلم العباد مثقال ذرة وهذا القول منسوب إلى مجاهد التابعي الكبير و.......... والضحاك وهو قول المطرفيه وقد عزي إلى الهادي عليه السلام.
قوله: (ولا موجب للعدول عن الظاهر).
يعني: لكون ذلك ممكناً ولا مانع عنه من جهة القدرة ولا من جهة الحكمة.
قوله: (لما كان لذكر النفل معنى أما لو كان للعدول عن الظاهر موجب فذكر النفل لا يمنع من ذلك ويكون من قبيل ترشيح الإستعارة وهو من أنواع البلاغة.
فائدة: ورد أن صاحب الميزان يوم القيامة والقائم عليه هو جبريل عليه السلام.
فصل:
قوله: (وأما الحساب ونشر الصحف وإنطاق الجوارح فما لا يمكن إنكاره).
يعني: لما ورد من القرآن فيها كقوله تعالى: {فسوف يحاسب حساباً يسيراً}. وقوله: {وإذا الصحف نشرت}. وقوله: {شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون}. وغير ذلك من الآيات القرآنية والأخبار النبوية الواسعة.
قوله: (وصورة الحساب.. ) إلى آخره.
قال السيد صاحب شرح الأصول غير أن محاسبة الله أيَّانا لا تجري على حد ما تجري المحاسبة بين الشريكين أو المتعاملين فإن ذلك يكون بخلق العلم الضروري في قلته أنه يستحق من الثواب كذا ومن العقوبة كذا.
قيل: وفيه يعدلان الحساب لم يوضع لمثل ذلك لغة ولا شرعاً، وقد جوز أن تكون المحاسبة بكلام يخلقه الله سبحانه فيه بيان ماله وما عليه، وأن يعهد الله تعالى إلى بعض الملائكة أن يحاسب المكلف على كل تقدير فأقرب الأحوال في كيفيتها أن يعرف بحسناته وسيئاته ويحصى ذلك عليه ويعرف بمقدار ثواب الحسنات ومقدار عقاب السيئات وسقوط ما يسقط من الأكثر في مقابلة الأقل وبقاء ما يزيد على ذلك.
قوله: (وليس على حد المحاسبة في الشاهد).
يعني: كما يجري بين الشريكين والمتعاملين فإن ذلك يكون بعقد الأصابع وما يجري مجراه ولو كان كذلك لم ...... محاسبة هذه الخلائق الواسعة بسرعة ولا يمكن إلا بمده مديدة وزمان طويل.
قوله: (وأما إنطاق الجوارح.. ) إلى آخره.
أختصر المصنف الكلام في ذلك وللعلماء في حقيقته وكيفيته أختلاف وخبط وأما إنكاره بالكلية فلا قائل به فالقرآن مصرح به في عدة آيات، كقوله تعالى: {شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم}. وقوله تعالى: {وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم}. وقال تعالى: {تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم}.
قيل: المراد أن الأسماع تشهد بما سمعت والأبصار بما أبصرت والجلود بما لامست من الحرام وما أشبه ذلك مما يفضي إليها من المحرمات.
وقيل: المراد بالجلود الجوارح.
وقيل: هي كناية عن الفروج.
قوله: (فهو بأن يخلق الله فيها الكلام).
هذا هو الوجه المعتمد عليه عند أهل التحقيق وهو أقرب الوجوه وأخلاها عن الإشكال والأستبعاد، ويكون المتكلم وفاعل الكلام هو الله سبحانه ونسبة الكلام والشهادة إلى الجوارح حينئذ من قبيل المجاز الأسنادي.
قال جار الله: فإن قلت: كيف تشهد عليهم أعضاؤهم وكيف تنطق.
قلت: الله عز وجل ينطقها كما أنطق الشجرة بأن يخلق فيها كلاماً.
قوله: (أو بأن يبنيها بنية يصح منها الكلام ولا يقف على أجتيازه).
أي يصح منها الكلام لأجل تلك البنية وظاهره أنه أراد ببنيها بنية كبنية اللسان واللهوات التي تصلح آلة للكلام وهذا لا يستقيم على ظاهره لأن المتكلم إن كان صاحبها فهو يتكلم من لسانه ولا حاجة إلى ذلك ويكون حينئذ شاهداً لا مشهوداً عليه فلا يصح ذلك وقد منع عنه بقوله: ولا يقف على أجتيازه وإن كان المحدث للكلام الله سبحانه فذلك مما لا يقف على تلك البنية لأن الله سبحانه يصح منه إيجاد الكلام في كل محل كما يوجده في الحصى والشجر وإنما يتوقف على تلك البنية كلام القادر بقدرة فالأولى أن يكون المقصود من هذا الوجه وحاصله أن يجعل كل عضو من الأعضاء حياً بإنفراده متكلماً له آلة الكلام المبنية تلك البنية المخصوصة، وهكذا ذكر السيد في شرح الأصول وصرح به وضعف الشيخ أبو هاشم هذا الوجه بأنه يلزم منه خروج الجوارح من أن تكون جوارحهم إذ قد صار كل عضو منها حياً قادراً على إنفراده إلا أن يراد أنها كانت جوارحهم وفيه خروج إلى المجاز ورجح الوجه الأول وقد نسب إلى الشيخ أبي هاشم وجه آخر ونسب أيضاً إلى الفقيه حميد وهو أن المراد أن يجعل تعالى في كل عضو آلة ويقع الكلام بها أو يضاف الكلام إلى الجارحة لخلو الكلام فيها كما يضاف إلى اللسان، وإن كان المتكلم في الحقيقة هو الجملة.
قلت: ولا يبعد أن يكون هذا الوجه هو مراد المصنف لكن فيه ما ذكرناه من الإشكال ويمنع من أن يكون مراداً له.
قوله: (ولا يقف الكلام على أجتيازه).
فإن هذا الوجه مبني على أنه هو المتكلم.
قيل: (ي) وكل هذه الوجوه ممكنة لا يستبعد شيء منها كما أستبعده أبو هاشم في ذلك الوجه وذكر الإمام المهدي وجهاً رابعاً وهو أن يكون المراد أن الجوارح تتكلم بلسان الحال لا بلسان المقال، على معنى أن الحال يقتضي أن لو كان لتلك الجوارح لسان وقدرة على الكلام لتكلمت وشهدت فهو كقوله تعالى: {قالتا أتينا طائعين}. والوجهان الأولان أرجح وأصح لأن فيهما أبقاء للفظ التكلم والنطق على حقيقته وإنما التجوز فيهما من جهة النسبة وفي هذا الوجه حمل اللفظ على مجازه وهو أبعد من المجاز العقلي فلا يعدل إلى ذلك مع عدم الموجب ولأنه لا معنى مع هذا الوجه لما حكاه الله من عتاب المعاتبين لجوارحهم إذا لم يكن منها نطق ولا يكون لذلك وجه يسوغه ولا قاعدة يبنى عليها.
وقال الشيخ أبو القاسم: لا يصح أن يكون ذلك الكلام إلا من فعل الله قطع بالوجه الأول وهو الراجح كما تقدم.
تنبيه:
ذكر المصنف صورة الحساب وصورة إنطاق الجوارح ولم يتعرض لصورة نشر الصحف، فأما الدليل عليه فهو ظاهر وقد أكتفى المصنف بظهور أدلة تلك الأمور كلها عن ذكرها وقد تكرر في القرآن ذكر...... الكتاب باليمين وبالشمال، ووراء الظهر وقال تعالى: {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون}. وقال تعالى: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً}. وصورة ذلك أن المرضي عنه يناول كتابه بيمينه وذلك عنوان الرضا والثواب والمغضوب عليه يناول كتابه بشماله وذلك عنوان الغضب والعقاب نعوذ بالله منهما وفي بعض الآثار أن الذي يناول بيساره يكون ذلك من وراء ظهره بأن يثني يساره إلى ظهره لما في ذلك من تعنيفه.
قيل (ي): وذكر بعض المفسرين أن يد العاصي تدخل في صدره حتى تخرج من ظهره ويناول كتابه كذلك ثم أنه لا فائدة لنشر الصحف إلا الدراية بما تضمنته، ويدل على أن صاحب الكتاب يقرأ ما فيه، قوله تعالى: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً}.
قيل (ي): وقراءته لذلك إن كان غير أمي على ظاهره وإن كان أمياً فبان يلهمه الله تعالى ما في الكتاب فيستطيع قراءته، وعن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((يقول الله للعبد اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً فيخرس لسانه، فيقول تعالى للعبد: اقرأ كتابك فتأخذه الرعدة. فيقول: يارب إن جهنم أحب إليَّ من قراءة كتابي. فيقول الله تعالى: أذهب إلى الجنة فقد غفرت لك)).
قيل (ي): ويحمل على أنه أستمر على المعاضي حتى حضره الموت فتاب.
وعن الحسن البصري: ليس ممن يموت إلا ودخل معه ملك في قبره ومعه صحيفة ودواة ويناوله صاحب القبر، ويقول: أكتب كل عمل عملته من خير أو شر فيكتب ثم يطوى الكتاب، فيضعه عند رأسه فإذا جاء يوم القيامة وخرج من قبره جاء ذلك الملك فيدفع إليه ذلك الكتاب ويقول: أتعرف هذا الكتاب؟
فيقول: نعم.
فيقول: اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً.
فصل:
قوله: (وأما الصراط فهو الطريق).
يعني: لغة وهو بالضاد والسين والزاي يقال صراط وسراط وزراط وشاهده قول الهذلي:ـ
أكر على الحروريين مهري وأحملهم على وضح الصراط.
هكذا في الصحاح.
وقال جار الله: الصراط الجادة من شرط الشيء إذا أبتلعه لأنه يشترط السائلة إذا أسلكوه كما سمي لقماً لأنه يلتقمهم، والصراط من قلب السين صاداً لأجل الطاء كقولك مضطر في مستطر وقد يسم الصاد صوت الزاي وقرىء بهن جميعاً وفصحاً هن أخلاص الصاد وهي لغة قريش، ويجمع على صرط........... ويذكَّر ويؤنث كالطريق والسبيل والكلام منه يقع في أربع فوائد:ـ
الفائدة الأولى: هل للمكلفين صراط أو صراطان الذي عليه جمهور المتكلمين أنه صراط واحد.
وقال بعضهم: بل صراطان وإليه أشار المصنف بقوله: قيل: (وهو طريقان.. ) إلى آخره. وهذا قول محمود بن الملاحمي.
قوله: (في أحد وجوهه).
يعني: وجوه تفسيره لأن منهم من فسره بأن المراد طريق الحق وهو ملة الإسلام، ذكره جار الله في الكشاف.
الفائدة الثانية: هل هي طريق يختار أو غير ذلك، جمهور العلماء أنه طريق يختار في الآخرة، وذكر قاضي القضاة عن كثير من المعتزلة أنه ليس بطريق يختار لكنه عبارة عن الأدلة الدالة على ما كلفناه في الدنيا من فعل أو ترك وهي التي من يمسك بها نجا ومن ينكب عنها هوى.
وقال السيد في شرح الأصول: يحكى ذلك عن عباد بن سليمان، وهو قول ضرار من المجبرة.
قيل (مهدي): وللهادي عليهم السلام في تفسير قوله: {أهدنا الصراط المستقيم}. يقضي بميل قول ضرار، والمسألة غير قطعية فلا يخطأ المخالف.
ودليل القول الأول وهو المختار أنه ظاهر القرآن فإن الصراط هو الطريق الحقيقي ويؤيده الخبر المشهور الوارد فيه من مسند أبي هريرة، وفي آخره ولجهنم جسر وهو الصراط أدق من الشعر وأحَدُّ من السيف عليه كلاليب وحسك والناس يمرون عليه منهم كالبرق والريح، ومنهم من أخذته الكلاليب والحسك والناس بين ناج مسلم ومخدوش مكبوب في النار على وجهه، وورد أيضاً عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((أن بجانبي الصراط ملائكة بأيديهم خطاطيف من حديد يجذبون بها العصاة فيوقعونهم في النار)). وورد أيضاً أن شعار الملائكة والرسل والمؤمنين: اللهم سلم اللهم سلم.
ثم من المؤمنين المجاوزين للصراط من هو كالبرق الخاطف، ومنهم من هو كالريح، ومنهم من يمر كالفرس، ومنهم من يسعى سعياً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يحبوا حبواً، ومنهم من يزحف زحفاً، فإذا خلص المؤمن وجاز الصراط وقد رأى تهافت الناس إلى النار وجذب الملائكة للعصاة إليها، قال: الحمد الله الذي نجاني من النار بعد إذ رأيتها.
الفائدة الثالثة: (مؤخر)........ الذي عليه جمهور المتكلمين أنه طريق متسعة لأهل الجنة ويضيق على أهل النار مع إمكان المشي فيها وينكرون ما ورد في الخبر المذكور من دقته وجدته ويقولون: إنما هو من كلام الحشوية فإن المكلفين يكلفون أجتيازه فمن أجتازه فمن أهل الجنة ومن لم يمكنه ذلك فهو من أهل النار إلى
(مقدم)........فيحكي السيد صاحب شرح الأصول عن الحشوية أنه أدق من الشعر وأحَدُّ من السيف.
قيل (ي): وبه قال بعض المتكلمين وأجاز ذلك ذلك الإمامان المنصور بالله والمؤيد بالله يحيى بن حمزة، وفي كلام للأمام يحيى القطع بذلك ....... السيد صاحب الشرح هذا القول: بأن تلك الدار ليست بدار تكليف حتى يصح إيلام المؤمن وتكليفه ما هذا سبيله في الحدة والدقة وأيضاً فالصراط الطريق وما ذكروه ليس من الطريق بسبيل، وأعترض الوجه الأول بأن مجيز ذلك يقول: لا يلحق المؤمن بإجتيازه ألم ولا غم بل يقدرة الله على المشيء فيه بتيسير كما في إقدار الأنبياء وأهل الكرامات على المشي في الهواء وعلى الماء وأما أهل النار فمستحقون لما نالهم بذلك من ألم وغم.
قال الإمام يحيى بعد ذكر الميزان والصراط: أعلم أن هذه الأمور ممكنة وظاهر الكتاب والسنة عليها فوجب الأعتراف بها ولا يقال العقل تخيل وزن الأعمال وتخيل المرور على الصراط وهو أدق من الشعر وأحَدُّ من السيف، لأنا نقول لم لا يجوز أن نقول الموزون هو الصحف ويستدل بتفاوتها على تفاوت الأعمال، وأما المرور على الصراط فلما لم يستحيل الطيران في الهواء والمشي على الماء لا يستحيل المرور على الصراط ومن نظر إلى كمال القدرة فلا يليق به أستبعاد هذه الأمور.
الفائدة الرابعة: في موضعه ذكر السيد صاحب الشرح وغيره من المتكلمين أنه طريق بين الجنة والنار، وذكر قاضي القضاة أنه طريق على باب النار فمن كان من أهل الجنة مر على باب النار إلى الجنة ومن كان من أهل النار عدل به إلى النار وأدخل من بابها، وحمل على هذا قوله: {وإن منكم إلا وآردها}. فجعل الورود المرور على بابها.
قوله: (وقيل: هو جسر على جهنم}.
هذا قول طائفة من المتكلمين وقال به الإمام يحيى بن حمزة وهو مروي عن ابن مسعود والحسن وقتادة والجسر بفتح الجيم وكسرها واحد الجسور التي يعبر عليها.
قوله: (إن كان الضمير عائداً إلى النار ظاهره أن فيه وجهاً آخر أنه يعود إلى غيرها ولم أقف على ذلك في شيء من التفاسير.
قال جار الله: إن أريد بقوله: {وإن منكم إلا وآردها}. جنس الناس فمعنى الورود دخولهم فيها وهي خامدة فيعبرها المؤمنون وينهار بغيرهم.
وعن جابر أنه سأل رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم عن ذلك؟ فقال: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض إليس وعدنا ربنا أن نرد النار؟ فيقال لهم قد وردتموها وهي خامدة)). وعنه رضي الله عنه أنه سئل عن هذه الآية فقال: سمعت رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: ((الورود الدخول لا يبقى نزولاً فاجر إلا دخلها فيكون على المؤمنين برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم عليه السلام حتى أن للنار ضجيجاً من بردها)).
وعن ابن مسعود والحسن وقتادة هو الجواز على الصراط لأن الصراط ممدود عليها.
وعن ابن عباس قد يرد الشيء الشيء ولا يدخله كقوله تعالى: {ولما ورد ماء مدين}. ووردت القافلة البلد وإن لم يدخله ولكن قريب منه.
وعن مجاهد: ورود المؤمن النار هو مس الحمى جسده في الدنيا لقوله عليه السلام: ((الحمى من فيح جهنم)). ويجوز أن يكون المراد جثوهم حولهان وإن أريد الكفار خاصة فالمعنى بين ويلحق بما تقدم ثلاث فوائد:ـ
الأولى: اعلم أن من أحوال القيامة لا من أهوالها الحوض وهو من نعيم الآخرة وهو المراد بقوله تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم: {إنا أعطيناك الكوثر}. في أحد تفسيراته ففي مسلم عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((أنه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل وأطيب ريحاً من المسك، أول الناس ورود أغلبه)). ففر المهاجرين من شرب منه لا يظمأ أبداً.
الفائدة الثانية: هل يلحق من يستحق الثواب منذ مات إلى أن يدخل الجنة شيء من الآلام والغموم لأهوال القبر والبعث والقيامة أولا، الذي عليه الجمهور أنه لا يلحقه شيء من ذلك فلا يتألم ولا يغتم.
قالوا: لأن الألم والغم لا يحسبان إلا لنفع وأعتبار أو لأستحقاق المؤمن لا يستحق ذلك والدار ليست بدار تكليف، وهذا الدليل عام في كل من لا يستحق عقاباً من الملائكة والأنبياء والأطفال والبهائم والصالحين من الجن ولا ينال هذا الدليل إنما يمنع من أن ينالهم غم من الله تعالى ولا يمنع من أن يغتموا من قبل أنفسهم لظنون فاسدة، وأوهام كاذبة يتفق لهم لشدة ما يشاهدوه وعظمه لأنه يجاب عن ذلك بأن العلوم كلها ضرورية في ذلك اليوم فلابد أن يعلم المؤمنون صدق ما وعدوا به والأمن من العذاب وأستحقاق نعيم الأبد علماً ضرورياً والعلوم لا تصاحبها الظنون والأوهام ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {لا يحزنهم الفزع الأكبر}. وذهب الشيخ أبو القاسم إلى تجويز الغم على المؤمنين وهو قول أبن الأخشيد لظواهر أحاديث وردت تقضي بذلك من ذلك أن النار تصيح صيحة شديدة يوم القيامة فلا يبقى ملك ولا نبي إلا جثا على ركبتيه من صيحتها. قال والآية لا تمنع من ذلك لأنه إنما منع فيها أن تجريهم لأكثر من الفزع.
ويجاب: بأن غيرها من الآيات غير مقتد بذلك كقوله تعالى: {وهم من فزع يومئذ آمنون ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
الفائدة الثالثة: ذهب الجمهور إلى أنه لا تكليف في الآخرة وبعد الموت.
وقال الشيخ أبو القاسم: إن أهل الآخرة مكلفون في الجنة والنار.
قيل (ي): ولا خلاف أن شكر نعمة الله واجب على أهل الآخرة وأنه يقبح منهم القبائح العقلية إلا أنهم غير مكلفين بذلك لما هم عليه من الألجاء ولعدم المشقة.
قلت: هذا كلام ركيك وكيف يحكى الأجماع على أن شكر النعم واجب عليهم ثم ينفي التكليف وهل التكليف إلا وجوب الواجب ونحوه، والظاهر من قول الجمهور أنه واجب عليهم لما ذكره من الأجاء وأرتفاع المشقة.
فصول:
في أن الله تعالى يفعل بالعصاة ما يستحقونه هي ثلاثة فصول:ـ
أولها: في أن وعيد الكفار مقطوع به.
وثانيها: في أن وعيد الفساق مقطوع به.
وثالثها: في شبه المخالفين في ذلك.
فلفظ العصاة قصد به الكفار والفساق ولا يدخل فيه أهل الصغائر وإن كانوا عصاة، وإن كان يفعل بهم ما يستحقونه من إسقاط بعض ثوابهم حسبما يقابل عقابها.
قوله: (وينبغي أن يتكلم في مقدمتين).
أما المقدمة الثانية فلا كلام في توجه تقديمها........ الفصول هذه عليها إذ أدلتنا فيها وأدلة المخالفين من قبيل العمومات، وأما المقدمة الأولى فالأحتياج إليها هنا وذكرها مقدمة لهذه الفصول غير واضح الوجه، وكان ذكرها في فصول الأحباط والتكفير أليق كما ذكر صاحب شرح الأصول بعد أن أتى بالكلام على الصغيرة والكبيرة عقيب الأحباط والتكفير، قال: لأنها إذا قلنا إن ما يستحق المرء على الكبيرة من العقاب يحبط ثواب طاعاته وما يستحقه على الصغيرة يصير مكفراً في جنب ماله من الثواب لم يكن بد من بيان معنى الصغيرة والكبيرة ولعل المصنف لمح إلى أن الفاسق هو فاعل الكبيرة لا الصغيرة وأعظم مسائل هذه الفصول ذكر أتصال عقاب الفاسق إليه وأنه غير معفو عنه فأراد أن يقدم ذكر الكبيرة والصغيرة ليتميز الفاسق عن غيره من العصاة ولأنه لابد أن يذكر في أثناء الكلام في هذه الفصول أن التائب وصاحب الصغيرة مستثيبان من تلك العمومات فأتضح الوجه وقد أشتملت هذه المقدمة على فوائد:ـ
الأولى: في ذكر حقيقتها وهي كما ذكر المصنف وهي حقيقة جيدة سليمة عن الأعتراض مبنية على ما بنى عليه المتأخرون من المتكلمين من عدم أثبات الكبيرة والصغيرة المقدورتين فأما المتقدمون فيجعلون كلاً منما قسمين محققة وهي ما كانت على ما ذكر ومقدرة فالكبيرة المقدرة ما صدرت ممن له ثواب عظيم كثير فزاد على عقابها وصار عقابها مكفراً في جنبه ولو قدر أنها صدرت ممن لا يستحق مثل ذلك الثواب كان عقابها أكبر فهي كبيرة مقدرة وصغيرة محققة والصغيرة المقدرة نحو ما يرد من الفساق مما هو صغير في حق غيرهم فإنها حال صدورها منهم ليست بصغيرة محققة إذ لا ثواب لفاعلها يزيد على عقابها لكنها صغيرة مقدرة لأن فاعلها لو لم يكن فاسقاً وصاحب كبيرة لكان له من الثواب ما يزيد على عقابها فهي في حقه صغيرة مقدرة وكبيرة محققة وعلى قاعدة المتقدمين يزاد في الحد تحقيقاً أو تقديراً كما فعل السيد صاحب شرح الأصول.
قوله: (ولا عبرة بما أجتمع له في الأوقات الماضية).
يعني: فلا يقال أن ثواب تلك الطاعة أكثر أعتباراً به لأن العبرة بأصل ما يستحق في كل وقت ولهذا قال بعضهم في تحقيقهما: الكبيرة المعصية التي يزيد عقاب صاحبها المستحق على أصل أقترافها على ثواب صاحبها المستحق على أصل طاعته والصغيرة المعصية التي عقابها الأصلي أقل من ثواب صاحبها الأصلي.
الفائدة الثانية: أن في المعاصي كبائر وصغائر وإليها أشار المصنف بقوله: (وقد ورد السمع بأن في المعاصي صغائر وكبائر). وقد ذهب المعتزلة إلى أن جميع ذنوب الأنبياء وكل معصوم صغائر وإن جميع ذنوب الفساق كبائر إذ لا ثواب لهم يزيد على عقابها نظراً إلى أن المعتبر التحقيق لا التقدير وأما سائر المكلفين فما علمناه كبيرة من معاصيهم فلا كلام فيه وسائر معاصيهم يجوز أنها كبائر وأنها صغائر لأن ذلك بحسب قلة الثواب وكثرته ولا يعلم ذلك فالمعاصي عندهم منقسمة إلى صغير وكبير وهو قول جمهور الزيدية ولا فرق في ذلك بين العمد والخطأ وأختلفوا هل يعلم عقلاً إن صح فيها صغائر أو لا يعلم إلا بالسمع.
فقال أبو هاشم: يعلم عقلاً إن في الذنوب الصادرة من سائر المكلفين ما هو صغير بمعنى أنا نقطع بأن في ذنوبهم ما ينقص عقابه عن ثواب بعض الطاعات بحيث لو جمع المكلف بين تلك الطاعات وبينه لكان صغيراً ساقطاً في جنبها.
وقال أبو علي والقاضي: لا يقطع بذلك من جهة العقل وإنما يجوز فقط إذ ما من ذنب يشار إليه إلا ويحتمل كونه كبيراً.
قال أبو علي: فإن أقل قليل من الطاعات لا يستحق عليه الأجر واحد من الثواب، وأقل قليل من المعاصي يستحق عليه جزآن لأن موقع الطاعة في حق الله المنعم بأصول النعم وفروعها ليس كموقع معصيته والجرأة عليه والتوصل بنعمته إلى عصيانه وأتفقوا على أنا نقطع سمعاً بأن فيها صغائر كقوله تعالى: {لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها}. وكل صغير وكبير مسيطر {أن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيأتكم}. {وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان}. وظاهر العطف المغايرة فهو قسم ثالث كما ذكره المصنف وليس إلا الصغائر، وقال تعالى: {الذين يجتنبون كبائر الأثم والفواحش إلا اللمم}. والمراد باللمم ما قل وصغر من المعاصي والأستثناء على هذا منقطع وهذا التفسير مروي عن ابن مسعود وأبي هريرة والشعبي وغيرهم، ومنهم من ذكر أن اللمم النظرة والقبلة وما كان دون الزنا، ومنهم من قال: هو الخطرة بالبال يريد إذا هم بمعصية ولم يعزم عليها.
وقيل: اللمم أن يفعل كبيرة ثم يتوب عنها بسرعة ولا يعود وهو قول الحسن والسدي والزجاج والأستثناء متصل على هذا وذهبت الخوارج إلى أن كل معصية كبيرة. ومنهم من قال: بذلك إلا في معاصي الأنبياء وهو باطل بما تقدم، وذهبت البغدادية إلى أن كل عمد من المعاصي كبيرة وهو المروي عن الناصر عليه السلام بمذهب هؤلاء أنه لا صغير إلا ما صدر عن سهواً أو نسيان.
وقال الشيخ أبو علي: بل لا تكون الصغيرة إلا ما صدر بتأويل أو ترك أستدلال لا ما أقدم عليه مع العلم بقبحه فإنه كبير ويبطله أنه لم يفرق الدليل الدال على أن في المعاصي ما هو صغير بين العمد وغيره ولا مانع يمنع من كون العمد صغيرة ولأنه ثد ثبت أن الصغيرة واقعة من الأنبياء فإن كانت عن تعمد فهو الذي يقول، وإن كانت عن سهو ونسيان فليست بذنب أصلاً لأنهما مرفوعان، وإن كان لترك الأستدلال كما يقوله أبو علي.
قلنا: فهل ترك الأستدلال متعمد أو كان معصية فذلك ما يقول أو سهو أو لترك الأستدلال ويعود الكلام فيه كما تقدم فيتسلسل.
تنبيه:
السهو والنسيان مترادفان، وقيل: السهو أعم والنسيان مخصوص بما تقدمه من علم والخطأ ما صدر من غير قصد وقد ذهب الجمهور إلى أنها معفوة من كل مكلف.
وقال النظام: يعفى ذلك إلا عن الأنبياء فإنهم لعظم شأنهم أمروا بالتحفظ والتحرز من السهو دون غيرهم ورد بأنه يستلزم تكليف ما لا يطاق لأن السهو من فعل الله وهو سلب العلوم الضرورية والتحرز من فعل الله غير ممكن وأعترض بأنه قد يكون سببه من فعل العبد كشرب المسكر فيمكنه الأحتراز.
وأجبت: بأنه إذا فعل السبب عوقب على فعله لا على ما فعله حال السهو.
الفائدة الثالثة: هل من الصغيرة ما هو مقدر وكذلك الكبيرة أو لنسأ إلا قسماً واحداً وهو المحقق وإليه أشار المصنف بقوله: (وقد أختلف الشيخ.. ) إلى آخره. ذهب المتقدمون إلى أن كل واحد منهما يسمان محققة.
قوله: (وفائدته هل للكفار صغائر أم لا وكذلك الفساق).
فعلى إثبات قسم المقدرة يكون لهم صغائر وهي ما لو صدر من المطيعين المؤمنين لكان ثواب فاعلها أكثر من عقابها ومثله يلزم في الكبيرة المقدرة فيكون للمؤمنين كبائر مقدرة وهي ما لو صدرت من غيرهم ممن ليس ثوابه كثوابهم لكان عقاب فاعلها أكثر من ثوابه.
الفائدة الرابعة: هل يجوز التعريف بالصغائر أم لا؟ وإليها الإشارة بقوله: (وأتفق الشيوخ على أنه لا يجوز التعريف بجميع الكبائر.
وقوله: (وعلى أنه لا يجوز التعريف بشيء من الصغائر وهما في معنى واحد لأن التعريف بكل الكبائر يعلم منه أن ما عداها صغائر فهو تعريف بها).
واعلم أن التعريف بالصغائر من جهة السمع ممكن إجماعاً كأن يدل دليل سمعي على أن من فعل هذه المعصية مع هذه الطاعات كان عقابها مكفراً بثواب تلك الطاعات، وأما هل يمكن معرفة الصغيرة بالعقل فأختلف فيه.
فقال أبو علي والقاضي: لا يمكن ذلك إلا في حق الأنبياء فإنه يعلم بالعقل أن معاصيهم صغائر.
وقال أبو هاشم: بل يمكن أن يعلم عقلاً في غيرهم........ كمن وهب لغيره ألوفاً ثم سرق عليه جنة فإنه يعلم صغر هذه الإساءة في جنب إحسانه فكذلك من أطاع الله عمره لا يمتنع أن يعلم بالعقل صغر معصية يسيرة يفعلها بالنظر إلى طاعاته الكثيرة في المدة الواسعة ورد ما قاله بأن كبر المعصية وصغرها هو بالنظر إلى عظمها وعدمه وكثرة عقابها وقلته ومقادير الثواب والعقاب بحسب الموقع ولا طريق للعقل إلى تحقيق ذلك وأتفقوا على أنه لا يجوز التعريف بالصغائر من الله تعالى ثم أختلفوا في التعليل، فقال أبو هاشم والجمهور لأنه أغراء بفعلها حيث خلق في المكلف شهوتها ومكن منها وعرَّف بأنه لا يناله العقاب عليها بل يزيد ثوابه على عقابها فيخلص منه وهذا معنى المفسدة.
وقال أبو علي: بل لأن التعريف بها إباحة لها إذ يعلم المعرف بها أنه لا ضرر عليه فيها ولا معنى للإباحة إلا ذلك ورد بأن ذلك يخرج عن الإباحة لكونها تسقط بعض ثوابه وذلك ضرر وأما معرفة الصغائر لا بتعريف الله فقد قال جعفر بن ميسر ومن ذهب مذهبه: إن الصغير ما كان عن سهو أو تأويل فيعرف الصغائر بذلك.
قوله: (فأما بعد فعلها فيجوز.. ) إلى آخره.
أحتراز عن سؤال يرد وهو أنكم قد حكمتم على ذنوب الأنبياء بأنها صغائر وهم عارفون لذنوبهم فيعلمون أنها صغائر وفي ذلك إغراء لهم بفعلها وتقرير.
الجواب: إن الطريق إلى صغر معاصيهم ليس تعريفهم بها قبل فعلها بل كونها وقعت منهم فلا تعلم صغائرهم إلا بعد فعلهم لها ولا إغراء بعد الفعل واعترض بأن النبي إذا علم أن كل ذنب يرتكبه فهو صغيرة مكفرة فقد عرف الصغائر وحصل الإغراء ورجح في الجواب أن تعريف الصغائر ليس بإغراء على الإطلاق بل يختلف الحال فيه بأختلاف امكلفين فمن كان عظيم الرغبة منهم في طاعة الله شديد التعظيم له حريصاً على أمتثال أمره و...... كمن يحتمل مشاق فعل المندوب وترك المكروه ولعاً بتحصيل الثواب لا يكون التعريف في حقه إغراء وهذه حالة الأنبياء فلا يكون تعريفهم بالصغائر إغراءً لهم ويكون تعريفهم بنقصها من ثوابهم وكونها معصية كافياً في الزجر عنها.
الفائدة الخامسة: في التعريف ببعض الكبائر وهو جائز لأنه لا يقع منه تعيين الصغائر نزولاً يلزم منه محذور.
قوله: (وبالجملة فما كان علة عقاب في الدنيا وما عداه.. ) إلخ.
الذي يذكره المحققون أن الكبيرة تتعين بأمور منها ما ذكره المصصنف من أمر الله تعالى بإقامة الحد عليها كقطع الطريق والسرقة وشرب الخمر والزنا، ومنها وصف صاحب الذنب بأن عليه غضب الله ولعنته كما ورد في الفار من الزحف، وفي قاتل المؤمن، ومنها ذكر الأحباط كما ورد في الشرك إذا صدر من النبي نحو: {لئن أشركت ليحبطن عملك}. ومنها الوصف بالكبر كما قال في قتل الأولاد: {إن قتلهم كان خطأ كبيراً}. ومنها الوصف بالعظم نحو قوله في القذف: {وهو عند الله عظيم}. ومنها الوصف بالفحش نحو قوله في الزنا: {إنه كان فاحشة}. ومنها الأمر بالقتال على تلك المعصية نحو: {فقاتلوا التي تبغي}. لأن ذلك يستلزم إباحة دم العاصي ومن أبيح دمه فلا يستحق مدحاً ولا ثواباً، ومنها ما وقع إجماع قطعي على أنه قسق كالأستخفاف بالإمام وعقوق الوالدين.
قلت: والأجماع القطعي غزير الوجدان لكن قد ورد من الأخبار ما يقضي بكبر العقوق كقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((ألا أخبركم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: الشرك بالله وعقوق الوالدين ـ وكان منكباً فجلس ثم قال ـ: ألا وقول الزور ألا وقول الزور)). فما زال يكررها حتى قلنا: ليت أنه سكت ولا يعتمد هنا، إلا الأخبار المتواترة.
قوله: (وقيل بقطع بذلك فيما تناوله وعيد).
هذا قول أبي القاسم ورد بأن الصغائر كلها متوعد عليها لأن الوعيد عليها داخل في وعيد العصاة نحو: {من يعص الله ورسوله}. فلم يفصل بين عاص وعاص، وكذلك قوله: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره}. فإنه وعيد يدخل فيه صاحب الصغيرة وهذا على جهة الألتزام لأبي القاسم وهو أن يقال: إذا كنت تجعل ما توعد عليه كبيرة مطلقاً لزم ألا يكون في المعاصي صغيرة فإنه قد ورد الوعيد على فعلها ولم يعتبر إلا ورود الوعيد على المعصية لكن من قواعده أنه لا وعيد على صغيرة أصلاً ومثل ذلك عن أبي هاشم في صاحب الصغيرة والتائب فإنه ذهب إلى أيهما غير داخلين في الوعيد.
وقال الشييخ أبو علي والأكثر أنهما داخلان فيه لكن هما مستثنيان عن دخول النار.
قيل: والخلاف لفظي لأنه لا خلاف في المعنى والأصح أن الوعيد على المعصية لا يقضي بكبرها لأن الوعيد عليها هو بأعتبار عقابها ولا مانع من أن يكون ثواب فاعلها أكثر من عقابها فيكون خالصاً عن الوعيد كالتائب ويكون تمام الوعيد مقتداً بألا يكون ثواب فاعلها أكثر من عقابها وعلى هذا فلا يقطع بكون الركون إلى الظلمة فسقاً وإن كان الوعيد قد ورد عليه بعينه كقوله تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار}. فتكون نحو أخذ الولاية منهم معصية محتملة.
ومن قال: إن الوعيد على المعصية بعينها يقضي بكبرها عل الركون كبيرة وقطع على آخذ الولاية بأنه فاسق وقد فسقه الشيخان لا لأجل الآية بل لأن ذلك في حكم الأظها لأمامته وفيه إشكال لأنه يقال من أين أنه يعد فسقاً للعلة التي ذكراها.
تنبيه:
أختلف في تعيين ما قامت الأدلة على كثرة من المعاصي فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنها الشرك بالله وقتل النفس بغير حق والزنا والقذف والسحر وأكل مال اليتيم والفرار من الزحف والألحاد في الحرم وعقوق الوالدين. وأراد أبو هريرة أكل الربو وزاد علي عليه السلام السرقة وشرب الخمر، وزاد جمهور العلماء الخروج على الإمام، وقال بعضهم: فسقه، وعد بعضهم منها القنوط من رحمة الله، والإصرار على معصية الله ولأمن من مكر الله وهاهنا قاعدة لا يغفل عنها: وهو أن صاحب الكبيرة فاسق ولا يصح التفسيق إلا بدليل قطعي وتحقيق فمن ذلك يعر أنه لا يصح إثبات الكبيرة إلا بقاطع ولا مانع من أن يستقيم الدليل القاطع لبعض دون بعض وما لم تقم الدلالة القاطعة على كبر معصية فلا ينبغي الحكم بكبرها.
الفائدة السادسة: ذهب الأكثر إلى أن الأصرار على الصغيرة يتقدم التوبة عنها لا يقطع بكبره.
وقال أبو القاسم: كل إصرار كبيرة فهذا الإصرار كبير وهو مردودنا بأن....... المعصية لا يعلم إلا بالسمع ولا دليل في السمع قاطع على أن ذلك الأصرار كبيرة فيبقى محتملاً.
الفائدة السابعة: قال الشيخان: فاعل الصغيرة يسمى ظالماً لنفسه لأنه عصى الله وتعدى حدوده ومن كان كذلك فقد ظلم نفسه، ويدل عليه قوله تعالى: {ربي إني ظلمت نفسي فاغفر لي لا إله إلا أنت سبحنك إني كنت من الظالمين}. مع أن معاصي الأنبياء صغائر ولأن معنى ظلم النفس أحد أمرين: إما تفويت النفع أو جلب الضرر لها، ولا يخلو فعل الصغيرة عن أحدهما، وأختلف الشيخان في أيهما العلة في ذلك.
فقال أبو هاشم: تفويت النفع لأنه يسقط من ثوابه ما يقابل عقابها ولما كان أبو علي لا يقول بأنه يسقط من الثواب شيء في مقابلة عقابها لعدم أعتباره الموازنة، قال: إنه ظالم لنفسه لجلب الضرر وهو مشقة التوبة لأنه يفعل الصغيرة عرض نفسه لذلك ورد بأن التوبة مشقتها مجبورة بما يستحق من الثواب عليها والضرر لا يعد ظلماً إلا إذا أخلا عن النفع.
قوله: (وأما المقدمة الثانية). فقد ذهب الجمهور إلى أن في اللغة ألفاظاً موضوعة للعموم هذا مذهب الزيدية والمعتزلة.
قوله: (وهي: من وما وأين ومتى وأي في الأستفهام والمجازاة من لما يعقل وما لما لا يعقل وهما أسمان بهذين المعنيين المذكورين، وأين أسم ظرف مكان، ومتى أسم ظرف زمان، وأين أسم ظرف مكان، ومتى أسم ظرف زمان، وأي أسم مثالها على الترتيب من في الدار، من دخل داري أكرمته، وما في الدار، ما تصنع أصنع، وأين قعدت أقعد، ومتى تسافر، متى سرت سرت، وأي الرجال عبدك، أياً تضرب أضرب.
قوله: (والنكرة في النفي).
مثال ذلك: ما في الدار أحد، ليس في الدار أحد.
قوله: (والجمع المضاف).
نحو عبيد زيد وابنا عمرو وأخوه خالد، ونحو ذلك.
قوله: (الأسم المفرد والجمع إذا دخلها اللام).
يريد أسم الجنس نحو الرجل ومجمعه نحو الرجال والصفة نحو الضارب والمسلم والجمع نحو الضاربين والمسلمين وأراد باللام لام التعريف نظراً إلى أن وحدة حرف التعريف ولم يعيد بالهمزة كما ذلك رأي بعض النحاة والأكثرون يجعلون التعريف بمجموع الهمزة واللام والمراد ما دخله حرف التعريف لغير عهد فما كان للعهد فهو مقصور عليه كما لو قلت جاز حال اليوم في صفتهم كنت وكنت ثم قلت: ففعل الرجال. ومثاله في المفرد: {كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول}. وضابط ما هو للعهد أن يسبق بحضور خسي كما مثلناه، أو كان مشاهداً حال الخطاب كقولك: القرطاس لمن رأيته يسدد سهماً، أو حضور عملي وهو ما لم يسبق له ذكر ولا مشاهد نحو: {إذ هما في الغار}. {إذ يبايعونك تحت الشجرة}. وهذا هو مقصود النحاة بالعهد الخارجي وكذلك لا يفيد العموم ما قصد به العهد الذهني كقولك: أدخل السوق لتستري لنا لحماً. قبل أن تجري ذكر سوق بعينه ولا هو بمشاهد في تلك الحال.
قوله: (بحسب أختلاف بين الشيوخ).
أعلم أن القول بأن جميع تلك الألفاظ موضوعة للعموم هو قول الجمهور من علمائنا وهو الصحيح وخالف الشيخ أو هاشم في الأسم المفرد والجمع الداخل عليهما اللالف واللام وفي الجمع المضاف برغم أنها ليست من ألفاظ العموم ووافقه في الأسم المفرد فقط أبو الحسين والرازي والفقيه حميد، وههنا جهة أخرى من الخلاف وهي أن منهم من أدخل في العموم لفظاً غير الألفاظ المذكورة وذلك أسم الجمع المنكر نحو رأيت رجالاً. زعم الشيخ أبو علي أن ذلك من ألفاظ العموم، والجمهور على أنه ليس بعام وهو الصحيح بدليل أنه لا يصح منه .......... فلا نقول: رأيت رجالاً إلا زيداً. وكذلك أختلف في نفي التساوي نحو: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة}. فالجمهور على أنه لا يقتضي العموم ولا يدل على نفي الأستواء في كل صفة من صفاتهما ويكفي في صدقه عدم التساوي من وجه واحد وفي........ واحدة. وقال ابن الحاجب: بل تقتضي الشمول وأنه لا يشترك المنفي عنهما الأستواء في وجه من الوجوه.
قوله: (وقالت المرجئة: ليست للعموم ظاهرة).
إن الخلاف في هذه المسألة مختص بالمرجئة وناشئ عن مذهبهم في الإرجاء وليس عندي كذك بل الخلاف في أن للعموم ألفاظ أو لا خلاف لغوي لا يتعلق بالأرجاء ويصح أن نقول بالوعيد من يخالف في هذه المسألة وأن ترجي من يوافق فيها.
قوله: (فقال بعضهم: هي للخصوص).
يعنون للبعض لا للكل فيصدق ثبوت لفرد إلا لفظ الجمع فيحمل على ثلاثة فقط فإذا قلت: جاء الرجال. أفاد مجيء ثلاثة من هذا الجنس، وإذا قلت: من دخل داري أكرمته. أفاد إكرام بعض داخلي الدار بحيث أنه يخرج عن الخلف بأكرام داخل واحد، ويحكى هذا عن الأشعري.
قوله: (وقال بعضهم: مشتركة بين العموم والخصوص).
يعنون فيستعمل تارة للشمول والأستغراق، وتارة للبعض فهي لفظ مشترك بين معنيين لا من حيث أتفاقهما.
قوله: (وقال بعضهم: هي للقدر المشترك).
أي لا تفيد العموم ولا الخصوص ولا يمنع منهما وهذه الرواية لم أقف عليها في كلام غير المصنف وفي العبارة ما فيها لكن أقرب ما يحمل عليه أن المعنى كون تلك الألفاظ موضوعة للقدر المشترك بين العموم والخصوص فيكون من قبيل المتواضي.
وقوله: (أي لا تفيد العموم ولا الخصوص).
معناه لا يفيد كل واحد منهما على إنفراده مثل لفظة: الحيوان. بأعتبار الإنسان والفرس فإنها موضوعة للقدر المشترك ولا يفيد أحدهما بعينه ولا يمنع منهما لكن وما القدر المشترك بين العموم والخصوص فإنهما نقيضان، وقد جرى في كلام ابن الحاجب ما يقضي بأن منهم م يقول: بأنها من قبيل المتواطي موضوعة للقدر المشترك بين العموم والخصوص لأنه ذكر أن الخلاف في الألفاظ هل للعموم أو للخصوص كالخلاف في لفظ الأمر هل للوجوب أو للندب ومن الخلاف هناك أنه متواطي فيهما وموضوع للقدر المشترك بينهما إلا أن شارحي كتابه في تفصيلهم للخلاف ألغوا ذلك ولم يثبتون ولا عزوه إلى أحد.
قوله: (وقال بعضهم: بالوقف مطلقاً).
تحقيقه أنهم قالوا: ما وجدنا ألفاظ العموم مرة يستعمل في العموم ومرة يستعمل في الخصوص ولم يعلم هل أستعمالها فيهما حقيقة فتكون مشتركة أو حقيقة في أحدهما ومجازاً في الأخر، فيقف ويسمون الواقفية.
قوله: (وقال بعضهم: به).
أي بالوقف في الأخبار خاصة ومفهومه وأما في غيرها فيقولون: بأنها للعموم ومنهم من ذهب إلى أنها إذا وردت في غير الأخبار حملت على الأستغراق وأما في الأخبار فهي غير موضوعة له، وحكى أبو الحسين عن قوم القوم بأن ألفاظ العموم لم توضع لخصوص ولا عموم ولا تحمل على عموم ولا خصوص إلا بقرينة ودلالة وهو مذهب معزو إلى بعض المرجئة، وحكي هذا أيضاً عن الأشعري.
قوله: (لما أن الأستغراق معنى عمله أهل اللغة.. ) إلى آخره.
هذه طريقة سلكها الشيخ أبو عبدالله وهي مبنية على ثلاثة أركان:ـ
أولها: أن العموم معنى عمله أهل اللغة، ودليله: أنهم أرباب العقول الكاملة فلا يجهلون ذلك.
وثانيها: أن حاجتهم ماسة إلى التخاطب به، ودليله: أن الواحد منهم يحتاج إلى أمر ونهي و............... ونحو ذلك، ويمس الحاجة إلى شمول ذلك للأرب لمن يريده منه ويطول عليه تعداد من يريد منه ذلك .......... مستفهم الحاجة إلى عبارة شاملة يحصل بها المراد.
وثالثها: أنه يجب أن يضعوا للشمول لفظاً، ودليل ذلك: أن من حق القادر على أمر متى توفرت دواعيه إلى إيجاده أن يوجده والأخراج عن كونه قادراً.
قوله: (كلامنا في معنى تستد الحاجة ـ إلى العبارة ـ عنه).
يعني: وهذه المعاني التي ذكرتم لا تمس الحاجة إلى التكلم بما يكشف عنها كالعموم وقد أعترض ابن الحاجب هذه الطريقة بأنا لا نسلم أفتقار العموم إلى وضع لفظ له مفرد فإنه قد يستغنى بالمجاز وبالمشترك عن ذلك.
قوله: (وإلا لما حسن أن يجيب بذكر جميع العقلاء).
يعني: لما حسن من حيث وضع اللغة إلا لقرينة تقضي بأن المستفهم أراد غير الحقيقة.
قوله: (حتى يستهم السائل).
يعني: إذا لم يكن ثم قرينة حال ولا مقال تقضي بإرادة أحد المعنيين.
قوله: (وهم قد منعوه).
يعني: أهل اللغة وأرباب العربية فإنهم شرطوا في صحة الأستثناء حصول الفائدة، قالوا: فلا يصح أن يقال: قام قوم إلا رجلاً. لعدم الفائدة.
قوله: (وتأولوه حيث ورد.. ) إلخ.
الظاهر أن إلا إذا جاءت بعد الجمع المنكر حكم عليها أهل العربية بأنها صفة بمعنى غير لتعذر معنى الأستثناء، فقالوا: في قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} إن آلهة وصفت بإلا كما توصف بغير لو قيل: آلهة غير الله. هكذا ذكر جار الله وغيره فإذا عرفت هذا فقول المصنف أن المعنى ليس بعضهم زيداً غلط فإن هذا هو معنى الأستثناء الذي نفاه ولكنه رحمه الله إذا خاض فيما يرجع إلى العربية كبا جواده وما درى زيادة، قال صاحب مغني اللبيب: الثاني من وجوه إلا أن تكون بمنزلة غير فتوصف بها و........ جمع منكر أو شبهه، فمثال الجمع المنكر: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}. وذلك يقتضي بمفهومه أنه لو كان فيهما آلهة فيهم الله لم تفسد وليس ذلك المراد ولا من جهة اللفظ لأن آلهة جمع منكر في الأثبات فلا عموم له فلا يصح منه الأستثناء، ولو قلت: قام رجال إلا زيداً. لم يصح أتفاقاً فانظر كيف جعل التقدير بليس بعضهم زيداً معنى الأستثناء وهو صحيح فإن معنى جاء القوم إلا زيداً ليس بعضهم زيداً.
قوله: (فالأستثناء من الأعداد يخرج ما لولاه لوجب).
يعني: فإذا لم يستثن حكم عليه بالعشرة كاملة ولم يقبل قوله: إن الأمر بخلاف ذلك.
قوله: (يزيد السامع إلباساً).
يعني: لأن المراد بلفظ التأكيد تقرير ما سبقه وتأكيده على ما هو عليه من غير إفادة زيادة معنى آخر.
قوله: (ونحوها).
يعني: أجمع وأجمعين وجميعاً.
قوله: (دليل إذا قال ضربت من في الدار نافه.. ) إلى آخره.
المراد بالمنافاة: أن تفيد نفي جميع ما أثبته وبالمناقضة ما أصطلح عليه المنطقيون من أن نقيض الكلية الموجبة نحو: كل إنسان حيوان. سالبه جزئية نحو: ليس بعض الإنسان بحيوان.
قوله: (ومع الأشتراك والخصوص لا منافاة).
يعني: لأحتمال أنه أراد بقوله: ضربت من في الدار بعضهم. وبقوله: لم أضرب من في الدار البعض الآخر.
قوله: (ولا تناقض).
يعني: لأحتمال أنه أراد بالنقيض أيضاً لم أضرب البعض الآخر، هذا إذا كان للخصوص أو مشتركاً إذ لا مانع من أن يراد في المشترك أحد معنييه.
قوله: (دليل فهم عثمان رضي الله عنه.. ) إلخ.
أعلم أنه إذا أطلق عثمان فهو الخليفة عثمان بن عفان الأموي ....... رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم المشهور فكان الأولى ألا يطلقه المصنف هنا فإن صاحب هذه القصة عثمان بن مظعون الجمحي وكان من أفاضل الصحابة وأصلبهم ديناً ومات في حياة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم فبكى عليه رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم بكاء سمع وأهل التاريخ يحكون صفته ومن صلابة دينه وشدة يقينه أنه لما قدم مكة بعد هجرته إلى الحبشة ورأى ما كثير من المسلمين عليه من الإهانة وأنتهاك المشركين لحرمتهم وكثرة أذاهم لهم وكان له جوار من الوليد بن المغيرة وهو من ........ عانت نفسه على كونه آمناً بجوار مشرك وغيره يلقى من التلاقي حيث الله ما لا يصيبه مثله فرد على الوليد جواره وقال له: لا أستنجي بغير الله. والقصة أن لبيد بن ربيعة الشاعر المشهور كان يفد إلى مكة وينشد فيها أشعارة فأتفق يوماً أنه دخل المسجد الحرام وصار ينشد وعنده جماعة منهم عثمان بن مظعون رضي الله عنه فلما أنشد:
إلا كل شيء ما خلا الله باطل.
قال له عثمان صدقت ثم أنشد:ـ
وكل نعيم لا محالة زائل.
فقال كذبت فإن نعيم الجنة لا يزول فأنف لبيد من ذلك، وقال: يامعشر قريش ما كان جليسكم يؤذى فمتى حدث فيكم هذا فلطم بعضهم وجه عثمان فأصاب إحدى عينيه فقال الوليد لثمان لقد كنت في ذمة منيعة فأجابه عثمان بأن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب صاحبتها في الله.
قوله: (وكذلك فهم ابن ......... العموم.. ) إلخ.
القصة أن رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً فجلس إليهم فعرض له النضر بن الحرث فكلمه رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى أفحمه ثم تلا عليهم: {إنكم وما تعبدون من دون الله.. } الآية. فأقبل عبدالله بن ......... فرآهم يتهامسون فقال فيهم حوضكم فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم. فقال عبدالله: أما والله لو وجدته لخصمته. فدعوه، فقال ابن ........: أنت قلت ذلك؟. قال: نعم. قال: قد خصمتك ورب الكعبة أليس اليهود عبدوا عزيراً، والنصارى عبدوا المسيح، وبنو مليح عبدوا الملائكة. فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: بل هم عبدوا الشياططين التي أمرتهم بذلك أراد صلى اللّه عليه وآله وسلم أن العبادة عبارة عن أمتثال للأمر فإنزل الله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى.. } الآية. يعني عزيراً والمسيح والملائكة.
قال المصنف في العقد: (فإن قيل فما الجواب على ابن ........).
قلنا: إن ثبت أن ما لا يستعمل حقيقة لما يعقل فذلك كافٍ لأن الملائكة وعيسى ممن يعقل وإن لم يثبت ذلك فاللفظ عام لكن العقل يخصصه والسمع، أما العقل فهو إن من لا ذنب له يعاقب، وأما السمع فقوله: إن ....... سبقت ........... الآية.
قلت: وقد روي أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لابن .......: ((ما أجهلك بلغة قومك، ياغلام أما علمت أن ما لما لا تعقل ذكره)). في بعض حواشي الكشاف.
تنبيه:
ومما أستدل به في هذه المسألة أن الشمول يسبق إلى الأفهام عند ذكر أحد صيغ العموم من ذلك، ودليل الحقيقة ألا ترى أن القائل إذا قال: أكرم العلماء وجاهد الكفار. فإنه يسبق إلى الفهم إكرام كل عالم وجهاد كل كافر، ولا يسبق البعض ولا يقع تردد في أن المقصود ذلك أو غيره.
قوله: (قالوا: لو كانت للعموم لكان الأستثناء منها نقضاً بحقيقة).
إن قولك: جاء الرجال إلا زيداً. لو كان لفظ الرجال فيه عاماً كان فيه أثبات مجيء زيد في ضمن الرجال ونفي مجيئة صريحاً ولا شك أنهما لا يصدقان معاً فيكون تناقضاً والتناقض غير سائغ لا سيما في كلام الله تعالى، وهذا سؤال يورد على الأستثناء فجعله المصنف شبهة للمخالفين في العموم ولأجل هذا السؤال أضطرب كلام العلماء في توجيه الأستثناء، فالجمهور على ما ذكره المصنف من أن المستثنى غير مراد باللفظ العام له ولكن لما تناوله اللفظ بأصل وضعه أتى بالأستثناء قرينة لإرادة ما عداه وعدم إرادته وإن اللفظ لم يستعمل في حقيقته بل يجوز فيه بأجزاء لفظ الكل على الجزء وقيل بل إذا قيل على عشرة إلا ثلاثة فهو لفظ مركب يفيد ما تفيده سبعة.
وإذا قلت: جاء الرجال إلى الطيال فهو بمنزلة جاء القصار إلا أن هذا مفرد وذاك مركب.
وقال ابن الحاجب وغيره: بل إذا قلت على عشرة إلا ثلاثة، فالمراد بالعشرة جميع أجزائها لم يتغير معناه فيتناول السبعة والثلاثة ثم أخرجت الثلاثة بقولك إلا ثلاثة فدل إلا على الأخراج وثلاثة على العدد المسمى بها فبقي سبعة ثم أسند إلى السبعة فقط ما ذكر من ثبوتها عليه أو مجيء أو غير ذلك فلم يسند إلا إلى سبعة فما تم إثبات ولا نفي في حق الثلاثة أصلاً فلا تناقض ولهم في هذه المسألة مجادلات ليس هذا موضع بسطها وأستيفائها.
قوله: (ثم نقلت عليهم السؤال.. ) إلخ.
ليس بالواضح فإنه إذا كان للخصوص أو مشتركاً بوجه الاستفهام وحصلت الفائدة بالجواب.
بسم الله الرحمن الرحيم
وقوله: (لأن كل جواب يجيب به فهو خاص أو مشترك).
كلام غير مستقيم وما معنى كون الجواب خاصاً أو ما معنى كونه مشتركاً إن القائل بأن الألفاظ مشتركة يسأل ليفهم ما قصد الناطق بها هل العموم أو الخصوص، ووصوله إلى ما أراد من ذلك ممكن بالجواب البين، والقائل بأنها للخصوص وبعض أفراد العام يسأل عن تعيينه لأن مذهبه أنها لبعض لا تتعين بها فبطلت تعيينه بما تعينه.
قوله: (لا عن كلهم الأحسن لا عن جملتهم).
قوله: (ثم يقلب عليهم السؤال).
أقرب ما يمكن من تصوير القلب أن يقال: لو كانت للخصوص لم يحسن أن يجيب بأن الكل عنده أو بأنه ليس الكل عنده ولو كانت مشتركة لم يحسن أن يجيب حتى يفهم ما قصد هل السؤال عن الكل أو عن البعض.
قوله: (شبهة القائلين بأنها للعموم في غير الوعيد).
ظاهر هذا أن خلافهم هذا في إفادة العموم مقصور على الوعيد والأقرب أن خلافهم في الأخبار كلها فيقولون بعدم إفادة شيء منها للعموم قالوا: لأنه لا تكليف فيها، وإنما يتصور التكليف بالأمر والنهي والتكليف شامل لعامة المكلفين فلولا أن صيغ الأمر والنهي للعموم لما كان التكليف عاماً وتجاب الشبهة على هذا التحرير بأن الأجماع منعقد على التكليف بمعرفة كثير من الأخبار نحو قوله تعالى: {والله بكل شيء عليم}. وهكذا الوعد والوعيد ولولا الشمول ما حصل ........... عن المعاصي والمواضبة على الطاعات.
فصل: في أن وعيد الكفار مقطوع به.
قد فسر المصنف مقصوده بهذه العبارة وهي مفتقرة إلى التفسير لعدم وضوحها في المعنى المقصود والمعنى أن الذي توعد به الكفار من العقاب العظيم المستحق لا بد أن يوصل إليهم.
قوله: (إلا ما يحكى عن مقاتل.. ) إلخ.
لا ينبغي أن يكون هذا مذهباً لأحد من المسلمين فإنه رد لما علم من ضرورة الدين ولعل الرواية غير صحيحة في نسبته إلى من ينسب لبعض المسلمين وكيف يقول عاقل ممن يؤمن بالله أنه لا ......... ......... وهذا مقاتل قال فيه ابن خلكان: كان إماماً في التفسير. وقال الإمام الشافعي: الناس عيال على مقاتل في التفسير وعلى زهير بن أبي سلمى في الشعر وعلى أبي حنيفة في الكلام.
قلت: ولكنه كان ينسب إليه الكذب ................................... قال ابن خلكان: قال النسائي المعروفون بوضع الحديث على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: ابن أبي يحيى بالمدينة، والواقدي ببغداد، ومقاتل بخراسان، ومحمد بن سعيد المصلوب بالشام، وقال القاضي ابن حجر المصري في التقريب: هو مقاتل بن سليمان بن بشير الأزدي الخراساني أبو الحسن البلخي نزيل مرو كذبوه وهجروه.
فصل:
في أن وعيد الفساق مقطوع به. بمعنى أنه يفعل بهم ما يستحقونه من العقاب.
اعلم أن هذه المسألة هي أم مسائل الوعيد المختصة بالنزاع الشديد عظيمة الأخطار متشعبة الخلاف بين علماء الأقطار ونرجوا أن يثبتنا الله فيها بالقول الثابت وأن يجمع كتابنا هذا أشتات ما هو في غيره منها متفاوت ونحن إن شاء الله تعالى نذكر الخلاف فيها مستوفى ثم نذكر ما وقعنا عليه من أدلة أهل المذاهب ثم نأتي بعد ذلك بفوائد وفرائد وتحلل في أثناء ذلك ذكر ما لا غنية عن ذكره من كلام المصنف إما لبيان أو أنتقاد أو تحقيق يستفاد.
أما ذكر أقاويل العلماء فيها فالجمهور من العدلية المعتزلة والزيدية والإمامية والخوارج وغيرهم إن كل واحد من فساق هذه الأمة وأهل الكبائر يستحق العذاب بالنار في الآخرة ولا بد أن يدخلها ويعذب فيها ويخلد فيها أبد الآبدين {وما هم عنها ببغائبين}.
قوله: (وقد خالف في ذلك المرجئة قد جرى أصطلاح أصحابنا على أن كل مخالف فيما ذكر أو في طرف منه فهو مرجي سواء قطع أو وقف والأتفاق على أن المرجئة مذمومون ملعونون وأن الأرجاء أسم ذم كالقدرية لما روي عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبياً)). وروى الحاكم عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((لكل أمة يهود ويهود هذه الأمة المرجئة)). وعن أبن عباس رضي الله عنه: كلام القدرية كفر وكلام الرافضة هلكه وكلام المرجئة ضلالة ولكن أختلف في مسماه وموضوعه فالأصحاب بنوا على ما ذكرناه وإن كانوا يقولون الارجاء الحقيقي مذهب الواقفة منهم الذين لا يقطعون بشيء.
قيل (ي): لأن الارجاء التردد.
وقال الفقيه حميد في العمدة: لأنه الوقف والشك.
قلت: ويكون وجه المناسبة تأخيرهم القطع بالعقوبة والتخليد والله أعلم.
وطوائف المخالفين يتبرؤون من هذا الأسم ويقولون الأرجاء المذموم فائلوه هو مذهب من زعم أن الإيمان قول بلا عمل، لما روي عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم وقد سئل عن المرجئة فقال: ((قوم يقولون الإيمان قول بلا عمل)). ويقولون فيما يحكم الأصحاب عليه بأنه الارجاء الحقيقي هو رجاء وليس بإرجاء.
واعلم أن القول بالأرجاء ليس مقصوراً على فرقة دون فرقة بل شائع في جميع فرق الإسلام من العدلية والمجبرة والإمامية وغيرهم وفي الفرق الخارجة عن الإسلام كاليهود فإن أصل الارجاء نشأ منهم كما حكى الله عنهم: {وقالوا لن تمسنا النار إلى أياماً معدودة}. وقول من قال به من المسلمين محدث بعد وفاة أمير المؤمنين عليه السلام بخلاف كثير من مذاهب المبتدعة كالجبر والتشبيه ومذهب الخوارج فإنه حدث على عهده عليه السلام.
قيل (ي): والنفوس تميل إليه طمعاً في الجبر وأماناً من الشر.
قال القاسم عليه السلام ما معناه: الطاعة طريق الجنة والمعصية طريق النار. مثال القائل بالارجاء: كرجل يمشي إلى المغرب وهو مع ذلك يرجو أن يبلغ به مشيه إلى المشرق. وقال بعضهم: ومن مشى في جميع الأرجاء فقد مشى بالقدم العرجاء ... وانساب في مدرجه عن ... حائرة موحشة الأرجاء
ومن العجائب أنك ترى كثيراً من القائلين بالوعيد والمائلين إلى التشديد ينكرون مذاهب المرجئة ويبالغون في تقبيحها وتوبيخ القائلين بها وزجر المائلين إليها وهم يرتكبون المعاضي وينقادون إليها بالتواصي حتى قال شاعر المرجئة:ـ
تعبت القول بالارجاء حتى ترى بعض الرجاء من الجرائر
وأعظم من ...... الارجاء عبثاً ... وعيدي أصر على الكبائر
حكى البيتين الفقيه حميد في كتابه عمدة المسترشدين
إذا عرفت هذا فالمرجئة هم المجبرة بأسرهم والمجسمة كلهم ومن المعتزلة محمد بن سبيب وغيلان الدمشقي ومؤنس بن عمران وأبو سمر وصالح فيه والرقاشي والصالحي والخالدي وغيرهم، ومن الزيدية الشيخ أبو القاسم البستي وهو من فقهاء المؤيد بالله وغيره، ومن التابعين سعيد بن جبير، ومن الفقهاء حماد بن سليمان وأبو حنيفة وأصحابه وتحقيق مذاهبهم أن منهم من قطع على أن الفساق لا يدخلون النار وهم الكرامية والخرسانية ومقاتل بن سليم كما قالوا بذلك في أهل الشرك، ومنهم من قطع بدخولهم وخروجهم وهوبشر المريسي، ومن قال بمثل قوله ونسب إليه في المحيط القول بأن الفساق غير مرادين بآيات الوعيد، ومنهم من قال: يستحق الفاسق العقوبة الدائمة إلا أنه يجوز أن يعفو الله تعالى عمن شاء منهم وإذا عفى عن البعض عفى عن الكل وإلا أدى إلى المحاباة وهي لا تجوز على الله تعالى وهذا قول محمد بن سبيب من المعتزلة ومن قال بقوله، ومنهم من قطع بدخول الفاسق النار إلا أن الطاعات التي صدرت منه ترد عقابه من الدوام إلى الأنقطاع وهذا قول الخالدي وأتباعه هكذا قيل (ي) في حكاية مذهبه، وهو قريب من مذهب بشر إلا أن فيه بيان سبب الأنقطاع وعدم التخليد. وقال الفقيه حميد: ذهب الخالدي إلى أن الطاعة والمعصية من الدوام إلى الأنقطاع ثم الله تعالى وبالخيار في المنقطع إن شاء أسقط وإن شاء أستوفى فإن أستوفى نقله بعد ذلك إلى الجنة، ومنهم من قال: بالوقف ومال إليه لتعارض آيات الوعد والوعيد وعدم المرجح بحمل أحدهما إلى الآخر وعدم العلم بالمخصص منهما الآخر فالوقف حينئذ هو الواجب لأن في الأدلة متى تعارضت مذهبين التوقف وإن تتساقط وترجح إلى الأصل فالمتوجه على كل واحد منهما هو التوقف فإنا إذا أرجعنا إلى الأصل فهو أن العقاب يجوز أن يفعل وألا يفعل وهذا قول أبي حنيفة وغيره، ومنهم من توقف في دخولهم النار وإذا قدر دخولهم قطع بخروجهم، ومنهم من قطع بدخولهم وتوقف في خروجهم، ومنهم
من جوز دخولهم النار وعدمه وجوز إن دخلوا خلودهم وخروجهم وهذا مذهب المرجئة الخلص ومذهبهم هو الارجاء الحقيقي وبه قال أبو القاسم البستي وكثير من المرجئة وإليه ذهب جملة أهل الارجاء من العدلية، وقال الرازي في النهاية بل المرجئة الخالصة هم القاطعون بأن الفساق لا يعذبون ولا يدخلون النار وحكي من المذاهب في هذه المسألة القول بأن الله يعذب البعض ويعفو عن البعض وقال: هو مذهب أهل السنة، وحكي أتفاقهم على أنا لا نعلم الآن أن الله تعالى عن أي كبيرة يعفو واتفقوا أيضاً على أنه لا يخلد عقوبة أحد من هؤلاء وذكر أن عدم القطع بشيء من الأقسام يعني دخولهم النار وعدم وتخليدهم وعدمه مذهب كثير من أصحابهم وعزاه إلى أكثر الإمامية.
واعلم أن هذا الأختلاف هو باعتبار دخول الفساق النار وتخليدهم فيها والقطع بالأمرين أو القطع بعدمهما معاً أو القطع بأحدهما والقطع بعدم الخلود أو التردد فيهما أو في أحدهما وحاصله يرجع إلى ما ذكر وقد يحكى الخلاف في المسألة على كيفية أخرى وهي باعتبار الوعد والوعيد فالأكثر من المعتزلة والزيدية وهم الموسومون بالوعيد به يذهبون إلى أن الفساق داخلون في عمومات الوعيد وأنه واقع بهم لا محالة وأختلف طوائف المرجئة فقال مقاتل: لا وعيد لمسلم أصلاً فهم عير داخلين في الوعيد وقد سبق أنه حكى هذا في المحيط عن بشر المريسي. وقال الأصم لا تدل آيات الوعيد على تعذيب الفساق لعلمنا أنها غير باقية على عمومها لخروج التائب وصاحب الصغيرة عنها فهي مجملة حيث خصصت لأن العام إذا خص صار مجملاً في الباقي كما يذهب إليه بعض علماء الأصول. وقال أبو سمر: دلالة العموم على تعذيب الفساق غير مقطوع بها لأنه يجوز أن يكون ثم أستثناء أو شرط مخصص له بالكافر تقديره إلا أن أعفوا وإن لم يعف أو إن لم يكن مقراً بلسانه أو ما شابه ذلك وإن لم يعلمه. وقال أبو حنيفة بتعارض العمومين كما سبق. وقال دزقان وأكثر المرجئة: قد أجتمع الوعد والوعيد في الفساق فيقطع بخروج العاصين أولي الكبائر من النار إلى الجنة لأنه يصح عندهم إجتماع أستحقاق الثواب والعقاب وينفون الاحباط والتكفير كما سبق هناك فيفعل بالفاسق عندهم ما يستحقه من العقاب وينقطع ذلك ثم يفعل ما يستحق من الثواب ويدوم ولا ينقطع.
قوله: (لنا الكتاب والسنة).
شرع المصنف في الأستدلال على المذهب المختار ونحن نتتبع ما يفتقر من كلامه إلى الذكر ثم نردفه بفوائد وزوائد والله الموفق.
قوله: (أما الكتاب فآيات).
اعلم أن الآيات الدالة على المذهب المختار هي من قبيل العمومات وهي على قسمين خاصة في أهل الصلاة، وعامة فيهم وفي غيرهم من العصاة.
فالأول: نحو قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار إلى قوله فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير}. وقوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلى قوله ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً}. وقوله تعالى في آخر آية المواريث المختصة بالمؤمنين: {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده ندخله ناراً خالداً فيها}.
والثاني: وهو ما ورد عاماً لأهل الصلاة وغيرهم نحو قوله تعالى: {من يعمل سواء يجز به}، {ومن يعمل مثال ذرة شراً يره}، {ومن يقتل مؤمناً متعمداً.. } الآية.
قوله: {وكذلك الكافر فكان يلزم بطلان فائدتها}.
يعني: أن الكافر لم يتعد جميع حدود الله والحاصل أن أحداً من المكلفين لا يمكنه تعدي جميع الحدود سواء كان كافراً أو فاسقاً إذ فيها ما لا يمكن الجمع بينه للتنافي والتضاد إلا ترى أنه لا يمكن الجمع بين اليهودية والنصرانيه.
قوله: (على أن سياق الآية في فساق أهل الصلاة وذلك لما سبق من ورودها في آخر ذكر المواريث المختصة بالمؤمنين، وأيضاً فالأمة مجمعة على أن أهل الصلاة مزجورون بهذه الآية عن تعدي حدود المواريث ولو حملت على تعدي جميع الحدود لامتنع تناولها لهم.
قوله: (قال تعالى: {إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن).
أورده أستظهاراً على أن الآية واردة في فساق أهل الصلاة وأن سياقها فيهم وهو وهم فإن الآية المحتج بها في سورة النساء الكبرى آخر آية المواريث قال تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين..} الآية. ثم قال: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد..} الآية. ثم قال: {تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله..} الآية. ثم قال: {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده..} الآية. المحتج بها، وأما الذي يعد أنه سورة النساء الصغرى وذكر الطلاق فهو قوله تعالى: {وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه}. وكان الصواب أن يقول إن سياق الآية في أهل الصلاة لأنها بعد ذكر المواريث المشروعة فيما بينهم التي خوطبوا بها وسبب وهم المصنف أن السيد ذكر في الشرح حال خوضه في هذا المعنى مالفظه الذي ذكرتموه باطل لأنه تعالى قال: {يأيها النبي إذا طلقتم النساء..} الآية. إلى قوله: {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه}. ومن طلق امرأته لغير العدة وأخرجها من بيتها لا يكون متعدياً لجميع الحدود فذكرها للأحتجاج على عدم عموم الحدود والمصنف جاء بعبارة أخرى توهم أنها أول الآية المحتج بها فانضرب كلامه.
قوله: (عموم أول الآية لا يمنع من خصوص آخرها}.
كان الأولى أن يقول: خصوص آخر الآية المنع من عموم أولها وتحقيقه أنه لا يجب إذا كان آخر الآية وهو أنه وهو قوله: {حتى إذا رأوا ما يوعدون..} إلخ. محمولاً على الكفار وخاصاً بهم أن يخص أول الآية بهم بل يجب ترك أولها على عمومه وحمل آخرها على ما يصح حمله عليه هكذا قدره الرازي في النهاية.
قوله: (قالوا: المراد أنه يستحق جهنم بحقيقة).
أن الآية تدل على أن جزاء القاتل ذلك ولا تدل على أن يجازى بذلك ويوصل جزاؤه إليه وهو سؤال حسن، ثم إن المصنف ضم إليه أعتراضاً آخر وهو تجويز أن التقدير فجزاؤه إن جازاه، ووجه الأجوبة إلى هذا الطرف الآخير.
ثم لمح إلى جواب الطرف الأول بقوله: (وبعد فالجزاء مصدر جازى يجازي.. إلخ، الكلام عن عدم أنتظام وتحقيق الجواب عن الطرف الأول من وجهين ذكرهما في النهاية وأجاد فيهما:
أحدهما: أن تقدير قوله: {فجزاؤه جهنم}. أي من قتل مؤمناً جوزي بجهنم، ولذلك صح أن يعطف عليه قوله: {وغضب الله عليه ولعنه}. لأن عطف الفعل إنما يصح على الفعل دون الأسم.
وثانيهما: قوله تعالى: {من يعمل سواء يجز به}. دل ذلك على إيصال الجزاء إلى المستحق.
وأما الطرف الثاني، فجوابه: ما ذكره المصنف وحاصله أنه لا دليل على تقدير ذلك الشرط وما لا دليل عليه لا يجوز إثباته.
قوله: (يمنع من تقدير هذا الشرط).
يعني: لأن قوله: {وعضب الله عليه ولعنه}. فعلان ماضيان فلا يصح تعليقهما بالشرط لأنه يقضي بالأستقبال وفيه نظر لأن الفعل الماضي إذا وقع بعد الشرط أو جزاءً له عاد إلى معنى الأستقبال فالتقدير ومن يقتل مؤمناً متعمداً يغضب الله عليه ويلعنه ويعد له عذاباً عظيماً. وإذا قدر في قوله: {فجزاؤه}. شرط وتقديره إن جازاه فهو لا يمنع عن صحة عطف ما بعده على ما قبله والخصم يقول: أجير الله أن القاتل عمداً عدواناً جزاؤه جهنم إن لم يعف عنه ويغضب عليه ويلعنه ويعد له مع عدم العفو عذاباً عظيماً.
قوله: (وبعد فقوله: وغضب الله عليه ولعنه وأعد له جهنم).
هذا غلط في التلاوة والآية: {وأعد له عذاباً عظيماً}.
قوله: (مصدر جازى يجازي صوابه جزى يجزي لأن مصدر جازى يجازي المجازاة هذا بأعتبار اللفظ وأما المعنى فهو ........
قوله: (فلا يصح تقديره بالاستحقاق يقال: لم يسبق ذكر أن الخصم قدر الجزاء بالاستحقاق).
وجوابه: أن المصنف وإن لم يذكر ذلك في السؤال فقد ذكره غيره.
قال في الشرح: فإن قيل ليس في الآية إلا الجزاء وهو الاستحقاق لأن تقدير الآية فجزاؤه إن جازاه جهنم ونحن لا ننكر الاستحقاق.
وقوله: (وبعد فالاستحقاق أسم..) إلخ.
يقال: والجزاء أيضاً أسم لأن الاستحقاق مصدر إستحق يستحق، والجزاء مصدر جزا مجزي فلا فرق بينهما في الوجه المذكور وهو لزوم عطف الفعل على الأسم.
وأجبت: بأنهم إذا حملوا الجزاء على الأستحقاق كان المعنى فهو مستحق ولفظة مستحق ليست مصدراً ولا أسماً للفعل ونحن نقول معناه جازاه الله أو جوزي بجهنم فصح عطف الفعل عليه هكذا قيل ولا يخفى ما فيه من التكلف.
قوله: (ومنها قوله: {إن المجرمين في ضلال وسعر} إلى قوله: وأما قوله في آخره: {أم يحسبون أنا..} الآية. وهِمَ المصنف رحمه الله وكأنه قصد إلى الأحتجاج بقوله تعالى: {إن المجرمين في جهنم خالدون}. كما هي كذلك في الشرح فسبق القلم إلى قوله تعالى: {في ضلال وسعر} وهو أنه أجزي ليس أجرها ما ذكره.
ووجه الاحتجاج بالآية: أن الله سبحانه وتعالى أخبر أن المجرمين في عذاب جهنم ولا شك أن الفاسق مجرم فيجب أن يدخل النار ويخلد فيها.
قوله: (وأما قوله في آخرها..) إلخ.
أحتراز عن سؤال مقدر وهو إن ما بعدها يقتضي كونها واردة في الكفار لأنه تعالى قال: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم}. وهذا لا يتصور إلا في حق الكفار.
وتقرير الجواب: أن الآية التي أستدللنا بها قد تمت فائدتها وأستقلت بنفسها فلا يجب إذاً تخصص ما بعدها إن تكون مخصصة مع أن لفظها لفظ عموم فيجب حمله على ظاهره إلا لمانع ولا مانع هاهنا.
قيل (ي): ويجاب بأنه ليس في آخرها ما يدل على الأختصاص بالكفار لكن التناجي بينهم والسر قد يكون بالكفر كالمنافقين ونحوهم، وقد يكون بين أهل الفسق بفسوقهم.
قلت: وهو صحيح بالنظر إلى ما ذكره لكن من جعله خاصاً بالكفار بنى على أن قوله: {أم يحسبون أنا لا نسمع}. أستفهام تقرير لحسابهم ولا يحسب أن الله لا يسمع إلا الكفار لأن كل مؤمن يعتقد أن الله يسمع كل سر ونجوى وقد أعترضت دلالة هذه الآية باعتراض آخر وهو أنها لو حملت على ظاهرها فهو يقتضي أن المجرمين الآن في جهنم وأجاب في العمدة بأنه وإن أفاد ظاهرها ما ذكره السائل إلا أنا نحمله على المستقبل لعلمنا أنه لا يصح أن يحمل على ظاهرها.
قوله: (وقوله: {بلى من كسب سيئة..} الآية. تمامه: {وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.
ووجه الاستدلال بذلك: إنا قد علمنا أن الفاسق قد أحات به خطيئته بمعنى أنها قد أحبطت ثوابه لأن ثوابه لو كان باقياً لما صح ذلك ولولا أحاطتها بثوابه لما صح لعنه ولا ذمه كما لا يحسن ذلك في حق صاحب الصغيرة هكذا قرره في العمدة، وقد أورد على الأستدلال بهذه الآية سؤال وهو: أن الآية واردة في اليهود لأنه تعالى حكى عنهم قولهم: {لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة}. ثم عقب ذلك بهذه الآية، وإذا كانت فيهم لم يصح الأستدلال بها في حق الفساق.
وأجاب الفقيه حميد: بأنها وإن وردت فيهم فلا يجب قصرها عليهم لأن الخطاب الوارد على سبب لا يجب قصره عليه إلا أن تتناولة لفظة السبب فقط، وأما إذا كان عاماً فإنه يستقل بنفسه فيجب حمله على عمومه لأن الحجة نفس الخطاب دون السبب.
ودليله: أنه يصح أن يستثني منه غير السبب وأورد عليها أيضاً أن الأحاطة لا تصح إلا في الأجسام فتكون من قبيل المجاز ولا يصح التمسك بما هذه حال.
وأجبت: بأن ذلك يقتضي ألا تصح دلالتها على خلود اليهود في النار ولا شك أنها مفيدة له فإذا تناولتهم وجب تناولها لغيرهم والمجاز يصح الاستدلال به متى علم المراد منه والمراد بأحاطة خطيئته أن كبيرته التي جاء بها أبطلت ثوابه فصارت كالمحبطة به.
قوله: ({وإن الفجار لفي جحيم}).
قائمة في هذه الآية وفيما يليها من قوله: {يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين}. فأخبر تعالى أن الفجار في الجحيم وأنهم يصلونها ولا يغيبون عنها والآية عامة للفاسق مع الكافر إذ لا خلاف في أن الفاسق فاجر ومن عجائب ما أطلعنا عليه من الأوهام أن الفقيه حميد بن أحمد رحمه الله مع كماله وفضله وسعة فهمه وعلمه وحلمه أورد بعد الاستدلال بهذه الآية سؤالاً وهو: فإن قيل: ما أنكرتم أن المراد بها الكفار لأن ما بعدها بني عن ذلك وهو قوله تعالى: {ويل يومئذ للمكذبين}. ثم أجاب عنه بجواب أطال الكلام فيه وفرعه وخرج منه إلى فوائد تتعلق بأن خصوص آخر الكلام لا تنقض عموم أوله وليس بعد الآية التي ذكر المحتج بها شيء مما ذكره وإنما وهم فظن أن الكلام في أية سورة المطففين وهي قوله تعالى: {كلا إن كتاب الفجار لفي سجين}. فسبحان من لا تعتريه الأوهام ولا تحيط بكنة جلاله الأفهام.
قوله: (وقوله: {ومن يظلم منكم نذقه عذاباً} تمام الآية: {كبيراً}.
قال جار الله: فالعذاب الكبير لاحق بكل من ظلم والكافر ظالم لقوله تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم}. والفاسق ظالم لقوله: {ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون}.
قوله: (وأشباهها).
يعني: أشباه الآيات المتقدمة الواردة في الوعيد كقوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً}، {إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى}، {وقد خاب من حمل ظلماً}، {وأما من طغى وأثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى}، {ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ونذر الظالمين فيها جثياً}، {ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}، {يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار}، إلى قوله: {فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير}، {ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً}، {ومن يفعل ذلك يلق أثاماً نضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا}، وغير ما ذكر من آيات الوعيد التي يطول لها التعديد.
قوله: (ومنها قوله: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه} هذه الآية ليست من عمومات الوعيد ولا دلالة فيها صريحة على أن الفاسق يعذب لكن دلالتها من حيث أن الله سبحانه شرط في تككفير المعاصي وإذهاب حكمها وهو استحقاق العذاب وإيصاله أجتناب الكبائر فإذا لم يحصل الشرط لم يحصل المشروط فيدل على أن ما تذهب إليه المرجئة من تكفيرها مع أرتكاب الكبائر واسقاط العقاب عن الفاسق غير صحيح.
قوله: (ومنها قوله: {فخلف من بعدهم خلف..} إلى أخره.
هذه الآية أيضاً ليست من عمومات الوعيد والأحتجاج بها من وجه آخر وهو أن الله سبحانه وتعالى أنكر على هؤلاء الخلف الخالفين المذكورين أولاً من اليهود وهم من في زمن رسول الله أدعاؤهم أنه يغفر لهم مع كونهم غير تائبين وهم الذين ورثوا الكتاب وهو التوراة بقيت في أيديهم بعد سلفهم ولا يعملون بها {يأخذون عرض هذا الأدنى}، أي: حطام الدنيا وما يتمتع به منها والمراد ما كانوا يأخذونه من ...... في الأحكام وعلى تحريف الكلم لتسهيل التكليف على العامة {ويقولون سيغفر لنا}، أي: لا يؤاخذنا الله مما أخذنا {وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه}، أي: يرجون المغفرة وهم مصرون عائدون إلى مثل فعلهم غير تائبين وغفران الذنوب لا يصح إلا بالتوبة والمصر لا غفران له {ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا تقولوا على الله إلا الحق}، يعني: وهو أنه لا يغفر إلا للتائب وميثاق الكتاب قوله في التوراة من أرتكب ذنباً عظيماً فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة، ولا يخفى عليك بعد فهم تفسير الآية وفهم من أنزلت فيه ضعف الاحتجاج بها على ما نحن بصدده.
تنبيه:
أعتمد أصحابنا رحمهم الله في الاستدلال بهذه الآيات الكريمة الدالة على إيصال العقاب إلى الفساق على طريقة واحدة وهي من حيث عمومها وشمولها لكل عاص فاسق بدليل ما سبق من أن للعموم ألفاظاً تفيده وتقتضيه وذكر الرازي في النهاية وتابعه الإمام يحيى في التمهيد، والإمام المهدي في الغايات: أنها تدل بطريقة أخرى وتوجيه آخر وهو من حيث ...... ودلالته، وذلك على وجهين:ـ
أحدهما: أن ترتيب الحكم على الوصف المشتق بسعر يكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم فقوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها}. يفيد أن كونه قاتلاً على سبيل العمدية علة الأحكام المذكورة.
وثانيها: أن الوصف إنما يكون علة للحكم إذا كان مناسباً له والمناسبة حاصلة هاهنا لأن هذه الآيات خرجت مخرج الزجر عن مواقعة المعاصي فوجب ترتيب هذه الأحكام كلها على هذه المعاصي أينما وجدت وأيضاً ذكر الرازي والإمام يحيى عليه السلام: أن في الاستدلال بهذه الآيات مقاماً آخر يؤذن ببطلان كلام المرجئة وهو الاستدلال بالآيات الكريمة ومصحوبة بقرينة الأجماع وتوجيهه أن يقال: أجمعت الأمة على أن العصاة مزجورون بهذه الآيات المصرحة بالوعيد فسواء قلنا بأن صيغة من ونحوه موضوعة للعموم أو مشتركة أو موضوعة للخصوص فإنه يجب حملها في هذه الآيات على العموم وإلا لزم القول بأن العصاة غير مزجورين بهذه الآيات وذلك خلاف الإجماع.
قوله: (وأما السنة فالأخبار مشحونة بالوعيد العظيم على من شرب وزنا واغتاب وقتل النفس، أشار إلى نحو قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن)). وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومبتاعها وحاملها والمحمولة إليه)). وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((إذا فعلت أمتى خمس عشرة خصلة فقد حل بها البلاء)). ثم ذكر منها شرب الخمور. وقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((من شرب الخمر فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً فإن مات دخل النار فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد فشرب فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً فإن مات دخل النار)). إلى أن قال في الرابعة: ((فإن عاد في الرابعة كان حقاً على الله أن يسقيه من طنبة الخبال يوم القيامة)). وهي عصارة أهل النار ونحو ذلك مما يطول شرحه، وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم في الزناء وغيره: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)). وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((إن الزناة تشتعل وجوههم ناراً)). وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((الزاني لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه ويقول أدخل النار مع الداخلين)). وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((إياكم والزنا فإن فيه سوء الححساب وسخط الرحمان والخلود في النار)). وعنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((إذا ظهر الزناء والرباء في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله)). وغير ذلك، وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم في المغتاب: ((من قال في مسلم ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال)). رواه ابن عمر، وقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((من ذكر أمراً بشيء ليس فيه ليعيبه به حبسه الله تعالى في نار جهنم حتى يأتي بنفاذه)). رواه أبو الدرداء.
قلت: وتعليق حبسه في النار بما علق به مشعر بأنه لا أمد له لأن أثباته بنفاذه........ وكذلك ما سبق في الحديث الأول وغير هذا وغيره مما ورد في الغيبة بحيث لو أستقصي لملأ أوراقاً كثيرة. وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم في قاتل النفس: ((لو أن أهل السماء وأهل الأرض أشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار)). وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((من قتل مؤمناً فاغتبط بقتله لم يقبل الله منه صدقاً ولا عدلاً)). وغير ذلك وغيره مما يطول ذكره يعيي سطره.
قوله: (وأشباه ذلك).
يعني: مما يعود إلى الوعيد الشديد على أنواع من الماصي كقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((من تردى من جبل فهو يتردى من جبل في نار جهم خالداً مخلداً ومن تحسى سماً فهو يتحساه سماً في نار جهنم خالداً مخلداً)). والوارد من الأحاديث النبوية في الوعيد على أنواع المعاصي أكثر من أن يحصر وأجل من أن يذكر في ضمن غيره ويسطر فإنه يجاوز المجلد والمجلدين والثلاثة ومن أحب مطالعة كثير منه فعليه بالكتاب الجليل الذي ليس له في شبه منه ولا عديل الموسوم بكتاب الترغيب والترهيب للحافظ العالم المحدث عبدالعظيم المنذري رحمه الله فإنه جمع من عمومات الوعد والوعيد وزبد الأطماع والتشديد ما لم يجتمع في غيره من كتب الأولين والأخرين فهو في أسفار الأخبار واسطة العقد الثمين.
تنبيه:
مما ذكره الرازي في نهايته من أدلة أصحابنا وتابعه فيه الإمام يحيى في التمهيد من طريقه مركبة من العقل والسمع وتحريرها أن الفاسق يستحق العقوبة لفسقه بما تقدم من الأدلة فلو عفى الله عنه لكان لا يخلو إما ألا يدخل ولا الجنة أو يدخل النار أو الجنة والأول باطل لأنهم إما أن يموتوا أو يكونوا أحياء في مواضع أخر سوى الجنة والنار وكلاهما باطلان بالأجماع، وإما إن أدخلهم النار فإن عذبهم فيها فما عفى عنهم وإن لم يعذبهم فيها فذلك باطل بالأجماع وأما إن أدخلهم الجنة وإما أن يتفضل عليهم أو يثيبهم والأول باطل لأن الأمة مجمعة على أن حال المكلفين في الجنة متميزة عن حال الأطفال والمجانين وليس ذلك إلا بالتعظيم والتفضل بالتعظيم فبيح والأقبح التكليف، والثاني أيضاً باطل لأنا قد بينا أن استحقاق العقاب واستحقاق الثواب لا يحتمعان بل حصول استحقاق العقاب أحبط استحقاق الثواب وإذا كان القول بالعفو مؤدياً إلى هذه الأقسام الباطلة كان باطلاً وقد ذكر المهدي عليه السلام قسماً آخر في هذا التقسيم وهو أن يدخل بعد العفو عنه النار مدة والجنة مدة بظلمه بأنه يتفرع على ثبوت الاستحقاقين وأجتماعهما في شخص واحد وذلك محال لما تقدم ولتأديته إلى ...... العقاب بروح وهو معرفة إنقطاعه وذلك ممتنع. وذكر الرازي وجهاً آخر ما هو مركب وتحريره: أن إسقاط الله للعقاب والعفو عنه إما أن يكون قبل المعصية أو حال حصولها أو بعد حصولها لا يجوز أن يكون واقعاً بعدها لأنا قد علمنا أنه لا أحد من المكلفين إلا ومتى سرق استحق القطع على سبيل العقوبة والنكال وذلك يدل على أن العفو لم يحصل إذ لو حصل لما جاز التنكيل.
قلت: وهذه الطريقة على وجهتها المذكورين أعتماد أصحابنا عليها قليل وحدها عن القطع في محل النزاع كليل.
أما الوجه الأول: فهو مبني على ما ذكر من الأجماع وهو غير متحقق ولا معلوم.
وأما الوجه الثاني: فليس فيه إلا أن العفو لم يحصل وقت إقامة الحد على السارق ونحوه فمن أين أنه لا يحصل من بعد وما المانع من أن يستحق السارق ونحوه عقاباً عظيماً على كبيرته التي أرتكبها فيأمر الله بأن يوصل إليه جزء يسير من تلك العقوبة عاجلاً وهو الحد ويعفو عن بقية ما يستحقه من أجزاء العقاب.
واعترض الرازي الوجه الأول بأنا نقول: يدخل الجنة تفضلاً فلم لا يجوز ذلك فإنا لا نسلم قبح التفضل بالتعظيم ولو ساعدنا على ذلك فلا نسلم إنعقاد الأجماع على أن المكلفين يجب أن يتميز حالهم في الجنة عن حال أهل التفضل.
واعترض الوجه الثاني: بأنه لم لا يجوز أن يقول الله للعاصي أسقطت عنك عقوبة ما تفعله بعد ذلك من المعاصي فيكون دافعاً لاستحقاق العقوبة على تلك المعاصي ثم إن سلم ذلك لم لا يجوز أن يسقط بعد حصول المعصية فلا نسلم أنه يحد على سبيل التنكيل لأن الحد يقام على التائب وأدعى بعضهم إجماع العلماء على أن إقامة الحد على التائب والمصر واقعة على وجه واحد لا يختلف.
قالوا: الآية دالة على أن يقام نكالاً في حق كل منهما فإذا لم تدل إقامته في حق التائب على استحقاق العقاب فكذلك المصر.
وقال الرازي: لا نسلم الاجماع على أنه يقام على المصر على وجه النكال فإن المرجئة بأسرهم يخالفون في ذلك ويدعون أنه يقام لا على وجه النكار وقد بالغ الإمام المهدي عليه السلام في الرد عليه فيما ذكره، وقال: المعلوم من دين الأمة أنهم كانوا يستخفون بأهل الكبائر وأن عمر كان يقيم الحد على وحشي لشربه المسكر على وجه الأهانة وإن علياً عليه السلام حين خلد الوليد بن عقبة ضرب به الأرض إهانة له، قال: وأنكار الرازي لاقامة الحدود على غير التائبين على وجه النكال والخزي بهت يتضمن تكذيب صريح القرآن حيث قال: {نكالاً من الله}. وحيث قال: {لهم خزي في الدنيا}. وأما إقامته على التائب فليس كذلك والتفرقة بينهما معلومة من حاله صلى اللّه عليه وآله وسلم فإنه خير حد المعامرية صلى اللّه عليه وآله وسلم وأثنى عليها خيراً ولم يعل كفعله في حد البخليين الذين أسلموا ثم استاقوا الأبل وقتلوا الراعي فأمر صلى اللّه عليه وآله وسلم بسمل أعينهم وقططع أيديهم وأرجلهم من خلاف وبلا تعد ذلك {إنما جزاء الذين يحاربون الله}. وكان كان من الصحابة في شأن من يوتى في دبره حتى قيل يحرق أو يهدم عليه حدار أو يرمى به من أعلى جدار ثم يهدم عليه، ثم قال عليه السلام: هيهات لا ننكر أفتراق الحالين........... الدين قليل اليقين.
قلت: إنما منع الرازي من قبح تعظيم من لا يستحق التعظيم لوجهين:ـ
أحدهما: بناؤه على عدم التقبيح والتحسين العقليين وذلك غير مسلم له.
الثاني: دعواه أنه إنما قبح في الشاهد لما فيه من الضرر المظنون وهو تأديته إلى أن الإنسان يزهد في طلب صفات الكمال التي تعظم لاجلها وذلك يؤدي إلى أختلاط نظام العالم لأنه حينئذ لا يكون البعض أولى بالرئاسة من البعض وذلك يوجب عود الضرر على فاعل التعظيم فقبح منه لأجل ذلك أن يتفضل بالتعظيم والباري سبحانه وتعالى لا يخاف ضرراً فلا يقبح منه الأبتداء بالتعظيم.
قال الإمام المهدي عليه السلام: لعمري أن دعواه هذه باطلة وإخباره بما ذكر كذب كما قال بعض أصحاب المجبرة فيه أنه لا يبعد أن يكون كذباً.
يعني: أن أحدنا لا يجد من نفسه أنه يمنع من ذلك لخشية الضرر المذكور.
قال: فاللائق أن يقال: إنه سبحانه قادر على أن يجعل الواحد منا على صفة كمال يستحق لاجلها التعظيم من غير تكليف فلا يعلل حسن التكليف بالتعريض لدرجة التعظيم.
قال عليه السلام: وهذا أضعف فإن أحدنا لا يستحق المدح والتعظيم على شيء خلق فيه غير واقف على أختياره.
قوله: (ويقال للخصوم لو جاز أن يتوقف في عمومات الوعيد..) إلخ.
أي: يقال للقائلين بالوقف من المخالفين وهذا أوردة المصنف على صفة الأحتراز، والجواب عن سؤال يورد بعد ذكر آيات الوعيد وعموماته وتحريره أن يقال: كما دلت الأدلة على أن الفاسق من أهل العقوبة فقد دلت على أنه من أهل المثوبة فآيات الوعيد معارضة بآيات الوعد فليس بأن يدخل المصر تحت الآيات الدالة على استحقاقه للعقوبة بأولى من أن يدخل تحت الآيات الدالة على استحقاقه للآثابة لعدم إمكان الترجيح وفي الحديث عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((المؤمن وقاف عند الشبهات)). فيجب الوقف وفي ذلك بطلان القطع على كونهم من أهل العذاب وهذا متمسك القائلين بالوقف في شأن آيات الوعد والوعيد وعدم القطع بدخول الفاسق في هذه أو في هذه وقد عرفت مما تقدم أن أصحابنا رجحوا آيات الوعيد وقطعوا بدخول الفاسق فيها وحملوا آيات الوعد على ما توافقها وإن من المرجئة فرقة رجحت آيات الوعد وجعلتها مخصصة لعمومات الوعيد فهذه ثلاث فرق باعتبار ترجيح آيات الوعيد وترجيح آيات الوعد والتوقف وقد أنطوى السؤال على ذكر متمسك أهل الوقف ونحن نذكر متمسك مرجحي آيات الوعد ثم نأتي بعد ذلك بما هو جواب عنه وبالمقتضى لترجيح آيات الوعيد فاعلم أن آيات الوعد كثيرة وهي أنواع منها ما ورد مورد آيات الوعيد بأن يتضمن الوعد على الطاعات بالثواب ودخول الجنة والتخليد فيها كقوله تعالى: {ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الآنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم}، {إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون}، {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً}. وغير ذلك مما يطول شرحه وقد ورد من الأخبار ما يردف ويعضد معناه في الترغيب العظيم على أنواع من الطاعات نحو قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((من قال مثل ما قال هذا يعني المؤذن يقيناً دخل الجنة ومن بنى لله مسجداً قدر مفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة من أخرج أذى من
المسجد بنى الله له بيتاً في الجنة)). وكقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم من قال له أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الصلوات الخمس وأديت الزكاة وصمت رمضان وقمته فممن أنا؟. قال: ((من الصديقين والشهداء)). ومن المعلوم أن كثيراً من الفساق يفعلون جميع ما ذكر. وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((خمس من جاء بهن مع إيمان دخل الجنة من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن وصام رمضان وحج البيت إن إستطاع إليه سبيلاً وأعطى الزكاة طيبة بها نفسه وأدى الأمانة قيل وما أداء الأمانة؟ قال غسل الجنابة إن الله لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها)). وغير ذلك مما ورد عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم في هذا المعنى مما لا ينحصر ولا يقال أن الفاسق غير متق ولا مؤمن ولا عامل لصالح لأن الآيات الكريمة تصدق على من أطاع طاعة واحدة أو أتقى مرة واحدة والإيمان بالله التصديق به وتوحيده ومعلوم أن من الفساق من له طاعات واسعة ومراقبة لله وتقوى متكررة وإيمان صحيح وعقيدة صالحة.
ومنها: ما يتضمن الوعد بغفران الذنوب نحو: {قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً}، {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}، {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم}. ومن هذا القبيل ما ورد من الأخبار التي ليس لها حصر كقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((إن لله ملكاً ينادي عند كل صلاة يا بني آدم قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها فأطفئوها)). رواه أنس، وروى مثله ابن مسعود قال: ((يبعث منادٍ عند حضرة كل صلاة فيقول يا بني آدم قوموا فأطفئوا ما أوقدتم على أنفسكم فيقومون فيتطهرون ويصون الظهر فيغفر لهم ما بينهما فإذا حضرت العصر فمثل ذلك فإذا حضرت المغرب فمثل ذلك إذا حضرت العتمة فمثل ذلك فينامون فمدلح في خير ومدلح في شر)). وعن أبي مسلم البغلي قال: دخلت على أبي أمامة وهو في المسجد فقلت يا أبا أمامة إن رجلاً حدثني عنك أنك سمعت رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: ((من توضأ فأسبغ الوضوء ثم غسل يديه ووجهه ومسح على رأسه وأذنيه ثم قام إلى صلاة مفروضة غفر الله له في ذلك اليوم ما مشت إليه رجلاه وقبضت عليه يداه وسمعت إليه إذناه ونظرت إليه عيناه وحدث به نفسه من سوء)). فقال أبو أمامة: والله لقد سمعته من النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم مراراً، وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((إذا قال العبد لا إله إلا الله أهتز عموم من تخوم الأرض إلى العرش فيقول الله تعالى أسكن. فيقول: لا أسكن حتى يغفر لقائلها فيقول سبحانه فإني قد غفرت ذلك إن لا إله إلا الله تغفر معه كل ذنب كبير أو صغير)). وفي البخاري ومسلم والترمذي عن أبي ذر عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: ((أتاني جبريل فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله دخل الجنة قلنا: وإن زنا وإن سرق، قال صلى اللّه عليه وآله وسلم وإن زنا وإن سرق)). وفي رواية قال في الرابعة: ((على رغم أنف أبي ذر)). وفي بعض الترغيبات
الواردة في بعض الطاعات: ((غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل رمل عالج)). وفي بعضها: ((وإن كانت كالجبال)). وفي بعضها: ((وإن كانت مثل زبد البحر)). وظاهرها يقضي بالغفران من غير توبة ولا يمكن أستقصاء ما ورد من هذا القبيل، ومنها قوله تعالى: {ومن يؤمن بالله يهد قلبه ولن يجعل الله للكفرين على المؤمنين سبيلاً}. وقوله: {حسبك الله ومن أتبعك من المؤمنين}. ونحو ذلك من الآيات المقتضية بظاهرها أن الإيمان هو سبب السلامة من العقاب فلا يحتاج معه غيره هكذا.
قيل (مهدي): وليس بالواضح إذا عرفت هذا فاعلم أن حاصل ما أحتج به المرجحون لآيات الوعد و..... الجاعلون لآيات الوعيد متناولة للكفار فقط ثلاثة وجوه:ـ
أحدها: أن آيات الوعد المتناولة للفساق أكثر من آيات الوعيد والتمسك بها أرجح لأن العمل بموجبها كرم والعمل بموجب آيات الوعيد خلافه والترجيح بالكرم في حق أكرم الأكرمين راجح.
وثانيها: أن الفاسق قد أطاع الله بأحب الطاعات إليه وهو التوحيد وتجنب أبغض المعاصي إليه وهو الشرك ومن المعلوم أن مالك العبد إذا كان عبده فاعلاً لأحب الأعمال إليه وتاركاً لأبغضها عنده من حقه أن يتجاوز عنه ما بينهما وإلا كان لئيماً بعيداً عن التكر.
وثالثها: أنه تعالى قد أخر إخباراً صريحاً بأنه لا يغفر الشرك إلا بالتوبة وأنه يغفر ما دونه، والمعنى من دون توبة كما سيأتي تقريره فكان ذلك مخصصاً لعمومات الوعيد وطريقاً إلى القطع بأنهم غير داخلين فيها وأنها إنما وردت في الكفار وفي حق من لم يعف عنه ومن عفي عنه فخارج من عمومها كالتائب.
والجواب: على الوجهين الأولين:ـ
أما أولاً: فأنا لا نسلم أن العفو والعمل بموجب آيات الوعد فقط كرم لكن ليس كونه كرماً يقتضي بمجرده خروجهم من آيات الوعيد فمن الكرم أن يعفو عن المشركين وليس كلما كان كرماً أقتضى أن يقع من جهته ويرجح وقوعه لا لدليل غير كونه كرماً إذن لاقتضى ذلك أن يبتدي بخلقنا في الجنة وأن يزيدنا من الأرزاق أضعاف ما نحن عليه.
وأما الثاني: فمهما كانت المعصية محبطة لأعماله السابقة حسن عقابه فلم يمنع الطاعة المتقدمة من حسن عقابه وإن عظم قدرها مهما صارت محبطة بالمعصية ولا يلزم من كونها أحب الطاعات إليه إلا تحبطها إلا ....... المعاصي إليه بل ما زاد عقابه على ثوابها وكذلك العبد إذا عصى سيده وأساء إليه إساءة يزيد قدرها وموقعها على طاعته وخدمته له فإنه يحسن منه تأديبه وإن كان غير تلك المعصية أفحش منها وحاصله أن المعتبر به زيادة قدر العقاب على قدر الثواب ولا أعتبار بغير ذلك.
والجواب عن الوجه الثالث: يأتي إن شاء الله تعالى في فصل السنة عند ذكر أحتجاجهم بتلك الآية الكريمة وأستيفاء الكلام عليها سؤالاً وجواباً.
قال الإمام المهدي عليه السلام: نحن نجيب عن العمومات التي أوردوها بحرف واحد وهو قوله تعالى: {فأي الفريقين أحق بالأمن}. ثم قال مجيباً للسؤال: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم}. فما جعل الإيمان وحده كافياً في حصول الأمن من العقاب بل شرط ألا يكون معه ظلم فإن كان معه ظلم فلا أمن وهذا صريح في نقص ما أدعوه، قال فأما ما يرويه بعض المجبرة من أن الصحابة لما شقت عليهم هذه الآية قالوا له صلى اللّه عليه وآله وسلم: ما معنى إلا من يلبس إيمانه بظلم لنفسه؟ فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((إنما أريد بالظلم الكفر)). فهذه الرواية لا تليق بمن له أدنى معرفة الأصغاء إليها وكيف يستقيم هذا التفسير وقد حكم بالإيمان حيث قال: {الذين آمنوا ولم يلبسوا} ذلك الإيمان بظلم ولا يستقيم أن يقول: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بكفر، وهل للإيمان بقاء مع الكفر حتى يكون ملبسا به وهما كالضدين اللذين لا يصح اجتماعهما وإنما هي نظير قوله: {الذين آمنوا وعملوا الصالحات}. فأكثر الأيمان في القرآن مقرون بهذا الشرط وهو عمل الصالحات.
قلت: أما إذا جعل الإيمان التصديق لا يمنع أشتراط ألا يلبس بكفر ألا ترى أن كثيراً من علماء الإسلام وجهابذته رموا بالكفر واعتقد فيهم عدم سلامتهم من لبس إيمانه بهم ولا مانع من الجمع بين التصديق بالله وكتبه ورسله وما جاؤا به وبين خصلة كفرية من استحلال محرم أو عقيدة تقتضي الكفر أو نحو ذلك، قال عليه السلام: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها)). وقوله: ((بني الإسلام على خمسة أركان..)). الخبر. فجعل الصلاة والزكاة والصوم والحج شرطاً في كمال الإسلام ونظائر ذلك كثيرة وكافيك بالوعيد الذي ورد في حق الفساق خاصة فالمخالف في هذا لا يبعد مخالفته لما علم من دين النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ضرورة. أنتهى.
وأما ما أحتج به أصحابنها على ترجيح آيات الوعيد فوجوه:ـ
أحدها: أنه ورد الشرع بجواز لعن الفاسق والاستخفاف به وإقامة الحدود عليه على وجه الخزي والنكال كما قال تعالى في المحارب بعد ذكر حده: {ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم}. وقال تعالى في القاذف: {لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم}. وقال: {السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله}. وإذا ثبت استحقاقهم العذاب واللعن في الدنيا والآخرة وللخزي والنكال في الدنيا لزم ألا يكونوا مستحقين للثواب لما سبق من أن الأستحقاقين لا يجتمعان فكان أدخالهم تحت عمومات الوعيد أولى.
الوجه الثاني: أن حمل الوعد على الوعيد وترجيح الوعيد فيه زجر عن المعاصي وترهيب للمكلفين عنها وإذا عكس أو قيل بالوقف كان فيه أغراء بالمعاصي وترغيب للمكلفين فيها والحمل على ما فيه المصلحة ودفع المفسدة هو الأولى بكلام العدل الحكيم.
الوجه الثالث: أن عمومات الوعيد دلالتها قطعية وعمومات الوعد ليست كذلك بيانه أنها على ضربين منطوقات ومفهومات:ـ
أما الأول: فكقوله تعالى: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً}، وكقوله تعالى: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم}. وكقوله تعالى: {ويعفوا عن كثير}، وكقوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}.
وأما الثاني: فكقوله تعالى: {إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى}، وقوله تعالى: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها إلم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا}، وقوله: {لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى}، وقوله تعالى: {وهل يجازي إلا الكفور}، وقوله تعالى: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين أسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم}، وقوله تعالى: {وجوه يؤمئذ مسفرة}، ثم قال: {ووجوه يومئذ عليها غبرة} إلى قوله: {أولئك هم الكفرة الفجرة}، وقوله: {والسابقون السابقون}، وقال: {وأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة}، ثم قال: {وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة}، ثم حكى عقائد هؤلاء بقوله تعالى: {أأذا متنا وكنا تراباً وعظاماً}. فمفهوم الآيات الثلاث الأول: أن الفاسق لا يدخل النار لأنه غير مكذب، ومفهوم الرابعة: أن غير الكفور لا يجازى والفاسق غير كفور، ومفهوم الخامسة أن الفاسق لا يسود وجهه فيبيض إذ لا واسطة بينهما، ومفهوم السادسة أن وجه الفاسق ليس عليه غبرة لأنه ليس من الكفرة الفجرة، ويلزم أن يكون من ذوي الوجوه المسفرة، ومفهوم السابعة أن الفاسق ليس من أصحاب المشئمة لأنه ممن لا يقول: {أأذا متنا وكنا تراباً وعظاماً إنا لمبعوثون أوآباءنا الأولون}، لأنه ممن لا ينكر البعث فيلزم أن يكون من أحد القسمين الأولين، إذا عرفت ذلك فالضرب الأول وهو المنطوقات ثلاثة:ـ
الأولى منه: وإن كانت عامة لجميع الذنوب فهي مجملة من حيث الغفران إذا يحتمل أنه بالتوبة وأنه بغيرها ويرجح الأول إن من جملة الذنوب الكفر ولا يغفر إلا بالتوبة أتفاقاً.
والآية الثانية: لا عموم فيها والمغفرة مجملة.
والآيتان الثالثة والرابعة: لاعموم فيهما وهما مجملتان من جهة الغفران ومن جهة المغفور له معاً.
وهذه الآيات أقوى أدلتهم وقد تبين بطلان عمومها وكونها مجملة بعضها من جهة وبعضها من جهتين.
وأما الضرب الثاني، وهو المفهومات:ـ
فالأيتان الأولتان: من قبيل مفهوم الصفة والجمهور على أنه ليس بحجة.
والآية الثالثة: لا مفهوم لها لأن ناراً تكره فيمكن أن يدخل الفاسق ناراً أخرى.
والآية الرابعة: من قبيل مفهوم الاستثناء إلا أن المجازاة غير مبنية ويحتمل أن يكون المعنى وهل يجازى ذلك الجزاء العظيم أو نحوه.
الآية الخامسة: لا يلزم منها ما ذكروه لأن قوله: {فأما الذين أسودت وجوههم أكفرتم}. إنما يعود إلى ذوي الوجوه المسودة، المراد بقوله: {وتسود وجوه}، وهي وجوه مخصوصة وليس ذلك بعام لكل الوجوه المسودة، وأيضاً فالآية لا تقتضي بانحصار الوجوه كلها في المبيضة والمسودة فلا يلزم إذا لم يسود وجه الفاسق أن يبيض، وهكذا يأتي الكلام على الآية السادسة.
وأما الآية السابعة: وهي آية الواقعة فكان يلزم منها ألا يدخل النار إلا من أنكر البعث، وهو خلاف الأجماع فإن كثيراً من الكفرة يقرون به ولو سلم ثبوت المفهوم في جميع هذه الآيات وأنه حجة فإنما هو من قبيل الحجج الطيبة ولا يبلغ شيء من المفهومات إلى درجة القطع والمسألة قطعية.
قلت: أما لو لم يرد من عمومات الوعد إلا ما ذكر وما في حكمه لكان هذا وجهاً حسناً لكنها فيها من الصرائح والمنطوقات الخالصة عن الأجمال ما هو واسع كثير كما أشرنا إليه فيما سبق ولذلك قال المهدي عليه السلام: دليل التوقف قوي لولا ورود قوله تعالى: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به}. فإن هذه الآية لا تحتمل التخصيص بآيات الوعد المذكورة لأن في القول بتخصيصها نقصاً لما سيقت له من الرد على من أدعى هذه الدعوى وذلك أن سبب نزولها أن جماعة من المؤمنين وجماعة من اليهود تذاكروا في أمر العقاب فأدعى كل فريق أن الله سبحانه يهب مسيئهم لمحسنهم ويعفو عنه لسابقة إيمانه بالله والرسول المرسل إليهم ولفضل الصالحين منهم فنزلت رداً لدعوى كل واحد من الفريقين ........... بقايات رجاءهم العفو عن عاصيهم من قبيل الأماني الباطلة ولا برهان عليه وأكد ذلك بقوله: {ومن يعمل سوءاً يجز به}، أي لا بعد للعاصي من الجزاء سواء كان منكم أو منهم ولا عفو وقته تصريح ببطلان الأرجاء.
قلت: أما لو ثبت قوة الوقف من قبيل تعارض آيات الوعد والعيد وكونها مسنونة لم تكن هذه الآية الكريمة هي الموجبة للقطع بهلاك الفاسق وأن الوعيد يحق عليه وأنه لا ينجو بسبب آيات الوعد فما هي في الدلالة على ذلك بأعرق من سائر عمومات الوعيد وهي ما ذكره وأورده على سبيل خاص، وفي تناول ما هذا حكمه لغير السبب خلاف واضح بين علماء الأصول كيف وفي سبب نزولها والمراد بها أختلاف كثير بين علماء التفسير.
قال جار الله: في ليس ضمير وعد الله أي ليس ببال ما وعد الله من الثواب بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب والخطاب للمسلمين لأنه لا يتمنى وعد الله إلا من آمن به ولذلك ذكر أهل الكتاب معهم لمشاركتهم في الأيمان بوعد الله.
وعن مسروق والسدي: هي في المسلمين، وقيل: إن المسلمين وأهل الكتاب أفتخروا فقال أهل الكتاب :نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم. وقال المسلمون: نحن اقرأ منكم فنبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله. فنزلت، ويحمل أن يكون الخطاب للمشركين لقولهم: إن كان الأمر كما يزعم هؤلاء لنكونن خيراً منهم وأحسن حالاً لأوتين مالاً وولداً إن لي عنده للحسنى، وكان أهل الكتاب يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة ويعضده تقدم ذكر أهل الشرك قبله.
وعن مجاهد: أن الخطاب للمشركين فتأمل ما قيل في هذه اية الكريمة ففيه ما يرشد إلى عدم القطع على ما ذكره عليه السلام.
وأما قوله تعالى: {من يعمل سوءاً يجز به}. فيه إطلاق الجزاء وعدم بيان أنه العقاب ودخول النار ومن المعلوم أن الحدود والتعزيرات جزاءات وأنه يطلق على مثلها أسم الجزاء، وللخصم أن يقول: قد ورد في الحديث من روايات متعددة وطرق شتى أنما أصاب الأنسان من نصب أو وصب أو غم أو ألم حتى الشوكة يشاكها فهو بذنب وما يعفو الله عنه أكبر، والقرآن مصرح به قال تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}. وكلما كان في مقابلة الذنب فهو جزاء عليه وقد قدر جار الله هذا المعنى في تفسير هذه الآية وإن كان مخالفاً لقاعدة الأصحاب أو من قواعدهم أن كل ما أصاب العبد من مصيبة في الدنيا فلا يصح أن يكون جزءاً للذنب ولا مكفراً لها بل يستحق المسلم والمجرم عليها أعواضاً.
قال جار الله في تفسيرها ما لفظه: والآية مخصوصة بالمجرمين ولا يمتنع أن يستوفي اله بعض عقاب المجرم ويعفو عن بعض فأما من لا جرم له كالأنبياء والأطفال والمجانين فهؤلاء إذا أصابهم شيء من ألم أو غيره فالعوض الموفى والمصلحة. وعن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((ما من أختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلا بذنب ولما يعفو الله عنه أكبر)). وعن بعضهم من لم يعلم أن ما وصل إليه من الفتن والمصائب بأكتسابه، وأن ما عفي عنه يتولاه أكثر كان قليل النظر في إحسان ربه إليه، وعن آخر: العبد ملازم للجنايات في كل أوان وجناياته في طاعاته أكبر من جنايته في معاصيه لأن جناية المعصية من وجه وجناية الطاعة من وجوه والله نطهر عبده من جناياته بأنواع من المصائب لتخفف عنه أنتقاله في القيامة ولولا عفوه ورحمته لهلك في أول خطوة، وعن علي رضي الله عنه وقد رفعه: من عفى عنه في الدنيا عفى عنه في الآخرة ومن عوقب في الدنيا لم يثن عليه العقوبة في الآخرة. وعنه رضي الله عنه: هذه أرجى آية في القرآن للمؤمنين وبالجملة فقوله تعالى: {من يعمل سوءاً يجز به}، إن لم يزد في الأتهام وأحتمال التخصيص والبعد عن القطع على غيره من عمومات والوعيد لم ينقص عنها، وإن لم ينقص عنها في إفادة أتصال العقاب إلى الفاسق ومصيره في النار وعدم العفو عنه لم يرد عليها بل هي دون تلك الآيات في الدلالة بمراحل فإنه لا تصريح فيها باتصال العقاب الأخروي والوقوع في النار، وأما تعويل المهدي عليه السلام على ما سبقت له من الرد على من ذكر فيما أدعوه وأن في تخصيصها نقضاً لذلك فقد سبق ما ورد في التفسير من الأختلاف في سبب نزولها وفيمن وجهت إليه وجميعها من قبيل روايات الآحاد التي لا تثمر القطع فكيف تركب الدلالة القطعية عليها فقد وضح لك ضعف الأعتماد على الأستدلال بتك الآية الكريمة مع تسليم عدم حصول القطع بغيرها وقوة التوقف لولا هي فالأقوى الأعتماد على غيرها كما بنى
عليه سائر الأصحاب والله ولي التوفيق.
قوله: (قيل: لهم جوزوا الخلف في الوعد بالتفضل الذي لا يجب إيصاله لهم).
أن يجيبوا بأنه لا وجه للخلف فيه يقتضيه ويحسنه وأما الخلف في الوعيد ففيه عفو ومسامحة وإسقاط للحق ويعد كرماً ويمتدح به فلا تساوي بينهما.
قوله: (فإن قالوا علينا في عمومات الوعد تكليف من جهة العمل).
هذا ليس بالواضح وأي تكليف علينا في ذلك فإن الواجبات تجب لوجوه تقع عليها لا للقطع بمضمون الوعد عليها بالثواب وإنما يتصور ذلك لو ثبت أن الواجبات والمندوبات لا تجب إلا لثبوت الوعد بالثواب على فعلها وليس كذلك فهذا السؤال مختل.
فصل:
وللمخالفين شبه عقلية وسمعية أطلق المصنف نسبة الشبه إلى المخالفين وهم فرق ولهم أقوال مختلفة وهكذا غير المصنف بناءاً منهم على أن المرجئة كالفرقة الواحدة وكان الأولى أن ينسب كل شبهة إلى قول خاص وهو الذي تطابقه تلك الشبهة وتناسبه وأنت إذا تأملت الشبه وجدت العقلية منها تناسب مقالة أهل الوقف والأرجاء الحقيقي، وإذا تأملت الشبه السمعية وجدتها تناسب مقالة القاطعين بالعفو ما قبل دخول النار أو بعده.
قوله: (قلنا: هذا يزيد الألزام تأكيداً).
فيه نظر لأنهم ....... الفرق بين الوعيدين بعد أن ألزموا الأستواء فلهم أن يقولوا التجويز يثبت ما لم يمنع منه مانع وهو ما يفيد القطع وقد حصل ذلك في وعيد الكفار دون وعيد الفساق.
قوله: (نقلنا الكلام إلى جبريل..) إلخ.
بنى المصنف في هذا على قاعدة الأصحاب وهي أن الله تعالى لا يعلم في دار الدنيا إلا أستدلالاً سواء في ذلك الملائكة المقربون والأنبياء والمسلمون وإن كان الأقرب والأصح أن جبريل عليه السلام وسائر الملائكة المقربين لا تنتفي معرفتهم لرب العالمين بشك ولا تخمين وأنه علمهم به ضروري.
قوله: (كون هذه الأخبار).
يعني: الآيات التي تنطوي على الأخبار بإيصال العقاب إلى الفساق.
قوله: (فإن قالوا قد جوزتم شروطاً لم ينب عنها الظاهر..) إلى أخره.
أرادوا شروطاً في نفس الوعيد بناء على صحة الوعيد المشروط كما ذهب إلى ذلك أبو علي فإنه أجاز الوعد والوعيد المشروطين نحو: {لئن أشركت ليحبطن عملك}، {ولو أن أهل القرى آمنوا..} الآية. وجعل الأنبياء والصالحين وأهل الصغائر والتائبين داخلين في الوعيد ولكن لا يعاقبون لعدم حصول شرط العقاب لأنه مشروط بعدم التوبة وعدم تكفير الثواب للعقاب وجعل الكفار داخلين في الوعد ولكن لا يثابون لعدم حصول شرط الثواب وهذا قول أكثر المعتزلة وخالف أبو هاشم في ذلك ولم يجز الوعد والوعيد المشروطين قال: لأنهما يتضمنان إزادة الثواب والعقاب فيلزم أن يكون الله سبحانه وتعالى مزيداً لثواب الكفار وعقاب الأنبياء ولا يصح أن يقال أنه يزيد ذلك بشرط أن يفعلوا ما يوجبه لأن الإزادةلا تقف في تعلقها على شرط، ثم قال: بأن صاحب الصغيرة والتائب غير داخلين في عمومات الوعيد لأن الوعيد إنما هو بصفة عنده ...... الاستحقاق في الآخرة فلا يتناول الوعيد إلا من يستحق العقاب في دار الآخرة وهكذا الوعد هذا مع أتفاق الشيخين على صحة الوعد والوعيد المتعلقين بشرط حاصل وكذلك يتفقان على جواز العلم المشروط والخبر المشروط كدخول أبي لهب الجنة لو آمن وقد قيل أن خلاف الشيخين لفظي لاتفاقهما على أن قوله: {لئن أشركت ليحبطن عملك}. خطاب للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قصد به وأتفاقهما أنه غير داخل فيما توعد به وهو الأحباط لعدم الاستحقاق فكان الشيخ أبا علي نظر إلى الطرف الأول فقضى بأنه متوعد داخل في الوعيد، ونظر أبو هاشم إلى الطرف الأخير فبنى على أنه غير متوعد.
وقال الشيخ أبو عبدالله: بل الخلاف بينهما معنوي ينبني على أنه هل يصح توقف تعلق الإزادة على شرط أو لا. وكذا قال القاضي: وهو معنوي لأن أبا هاشم يقول: إزادة العقاب إنما تتناول المستحق فقط. وأبو علي يقول: بل تتناول المستحق وغير المستحق لكن بشرط أن يفعل موجب الاستحقاق ولا يجعل الشرط شرطاً في تعلقها بل في حصول متعلقها وهو فعل العقاب والصحيح ما قاله أبو علي وإلا لزم أبا هاشم أن يخرج كثير من الوعيد عن كونه وعيداً كقوله تعالى في حق الملائكة: {ومن يقل منهم إني إله}. وقوله في صلى اللّه عليه وآله وسلم: {لئن أشركت ليحبطن عملك}. ولكن قد بنى أبو هاشم على أن الوعيد يتناول الفعل لا الفاعل ورد بأن الفعل لا ينفك عن الفاعل فتناول الوعيد لأحدهما تناول الأخر فلا يصح أن يثبت وعيد وفعل متوعد عليه ولا متوعد أصلاً.
قوله: (لأن أحدنا لا يستحق على غيره عقوبة).
يعني: لا يصح أن يعلم بالعقل أن أحدنا يستحق على غيره أجزاء من العقاب معلومة متصفة بصفة العقاب الحقيقي في كونها مصاراً يقترن بها الاستخفاف والأهانة ونحو ذلك، وهذا ما ذهب إليه أبو هاشم فإنه كان يمنع من ذلك أشد المنع وإليه ذهب الكثيرون، قالوا: لأنا لو قلنا بأن المُسىء إليه يستحق العقوبة على المسيء فهؤلاء يعلم القدر المستحق ولا يأمن التعدي عليه فيبطل استحقاقه والآساءة مجبورة بالعوض المستحق، وفي ذلك حصول الأنتصاف.
وقال أبو علي: بل يصح ذلك على معنى أن الواحد يعلم يعقله أن له الأنتصاف ممن أساء إليه بمثلما فعل والسمع مطابق له، قال تعالى: {فمن أعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما أعتدى عليكم}. وجعل من هذا القبيل أستيفاء القود من الجاني والحد من القاذف. ودليل....... استحقاق أحدنا له صحة عفوه عنه وإسقاطه له.
واعلم أن الجمهور لا يخالون أبا علي فيما ذكره لكنهم يقولون طريق ذلك الشرع لا العقل فلا خلاف في الحقيقة فإنهم يتفقون على استحقاق المسىء إليه ما قضى به الشرع له من قود أو قيمة متلف أو جلد قاذب، وأبا علي لا يخالف في أنه ما لم يرد الشرع به لم يجز للمسىء إليه إستيفاؤه عملاً بمجرد قضية العقل.
قوله: (إنما رغبنا في الفعو لما لنا في ذلك من النفع والثواب).
هذا كلام مختل فإن الترغيب بالثواب والنفع لويس الثواب هو علة الترغيب وإنما علة الترغيب كونه إحساناً وفعلاً من أفعال الخير والثواب والمدح لأجل ذلك وهو العلة فيهما لا أنهما العلة فيه وإذا كان العلة فيه كونه تفضلاً وإحساناً فهي حاصلة في حقه تعالى بل لا يبعدان الوجه في حق الله أوفى وأكمل.
قوله: (وإن توعده بما له أن يوصل إليه كالحدود ونحوها).
لعله أراد بنحوها رد المظلمة وتمكين المستحق للقود منه ويقال إن الحدود ونحوها يجب عليه أن يوصلها والله سبحانه لا يجب عليه إيصال العقاب فوزان المسألة ما كان للسلطان أن يوصله وألا يوصله كما لو توعد بأستيفاء دين له أو عقوبة له أن يسقطها كالتعزير والخصم حينئذ يدعي أن عدم تنفيذ ذلك عدل وحسن ويستحق به المدح والثناء.
قوله: (فقد ثبت عند العقلاء أن الخلف في الوعيد).
كرم الخلف: هو بضم الخاء وليس بفتحها والذي بالفتح هو الردي من القول يقال: سكت الفاء ونطق خلفاً أي سكت عن ألف كلمة ثم تكلم بخطأ والخلف بالضم الأسم من الإخلاف وهو في المستقبل كالكذب في الماضي، هكذا ذكر الجوهري، وقال السيد في الشرح: هو الخبر بأنه يفعل ولا يفعل أو يترك ولا يترك وليس بصحيح فإن الخبر بأنه يفعل أو يترك هو نفس الوعد أو الوعيد والأولى أن يقال: هو ترك ما أخبر بأنه يفعله أو فعل ما أخبر بأنه يتركه، وإن كانت عبارة الجوهري تقضي بمثل ما ذكره السيد فليتأمل.
قوله: (في البيت إذا وعد السراء وإن وعد الضراء الرخاء والضراء نقيضه).
قوله: (فقد بينا أن الخلف يقتضي الكذب).
هذا ليس على إطلاقه بل من الخلف ما يكشف عن الكذب ومنه ما لا يكشف عنه وتحقيق ذلك أن القائل إذا قال: لأفعلن كذا غداً مثلاً فإما أن يخبر عن عزمه أو على القطع إن كان مخبراً عن عزمه وهو كذلك فخبره صدق وسواء فعل أو أخلف وكذلك إن أخبر عن ظنه أو أعتقاده وأما إن أخبر عن علمه بأنه يفعل ذلك فهو كذب من فوره سواء وفى أولا لأنه لا طريق له إلى العلم بذلك ولا يمكن إليه طريق إلا الوحي، وأما إذا لم يخبر عن عزمه ولا عن ظنه ونحوه بل أخبر عن نفس الفعل فهذا يقف كونه صدقاً على الوفاء وإذا لم يف أنكشف كذباً إذا عرفت ذلك فالوعد والوعيد من الله لا يصح أن يكون تأخيراً عن عزم أو ظن أو أعتقاد إذ لا يجوز عليه تعالى شيء من ذلك فلم يبق إلا أن يكونا خبراً عن الفعل ويتضمنان الخبر عن العلم به فلو لم يفعل إنكشف كذب ذلك الخبر والكذب لا يجوز عليه تعالى، وأما إذا صدرا من الواحد منا فلا يحسبان إلا إذا كان خبراً عن عزمه على الفعل أو ظنه لصدوره عنه أو أعتقاده لذلك وهما حينئذ صدق بكل حال سواء فعل أو لم يفعل وأما إذا قصد بهما الإخبار عن الفعل في المستقبل فلا يحسن منه ذلك ملطقاً لا لأجل الكذب فهو يتوقف على ألا يفعل بل لأجل الأقدام على ما لا يؤمن كونه كذباً إذا لا سبيل له إلى القطع بوقوعه فهذا بيان صفة الخبر عن الفعل في المستقبل وأما يحصل الكلام في الخلف فهو أن يقول ليس الخلف بقبيح مطلقاً لأجل كونه خلفاً وإنما يقبح لوجه تقاربه.
قال الإمام المهدي عليه السلام: وقد يجب ويحسن لوجوه تقتضي ذلك مثال القبيح: أن يعد بقضاء دينه ثم لا يقضيه فقبحه الأخلال بالواجب لا لكشفه عن كذب الخبر المتقدم، ومثال الواجب: أن يخبر بأنه لا يعطي زيداً وديعته أو دينه غداً ثم يخلف فيعطيه فهذا واجب ولو كشف عن كذب الوعيد، ومثال الحسن: أن يعد بألا يطالب غريمه بالدين غداً ثم يطالبه أو بأن يطالبه ثم لا يطالبه فإن ذلك حسن أما المطالبة فلأنها تحق وأما عدمها فلأنه فضل وأحسان وقد تبين لك مما ذكر أن الخلف لا يكشف عن كذب الوعيد إلا إذا كان إخباراً عن وقوع الفعل فقط أو عن العلم بوقوعه.
قوله: (وبعد فالفرق أن المتوعد في الشاهد.. ) إلى آخره.
أوضح منه أن يقال الفرق أن الواحد منا لا يحسن وعده ووعيده إلا إخباراً عن العزم فقط إذ ليس له أن يخبر عن وقوع الفعل منه في المستقبل لأنه لا طريق له إلى العلم بذلك.
فإذا أخلف لم يكن خبره المتقدم كذباً ولا كان نفس ترك ذلك الفعل قبحاً إذا لم يكن واجباً عليه وما الله سبحانه فلا يخبر عن عزم إنما يخبر عن وقوع الفعل فإذا لم يفعل أنكشف كذب الخبر المتقدم فكان قبيحاً وأما ترك الفعل وهو نفس الخلف فلا تقبح بل يكون حسناً إذا لم يكن ما سبق الأخبار بإتصاله واجباً كالعقاب.
قوله: (وإن كانا قبيحين).
يعني: الوعيد ولاخلف وليس هذا الأطلاق بصحيح أما الخلف فهو واجب على ما ذكره الإمام المهدي في تقسيمة وهو قوي، وأما الوعيد فإذا كان خبرا عن عزمه وهو عازم فهو صدق فلا قبح فيه وإنما يقبح عزمه وهو المخبر عنه لا الخبر وإن كان غير عازم فالوعيد هو القبيح لأنه خبر غير مطابق فهو كذب.
قوله: (فليس الخلف فيه كرم عزم يصيب كرم من سهو القلم وقد تقدم أنه يمكن .........يكون الخلف فيه كرماً وحسناً.
قوله: (فإنما ذلك من جهة العقل، فأما السمع فمنع منه).
يقال: بل العقل يمنع منه أيضاً لما تقرر من أن الخلف يكشف عن الكذب في الوعيد ولا يجوز على الله عقلاً كما أنه لا يجوز سمعاً.
قوله: (قال تعالى: {ما يبدل القول لدي}).
تفسير الآية مطابق للأحتجاج بها فيما ذكره المصنف.
قال جار الله: أي: لا يطمعون في أن أبدل قولي ووعيدي فأعقبكم عما أوعدتكم به.
قوله: (وقال تعالى: {وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته}).
قد قيل: أن المراد بالكلمات القرآن فلا يطابق أحتجاج المصنف.
وقيل: المعنى تم كلما أخبر به وأمر ونهى ووعد وأوعد لا أحد يبدل شيئاً من ذلك بما هو أصدق منه وأعدل ولا يخلو هذا عن مناسبة للأحتجاج.
قوله: (وأشباه ذلك من الآيات).
يعني: كقوله تعالى حاكياً عن الشيطان: {إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم}. ولا يقال: إنها حاجته في الوعد دون الوعيد فإن سياقها يقضي بأن المراد كلاهما لأنه تعالى قال: {وقال الشيطان لما قضي الأمر}، أي قطع وفرغ من الحساب وتصادر الفريقين ودخول أحدهما الجنة والآخر النار فالمراد بوعد الحق البعث والجزاء على الأعمال فوفى لكم وما وعدكم، وقوله تعالى: {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار إلى قوله فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً قالوا نعم}.
قوله: (وحكي أن أبا عمرو بن العلاء قال لعمرو بن عبيد..) إلخ.
هو كما حكاه وفي رواية أن عمرو بن عبيد قال: ولكن حدثني عن قوله الله تعالى: {لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}، إن ملاها أيقول صدق؟
قال: نعم.
قال: فإن لم يملاها أفيقول صدق فسكت أبو عمرو.
والحاكي لهذه المناظرة أبو حنيفة والشيخ أبو علي، وذلك أن أبا علي ناظر بعض المرجئة بحضرة أبي حنيفة فحكى أبي حنيفة كلام أبي عمرو بن العلاء.
فقال له أبو علي: إن عمرو بن عبيد قد أجاب. وحكي قوله أن الشاعر قد يكذب ويصدق ولكن حدثني عن قول الله تعالى... إلخ.
قوله: (في ما حكاه من النظم شريف الأناء والبيت).
أراد: العيال والمعنى شريف الأناء والأبناء.
قال الجوهري: والبيت أيضاً عيال الرجل. أنتهى. ويحتمل أن يريد البيت المعروف فإن وصف بيته بالشرف من حسن الثناء عليه.
قوله: (........ من ثاره على قوت)......... مثلثة وهمزة بعدها ساكنة هو الداخل.
قال الجوهري: يقال تبارت لقتيل فبالقتيل ثاراً. أي: قتلت قاتله.
فائدة:
قد عرفت مما تقدم أمتناع الخلف على الله في وعيده لأنه يكشف عن كذب الوعيد والكذب لا يجوز عليه تعالى. وأختلف الشيخان بعد وقوع الوعيد والأخبار بإتصال العقاب الشديد هل يصير العقاب واجباً على الله تعالى حتى لا يحسن منه تعالى الأخلال به أو لا مع أتفاقهما على أنه يحسن قبل الوعيد أسقاط العقاب.
فقال أبو علي: يصير واجباً ولا يحسن منه تعالى إسقاطه.
وقال أبو هاشم: بل يحسن منه ذلك لأن العقاب قبل الخبر غير واجب إتفاقاً فلا يصيره الخبر واجباً لأن الخبر بوقوع أمر لا يصح أن يخرجه عن الصفة التي كان عليها قبل الخبر فمن المعلوم أن الخبر لا يكسبه وجهاً يقع عليه مما يقضي له بالوجوب ولا يجب الواجب إلا لوجه يقع عليه ولعل أبا علي نظر إلى أنه تعالى إذا لم يفعل العقاب أنكشف كذب خبره الأول فيجب عليه فعله لئلا يقبح ما سبق منه من الأخبار وهذا لا يوجب العقاب بل لو ترك سبحانه فعله لكان ذلك الترك حسناً وإحساناً وإن إنكشف كون الخبر المتقدم كذباً قبيحاً كما أنه سبحانه إذا أخبر بأنه يتفضل على المطيعين في الآخرة كما في قوله: {ويزيدهم من فضله}. لم ..... ذلك وجوب التفضل عليه وإن قطعنا على أنه لا بد أن يفعله وأنه لو لم يتفضل لكان خبره بذلك كذباً.
قوله: (وأما شبههم السمعية، قأقواها قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}).
إنما جعلها أقواها لما فيها من التصريح بمغفرة ما دون الشرك وهي أعظم مستندات المرجئة وأبلغ متمسكاتهم ولهذا قال صاحب زهر الكمائم هذه الآية سيوف وخناجر على حناجر المعتزلة.
وقال الإمام المهدي عليه السلام: ولعمري أن هذه الآية الكريمة كالمصرحة بأنه سبحانه يغفر ما دون الشرك من غير ثوبة لكنه لما قال: لمن يشاء صارت مجملة وللمتمسكين بها والمجيبين عنها في ذلك خبط كثير ونزاع كبير وقد ذكر المصنف في تحريرها. والجواب عنها خلاصة ما نذكر في ذلك وزبده وإن لم نستوف كلما قيل فيه.
قوله: (إن المعنى لا يغفر أن يشرك به تفضلاً وذلك لأنه قد ثبت أنه يغفره بالتوبة).
قوله: (قالوا: فيجب أن يكون التقدير ويغفر ما دون ذلك تفضلاً).
وذلك لأن ما لزم أضماره في الجملة الأولى وجب إضماره في الجملة الثانية وإلا خرج الكلام عن النظم كما لو قيل: فلان لا يتفضل بمائة دينار ولكن يعطي العشرة لمن يستحقها.
قوله: (لكان لا وجه لتعليقه بالمشيئة).
يعني: لأنه إنما تعلق على المشيئة في وضع اللسان ما لم يكن واجباً ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال: فلان يقضي الدين من يشاء من المستحقين. ويحسن أن يقال: ن الملك يخلع على من يشاء.
قال الرازي: قثبت أن المراد من الآية غفران المعاصي التي لا يجب غفرانها وكل من حمل الآية على ذلك لم يخصصها بمعصية معينة بل أثبت مقتضاها وهو جواز المغفرة في كل المعاصي سوى الكفر وهو المطلوب.
قوله: (يوضحه أنه تعالى أضاف الغفران إلى نفسه).
هذا وجه مستقل، تحريره أنه تعالى أضاف في الآية الغفران إلى نفسه والذي يتعلق من المغفرة ليس إلا مغفرة أصحاب الكبائر دون التائب وأصحاب الصغائر فإن التائب لتوبته وصاحب الصغيرة باجتنابه الكبائر ..... إلا ما أستحقاه من العقوبة ولا حاجة بهما إلى من يزيلها عنهما هكذا قرره السيد في الشرح وجعله وجهاً مستقلاً وهو أرجح مما ذكره المصنف.
قوله: (وأيضاً فما دون الشيء..) إلخ.
اعلم أن لهم في قوله تعالى: {ما دون ذلك}. وجهين من الأحتجاج:ـ
أحدهما: هذا الذي ذكره المصنف وهو كما قرره و.... عليه إلا أن قوله في آخره وإنما يحمل على التسع مائة خطأ من جهة العربية والقياس أن يقال: على تسع المائة. وإن قيل على التسع المائة فهو سائغ.
الوجه الثاني من أحتجاجهم: أن قوله تعالى: {ما دون ذلك}. يتناول الصغائر والكبائر لأن ما من ألفاظ العموم فلا يجوز أن تخص بالصغائر دون الكبائر ولا بما وقعت التوبة منه دون غيره لأن التخصيص من غير مخصص لا يجوز، توضيحه إن السيد إذا قال لعبده جد ما في الكيس فإنه يتناول ما فيه من الدنانير والدراهم وغيرها ويد على العموم صحة الأستثناء فإنه لو قال: ويغفر ما دون ذلك إلا الزناء والسرقة لكان حسناً وحسن الأستثناء دليل الأستغراق وإنما أهمل المصنف هذا الوجه لأنه والوجه الأول في حكم المتدافعين فاكتفى بأحدهما.
قوله: (ونحن نجيب على الجملة..) إلخ.
قد أجبت عن هذه الآية: بأجوبة كثيرة منها ما ذكره المصنف ومنها ما لم يذكره.
وأما جار الله رحمه الله فاختصر الكلام في تفسيرها وأتى بشيء قريب وجيز فجعل الفعل المنفي وهو غفران الشرك والمبين وهو غفران ما دونه موجهين إلى قوله: {لمن يشاء}. فكأنه قيل: إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك، على أن المراد بالأول من لم يتب وبالثاني من تاب.
قال: ونظيره قولك: إن الأمير لا يبذل الدنيا ويبذل القنطار لمن يشاء. يريد لا يبذل الدينار لمن لا يستاهله ويبذل القنطار لمن يستاهله.
وحكى في سبب نزولها أنه جاء شيخ من العرب إلى رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: إني شيخ منهمك في الذنوب غلا أني لم أشرك بالله شيئاً منذ عرفته وآمنت به ولم أتخذ من دونه ولياً ولم أوقع المعاصي جرأة على الله ولا مكابرة له وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هرباً وإني لنادم تائب مستغفر فما ترى حالي عند الله؟ فنزلت.
قال: وهل الحديث ينصر قول من فسر من يشاء بالتائب من ذنبه.
قوله: (إنما يقتضي ظاهرها أنه يغفر ما دون ذلك لمن يشاء).
يعني: فهو مقيد بالمشيئة لا مطلق.
قوله: (فمن أين أنه قد شاء أن يغفر الكبائر).
يعني: فإن ذلك لا يثبت إلا بحجة فبينوا أن الله تعالى قد شاء الغران لصاحب الكبيرة.
قال الرازي معترضاً لاحتجاج أصحابه بهذه الآية: ولئن سلمنا دلالة الآية على غفران الكبيرة فإن الله تعالى لو قال: إن الله لا يغفر أن يشرك به ولا أكل أموال اليتامى ولا الفرار من الزحف ولا قتل المؤمن بغير حق ويغفر ما دون ذلك. لكنا نقطع على أنه ليس المراد بقوله: {ما دون ذلك}. شيئاً من الكبائر وقد توعد تعالى على هذه الذنوب في غير هذه الآية فوجب ألا يختلف الحكم الذي ذكرناه لأن القرآن كله كالكلمة الواحدة في البعد عن التناقض والأختلاف.
قوله: (وبعد فلا تعلق لواحد من فرق المرجئة..) إلخ.
جعلها الرازي حجة على أن الله يعفو عن بعض الكبائر.
قوله: (وقوله: {لمن يشاء}. لا يقتضي الوقف..) إلخ.
قد ذكر الرازي مثله فقال: المعلق على المشيئة ليس هو أصل الغفران بل من يفعل به الغفران فلا جرم أفادت الآية القطع بأصل المغفرة والتوقف فيمن تفعل به المغفرة، مثاله: إذا قال الملك لعبيده مشيراً إلى خلعة معينة: إني أخلع هذه الخلعة على من أشاء منكم فذلك يفيد القطع بأنه يخلع تلك الخلعة على بعض عبيده والتوقف في تعين ذلك العبد وقد سبق عنه أنه لا بد أن يكون المراد بالآية غفران معصية لا يجب غفرانها.
قال: وكل من حمل الآية على ذلك لم يخصصها بمغفرة معينة بل أثبت مقتضاها وهو جواز المغفرة في كل المعاصي سوى الكفر.
قوله: (فالواجب أعتبار الدليل في آخرها).
يقال: قد ......... الدليل على ذلك وهو أنه تعالى لم يقدر لخلا الكلام عن الأنتظام.
قوله: (إذا كان تقدير أول الآية أن الله يغفر الشرك بالتوبة).
يقال: هذا غير مقدوراً بما يقضي به مفهوم الآية وليس المفاهيم تقدر وتضمر ويحكم بأن المعى يتوقف عليها.
قوله: (وهذه الآية مطابقة للعقل..) إلخ.
في هذا ركة لأن السمع إذا ورد بوقوع ما يقضي العقل بجواز وقوعه قطعنا به وعدلنا عن التجويز ولم يصح أن يحمل السمع على أنه مؤكد لدلالة العقل ولا حجة فيه ولا يعمل بمقتضاه بل يعد إلى غيره ثم أنه لا مطابقة لأن العقل دل على الجواز والآية دلت على الوقوع.
قوله: (فما المانع أن تخصصها آيات الوعيد).
قد أجاب الرازي: بأنا لا نتمسك بعموم هذه الآية بل لو لم نحملها على الكبائر لزم خلوها عن الفائدة ثم إن تمسكنا بعموم هذه الآية فإنا نقول هي عامة في المعاصي خاصة في المغفور له، وآيات الوعيد خاصة بالمعاصي عامة في المغفور له، فكل واحدة منهما أخص من الأخرى من وجه، وأعم من وجه فلا يمكنهم الترجيح.
قوله: (وبعد فالأية مجملة).
يعني: قوله تعالى: {لمن يشاء}. فلو قطعها عن ذلك القيد قطعنا بأنه سبحانه يغفر الفسق لكنه قيده بقيد مجمل فصار المقيد مجملاً.
وأما قول الرازي: أن الآية أفادت القطع بأصل المغفرة. وإنما التوقف فيمن تفعل به المغفرة فليس ذلك يخرجها عن الأجمال لأن إجمال المغفور له يتضمن إجمال المغفور لما يدخله من الأحتمال.
قال المهدي عليه السلام: بيان ذلك أنه يحتمل أن يقال أن الذي يشاء الغفران له هو الذي يشفع له رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم دون غيره، ويحتمل أن يقال: هو الذي لا يجاهر بالمعاصي مجاهرة ظاهرة، ويحتمل أن يقال: هو الذي لا يضر بمعصيته المؤمنين، ويحتمل أنه الذي يترك المعاصي الفاحشة كالربا في أموال الناس، أو قتل النفس المحرمة أو نحو ذلك، ويحتمل أنه الذي يترك أرتكاب الكبائر ومع هذه الأحتمالات والتردد يكون المغفور والمغفور له مجملاً غير مبين.
قوله: (وبيانها في قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه}. روي مثل هذا عن الحسن البصري حين سأله بعض الناس أين يبان المجمل في قوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}؟. فقال: قد بينه الله بقوله: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم مدخلاً كريماً}.
قال المهدي عليه السلام: وهذا تفسير ممن أدرك الصحابة وأخذ عنهم علمه وأدرك أهل الغة العربية وعلم ما يصح منها وما لا يصح.
قوله: (فقد قال بعض أصحابنا..) إلخ.
قد عضد هذا التأويل بأن الله تعالى ذكر هذه الآية في موضعين من سورة النساء وما قبلها في الموضعين يقتضي حملها على ما ذكر لأنه تعالى قال أولاً: {يأيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن يطمس وجوهاً فيردها على أدبارها أو يلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولاً}. فلما حذرهم تعالى من تعجيل العقوبة على ترك الإيمان قرن ذلك بقوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به}. أي: لا يؤخر عقوبة الشرك بل يعجلها فلا تأمنوا أن يفعل بكم ما حذركم تعالى من طمس الوجوه وردها على الأدبار والمسخ كما مسخ أصحاب السبت، ثم قال: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}. أي: ولا يعجل عقوبة ما دون الشرك بل يؤخرها.
وقال تعالى في الموضع الثاني: {ومن يشاقق الرسول إلى قوله وسآءت مصيراً}. فتوعد على مشاقة الرسول بتعجيل الخذلان وهو معنى قوله تعالى: {نوله ما تولى}. ثم عقبه بالبينة على عظم الشرك وأنه تعالى لا يدع تعجيل الخذلان لأجله ثم قال: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}. أي ليس يفعل هذا الخذلان لمن آمن ثم أرتكب ما دون الشرك فلا يكله إلى نفسه ولا يمنعه الألطاف هكذا قرره الرازي في نهايته.
ثم قال: وإن سلمنا أن المراد من المغفرة إسقاط العقوبة ولكن هل إسقاط كل أنواعها أو إسقاط بعض أنواعها:ـ
الأول: غير مسلم لأن إسقاط العقوبة أعم من إسقاط كل أنواعها أو بعض أنواعها ولا يلزم من حقيقة العام حقيقة الخاص.
الثاني: مسلم ونحن بقول به لأن الله تعالى لا يعاقب فساق أهل الصلاة بجميع أنواع العقوبة.
قوله: (على هذا يحمل قوله تعالى: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم).
قال الرازي: وليس المراد من المغفرة هنا ترك العقاب لأن الآية وردت في الكفار ولأن سياقها لا يليق أيضاً بذلك.
قوله: (أو بتسليط بعضهم على بعض).
يعني: كما كان من تسليط نصر وجنوده على بني إسرائيل بعد أن أفسدوا وقتلوا بعض الأنبياء وقصدوا قتل عيسى عليه فقتل علماؤهم وسبى منهم سبعون ألفاً وأنضم إلى ذلك حريق التوراة وخراب المسجد.
قوله: (أو يسلب الألطاف ونحو ذلك على ما يفسر به قوله تعالى: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون}).
قال جار الله في تفسيره: أي: سنستدنيهم قليلاً قليلاً إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم وذلك أن تواتر نعمة الله عليه مع أنهماكهم في الغي فكلما جدد عليهم نعمة أزدادوا بطراً وجددوا معصيته فيندرجون في المعاصي ........ النعم ظانين أن مواترة النعم أثرة من الله وتقرب وإنما هي خذلان منه وتبعيد فهو إستدراج الله نعوذ بالله منه، وأراد المصنف بنحو سلب الألطاف ما ذكر من تجدد النعم وتواليها مع العصيان لكن في جعل نفي المغفرة عبارة عن سلب الألطاف أو الخذلان بالتخلية بينهم وبين الشياطين بعد وإنما ألجاء المصنف إليه أن عقوبة الأستئصال المهلكة بالمسخ والطمس ونحو ذلك لم تعم كل المشركين فيكلف الأتيان بما يعم من لم يعاقب ويستأصل في الدنيا بتلك العقوبات الظاهرة لما كان نفي المغفرة عاماً لكل مشرك.
قوله: (ولهذا لما أحتجت الحنفية..) إلخ.
أحتجت الحنفية بذلك على مذهبهم وهو أن المؤمن يقتل بالذمي خلاف مذهبنا ومذهب الشافعي، ولم يأت المصنف بتمام ما أحتجوا به وتمامه أن يقال: فإذا كان التقدير في الجملة الثانية ولا ذو عهد في عهده بكافر ومن المعلوم أن المعاهد يقتل بمثله من يعاهد آخر أو من له ذمة مؤيدة عند الجميع فلا بد أن يراد بالكافر المضمر في الجملة الثانية هو الحربي والكافر المضمر فيها هو المظهر في الجملة الأولى لأنا لم نضمره في الثانية إلا لأظهاره في الأولى فهو هو فإذا كان المضمر هو الكافر الحربي تبين بذلك أن المراد بالكافر المظهر هو الحربي فلم يدل الخبر إلا على أن المؤمن لا يقتل بالكافر الحربي فقط وبقي قتله بالذمي داخلاً تحت قوله تعالى: {النفس بالنفس}. وربما نقل عنهم أنهم قالوا: وإذا ثبت أن المعنى لا يقتل مؤمن بكافر حربي فمفهومه أنه يقتل بالذمي.
قوله: (فقال لهم الجمهور..) إلخ.
ووجه دفع ذلك لما قالوه أنه إذا لم يجب إضمار كافر في الجملة الثانية لم يثبت أن المراد الكافر الحربي في الأولى فيبقى على إطلاقه ويفيد الخبر أن المؤمن لا يقتل بكافر حربياً كان أو ذمياً.
قوله: (لأن الواجب قد تعلق بالمشيئة).
وذلك لأن جميع أفعاله تعالى تعلق بمشيئته وتقع بها ولهذا قال تعالى: {يعذب من يشاء}. مع أنه لا يصح التفضل بالتعذيب. وقال في أهل الكتاب: {بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء}. مع أنه لا يتفضل بالغفران على الكفار وإنما يغفر لهم بالتوبة.
قوله: (فيحمل على مشيئة الأقتدار).
أي: على المشيئة التي يعبر بها عن الأقتدار وأنه لا منازع له في حكمه ولا رَآدَّ لأمره.
قوله: (أنى للتائب عن الكبيرة إذا لم يكن مع الكبيرة شرك).
أراد فلا يقال: إن المغفرة لكل تائب عن الكبيرة حتم فلا فائدة لتعليقها بالمشيئة لأن من التائبين عن الكبائر من يكون له خصلة كفرية تعد شركاً فلا يغفر له كبيرته وإن تاب عنها لأن شركه مانع عن قبول توبته.
قوله: (بل يستعمل فيهما).
قال السيد صاحب الشرح: ولهذا فإن أحدنا إذا قال: السلطان ومن دونه في بلد كذا لما شملهم من القحط في شدة وبلية لم يجب أن يريد به السلطان ووزيره بل يريد به من عداه من الأكابر والأصاغر واعترض بأنه إنما يستعمل في البعيد مع إنظمامه إلى القريب كما ذكر في المنال وأما أستعمال لفظ دون فيما بعد فقط فلا يصح ذلك لغة على وجه يستجاد.
قلت: وثَمَّ نظر من وجه آخر: وهو أنه إنما أفاد لفظ دون في المثال المذكور الأصاغر مع الأكابر للقرينة وهو أن لحوق الشدة والبلية بسبب القحط لأصاغر الناس وأذيتهم أشد في العادة من لحوق ذلك للسلطان والوزير ونحوهما من الأكابر فالمثال غير مطابق لكنه يمكن الجواب بأن يجعل قوله: ما دون ذلك في الآية شاملاً للكبائر والصغائر فقد أريد به ما قرب وبعد معاً ولما قال: {لمن يشاء}. دل ذلك على أن المغفرة حاصلة لمن لم يقم الدليل على عدم المغفرة له وهو صاحب الكبيرة التي تاب عنها وكل صاحب صغيرة محققة غير مقدرة.
وأما الفقيه حميد: فأستقرب أن يكون ما ذكره الخصوم في لفظه دون صحيحاً في العرف دون أصل اللغة. وإذا قيل: فلمَ لم تحملوها على العرف فهو السابق إلى الأفهام.
أجبت بأنه وإن كان الأمر كذلك إلا أن آي الوعيد قد قضت بأنه تعالى لا يعفو عن الفساق فكان الرجوع إليها أولى ولو كان فيه حمل اللفظ على الحقيقة اللغوية دون العرفية.
تنبيه:
قد أشتمل المتن وما أمليناه في هذه الحاشية على أكثر ما قيل في هذه الآية أحتجاجاً وجواباً والأمر فيها مشكل غاية الإشكال.
قال الرازي في آخر كلامه عليها المراد بما دون الشرك ليس هو المعصية بعد التوبة لأنه لا يبقى حينئذ فرق بين الشرك وبين ما دونه لأن كل واحد منهما مغفور بعد التوبة وغير مغفور قبلها فوجب حملها على المعصية قبل التوبة وليس المراد هو الصغيرة لأن الصغيرة يجب غفرانها والآية لا يجوز حملها على المغفرة الواجبة للوجهين المذكورين في أول الطريقة فوجب حمل الآية على الكبيرة قبل التوبة وهو المطلوب.
قال: وهذا الوجه مبني على الفرق بين الصغيرة والكبيرة وعلى أن الصغيرة يجب غفرانها وكذلك الكبيرة بعد التوبة وهذه الأشياء غير لائقة بأصولنا فالأولى إيراده على سبيل الإلزام.
قلت: وهو إلزام واضحكما ترى وقد أجاب بعض أصحابنا بجواب فيه تخلص عن مثل هذا لكنه لا يخلو عن تكلف وتعسف فقال: هذه الآية ليست موجهة إلى هذه الأمة على الخصوص بل إلى جميع المكلفين وقد دل الدليل في حق هذه الأمة على أن عقاب الكبيرة لا يسقطه إلا التوبة ولا يجوز مغفرته فيخرج فساق هذه الأمة من قوله: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}. بما ذكرناه من التخصيص ويبقى تحت عمومها من كان من المكلفين من غير بني آدم كالجن أن من بني آدم وهو من الأمم الماضية إذ لا يمتنع أن يعلم تعالى أنه لا كبيرة في جقهم إلا الشرك وأن الكبائر في حقنا صغائر في حقهم لهم من الثواب ما يكفرها وذلك غير ممتنع لأن الثواب والعقاب قيم للطاعات والمعاصي والعالم المقدار القيم هو الله تعالى ثم إن الطاعات كالمعاصي تختلف باختلاف الأزمان والمكلفين والأشخاص والبقاع.
قوله: (فالظاهر يقتضي غفران الشرك).
يعني لأنه من الذنوب فإن لفظ الذنوب يعم كل ذنب ولا شك أن الشرك ذنب.
قوله:(فما خصصوا به غفران الشرك).
يعني: وهو قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به}. خصصا بمثله غفران الفسق. يعني: خصصناه بآيات الوعيد الدالة على أن عقابه لا بد أن يصل إليه.
قوله: (والمعنى يغفر الذنوب جميعاً بالتوبة).
قال جار الله: وقد تكرر ذكر هذا الشرط في القرآن فكان ذكره فيما ذكر فيه ذكراً له فيما لم يذكر فيه لأن القرآن في حكم كلام واحد ولا يجوز فيه التناقض وفي قراءة ابن عباس وابن مسعود: {يغفر الذنوب جميعاً لمن يشاء}. والمراد عمن يشاء من تاب لأن مشيئة الله تابعة لحكمته وعدله لا لملكه وجبروته.
وقيل: قال أهل مكة: يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له فكيف ولم يهاجر وقد عبدنا الأوثان وقتلنا النفس التي حرم الله فنزلت، وروي أنه أسلم عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر معهما ثم فتنوا وعذبوا فأفتتنوا فكنا نقول: لا يقبل الله لهم صرفاً ولا عدلاً أبداً فنزلت فكتب بها عمر فأسلموا وهاجروا.
قوله: (وسياق الآية يشهد بذلك).
يحتمل أنه أراد بالسياق ما أنزلت بسببه كما قدمنا ذكره، ويحتمل أنه أراد ما ذكر بعدا وكلامه يشعر بهذا الأخير.
قوله: (قال تعالى بعدها: {وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له}).
أي: توبوا إليه وأخلصوا له العمل.
قال جار الله: وإنما ذكر الأنابة على أثر المغفرة لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة وللدلالة على أنها شرط فيها لازم لا تحصل بدونه.
قوله: (الآيات فإن كلها تحث على التوبة ووعيد على الأخلال بها).
يعني: أن بعضها ينطوي على الحث وبعضها على الوعيد على تركها وعلى عدم إتباع الأحسن وتلك الآيات المشار إليها قوله تعالى: {وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أن تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين}.
قوله: (شبهة).
قال تعالى: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم}. قال الرازي في نهايته فمقتضى الآية أن يحصل الغفران حالة مباشرة الظلم كما إذا قيل: رأيت فلاناً على أكله فإنه يدل على أنه رآه حال كونه آكلاً ومعلوم أن حال الأشتغال بالظلم لا يكون تائباً فيثبت حصول المغفرة لغير التائب على الأطلاق هكذا ذكره وقد سبق له أنه ليس المراد من المغفرة هاهنا ترك العقاب لأن الآية وردت في الكفار ولأن مساقها لا يليق أيضاً بذلك وصرح ..... المغفرة فهيا على تأخير العقاب ولكن ليس هذا بأول تخليط منه ومناقضة وقد أعترف جار الله بأن المراد بالآية مع ظلمهم أنفسهم بالذنوب ومحله الحال بمعنى ظالمين لأنفسهم وفيه أوجه:
إن أريد السيئات المكفرة لمجتنب الكبائر أو الكبائر بشرط التوبة أو يريد بالمغفرة السير والأمهال وروي أنها لما نزلت قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((لو لا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحداً العيش ولو لا وعيده وعقابه لأتكل كل أحد)).
قوله: (وإنما سماهم ظلمة بعد التوبة من حيث الأشتقاق).
فيه نظر لأنه لم يسمهم ظلمة بل أخبر أنه يغفر لهم مع الظلم الذي صدر منهم ولا شك في صدوره منهم تابوا أو لم يتوبوا فليس أسم الظلم مشتقاً إنما هو مشتق منه، وإنما أراد أن الأشتقاق يقتضي تسمية التائب ظالماً وعاصياً للظلم والعصيان الصادرين منه قبل التوبة وإن كان لا يصح إطلاق ذلك عليه بعد توبته من أحدنا لأتهام الخطأ وأما من الباري تعالى فيجوز ذلك لأن حكمته قريبة معنوية بقضي بأنه لا يقصد إلا المعنى الصحيح ولهذا قال تعالى: {وعصى آدم ربه فغوى}.
قوله: (شبهة قال تعالى: {فأنذركم ناراً تلظى}..) إلى آخره.
وجه أحتجاجهم بها: ما ذكره المصنف وتحقيقه أنها تقتضي قصر دخول النار على الأشقى ثم فسره الله بأنه الذي كذب وتولى والمعلوم أن الفاسق ليس كذلك فلا يصلى النار.
قوله: (وللزم في الكافر الأصلي الذي لم يكذب).
فيه نظر من وجهين:ـ
أحدهما: أنه لا معنى لقوله: (الأصلي) لأنه يشعر بأن الكافر المكذب ليس بكافر أصلي وهو غير صحيح فإن الأصلي هو في مقابلة المزيد الذي كان أصله الإيمان وسواء كان الكافر الأصلي مكذباً أو غير مكذب.
الثاني: أن كل كافر مكذب وكيف يكون كافراً غير مكذب فإنه لا يكفر إلا بإنكاره الصانع أو النبوة أو البعث أو نحو ذلك، وما هذا حاله تكذيب وليس المكذب مقصور على من يقول للنبي كذبت مثلاً فقط بل هو كل منكر لأمر يكفر بإنكاره.
قوله: (وفي الذي غيره أدخل منه في الكفر).
يقال: هذا لا يلزم إلا لو قصد بالأشقى أشد الناس شقاوة وأعلاهم فيها منزلة ولم يفسره وأما حيث فسره بمن أتصف بالكفر فلا يلزم ما ذكره وقد حصلت الأفضلية في الشقاوة بالكفر فإن كل كافر أشقى بالنظر إلى الفاسق، وإن كان الكفار بينهم تفاضل، وقد يقع التفاضل بالنظر إلى المفضل لا يشاركه غيره في تلك الزيادة، وبالنظر إلى أنه أختص بزيادة على غيره وأن شورك فيها.
قوله: (وبعد فقد قال تعالى في آية أخرى..) إلى آخره.
وقوله: ( فقوله: {ناراً}. نكرة كان الأحسن في التحرير أن يجعل هذين الوجهين وجهاً واحداً فنقول وبعد فقوله تعالى: {ناراً}. نكرة غير معينة فتكون الآية قاضية بأنه لا يدخل تلك النار إلا الكفار ولا يدل على أنتفاء دخول الفاسق غيرها ولا على أنهم يدخلون غيرها ولكن دل على ذلك غير هذه الآية وهو قوله تعالى: {فأما الذين شقوا ففي النار}.
ومما أجبت به جواب ذكره أبو الهذيل أن المراد بالمكذب الكافر والمتولي الفاسق لأنه متول عن طاعة الله بفسوقة الذي أتى به.
قال السيد في الشرح: إلا أن هذا يضعف من طريق العربية وفسره بعض المعلقين على كتابه بأنه أراد أن المتولي في اللغة لا يطلق إلا على من رد الشريعة ولم يعتقد صحتها لا من كان فاسقاً ثم قال وفيما ذكره السيد نظر لأنه يقال بل ما ذكره أبو الهذيل مطابق لوضع اللغة لأن العاصي لربه متولٍ عن الطاعة وأمتثال ما كلف فعلاً وتركاً.
قلت: غلط المعلق هذا لأن السيد رحمه الله ما قصد الذي ذكره فلا كلام أن الفاسق متول وإنما أراد السيد أن الله فسر الأشقى بمن جمع بين التكذيب والتولي ولا يستقيم كلام أبي الهذيل إلا لو قال: الذي كذب والذي تولى. فكلام السيد صحيح واضح والذي أشار إليه في الطعن على ما ذكره أبو الهذيل فادح.
قوله: (شبهة. قال تعالى: {وأخرون مرجون لأمر الله}.
هذه الآية ليست بالواضحة في الدلالة على مذهب الخصوم وكثير من المصنفين لا يذكرونها في شبههم وهي عما نحن فيه بمعزل فإن المراد وأخرون من المتخلفين عن رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم في غزوة تبوك موقوف أمرهم إما يعذبهم أن بقوا على الأصرار ولم يتوبوا وإما يتوب عليهم إن تابوا والمراد بها كعب بن مالك وهلال بن آمنه ومرارة بن الربيع وهم الثلاثة المرادون بقوله تعالى: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا}. أمر رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم أصحابه حال ........ ألا يسلموا عليهم ولا يكلموهم لنهم لم يفعلوا كما فعل أبو لبابة وأصحابه من المخلفين الذي شدوا أنفسهم على السواري وأظهروا الجزع والغم تخلفهم فلما علم كعب وصاحباه أن أحداً لا ينظر إليهم فوضوا أمرهم إلى الله واخلصوا نياتهم ونصحت توبتهم فرحمهم الله.
قوله: (فالمراد بقوله تعالى: {اعترفوا بذنبهم} أي: تابوا خلطوا عملاً صالحاً وهو التوبة وآخر سيئاً وهو الذي تابوا منه واعترفوا به).
هو كلام مستقيم وتفسير عن الخطأ سليم.
قال جار الله: فإن قلت كيف قبل أن يتوب عليهم ما ذكرت توبتهم.
قلت: إذا ذكر أعترافهم بذنوبهم وهو دليل على التوبة فقد ذكرت توبتهم وقد فسر العمل الصالح بأنه الخروج إلى الجهاد والآخر السيء بأنه التخلف عنه.
تنبيه:
أعلم أن للمرجئة متمسكات غير ما ذكره المصنف وفي جواب ما ذكره إرشاد إلى جواب ما لم يذكره من الآيات اللاتي يحتجون بها ومن أعظم ما يتمسكون به أن قالوا: قد ثبت إجماع المسلمين على وصف الله تعالى بأنه: غافر وغفور وغفار وعفو كثير العفو والأحسان ومتجاوز عظيم التجاوز والأمتنان وسبار ذو السبر الجميل ووهاب وجواد وحليم وصبور والقرآن مملوء ومشحون بذلك ولا يخلوا ما إن يكون المراد بذلك عفوه ومغفرته ونحوهما لمن تاب فسقط عنه العقاب أو زادت أجزاء ثوابه على أجزاء عقابه فبقي مستحقاً للثواب أو يكون المراد مع عدم الأمرين لا يجوز أن يكون المراد الأول لأن المسقط لعقاب المعاصي حينئذ التوبة وزيادة الثواب فلا تفضل لله في ذلك حيث لم يواجد لأن قبول التوبة يجب عليه والتوبة قاضية بقبح المواحدة وكذلك زيادة الثواب تقضي بسقوط العقاب وقبح إتصاله فكيف يتمدح بذلك ويصف نفسه لأجله بنهاية الكرم وغاية الجود وأتساع المغفرة والرحمة مع أنه يفعل بالعبد كلما يستحقه قطعاً ولا يسمح ويعفو عن قدر مثقال ذرة ولا حبة خردل فإن مع التوبة وزيادة الثواب لم يسقط شيئاً من حقه فلا يكون الترك للعقاب حينئذ عفواً ولا مسامحة فتبين أن عفوه تعالى وغفرانه وما وصف به ذاته الكريمة من تلك الأوصاف الشريفة قاضية بأنه يفعل ذلك جوداً وتفضلاً مع أستحقاق العقاب وعدم سقوطه بتوبة أو ثواب.
وأجبت عن ذلك: بأن تلك الأوصاف الحسنة معناها تائب على ما يقوله ويذهب إليه من منع العفو عن غير التائب وصاحب الصغيرة لأن الله سبحانه وتعالى لم يعجل للعبد ما يستقه من العقاب بل أمهل وحلم ومكنه من التوبة ومع ذلك قابل أنواع الكفر والفسوق والتجري والعقوق بسوابغ النعم وبوالغ الكرم والأمساك عن النقم، وأي حلم أعظم أو عفو أوسع من ذلك ولا شك في تسميته تأخير العقاب عفواً كما قال تعالى في قصة بني إسرائيل: {ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون}. وكقوله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}. لأن المراد ما أصابهم في الدنيا وأرادنا بالعفو عدم إصابة ذلك أتاهم في دنياهم ثم إنا لا نسلم أن عدم عقاب التائب ونحوه لا يسمى عفواً ولا مغفرة فقد سماه الله غفراناً في غير موضع من كتابه المبين كقوله تعالى: {واستغفروا ربكم إنه كان غفارا}، {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فأستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً}، {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فأستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله}، {وإني غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم أهتدى}، {فأغفر للذين تابوا}. وغير ذلك مما يطول عدده ويتصل مدده فإذا كانت المغفرة مقيدة في هذه الآيات بالتوبة وفيما ذكرتموه وأحتججتم به أطلقت ولم يقيد فمن القواعد الأصولية حمل المطلق على المقيد خاصة إذا كان المقيد أكثر من المطلق.
القول في خلود الفساق
قوله: (قد خالف فيه أهل الأرجاء فجوز بعضهم أن يخلدوا وألا يخلدوا، وقطع الباقون على أنهم يخرجون منها).
هذه الرواية عن أهل الأرجاء صحيحة وقد سبق ما يؤيدها والذي قطع بخروجهم رزقان من العدلية ونسب لك إلى أكثر المرجئة.
قالوا: الإجماع الوعد والوعيد فيهم وكذلك الخالدي وهو أبو الطيب محمد بن إبراهيم بن شهاب زعم أن الطاعة توجب قطع العقاب.
وقال الإمام يحيى في التمهيد: أعلم أن المرجئة على طبقاتهم متفقون على أن الله تعالى لا يخلد عقوبة أحدٍ من فساق أهل الصلاة وإن عقوبتهم منقطعة.
قوله: (فما روي عنه عليه السلام أنه قال: ((لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا نمام ولا عاق)). وقوله في الخبر الآخر: ((لم يرح رائحة الجنة)).
يعني: وإذا لم يدخل الجنة أبداً لم يكن إلا في النار.
قوله: (ومعلوم أن الخلود المذكور في هذه الآيات والأخبار هو الدوام الذي لا ينقطع).
هذا هو الظاهر من معنى الخلود والسابق إلى الأفهام وقد نص عليه الجوهري في صحاحه فقال ما لفظه: الخلود هو البقاء الدائم.
وزعم الرازي وغيره أن الخلود طول المكث من غير دوام. والحجة لأصحابنا ما ذكره المصنف وهي الآية الكريمة ولا شك في أن من كان قبله عليه السلام وبعد موته قد لبت في الدنيا لبثاً منقطعاً فلو كان الخلود موضوعاً للبث المنقطع لم يكن للآية معنى فلا بد من القول بأنه تعالى أراد وما جعلنا الخلود الذي هو الدوام لبشر من قبلك أفائن مت فهؤلاء أعداؤك يبقون بعدك دائمين.
قوله: (وقال الشاعر هو لبيد في النهاية:ـ
وغنيت سبتاً قبل مجرى داحس ... وغنيت من غنى بالمكار).
أي: أقام به. وعني بمعنى عاش أيضاً، وقوله سبتاً على رواية الرازي إما بمعنى الراحة لأنها من معاني السبت أو بمعنى دهراً لأن السبات الدهر في أحد معانيه، ومجرى داحس: هو بضم الميم وذلك إشارة إلى سباق وقع بين بعض أحياء العرب على جبل أحدها الداحس ثم نشأ بسبب ذلك حرب عظيم ذهب فيها عدد كبير والمشهور أنه بين فزارة وعبس والله أعلم.
فقوله: (لو كان للنفس اللحوح خلود يتضمن نفي الخلود مع إثباته للبقاء المنقطع في قوله: وغنيت دهراً. فدل على أن الخلود فيها أبداً فإن أهل اللغة بصوا على أن قوله: أبداً. تأكيد لمعنى الخلود فلو أفاده الخلود للدوام لما صح تأكيده بما يفيده ومنها أنه يصح الأستثناء من الخلود مقدار من الوقت فيقال: خالدين فيها ألا سنة أو سنتين فلولا أن لفظة الخلود سيعرفه وإلا لما صح ذلك.
قال الإمام يحيى: ويوضح ذلك أن تلك الآيات دالة على خلود الكفار فيجب أن تكون دالة على خلود الفساق أيضاً.
وأحتج الرازي على ما أدعاه في معنى الخلود فقال: قد ...... أن لفظ الخلود مستعمل في لفظ وهو على خلاف الأصل أو مشتركاً بينهما وهو أيضاً على خلاف الأصل ويجعله مقيداً لطول المكث فقط حتى يكون أسم الخلود بالنسبة إلى الدائم وغير الدائم كأسم الحيوان بالنسبة إلى الإنسان والفرس بمعنى أنه يقع عليهما على سبيل التواطؤ وذلك أقرب إلى الدليل فيكون لفظة الخلود مقيدة لطول المكث فقط، فأما أن ذلك المكث الطويل هل يتعقبه إنقطاع أم لا فذلك إنما يعرف بطريق آخر كما أن لفظة اللون لا تفيد إلا هذه الحقيقة المشتركة بين السواد والبياض فأما خصوصية كل واحد منهما فإنما تستفاد من دليل آخر وإذا كان كذلك لم تكن لفظة الخلود دليلاً على المكث بغير إنقطاع.
والجواب: أن اللغة لا تثبت بصياغة الرازي في الأحتجاج ولا بالدلالة العقلية والترجيح العقلي ومن المعلوم أن البقاء الذي لا ينقطع هو المتبادر إلى الفهم عند إطلاق لفظة الخلود وذلك دليل الحقيقة وإن أستعمالها في غير ذلك من قبيل المجاز ثم أعترض الرازي الأحتجاج بقوله تعالى: {وما هم عنها بغائبين}. بناء على بقية الآيات قد نقض حجيتها بما ذكره في الخلود بأن قوله تعالى: {وما هم عنها بغائبين}. لا يقتضي الدوام فإنه يصح أن يقال: فلان ما غاب عني إلى وقت الظهر. ولو كان ذلك مقتضياً للدوام لكان تحديده بحد معين مناقضاً له ولأنه إذا قيل: فلان لا يغيب عني. فإنه لا يصح أن يسبقهم ويقال: لا يغيب عنك أبداً أو في أكثر الأوقات. ولو كان ذلك نصاً في الدوام لما صح الأستفهام ثم إن سلمنا كونه نصاً في الدوام لكنا نقول: المرجئة تحمله على الكفار لا سيما إذا ثبت أن الألف واللام لا تقتضيان العموم.
والجواب: أما قوله: (لكان تحديده بحد معين مناقضاً له).
فنقول: لا نسلم المناقضة في ذلك فإنه يصح أن يقال: فلان لا يعصي الله في كل وقت وزمان مستقبل إلى أن يموت وليس يلزم من أستغراق المطلق للأوقات عدم صحة التقييد فكلامه في ذلك غير سديد وأما عدم صحة الأستفهام وأن يقال: أتريد أنه لا يغيب عنك أبداً. فالقرينة العقلية التي يقطع معها بأن ذلك غير مراد له وأنه لا يصح أن يقصده لأستحالته، وأما حمل الفجار على الكفار فقط فغير مسلم لأن لفظ الفجار يدخل فيه الفساق فتخصيصه بالكفار تخصيص لا دليل عليه وأما أقتصار الألف واللام للعموم فقد عرف مما سبق دليله صحة الأستثناء.
قوله: (وفيه الأشكال المتقدم).
يعني: لعدم تسليم الإجماع على أنه لا دار ثالثة ومنع الإجماع على أن المكلف لا يدخل الجنة إلا مثاباً.
قوله: (وخلافه معلوم).
يعني: أختلاف عقاب الكفار وعدم أستوائه، ولهذا قال تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار}. ولأن الكفر يتفاوت فكذلك عقابه.
قوله: (ولا يستوي ثواب أهل الجنة).
يعني: لأستوائهم في التخليد لأنكم جعلتموه في حق أهل النار مقضياً إلى الأستواء.
قوله: (والتحقيق أن قوله: {أحقاباً}. جمع ولا غاية لكثير الجمع..) إلخ.
هذا كلام لا يخلو عن ركة ولا يستقيم مع القول بأن الجمع المنكر ليس من ألفاظ العموم والتحقيق ما ذكره جار الله وهو أن قوله: {أحقاباً}، أراد به حقباً بعد حقب كلما مضى حقب تبعه حقب آخر إلى غير نهاية، ولا يكاد يستعمل الحقب والحقبة إلا حيث يراد تتابع الأزمنة وتواليها والأشتقاق يشهد لذلك ألا ترى إلى حقيبة الراكب والحقب الذي وراء التصدير ويجوز أن يزاد لابثين فيها أحقاباً غير ذائقين برداً ولا شراباً إلا حميماً وغساقاً ثم يبدلون بعد الأحقاب غير الحميم.
قوله: (لم يدل تخصصه بالذكر على نفي ما عداه).
يعني: دلالة قطعية وإنما تدل دلالة مفهوم العدد وهي ظنية لا يؤخذ بها في مسألتنا هذه.
قوله: (في الآية نفسها).
يعني: فيما يتصل بها وكالتتمة لها وكذلك يعارضون بأنه يلزم مما ذكروه إنقطاع عقاب الكفار لأن الآية شاملة لهم وللفساق ولا قائل بذلك.
قال الإمام يحيى: لا عن شذوذ لا يلتفت إليهم.
قوله: (والتحقيق أن المراد سموات الآخرة وأرضها).
قال الفقيه حميد في العمدة: فإن قيل: كيف يصح أن يكون في الآخرة سماء وأرض؟.
قلنا: السماء في لغة العرب ما علا الإنسان والأرض ما أستقر عليها فيجوز أن يكون في الآخرة ما يعلوهم فيوصف بأنه سماء وما يستقرون عليه فيوصف بأنه أرض، وأوضح من هذا وأرجح ما ذكره صاحب الكشاف فإنه قال: والدليل على أن للآخرة سماوات وأرضاً قوله تعالى: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات}، وقوله تعالى: {وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء} . ولأنه لا بد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم إما سماء يخلقها الله أو يظلهم العرش وكلما أظلك فهو سماء.
قوله: (والأستثناء عن أول الوقت صحيح).
في العبارة إنضراب والأحسن أن يقال: والأستثناء لأول الوقت لأنه مستثنى وليس بمستثنى منه.
قوله: (وكما قال تعالى: {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى}).
هذا خطأ في التمثيل فإنه من قبيل الأستثناء المنقطع وليس أستثناء من أول الوقت، فإن المستثنى الموتة الأولى والمستثنى منه نفي ذوق الموت في الجنة فأين هذا مما نحن فيه.
واعلم أن جار الله حمل الإستثناء في هذه الآية على وجه آخر فقال: هو أستثناء من الخلود في عذاب النار لأنهم لا يخلدون فيه وحده بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع من العذاب سواء عذاب النار وبما هو أغلظ منها كلها وهو سخط الله عليهم وخسؤه لهم وإهانته إياهم ولهذا قال: {إن ربك فعال لما يريد}. أي يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب.
قال: (ولا يجدعنك عنه قول المجبرة).
أن المراد بالأستثناء خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة فإن الأستثناء الثاني ينادى على تكذيبهم ويسجل بأفتراقهم.
قوله: (والمراد {كنا نعدهم من الأشرار} في الدنيا..) إلى آخره.
هذا هو التحقيق في الجواب.
قال جار الله يعنون فقراء المسلمين الذين لا توبة لهم كانوا يعدونهم من الأشرار أي من الأراذل الذين لا خير فيهم ولا جدوى ولأنهم كانوا على خلاف دينهم فكانوا عندهم أشراراً.
قوله: (لأنها ليست بهمزة أستفهام).
يعني: وإنما هي همزة وصل مكسورة تذهب في الدرج وهمزة الأستفهام مفتوحة وهذا على إحدى القرائتين.
قال جار الله: قرى بلفظ الأخبار على أنه صفة لرجالاً وبهمزة الأستفهام على أنه إنكار وتأنيب لهم في الأستسخار منهم.
وقوله: ({أم زاغت عنهم الأبصار}).
له وجهان:ـ
أحدهما: أن يتصل بقوله: أي ما لنا لا نراهم في النار كأنهم ليسوا فيها بل زاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم فيها قسموا أمرهم بين أن يكونوا من أهل الجنة وبين أن يكونوا من أهل النار إلا أنه خفي عليهم مكانهم.
والوجه الثاني: أن يتصل بأتخذناهم سخرياً إما أن يكون أم متصلة على معنى أي الفعلين فعلنا بهم الأستسخار بهم أم أراد راؤهم وتحقيرهم وإن أبصارنا كانت تعلو عنهم وتقبحهم على معنى إنكار الأمرين جميعاً على أنفسهم وعن الحسن كل ذلك قد فعلوا أتخذوهم سخريا وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم، وإما أن تكون منقطعة بعد مضي إتخذناهم سخرياً على الخبر أو الأستفهام كقولك: إنها لأبل أم شاء.
قال جار الله: قيل: والضمير في قال: لصناديد قريش كأبي جهل والوليد وأضرابهما والرجال عمار وصهيب وبلال وأشباههم.
قوله: (في لفظ الحديث بعدما أمتحشوا وصاروا فحماً وحمماً ...... الأحتراق وأمتحشوا على وزن أفتعل مبني للفاعل.
قيل (ي): والفحم الجمر الذي أنطفأت ناره والحمم الرماد، وقال في المجمل: الفحم. وقال في الصحاح: الحمم الرماد والفحم كل ما أحترق من النار.
قوله: (وإن صح فأحادي).
قال الفقيه حميد: لأنه لو كان متواتراً لاستوى الناس في العلم به أو من يشتد ظلبه منهم لأن ذلك حكم الأخبار المتواترة ومعلوم خلافه فإن نفاة الأرجاء لا يعلمونه ولا يظنونه مع كثرة عددهم وأختلاف أوطانهم.
قوله: (وشبههم بالفحم والحمم..) إلى آخره.
لا بأس بأن يجعل ذلك من ترشيخ الأستعارة لأنه أستعار النار للعمل المؤدي إليها وأردف ذلك بما هو من لوازم المستعار وهو مصير الداخل فيه فحماً وحمماً وفي معنى هذا الخبر مارواه سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد الليثي، عن أبي هريرة، عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو خبر طويل منه: ((حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من النار أمر الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود وحرم الله على النار أن تأكل آثار السجود فيخرجون من النار وقد أمتحشوا قبصب عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل)). ولعل التأويل المذكور في المتن لا يتأتى في هذا الخبر لأنه في ذكر أحوال القيامة وأهوالها وفي كتب الحديث من هذا المعنى ما هو كثير غير قليل.
قوله: (في لفظي الحديث بعدما ذهب خبره وسيره).
هو بكسر الحاء والسين. قال الفراء: لونه وهيئته. وقال الأصمعي: جماله وبهاؤه.
تنبيه:
أعلم أن من شبه النافين لخلود الفساق في النار المعارضة بآيات الوعد كقوله تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون}. والفاسق ممن عمل الصالحات فيجب أن يكون ثوابه دائماً لا ينقطع.
وأجاب الإمام يحيى عنها: بوجهين:ـ
أحدهما: أن الدلالة قد قامت على أن الفاسق بأرتكابه الكبيرة قد حبط عمله وبقي أستحقاقه العقوبة دائماً.
وثانيهما: أن الآية إنما تدل على أنه لا يستحق العقوبة أبداً وأنتم لا تقولون بذلك وليست دالة على إنقطاع عقوبته فكيف يصح إيرادها.
القول في الشفاعة
وجه أتصالها بما تقدم من الكلام في إتصال عقاب ذوي الكبائر إليهم وخلودهم في النار ظاهر فإنها من تتمة القول في ذلك ولا يصح ما تقدم إلا بتصحيح ما يذهب إليه الأصحاب فيها من أنها ليست للفساق ولا لمن يستحق النار وأنها لا تقتضي عدم دخولهم النار ولا خروجهم عنها بعد دخولها وما هي إلا عصن من دوحة الكلام في مسألة عقاب الفساق وخلودهم ولهذا جعلها الرازي طريقة من طرقهم إلى القول بالأرجاء وعدها من أدلتهم في ذلك ووسطها بين حججهم فيه، وعدها الإمام يحيى شبهة من شبههم في ذلك ووسطها بين ما أورده من الشبه وإنما أفردها المصنف وغيره وجعلوها مسألة مستقلة وفصلا على حياله لاتساع القول فيها وتنوعه وتشعب الخلاف فيها بين الشيخ وبين الخصوم وتميزها بأدلة وأسئلة وأجوبة وشبه.
قوله: (فقال أهل الأرجاء إنما تستعمل في دفع الضرر فقط).
هكذا ينسب هذا إلى أهل الأرجاء وقد ينسب إلى المجبرة واحتجوا بأنه لولا قصرها على دفع الضرر للزم أن يكون شفعاً للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وللملائكة إذ دعونا لهم والأجماع منعقد على أنا غير شافعين لهم.
واجبت: بأن الشفاعة في اللغة ما أراد بها فاعلها الحث على المطلوب والداعي للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يقصد الحث على إكرامه صلى اللّه عليه وآله وسلم لأنه يعلم أن الله مكرم له سواء طلب ذلك أو لم يطلبه وإكرام الله ليس لأجل الشفاعة، ألا ترى أن السلطان إذا عزم أن يعقد لأبنه ولاية بلدة ثم حثه ودبره على ذلك مع أن السلطان فاعل له لا محالة وإنما قصد الوزير التقرب بذلك إليه فإنه لا يعد شفيعاً.
قال الإمام يحيى ولأنه يجب أن يكون الشفيع أعلى حالاً وأعظم درجة من المشفوع له، والنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم هو الأعظم درجة والأعلى حالاً، فلا يصح أن يكون شفعاً له.
قلت: وذكر في الغايات أن الشفيع لا يجب أن يكون أعلى من المشفوع له في الرتبة قال: ألا ترى أن زوجة السلطان لو عصته وكرهته فشفع له والدها أن يحسن عشرتها إليه سمي الوالد شفيعاً وإن كان دون السلطان في الرتبة. قال: ولا يعتبر كون الشافع أيضاً أبلغ حظاً عند المشفوع إليه من المشفوع له إلا في ذلك المطلوب فقط إذا قد يشفع الأجنبي إلى الوالد لولده ولا شك أن حظه عند والده أبلغ في غير ذلك المطلوب.
قلت: وأختلف هل يعتبر أن تكون رتبة المشفوع إليه أعلى من رتبة الشفيع أو لا فأعتبر ذلك بعضهم، وقال: لا بد منه.
وقال: ذكر الفقيه حميد في العمدة وغيره: أنه لا يعتبر ذلك.
قال: ولهذا يقال: شفع السلطان إلى الوزير في خادمه. كما يقال: شفع الوزير إلى السلطان في خادمه. وعلى هذا قال صلى اللّه عليه وآله وسلم لبربرة لما أعتقت ورامت فسخ النكاح بينها وبين زوجها: ((زوجك وأبو ولدك)). فقالت: أتأمرني يا رسول الله؟ قال: ((لا وإنما أنا شافع)). وحقه صلى اللّه عليه وآله وسلم فوق كل حق ورتبته فوق كل رتبة.
قال: وإن كان لا يبعد أعتبار الرتبة عرفا.
قوله: (وقال الجمهور: يستعمل فيه وفي جلب النفع).
قال المهدي عليه السلام: ويعلم بتواتر النقل عن أهل اللغة أنهم يقولون: شفع فلان إلى فلان ليقضي دينه أو ليغني فقره. ونحو ذلك، ولا يخالف أحد في ذلك بل هي في جلب المنافع أشهر.
فصل:
قوله: (ذهب الجمهور إلى أن شفاعة نبينا صلى اللّه عليه وآله وسلم للمؤمنين التائبين من أمته).
أعلم أنه لا خلاف بين أهل الإسلام أن لنبينا صلى اللّه عليه وآله وسلم يوم القيامة شفاعة مقبولة وهو المقام المحمود الذي وعده الله إياه يوم القيامة في قوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً}. وقد قال صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((من كذب بالشفاعة لم ينلها)). وأنكرت المطرفية الشفاعة، قالوا: لأنها إن كانت أمر واجب مثل ثواب الصغير فهو يفعل غيرها، وإن كانت في تفضل فلا يجوز عندهم أن يحصى به بل تجب المساواة فيه بين العباد وإلا كان التخصيص من الله ومن رسوله محاباة، والمشهور عن الجمهور وهم الأكثر من الزيدية والمعتزلة أن الشفاعة تكون للمؤمنين سواء كانوا قد أتوا بكبائر .... بأنواعها أو لم يواقعوا كبيرة رأساً ليزيدهم الله بها نعيماً إلى نعيمهم وسروراً إلى سرورهم تفضلاً.
وقال أبو القاسم البلخي: الشفاعة لمن أستوى ثوابه وعقابه فيدخل بالشفاعة الجنة ويرتقي إلى درجة زائدة على درجة من لم يشفع له من المتفضل عليهم وهو ..... بما تقدم من المنع عن الأستواء ومن أجاز ذلك فبطلانه عندنا بأنه لا دليل على قصر الشفاعة على من كان له هذا الحكم دون غيرهم من أهل الجنة.
قوله: (وقال أهل الأرجاء: بل للمصرين من أمته).
يعني: من أهل الكبائر وهم الذين لم يتوبوا والمطلوب عندهم بالشفاعة أن يعفى عنهم ويدخلوا الجنة تفضلاً وكثيراً ما ينسب أصحبنا هذا القول إلى المجبرة وكلهم مرجئة ونسبته إلى أهل الأرجاء أشمل ومناسبته للأرجاء أوضح وأكمل وهل يجوز أن يشفع نبينا صلى اللّه عليه وآله وسلم لغير أمته لا مانع من ذلك وفي الحديث ما يقضي بنه وكذلك الظاهر أن غيره من الأنبياء يشفع إذا شفع وكذلك بعض الأولياء والصالحين لورود ما يقضي بذلك من الأخبار نحو قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، والعلماء، والشهداء)). وورد عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم في أويس القرني سيد التابعين أنه يشفع لعدد ربيعة ومضر وورد أن الطفل يشفع في والديه. وزاد أن الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته فإن لم يكونوا فمن جيرانه، وورد: ((إذا كان يوم القيامة نصبت منابر من ذهب مرصة بالدر جلالها السندس على أبواب الجنة ثم يقال للعلماء أجلسوا على هذه المنابر وأشفعوا تشفعوا ثم أدخلوا الجنة)). وفي الترمذي من رواية أبي سعيد عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((أن من أمتي من يشفع في القيام من الناس ومنهم من يشفع للقبيلة ومنهم من يشفع للعصبة ومنهم من يشفع للواحد حتى يدخل الجنة)). وزاد زبن العبدري: ((إنما شفاعتي لأهل الكبائر، وإنه ليؤمر بالرجل إلى النار فيمر برجل قد سقاه شربة ماء على ظمء فيعرفه فيقول: ألا تشفع لي؟ فيقول: ومن أنت؟ فيقول: ألست أنا سقيتك الماء يوم كذا وكذا فيعرفه فيشفع له فيرد من النار إلى الجنة)). وغير ذلك مما يطول ذكره.
قال الفقيه حميد: وهذا من المجوزات. يعني: شفاعة غير الأنبياء. قال: فإن كانت الأخبار مقطوعة وجب أن يقطع عليه وإن لم يكن مقطوعاً عليها بقينا على التجويز لأن القطع من غير دلالة لا يجوز.
قوله: ( قال القاضي: العقل يقضي بقبح الشفاعة للفساق..) إلخ.
هكذا ذهب القاضي إلى قبح الشفاعة للمصر، وأختاره السيد في الشرح، وذهب الشيخ أبو هاشم إلى أنها تحسن له عقلاً وأتفقوا أنها لا تكون شمعاً ولا تحسن بعد وروده بالمنع منها لأنها سؤال لما فيه تكذيبه تعالى.
ووجه ما ذهب إليه القاضي: ما ذكره في المتن وهو مستقيم في حق المصر كما ذكره وصوره لكن لا يلزم منه قبح الشفاعة في الآخرة لمن مات مصراً للفرق بينه وبين المصر الباقي على أصراره لأنه لم يبق للعصاة عزم في الآخرة على معاودة المعصية بل قد صاروا نادمين أشد الندم، وإن لم يكن ندمهم في الوقت الذي ينفع الندم فيه والمصر الذي صور الكلام فيه عازم على أن يعود إلى مثل الذنب الذي شفع له بالعفو عنه.
وأحتج أبو هاشم بوجهين:ـ
أحدهما: أنه قد ثبت حسن العفو عقلاً عمن مات مستحقاً للعقاب فلتحسن الشفاعة.
الثاني: أنه قد ثبت حسن دعاء الواحد منا لنفسه بالمغفرة فلتحسن من غيره أن يسأل له ذلك.
قوله: (دليل قال تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن أرتضى}..) إلى آخره.
أعترضه الرازي بأن الفاسق ممن أرتضاه لإيمانه.
وأجبت: بان الأتفاق واقع على أنه غير مرتضى على الأطلاق وإنما المرتضى على الأطلاق المؤمن الذي ليس بفاسق والآية دلت على أن الشافعة لمن أرتضاه مطلقاً غير مقيد.
قال: يحتمل أنه أراد لمن أرتضى الشفاعة له ويعضده {من ذا الذي يشفع عنده إلا بأذنه}.
أجبت: بأن ظاهرها يقتضي خلاف ذلك ولا موجب للتأويل.
قوله: (لأن اللام للأستغراق).
يعني: حرف التعريف في قوله: {ما للظالمين} أراد بالنكرة في سياق النفي.
قوله: ({من حميم ولا شفيع}).
ووجه الأحتجاج بالآية: أن الله تعالى أخبر على سبيل القطع بأنه لا شفيع للظالمين يوم القيامة تقبل شفاعته ولا شك أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم مقبول الشفاعة فلا يشفع لفاسق إذ لا تقبل الشفاعة له.
قوله: (قالوا: الطاعة تقتضي الرتبة).
قد أدعى الرازي الضرورة في أن المطاع أعلى رتبة من المطيع.
قال المهدي: وهي دعوى مجردة يمكن مقابلتها بدعوى الضرورة أنه من فعل ما أراده المطيع وقد أعترض الأستدلال بالآية بأن المراد نفي الشفاعة في الدنيا.
وأجبت: بأن الآية عامة ولم يقع ما يقتضي تخصيص ذلك بوقت دون وقت وبأن سياق الآية يقضي بأنها في الآخرة وهو قوله تعالى: {وأنذرهم يوم الأزفة}.
قوله: (ولا نصرة فوق دفع ضرر العقاب).
يعني: فلو شفع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم للفساق وظالمي أنفسهم لكان ناصراً لهم لأنه من منع من وصول الضرر إلى الغير فهو ناصر له، وأعترضه الرازي بأن النصرة المدافة على وجه القهر والأستيلاء والذي أثبت هو الشفاعة وهي الطلب على وجه الخضوع.
وأجبت: بوجهين:ـ
أحدهما: منع ما ذكره فإن النصرة دفع المضرة بأي وجه من حيلة أو شفاعة أو قهر.
الثاني: أن حمل الآية على ذلك تذهب فائدتها لأن كل أحد يعلم أنه لا مقاهر لله ولا مغالب فالأخبار تنفي ذلك أخبار لا فائدة منه وتجري مجرى السماء فوقنا ونحوه، ومثل هذا يقال في جواب قولهم: إنما نفى الشفيع الذي يطاع وهو الأعلى رتبة وقد أشار إليه المصنف.
قوله: (والآية خرج مخرج الرجز عن العاصي).
يعني: فيكون المراد بها نفي الشفاعة في إسقاط العقاب ليقع الرجز ولا يحمل على نفي الشفاعة بزيادة المنافع لأنه تعالى قال: {وأتقوا يوماً}. لا أزيد منه على منافع المستحق للثواب بشفاعة أحد لم يحصل ذلك الرجز.
قوله: (وقال تعالى: {أفأنت تنقذ من في النار}).
ربما يقال أن الشفاعة تكون قبل دخول النار ولكن كثير الأخبار الدالة على الشفاعة التي يتمسك بها الخصوم مصرحة بأن الشفاعة في إخراجهم من النار وظاهر ما في الكشاف أنها في غير هذا المعنى. قال فيه: نزل أستحقاقهم العذاب وهم في الدنيا منزلة دخولهم النارحتى نزل أجتهاد رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم وكده نفسه في دعائهم إلى الإيمان منزلة إنقاذهم من النار. وقوله: {أفأنت تنقذ من في النار}. يفيد أن الله تعالى هو الذي يقدر على الأنقاذ من النار وحده ولا يقدر على ذلك أحد غيره فكما لا تقدر أنت أن تنقذ الداخل في النار من النار ولا تقدر أن تخلصه مما هو فيه من أستحقاق العذاب بتحصيل الإيمان فيه.
قوله: (وقال في الذين كسبوا السيئات: {ما لهم من الله من عاصم}).
يقال: إن الشفيع ليس بعاصم لهم من الله ولا مانع، فإن ذلك يفيد بالذوق أن المراد من عاصم يمنعه تعالى عنهم قهراً ويجيرهم منه ولأنه يجوز أن يكون المراد: مالهم من جهة الله ومن عنده من يعصمهم كما يكون للمؤمنين وقد نص عليه جار الله في الكشاف.
قوله: (أنؤمر بالفسق والإصرار أو بالتوبة والإيمان).
تمامه فمن المعلوم أنه يؤمر بالطاعة ولو كانت الشفاعة لدفع العقاب فقط لزم أن نؤمر بالمعصية وذلك باطل.
وأعترضه الرازي: بأنه يؤمر بالطاعة لأنها التي يستحق لأجلها الشفاعة في إسقاط العقاب.
قال المهدي عليه السلام: وهذا أعتراض جيد.ز
وأعترض أيضاً: بأنه كما لو حلف ليفعلن ما يتوجه عليه بفعله التوبة من غير فرق وبأنا نأمره بالإيمان لا بالفسق وبحيث فلا مانع من ذلك كما ل حلف ليفعلن معصية فإنه لا يؤمر بها بل يؤمر بالترك والتكفير عن يمينه.
قوله: (وقع الإجماع على قولهم: اللهم أجعلنا ممن يستحق الشفاعة).
أي على حسن الدعاء بهذا ولو كانت الشفاعة للفساق كان تقدير السؤال: اللهم أجعلنا من الظالمين الذي يقارفون العظائم ويواقعون المآثم ولا خلاف أنه يقبح الدعاء بما هذا حاله.
قوله: (ولهذا كان عليه السلام يستغفر في مجلسه مراراً كثيرة عن ابن عمر: كنا نعد لرسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم في المجلس الواحد مائة مرة: رب أغفر لي ذنب على أنك أنت التواب الرحيم. وروي أيضاً: أنه كان صلى اللّه عليه وآله وسلم يستغفر في اليوم والليلة سبعين مرة.
قوله: (ممن يفعل فعل التوابين).
يعني: من العاملين أعمال التوابين المخلصين المنزجرين عن المحرمات القائمين بالواجبات.
قال الفقيه حميد: أو يكون المراد أجعلنا من التوابين إذا وقع منا عصيان يوجب التوبة أو من التوابين مما يعرض في خلال الطاعات والمباحات من قبائح لا يكاد يسلم أحد عنها من قبيل التقصير لأن أحدنا لا يفارق القبيح في كثير من الأوقات ولذلك روي عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((أنه ما من مؤمن إلا وله ذنب يصيبه الفينة بعد الفينة لا يفارقة حتى يفارق الدنيا.
تنبيه:
اعلم أن للأصحاب على نفي الشفاعة للفساق أدلة غير ما ذكر منها أنا قد دللنا على خلود الفساق في النار فلو شفع لهم صلى اللّه عليه وآله وسلم شفاعة تنجيهم أدى ذلك إلى نقص تلك الأدلة وتكذيبه تعالى فيما أخبر به وذلك لا يصح، ومنها أنه كيف يليق بخلائق النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم الشريفة الفائقة أن يقول لرب العزة يوم القيامة يا رب قد كنت أنزلت علي كتاباً في الدنيا وبعثتني رسولاً إلى الأنس والجن لأعلمهم ما شرعت لهم وأمرهم بطاعتك وأعدهم عليها ثوابك وأنهاهم عن معصيتك وأتوعدهم عليها بعقابك وأنا إلا رأساً لك إلا نفي بذلك وأن يصير المشي مع المحسن والمجرم مع المسلم ويبطل ما أمرتني به من تبليغ وعدك، وبيان الفرق بين من أحسن وأساء فهل يحسن ذلك من الرسول مع قوله تعالى: {أفتجعل المسلمين كالمجرمين}. هذا ما لا يستحسنه عاقل فكيف به صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو الأعظم حلماً وعلماً وعقلاً.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (إن التائب مستغن بكونه من أهل الجنة عن الشفاعة).
هذا بناء على أن الشفاعة للتائب وقد تقدم أنها للمطيعين عموماً والكلام مستقيم على ذلك أراد أنهم مستغنون بإتصال الثواب إليهم موفراً خزيلاً في كل وقت وحين وربما أكدوا ذلك بمثال يوردونه وهو أن من كان على مائدة جيدة من الطعام فيها أنواعه وأنواع الأدام فإذا شفع له شافع بزيادة رغيف لم يكن لهذه الشفاعة موقع أصلاً ولا يكشف عن جاه صاحبها.
وأجبت: بأن هذه الصورة ليست بنظيرة لمسألتنا فليس في الجنة ما يتنزل منزلة الرغيف في المحل وإنما نظظيرها من أعطاه الشلطان عشراً من الحلل النفيسة مع إعطاء غيره مائة حلة نفيسة فيشفع إلى السلطان بعض غلمانه لصاحب العشر في الزيادة فإنه يظهر محله من السلطان بحسب ما يحصل لذلك المستعطي من الزيادات فإنها إكرام واضح للشفيع.
قوله: (ليس فيه أنه تعالى يفعل هذه الزيادة من دون شفاعة).
يعني: فيجوز أن يفعلها عند الشفاعة وما هذا اله يجوز وصفه بأنه شفاعة، وقد ذكر الفقيه حميد أنه يجوز أن يوصل تعالى إليهم منافع سوى ما أخبر به لأجل شفاعته فإن فضله تعالى لا نهاية له ولا غاية لآخره.
قوله: (قالوا: قال عليه السلام: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي))).
رواه الرازي في النهاية: ((أدخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)). هكذا كرواية المصنف أخرجاه من حديث أنس، وأخرج الترمذي عن جابر مثله وزاد فيه قال الراوي فقال لي جابر: من لم يكن من أهل الكبائر فما له وللشفاعة.
قوله: (فقد روى الحسن البصري: ((ليست شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي))).
رواه الرازي في النهاية: ((لا ينال شفاعتي أهل الكبائر من أمتي)). أعترضه بأنه مرسل المراسيل وليست بحجة عندهم ولا يسلم له أن المرسل ليس بحجة لكنه والمسند حيث هما أحديان ليسا بحجة قطعية فلا يعتمد عليهما هنا.
قوله: (فتقديره إذا تابوا).
أعترضه الرازي بأن وصفهم بكونهم من أهل الكبائر يعتدم وذلك لا يتناولهم بعد التوبة ويمكن الجواب بأن ورود مثل ذلك من الحكيم كثير غير قليل كقوله تعالى: {وعصى آدم ربه فغوى}، فإذا جاز في الأنبياء فليجر في حق من دونه بمراتب.
قوله: (لأنهم أحوج إلى شفاعته).
هذا وجه مستقيم وقد أتى بعضهم بوجه آخر وهو: أنه غيبهم بالشفاعة لكيلا يقنطوا ويظنوا أنه لا نصيب لهم لأجل ما أقترفوه.
فصل:
أختلف الشيوخ في المطلوب بالشفاعة.
قوله: (وقال أبو الهذيل أن يعود الثواب الذي أسقطته المعصية ظاهرة الأصلاق فيعم ما أسقطته الصغيرة ما أسقطته الكبيرة قبل التوبة وكلام المصنف في الأحتجاج عليه مصرح بذلك حيث قال: لكان التائب بعد أرتكاب الكبيرة على حالاً فيه لو لم يرتكبها والمشهور عن أبي الهذيل أنه جعل الشفاعة ليعود من الثواب ما أسقطته الصغائر.
قال الفقيه حميد: وحكي عن الشيخ أبي الهذيل: أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يشفع لأصحاب الصغائر ليرجع ما نقص من ثوابهم بما أستحقوه من العقاب على الصغائر التي وقعت منهم. وهكذا نقل غيره.
قوله: (وله أن يقول إن ثواب التوبة هو أن يعود بها..) إلى آخره.
فيه نظر لا....... العبارة وعدم أستقامتها وما معنى الحكم على ثواب التوبة بأنه هو أن يعود بها وبالشفاعة ما سقط من ثوابه هذا كلام مختل، وكان الصواب وله أن يقول: إن الشفاعة تكون بأن يعود له من ثوابه ما يصير هو وثواب التوبة كثوابه لو لم يأت بالكبيرة أو مثل ثواب غيره ممن لم يأت بها ويمكن أن يجاب بأن الذي يحصل بالشفاعة يفضل لا محالة من القواعد الشهيرة أنه لا يصح التفضل بالثواب لأنه يتضمن التعظيم وتعظيم من لا يستحق التعظيم قبح فكلامه لا يستقيم على تلك القاعدة.
تنبيه:
لم يتعرض الأصحاب في كثير من كتبهم لإيراد غير الخبر الذي ذكره المصنف مما يقضي بالشفاعة للعصاة ولا أستعلوا بالجواب عن غيره والأحاديث الواردة في الشافعة للعاصين كثير وقد ذكر بعض علماء الحديث أنها بالغة حد التواتر منها قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((لكل نبي دعوة مستجابة فيعجل كل نبي دعوته وإني ....... دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي ماثلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً)). رواه أبو هريرة وأخرجه البخاري ومسلم ومالك في الموطأ والترمذي عن عمران بن حصين عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: يخرج قوم من النار شفاعة محمد فيدخلون الجنة يسمون الجهميين. أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي، وعن جابر عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((يخرج من النار قوم بالشفاعة كأنهم الثعارير قلنا: وما الثعارير؟ـ قال الضغائيس)). أخرجه البخاري ومسلم.
قلت: قال الجوهري: التعارير بالعين المهملة الثأليل، وعن أنس قال حدثنا محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: ((إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض فيأتون آدم فيقولون: أشفع لنا.
فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الله فيأتون إبراهيم.
فيقول: لست لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله فيأتون موسى.
فيقول: لست لها ولكن عليكم بعيسى فإنه روح الله فيأتون عيسى.
فيقول: لست لها ولكن عليكم بمحمد فيأتون.
فأقول: أنا لها فاستأذن على ربي فيؤذن لي فأقوم بين يديه فأحمده بمحامد لا أقدر عليها الأن يلهمنيه الله ثم أخر له ساجداً.
فيقول: يا محمد أرفع رأسك وقل نسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع.
فأقول: يا رب أمتي أمتي.
فيقال لي: أنطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منها فأنطلق فأفعل ثم أرجع إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ثم آخر له ساجداً.
فيقال لي: يا محمد أرفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع.
فأقول: يا رب أمتي أمتي.
فيقال لي: أنطلق فمن كان في قلبه مثال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها فأنطلق فأفعل ثم أعود إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً كما فعلت.
فيقال لي: يا محمد أرفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع.
فأقول: يا رب أمتي أمتي.
فيقال لي: أنطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل ثم أرجع إلى ربي في الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم آخر له ساجداً.
فيقال لي: يا محمد أرفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع.
فأقول: يا رب أئذن فيمن قال لا إله إلا الله؟.
قال: ليس ذلك لك. أو قال: ليس ذلك إليك ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله)). أخرجه الشيخان البخاري ومسلم وهو من أبلغ أحاديث الشفاعة، لكن إذا تؤمل ففيه ما فيه من وجوه:ـ
أحدها: أن أوله يقضي بأن الملتمس للشفاعة هم أهل القيامة كافة ولهذا فزعوا إلى الأنبياء أولاً فالأول فلما أنتهوا إليه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: ((أنا لها)). ثم لم يذكر إلا أمته.
الثاني: أنه يقضي بأنهم طلبوا الشفاعة وهم في العرضة لأنه قال: ((إذا كان يوم القيامة)). ولئن سياق الحديث يقضي بأجتماع السعداء والأشقياء وحضور الأنبياء ثم ذكر في قبول الشفاعة في جميع المرات ما يقضي بأن المشفوع لهم قد صاروا في النار لأنه يقال: ((فأخرجه منها)). ولا شك أن الضمير للنار ولا يستقيم أن يكون للقيامة ولا يساعد عليه الذوق والأساليب.
الثالث: أنه ذكر في الرابعة أنه لما طلب إخراج من قال لا إله إلا الله قال: ((ليس ذلك إليك، وعزتي وكبريائي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله)). وذلك يقضي بعدم قبول شفاعته فيهم لقوله: ليس ذلك إليك. مع أن شفاعته لا ترد ولا يشفع إلا فيما يجاب إليه لأنه متضمن مع رده للأخبار بأنه يفعل ذلك فكيف يمنع صلى اللّه عليه وآله وسلم منه مع أنه لا محالة مؤكد بالقسم العظيم لأن قول لا إله إلا الله معظم الأيمان ورأسه وقد ذكر في الثالثة أنه يؤذن له بإخراج من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان ولكن التأويل والتقويم ممكنان لمن له بصيرة ونضر بهذا البيان والله أعلم بحقيقة ذلك وهو الملك الديان وعن أبي سعيد عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن أناس أصابتهم النار بذنوبهم فأماتهم إماتة حتى إذا كانوا حمماً أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر صبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة في جميل السيل)). أخرجه مسلم فيما أنفرد به فهذه الأحاديث من جملةما ورد من أحاديث الشفاعة الدالة على أنها تقع لمن يستحق العقوبة ودخول النار نعوذ بالله منها رواها أئمة الحديث وأخرجوها في مسنداتهم وصحاحهم وأصحابنا ربما ينكرونها ويقولون إن صحت فلا يخرج عن زيبة الآحاد فإن التواتر من حقه كثرة الراوين وأستواء الطرفين والأوساط في ذلك والله ولي التوفيق وبيده أزمة التحقيق.
وإذ قد فرغنا من ........ على مسألة إيصال عقاب الفساق إليهم وما يتعلق بها من ذكر خلودهم ومنع الشفاعة لهم وهي عظمى مسائل باب الوعد والوعيد ومجال التشاجر والتنازع الشديد وتم ما أوردناه من التعليق على ما يفتقر إليه من كلام المصنف ومن الأتيان بفوائد زوائد وفوائد شوارد فلنختم الكلام في ذلك بأربع نكت جليلة القدر عظيمة الخطر ينبغي أن تصغي إليها الآذان وتعكف عليها الأذهان وينظر إليها بعين الإنصاف ويتأملها الواقف عليها التأمل الصاف فإنها نافعة إن شاء الله تعالى:ـ
النكتة الأولى: لا يخفى على الخائض في هذا الفن أن الوعيدية من المعتزلة والزيدية وغيرهم أعتمدوا في أنه لا بد أن يفعل بالفاسق ما يستحقه من العقوبة ويخلد في النار ولا تنفعه شفاعة الشافعين على العمومات الواردة المتعددة من الآيات القرآنية والأخبار النبوية ومع ذلك بنوا على أنها أدلة قطعية وبراهين........ وأن المسألة ليست بظنية وأن المخالف فيها ما بين كافر وفاسق ومخطي خطأ فاحشاً لا يبعد معه فسقه على حسب أقاويل المرجئة وأختلافها وتفاوتها في الخطأ وعدم الإصابة ثم إذا تأملت الأمر ونظرت في كلام الأصحاب وغيرهم وقواعدهم في فن أصول الفقه أطلعت على ما يقضي بخلاف ذلك من وجوه:ـ
أحدها: أن ألفاظ العموم في إفادتها للعموم خلاف شديد ونزاع عظيم وقد سبق ذكره والأدلة على إفادتها للعموم قد مضى ذكرها وتحريرها وللناظر فيها نظره.
وثانيها: أن ألفاظ العموم من قبيل الظواهر وليست من قبيل النصوص والظاهر دلالته ظنية أو حقيقية ما دل دلالة ظنية ولا شك أن اللفظ العام يتطرق إليه الأحتمال وكل لفظ يحتمل غير ظاهره لا يمكن القطع بمدلوله.
وثالثها: أن هذه العمومات المحتج بها في المسائل المذكورة مخصصة بلا شك عندنا وعند من أثبت عمومها من مخالفينا، أما عندنا فبأخراج التائب وصاحب الصغيرة منها، وأما عندهم فبذلك وغيره والأكثر من علمائنا وغيرهم يقولون بأن العام إذا خص صار مجازاً في الباقي مطلقاً.
قال صاحب الجوهرة: هو قول عامة المتكلمين غير القاضي وأبي الحسين ومن حذا حذوهما.
قال في تعليق الجوهرة: وهو الذي يقضي به النظر واللائق بالمتكلمين ومذهب القاضي به يكون مجازاً إلا أن يكون مخصصه شرطاً أو صفة.
وقال أبو الحسين: يكون مجازاً إلا أن يخص بما لا يستقل من شرط أو صفة أو أستثناء.
وقال أبو الحسين الكرخي: إذا خص اللفظ العام بمنفصل صار مجازاً.
وقال الإمام المنصور: إن كان الباقي بعد التخصيص هو السابق إلى الفهم دون المخصص فالعام على حقيقته كقوله تعالى: {واقتلوا المشركين}. ثم يخص أهل الكتاب لأن السابق إلى الفهم من لفظ المشركين عبدة الأوثان ومن على صفتهم في إثبات الشرك لله وإن كان المخصص مما يسبق إلى الفهم مثل الباقي صارت دلالته على الباقي مجازاً به نحو: أقتلوا الكتابيين ثم يستثني اليهود.
فتبين لك مما شرحناه أن الأتفاق حاصل على أن عمومات الوعيد من قبيل المجاز وأن أبا الحسين وقاضي القضاة وأبا الحسين الكرخي والإمام المنصور بالله يوافقون في ذلك وإن خالفوا في شيء من العمومات غيرها ولم يوافقوا الجمهور في الأطلاق لأنها خصصت بمنفصل وهي الدلالة العقلية وما ورد من الأدلة السمعية منفصلاً عنها غير متصل ولأن المخصص منها لا يسبق إلى الفهم عدم دخوله فيها كما أشار إليه الإمام المنصور، ولأن التوبة من القاتل مثلاً لا تخرجه عن كونه قاتلاً ولا يسبق إلى الفهم عند سماع قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً}. خروج من تاب من القاتلين لولا ما دل على ذلك من الأدلة المنفصلة العقلية والسمعية وإذا كانت دلالة اللفظ العام بعد تخصيصة مجازية فمن المعلوم أن الدلالة المجازية غير قطعية.
ورابعها: أن اللفظ العام إذا خص صار مجملاً عند كثير من العلماء لا يعلم المراد به وهذه مسألة خلاف بين الأصوليين فعيسى بن إبان أطلق ذلك وقال: بأي دليل خص وعلى أي وجه خص صار مجملاً لا يصح التعلق به فيما بقي.
وقال الكرخي وابن شجاع: إن خص بمنفصل صار مجملاً وإلا فلاء.
وقال أبو الحسين، والشيخ الحسن الرصاص: إن خرج قدر معلوم له ظاهر فلا إجمال وإلا صار مجملاً.
فبين أن عمومات الوعيد قد صارت مجملة عند ابن إبان والكرخي وابن شجاع ومن تابعهم لأنها مخصصة ومخصصها منفصل، وإلى ذلك ذهب الأصم وهو من العدلية أستاذ ابن عليه فحكم على عمومات الوعيد بأنها بعد التخصيص مجملة فلا يستدل بها على شيء، ثم إن ما خص من العمومات بمجمل فلا شك أنه يصير مجملاً كقوله تعالى: {إلا ما يتلى عليكم}. كما نص عليه أبو الحسين ولا يبعد أن يكون ما ذكره متفقاً عليه فإنك إذا قلت: جاء القوم إلا بعضهم لم يمكن الأستدلال بذلك على مجيء زيد ولا عمرو منهم لتجويز أنهما من البعض المستثنى فلقائل أن يقول: قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}. بمنزلة الأستثناء المجمل من كل وعيد ورد للفاسق فصيرته عمومات الوعيد مجملة.
قال الإمام المهدي عليه السلام ما لفظه: هذا سؤال واقع مشكل جوابه على الوعيدية إشكالاً بليغاً ولا مخلص لهم منه إلا بمجموع آيتين كريمتين: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه}، {من يعمل سوءاً يجز به}. فإن مجموعهما يقتضي أن ذلك لبعض الذي وعد بغفرانه إنما هو الصغائر دون الكبائر فهو بيان لذلك البعض المجمل.
وخامسها: أن ابن الحاجب ذكر في كتابه مختصر المنتهى: خلافاً في العام إذا خص على غير هذه الصورة المتقدمة، وإن كان في التحقيق يعود إلى دعوى الإجمال.
فحكي عن أبي ثور: أن العام إذا خص فليس بحجة مطلقاً.
وعن البلخي القول: بأنه ليس بحجة إن خص بمنفصل.
وعن أبي عبدالله البصري: أنه إذا خص من العام ما لم يكن منبئاً عنه نحو تخصيص من لم يسرق النصاب ومن لم يسرق من الحرز من عموم قوله تعالى: {والسارق والسارقة}، لم يكن حجة وإن خص منه ما كان منبئاً عنه نحو تخصيص الذميين من المشركين في قوله تعالى: {أقتلوا المشركين}، فإن لفظ المشركين يتناول أهل الذمة ...... عنهم فهو حجة في الباقي، ولقد كنت في حال الدرس ومطالعة كتب علم أصول الفقه شديد التعجب من قطع أصحابنا في مسائل الوعيد أستناداً إلى دلالة العمومات وما لهم من التخطئة والتصويب في ذلك لكون قواعدهم في فن الأصول لا تقتضي ذلك ثم من عدم تعرضهم ....... على ما ذكرناه في فن الكلام فما لهم إن كانوا يقولون في عمومات الوعيد بخلاف ذلك لم ينتهوا عليه ولا يلتفتوا إليه وباحثت في ذلك كثيراً من المعاصرين فما أجاب على من راجعته في ذلك بشيء قط وبحثت عن ذلك في كتب الأصحاب فما وقفت فيها على شيء من التعرض لذلك حتى أنتهى إلينا شرح لمقدمة البحر الكلامية للفقيه عبدالله بن محمد البحري فأشار إلى هذه المعاني إشارة حسنة مختصرة قال ما لفظه عند شروعه في شرح مسألة دخول الفساق في الوعيد:ـ
هذه مسالة الإرجاء الكثيرة الأنظار العظيمة الأخطار فلن يتبين فيها وجه الحق إلا بأربع مقدمات:ـ
أحدها: أن في اللغة ألفاظاً موضوعة للعموم.
وثانيها: أن كون تلك الألفاظ للعموم معلوم مقطوع به.
وثالثها: أن دلالة تلك العمومات على مدلولاتها قطعية.
ورابعها: أن العموم بعد تخصيصه باق على حجيته القطعية فيما بقي بعد التخصيص.
وكل واحدة من المقدمات فيها خلاف والمخالف في أي مقدمة منها يلزمه الإرجاء. أنتهى.
ولقد أجاد وأفاد وحرر العبارة وأحسن الإشارة ثم ذكر بعد ذلك الأدلة على تلك المقدمات باختصار غير شاق وعدم بسط واف ثم لما يسر الله سبحانه لنا مطالعة شرح تلك المقدمة الكبير لمصنفها الإمام المهدي لدين الله عليه السلام وجدناه قد سبقنا إلى ما لم نظن أنا قد سبقنا إليه من ذلك وتكلم في شرحه على طرف مما شرحناه فقال بعد خوضه في هذه المسألة وبسطه فيها جوابات واسئلة ما لفظه:ـ
ويلحق بهذه الجملة سؤال وهو أن يقال إن من أصولكم أن دلالات العمومات على ما تناولته ظنية لا قطعية على ما سيأتي تحقيقة في أصول الفقه وأدلتكم على وصول العقاب إلى الفاسق إنما هي عمومات الوعيد فكيف قطعتم بعقابه والدلالة عليه ظنية فهلا خصصتم هذه العمومات بالأخبار الواردة في سلامة الفاسق من العقاب وإن كانت أحادية.
قال عليه السلام والجواب والله الموفق: أن هذا السؤال كان كثيراً ما يعرض لنا أيام قراءتنا فما أجابنا فيه شيوخنا بجواب شاف حتى نظرنا فيه نحن فأنكشف لنا أن طريق القطع بوصول عقاب الفاسق إليه ليس مجرد العموم الشامل له وإنما هو كون الوعد والوعيد أخباراً وقد علمنا أن ألفاظ العموم موضوعة لإفادة الشمول إلا لمخصص فحيث جاب لا مخصص لها وجب القطع بشمولها لما تحتمله وإلا كان ذلك الخبر كذباً والكذب قبيح والله يتعالى عن فعل القبيح.
ثم ذكر عليه السلام: أن المسألة التي يستدل عليها بالعموم إن كانت من قبيل العمليات فلا سبيل لنا إلى القطع ببقاء المخصص لما ثبت من جواز تكليفنا فيها بالظن وإن مراد الله تعالى من كل مكلف ما أداه إليه ظنه إذ ........ فيه لما سيأتي تحقيقه في أصول الفقه فما من عموم سمعته إلا ويجوز أن له مخصصاً لم نسمعه، وأن الله تعالى أراد منه العمل بظنه في شمول العموم وإن كان في نفس الأمر له مخصص فهو غير مكلف به وإنما كلف به من بلغه لأن مصلحته فيه، وأما إذا كانت تلك المسألة من العلميات أي مراد الله منا فيها العلم اليقين فإنه إذا ورد فيها لفظ العموم فبحثنا عن مخصصه فلم نجده ولا دليل لنا على تلك المسألة إلا ذلك اللفظ فإنها نقطع بشمول ذلك اللفظ لما يصلح له بعد بحثنا عن مخصصه في العقل والسمع فلم نجده إذ لو كان لوجب على الله تعالى أن....... عليه بخاطر أو نحوه أو يلزم ألا يجب عليه البيان لما تخاطبنا به مما يريد منا القطع بمضمونه وإلا كان مكلفاً لنا بما لا نعلم وهو يتعالى عن ذلك ولما لم يكن المقصود بخطابنا بآي الوعيد العمل وإنما أريد منا الأعتقاد لمضمونها وقد بحثنا عن مخصصاتها فلم نجد لها مخصصاً نقطع بأنه مخصص لها قطعياً بشمولها لكل فاسق فهذا خلاصة ما ذكره عليه السلام مع زوائد كثيرة وبسط في هذا المعنى وكان رحمه الله سبَّاق غايات وحلال مشكلات.
النكتة الثانية: قد سبق ما قيل في تعارض عمومات الوعد وعمومات الوعيد وأوضحنا ما رجح به جانب الوعيد وأوردنا في ذلك ما ليس عليه مزيد فيما يتعلق بالآيات القرآنية والألفاظ الإلهية وأشد تعارضاً منها وتدافعاً ما ورد في الأحاديث النبوية والأخبار التي هي عن المصطفى صلى اللّه عليه وآله وسلم مروية على سعتها وكثرتها وأتساع ما ألف فيها من الأمهات والأسفار والمطولات فإن الواقف عليها والناظر إليها إذا نظر فيما جاؤا به من الترغيبات والترهيبات جار فكره وطاش لبه حتى أنه قد يرد في شيء من الطاعات بحكم الظن بأنه من أقلها موقعاً ويحكم الحسن بأنه من أحقها مشقة من الوعد العظيم والترغيب الجسيم وما تتضائل عنده المعاصي وإن فحشت وتتصاغر لديه الجرائر وإن كبرت وعظمت وقد يرد في شيء من المعاصي مما يستحقر ويتهاون به ولا يؤبه له من الوعيد الشديد والزجر البليغ والتهديد والترهيب الذي لا يسكن معه نفس مسلم ولا تطيب ما يظن الظان ويعتقد المعتقد ممن نظر إلى ذلك أن الطاعات في حنبه وإن كبرت لا حكم لها ولا تعويل عليها ولا إلتفات إليها فمن حقق النظر في تلك الأخبار وسرها وقدرها حق قدرها توسط في لجج الخوف والرجاء ولم يجد عن أنهما مخرجاً وحار فكره ما وجه حكمه الشارع في إيرادها على تلك الكيفية وفي وجه الجمع بينها على القواعد الأصولية والكلامية وما يكاد النظر في ذلك يقضي إلى كل ما يراد ولا يتحصل منه شفاء الصدور والفؤاد ولا ينبغي أن يعدل إلى أنها أخبار آحاد وإن الناقل لها نقص فيها وزاد وأقرب ما يقال أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لما بعث لدعاء الناس إلى الله وعظم حرصه على هدايتهم وأستنقاذهم من العطب وولع بذلك غاية والولع حتى أن رب العزة سبحانه وهو آمره وباعثه عاتبه على شدة حرصه وذهاب نفسه حسرات ببالغ صلى اللّه عليه وآله وسلم في الحث على الطاعات والترغيب والترهيب للأنزجار عن المعاصي وأتى من النوعين بما تستد عنده رغبة
الطالب ومخافة الهارب ولم يقتصر على الترغيب في الطاعات جملة والترهيب عن المعاصي جملة بل فصل وذكر أعيان الطاعات جلائلها ودقائقها وكذلك المعاصي فما كان من ذلك موافقاً للأدلة القاطعة والبراهين الساطعة فذاك وما كان مخالفاً للقواعد ...... لطباقها ولا يساعد رد إليها وحمل عليها وكان من قبيل المبالغة والتجوزات التي لا تجعل خطأ ولا تعد ولا يمنع إذا وردت ولا ترد لاسيما وهي واردة من أفصح العرب وأوسطهم في النسب وممن ثبتت عصمته عن الذنب فتصدق أقواله وألفاظه ولا يليق الأعراض عما جاء به ولا اعتراضه ويتلقاها السامع بالقبول الواضح ويؤمن بها إيمان مخلص ناصح ويجد في العمل الصالح فذلك في الدين حتم وفي الرأي حزم ومن تمنى إلا ما في وجود الصلامة وأمن مطان المخافة فهو مفرط غاية التفريط ومحبط كالعسوا أسبغ التحبيط والله ولي كلي خير وموليه ومعيد كل فضل ومبدئه.
النكتة الثالثة: أعلم أن مما تطيش منه الألباب وتحار فيه الأفكار وما ورد من وصف شدة العذاب وذكر أحوال النار في آيات القرآن الكريم وصحيح الأخبار ويخطر بالبال أن حال المكلف هذا الضعيف لا يحتمل ذلك وإن ذنبه وإن عظم بالنظر إلى جلال الله وعزيز سلطانه وسعة نعمته وفضله وإحسانه لا يقتضيه بالنظر إلى أن الصادر منه ليس بشيء باعتبار حلم الله وسعة رحمته وكون المعصية لا تصره ولا تنقص من ملكه شيئاً كما ورد عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم حاكياً عن ربه: ((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً)). ثم إن تقدم على ذلك من قبيل التغفيل وعدم السقط والجهل بحقائق الأمور فإذا بالغ الإنسان في معرفة وجه الحكمة في التعذيب بتلك الأنواع أبد الآبدين ودهر الداهرين وماهم عنها بغائبين كانت العقول المسافرة في ذلك لا تريح إلا إذا السفر لا يقتضي لها مما سافرت له ففطر مع أن ذلك أمر معلوم لا يشك فيه مسلم ولا ينازع فيه مميز فنقول ليس من حقنا أن نعلم بعقولنا وجه الحكمة في كل فرد من أفراد أفعال الله تعالى بل العلم بعدله وحكمته الذي لا يخالجه شك ولا شبهة كاف وكلما أشكل علينا وجه الحكمة فيه رددناه إلى هذه الجملة المعلومة فيرتفع الشك ويقع برد اليقين والحاصل أن أمور الآخرة كلها مركبة على السمع فما ورد من السمع دليل يدل عليه ...... واعتقدناه ودنا بأنه مطابق لحكمة الله وجار في منهاج عدله الذي لا ريب فيه بإتصال العقاب إلى مستحقه وتعذيبه بأنواع العذاب الشديدة الهائلة وخلوده في النار كل ذلك فما لا يعلم إلا بالسمع فلما دل عليه علمنا أن ذلك مقتضي العدل والحكمة وأنه ليس فيه ظلم فإن الله ليس بظلام للعبيد والذي يعلم بالعقل مع السمع ليس إلا أصل أستحقاق العقاب من دون معرفة بقدره وإتصاله وأستمرار فعله وتأبده فلا مجال للعقل في ذلك ولا سبيل له إليه والله أعلم.
النكتة الرابعة: أعلم أن الخوف والرجاء من الطرق الموصلة إلى الله والخلائق الحسنة المحمودة المنجية فلا ينبغي أن يخلو قلب مسلم عن كل واحد منهما.
أما الخوف: فمن أحق بأن يخاف من الملك الجبار القهار شديد العقاب الذي بيده أزمة الأمور كلها وإليه المعاد وله ملائكة غلاظ شداد فينبغي للعبد وأن أستفزع في العمل الصالح وعظم في تحصيله حده وبلغ في السلامة من المساخط جهده ألا يخلق عن خوف الله وأخذه وغضبه وشر عقابه فإنه لا يأمن إلا بها إلى خاتمة غير مرضية، أو أن يؤاخذه على ذنب يستححسنه ولا يشعر بأنه قبيح عند الله لتقصير منه في النظر بل على طاعة واجبة أتى بها غير كاملة ولا سالمة مما يشوبها وعما يعد تقصيراً في أدائها أو غير ذلك مع أعتقاده أن حاله تقصر عن القيام بحق الله وشكر أنعمه الباطنة والظاهرة التي لا تحصى وأن طاعاته وإن كثرت وأتسعت ليست شيئاً بالنظر إلى إلى ذلك وبالجملة فالخوف خليقة محمودة وطريقة مباركة مقصودة وقد مدح الله الخائفين منه وأثنى عليهم وجعل خوفه من أوصاف أصفيائه الملائكة المقربين ثم أنه من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل والناس على مراتب في الطاعة وأحقهم بالخوف وأكثرهم تفريطاً في جنب الله وينبغي أن يشتد الخوف بحسب ذلك ولا شك أن الخوف في حق العاصي أوجب منه في حق المطيع ولا ينبغي أن يخلو المطيع عنه وكفى بالخبر المشهور الذي آخره: ((والمخلصون على خطر عظيم)). فكيف يأمن عبد مع ذلك فأبلغ ما يرتقي إليه أن يكون من المخلصين وهؤلاء المخلصون على خطر عظيم فكيف أمن ذي الخطر نعوذ بالله من سخطه.
وأما الرجاء: فهو كذلك من صفات المؤمنين وطرائق الصالحين ومن أحق من الله بأن يعلق به الرجاء وتوجه إليه الآمال وتعلق به الأطماع وهو الجواد الكريم الوهاب الرزاق الفتاح ذو الجود والسماح واسع الرحمة عظيم العفو الذي قال فيما يحكيه عنه نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنكم أجتمعوا في صعيد واحد ثم سألوني فأعطيب كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر فينبغي للعبد أن يكون راجياً لله في كل حالاته ينتظر ....... ورحمته ونفحات لطفه وإحسانه عالماً أنه أرحم به من والديه وأنه أقرب من حبل الوريد إليه، وليحسن العبد الضعيف ظنه بهذا الرب اللطيف ولا ينبغي له اليأس والقنوط والخلو عن الرجاء والظن الحسن وإن بلغ في العصيان وتعدى حدود الله إلى الغاية بل يرجو أن يعطف الله عليه أو يمسه نفحة من نفحات فضله وجوده فيذيقه حلاوة التوفيق ويأخذ بناصيته إلى أقوم طريق ويسعده بخاتمة مرضية وعاقبة حسنة ولا بأس عندي بأن نرجو عفو الله في الآخرة وإن كان عاصياً لكن رجاء مطلق لا يسويه بعقيدة فاسدة فنفس الرجاء لا يعد عصياناً بل ربما بعد طاعة ولا دليل على قبح مثل ذلك وإن كان مذهب الراجي أنه يحق الوعيد وقد ورد عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((أن الله عز وجل أمر بعبد إلى النار فلما وقف على شفيرها ألتفت، فقال: أما والله إن كان ظني بك لحسن. فقال الله عز وجل: ردوه أنا عند ظن عبدي بي)). رواه البيهقي. ولا يخلو هذا الحديث عن مخالفة للقواعد الكلامية مع إمكان التأويل والمقصود التنبيه على حسن الرجاء وتحسين الظن ويقوي بوجه أستشعار الرجاء عند قرب الموت لما ورد عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((لا يموتن أحدكم إلا وهو حسن الظن بربه)).
وبتمام ما ذكرناه تم ما أردنا إيراده في هذا الباب وقد خرجنا من حد الإيجاز فيه إلى الأطناب وخالفنا ما جرى عليه أكثر كتابنا هذا من الأسلوب فلم يكن التوسيع في النقل والبسط لنا بمطلوب لكن لما وجدنا كتب أصحابنا غير شافية في هذه المسألة للأوام ولا وافيه منها بالمرام قصدنا فيها إلى أستيفاء الأطراف وسلكنا فيها منهج الإنصاف ومكنا الناظر فيها من تحقيق النظر وتحريره وتدقيق الإستدلال وتقريره ثم نعود إلى الأسلوب الأول فليس لنا على غير الوسط بين طرفي الإكثار والإقلال في هذا الإملاء وعدم الإملال معول.
القول في المنزلة بين المنزلتين
وهذه هي مسألة الإسماء والأحكام وهي أحد الأصول الخمسة التي بنى عليها قاضي القضاة كتابه الذي شرحه السيد مانكديم بكتابه الشهير الجليل وسميت المنزلة بين المنزلتين ومعناه لغة الشيء بين الشيئين في العلو والإنحطاط وقيل الشيء بين الشيئين ....... إلى كل واحد منهما نسبة، وأما في الأصطلاح فكون صاحب الكبيرة ممن ليس بكافر له أسماً وأحكام بين أسماء المؤمن والكافر وأحكامهما. ووجه تسممية هذه المسألة المنزلة بين المنزلتين كونها كلاماً في إثبات منزلة للفاسق في أسمائه وأحكامه بين منزلتي المؤمن والكافر في أسمائهما وأحكامهما ووجه تسميتها بمسألة الأسماء والأحكام ما ذكره المصنف.
ووجه الحجة إليها: أن المكلفين لما كانوا على ضربين منهم من يستحق العقاب وهم فريقان فريق يستحق العقاب العظيم، وفريق يستحق عقاباً دون ذلك، ومنهم من يستحق الثواب وهم فريقان: فريق يستحقون الثواب العظيم وفريق يستحقون ثواباً دون ذلك. أحتجنا إلى معرفة أسم كل فريق وحكمه لنجري عليه أسمه ونعامله بحكمة.
وأما وجه عدها من مسائل أصول الدين: فلأنه لما كان مدارها على أستحقاق الثواب العظيم والذي دونه وأستحقاق العقاب العظيم وما دونه وكل الكلام في أستحقاقهما من أحكام أفعاله تعالى وهو معدود من الأصول صارت مسألة أصولية وإن كانت لا تخلو عن ذكر فروع فقهية وأحكام راجعة إلى العمل فليتأمل.
قوله: (قد ذهب أهل الحق إلى أن مرتكب الكبيرة من أمة محمد عليه السلام يسمى فاسقاً).
تسمية فاسقاً مجمع عليها ولا يخالف فيها أحد وإنما الخلاف في أنه هل يسمى مع ذلك مؤمناً أو كافراً أو منافقاً أو كافر نعمة فقال بكل واحد فريق وأهل الحق قصروه على التسمية بفاسق فقط ولم يجيزوا أن يسمى بغير ذلك وهو مذهب المعتزلة والزيدية إلا ما حكي عن الناصر عليه السلام من تسميته كافر نعمة.
قوله: (كما تقوله المرجئة).
يعني: فإنهم يسمونه مؤمناً ويصفونه بذلك حتى أن منهم من يقول إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل لاعتقادهم أن الإمام هو التصديق فقط.
قوله: (كما يقوله الخوارج).
أتفقوا على أنه يوصف بأنه كافر وأختلفوا في أنه هل يوصف بأنه مشرك فمنعه الإباضية وأجازه سائرهم.
قوله: (ولا منافقاً كما بقوله الحسن).
قال الفقيه حميد: ولا يقتصر على اللفظ بل يثبت معناه في حقه فنقول إنه ...... الكفر وهو إنكار العقاب.
قوله: (بالإجماع).
يعني: إجماع الأمة هذه الفرق المختلفة وغيرها فإنه لا يخالف أحد في تسميته فاسقاً وما ذهب إليه كل واحد من الخصوم مختلف فيه ولا دليل عليه والتمسك بالمجمع عليه وترك المختلف فيه، والذي لم يقم عليه دليل هو الواجب وإلى هذا أشار الصاحب الكافي بقوله:
وصاحب الذنب لدينا فاسق ... لا مؤمن حقاً ولا منافق
والكل بفسقته موافق ... قولي إجماع وخصمي خارق
قوله: (والنصوص).
يعني: نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية كقوله تعالى فيمن قذف المحصنة: {وأولئك هم الفاسقون}.
فصل:
أما الذي يدل على أنه لا يسمى مومناً.
قوله: (وإن كان في الأصل هو المصدق).
أي في أصل اللغة ومنه قوله تعالى: {وما أنت بمؤمن لنا}. وكذلك يستعمل لغة في فاعل الأمن وهو نقيض الخوف ووصف الله بأنه مؤمن ثاني على هذين الوجهين وهو أنه صدق أنبيائه بما أظهره عليهم من المعجزات والأعلام الدالة على صدقهم وأمن أولياءه من عذابه بما أبانه لهم من الأدلة الدالة على ذلك.
قوله: (فقد صار منقولاً بالشرع إلى من يستحق المدح والثواب).
ظاهره أن اسم المؤمن في الشرع قد صار غير مسبق من الإيمان بأن نقله الشرع عن معناه الأستقاقي إلى غيره والتحقيق أن الإيمان قد صار منقولاً عن معناه الأصلي وهو التصديق فقط إلى معنى آخر وهو مجموع التصديق بالقلب وباللسان والأقوال والعمل بالأركان وأن إسم المؤمن في الشرع مسبق من الإيمان بهذا المعنى الذي وقع النقل إليه ونقل أسم الإيمان إلى ما ذكر هو مذهب أئمة الزيدية ومن تابعهم، وقول الجلة من المعتزلة.
قال الإمام يحيى: وهو مذهب السلف، والمختار.
واعلم أن هذا ينبني على جواز نقل الألفاظ اللغوية إلى معانٍ شرعية وعلى أن هذه اللفظة قد نقلت فأما الأول فالأكثر أن ذلك يجوز وأنه قد وقع.
قال الفقيه حميد: وخالف فيه عباد والمرجئة.
فأما عباد: فإن عنده أن التغيير بقلب الأسم يوجب التغيير بقلب المسمى وهذه جهالة.
وأما الرجئة: فإنهم يقولون لا يجوز ذلك.
قال بعض علمائنا: وبعض عللهم تدل على أنهم أحالوا ذلك وبعضها تدل على أنه لا يقع وإن كان يجوز أن يقع، أنتهى.
وإذا قام الدليل على وقوع النقل ثبت جوازه لأن الوقوع فرع الصحة.
قوله: (وقد أفترقت المرجئة على قولين).
هذه الحكاية تخالف ما حكاه الفقيه حميد عنهم من الإطباق على عدم النقل والأصحاب في حكاية الخلاف في هذه المسألة أقوال متفاوتة.
حكى الإمام يحيى في التمهيد أن الخلاف في موضوع أسم الإيمان فنسب إلى الإمامية والجهمية والأشعرية جعله أسماً لعمل القلب ثم أختلفوا.
فقالت الأشعرية: للتصديق النفساني.
وقال الإمامية والجهمية: للمعرفة.
وحكي عن الكرامية: جعله أسمعاً للقول فقط.
وحكي عن أبي الهذيل، وقاضي القضاة: جعله أسماً لفعل الواجبات والمندوبات.
وحكي عن الزيدية وجلة المعتزلة والسلف: ما تقدم ذكره وأختاره.
قوله: (ما لا يجوز عليه تغيير).
يعني: العقائد الإلهية فيما يتعلق بالله وصفاته وأفعاله وأحكام أفعاله ونحو ذلك.
قوله: (وهو قريب من الأول).
يعني: لعدم أشتراط الكف عن المعاصي وإلا فبينهما من غير هذه الجهة تفاوت ظاهر.
قوله: (بدليل الأجماع).
يعني: على أنه أسم مدح فلا يعلم في ذلك مخالف.
قوله: (وصحة توسطه بين أوصاف المدح).
يعني: نحو فلان صالح مؤمن تقي، ولا يحسن أن يتوسط بين أوصاف المدح ما ليس بمدح كما لو قيل فلان صالح أسود تقي لعدم تناسب الأوصاف والخروج عن قاعدة أنتظام الكلام.
قوله: (ما ذكر المؤمن).
والإيمان في القرآن إلا مدحه وذلك نحو قوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون}، {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا}، {المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}، {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون}. وغير ذلك مما يطول ذكره ومدح المؤمن يتضمن مدح الإيمان.
قوله: (لوجب في الكافر..) إلى آخره.
قال الفقيه حميد: ولجاز وصف اليهودي بأنه مؤمن لأنه مصدق بالله ولكثير من أنبيائه وكذلك النصراني وغيرهم.
قوله: (فأما مع التقييد فنجيزه..) إلخ.
هذا رأي الأكثر فإنهم يجيزون أن يقال في الفاسق مؤمن بالله فيوصف بالإيمان مفيداً، وذهب الشيخ أبو القاسم: أنه لا يسمى مؤمناً بالله ويمنع من وصفه بذلك مفيداً، قال: لأنه يفيد ما يفيده المطلق ولهذا قال تعالى بعد ذكره الجنة: {أعدت للذين آمنوا بالله ورسوله}.
وأجبت: بأن المراد من الآية معلوم وهو أنها أعدت لمن آمن بالله ورسوله مع فعل الطاعات وأجتناب المقبحات وإنما أقتصر في الآية هذه على ذلك لأنه قد بين في غيرها وإتكالاً على أدلة العقول.
قوله: (لأن هذا حال المسبقات عند الجمهور).
هذا مذهب أبي علي، والذي صححه ابن منويه وغيره ويقولون: إنه أطلق الأسم المسبق بعد تقضي الفعل المسبق منه فهو مجاز وخالف في ذلك أبو هاشم فذهب إلى أنه يطلق حقيقة حال الأشتغال بالفعل وبعد تقضيه ولكل منهم متمسك على ما هو مذكور في مواضعه فهذا الدليل مبني على قول أبي علي ومتابعيه ولا يستقيم على قاعدة أبي هاشم.
قوله: (وذلك يقتضي التنافي بين الأسمين).
يعني: وإلا لم يكن لقوله: بعد الإيمان وجه إذ لا يصح أن يقول القائل بئس السجية الاقبال على اللعب بعد الأشتغال بالطاعة إلا وهو لا يطيع في حال اللعب هكذا قرره الفقيه حميد.
وقال جار الله: الأسم بمعنى الذكر من قولهم: طار أسمه في الناس بالكرم وحقيقة ما سمى من ذكره وأرتفع بين الناس كأنه قيل: بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب أرتكاب هذه الجرائر أن يذكروا بالفسق وفي قوله: بعد الإيمان. ثلاثة أوجه:ـ
أحدها: إستقباح الجمع بين الإيمان وبين الفسق الذي يأباه الإيمان ويحظره كما يقول: نئس ......................
الثاني: أنه كان في شيئاً ........ لمن أسلم يا يهودي يا فاسق فنهوا عنه وقيل لهم: بئس الذكر أن تذكروا الرجل بالفسق واليهودية بعد إيمانه.
الثالث: أن يجعل من فسق غير مؤمن كما يقول للمتحول عن التجارة إلى الفلاحة: بئست الحرفة الفلاحة بعد التجارة.
قوله: (وقال تعالى: {وكان بالمؤمنين رحيماً}).
وفي هذا المعنى: ورد قوله تعالى: {بالمؤمنين رؤوف رحيم}.
قوله: (فلو كان الزاني مؤمناً لوجب أن يرحمه).
وكذلك فلو كان كان مؤمناً لما نهي عن الرأفة به.
قوله: (لوجب موادتهم وموالاتهم).
يعني: لأن موالاة المؤمن واجبة أراد وقد بقي الإيمان عمن ...... الفساق لأنه لا شبهة أن الفاسق بفسقه قد حاد الله فثبت أن موالاته حرام.
قوله: (قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني..)) إلى آخره).
وتمامه: ((ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)).
قوله: (وقال عليه السلام: ((الإيمان بضع وسبعون باباً)).
وتمامه: ((أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)). والبضع ما بين الواحد إلى التسعة.
قوله: (وقال عليه السلام: ((بني الإسلام على خمسة أركان))).
المسموع في لفظ الحديث: ((على خمس: شهادة ألا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، وحج البيت)).
قوله: (في أول شبه المرجئة للزم في الله أن يكون مؤمناً وأن يكون فعله إيماناً).
فيه نظر فليست شبههم إلا لزام أن يوصف أفعال الله بافيمان كما توصف أفعالنا بذلك وأما وصفه تعالى بأنه مؤمن فإنه ألزام لهم على مقتضى مقالتهم لأن التصديق يحصل منه تعالى وهو ملتزم ولا إشكال فيه ولهذا قالوا في تمام الشبهة: ومعلوم أنه لا يصح وصف أفعاله بذلك فلا بد أن يكون معنى الإيمان راجعاً إلى التصديق ولهذا فإنه لما عقل في حقه تعالى صح وصفه بذلك.
قوله: (هذا ينقلب عليهم في البر والتقى).
يعني: لأن البر والتقى يطلقان على الأفعال الواجبة ولم يلزم منه وصف فعله تعالى الواجب بذلك.
قوله: (بل لأنه مما يستحق به الثواب).
قال الفقيه حميد: ولهذا يجري على المندوب منها مثلما يجري على الواجب فإذا كانت الواجبات التي تؤخذ من الله تعالى لا مدخل لها في إستحقاق الثواب والعقاب لم يجز وصفها بأنها إيمان فصار آخر لفظ الإيمان على الفعل موقوفاً على أن يكون له صفة زائدة على حسنه بشرط أن يكون له مدخل في إستحقاق الثواب ولا يمتنع في آخر اللفظ أن يكون موقوفاً على الشرط كما أنه لا يجري على صيغة الأمر أمر إلا بشرط الرتبة.
قوله: (بل تدخل فيه المندوبات وأجتناب المكروهات).
قال الفقيه حميد: القول بهذا هو الصحيح، وأما الشيخان أبو علي وأبو هاشم فقالا: الإيمان والإسلام يفيدان فعل الواجبات وإحتناب المقبحات وقضيا بأن النوافل ليست من الإيمان ولا يخرج عندهما المؤمن من إسم الإيمان إلا إذا أتى بمعصية يزيد عقابها على ما له من الثواب.
قال: (ومنهم من قال: إنه فعل الطاعات الواجب منها والنفل وإجتناب المقبحات أجمع).
يعني: ولم يعتد بترك المكروهات.
قلت: وهو قول أبي الهذيل، وبه قال قاضي القضاة والسيد صاحب الشرح وأكثر المتكلمين، وأحتج رحمه الله على ما أختاره وهو الذي ذكره المصنف بأن الإيمان والإسلام يفيدان المدح والتعظيم فيلزم أن يفيدا ما به أستحق المدح والتعظيم وهذا يقتضي دخول الفرض والنفل وترك القبيح والمكروه لأن كل ذلك مما له مدخل في إستحقاق المدح والتعظيم ولأنه قد ثبت أن النوافل من الدين إذ لا أحد يشك أن ركعتي الفجر منه والإيمان والإسلام والدين بمعنى واحد ولأنه تعالى قال في صفة المؤمنين: {الذين يقيمون الصلاة}. ولم يفرق بين فرضها ونفلها ونحو ذلك.
وأحتج الشيخان: بأن النفل لو كان من الدين لوجب في تارك ركعتي الفجر أن يوصف بأنه ناقص الدين ولأن النوافل لا حصر لها فما من أحد إلا وهو تارك شيئاً منها فيلزم أن يجوز وصفه بأنه غير كامل الدين وإن كان من الأنبياء.
وأجبت: بمعارضتهما من وجوه وهو أن النوافل عندكما من الطاعات فيلزم أن يقال في الأنبياء إنهم ناقصوا الطاعات وكذلك فهي مكلف بها فيلزم أن يوصف تاركها أنه غير قائم بما كلفه الله وكذلك ترك الصغائر عندهما من الإيمان فيلزم أن يعد من فعل شيئاً منها من ناقصي الإيمان فصح أن مثل ذلك إنما لا يجوز لاتهام الخطأ من حيث يجوز السامع أنه ناقص الإيمان بترك واجب أو فعل قبيح على حد يستحق عليه العقاب فإن قدر عدم أتهامه الخطأ ساغ أجزاؤه.
قوله: (والإيمان لا يجوز أن يكون مختلفاً).
قالوا: فوجب صرفه إلى ما لا يكون مختلفاً وهو التصديق.
قوله: (لاتهام الخطأ).
قال الفقيه حميد: إن قيد بأن المراد ما يقوله جاز إجراؤه.
قوله: (وبالنسبة إلى وفيها كسائرها).
فيه نظر لأنه ليس سائر النوافل لها وقت معين إنما يستقيم ذلك في سائر نوافل الصلاة وكلامنا في النوافل كلها.
وقوله: (فهي منحصرة بالوصف).
أشد ضعفاً وهل يمكن أن كلما عرف وصفه أنحصرت أعيانه وأجزاؤه.
وقوله: (ومنحصرة أيضاً بالنسبة إلى الإمكان كذلك).
لأن مثل ذلك لا يعد إنحصاراً.
قوله: (والجواب أن هذه الأسماء قد صارت أسماً لجميع خصال الإيمان).
هذا أختيار لما قاله أبو هاشم وهو أن الملة والدين والإيمان والإسلام بمعنى واحد.
وقال أبو علي: الملة ما يدين به قوم من الأعمال التي يرونها واجبة فيوصف ذلك بأنه ملة لهم.
قال الفقيه حميد: وحكي عنه أن إطلاق القول بتارك الملة يقتضي الكفر.
قلت: فهي على هذا أسم للطاعات التي يكفر تاركها كالعلم بالله ورسوله وهكذا حكي عنه، وعلى هذا فلا ترد الشبهة عليه.
قال الفقيه حميد: وعلى الجملة فقد صارت هذه اللفظة في العرف تفيد ما يكفر المرء تبركه فلا يلزم ما قالوه.
قلت: ومثل هذا يعزى إلى أبي هاشم.
وقال قاضي القضاة: بل الملة أسم لجملة الإسلام والإيمان دون آحادهما فلا يسمى تاركاً للملة إلا حيث خالف جميع أحكام الإسلام.
قال الإمام المهدي: وكلام القاضي هو الصحيح وكلام أبي هاشم ضعيف جداً.
واعلم أن الخلاف المذكور هو في مسمى ملة الإسلام وموضوعها وأما لفظ الملة إذا أطلق فهو أسم لما يتدين به حقاً كان أو باطلاً وعلى الأول قوله تعالى: {بل ملة أبيكم إبراهيم حنيفاً}. وعلى الثاني قوله تعالى: {إن عدنا في ملتكم}.
قال الإمام المهدي: هذا معناها اللغوي وأما الإصطلاحي: فما يتدين به المكلف وينتسب فيه إلى نبي وكتاب وعلى هذا لا يكون الشرك نحو عبادة الوثن ملة.
قوله: (لا يمتنع أن يكون المراد بالإيمان هنا التصديق على أصله).
قال السيد في الشرح: إنا لم ندع أن كل لفظة أشتقت من الإيماان فإنها لا تستعمل إلا في المعنى الذي قلناه وأنه لا يجوز أستعمالها فيما وضعت له في الأصل فلا مانع من أن تكون هذه اللفظة التي ذكرها الله في هذه الآيات منفاة على أصل الوضع فلا يقدح في كلامنا.
قوله: (أو يكون العطف للتعظيم).
أي: عطف عمل الصالحات على الإيمان مع كون الإيمان يشتمل على الصالحات.
قوله: (وإن كان التعظيم هنا في المعطوف عليه فأفراده بالذكر يكون لتعظيمه والأهتمام بشأنه كقوله تعالى: {وملائكته وجبريل وميكائيل}. ولكن المصنف لما لم يتهيئا له أن تكون الآية من هذا القبيل لأن آمنوا يفيد التصديق بالله وعمل الصالحات وترك المقبحات ولا يمكن أن يقال إن عمل الصالحات أفصل خصال الإيمان كما قيل إن جبريل وميكائيل أفضل الملائكة لأن التصديق بالله وشهادة ألا إله إلا الله أفضل من عمل الواجبات والمندوبات عدل إلى هذا وهو أن جعل المعطوف عليه هو الأفضل فأتى بما هو أبعد وأفسد، والحق أنه لا يستقيم تفسير الآية وتأويلها إلا على جعل الإيمان بمعنى التصديق فقط وأنه أستعمل هنا في أصل معناه كما في قوله تعالى: {وما أنت بمؤمن لنا}. وذلك لا يمنع من كونه منقولاً مستعملاً في غير معناه الأصلي في مواضع كثيرة غير هذا.
قوله: (والجواب لا يدل ذلك على ما أدعوه).
يقال: بل يدل عليه لأنه يقضي بأن من المؤمنين غير صالح فضآنيتنا ولا يمكن تقويمه على غير ذلك وقد بنى جار الله عليه فقال: ويعني: ومن صلح من المؤمنين وهم كل من آمن وعمل صالحاً، وعن سعيد بن جبير: من بريء منهم من النفاق.
قلت: فعلى هذا يكون المؤمنين بمعنى المصدقين مستعملاً في معناه الأصلي.
ثم قال: (وقيل: الأنبياء. وقيل: الصحابة. وقيل: الخلفاء).
قلت: يكون صالح بمعنى أصلح على هذا لأن غير الأنبياء والخلفاء والصحابة لا يمكن أن ينفى الصلاح عنهم مطلقاً.
قوله: (كما لا يدل قوله تعالى: {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم..} إلى آخره).
أما جار الله: فحمله على ظاهره وقال: أراد أن يكونوا ..... في الدين يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل حراصاً على ما هو أقرب عند الله وأكبر ثواباً ويدخل تحته المذاهب وأختيار أثبتها على الشك وأقواها عند السير وأيقنها دليلاً وأمارة. وقيل: أراد القرآن فهو أحسن ما أنزل. وقيل: أحسن أوامر الله أمروا بأتباع الأحسن نحو القصاص والعفو والإنتصار والأغضاء والإبداء والإخفاء لقوله: {وإن يعفوا أقرب للتقوى}، {وإن ...... وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم}. فإذا أعترضهم أمران واجب وندب أختاروا الواجب وكذلك المباح والندب.
قوله: (وكما لا يدل قوله: {فاصبر كما صبر أولوا العزم..} إلى آخره).
بنى المصنف على أحد تفسيري الآية وهو أن من في قوله من الرسل بيانية وأولوا العزم صفة للرسل كلهم.
وفيها وجه آخر: وهو أن يكون للتبعيض ويراد بأولي العزم بعض الأنبياء قيل هم: نوح صبر على أذى قومه كانوا يضربونه حتى يغشى عليه، وإبراهيم على النار وذبح ولده، وإسحاق على الذبح، ويعقوب على فقد ولده وذهاب بصره، ويوسف على الجب والسجن، وأيوب على الضر، وموسى قال له قومه إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين، وداود بكى على خطيئته، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة وقال إنها معبرة فاعبروها ولا تعمروها، وقال تعالى في آدم: {ولم نجد له عزماً}، وفي يونس: {ولا تكن كصاحب الحوت}. والمراد بالعزم الجد والثبات والصبر.
قوله: (قالوا: قال تعالى: {يأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً}).
قال جار الله: وصفت التوبة بالنصح على الإسناد المجازي والنصح صفة التائبين وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم فتابوا بها على طريقتها متداركة للفرطات ماحية للسيئات.
قوله: (المراد الإيمان اللغوي..) إلخ.
بنى المصنف على تسليم أن القائل ما لا يفعل ليس بمؤمن الإيمان الشرعي ولا يوجب للتسليم فلا دليل على أن قوله ما لا يفعل مطلقاً يقتضي الفسق وقد قيل أن الآية نزلت في الصحابة وكونهم قالوا: الآن لقينا قتالاً لنفرغن فيه وسعنا. أو أنهم قالوا: قبل أن يؤمروا بالقتال لو نعلم أحب الأيمان إلى الله لعملناه ولبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا فدلهم الله على الجهاد في سبيله فولوا يوم أحد فغيرهم فالخطاب على هذا لمن هو مؤمن شرعاً وفرار من فروا إن كان معصية فقد تابوا وعفى الله عنهم.
قوله: (أو المراد بأنها المدعون للإيمان).
هذا معنى حسن مستقيم يطابق ما ذكره الحسن أنها نزلت في المنافقين.
قال جار الله: وبداؤهم بالإيمان تهكم بهم وبإيمانهم.
قوله: (أو المراد النهي المستأنف..) إلى آخره.
في هذه العبارة ركة وكان الأحسن أن يقول: أو المراد معنى النهي في المستقبل وفي هذا التفسير ضعف فإن الآية وردت عتاباً للمؤمنين وكيف يعاتبون على شيء لم يقع وإنما يتوقع في المستقبل.
قوله: (فسماهم مؤمنين حال عدم الخشوع).
إيراد هذه الشبهة بناء على أن عدم الخشوع من الفسوق وإن الذي ليس بخاشع فاسق وليس بواضح ولا مستقيم وإنما الخشوع خلاف ما يؤخذ في القلب من القسوة وذلك يعرض في حق الصالحين وتفسير الآية يقضي بذلك، عن ابن عباس: أن الله أستبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثالث عشرة من نزول القرآن. وعن أبي بككر أن هذه الآية قرأت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاء شديداً فنظر إليهم فقال: هكذا كنا حتى قست القلوب والمراد بالخشوع على هذا ظهور الخوف والتذلل لله كما قال الحسن في تفسير: {وكنا خاشعين}: فإنه قال ذللاً لأمر الله. وعن مجاهد: الخشوع الخوف الدائم في القلب. وقيل: متواضعين والآية مع هذا لا حجة فيها للمخالف لأن عدم الخشوع بهذا المعنى لا يقتضي الفسوق وإنما تثبت حجة له لو كان الخشوع إجتناب المقبحات وفي كلام الحسن ما يقضي به حكى عنه جار الله: أما والله لقد أستبطأهم وهم يقرءون من القرآن أقل مما يقرءون فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر فيكم من الفسق، وروي عنه أيضاً في تفسير: {وكانوا لنا خاشعين} كانوا لا يرمون معصية الله في الخلوات فإن صح هذا المعنى على حمل الإيمان في الآية على التصديق وكان مستعملاً في معناه الأصلي ومن هذا الذي ذكرناه يوجد الجواب المحقق عن وجه أحتجاجهم بالآية فأما جواب المصنف فليس بشافٍ ولا وافٍ.
قوله: (والجواب).
هذا نظير قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه}. تحقيق الجواب أنه لا متمسك للخصم في تلك الآية الكريمة لأنه لا دلالة فيها على أنهم يسمون مؤمنين بعد الإقتتال فهو كما لو قتل وإن حدث ممن طائفة مؤمنة فسوق وعلى هذا لا حاجة إلى ما ذكره المصنف بطوله فيحمل على تسمية الشيء بإسم ما كان عليه فذلك كلام لا طائل تحته وكذلك قوله: {يأيها الذين آمنوا من يرتدد منكم}. إلى تأويل لأنهم حال خطابه لهم غير مرتدين.
قوله: (ليست من للتبعيض هنا).
يقال: فما يجعلها إذا لم يكن تبعيضه والصحيح أنها للتبعيض مع ذلك فلا يدل على ما ذكروه لأن المراد بها جماعة من المؤمنين.
قال جار الله: نذر رجال من الصحابة أنهم إذا لقوا حرباً مع رسول الله يتولوا وقاتلوا حتى يستشهدوا وهم عثمان بن عفان وطلحة بن عبيدالله وسعيد بن زيد وخمزة ومصعب بن عمير وغيرهم فمنهم من قضى نحبه يعني حمزة ومصعباً ومنهم من ينتظر وهم عثمان وطلحة وفي الحديث: ((من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة)).
قلت: المشهور أن عثمان رضي الله عنه ممن لم يثبت يوم أحد ففي عدة من الطائفة المذكورة نظر.
قوله: (كما لا يدل قوله: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان}..) إلى آخره.
فيه نظر لأن من هذه ليست تبعيضية وإنما هي للبيان بمعنى الذي فتشبيهه لأحدثهما بالأخرى غير صحيح.
فصل:
وأما الذي يدل على أن الفاسق لا يسمى كافراً كما يقوله الخوارج.
قوله: (فهو أن الكفر كان في الأصل التغطية).
هو كما ذكر ومنه سمي البحر كافراً لأنه يستر ويغطي ما فيه وتكفر فلان بالسلاح إذا تغطى به، ومنه قوله تعالى: {يعجب الكفار نباته} أراد: الزراع وإنما سمي الزارع كافراً لأنه يغطي البذر بالتراب.
قوله: (لمن يستحق العقاب العظيم من أجر أحكام مخصوصة..) إلى آخره.
هذه عبارة منضربة والعبارة المستقيمة قوله السيد في الشرح: وأما في الشرع فإنه جعل الكافر إسماً لمن يستحق العقاب العظيم ويختص بأحكام مخصوصة نحو المنع من المناكحة والموارثة والدفن في مقابر المسلمين.
قوله: (ونحو ذلك مما لا يجري على الفاسق).
أراد سبي الأولاد والنساء والقتل في حق بعض الكفار وهو أو ضرب الجزية في حق البعض الآخر.
قوله: (فقال من الكفر فروا).
يعني: أن الباعث لهم على مباينته ومقابلته أعتقادهم أنهم قد غضوا وعصى المساعدة إلى التحكيم في إمامته مع أعتقادهم أن كل معصية كفر فباتوا من التحكيم وأرادوا منه الرجوع من الكفر إلى الإسلام، وقالوا له عليه السلام: قد كفرت كما كفرنا فتب كما تبنا فإن لم تتب قتلناك وإن تركنا قتالك كفرنا بالعصيان بناء بذلك.
قوله: (هذا إن لم يكن قوله حجة).
يعني: لأجل العصمة فإنها تقتضي أمتناع صدور الخطأ عنه لكن الأقوى أن ذلك لا يقتضي حجته.
قوله: (إلا فيما يكون الخطأ فيه كفراً وفسقاً قطعاً وأما ما كان كل مجتهد فيه مصيباً أو ليس من مسائل الأجتهاد لكن المخالف فيه أَثِمَ إثماً لا يقطع بكثرة فلا يثبت فيه الأحتجاج بما قاله عليه السلام والله أعلم.
قوله: (ومعلوم أن أحدهما فاسق).
يعني: لأن الروح في قذفه لها إن كان كاذباً فهو فاسق لقذفه وإن كان صادقاً فهي فاسقة لزناها.
قوله: (لوقعت البينونة بنفس الفسق).
يعني: لأنه كفر عندهم فهو ردة والردة ينفسخ لها النكاح بنفسها ولا يفتقر ذلك إلى حكم حاكم.
قوله: (اللعان).
قد أعترض (ي) هذا بأن المرأة إذا كانت مدخولاً بها لم تقع البينونة بالردة إلا بعد إنقضاء العدة عند المؤيد بالله وغيره فيصح اللعان في حال العدة وأما أبو العباس وأبو طالب فيقولان: تبين ننفس الردة ولكن يلزمها حيث هي مدخولة العدة واللعان يصح في حال العدة وإن وقعت البينونة وإنما يستقيم هذا في غير المدخول بها أو حيث قد أنقضت العدة.
قلت: ويمكن الجواب بأن اللعان لا يصح إلا مع إسلام الزوجين وعلى كلامهم قد صارا أحدهما كافراً فلا يفيد ما ذكره المعترض بصحيح اللعان على كلامهم.
قوله: (وهم يلتزمون هذا الأخير).
يقال: ولو ألتزموه فهم محجوجون بالإجماع فإن المعلوم من حال الصحابة أنهم لم يحكموا بانفساخ نكاح شارب الخمر والقاذف ونحو ذلك ولا سمع ذلك عن أحد منهم.
قوله: (أشبهتهم قوله تعالى:..) إلى آخره.
لم يعتد المصنف بشبة عقلية يوردونها منها أن الكافر إنما سمي كافراً لأنه ترك الوجبات وأقدم على المقبحات وهذا حال الفاسق فليسم كافراً وذلك لضعف هذه الشبهة ونحوها فإن إسم الكافر لم يوضع لذلك بل لمن يستحق العقاب العظيم مع إجراء أحكام في الدنيا مخصوصة وليس كذلك حال الفاسق وهذه الشبهة أوردها في الشرح ولهم شبهة عقلية غيرها لكنه لا يلتبس الأمر في بطلانها فلا تعول عليها.
قوله: (لاقتضائه أن يكون ما أنزل الله ..... في الحكم).
بنى المصنف على أن الباء ظاهرها أنها للأستغاثة نحو كتبت بالقلم وليست الباء هنا من هذا القبيل وإنما هي لتعدية الفعل إلى المفعول لكون الفعل لا يتعدى بنفسه.
قوله: (ولم يترك الحكم به).
صوابه وترك الحكم به.
قوله: (لى أنها واردة في اليهود).
يقال: مسلم ذلك ولكن ليس ورود العام على سبب يقتضي قصره عليه عندكم وأجاب الفقيه حميد بأنا نقول: ذلك إلا لمانع من العموم والمانع ما قدمنا من الأدلة القاضية بأن الفاسق ليس بكافر.
قال جار الله: قوله تعالى: {فأولئك هم الكافرون}، {والظالمون}، {والفاسقون}. وصف لهم بالعتو في كفرهم حين ظلموا آيات الله بالإستهانة وتمردوا بأن حكموا بغيرها.
عن ابن عباس: أن الكافرين والظالمين والفاسقين أهل الكتاب.
وعنه: نعم القوم أنتم ماكان من حلو فهو لكم وما كان من مر فهو لأهل الكتاب من جحد حكم الله كفر ومن لم يحكم به وهو مقر فهو ظالم فاسق. وعن ابن مسعود: هو عام في اليهود وغيرهم.
فيكون التاويل أن المراد من لم يحكم بما أنزل الله مستهيناً به كما ذكره جار الله.
قوله: (من لم يحكم بما أجمع عليه النبيون من ذلك فهو كافر).
يقال: لا دليل على هذا التقدير والإضمار وليس تقدم ذكر ما يحكم به النبيئون يقتضي صرف آخر الكلام إليه والظاهر الإطلاق فيما أنزل الله.
قوله: (فتبين أن تارك الحج كافر).
قالوا: ويجب أن يكون حكم غيره ممن يترك الفرائض كحكمه.
قوله: (كلام مستأنف).
يعني: أنه مستقل غير راجع إلى تارك الحج).
أراد بذلك أن الآية غير دالة على ما قالوه فإنه ليس فيها ومن كفر بترك الحج، والصحيح أن قوله: ومن كفر إقامة مقام من لم يحج تغليظاً على تارك الحج كما ورد عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً)).
قال جار الله: ونحوه من التغليظ من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر. وعن سعيد بن جبير نزلت في اليهود فإنهم قالوا: الحج إلى مكة غير واجب. وروي أنه لما نزل قوله: {ولله على الناس حج البيت}. جمع رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم أهل الأديان كلهم فخطبهم فقال: ((إن الله كتب عليكم الحج فحجوا)). فآمنت به ملة واحدة وهم المسلمون وكفرت به خمس ملل قالوا: لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه فنزل: {ومن كفر}.
قوله: (ليس في إثبات صنفين).
صوابه: قسمين أو نوعين ولعل المصنف أراد صنفين كما هو في الشرح فوقع من سهو القلم تقديم الفاء على النون فصار كصفتين.
قوله: (إنما بين أن الكفار أصحاب المشامة ولم تبين أنه ليس في أصحاب المشامة غيرهم).
هكذا أجاب كثير من الأصحاب عن تمسكهم بهذه الآية وهو جواب ضعيف سببه عدم الألتفات إلى قواعد علم المعاني والإطلاع عليها فإن الأتيان بالمسند إليه والمسند على هذه الكيفية وتوسيط ضمير الفصل مما يقتضي التخصيص وقصر المسند على المسند إليه فيكون المعنى هم أصحاب المشامة لا غيرهم، ولكنه يجب تأويل ذلك للأدلة الدالة على أن الفاسق ليس فكافر مع كونه من أصحاب المشأمة والمراد بالمشامة الشمال وتأويلها أن المراد بالمبالغة في تحقيق كون الكفار أحق الناس بدخول النار حتى كأنه لا مستحق لها غيرهم كما إذا ....... المبالغة في علم قوم وأنهم أحق من يتصف بالعلم فيقول: أولئك هم العلماء فظاهره لا غيرهم والتحقيق أن المراد ما ذكر من المبالغة لا نفي العلم عن غيرهم ومن هذا القبيل قوله تعالى: {أولئك هم المؤمنون حقاً} كأنه لا مؤمن غيرهم ومنه المثال الذي أورده المصنف وهو أصحاب أبي حنيفة هم العلماء فإنه تقيد ما ذكر، ومنه أيضاً قوله تعالى: {ومن كفر فأولئك هم الفاسقون}. فإن المراد أنهم الأحق بأن يوصفوا بالفسوق لا أن غير الكافر لا يكون فاسقاً.
قوله: (والمعنى وهل يجازى بعذاب الأستنصال إلا الكفور كما يقتضيه سياق الآية).
وذلك لأن سياقها في ذكر ما أنتقم به سبأ لما أعرضوا بإرسال سيل العرم وتبديل جنتهم ثم قال:{ذلك جزيناهم بما كفروا}. وهل يجازى أي بذلك الجزاء وهو العذاب العاجل إلا الكفور لأنه لا يعذب العذاب العاجل إلا الكافر.
قوله: (وأما ما يحكى عن الناصر..) إلى آخره.
حكاه الفقيه حميد عن بعض الزيدية ولم ينسبه إلى الناصر معناً قال: وهو خلاف في عبارة لأنهم جعلوا هذه الطاعات بمنزلة شكر الباري على نعمة لأنها تشبه الشكر من حيث أنه لا بد أن تسبقها أصول النعم ويقع أيضاً على وجه التعظيم فأشبهت الشكر وقد قال صلى اللّه عليه وآله وسلم لما سأل عن كثرة عبادته؟: ((أفلا أكون عبداً شكوراً)). فأجرها مجرى الشكر في هذه الصورة لكونها مفيدة لعظيم المنعم سبحانه وهذا لا مانع منه من جهة المعنى إلا أنا قد بينا أن قولنا: كفر. قد نقل من معناه الذي وضع له إلى من يستحق إجراء أحكام مخصوصة.
قال: ويلزم على ما قالوه أن تعم هذه القضية ما يكون صغيراً فيكون تارك ما تركه من الواجبات صغير كافر نعمة فيطلق على الأنبياء عليهم السلام أنهم كفروا النعمة بما يقع منهم من الصغائر.
فصل:
وأما الذي يدل على أن الفاسق لا يسمى منافقاً.
قوله: (مأخوذ من النافقا أحد حجرة اليربوع).
قال الفقيه حميد: لأنه يعمل لنفسه موضعين إذا طلب من أحدهما خرج من الآخر يسمى النافقاً وفي صحاح الجوهري: أن لليربوع ثلاثة حجرة القاصعاً وهو الذي يستعمله ويقصع فيه أي يدخل فيه، والداما وهو الذي يخرج منه التراب من دم اليربوع حجرة أي كبشه والنافقا وهو الذي يكتمه ويظهر غيره ويرفقه فإذا أتى من قبيل القاصعاً ضرب النافقا برأسه فأنتفق أي خرج.
قوله: (فقد نص الله على أنه من أشد الناس عقاباً فقال تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار}).
يعني: وفي هذا دليل على ما ذكر لأن المراد بالدرك الأسفل الطبق الذي في قعر جهنم والنار سبع دركات سميت بذلك لأنها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض وإنما كان المنافق أشد الناس عذاباً فالصواب حذف من في قوله المصنف أنه من أشد الناس عذاباً لأنه مثل الكافر في كفره وضم إلى ذلك الأستهزاء بالإسلام وأهله.
قوله: (إذا قال: إني أخالف في العبارة دون المعنى).
قد قدمنا الرواية عنه أنه مخالف في المعنى أيضاً.
قوله: (أن يكون معه ترياق).
قال الجوهري: هو بكسر التاء وهو ذو السموم فارسي معرب، قال: والعرب تسمي الخمر ترياقاً لأنها تذهب الهم.
تنبيه:
ومن شبه الحسن قوله تعالى: {إن المنافقين}. هم الفاسقون قال أصحابنا: وهذا لا يدل على موضع الخلاف فإن أكثر ما فيه أن المنافق فاسق فمن أين أن الفاسق منافق.
قلت: الذي تقتضيه قاعدة البلاغة أن الآية تفيد قصر الفسوق على المنافق حتى كأنه لا فاسق غيره لكن يكون المراد المبالغة في أحقيته بهذا الأسم ولا يدل على أن كل فاسق منافق.
تنبيه:
أهمل المصنف في كلامه على هذه المسألة أشياء يذكرها الأصحاب فيها من ذلك تقسيمهم للمكلفين باعتبار أستحقاق الثواب أو يستحق العقاب وذكر أسم نوع من جنسي المستحقين لهما.
قال السيد في الشرح: أعلم أن المكلف إما أن يستحق الثواب أو يستحق العقاب إن أستحق الثواب فأما أن يستحق الثواب العظيم أو يستحق ثواباً دون ذلك فإن أستحق الثواب العظيم فلا يخلو إما أن يكون من بني آدم فإن لم يكن من بني آدم سمي ملكاً ونتبعه قولنا مقرب وما شابهه وإن كان من بني آدم سمي نبياً ويتبعه قولنا: مختار ومصطفى ومجتبى وما يجري هذا المجرى وإن أستحق ثواباً دون ذلك فإنه سمي مؤمناً، ونتبعه من الأسماء ما يقارنه نحو قولنا: تقي صالح إلى غير ذلك وأما المستحق للعقاب فلا يخلو إما أن يستحق العقاب العظيم أو يستحق عقاباً دون ذلك فإن أستحق العقاب العظيم سمي كافراً ونتبعه نظائره من الأسماء نحو قولنا: مشرك وزنديق وملحد إلى غير ذلك، وإن أستحق عقاباً دون ذلك سمي فاسقاً ونتبعه قولنا: متهتك ملعون فاجر إلى غير ذلك أنتهى.
ونحن نتبع ذلك بذكر حقائقما ذكره من الأسماء مما لم يتعرض المصنف له فمن ذلك ملك وأصله ملأك على وزن مفعل فنقلت حركة الهمزة إلى ما قبلها وحذفت على قاعدة التخفيف.
قال الكسائي :وكان أصله مالك بتقديم الهمزة من الألوكة وهي الرسالة ثم قلبت وقدمت اللام وإنما تركت الهمزة لكثرة الأستعمال فلما جمعوها ردوها فقالوا ملائكة وملائك والمقرب خلاف المبعد وإنما يقرب الخواص وليس المقرب في معنى الملك ولهذا لا يفيد عند إطلاقه ما يفيده بل هو من أوصافه ومما نتبعه ويطلق عليه والنبي قد تقدم ذكر معناه والمختار: أسم مفعول من أخترته وهو بمعنى المصطفى.
قال الجوهري: الأختيار الأصطفاء والمصطفى بمعنى الصفوة.
قال الجوهري ومحمد: صفوة الله ومصطفاه وصفوة الشيء خالصه والمجتبى في معنى المصطفى.
قال الجوهري: أجتباه أي أصطفاه والبر في الأصل نقيض العاق والبر الصادق والنفي من أيقنت كذا إذا كففت عنه والمراد من نفي المعاصي والمناهي والصالح من الصلاح وهو ضد الفساد والمشرك من أثبت شريكاً لغيره مطلقاً هذا في أصل اللغة وفي عرفها من جعل لله شريكاً في قدمه أو أفعاله أو عبادته وأما في الشرع فهوالكافر بمعنى، وقيل: لا يسمى بهإلا من كفر كفراً ليس معه إقرار بالشهادتين لا من كفر وهو مقر بها قال تعالى: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين}. ففصل أهل الكتاب عن المشركين لما لم يكونوا كذلك والزنديق من الزندقة.
قيل (ي): والزندقة مأخوذة في أصل اللغة من زن ودقق، وقيل مأخوذة من كتاب أسمه الزند وزيد القاف والياء فمن عرف ذلك الكتاب وأخذ منه سمي زنديقاً وكان هذا في الأصل أم مدح وأما في الشرع فاسم للكافر والأغلب عليه أنه أسم للناطبي ولمن أثبت .......... وفي عرف الزمان هو للظاهر بالمعاصي الفسقية من غير تأويل سيما ما كان منها معصية بينه وبين الله لا يتعلق ضررها بغيره.
وقال الجوهري: الزنديق من...... وهو معرب والجمع الزنادقة وإلها عوض من الباء المحذوفة وأصله الزناديق ويزيدون والأسم الزندقة والملحد من الإلحاد والإلحاد لعله الميل إلى جانب ومنه اللحد لأنه يكون في جانب القبر وفي الإصطلاح الملحد بمعنى الكافر والأغلب أنه إنما يستعمل في من نفى الصانع والفاسق من الفسق والفسق في اللغة الخروج من حالة إلى أخرى ومنه فسقت الرطبة إذا خرجت ونصر بالغير والفسق في الشرع أسم لمعاص مخصوصة أو لأحداها مما يستحق عليه العقاب الذي يحسن إيصاله إلى مستحقه ولذلك أحكام مخصوصة من أستحقاق الذم واللعن والمعاداة ورد الشهادة والفاجر لغة من فجر فجوراً أي فسق وفجر أي كذب ذكره الجوهري قال: وأصله الميل والفاجر المائل أنتهى. وفي الأصطلاح هو والفاسق بمعنى واحد وربما يستعمل في الكافر كما يستعمل الفاسق فيه والمتهتكك في اللغة المفتضح ذكره ذكره الجوهري، وأصله الهتك وهو حرف السير عما ورآءه وقد بنى السيد على أنه بمعنى الفاسق والأقرب أنه إنما يستعمل في المنحرف المجاهر الذي هتك الستر، والملعون من اللعن واللعنة لغة الطرد وفي الإصطلاح الملعون المطرود عن كل الثواب وهوبمعنى الفاسق في الحقيقة. ويتصل بما ذكر فوائد:ـ
الفائدة الأولى:التقسيم الذي ذكره السيد هو للمكلفين من المخلوقين وهم ثلاثة أصناف الملائكة والجن والإنس وقد روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((إن أجناس الخلق الذي يتناولهم التكليف عشرة تسعة منها الملائكة والعاشر الأنس والجن والشياطين والجزء العاشر الجن والأنس وهذا الجزء العاشر ينقسم إلى عشرة أجزاء فتسعة منها الجن والجزء العاشر الإنس وهذا الجزء العاشر عشرة أجزاء فتسعة منه يأجوج ومأجوج والجزء العاشر بقية بني آدم)). هكذا نقل والله أعلم بصحته.
قيل: (ي): فالأنس على هذا جزء من عشرة آلاف جزء من أجناس المكلفين.
قلت: بل بقية الأنس دون يأجوج ومأجوج فسبحان من بيده الملك وهو على كل شيء قدير.
الفائدة الثانية: قد عرفت مما ذكر أن الملائكة أوسع خلق الله عدداً وهم مع ذلك أشرفهم وأقربهم إلى الله وأعظمهم وقد أختلف في كيف أجسادهم فالذي عليه جلة المتكلمين أن أجسادهم مركبة من الجواهر وفيها رقة ولا لحم فيها ولا دم ولا عظام.
وقال أبو حفص ومن كان وراء النهر من المعتزلة أن أجسامهم غلاظ مركبة من لحم ودم وعظام كأجسام بني آدم وإنما لا نراهم لبعد المسافة ورد قولهم بأن منهم من يقرب إلينا فكان يجب أن نراه قال تعالى: {بلى ورسلنا لديهم يكتبون}. وقال: {عن اليمين وعن الشمال قعيد}.
قيل (ي): وبها أنهم يقولون أن الملكين يكونان عن اليمين والشمال مع البعد وأن المراد بقوله: {لديهم} أنهم معهم في الأرض وأن يعدوا الأمر مشكل فتأمل. وقد أختلف أيضاً في تكليف الملائكة فجلة العلماء على أنهم مكلفونكلهم ودليله ورود الثناء عليهم والأخبار بحسن طاعتهم من غير تقييد بالبعض فقيل بل بعضهم غير مكلف وهذا البعض خلق لنفع المكلفين كما خلق كثير من الحيوانات لنفع بني آدم والملائكة الذين وصفوا بعظم الخلقة وأن رؤوسهم تخرق السماء وأرجلهم تخرج الأرضين إنما هم للسموات كالأساطين للعمران ونسب إلى الحشوية أن الملائكة كلهم غير مكلفين وأنهم مضطرون إلى أفعالهم ثم أختلف القائلون بتكليفهم هل يمكن أن تصدر منهم المعاصي أو لا فالذي عليه الزيدية والمعتزلة وصرح بذلك أبو هاشم أن المعاصي جائزة منهم ممكنة لهم إلا أنهم لم يفعلوها للألطاف التي أختصوا بها. وقيل:بل لايصح وقوع المعاصي منهم ولا يمكنهم فمن هؤلاء القائلين بما ذكر من لم يعلل ذلك ومنهم من علله بكونهم شاهدوا من عجائب صنع الله ما بهرهم وردعهم عن المعاصي كما قال تعالى: {وهم من شيته مشفقون}. وقيل: يجوز صدور المعاصي منهم إذا تغيرت أحوالهم عن أحوال الملائكة التي هم عليها كما في هاروت وماروت والشيطان.
الفائدة الثالثة: عزى إلى بعض التابعين أن أجناس المكلفين ثلاثة أصناف صنف غير ذكور ولا إناث ولا يتناكحون ولا يتناسلون ولايموتون إلى أنقطاع التكليف وهم الملائكة، وصنف ذكور وإناث ويتناكحون ويتناسلون ولا يموتون إلى إنقطاع التكليف وهم الشياطين، وصنف ذكور وإناث ويتناكحون ويتناسلون ويعرض لهم الموت وهم الجن وبنو آدم، وهذا مما لا يعلم إلا توقيفاً لا بنظر وأجتهاد فيحمل التابعي ولعله ابن المسيب على أنه رفع له إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم.
الكلام فيما يعتد بأنه من الأحكام في أهل الوعد والوعيد
قوله: (إن قطعنا على أنه من أهل الثواب).
هؤلاء هم الملائكة والأنبياء ومن ثبتت عصمته من غيرهم كعلي والحسنين وفاطمة فهؤلاء يجب علينا القطع بإيمانهم وهم كذلك يقطعون في حق أنفسهم بالإيمان والفوز.
قوله: (في الحال فقط إن قطعنا على أنه يستحق الثواب في الحال فقط).
جعل المصنف كالمقطوع بكونه من أهل الثواب قسمين:ـ
قسماً: يقطع بإستحقاقه الثواب مطلقاً وهم الأنبياء ومن ذكرناه معهم.
وقسماً: يقطع بإستحقاقه الثواب في الحال فقط وهذا القسم غير موجود فإنه لا يمكن فيمن شاهدناه حال فعله للطاعة ولم نشاهد منه معصية أن يقطع بأنه في تلك الحال من أهل الثواب لأنه ما لم ثثبت فيه العصمة جوزنا أنه في تلك الحال ينطوي على أعتقاد قبح يحبط ثواب ما يراه من طاعته وأنه لم ينو بها ما تصير بها طاعة وأنه قد تقدم منه ما يحبط ثوابها ولا طريق إلى ذلك إلا أن يخبرنا الصادق أنه في تلك الحال يستحق الثواب ولا ندري ما يكون حاله من بعد هذا، وإن كان جائزاً فلا وقوع له فلا ينبغي الإشتغال بِعَدِّهِ قسماً مستقلاً.
قوله: (كشكر النعمة).
يعني: فإنه لا يجب إظهاره إلا عند تهمة تلحقه أنه لا يشكرها.
قوله: (وللتمييز بينه وبين غيره).
يعني: ممن ليس على صفته تلك.
قوله: (وسلامة الحال).
يعني: عن أقتراف ما يحبط ثوابه ويعدل بطاعته من المعاصي.
قوله: (وهذا الشرط كالملفوظ وإن لم يتلفظ به).
فذكره وحذفه جائران لكن الأحسن حذفه ولا يجوز ذكره إلا إذا لم توهم المعاداة.
قوله: (فأما نصرته وموالاته والذب عنه فيجب من غير شرط).
يريد بنصرته المدافعة عنه إذا بغي عليه أو أريد ظلمه وهضمه وبموالاته محبة نفعه والخير له، وبالذب عنه رد ....... ونحو ذلك.
قوله: (ليس الشرط في المدح الواقع..) إلى آخره.
بنى المصنف على أن المدح يتضمن الأخبار بإستحقاقه الثواب وأنه يوصل إليه في الآخرة فجعل الشرط المقدر شرطاً فيه وهذا منه وَهْمٌ فإن الشرط هو في نفس المدح وهوشرط حالي فإذا قال فيه: فلان فاضل أوتقي أو بر أو ولي لله أو نحو ذلك فهو مشروط بأن يكون في معلوم الله أن باطنه كظاهره وأنه لا معصية باطنة صادرة منه تحبط ثواب طاعاته التي ظهرت وهذا معنى معقول ظاهر لا يحتاج إلى مثل ذلك التكلف وكذلك إذا دعونا له اللهم أدخله الجنة وارض عنه ونحو ذلك فالشرط المقدر إن لم يكن له معاصيه ما يمنع من ذلك ويبطل ثواب ما علمناه منه من طاعتك ونحو ذلك وقد نبه المصنف على ذلك أولاً بقوله: (يكون مشروطاً بالإستحقاق وسلامة الحال).
قوله: (فإن قال: هل يجري حال أحدنا مع نفسه..) إلى آخره.
أعلم أن المكلف إن علم عصمة نفسه وجب عليه أعتقاد إيمانها وحسن منه الدعاء لنفسه على القطع وإن علم فسق نفسه وجب عليه أعتقاد ذلك وقبح منه تعظيم نفسه ومدحها ومن لم يعلم من نفسه أنه معصوم ولا فاسق فمن المعلوم أنه لا يعلم في الحال ما يكون منه في المستقبل من إيمان وعدمه، وأما في الحال فقال الشيخان: لا يصح أن يعلم المرء أنه مؤمن ومستحق للمدح والتعظيم فيها لأن ذلك يتوقف على علمه بإمتثال جميع ما كلف به من فعل الواجبات وترك المحظورات ولا سبيل له إلى العلم بذلك لأنه كان يجوز من نفسه فعل كبيرة كيف يقطع بإيمانها.
وقد تعلل ذلك أبو علي: بأنه لا يعلم الوفاء بما كلف في الحال بل في الوقت الثاني ولا يعلم الوفاء في الوقت الثاني إلا في الوقت الثالث وهلم جرا لأن العلم يتأخر عن المعلوم وعلى هذا يلزم القول بصحة أن يعلم أنه كان مؤمناً قطعاً في الوقت الأول.
وقال قاضي القضاة: لا مانع من أن يعلم وفاؤه بما كلفه في الحال إذا تحفظ على نفسه وبالغ في التحرز وعدم ........ وحينئذ يتقارب الوفاء والعلم به، وإنما يجب تأخر العلم إذا كان مكتسباً وهذا ضروري لأنه من العلم بأحوال النفس وإنما يتصعب لأنه أستحضار لأشياء كثيرة في وقت واحد كما يتصعب الفرق بين الدعاء لنفسه بنحو الثواب ودخول الجنة وبين الدعاء لها بدفع العقاب والأستعاذة من النار وقد نسب ذلك إلى بعض العلماء وقيل بل الأصح أنه لا يحسن أن يدعو لنفسه بالثواب ونحوه إذا علم أستحقاقه للعقاب أو أنه لا يستحق الثواب لأن فيه طلب تعظيم من لا يستحق التعظيم لأن التعظيم جزء من الثواب وهو قبيح وما كان قبيحاً قبح الدعاء به.
واعلم أن الدعاء هو طلب المراد من الغير بشرط أن يكون المطلوب منه ذلك فوق الطالب في الرتبة ولا بد من أعتبار الرتبة ليتميز عن السؤال هكذا ذكر السيد في الشرح واعترض بأن المطلوب قد يكون نفعاً وقد يكون ضرراً والدعاء من حقه أن يكون بالنفع وبأن الرتبة غير معتبرة وإنما يعتبر الخضوع، وإن كان الداعي في الرتبة فوق المدعو.
قيل (ي): فالأقوى أن يقال: هوالطلب للنفع أو دفع الضرر من الغير على وجه الخضوع.
واعلم أن الدعاء قسمان:ـ
الدعاء المنافع الدنيوية: كالأرزاق ونحوها فهو جائز لكل أحد الداعي وغيره من الصالحين وغيرهم ليس له شرط إلا عدم المفسدة وهو كالمنطوق به وإن لم يذكر.
والدعاء بالمنافع الأخروية: وهو ينقسم إلى قمسين:ـ
الدعاء بترك العقاب: فيجوز عند أبي هاشم لكل أحد سواء كان المدعو له يستحق العقاب أم لا وسواء كان هو الداعي نفسه أو غيره لأن دفع الضرر حسن مطلقاً.
وأما أبو علي: فلا يجيز الدعاء بترك العقاب لمن يستحقه ولا طلب العفو عنه سواء في ذلك الداعي عنده وغيره.
قلت: لا يبعد أن الخلاف في هذه المسألة يتفرع على الخلاف في أنه هل يحسن العفو بعد الوعيد بإيصال العقاب أو لا فمن قال بحسنه وإنما يكشف عن قبح الوعيد قال يجوز الدعاء به. ومنقال هوقبيح لأنه يكشف عن كذب الله فيه هذا في حق غيره وأما في حق نفسه فعلى الخلاف المتقدم.
فائدة: للدعاء شرطان:ـ
أحدهما: أن يكون الداعي عالماً بالله لأن الدعاء يتضمن تعظيم المدعو ولايحسن تعظيم المجهول وإن يعلم حسن ما يدعو به من أوصاف الله وأسمائه وثبوت تلك الصفات له وجواز إجراء تلك الأسماء عليه.
الشرط الثاني: أن يكون الفعل أو الترك المدعو به حسناً لا قبيحاً ولا يشترط علمه أو ظنه للإجابة.
قوله: (وأما إن كان المكلف من أهل العقاب قطعاً أو بظاهر الحال الذي يقطع في حقه بذلك).
من دل السمع على أستحقاقه للعقاب كالشيطان أو شاهدناه يفعل معصية يقطع بكونها كفراً أو فسقاً إذ لا يمكن تحويز كونها غير قبيحة في حقه في تلك الحال.
وأما الذي هو من أهل العقاب بظاهر الحال فهو كمن فعل كبيرة ثم غاب عنا مدة يجوز فيها أنه قد تاب وأناب وأخبر عن نفسه بالفسق والفجور.
قوله: (فقد أقتضى السمع فيه عكس ما أوجب علينا في أهل الثواب).
إنما قال المصنف: أقتضى ولم يقل وجب لأن الذم لمن يستحق العقاب والدعاء عليه ونحو ذلك ليس واجباً بل هو كالدين يحسن أستيفاؤه ولا يجب اللهم إلا أن يلحق بتركه تهمة فإنه يجب لدفعها.
وقوله:( عكس ما أوجب..) إلى آخره.
يريد: أن المقطوع بإستحقاقه للعقاب يذم ويستخف به ويدعى عليه على القطع والذي يظن فيه ذلك لظاهر الحال كما تقدم يذم ويستخف به ويدعى عليه مشروطاً بالإستحقاق وإن لم يتلفظ به فهو في حكم المنطوق به ويحسن إظهار الشرط ما لم توهم الموالاة.
قوله: (والوجه في جميع ذلك..) إلى آخره.
يعني: فيما وجب لأهل الثواب من التعظيم ونحوه وشرع في حق أهل العقاب من الإستحقاق ونحوه ووجه اللطفية في ذلك واضح.
القول في الإكفار
هذا الباب مما انطوت عليه الجنية السمعية وعده المصنف منها؛ لأنه كلام في أحكام المكلفين وذكر ما يكفرون به وتحقيق ما يستدل به على كفرهم وبالكفر يستحقون العقاب العظيم والخلود الدائم بإجماع المسلمين إلا من لا يعتد به، والقول في الإكفار والتفسيق باب عظيم واسع فيه نزاع شديد واختلاف بعيد، وهو من المسائل الخطرة التي ينبغي الاحتراز فيها والاحتياط والبعد عن جنبتي التفريط والإفراط، وقد يجعل منا مستقلاً، وصنفت فيه كتب منفردة مختصة به، والأكفار مصدر أكفره، أي حكم بكفره.
قال الكميت:ـ
فطائفة قد أكفروني بحبكم ... وطائفة قالوا مسيء ومذنب
ولا ينبغي الإقدام عليه إلا عن تحقيق واستعانة من الله تعالى تشديد وتوفيق.
قال الإمام يحيى عليه السلام: إذا كان ضيق المسالك دقيق المجاري ولغموضه ودقة رموزه استوى عليه الإتهام وغلب على تلخيص أسراره الأعجام حتى أفلت نجومه وأمحت أعلامه ورسومه وكيف لا ومسالك العقول فيه منسدة وبراهينه غير جارية فيه فمن ثم إعتاض أمره على النقاد وغلب عليه الدروس وإن كان وإنما مورده المسالك الشرعية من النصوصات القرآنية والأخبار المروية؛ لأنه كلام في مقادير العقاب وخوض في إجراء وأسماء وأحكام وغير ذلك من الأمور الغيبية التي لا يستقل بدركها إلا الشرع، فحق على من خاض في أودية الإكفار والتفسيق أن يتق الله في خوضه ونظره وأن ينظر بعين البصيرة [النافذة](1) ويعمل القريحة المتقدمة وليكن في نظره معولاً على الإنصاف وليعزل عن نفسه جانب التعصب والشغف بمحبة سلف ولا يقدم على الإكفار إلا بدلالة قاطعة وحجة واضحة يعذر بها عند الله وتكون حجة له عند الموقوف بين يديه، فإن لم يجد هناك دلالة قاطعة، فالواجب عليه التوقف فإن الوقف أحوط للدين وأسلم خطة من الإقدام على إكفار من غير بصيرة خاصة في إكفار أهل القبلة، ومن يكون كفره بالتأويل فإن الخوض فيه صعب ومضطرب النظر فيه دقيق، وفيه معظم الزلل إلا على من وفقه الله وهداه إلى الحق فيه.
قلت: هذا هو الإنصاف، فلله در هذا الإمام ما أجود بصيرته وأحسن طريقته وسيرته ولقد كان يخطر بالبال إلا ببيان بمعنى هذا الكلام، فلما وقفت على كلام هذا الإمام اخترت نقله فقد سبق والقول ما قالت حذام.
وذكر الإمام المهدي عليه السلام: أن معرفة مسائل الإكفار والتفسيق واجبة على كل مسلم؛ لأن الشرع ورد بأحكام يعتدنا الله بها(2) في حق المؤمن والفاسق والكافر يتعلق بالموالاة والمعاداة والتناكح والكفاءة والتوارث ونحوها، فيجب على كل ملتزم بالشريعة معرفة تلك الأمور ليمكنه تأدية ما كلف من الأحكام المتفرعة عليها وإذا ما كلف فيها. إنتهى.
__________
(1) ـ سقط من (ب).
(2) ـ في (ب): يعتد بأنها.
واعلم أن الكُفر ـ بضم الكاف ـ لغةً: هو الاسم، وهو ضد الإيمان، والكفر الجحود، والمصدر منه كفران وكفور، والكَفر ـ بالفتح ـ التغطية.
قال ابن السكيت: ومنه سمي(1) الكافر كافراً؛ لأنه يستر نعم الله بجحدانه له.
وشرعاً: القبيح الذي يستحق به أعظم أنواع العقاب، ويعلق به أحكام مخصوصة كما تقدم، وهذه الحقيقة أعتمدها المعتزلة وجرى عليها كثير من الأصحاب وأحترزوا بأعظم أنواع العقاب عن الفسق؛ لأنه وإن استحق عليه العقاب فليس بأعظم العقاب؛ لأن عقاب الكفر أعظم منه. وقد أعترضت هذه الحقيقة وطعن فيها الرازي والإمام يحيى وغيرهما وقالوا: ما يريدون بكونه يستحق عليه أعظم العقاب هل يريدون مبلغاً معلوماً من العقاب يستحقه الكافر فليس في كلامكم ما يشعر به، أو أردتم الذي [يكون](2) أعظم من عقاب الفسق فهو خطأ؛ لأنكم ذكرتم في حد الفسق أنه الذي يكون عقابه دون عقاب الكفر فيكون(3) دوراً وإخبار الإمام يحيى في حده أن يقال: تكذيب الرسول في شيء مما جاء به مما يعلم ضرورة من دينه وما يكون فيه دلالة على تكذيبه.
فقوله: (تكذيب الرسول).
يعني به: نفس التكذيب، فإنه كفر لا محالة.
وقوله: (مما يعلم ضرورةمن دينه).
يحترز به عن إنكار ما ليس من ضرورة الدين كجحود من يجحد أنه ما كان يفضل عائشة على نسائه ولا يحب أزواجه وغير ذلك مما لا يكون من الدين في ورد ولا صدر.
قوله: (وما يكون فيه دلالة على تكذيبه).
يندرج فيه عدم تصديقه، ونحو سب الأنبياء وتمزيق المصاحف وإحراقها ولبس الغبار وشد الزنار وغير ذلك من الأمور الكفرية فإنها وإن كانت غير معذورة(4) في صريح التكذيب لكنها دالة على الكذيب، لأن هذه الأشياء كلها لا تصدر إلا عن مكذب بالرسول(5).
__________
(1) ـ في (ب): يسمى.
(2) ـ سقط من (ب).
(3) ـ في (ب): فكف
(4) ـ في (ب): غير مقدورة
(5) ـ في (ب): بالرسل.
وحده الإمام المهدي [عليه السلام](1) بأنه الخلو عن معرفة الله أو نبوة نبيه أو الاستخفاف بالله أو نبيه أو بشيء مما جاء به أو تكذيبه في شيء مما علم ضرورة أنه جاء به بقول أو فعل أو اعتقاد أو تعظيم غير الله كتعظيمه أو الدخول في السعار المختص بمن هو كذلك جزاءه وتمرداً.
قوله: (واختلفوا في: هل يجوز ثبوت كفر في معلوم الله ولا يدلنا عليه).
يعني: مما لم يأمر الله بقتل مرتكبه ولا نصب عليه دلالة.
قال الإمام يحيى: قد انعقد الإجماع على أن كل كفر أمر الله بقتل مرتكبه وجعل القتل حداً في حقه فإنه لا بد أن يكون معلوماً في نفسه بأدلة شرعية ليصح إجراء القتل عليه، ولو جوزنا كفراً لا دليل عليه وقد أوجب الشرع قتل مرتكبه لكان ذلك تكليفاً بما ليس في الوسع فلا يجوز إتيانه بحال.
قوله: (وأجازه أبو الحسين..) إلى آخره.
وكذلك أبو القاسم البلخي والقاضي الكني.
قوله: (أليس يجوز أن يبطن الإنسان ما هو كفر).
لا خلاف في هذا فإنهم متفقون على أنه يجوز صدور المعصية التي هي كفر وكذلك غير الكفر من المكلف، ولا تقوم دلالة على أنها صدرت منه وسواء كان ذلك من أفعال القلوب أو أفعال الجوارح.
قوله: (ومتى قيل لهم أليس يجوز ثبوت فسق لا دليل عليه..) إلى آخره.
قد أجاب المصنف عن هذا السؤال بما يذكره الأصحاب.
قال الإمام المهدي عليه السلام: والأولى في الجواب أن يقال: إنا وإن سلمنا أن للفسق أحكاماً مخصوصة كالكفر فيشاركه وجوب التعيين، فقد منع من تعيين كل فسق مانع، وهو استلزام تعيين الصغائر وفيه ما سبق ذكره من المفسدة، وأما الكفر فلا مانع من النص عليه؛ لأنه لو التبس بغيره لم يلتبس إلا بالفسق، فأكثر ما يلزم من تعيينه تعيين بعض الفسق، وهو جائز.
__________
(1) ـ سقط من (أ).
قلت: ولقائلٍ أن يقول أما مع تسليم عدم الفرق بين الفسق والكفر في الاحتجاح المذكور فهذا لا يخلص؛ لأنه إذا التزم أنه يجب لأجل ذلك تعيين الفسق لم يكن بد منه ولعل في مقدور الله تعالى ما يرفع ذلك المانع ويحصل به زوال الأغرل(1) ثم يقال: فإذا قد سلمت إستواء الكفر والفسق فيما لأجله يجب التعيين [وأحدث أن يسقط](2) وجوب تعيين الفسق لمانع، فجوز المانع في تعيين الكفر.
قوله: (فإن العدل قد [ترد شهادته للرق أو الولادة](3) أو الشركة أو غير ذلك، أما رد شهادة العبد لسيده فبالإجماع، وأما رد شهادة الولد لوالده فمسألة خلاف والقائل بردها زيد والمؤيد والفريقان وغيرهم، وأما رد شهادة الشريك في المعاملة لشريكه فيما هو شريك فيه فمن مسائل الاتفاق.
وأما قوله: (وغير ذلك).
فأراد به شهادة من تقرر فعله أو من تدفع عنه الشهادة ضرراً أو تجلب له نفعاً وشهادة الخصم على خصمه ونحو ذلك.
قوله: (كشهادة الفساق في النكاح).
هذا قال به بعض الأئمة، وإن كان أهل المذهب على خلافه.
قوله: (كالخوارج عند من يقول به).
المروي عن العترة أن شهادتهم مردودة، ولعله رمز إلى الشافعي فقد ذكر أنه لا يرد شهادة أحد من أهل البدع إلا الخطابية لتجويزهم الكذب.
تنبيه:
__________
(1) ـ في (ب): الأعداء.
(2) ـ في (ب): وأحرق أن سقط.
(3) ـ في (ب): يرد بشهادته للرق أو للولادة.
لم يذكر المصنف لتصحيح مذهب الجمهور إلا الدليل المذكور وقد أحسن في تقويمه على عوج فيه، وادعى الإمام المهدي عليه السلام إن تم طريقه إلى تصحيح مذهب الجمهور لا مدخل للطعن فيها وهي أنّا قد علمنا من دين النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن الكفر أعظم أنواع المعاصي، وعلمنا ضرورة من دينه أن أعظمها الجهل بالله تعالى وبالنبوة والتكذيب والاستخفاف حسبما تقدم في حد الكفر أعظم أنواع المعاصي إلا كون عقابه أعظم أنواع العقاب، فتقرر أن الكفر هو ما يستحق عليه أعظم أنواع العقاب فيقطع أنه لا ذنب يستحق عليه أعظم أنواع العقاب إلا ما تضمنته حقيقة الكفر من المعاصي المتقدم(1) ذكرها؛ إذ قد علمنا بالتتبع أنه لا معصية إلا وهي دونها فلا كفر حينئذ غيرها وهو المطلوب.
قلت: لا يخفى ما في هذا من التكلف وهو بمعزل عن إفادة الظن فضلاً عن العلم.
قوله: (يوضحه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد علم كفر المنافقين في زمانه..) إلى آخره.
هذا عده الإمام يحيى أقوى برهان على صحة ثبوت كفر لا دليل عليه، قال بعد تحريره: وفي ذلك حصول مقصدنا؛ لأنه قد حصل في حقهم كفر ولم تتعلق به الأحكام الكفرية، فلهذا جوزنا كفراً لا دليل عليه ولا تتعلق به الأحكام الكفرية.
فصل:
ليس يعرف بالعقل كفر قط.
__________
(1) ـ في (ب): المقدم.
اعلم أن هذا الفصل معقود لبيان ما يثبت في الإكفار من الأدلة، وبيان طرق التكفير، ولا كلام أن العقل لا مجال له هنا؛ لأن الإكفار خوض في مقادير العقاب واستحقاق أحكام مخصوصة، ولا يمكن أن يعلم بالعقل إلا مطلق إستحقاق العقوبة على المعصية، فأما كون هذه المعصية كفراً أو فسقاً أو صغيرة أو أن هذه المعصية يستحق عليها عقاب عظيم أو أنها أكبر من تلك أو دونها(1) فمما لا هداية للعقل إليه ولا يصرف له فيه ولو جلبنا والعقل لقضى بأن سرقة درهم على من لا يملك غيره أفحش من سرقة عشرة دراهم على من يملك قناطير من الذهب والفضة.
قوله: (وإنما يعرف الكفر بالشرع وذلك لأنه أمر غيبي لا يعلمه إلا الله أو من علمه بتعليمه على لسان نبيه وكذلك لا يعلم تفاوت المعاصي في كونها كفراً أو كون بعضها أشد عقاباً من البعض إلا من جهة الشرع وأدلة الشرع نوعان:ـ
__________
(1) ـ في (ب): تلك أوردونها.
أحدهما: ظني، وهذا النوع لا يؤخذ به في الإكفار ولا في التفسيق؛ لأن(1) الإجماع منعقد على أن الأدلة المستعملة في التكفير والتفسييق لا تكون إلا قاطعة لأن الإسلام مقطوع به فلا يجوز إبطاله بدليل مظنون، والأدلة الظنية السمعية ظواهر القرآن وظواهر السنة المتواترة؛ لأنهما وإن كانا مقطوعاً بهما في الأصل لكن دلالتهما ظنية، وهكذا أخبار الآحاد نصوصاً كانت أو ظواهر، وكذلك الإجماع إذا كان منقولاً بالآحاد لا يقال أليس من قامت شهادة على كفره أو أقام في دار الكفر غير مميز لنفسه بعلامة إسلامية يحكم بكفره ويعتقد كونه كافراً ولا يفيد ذلك إلا الظن لآنا نقول ليس الشهادة المذكورة وعدم التمييز، هما الطريق(2) إلى كفره بل الإجماع القاطع على أنه يجب الإكفار عند حصول أحد الأمرين إلا أنه لا يجوز اعتقاد كونه كافراً في نفس الأمر بل في ظاهر الشرع والتحقيق أنه يجوز إجراء أحكام الكفار بما لا يفيد إلا الظن من الأدلة كأخبار الآحاد ومن الطرق كالشهادة وقد ذكره الإمام المنصور بالله وأخباره.
قال الفقيه حميد: وهو مذهب المحصلين لأنه يجوز قتل المرتد بشهادة الشهود مع عدم حصول العلم، وقبلت في ذلك أخبار الآحاد على عهده صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولهذا هم يعدو قوم أخبره الوليد بن عقبة بكفرهم حتى نزل قوله تعالى: {إن جاءكم فاسق}، فامتنع صلى اللّه عليه وآله وسلم لأجل فسقه لا لأجل كونه واحداً.
النوع الثاني: ما هو قطعي في أصله ودلالته، وقد نبه المصنف عليه بقوله (بصريح الكتاب أو السنة المتواترة أو الإجماع المتواتر). وهذه ثلاثة مسالك سمعية قطعية:ـ
الأول: نصوص القرآن القاطعة كقوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة}. والمقصود ما كان نصاً لا احتمال فيه لا ما كان ظاهراً يتطرق إليه الاحتمال.
__________
(1) ـ في (ب): كأن.
(2) ـ سقطت من(ب).
الثاني: نصوص الأخبار النبوية المقطوع بصحة نقلها بأن تكون متواترة المقطوع بدلالتها بأن تكون نصوصاً لا تحتمل التأويل فيجري حينئذ مجرى النصوص القرآنية.
قال الإمام يحيى: كقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((من بدل دينه فاقتلوه، من سبني فاقتلوه)). فإن ما هذا حاله لا يتعد دعوى التواتر فيه وظاهره مقطوع به فأوضح ما قلناه فهو صالح للتمثيل وإلا فليطلب له مثال آخر.
قلت: بل ما ذكر غير صالح للتمثيل إذ ليس من قبيل النصوص ولا يعلم تواتره والعلم بكفر المبدل والسَّابّ له صلى اللّه عليه وآله وسلم [له](1) أدلة قاطعة غير ما ذكر.
الثالث: الإجماع، ولقطعية دلالته شرائط: أن يكون متواتراً، وأن يكون صادراً من جميع الأمة المعتبرين في صحة الإجماع، وأن يكون قصد الأمة معلوماً فيه، مثاله الإجماع على أن كل من أضاف إلى الله خصلة بعلم كونه نقصاً فإنه يكفر لا محالة كمن يقول هذه خصلة قبيحة عندي(2)، ومع ذلك فأضيفها إلى الله لا لو إعتقد حسنها وإن قام دليل على قبحها فالأقرب أن اعتقاده لحسنها يعذره لأن الإجماع لم ينعقد إلا بشرط اعتقاد قبحها من جهته، هكذا ذكر الإمام يحيى.
قلت: كلامه هنا قاضي بأن دلالة الإجماع في الإكفار مقصورة على إجماع الأمة دون إجماع العترة، وقد عده الفقيه حميد من الأدلة القطعية ومسالك التكفير ثم إن الإمام يحيى أجرى كلامه على التكفير ذكر أن إجماع الأمة كما هو معتمد في أدلة الإكفار، فإجماع العترة أيضاً كذلك.
قال: وهذا رأي أئمة الزيدية ومن تابعهم من العلماء فإنه قاطع، فإذا أجمعوا على خصلة كفرية وجب القضاء بصحة ذلك لأن مستند إجماع العترة الآية والخبر وتلك حجة مقطوع بها كما أن مستند إجماع الأمة الآية والخبر ولا يقال إن إجماع الأمة يفسق مخالفه، فلهذا كان حجة في الإكفار بخلاف إجماع العترة فإنه لا يفسق مخالفةه، فلا يكون حجة في ذلك.
__________
(1) ـ سقط من (ب).
(2) ـ سقط من (ب).
قال عليه السلام: لأنا نقول هذا سواء نظر فإن التفسيق بمخالفته غير وكونه حجة على الإكفار غيرٌ، وأحدهما مخالف للآخر فإنه إنما فسق مخالف إجماع الأمة لدليل منفصل ولم يحصل مثله في حق إجماع العترة فلهذا وافقنا في حال مخالفة بخلاف الإجماع فإنه من مدلول الإجماعين ومفهوم من مقاصدهما فلأجل هذا قطعت به لما كان مستندهما القطع بالآية والخبر فحصل من مجموع ما ذكرنا استواؤهما في الدلالة على الإكفار.
تنبيه:
الإستدلال بالإجماع في هذه المسألة ونحوها مما لا يؤخذ فيه إلا بالدليل القاطع متعسراً ومتعذر لأنه وإن سلم قيام الدلالة القاطعة على أنه حجة قاطعة فثبوته بعيد.
قوله: (أو القياس القطعي كأن يعلم في ذنب أنه كفر لعلة مخصوصة..) إلى آخره.
مثاله: ما ثبت من أن الاستخفاف بالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم كفر، فيعلم أن الإستخفاف بالله تعالى كفر لأنه أدخل في ذلك فإن حق الله أعظم من حق الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، واعتبر الإمام يحيى أن يكون القياس هنا من هذا القبيل بأن يكون المسكوت عنه أسبق إلى الفهم من المنطوق، وهذه مسألة خلاف، فالذي عليه الجمهور من الزيدية والمعتزلة أن التكفير يصح بالقياس؛ لأن التعبد به قد قامت عليه الدلالة القاطعة من غير تقييد وذهب أبو هاشم والإمامان المؤيد بالله والمنصور بالله أنه لا يثبت بالقياس، هكذا نقل في تعليق الشرح عن المنصور بالله، ونقل عنه الفقيه حميد كقول الجمهور وهو أعرف بمذهبه ولا يختلف الجميع أن كل معصية كانت كفراً لوجه من الوجوه ثم ثبت في غيرها ذلك الموجه وزيادة أنه ثبت لها حكم المعصية التي لم يثبت فيها إلا ذلك الوجه كالمثال الذي ذكرناه وكتكفير من يقول إن الله رابع أربعة، وإنما محل(1) الخلاف حيث لا يثبت ذلك وإنما هو من قبيل قياس المساواة كما يقوله المتكلمون أنه يكفر من اعتقد أن الله فاعل الظلم كما ثبت كفر من اتقد كونه ظالماً ونحو ذلك،والتحقيق أنهم لا يختلفون في المعنى والحقيقة، أنهم يتفقون على أنه لو ثبت التكفير في معصية وعلم قطعاً أنه لأجل علة ثانية فيها ثم علم قطعاً حصول تلك العلة بعينها في معصية أخرى لثبت قياسها عليها لكن عند من نفى الأخذ بالقياس هنا أن ذلك غير ممكن بدليل موافقتهم فيما تقدم ذكره مما ثبت فيه الوجه وزيادة وبدليل احتجاج المانعين بأن الكفر إنما يكون كفراً لاستحقاق العقاب العظيم والعقل لا هداية له إلى ذلك ولا يمكن الإشارة في القياس إلى علة منضبطة حتى يقول: المستدل قد وجدت هذه في فرع فيلزم أن يحكم فيه بحكم أصله، فالحق أنه إن كان الأصل وعلته وأن الكفر لأجلها معلومة بأدلة قطعية ثم علم الفرع وحصول تلك العلة فيه بدليلين قطعيين وبرهانين نقيين لم
__________
(1) ـ في (ب): حمل.
يصح المنع من الاستدلال بالقياس على هذه الكيفية، وإن اختل شيء مما ذكر لم يصح الإستدلال به ولا ينبغي أن يكون بينهم خلاف في واحد من الطرفين.
فائدة: أختلف في هل يجوز التكفير بالإلزام، فمنعه الجمهور، وقال بصحته ابن الملاحمي، ورد بأنه لو ثبت ذلك لكفرنا كثيراً من أرباب المذاهب الإسلامية وفسقناهم لأن في كلامهم ما يقود إلى ذلك ويؤدي إليه ولأن الكفر لا يكون إلا بما يدين به المكلف قولاً أو عملاً أو إعتقاداً لا ما ينكره ويتبرأ منه.
قلت: وهذا هو الحق الذي لا ريب فيه وما كان الشيخ محمود بن الملاحمي على جلالة قدره وغزارة علمه وفهمه جديراً بأن يذهب إلى خلافه.
تنبيه:
اعلم أن التفسيق حكمه في جميع ما ذكر في هذا الفصل حكم التكفير من غير فرق.
فصل: في بيان أنواع الكفر.
قوله: (اعلم أن الكفر ضربان..) إلى آخره.
ما ذكره في ذلك فيه [نظر] (1) لأنه حكم على الكفر بأنه هذان الضربان، وظاهره أنه لا يخرج عنهما شيء من أنواع الكفر وليس كذلك، فإن تلك القسمة غير شاملة لأنواع الكفر ونحن نذكر أنواع المعاصي أولاً ثم أنواع الكفر مستكملة وبعض ما ذكر من تقسيمات له مفيدة باعتبارات شديدة إن شاء الله تعالى(2).
فنقول: الذي عليه جلة العلماء من أهل التوحيد والعدل وغيرهم أن المعاصي قسمان: صغير وكبير.
والكبير قسمان: كفر، وفسق. ودليله قوله تعالى: {وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان}. وقوله تعالى: {وإن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيأتكم}. فدل على إنقسام المعاصي إلى كبيرة وصغير وإلا لم يستقم الكلام، وخالف في هذا الضابط الجعفران فقالا: كل معصية أوقعت عمداً فهي كبيرة ولا صغيرة في العمد.
وقال أبو القاسم: كلما تناوله الوعيد فهو كبير.
__________
(1) ـ سقط من (ب).
(2) ـ في (ب): باعتبارات شديدة إما كسبيع.
وقالت الخوارج: كل معصية كفر وشك، ومنهم من استثنى معاصي الأنبياء، ومنهم من ذهب إلى أن المعاصي كلها كفر نعمة وطريق معرفة ما ذكرناه السمع فقط فإنه الذي يعلم به أن هذه المعصية كفر وهذه كبيرة غير كفر وهذه صغير لأن مرجع ذلك إلى مقادير العقاب، ولا مجال للعقل فيها وأكثر ما يعلم بالعقل كون بعض المعاصي أعظم وأفحش من البعض فلا شك أن ادعاء الربوبية أعظم من الشرك بالله، والشرك أعظم من تكذيب الرسول، وقتل النبي أعظم من قتل الإمام، وقتل الإمام أعظم من قتل رجل من أطراف الناس.
وأما أنواع الكفر فهي أربعة:ـ
النوع الأول: ما هو من أفعال القلوب كأن يعتقد نفي الصانع أو أن معه ثانياً أو أنه غير قادر أو كذب الرسل أو كذب ما جاءوا به مما يعلم من دينهم بالضرورة كالبعث والنشور والجنة والنار، والإجماع منعقد من الصدر الأول والتابعين على الإكفار بذلك.
قال الإمام يحيى: ولا يحكى الخلاف في تعلق الكفر بالاعتقادات الدينية إلا عن أصحاب المعارف كالجاحظ والأسواري فإنهم زعموا أن الكفر لا يتعلق بها لما اعتقدوا أن المعارف كلها ضرورية من جهة الله فقالوا لا يتعلق بها شيء من الإكفار وإنما يتعلق بالأقوال وأعمال الجوارح، ومقالتهم باطلة مردودة فإنه يعلم من دين النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ضرورة أن الإعتقادات المخالفة للتوحيد في الذات والصفات الإلهية كفر لا محالة.
النوع الثاني: ما هو من أفعال الجوارح كعبادة الأصنام والأوثان وقتل الأنبياء وهدم المساجد وتمزيق المصاحف وغير ذلك. وقد ذهب أهل التحقيق من الزيدية والمعتزلة والأشعرية إلى أن الإكفار يتعلق بأعمال الجوارح كما يتعلق بأفعال القول، وحكي عن الجهمية والإمامية أن أفعال الجوارح لا يتعلق بها الإكفار ولا مدخل لها فيه بناء منهم على أن الإيمان مقصور على المعرفة بالقلب لا غير وأن الكفر ما يناقضه من الجهل ونحوه فقط وهم محجوجون بما يعلم ضرورة من دينه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه من عبد الأصنام ونحو ذلك فهو كافر.
النوع الثالث: والمحققون على أن الإكفار متعلق بها وأنها صريحة فيه كما لو نطق مكلف بأن الله ثالث ثلاثة ونحوه وكَسَبِّ الأنبياء والملائكة وتكذيب الرسل، وقد خالف في ذلك الجهمية والإمامية كقولهم في أفعال الجوارح بناء على قاعدتهم تلك الفاسدة.
والحجة عليهم: هو ما تقدم، وقوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة}، ونحوها، وقوله: {ولقد قالوا كلمة الكفر}. وقد ذهبت طائفة من الكرامية إلى أن الإكفار مقصور على الأقوال وأنه لا مدخل له في الإعتقادات وغيرها. وفيما تقدم ما يرشد إلى بطلانه.
النوع الرابع: ما هو من قبيل التروك كترك النظر في معرفة الله تعالى وما يجب له من الصفات الإلهية وترك العلم بتصديق الرسل فإنه بمنزلة جحد الله تعالى وأعتقاد تكذيب أنبيائه إذ الكل فقد المعرفة بذلك.
هكذا قرره الإمام يحيى، قال: واعلم أن التاركين للنظر والمهملين لشرائعة فريقان:ـ
الأول: كفار بلا مرية، وهم أهل الحيرة(1) ومن قال بتكافي الأدلة ومن ذهب إلى التشكيك.
والفريق الثاني: من أنكر النظر وزعم أن المعارف كلها ضرورية ومع ذلك أتوا بالوحيد والإقرار بالنبوة وغيرها من المعارف كما هو محكي عن الجاحظ وتلميذه الأسواري وخلافهم يذكر مع خلاف أهل القبلة المتفقين على معرفة الصانع وتصديق الأنبياء.
__________
(1) ـ في (ب): أهل الحبرية.
قلت: فهذا هو التقسيم المستوفي في ذكر أنواع الكفر الجامع لأقسامه وضروبه ويأتي مثله في الفسق فمنه ما يتعلق بأعمال القلوب كَسَبِّ الأئمة وإسقاط منازلهم وما يكون من حط درجاتهم لأنعقاد الإجماع من جهة الأمة على ذلك فليسوا كغيرهم من أفناء الناس لأن الله تعالى قد رفع قدرهم وأعظم من حالهم وخصهم بما خص. هكذا ذكر الإمام يحيى وفيه نظر وكيف بمثل أعمال القلوب بالسب ونحوه وهو قول من فعل اللسان فالأولى التمثيل بما ينطوي عليه القلب من الأستخفاف والتهاون وأعتقاد سقوط منزلتهم وحساسية قدرهم والله أعلم.
ومنه: ما يتعلق بأعمال الجوارح كالزنا وشرب الخمر.
ومنه: ما يتعلق بأعمال اللسان كالقذف.
ومنه: ما يتعلق بالتروك كترك الصلاة والصوم.
واعلم أن الكلام في التفسيق مسالكه وتقسيماته وغير ذلك تأتي على نحو الكلام في الإكفار فهما أخوان في ذلك.
تقسيم آخر للكفر:
ينقسم إلى: مجمع عليه وهو ما كان كفر تصريح صدر من صاحبه عن جهة التمرد والمعاندة مع معرفته للحق فهذا لا خلاف بين المسلمين في كفر من صدر عنه وأنه يعاقب أعظم أنواع العقاب على جهة التأييد ومختلف فيه وهو ضربان:ـ
أحدهما: ما هو من كفر التصريح ولكن صدر من صاحبه لا على جهة التمرد بل مع أجتهاده في معرفة الحق وأستفراغ الوسع في النظر كالتهود والتنصر والتمجس حيث لا عناد ونحو ذلك، فأكثر الأمة على أنه كفر كالأول من غير فرق، وعن الجاحظ وعبيدالله بن الحسن العنبري أنه لا عقاب على أهل هذا الضرب وأنهم معذورون وهذا معنى قولهم: إن كل مجتهد مصيب. هكذا ذكر بعض أصحابنا.
وقال الفقيه حميد في العمدة: خلاف عبيدالله بن الحسن العنبري وقوله: إن الأختلاف في أصول الدين تجري مجرى الإختلاف في فروع الفقه إنما أرد بذلك الإختلاف بين أهل القبلة دون اليهود والنصارى بعيدة أن التشبيه والجبر وغير ذلك مما أشبهه من أنواع الإختلاف ليس فيه تضليل.
الضرب الثاني: كفر التأويل: وفيه خلاف شديد وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
قوله: (والضرب الأول خمسة أنواع..) إلى أخر ذكره لها.
اعلم أن المصنف ذكر هذه الأنواع بأعتبار العقائد ورتبها على ترتيب فن الكلام فقدم منها ما يتعلق بالتوحيد ثم بالتعديل ثم بالنبوآت وخلط كفار التصريح بكفار التأويل أعتباراً بالترتيب المذكور ولا بأس بما ذكره وأحسن منه أن يذكر الملل الكفرية وأهل الأديان المخالفة لدين الإسلام على إنفرادهم وكفار التأويل الداخلين في الملة الإسلامية على أنفرادهم.
أما القسم الأول: فهم خمسة أصناف:
الأول: المعطلة، والدهرية، والفلاسفة، ومنكروا الحقائق من أهل السفسطة.
الثاني: الملاحدة من ...... والمجوس والصابئة ومنهم الباطنية.
الثالث: عبدة الأوثان والأصنام والنجوم والأفلاك والنيران والجمادات والحيوانات.
الرابع: المنكرون للنبواءت كالبراهمة، والقائلين بالتناسخ.
الخامس: الكفار من أهل الكتب المنزلة كاليهود والنصارى.
قال الإمام يحيى: هذه معظم الفرق الخارجة عن الإسلام ويندرج تحت هؤلاء من الفرق والطوائف خلق عظيم.
وأما القسم الثاني: فهم سبعة أصناف: المطرفية والمشبهة والمجبرة والروافض والخوارج والمرجئة والمقلدة على أختلاف في إكفارهم ونزاع شديد في ذلك [و](1)على تفصيل في إجمالهم فإن كل فرقة ممن ذكر أقوالهم متفاوتة ومذاهبهم مختلفة بعضها أشنع من البعض الآخر، وإنما ذكرنا من رمي بالإكفار من ملل الإسلام وسيتضح الحق في ذلك إن شاء الله تعالى.
قوله: (فإن ذلك كفر بنفسه وإن اعتقد خلاف ما أظهره لسانه).
__________
(1) ـ سقط من (ب).
يعني: سواء نطق بكلمة الكفر هازلاً أو جاداً لغير غرض أو لغرض كأن يريد إسقاط الواجبات التي لله عن ذمته إذ هي تسقط عن المرتد وكأن يريد فسخ النكاح وهذا مذهب كثير من المتكلمين كالشيخ أبي علي وعلماء العترة كالسيدين وأبي عبدالله الجرجاني، وخالف في ذلك أبو هاشم والأمير الحسين والإمام يحيى بن حمزة، ولا خلاف بينهم أنه لا يكفر بذلك عند الإكراه أو الحكاية له عن غيره واشترط الفقيه حميد أن يكون عالماً بمعنى كلامه.
احتج الجمهور بأن من سب الله أو وصفه(1) بالصاحبة والولد أو سب رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم وجحد ما أتى به من الشرائع فإنه لا خلاف بين الأمة في كفره وإن لم يعلموا كونه معتقداً لمعناه.
واحتج أبو هاشم بأنه لو كان كفراً بمجردة من دون قصد واعتقاد لما حسن إباحته عند الإكراه ومعلوم خلافه.
وأجبت: بأنه لا جمع بين المختار والمضطر بدليل أن ذلك يباح للمضطر [بلا كلام، ولا خلاف](2) في أنه لا يباح له النطق بكلمة الكفر في غير تلك الحال ولو(3) لم يقصد. وهل يجوز أن يقال إذا كان تناول مال الغير مباحاً عند الإكراه وجب أن يكون مباحاً عند الإختيار.
واحتج لمذهب أبي هاشم: بأن المتكلم من غير قصد واعتقاده لم يشرح بالكفر صدره وقد قال تعالى: {ولكن من شرح بالكفر صدراً}، ومعنى شرح الصدر بذلك اعتقاده والطمأنينة إليه.
قوله: (وكأن يعزم على شيء من هذه الأمور).
يعني: التي مرجعها إلى الاستخفاف.
واعلم أن الإرادة المتعلقة بفعل الكفر وكذلك الفسق من جملة أفعال القلوب التي يتعلق بها الإكفار والتفسيق، وهي تنقسم إلى عزم، وقصد، فالعزم ما تقدم، والقصد ما قارب، أما العزم فحيث يكون مشاركاً للمعزوم عليه في الوجه الذي لأجله صار كفراً أو فسقاً يكون حكمه حكمه اتفاقاً.
__________
(1) ـ في (ب): ووصفه.
(2) ـ في (ب): بلا خلاف، ولا خلاف.
(3) ـ في (ب): فلو.
مثال الأول: العزم على الاستخفاف بالله ورسوله، فإن هذا الاستخفاف كفر ومن عزم عليه فهو مستخف بقلبه فيكون حكم العزم كحكمه.
ومثال الثاني: العزم على الاستخفاف بالإمام العادل كأن يعزم على سَبِّهِ أو ضربه فالعزم نفسه استخفاف به فيكون فسقاً كالمعزوم عليه، وإن كان العزم [غير](1) مشارك للمعزوم في الوجه الذي لأجله كان كفراً أو فسقاً كالعزم على عبادة الأصنام أو الزنا فهذا محل الخلاف.
قوله: (فقال أبو هاشم وأبو عبدالله والسيد المؤيد بالله: لا يكون كفراً بمجرده).
وإلى هذا ذهب أكثر أهل العدل واختاره الإمام يحيى، وله(2) حجتان:ـ
أحدهما: أن الكفر إنما كان كفراً لتفاحشه، وهكذا حال الفسق وهما إنما تفاحشا لوجه وقعا عليه، فإذا لم يشاركهما العزم في ذلك الوجه لم يجعل كفراً ولا فسقاً.
الحجة الثانية: أن الشرع لم يثبت للعزم هذا الوصف إلا لأجل مخالطته المعزوم عليه ومماسَّته له وهذه المخالطة والمماسة لا تكون إلا بالمشاركة في الوجه إذ لا يعقل سوى ذلك فإذا لم يكن العزم مشاركاً للمعزوم عليه في الوجه لم يكن له حكمه من كفر أو فسق كما لو عزم على كلمة الكفر فإنها إنما كانت كفراً لأن مدلوها يبطل التوحيد والعزم ليس كذلك، وكذلك العزم على الزنا فإنه ليس بزنىً ولا يتفاحش كتفاحشه.
واحتج أبو هاشم أيضاً: بأنه لا بد أن يتخط العزم عن درجة المعزوم عليه في الثواب فكذلك(3) في العقاب كما لو أن الإنسان عزم ووطن نفسه على أنه إن بعث نبياً يحمل الرسالة(4) وأداها فمن المعلوم أنه لا يكون ثوابه كثواب المبعوث فكذلك العقاب.
قوله: (وقال أبو علي وأبو الهذيل والكعبي: وحكي عن واصل أنه يكون كفراً).
وخرجه السيد المؤيد بالله للقاسم والهادي عليهما السلام، ولهم على ذلك حجتان:ـ
الحجة الأولى: ما ذكره في المتن.
__________
(1) ـ سقط من (ب).
(2) ـ في (أ): ولهم.
(3) ـ في (ب): وكذلك.
(4) ـ في (ب): أنه بعث نبياً لحمل الرسالة.
الحجة الثانية: أن الإجماع منعقد من جهة الصحابة والتابعين على أن حكم العزم تابع للمعزوم عليه في الكفر والفسق.
قلت: وهما حجتان واهيتان.
أما الأولى فليس في كون الإرادة تابعة للفعل غير مستقلة بنفسها ما يوجب كون حكمها كحكمه في ثبوت الكفر والفسق ولا يوجب ذلك ظناً، فكيف بالقطع ومراد المتكلمين بكونها تابعة للفعل أنه ما دعا إلى الفعل دعا إليها وليس فيها غرض يخصها على انفرادها، فأين هذا من ذاك؟.
وأما الثانية: فدعوى الإجماع في ذلك دعوى فارغة وما هي ونحوها إلا من قبيل الزعمات التي لا تعويل عليها ولا التفات.
قوله: (لأن الظاهر من حال الصحابة..) إلى آخره.
أوضح من هذا أن يقال: لأنه لا دليل قاطع على أن العزم الذي حاله ما ذكر حكمه حكم المعزوم عليه والأصل عدمه والإكفار والتفسيق لا يتسنيان إلا بالأدلة القاطعة.
قوله: (ولا يمتنع أن يكون هذا من خصائص أمة محمد عليه السلام يقال: لا يثبت أنه من خصائصهم إلا بعد أن يثبت كون من قبلهم من الأمم على خلاف ذلك ولا دليل عليه وأما الإرادة المتعلقة بالفعل التي هي قصد لمقاربتها له.
قال الإمام يحيى: فقد يكون كفراً كأن يريد بسجوده عبادة الشيطان أو الأوثان فهذا السجود إنما كان كفراً لأجل الإرادة لأنه لو خلى عن الإرادة لم يكن كفرا. انتهى.
قلت: أراد عليه السلام فمن التعبد إرادة تقتضي كون الفعل كفراً ولا تكون هي كفراً في نفسها.
فائدة:
قد سبق فيما ذكر أنا(1) مكلفون متعبدون بمعرفة مسائل الإكفار والتفسيق لما يترتب عليهما من الأحكام التي تعبدنا بها، فما يكون حكم الشاك في كفر الكافر والذي حصله أصحابنا أن الشاك في كفر من هو خارج عن الإسلام كاليهود والنصارى وعبدة الأوثان لا إشكال في كفره لردة ما علم من ضرورة الدين وما نطق به القرآن المبين ولا تختلف الأمة في ذلك.
__________
(1) ـ في (ب): فيما ذكرنا.
قيل (ي): ويلحق بما ذكر الشك(1) في كفر الباطنية والمطرفية وإن أظهروا الإقرار بالإسلام والشهادتين، أما الباطنية فلأن اعتقادهم يؤول إلى اعتقاد الملحدة في نفي الصانع والنبواءت، وأما المطرفية فلأن لهم اعتقادات مخالفة لما علم من ضرورة الدين، وقول هاتين الفرقتين أقبح وأشنع مما كفر به اليهود والنصارى.
وأما كفار التأويل من أهل القبلة الذين يدينون بإثبات الصانع ونبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ظاهراً وباطناً فقد اختلف في حكم الشاك في كفرهم، فالمحققون وجمهور المتكلمين كأبي هاشم وأتباعه أن من شك في نحو كفر المجبرة مع اعتقاده لخطائهم(2) وإثمهم فيما ذهبوا إليه، وإنما شك في هل خطأهم يبلغ بهم الكفر أم لا لعدم ظفره بدلالة قاطعة في ذلك فإنه لا يكفر وإن شك في هل أصابوا في اعتقادهم أو أخطأوا فكافر؛ لأنه شاك في إصابة من أضاف القبيح إلى الله تعالى، وكذلك حكم الشك في كفر المشبهة، وهذا هو المحصل من كلام الشيخ أبي علي، ونسب إليه أن الشاك في كفر المجبر ونحوه كافر، وكذلك الشاك في كفر الشاك.
وقال الأسكافي: الشاك في كفرهم كافر، وكذلك الشاك في الشاك، والشاك في الشاك في الشاك إلى ثلاثة، وقيل كذلك إلى أربعة.
__________
(1) ـ في (ب): الشاك.
(2) ـ في (ب): لخطاهم.
قلت: القول بكفر الشاك في كفر كفار التأويل من المذاهب السبعة التي لا وجه لها ولا ينبغي التجاسر عليها فالقول بذلك إقدام وجرأة على تكفير كثير من أئمة المسلمين وشموس الملة ـ فنعوذ بالله من الغلو ـ، ولا نعلم لأهل هذا القول حجة ولا شبهة يلتبس الحال فيها و ـ كذلك ـ لا دليل على أن الشاك في إصابتهم وخطائهم كافر وإن كان ذلك خطأ، وقد صرح بعدم تكفيره المهدي عليه السلام؛ لأنه لا يجب على المكلف إلا أن يكون اعتقاده موافقاً للحق، وأما التعريض لمخالفه وحكمه وهل يكون كافراً أم مخطئاً فقط إذ لا يجب(1) التعرض لتكفير الغير أو تفسيقه إلا حيث عليه تكاليف يتعلق بذلك الغير، والذي ذكره أبو علي في توجبه ما قال به من كفر الشاك واعتذر به في مقالته هذه الركيكة أن الشاك في كفر المجبرة شاك في حكمة الله والشك(2) في حكم الله كفر.
قال الإمام يحيى: وهذا خطأ؛ لأنه يمكن أن يقطع بحكم الله تعالى لقيام البرهان القاطع عليها ويشك في كفر المجبرة لعدم الدلالة عليه فأين أحدهما من الآخر.
فصل:
اعلم أنه قد تقرر بضرورة الدين جملة لا يمكن أحد من أهل الملة إنكارها.
قوله: (ولا خلاف بين المسلمين في(3) كفر من خالف شيئاً من هذه الجملة).
__________
(1) ـ في (أ): فقط فلا إذ لا يجب.
(2) ـ في (ب): والشاك.
(3) ـ في (ب): من.
فيه نظر لأنه عدَّ منها نفي التشبيه، والخلاف بين المسلمين في كفر المشبهة واضح، وعدَّ منها مسألة سميع بصير مدرك، وفي هذه الصفات خلاف بين علماء الإسلام، إلا أن يقصد إطلاق هذه الأسماء فلعل ذلك مما لا خلاف فيه، وكذلك إن قصد بالخلاف في التشبيه أن يذهب ذاهب إلى أن الله يشبه خلقه فإن ذلك كفر صريح لا خلاف فيه كما ذكره؛ لأن المعلوم ضرورة من دين النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه الله تعالى لا يشبه خلقه ففيه تكذيب للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، فأما من قال: إن الله جسم ذو أعضاء وجوارح ونفى التشبيه وزعم أن ذلك ليس منه وأن التشبيه المحرم الذي علم ضرورة منه صلى اللّه عليه وآله وسلم نفيه تشبيه الله(1) بخلقه في صفات النقص كالحدوث والموت والتألم، فهذا متأول كفره محل الخلاف.
قوله: (وإنما وقع الاشتباه فيمن يذهب من أهل القبلة مذهباً خطأ..) إلخ.
اعلم أن الذي يذكر الآن من الكلام في كفر التأويل هو السر في هذا الباب واللباب لذوي الأفهام والألباب، وهو الذي اشتد فيه النزاع، واصطكت فيه الركب المفتقر إلى كثرة التثبت والتحرز عن الأوهام والتهافت في الإقدام فإنه مزلة للأقدام.
وقوله: (نعود بالبعض على شيء من هذه الجملة).
أراد: فلا نعتقد أن كل خطأ في المسائل الخلافية مما ألحق فيه واحد وقع على سبيل التأويل فهو كفر على الإطلاق، وأن هذا غير صحيح بل في المذاهب التي اعتقدها أهل القبلة وأخطأوا فيها ما يكون خطأ غير معدود في إكفار التأويل، ومنها ما هو معدود منه فقصد المصنف التمييز بينهما بأن ما كان من الخطأ يعود بالنقض على شيء من تلك الجملة فهو كفر التأويل المختلف فيه وما لا فلا.
__________
(1) ـ في (ب): الله تعالى.
قال الإمام يحيى: التمييز بين الخطأ بأن يقال: ما كان يبطل طريق العلم بالصانع فهو كفر كاعتقاد قدم الأجسام فإنه لا طريق لنا إلى إثبات الصانع إلا بواسطة حدوثها، وما ناقض المعرفة فهو كفر، وكذا ما كان مبطلاً للقادرية كاعتقاد أنه لا يصح منه الفعل أو أنه موجب بالذات أو للعالمية كالقول بأنه تعالى لا يعلم الجزئيات وأن يعتقد ما يناقض الحكمة كأن يضيف إليه تعالى فعل القبيح مع اعتقاده لقبحه وكونه نقصاً أو يعتقد أنه يظهر المعجزة على الكذابين أو يعتقد أن الرسول ليس صادقاً وأن المعجز ليس فيه دلالة على الصدق.
قلت: وكلام الإمام عليه السلام هذا غير محكم لأنه أورده تمثيلاً للخطأ الذي هو كفر تأويل وهذه العقائد الفاسدة التي عدها من قبيل الكفر الصريح.
تنبيه:
أقاويل أصحابنا في تفسير كفر التأويل لا يخلو عن اختلاف وانضراب وهو من المعاني العويصة وقد فهم تفسير مفيد(1) المصنف.
من ضمن قوله: (وإنما وقع الاشتباه(2)..) إلخ.
فحاصله أنه عنده كل مذهب لأهل القبلة خطأ يعود بالنقض على شيء من تلك الجملة التي ذكرها مع تأوله بما يوافقها وقد عرفت ما حكيناه من تفسير الإمام يحيى له.
وقيل: هو ارتكاب ما يماثل شيئاً من الأمور التي انطوت عليها حقيقة الكفر المتقدمة مع مناكرة المرتكب له في المماثلة بينهما لشبهة يزعم أنها تقتضي ذلك فما هذا حاله يسمى كفر التأويل والقائل به كافر التأويل وإنما سمي بذلك لأنه آل مذهبه إلى الكفر ولم يكن من ابتدائه كفر ككفر التصريح.
قلت: الحقيقة المشار إليها هو قوله: (الخلو عن معرفة الله أو نبوة نبيه..) إلخ.
وقوله: (إن تسميته كفر التأويل من آل).
غير مستقيم بل من أوَّل وتأوَّل بمعنى أنه لم يقدم على ذلك جرأة، وإنما هو لتأوله مذهبه بأنه غير مماثل للكفر الصريح وأنه موافق للأصول.
__________
(1) ـ في (ب): تفسيره عند المصنف.
(2) ـ في (ب): الاستثناء.
وقيل (ي): كفر التأويل أن يفعل المكلف أو يقول أو يترك ما هو معصية والدلالة القاطعة قاضية بأن تلك المعصية كفر وكان ذلك منه وهو غير عالم بكونها معصية بل لظنه الصواب في ذلك مع إقراره بالشهادتين وجملة الإسلام.
ومثال كفر التأويل عند مثبته القول بأنه تعالى فاعل الظلم والكذب والعبث فإنه ينقض ما علم ضرورة من الدين وهو أن الله تعالى لا يوصف بأنه ظالم ولا كاذب ولا عابث، وإن واصفه بذلك ومعتقده فيه كافر لكن القائل بذلك وهم المجبرة(1) لم يصفوه تعالى بهذه الأوصاف ولا أعتقدوها فيه وينكرون كون الوصف بأنه فاعل لتلك مماثلاً للوصف بأنه ظالم وكاذب وعابث لشبهة اقتضت عندهم اختلاف الوصفين وعدم تماثلها.
قوله: (فقال الجمهور: شيوخنا..) إلخ.
اعلم أن الخلاف في ثبوت كفر التأويل ونفيه متسع فالذي عليه أهل التحقيق من العدلية وهم أئمة الزيدية وجماهير المعتزلة النصرية والبغدادية ثبوت كفر التأويل وإن دخول التأويل في المذاهب لا يمنع من كونها كفراً وذهبت المجبرة على طبقاتهم كالأشعرية والكلابية والبخارية إلى منع الإكفار بالتأويل.
حكي عن الأشعري، أنه قال: اختلف الناس بعد نبيهم في أمور كثيرة من مسائل الديانة ضلل بعضهم بعضاً وتبرأ بعضهم من بعض لكن الإيمان بالله ورسوله يجمعهم ويعمهم.
__________
(1) ـ في (ب): الجبرية.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الإمام يحيى عليه السلام: وإلى هذا ذهب النظَّار من أصحابه كالجويني وأبي حامد العزالي وابن الخطيب الرازي وهو الرجل في الأشعرية فالأكثر منهم على هذه الحالة، وحكي عن بعضهم أنه كفَّر أصحابنا والمعتزلة في القول بأن المعدوم شيء وخلق القرآن وإنكار الرؤية، ومنهم من كفَّر المشبهة بالقول بالتشبيه، والقول بعدم الإكفار بالتأويل مذهب أبي حنيفة نقل عنه أنه لا يكفر أحداً من أهل القبلة، ومثله حكاه أبو بكر الرازي عن أبي الحسن الكرخي وغيره من أصحاب أبي حنيفة، وإلى نفي الإكفار بالتأويل ذهب المؤيد بالله والإمام يحيى بن حمزة وأبو الحسين وابن الملاحمي وأبو القاسم البستي هكذا حكى عنهم الإمام المهدي عليه السلام ذلك والذي ذكره الإمام يحيى في كتابه التحقيق أن المختار [عنده](1) أن الإكفار واقع مع التأويل كوقوعه مع التصريح لا محالة وأن التأول لا يمنع عن الإكفار إذاً لجاز في كل صاحب بدعة أن يكون معذوراً في بدعته بما يظهره من السنه فتأويله لا يعذره عن الإكفار بحال(2)، كما هو مذهب أئمة الزيدية والمعتزلة لكنا نقول إنما معنا في بعض الإكفارات بالتأويل لا(3) من أجل أن الإكفار لا مدخل له في التأويل [بل](4) لحصول الاحتمال في الدليل كما نقول في كفر المجبرة عند من لا يقول بإكفارهم فإنه لم يمنع منه بطلان القول بإكفار التأويل [بل](5) لأجل إيما يورد في إكفارهم فيه أحتمال لا يمكن القطع به.
قلت: ولا يبعد أن يكون هذا حقيقة ما ذهب إليه المؤيد بالله عليه السلام والبستي وأبو الحسين وابن الملاحمي إن لم يكن لهم نص صريح(6) على خلاف ذلك.
قوله: (وحكي عن الشافعي أنه قال: أنا لا أرد شهادة أهل الأهواء(7) إلا الخطابية).
__________
(1) ـ سقط من (ب).
(2) ـ في (ب): وبحال.
(3) ـ في (ب): إلا.
(4) ـ سقط من (ب).
(5) ـ سقط من (ب).
(6) ـ في (ب): تصريح.
(7) ـ في (ب): أهل لا إله إلا هو.
يعني: فهذه الحكاية تقضي بأنه لا يكفر أحداً من أهل الملة وليس رده لشهادة الخطابية من أجل تكفيرهم(1) بل لأستحلالهم الكذب فلا يوثق بهم.
قال الإمام يحيى: فأما مالك فلم أعرف له قولاً في الإكفار بالتأويل.
قوله: (وحكي عن الكرخي..) إلخ.
قد تقدم ما ذكره الإمام يحيى من حكاية أبي بكر الرازي عنه: أنه لا يكفِّر أحداً من أهل القبلة وصورة كلام الرازي المحكي عنه أن كل مذهب لأهل القبلة يوجب إكفار معتقديه لا يمنع من أكل ذبائحهم ومناكحة نسائهم لأنهم منسوبون إلى ملة الإسلام ومتولون لأهلها، وقد قال تعالى لليهود والنصارى: ومن يتولهم منكم فإنه منهم}. فدل على أن من تولى ملة من الملل فهو منها فأخذ الإمام يحيى وغيره من هذا أنه يمنع التكفير.
وقال البستي: هذا القول يقتضي أنه يوجب تكفير بعض المختلفين من أهل القبلة في باب العقائد وإنما يمنع إجراء أحكام الكفر عليهم. وتابعه المصنف.
قوله: (بل يعتمدون على منشأته القرآن والسنة).
فيه نظر وكيف يعتمد أهل الملل الكفرية المخالفة لملة الإسلام على شيء من القرآن والسنة وهم ينفونها وينفون ما يتفرعان عليه، فإن احتج بها محتج منهم فما هو إلا من قبيل الإلزام.
قوله: (واعلم أن هذه الوجوه التي ذكرها أصحابنا يمكن أن تعترض بوجه واحد..) إلخ.
__________
(1) ـ في (ب): كفرهم.
يمكن الجواب عنه بأن يقال: قد علمنا أن من صدَّق الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم وكان على ما وصفت من كونه معتقداً للجملة المتقدم ذكرها إذا استحل الخمر كفر بالإجماع فدل على أن ذلك الإعتقاد لا يمنع من ثبوت الكفر وقد يجعل معنى هذا الجواب وجهاً مستقلاً تحريره أن يقال لمانع كفر التأويل ألست تسلم أن مستحل الخمر أو من سب الرسول عليه السلام يكفر وإن كان مقراً بالله ورسوله ونبوته ومصلياً(1) إلى قبلته ولا وجه لذلك إلا أنه صار باستحلال الخمر كالمكذب له وما لست مستخفاً به فلذلك كفر ولم يمنعه عن الكفر الإقرار بنبوته فكذلك سائر مسائل الإكفار بالتأويل حيث يعلم بالضرورة أنها تستلزم الكفر ونعود على تلك الجملة بالنقض.
قوله: (قالوا: قال عليه السلام: ((أمرت أن أقاتل الناس..)) إلى آخر الخبرين المذكورين تقرير احتجاجهم بهما أن قالوا ظاهر هذين الخبرين دال على أن من كان مقراً بالشهادتين ومصلياً إلى القبلة وآكلاً للذبيحة فإن حاله يخالف حال غيره ممن لا يكون على هذه الصفة ولن(2) يكون كذلك إلا بأن إكفارهم لا وجه له بحال لظهور الخصال الإسلامية في حقهم.
تنبيه
اعلم أن الحق في هذه المسألة ما ذكره الإمام يحيى من تجويز ثبوت كفر التأويل وأدلة المانعين له غير مفيدة لمنعه، والأدلة التي ذكرها الجمهور إنما تدل على أنه جائز لا مانع منه لا على ثبوته ووقوعه فالتحقيق أنه ينظر في أدلة مثبتيه الحاكمين به على المشبهة والمجبرة ونحوهم، فإن جمعت شروط القطع ووجدت مفيدة للعلم اليقين أعتمد عليها ورجع في ذلك إليها، وإن لم يحصل بها ذلك ولا أفادت الناظر فيها حصول العلم لم يتوجه الإقدام على التكفير بها وجوز في ذلك الخطأ أنه كفر وأنه ليس بكفر ومع ذلك يعامل أهل تلك المقالة معاملة المسلمين، لأن أصل الإسلام مقطوع به فيهم وهذا ما لا ينبغي العدول عنه، والله ولي التوفيق.
دقيقة:
__________
(1) ـ في (ب): وصلى.
(2) ـ في (ب): أن.
لا مانع من أن يوصل أدلة إكفار التأويل بعض النظار فيها إلى العلم ولا يوصل البعض الآخر فليس من حق كل دليل أن ينتهي الناظر فيه إلى العلم لأن للنظر المقتضي إلى العلم شروطاً قد يختل أو بعضها في حق بعض الناظرين ولا شبهة في ذلك.
إذا عرفت هذا صح أن يكون فرض زيد المحكم بالكفر في حق تلك الطوائف من المبتدعين، وفرض عمرو عدم الحكم بذلك حيث اقتضى بزيد نظره في دليل ذلك إلى العلم ولم يقض بعمرو نظره إلى ذلك ثم لا مانع من أن يكونا مصيبين غير آثمين، أما زيد فلا كلام لأنه أقدم عن حقيقة، وأما عمرو فلأن فرضه عدم الإقدام مع عدم العلم ولا يقال بل يكون إثماً لأنه مكلف بالعلم بذلك لأنا نقول: لا نسلم أن العلم بكفر المتأولين مما كلفنا به ومن ادعى بذلك فعليه الدليل وقد ذكر بعض أصحابنا أنه يجب النظر في كفر كفار التأويل كالمجبرة على من كان بالقرب من ديارهم فقط بحيث يتعلق به شيء من أحكامهم، ويحتاج إلى معرفة ما يحل له من ذلك ويحرم كمناكحتهم ومواريثهم والإقامة في دارهم إذ لا يجوز له التقليد في الأحكام التي تنبني على التكفير وعدمه.
تنبيه آخر:
ذكر الإمام المهدي عليه السلام أن المانع لكفر التأويل من حقه ألا يوجب علينا النظر في معرفة الكافر وتمييزه لقوله: إنه لا كفر بعد الإقرار بالشهادتين وتصديق الرسول عليه السلام وإذا لم يكن الكفر عنده إلا ما علم من الدين ضرورة أنه تكذيب للنبي أو نقل الإجماع المتواتر على أنه كفر أو علم من دين النبي ضرورة أنه كفر فمثل هذا لا نفتقر إلى نظر واستدلال.
فائدة:
مما ذكر الإمام(1) المهدي عليه السلام أن القول بكفر التأويل يستلزم تجويز التكفير بالالزام وإن لم يلتزمه الخصم وإن من منع كفر التأويل لم يصح عنده الإكفار بالإلزام إلا حيث يلتزمه الخصم.
__________
(1) ـ سقط من (ب): الإمام.
قلت: والظاهر خلاف ذلك فإن المجوزين لكفر التأويل نص أكثرهم على أنه لا تكفير(1) بالإلزام إذا لم يلتزمه الخصم.
تنبيه آخر:
اعلم أن القائلين بثبوت كفر التأويل المكفرين لبعض طوائف ملة(2) الإسلام كما يقوله الجمهور وأصحابنا في المشبهة والمجبرة ونحوهم اختلفوا في ثبوت أحكام الكفر لهم فحكى الشيخ أبو القاسم عن المعتزلة جميعاً أنه يجب استتابتهم ولا يصلى عليهم ولا تحل ذبيحتهم ولا مناكحتهم ولا مواريثهم والمشهور عن أبي علي والقاضي وجعفر بن مبشر: أن حكمهم حكم المرتدين.
وقال به من أهل البيت عليهم السلام القاسم وأبو طالب والجرجاني والمنصور بالله وهو الذي حصله السيد أبو طالب لمذهب الهادي عليه السلام وأسباطه وإليه مال الجمهور من المعتزلة واختاره المهدي عليه السلام، وقال ثمامة بن الأشرس: وهو أحد قولي الشيخ أبي هاشم أن حكمهم حكم الذميين. ونسب إلى الناصر عليه السلام: أن حكمهم حكم الحربيين.
وقال الشيخ أبو القاسم البلخي وأبو الحسن الكرخي: بل تجري عليهم أحكام المسلمين في الدنيا. وإنما ثبتت لهم من أحكام الكفار استحقاق العقاب العظيم وقد أحتج المهدي عليه السلام بأنه إذا ثبت الكفر لزمت أحكامه قطعاً فيجب أن تجري عليهم كسائر الكفار وتكون ديارهم دار حرب ويعاملون معاملة الحربيين لا الذميين؛ لأن الأصل في الكفر عدم الذمة فإن نطقوا بالشهادتين قبل أن يظهر منهم شيء من الجبر والتشبيه حكم بإسلامهم ثم إذا أظهروا الجبر والتشبيه بعد ذلك فمرتدون تجري عليهم أحكام المرتدين فأما لو نطقوا بالشهادتين بعد إظهار الجبر والتشبيه لم يحكم بإسلامهم لأنهم يذهبون إلى الجمع بينهما.
قلت: ومذهب الشيخ أبي القاسم في كفار التأويل: وهو أنهم يعاملون معاملة المسلمين هو أقسط المذاهب فيهم(3) وأعدلها، والله أعلم.
فصول فيما كفَّر به أصحابنا أهل البدع.
__________
(1) ـ في (ب): أنه إلا لتكفير بالإلزام.
(2) ـ سقط من (ب): ملة.
(3) ـ سقط من (ب): فيهم.
هي سبعة فصول: الأول: في المشبهة. الثاني: فيما يكفِّر به أصحابنا المجبرة. الثالث: فيما ينفرد به بعض علمائهم من المقالات المنكرة. الرابع: في المرجئة. الخامس: في الخوارج. السادس: في الرافضة. السابع. في المقلدين على ما يأتي من التحقيق والتتفصيل.
فليس أصحابنا يحكمون بكفر كل من هذه الفرق مطلقاً بل فيهم من يحكمون بكفره وفيهم من يحكمون بعدم كفره وفيهم من يفصلون القول فيه، ووسط بين هذه الفصول فصلاً ثانياً في ذكر ما كفر به بعض المجبرة المعتزلة من الشبه ولم يتعرض المصنف لذكر المطرفية كما لم يتعرض له الإمام يحيى وقد بالغ كثير من أئمتنا وعلمائنا في تكفيرهم، حكى الفقيه حميد عن الإمام أحمد بن سليمان أنه جمع بينهم وبين فرق الكفر من غير فرق أهل القبلة.
وذكر الإمام المنصور بالله: إن الذي جحدوا من آي القرآن الصريحة التي لا تحتمل التأويل أربعمائة وسبع وثلاثون آية.
وقال في تعليق الشرح: ويلحق بكفر الكفرة الخارجين عن الإسلام كفر الباطنية والمطرفية وإن أظهروا الإقرار بالإسلام والشهادتين. ثم قال: أما المطرفية فلهم اعتقادات وأقوال قبيحة والمعلوم من ضرورة الدين خلافها كقولهم: إن الحوادث هذه المشاهدة كالحيوانات والنبات والأمطار وفروع العالم كلها ليست من فعل الله ولا بإختياره بل بفطرتها وطبعها وأنه تعالى ما خلق الحرشات المؤذية ولا يبتلي أحد من عباده وأنه عز وجل لو قدر عدمه لاستمر العالم على ما هو عليه من الحياة والموت والثبات والزيادة وسائر أوصافه وأنه تعالى غير رازق للعصاة ولا تفاضل بين عباده في الرزق.
قال: وكلما ذكروه من ذلك يعلم من ضرورة الدين خلافه فالشاك في كفرهم كالشاك في كفر الخارجين عن الإسلام؛ لأن أكثر أقوالهم أقبح وأشنع مما كفر به اليهود والنصارى.
قال: ويحتمل أن يكون من كفار الملة وهو الصحيح لإطلاقهم الشهادتين واعتقاد معناهما وإنما يكفرون بوجوه من وراء ذلك.
أولها: أنهم شدوا على أنفسهم العلم بالله تعالى لأن الطريق إلى إثباته الاستدلال بالحوادث التي هي الأجسام وما أشبهها وقد تقرر أنه لا يصح لهم الاستدلال بشيء من الأدلة على أن الأجسام محدثة، ولا على أن المحدث لا بد له من محدث؛ لأنهم(1) يجعلون المتعديات من فعل الله [تعالى وفيها ما هو قبيح فقد أضافوا إليه تعالى فعل القبيح وهو وصف بعض أوصافه وصف البعض إليه كفره](2) ولأنهم يثبتون لله تعالى أسماء قديمة [أربعين اسماً] (3) ويزعمون أن الاسم هو المسمى فقد أثبتوا معه تعالى قدماً ولردهم الآيات القرآنية المصرحة بخلاف ما ذهبوا إليه ولنسبتهم أكثر الحوادث إلى غير الله كالأولاد والثمار والنبات.
فصل: في المشبهة
اعلم أن التشبيه لغة: الحكم بتماثل أمرين غيرين فيما يرجع إلى ذاتيهما، كقولك: هذا الماء مثل هذا، أي هو مثله في جوهره وصفته أو في بعض الأوصاف العارضة لهما(4) كقولك: زيد مثل الأسد حكماً بتماثل صفة لهما عارضة وهي الشجاعة لا حكماً بالتماثل في الجوهرية والصفات الواجبة.
وأما معناه اصطلاحاً فهو: الحكم على الله بمماثلة الأجسام فيما هو من لوازم الجسمية كالتحيز والتأليف والكون في الجهة أو الإعراض في الحكم الملازم لها كالحلول في المتحيز(5)، وأما من اعتقد ما يقضي بتشبيه غير الله به كما تقوله المجبرة في إثبات المعاني القديمة وكما يقوله النظام في جعله الإنسان قادراً عالماً حياً لذاته فلا يسمى ـ في الاصطلاح ـ مشبهاً؛ لأن المشبه من أثبت لله تعالى صفة تختص المحدثات لا من عكس فإنما يحكم عليه بأنه كالتنويه وفي حكمهم وعلى هذا من وصف الله تعالى بأنه مشته أو متألم أو مسرور وأضداد هذه الصفات ونحو ذلك فهو مشبه.
__________
(1) ـ في (ب): ولأنهم.
(2) ـ ما بين المعكوفين سقط من (أ).
(3) ـ ما بين المعكوفين سقط من (ب).
(4) ـ في (ب): العارضة بهما.
(5) ـ في (ب): كالحول في التحيز.
قوله: (الذين اعتقدوا أن الله تعالى جسم طويل عريض عميق له أعضاء وجوارح وشكل وهيئة).
الأعضاء الأراب وأحدها عضو واحد الأراب أرب والجوارح هي الأعضاء التي تكسب بها كاليد، والشكل لغة المثل وهذا المعنى غير المقصود وإنما أراد به المتعارف في علم اللطيف وهي كيفية للجسم كالتدوير والتربيع مثلاً. والهيئة لغة: الشارة، والشارة هي: اللباس، وقد تستعمل في عرف المتكلمين مبعنى اللون ويفسرون اللون بها، وفي كلام المصنف ما يوهم أن المكفّرين(1) من المشبهة هم القائلون بتلك المقالة المخصوصة وليس كذلك فإنهم كل من اعتقد في الصانع(2) أنه جسم له لحم ودم أو صورة وله وجه كوجه الإنسان أو متحيز أو ذو أبعاض ومختص بجهة أو محل للحوادث أو يحل في الصور الحسنة أو أنه هواء أو أنه أجوف من فمه إلى صدره، ومصمت فيما عداه(3)، أو قال لا نهاية له من جهة الفوق أو زعم أنه يستر نفسه خمسة أستار أو أنه على صورة آدم وأنه ستون ذراعاً أو أن له وجهاً ويدين وعيناً أو أنه كالجزء الذي لا يتجزأ، أو قال أنه مستقر فوق العرش ولا يجلس عليه وأنه ينقل عليه حتى ثبط تحته من ثقله(4) أو اعتقد أن له رجلاً وساقاً.
قال الإمام يحيى: وأكثر هذه المقالات المستسخفة والجهالات المنكرة تحكى عن فرق الحشوية والروافض وطوائف من الملاحدة وأهل الزندقة وأفحشها محكي عن مقاتل بين سليمان وداود الحواربي وكل ذلك يدل على الوقاحة وعدم المبالاة فتعالى الله عن ذلك.
قال: وهذا هو صريح التشبيه وإن لم يكن هذا تشبيه فلا تشبيه هناك يعقل، والذي عليه أئمة الزيدية والجماهير من المعتزلة وأكثر الأشعرية إكفار هؤلاء المصرحين بهذه المقالة.
__________
(1) ـ في (ب): أن الكفر.
(2) ـ سقط من (ب): في الصانع.
(3) ـ في (ب): مصمت فيما مداه.
(4) ـ في (ب): حتى بسط لمحته من ثقله.
قلت: لأن كل من قال بهذه المقالة أو ببعضها مشبة لا محالة [ولا كلام أن المشبه لله بخلقة كافر بالضرورة من دين الأمة بل من دين الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم] والأمة(1) مجمعة على ذلك.
قال الإمام المهدي: حتى العنبر والجاحظ.
قلت: وإنما وقع خلاف في كفر هؤلاء؛ لأنهم لا يعترفون بالتشبيه ويتأولون ما قالوه بأنه غير تشبيه وإنما التشبيه أن يوصف الله تعالى بصفات النقص من الحدوث والعجز والحاجة.
قال المهدي عليه السلام: ولكنه يقال: إذا كنت تعترف لي باعتقاد كون الله مشبهاً لخلقه كفر وكذلك النطق به فكل تشبيه لله بخلقه يجب أن يكون كفراً إلا ما خصته دلالة تخرجه من هذا الإطلاق كوصفه تعالى بأنه موجود وقادر وعالم وغير ذلك من صفات الكمال الثابت(2) مجردها لغيره، والمخصص لذلك إجماع المسلمين على وجوب اعتقاد أنها ثابتة له تعالى بل علم ذلك من ضرورة الدين، ما عدا ذلك فهو كفر وإنكار الخصم لكونه كفراً لا يدفع عنه الكفر مع أنه لا بد له من الإعتراف بأنه تشبيه لله بخلقه وكونه تشبيهاً معلوم ضرورة.
قيل: ولم ينقل عن أحد من أهل البيت ولا من المعتزلة خلاف في كفر المشبهة.
قلت: وذلك لتفاحش مذاهبهم وكونها أدخل في الشناعة فلم يقع إكفارهم من الاختلاف ما وقع في إكفار المجبرة فذنبهم أقبح وجوابهم أوضح وأفصح.
قال الإمام يحيى: وإنما بدأنا بإكفار المشبهة؛ لأن كفرهم أغلظ لكونه متعلقاً بالذات وإكفار المجبرة متعلق بالأفعال ولأن كفر المشبهة المصرحين بالتشبيه إجماع بين الأمة وقد عكس الأسكافي فزعم أن الجبرية أعظم كفراً منهم لأن المجبر أضاف كل قبيح إلى الله ونابذ عن أرباب الكفر ودافع عن أهل الضلال وأهل مودة الشيطان وتراه يحتج على تراثهم ونفي الجرح عنهم.
قال: ولأنهم جاهلون بالله تعالى.
__________
(1) ـ في (ب): فالأمة. وما بين المعكوفين سقط من (ب).
(2) ـ في (ب): الثالث.
قال الفقيه حميد: والصحيح أن أحوالهم(1) متقاربة في باب الجهل.
قلت: بل الصحيح أنها متباعدة.
قال الإمام يحيى: ومعظم الخلاف في الإكفار إنما يجري في هاتين الفرقتين المشبهة والجبرة لما تعرض من أقوالهم المنكرة في ذات الله تعالى وصفاته وأما من عداهم من الفرق بإكفارهم يضعف كما سنحققه.
قوله: (فلا يقدح في ذلك خلاف العنبري والأشعرية).
الصحيح أنهم لا يخالفون في كفر المشبه على الإطلاق، وإنما خلافهم فيمن قال بذلك عن تأويل كما عاد المصنف إليه ولا تواتر عنهم خلاف في تشبيه المجسم(2).
فقوله: (وإنما خلاف هؤلاء في هل المجسم(3) مشبه).
غير مستقيم.
قال الإمام يحيى: خلافهم إنما يتناول الذي تأول ما ورد من الآيات والأخبار المشعر ظاهرها بالتشبيه فلهذا عذروه في الإكفار لا من قال بهذه المقالة الشنيعة من جهة نفسه من غير تأويل فلم ينقل عنهم أنه لا يكفر.
قوله: (ونحو ذلك من الصفات التي تنافي صفات الإلهية).
قال الإمام يحيى: لأن كل من اختص بصفة المكونات فهو بريء عن صفات الإلهية لا محالة وإلا لجاز في الواحد(4) منا أن يكون مختصاً بها ولا نقص أعظم من هذا النقص؛ لأنه نقص في الذات لا سيما له على بطلان صفات الإلهية وحصوله على نقائضها من الصفات الجسمية.
قوله: (جهلاً لا يتمكن معه من العلم بصفات الكمال).
وذلك لأنهم إذا اعتقدوه جسماً طويلاً عريضاً على شكل الإنسان وصورته لم يكن قديماً وإنما يكون كالأجسام الحادثة، ولا قادراً على جميع المكونات ولا محيطاً بجميع المعلومات وإلا لزم(5) في أحدنا أن يكون كذلك.
قوله: (كالخلاف في إثبات الأحوال).
__________
(1) ـ في (ب): أقوالهم.
(2) ـ في (ب): الجسم.
(3) ـ في (ب): الجسم.
(4) ـ في (ب): وإلا لجاد الواحد.
(5) ـ في (ب): والإلزام.
يعني: قول بعضهم في الوجود والقادرية ونحوها أنها صفات كأبي هاشم وأصحابه. وقول بعضهم: أنها أحكام، كأبي الحسين وأتباعه. ومنهم من لم يجعلها زائدة على نفس ذاته كالأخشيدية.
قوله: (كان قد وجه العبادة إلى غير الله).
وذلك لأنه(1) وجهها إلى من اعتقد أن له أعضاء وجوارح، ولا شك أن الله تعالى ليس كذلك.
قال الفقيه حميد: وجرى ذلك مجرى من يكون له أب عربي أبيض فعمد إلى رجل عجمي أسود فبرَّه وعظمه، فإنا نعلم أنه لا يكون باراً بأبيه.
قال: فتكون عبادة المجسم(2) قبيحة لأنها تجري مجرى عبادة الصنم والوثن، وقد ذكر ذلك علماؤنا وصرح بذلك السيد أبو طالب والسيد الجرجاني.
قال: بل صرح بأنها كفر.
قوله: (وإلا يكون غنيّاً(3) ونحو ذلك).
يعني: من انتفاء صفات الكمال التي لا يصح ثبوتها للأجسام ولزوم ثبوت صفات النقص [التي ثبتت للأجسام ولا يجوز على الله تعالى نحو أن يكون جاهلاً وعاجزاً.
تنبيه:
أهمل المصنف](4) بعضاً مما يحتج به الأصحاب على كفر أهل التجسم كاحتجاجهم بقوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم}. قالوا: ولا شك أن كل من قال في جسم أنه الله فقد قال في غير الله أنه الله وهؤلاء قد صرحوا بأن الله تعالى جسم ذو أعضاء وجوارح وكف وبنان(5) وفم ولسان كما صرح النصارى بأن الله هو المسيح فيجب إكفارهم كالنصارى، وكاحتجاجهم بأن الله استعظم مقالة من أثبت الولادة له بقوله: {تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّاً}. فإذا كان كذلك ولم يثبتوا له من صفات الأجسام إلا الولادة فكيف حال من أثبت لله تعالى جميع الصفات الجسمية من اليد والرجل والظهر والبطن فذلك لا محالة يكون أطم.
قلت: وإنما أهمل المصنف نحو هذا الاحتجاج لأن مرجعه إلى القياس الذي لا يؤخذ به هاهنا.
__________
(1) ـ في (ب): أنه.
(2) ـ في (ب): الجسم.
(3) ـ في (ب): ولا يكون عبثاً.
(4) ـ سقط ما بين المعكوفين من (ب).
(5) ـ في (ب): ويدان.
قوله: (على بعد ذلك إن إراد استبعاد وضع اسم الحلول والمحل على غير ما هو المعقول).
فصحيح أن ذلك بعيد وأن تسمية الله تعالى محلاً غير سديد وإن أراد استبعاد أن يكون هذا مذهب الكرامية وترجيح أنهم يقولون بحقيقة الجسمية، فالأقوى خلاف ذلك، والأظهر عنهم عدم اعتقاد التحيز، وعلى هذا المنهج الذي ذكره يجري الكلام فيمن اعتقد أنه تعالى مختص بالجهة لا على جهة الشغل لها أو أنه كائن فوق العرش بكون إلهي أو أنه حاصل بكل مكان لا على جهة الحلول والإستقرار.
قال الإمام يحيى: إلى غير ذلك من المذاهب التي لا تدل على حقيقة التشبيه.
قوله: (والذي ذكره أصحابنا في كفر من هذا حاله وجهان، الأقرب أن أصحابنا لا يقولون بكفره، وإنما قال الإمام يحيى لو كفرنا من هذه حاله لأجل اعتقاده ما ذكر فليس كفره يكون إلا بأحد وجهين.
قوله: (أنه يلزمه القول بالتشبيه).
تقريره أن يقال: إذا أثبت الله محلاً للحوادث وحاصلاً في الجهة لزمك أن يكون جسماً لأن ذلك لا يعقل إلا في الأجسام.
قوله: (إن الكفر لا يثبت بالإلزام).
قال الإمام يحيى: ما من مذهب إلا ويلزم صاحبة عليه الكفر لكنه لا يكفر لأنه لم يلتزمه ولهذا لم يكن معدوداً في أدلة الإكفار بحال.
قوله: (وتأولوها على صفات قديمة كما تقوله قدماء الأشعرية).
قال الإمام يحيى: ويسمونها الصفات الخبرية أرادوا أن طريق إثباتها الإخبار من جهة الله تعالى.
قوله: (فالقطع بكفرهم وكونهم مشبهة أبعد).
أراد: أنه أبعد من القول بكفر من جعله تعالى محلاً للحوادث وفسر الحلول بما لا يقتضي الجسمية والوجه في كونه أبعد غير واضح.
قال الإمام يحيى: من أطلق لفظاً على الله تعالى يوهم ظاهره التشبيه ولم يعتقد مضمونه أو أراد به معنى آخر لا يدل على التشبيه فإنه لا يعد من المشبهة ولا يكون داخلاً في غمارهم ولا يجوز إكفاره لأن المشبه ليس إلا من أثبت لله حقيقة التشبيه واعتقد معناه لا من أجرى لفظه على غير المعنى اللغوي وإنما أخطأ في إطلاق اللفظ على غير معناه فهو خطأ لفظي لا غير فكيف يقال بكفره.
فصل:
فيما يكفر به أصحابنا المجبرة في مسائل الخلاف.
اعلم أن لفظ المجبرة اسم لهذه الفرقة التي يجمعها القول بأن الوجود في الأفعال مستحيل تعليقه بقدرة العبد وأنه مضاف إلى قدرة الله تعالى وأن الذي يضاف إلى قدرة العبد إما الكسب وإما غيره على اختلاف فيه بينهم، والمراد بقولنا: رجل مجبر، أنه صار ذا قول بالجبر، كقولك: مريب إذا صار ذا ريبة، وكذلك إذا قلت: أجبر الرجل. وأما قولنا: جبري فمنسوب إلى الجبر كثمري فليني(1).
قال الإمام يحيى: وفائدة وصفنا لهم بهذين الوصفين إما على معنى أن الله تعالى خلق فينا جميع الأفعال كلها، وإما على معنى أنه خلق القدرة وهي موجبة للفعل فمن قال بأحد هذين القولين صدق عليه هذان الوصفان مجبر وجبري، ثم قال: الصحيح أن إطلاق هذين الوصفين إنما يكون باعتبار أمر جامع لهم في الجبر؛ لأنهم قد أجمعوا عن آخرهم واتفقت كلمتهم على أن الوجود في الأفعال يستحيل تعليقه بقدرة العبد وأنه مضاف إلى قدرة الله تعالى.
قوله: (وذلك متعذر في الغالب).
لا يبعد إطلاق تعذره إلا إذا فرض أن الشارع نص على العلة وعلم قطعاً حصولها في الفرع فيصير القياس حينئذ ملتحقاً بالنص.
قوله: (لأن المرجع بالكفر..) إلى آخره.
يعني وذلك يقضي بتعذر استنباط عليه.
قوله: (على أصل شيخنا أبي الحسين والسيد المؤيد بالله وسائر من لا يكفر المجبرة).
__________
(1) ـ في (ب): إلى الجبر كرجل ثمري وليني.
قال الإمام يحيى: الذي ذهب إليه أكثر علماء العترة ومن تابعهم من الزيدية هو إكفار المجبرة، واتفق عليه رأي الجماهير من المعتزلة، وحكي عن السيد المؤيد بالله وأبي الحسين أنهما ذهبا إلى أن الجبر ليس كفراً وأن المجبرة ليسوا كفاراً، ثم مال إلى ترجيح هذا؛ لأنه قال: ونحن نذكر ما عول عليه المعترفون بإكفارهم، ثم نذكر ما عول عليه المنكرون لإكفارهم إلى أن قال: لأن إيراد الاحتمالات والشكوك على ما أوردوه في القطع بإكفارهم يكفي في فسادها وبطلانها لأنه إذا بطل الدليل بإيراد الاحتمال فيه بطل ما قطعوا به من تلك الدلالة.
واعلم أن ممن نص على كفرهم من أهل البيت عليهم السلام: القاسم والهادي والناصر وأحمد بن سليمان والمنصور بالله وعزي إلى زيد عليه السلام وروي إجماع أهل البيت على ذلك، رواه السيد أبو عبدالله الجرجاني والأمير الحسين بن محمد وأجروا عليهم إذا تحزَّبوا أحكام الكفرة من القتل والسبي وغير ذلك.
ونص على ذلك من المعتزلة: أبو علي وأبو هاشم وقاضي القضاة، بل قال أبو علي: الشاك في كفرهم كافر، والشاك في كفر الشاك كافر.
وقال الفقيه حميد: ذهب الطبق الأدهم من العلماء إلى تكفير الجبرية.
قلت: وممن قال بتكفيرهم عدلية الإمامية، والقول بعدم تكفيرهم مذهب جماعة من المعتزلة وهم المتقدمون منهم، ومن متأخيريهم محمد بن شبيب وأبو الحسين وأبو الفضل بن شروين وهو مذهب السيد المؤيد بالله والإمام يحيى بن حمزة، روى بعض السادة عن المؤيد أنه قال: طريقة التكفير والتفسيق السمع، إما نص في آية(1) لا يختلف في تأويلها أو خبر مجمع على صحته لا يختلف في تفسيره أو إجماع أمة أو إجماع أهل البيت عليهم السلام وليس يوجد شيء من ذلك في تكفير المجبرة(2).
قال الفقيه حميد: صرح المؤيد بالله بأن الجبر إثم عظيم وحوب كبير ورأيت له في كتاب الهوسميان الكبيران رأيه الأول كان تكفيرهم.
__________
(1) ـ في (ب): أنه.
(2) ـ في (ب): في تكفيره الجبرية.
وقال الإمام يحيى: المحكي عن المؤيد بالله في كتبه وعلى ألسنه أصحابه الناقلين لمذهبه وعن الشيخ أبي الحسين ليس الوقف وإنما المحكي هو القطع بعدم الإكفار مراعاة للأصل ولهذا قيل للإمام المؤيد بالله: إذا لم يكونوا كفاراً عندك فهم مؤمنون فقال(1): إذا جوزنا كفراً لا دليل عليه وقفنا في حالهم، وإن لم نجز كفراً لا دليل عليه فهم مؤمنون.
قال الإمام يحيى: وليس الغرض أنه شاك في كفرهم فإن مذهبه خلاف ذلك وهو القطع بعدم الإكفار لعدم الدلالة عليه وإنما أراد أن الجبر معصية يجوز أن يعلم الله تعالى أن عقابها عقاب الكفار، ويجوز أن تكون صغيرة فإذا لم يعلم الحال في ذلك لا جرم توقفنا فيه وذكر في تعليق الشرح أنه حكي عن الإمام يحيى في المجبرة ما يقرب من قول العنبري(2): أنهم مؤمنون. وفيه نظر لأن العنبري قاعدته القول بتصويبهم والإمام يحيى مصرح بغير ذلك، ومن كلامه ما لفظه: أما أن خطأهم في الجبر يجوز أن يكون عقابه عقاب الكفار فهذا لا مانع منه وإنما المحذور أنا نقطع بكفرهم ونعاملهم معاملة الكفار من غير دلالة فهذا باطل قطعاً ويقيناً. وقد كان الرأي الأول للمنصور بالله عليه السلام عدم تكفيرهم وصرح بذلك في حديقة الحكمة ثم رجع إلى القول به والمبالغة فيه.
قوله: (إجماع الأمة في الصدر الأول).
المراد به: الصحابة رضي الله عنهم، وهذا الإجماع مروي عنهم وعن التابعين، وأنه إجماع مستمر حتى نشأ الخلاف وتفرقت الآراء وتبع الأشعري والنجار وابن كلاب فقيل بهذه المقالة.
قوله: (غير مقطوع به).
لأنه لا يعلم أن القصد إكفار من أثبت قدماً قائمة بذات الله تعالى غير مستقلة ولا مستحقة للإلهية فمع عدم العلم بقصد الأمة فيما أجمعوا عليه وبطرق الاحتمال لا يكون الإجماع قطعياً بالاتفاق.
قوله: (واعترض بأنه جهل بالله على التفصيل..) إلى آخره.
__________
(1) ـ في (ب): وقال.
(2) ـ في (ب): النعبري.
الأحسن في تجويز هذا الإعتراض وتقريره أن يقال: إنما ثبت كون الجهل بصفات الله كفراً مع إنكارها ونفيها وأما مع القول بإثباتها والإعتراف بها فلا نسلم كونه كفراً فإنه لا دليل على أن إثبات الصفات الإلهية لله تعالى مع الجهل بشيء من أحوالها يكون كفراً إذاً للزم إكفار كثير من شيوخ المعتزلة كما قال المصنف: (ما من أحد من الشيوخ إلا وقد قال في الله تعالى بمقالة هي جهل). يعني: في صفاته لما وقع من شدة الإختلاف بينهم والحق مع واحد. هؤلاء الإخشيدية نفوا الأحوال والصفات، وأبو علي الجبائي: أثبت الصفات الأربع ونفى الأخص، وأبو هاشم: أثبت الصفات الخمس، وأبو الحسين البصري: نفى الأحوال والصفات وأثبت الأحكام والإضافات، وأبو القاسم: نفى المزيدية والقادرية والمدركية وغيره أثبتها، والخوارزمي: أثبت المزيدية والمدركية ونفى سائرها. إلى غير ذلك من الخلاف فإن لزم إكفار المجبرة بشيء من الجهل المتعلق بصفات الله تعالى لزم إكفار المعتزلة، هكذا قرره الإمام يحيى.
قوله: (ويمكن الجواب هنا بأن جهل المجبرة..) إلى آخره.
يقال ليس بأدخل(1) في عدم إمكان العلم معه بصفات الله [من جهل من لم يجعل لله تعالى](2) حالاً ولا صفة زائدة ولا حكماً.
قوله: (يوضحه أن أكثرهم يقول ذات وصفتين قياس قاعدة العربية ذات وصفتان أو ذاتا وصفتين).
وهذه إشارة إلى من يقول من النصارى أن أفيوم الأب الذات وأفيوم الابن العلم وقيل الكلمة، وأفيوم روح القدس الحياة.
قوله: (ولهذا قيل لبعضهم هو ابن كلاب(3)).
ذكره الإمام يحيى. وظاهر كلام المصنف أنه الأشعري.
قوله: (سبع صفات).
هو جار على اصطلاحهم؛ لأنهم يسمون المعاني صفات والمعاني القديمة عندهم سبعة: القدرة، والعلم، والحياة، والإدراك، والإرادة، والكراهة، والكلام. ومنهم من يعد من المعاني غير هذه.
__________
(1) ـ في (ب): بداخل.
(2) ـ في (ب): بصفات الله تعالى. وما بين المعكوفين سقط من (ب).
(3) ـ في (ب): ابن كلام.
[قوله: (أعظم من عتقاد مشارك له في العبادة).
يعني: مع أعتقاد حدوث ذلك المعبود وكونه جماداً](1).
قوله: (واستحقاق العبادة وإن كان الأمر يرجع إلى الفعل وهو خلق أصول النعم).
هذا المعنى أتى به المصنف بناء منه على أنه لا يعبد إلا من يعتقد استحقاقه العبادة لأجل خلق أصول النعم، وهذه الزيادة غير محتاج إليها ولا ذكرها غيره فإن المعلوم من حال عباد الأصنام أنهم لا يعتقدون أن الأصنام هي المنعمة بأصول النعم فالأحسن في تحرير الأعراض(2) ما ذكره الإمام يحيى، وهو(3) أن يقال: إن اعتمادكم في هذه الدلالة على القياس، ولقائل أن يقول: إن من عبد غير الله تعالى إنما كفر؛ لأنه إعتقد في معبوده أنه إله يستحق العبادة، ومن أثبت قديماً غير الله كهؤلاء الخصوم لا يقولون بأنه يعبد من دون الله ولا يستحق العبادة فأين أحدهما من الآخر، ويجوز أن يكون معتقداً استحقاق العبادة أعظم عقاباً ممن يعتقد القدم لا غير.
قوله: (لا على من شبَّه غير الله به).
قد تقدم تقرير هذا المعنى.
قوله: (بل كلما يصدر عن الله تعالى مما يكون معلقاً للإرادة والقدرة فهو حسن عندهم).
يعنون بذلك: الوجود لأنه عندهم معلق بقدرة الله وإرادته ولا تعلق بقدرة العبد وإرادته والوجود حسن ولا قبيح فيه، وإنما الذي يقبح ما كان متعلقاً بقدرة العبد وإرادته من الكسب وغيره من الوجوه التي تمخلوها.
قوله: (لما وحد الباري تعالى).
لعله أراد: لزوم ذلك على قول من يقول إنه تعالى موجود لمعنى، وهو مذهب شذوذ منهم.
وأما قوله: (أو لكان ناقصاً وظاهر من مذهبهم).
لأنه تعالى لا يحصل على أوصاف الكمال إلا بها.
قوله: (وليس الحاجة بأكبر..) إلخ.
يعني: وسواء أطلقوا لفظ الحاجة عليه تعالى أو امتنعوا(4) من إطلاق الوصف لأنهم قد اعتقدوا معنى ذلك.
قوله: (تقوله المجبرة في المعاني).
__________
(1) ـ سقط ما بين المعكوفين من (ب).
(2) ـ في (ب): الاعتراض.
(3) ـ في (ب): وهذا.
(4) ـ في (ب): وامتنعوا.
تحقيق مقالتهم أنهم فريقان:ـ
فريق: وصفوا الله تعالى بالمعاني والأحوال وقالوا بالعلة والمعلول وهو مذهب الباقلاني والكرامية وأما الرازي فأثبت المعاني ولم يثبت الصفات.
والفريق الثاني: جعلوا العلم نفس العالمية، والقدرة نفس القادرية(1)، وهو المحكي عن متأخريهم كالغزالي وشيخه الجويني، فهؤلاء لا يستلزم مذهبهم الحاجة؛ لأنهم لا يقولون بالمعاني، وقولهم كقول مثبت الأحوال من المعتزلة من غير فرق.
وأما الفريق الأول بالحاجة(2) وإن لزمتهم لإتيانهم المعاني وهي مغايرة لذات الله ولولا هي لما كان حاصلاً على صفة الكمال فهم ينفصلون عن ذلك ويعتذرون بأنها عندهم مضافة إلى ذاته تعالى غير مستقلة بنفسها فهي على هذا كالقادرية والعالمية عند المعتزلة.
قوله: (وهذا يتم من دون قياس على الشاهد).
قال الإمام يحيى: وهذه هي طريقة النظار التي عول عليها أكثر(3) علماء الدين في معرفة الصانع وصفاته، ومن العجب أنهم لم يكتفوا بالاعتماد على طريقة الجواز بل ابطلوا للاعتماد(4) على طريقة القياس وأظهروا بالأدلة القاطعة بطلان الاعتماد عليها وأنها غير موصلة إلى العلم.
قال عليه السلام: وهب أنا سلمنا صحة ما ذكرتموه فغاية الأمر أنكم ألزمتموهم(5) إياه لكنهم لم يلتزموه بل عندهم أنهم عالمون بالله وبصفاته على أبلغ وجه، فمن أين يلزم أن يكون حالهم كحال من لا يعلم الله؟.
قوله: (واعترض بأن الأدلة العقلية..) إلخ.
هو كلام حسنٌ جيدٌ والاعتراض لا يشمل نحو دلالة العجز على النبوة كما ذكره المصنف، ويشمله(6) أن يقال: هب أن جميع ما ذكر لازم لهم على قوة(7) مقالتهم في الجبر لكنهم لم يلتزموه والإكفار إنما يتحقق في الالتزام لا في الإلزام.
__________
(1) ـ في (ب): جعلوا العلم نفس العالمة، والقدرة نفس القادرة.
(2) ـ سقط من (ب): بالحاجة.
(3) ـ سقط من (ب): أكثر.
(4) ـ في (ب): الاعتماد.
(5) ـ في (ب): ألزمتموه.
(6) ـ في (ب): ويشمل.
(7) ـ في (أ): قود.
قوله: (وهم لم يقولوا ذلك).
أي: لم يصدر من جهة المجبرة صريح التكذيب وإن جوزت طائفة منهم الكذب على الله تعالى، ومن هذه حاله فليس مكذباً، وكيف يكون مكذباً من يخبر عن نفسه بأن مصدق بجميع أخبار الله وأخبار رسوله.
قوله: (إنما وصف المشركين بأنهم كذبوا..) إلخ.
هذا الوجه ينبني على قراءة التخفيف، وأول الكلام مسوق على قراءة التضعيف وهو الأرجح؛ لأن الكفر إنما يثبت بالتكذيب لا بالكذب.
قوله: (لجواز أن يظهر المعجزة(1) عند دعوى الكاذب).
يعني: فيحصل بذلك اننسداد باب العلم بالنبوة لأنا مع هذا التجويز لا نفرق بين النبي والمتنبي والرسول والساحر ويجوز أن ما أتى به هذا الذي ظهرت المعجزة عليه باطل وأنه داع إلى الكفر والضلال والإكفار بما هذا حاله معلوم بإجماع الأمة لما يتضمن من إبطال الدين وفساده.
قوله: (بل يعملون في دفعه كل حيلة).
قال الإمام يحيى: لما ألزموا إياه قاموا وقعدوا وصوبوا وصعدوا لما رأوا من فحش الإلزام وصعوبته ولما إعتاص عليهم رام النظار منهم وأهل الفطانة التخلص عنه بمخالص هي في الحقيقة غير نافعة ولا مجدية ولكنها نافعة لهم في عدم إكفارهم لدلالتها على عدم الالتزام سواء كانت صحيحة أو فاسدة.
قوله: (فقال الجويني: العلم يكون المعجز دلالة على التصديق علم ضروري).
قال الجويني: لأن العقلاء لا يشكون فيه متى حصل لهم علم بالمعجزة وإنما كذب من كذب من الأمم السالفة لعدم العلم بالمعجزة واعتقاداتها من قبيل الخبل والمخارق والطلسمات ولو علم صحتها لم يشك في دلالتها على الصدق.
قوله: (لا يقدح في ذلك).
قال: لأن أحدهما بمعزل عن الآخر وغير مترتب عليه فلا يكون مفسداً له.
قوله: (فأما كونه تصديقاً).
يعني: من الله تعالى للمدعي.
قوله: (ولا يقدح في ذلك تجويز إظهار المعجز على الكاذب).
__________
(1) ـ في (ب): المعجز.
قال الغزالي: لأن ما ذكرناه من تصرف العقل وحكمه مما ذكر يؤدي إلى العلم بتصديق الرسول من غير التفات إلى النظر في الحكمة فلا يلزم من تطرق التجويز فيما ذكرناه بطلان تصديق الرسول ومعرفته.
قال الإمام يحيى: وهذا منتهى تقرير أبي حامد وفيه مغالطة ظاهره، وإنحراف عن المقصد ونعمته لطريق الحق كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.
قوله: (وهذه مرواوغة).
هي من زاغ إذا مال ومعنى المفاعلة هنا غير مقصود فإن المراد أنه الذي زاغ وحده لا أنه قوبل بمثل ذلك وكذلك المراد في قوله ومغالطة، وإنما المقصود بمثل هذا الاستعمال في العرف المبالغة في ذلك المعنى.
قال الجوهري(1): وفلان يراوغ في الأمر مراوغة. أراد أن معنى المفاعلة غير مقصود فيه.
قوله: (وهذه هي المهازلة والتلاعب بالدين).
الكلام في المهازلة كما سبق في المراوغة وهي من الهزل نقيض الجد، والتلاعب مصدر تلاعب فلان وفلان بكذا من اللعب، وكان التلعب أوفق لأن التلاعب لا يكون إلا بين اثنين.
قوله: (واعترض بأن مذهب المجبرة أن الشيء يحسن..) إلى آخره.
هذا الاتراض جيد وهو أولى مما سلكه(2) الإمام يحيى عليه السلام من أن صحة الشرائع موقوفة على القضايا العقلية والأمور الضرورية وتجويز أن يفعل الله القبيح لا يمنعنا من القطع بذلك(3) والجزم به لأن هذا إنما يصح إذا كان المراد بالشرائع ما يحكم العقل بوجوبه ووجوب تركه وليس كذلك فإن الأظهر أن المراد بالشرائع ما جاءت به الأنبياء مما طريقه السمع ومما يعترض به ذلك المسلك أنه وإن لزمهم فساد الشرائع فهم لا يلتزمونه ويحتالون في دفعه بكل حيلة والكفر لا يتوجه بالإلزام وإنما يتوجه الإلتزام.
فصل:
فأما(4) ما ينفرد به بعض علماء المجبرة من المقالات المنكرة فلزوم الكفر فيها أظهر.
__________
(1) ـ في (ب): قوله قال الجوهري.
(2) ـ في (ب): يسلكه.
(3) ـ في (ب): لذلك.
(4) ـ في (ب): وأما.
قوله: (كمقالة الأشعري: أنه لا نعمة لله على الكافر لا في الدين ولا في الدنيا).
قال: أما الدين فلأن الله تعالى إنما خلقه للعقوبة الأبدية والتعذيبات السرمدية في الآخرة وهو الذي عقد بناصيته الكفر بحيث لا محيص له عنه وخلقه فيه وإرادة منه ثم عذبه عليه، وأما نعمة الدنيا من الحياة والسمع والبصر والشهوة واللذة وجميع أنواع الانتفاع فليست في الحقيقة بنعمة لتأديتها إلى الضرر الدائم والعقاب الذي لا ينقطع أبداً.
قال الإمام يحيى: وهذه مقالة شنيعة ومذهب منكر لا يقول به من وقرَ الإسلام في صدره وهو كفر صريح فنعوذ بالله من الجهل المؤدي إلى الخذلان وكيف يمكن إنكار نعمة الله على الخلق ولا يمكن حصرها وعدها {وإن تعدوا نعمة الله لا تعحصوها}، فإذاً لا عذر له في هذه المقالة إلا الرد والتكذيب بما هو معلوم الضرورة من الدين ولا تعريج على التأويلات الباردة التي لا برهان ينطق بها ولا يدل عليها ولو شاغ في هذا تأويل لشاغ للباطنية وغيرهم من الفرق الخارجة عن الإسلام تأويلاتهم.
قوله: (وكما يحكى عن النجار..) إلخ.
يعني فإنه قال بمثل قول الأشعري في الفحش فهي كفر وردة لأن المعلوم ضرورة من دين صاحب الشرع أن الله تعالى أنعم على جميع المكلفين بالهداية إلى الدين ويخلق الألطاف والمصالح المقربة من الإيمان وأن المنافع الدينية في الوصول إلينا كالنعم الدنيوية بل نعم الدين أدخل في النفع؛ لأن النفع بها دائم غير منقطع، بخلاف الدنيا فإن نفعها منقطع.
قلت: خالف الإمام يحيى عليه السلام قاعدته التي يبني عليها وبالغ هنا في التشديد وينبغي أن يتأمل ما ذكره عليه السلام فللناظر فيه نظره.
ثم قال: وليس العجب من النجار وطبقته لقصور باعه وانتقاص شبره وذراعه ونكوصه عن بلوغ شاء والتحقيق وإنما العجب من ابن الخطيب الرازي حيث صوبه على هذه المقالة وتابعه على ركوب غارب هذه الجهالة من غير مخافة لله تعالى ولا مراقبة للدين ولا محاشاة لأهل الإسلام ويدعي مع ذلك حذقاً وفطانة وتبحر في العلوم وكياسة وقد ذكر هذه المقالة في تفسيره ونزل كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه على منهاج الجبر وقرره على قواعد وحاشى لله وكلا أن يشير كلام الله إليه أو يدل بظاهره ومفهومه عليه ولو تعب نبي مرسل على تصديق الجبر لكان ذلك عندي قدحاً في معجزته، ولله در الإمام يحيى لقد سل سيف الإنتصار للعدل وأهله وأني في ذلك بما يشهد بغزارة علمه ووفرة فضله.
قوله: (وكما يحكى عن العطوي..) إلخ.
قال الإمام يحيى: وقد كفره أهل العدل والجبر بهذه المقالة لأنها مؤدية إلى ألا توثق بشيء من أخبار الله تعالى ولا تقطع بصدقه ويقتضي الشك في جميع أخبار القرآن وأن القصص التي فيه خرافات، وكفر من هذه حالة معلوم بالضرورة من الدين، ولم يتجاسر أحد على تجويز الكذب على الله إلا العطوي لا غير، وما ذاك إلا لأجل الوقاحة وقلة المبالاة بدين الله تعالى فأما إخوانه المجبرة فما جسروا على ذلك بل اعتذروا عن إلزامهم الكذب فإن من لا يجوز عليه الجهل لا يجوز عليه الكذب إلى غير ذلك من المعاذير التي لا تجدي وأما هو فتحامق وركب في الكفر رأسه وطول في تقرير الهذيان أنفاسه.
فصل: في ذكر خيالات ادعى بعض المجبرة لأجلها كفر المعتزلة
قوله: (وإن هذا هو الأقرب في الغالب).
ليس هذا عطفاً على قوله: إنهم لا يكفرون أحداً من أهل الصلاة، ولا داخلاً فيما حكاه عن جمهورهم، وإنما هو استئناف كلام صادر عن المصنف فالموافق لذلك كسران ومعناه أن عدم تكفير أهل الصلاة هو الأقرب أي أقرب من تكفير من كفر منهم.
وقوله: (في الغالب).
يخبر به عن تكفير من قال بمقالة شنيعة كما ذكر آنفاً في حق العطوي والأشعري.
قوله: (وهذا تصريح بأنه لا وجه لتكفيره إياهم إلا أنهم أكفروه).
وقد صرح بذلك الرازي في النهاية عن أبي إسحاق قال ما لفظه: وكان الأستاذ أبو إسحاق يقول: أكفر من كفرني وكل مخالف يكفرنا فنحن نكفره.
قلت: ولعل مستنده في ذلك ما ورد في الحديث وهو(1) ما لفظه: ((إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه)). أخرجه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من رواية ابن عمر. وكذلك ورد عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((من دعا رجلاً بالكفر وقال عدو الله وليس كذلك إلا جاز(2) عليه)). أي: رجع. رواه البخاري ومسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه. وعن أبي سعيد عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: ((ما أكفر رجل رجلاً إلا باء أحدهما بها وإن كان كافراً وإلا كفر بتكفيره)). رواه ابن حبان في صحيحة، فيقول الأستاذ إذا كفرهم المعتزلة مع أنهم مسلمون فقد كفروا لأجل ذلك أخذاً بهذه الأحاديث ونحوها ولا وجه لما(3) قاله وتلك أخبار آحادية وقد تمسك بها بعضهم في تكفير الروافض والخوارج لتكفيرهم من كفروه من الصحابة فاعترضه(4) الرازي بأن تكفير المسلم هل يقال بأنه يقتضي الكفر مطلقاً أم إذا كان المكفر معترفاً بأن المكفّر(5) مسلم الأول غير مسلم ولم يكون من اعتقد في بعض الاعتقادات الصحيحة كونه كفراً لأجل شبهة ثم كفَّر ذلك القائل فأنه يكون كفراً والثاني مسلم، ولكن الروافض والخوارج ما كفروا سادات الإسلام إلا لاعتقادهم صدور الكفر عنهم وإن كانوا قد أخطأوا فضلوا(6) في ذلك الاعتقاد وتأول الحديث على ما إذا قال: يا كافر مع إعترافه بكونه مسلماً.
قوله: (كما يقوله كثير من محققيهم).
__________
(1) ـ سقط من (ب): وهو.
(2) ـ في (ب): أجاز.
(3) ـ في (ب): لذ.
(4) ـ في (ب): اعترضه.
(5) ـ في (ب): الكفر.
(6) ـ في (ب): وضلوا.
إشارة إلى الغزالي والجويني ومن قال بقولهما.
قوله: (على أصل من تخيل مقدوراً بين قادرين).
يعني: وأما من يقول بصحته كأبي الحسين وأتباعه فلا نرد عليهم.
قوله: (بل لأجل أنهم أثبتوا قديماً مع الله).
يعني: كما أثبتموه أنتم وكذلك كفروا لقولهم بتناهي مقدورات الله وعجزه عن مدافعة الشيطان واحتياجه في دفعه إلى الإستعانة بالملائكة ونحو ذلك من جهالاتهم وحماقتهم(1).
قوله: (وهو من جنس الخراريف الأشهر في الاستعمال الخرفات).
قال الجوهري: وهي موضوعة من حديث الليل.
قلت: وأصله حديث خرافة.
قال الجوهري: وهو رجل من عذرة إستهوته الجن فكان يحدث بما رأى فكذبوه وقالوا حديث خرافة والراقية محققة. وإنما قال المصنف خراريف توهما منه أن الرامنقلة.
قال الإمام يحيى عليه السلام بعد ذكر هذه الشبهة إن مثل هذه الخرافات لا يصغى إليها ولا تسطر في الكتب النفيسة وهي بكتب التواريخ وأحاديث القصاص أليق.
قوله: (ويشكرون الله على الإيمان إلى قوله: ونحو ذلك).
يعني به: من كونه زينة في قلوبهم وأمهلهم ورغبهم فيه وبعث لهم الدواعي إليه.
قال الإمام يحيى: فأين(2) هذا عمن يقول: إن الله تعالى قد فعل فيه المعصية وخلق فيه عبادة الأوثان والأصنام وعقد الكفر بناصيته وأعمى قلبه وختم عليه وجعل على بصرة غشاوة وختم عليه الشقاوة(3) وسد عليه طرق السعادة.
قوله: (فمن أين أن(4) مخالفة الإجماع كفر).
قال الإمام يحيى: وليس كفراً باتفاق العلماء، وما هذا إلا جهل بحال الأدلة وحكمها، فمن لا يهتدي لتقرير أدلة الإكفار كيف يخوض خوض العلماء ويرتقي إلى مراتب النظار.
قوله: (وهذا موافقة لأهل الهبولي).
يعني: القائلين من الفلاسفة بالهبولي والصورة.
__________
(1) ـ في (ب): حماقاتهم.
(2) ـ في (ب): وأين.
(3) ـ في (ب): القساوة.
(4) ـ سقط من (ب): أن.
قال في النهاية: لا سيما الذين كانوا قبل أبي هاشم فإنهم كانوا ينفون الأحوال فلا بد لهم من القول بأن ذات الشيء ووجوده واحد فإذا لم يكن الذات حاصلة بالفاعل مع أن وجودها غير ذاتها كان ذلك قولاً بأن وجودها ليس بالفاعل، قالوا: وما هذا حاله فإنه(1) كفر لأنه يؤدي إلى قدم العالم وإبطال أن يكون له صانع.
واعلم أن هذه الشبهة لا تتوجه إلى أبي الحسين وأصحابه المنكرين لكون المعدوم شيئاً.
قوله: (معنى كون المعدوم شيئاً..) إلى آخره.
فيه نظر فإن القائلين بذلك يجعلون الذات وبعض صفاتها ثابتة في حال العدم بتميزه.
قوله: (ولا يجعلون للقادر فيها تأثيراً).
يعني: ومبينوا المعدوم شيئاً يجعلون للقادر فيها تأثيراً بأن يكسبها صفة الوجود ويخرجها إليه من العدم.
قوله: (ويمنعون من كون العالم وجد بعد أن لم يكن).
قال الإمام يحيى: وكفر أهل الهبولي حاصلٌ لقولهم بقدم العالم وإضافة هذه الآثار كلها إلى الأمور السماوية وتأثيرات النقوس الفلكية وكون ذاته تعالى موجبة ولنفي الاختيار عنها فأين هذه المقالة عن(2) مقالة أهل الإسلام المثبتين للصانع الحكيم المقرين بحدوث العالم.
قال الإمام يحيى: ولأن المُحدَث ما سبقه العدم السابق عليه سبقاً لا أول له وحصل بعد أن لم يكن وكل هذا موجود في ذات العالم سواء كان للذوات العدمية ثبوت أم لا وقد أقرته جميع الفرق الإسلامية من المعتزلة وغيرهم، فأما الفلاسفة فهم غير معترفين بشيء مما ذكرناه.
قوله: (هذا الخبر آحادي).
هو كما ذكر لكن هنا ما هو أظهر من ذلك وهو إطباق علماء الحديث على أنه موضوع مكتذب كما يعرف ذلك من طالع كتبهم.
قوله: (وفي ذلك إنكار لقاء الله).
قالوا: ومن أنكره فهو كافر كما قال تعالى: {بل هم بلقاء ربهم كافرون}.
قوله: (ثم قسمهم).
يعني: فدل ذلك على أن الإنسان أريد به العموم.
قوله: (وإن أردتم أنهم أنكروا لقاء ثوابه وعقابه..) إلى آخره.
__________
(1) ـ في (ب): في أنه.
(2) ـ في (ب): من.
إشارة إلى أن هذا المعنى هو المراد باللقاء.
قال الإمام يحيى: ونحن نحمله على الإعادة وملاقاة ثواب الله وأكثر المفسرين على أن المراد بقوله تعالى: {بل هم بلقاء ربهم كافرون}. الأخبار عن منكري الإعادة وملاقاة الثواب والعقاب.
فصل: في المرجئة
اعلم أن المرجئة ليسوا بفرقة مستقلة بل لا تخلو فرقة من فرق الإسلام غالباً عمن يقول بالإرجاء وليس ينبغي أن يطلق القول بتكفير المرجئة فإطلاق القول بذلك خطأ والواجب أن ينظر في مذاهبهم فإنها مختلفة متنوعة فما قام الدليل القاطع على أنه كفر الذاهب(1) إليه، وما لم يكن كذلك لم يكفر قائله.
قال الإمام يحيى: وهذا هو الذي عول عليه أهل العدل من أئمة الزيدية والمعتزلة وأرتضاه الأشعرية ولم أعلم أن أحداً من أهل القبلة قضى بإكفارهم مطلقاً لأن منهم من يكفر ومنهم من يفسق ومنهم من يكون مخطئاً في مقالته وقد أشار المصنف إلى هذه المراتب الثلاثة بما أورده من التقسيم.
قوله: (وهذا كفر بلا شبهة).
قال الإمام يحيى: إلا أن يزعم أن الوعيد بالعقوبة منصرف إلى الكفار فلا يكون ذلك كفراً لازماً هذا حاله ليس معلوماً بالضرورة لأن وعيد الفساق من أهل الصلاة ليس معلوماً بالضرورة [لأن وعيد الفساق من أهل الصلاة ليس معلوماً بالضرورة](2) من دين صاحب الشريعة.
قوله: (ليسوا مزجورين عن المعاصي).
أرادوا أن الله ما عناهم بالوعيد وأنهم غير داخلين تحته.
قوله: (قيل وهذا لا يكون كفراً).
__________
(1) ـ في (أ): أنه كفر كفر الذاهب.
(2) ـ ما بين المعكوفين في (ب)، مكرراًً.
صرح بذلك الإمام يحيى عليه السلام والظاهر من مذهب الأصحاب القطع بكونه كفراً وأن القائل بأنه لا وعيد للفاسق من أهل الصلاة وإن ارتكب كل فاحشة وأنه يدخل الجنة كافر لأنه رد ما هو معلوم من ضرورة دين النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وصرائح(1) القرآن المتقدم ذكرها واعترض بأن المعلوم ضرورة تناول الوعيد للعصاة جملة لا تفصيلاً، فإذا ذهب إلى أنه متناول للكفار دون الفساق لم(2) يكن هذا رداً لما علم ضرورة من الدين إذ تناوله للفساق بخصوصهم غير معلوم ضرورة إذن لوقع الإشتراك فيه فلا يقع الكفر بإنكاره كيف ومنكره إنما أنكره لآيات متعددة وأحاديث واردة معارضة لما يقضي بتوعدهم.
قال الإمام المهدي(3): ومن ثم امتنع بعض الأصحاب من تكفيرهم لكن الحق إكفارهم لازم لا محيد عنه فإنا نعلم ضرورة أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يكن يترك مرتكب الفواحش منزلة غيره بل يظهر السخط له والتبري من عمله ويحكم بوجوب التوبة عليه وكافيك أنه لا خلاف في وجوب التوبة على مرتكبي الفواحش بل ذلك معلوماً ضرورة من دينه صلى اللّه عليه وآله وسلم ـ كما علم(4) ـ وجوب الصلاة ونحوه ولا توبة إلا من ذنب يستحق عليه العقاب ولأن الله أمر بإقامة الحد عليهم على جهة الخزي والنكال ورد الشهادة حتى يتوبوا ولولا استحقاق العقاب عليها لم يكن فرق بينها وبين المباحات، وخلاف ذلك معلوم ضرورة من الدين فالمنكر لوعيد الفساق راد لهذه المعلومات ضرورة ويعلم ضرورة لزوم ذلك له وإن أنكره لم يدفع إنكاره إكفاره.
قلت: إذا صح أن الكفر يلزم بالإلزام ثبت هذا الكلام واستقام لكن(5) ذلك غير متحقق(6) كما سبق والله أعلم.
قوله: (وإن كان في كونه فسقاً خلاف).
__________
(1) ـ في (ب): وصريح.
(2) ـ في (ب): فإن لم.
(3) ـ في (ب): الإمام يحيى المهدي.
(4) ـ سقط من (ب): كما علم.
(5) ـ في (ب): ولكن.
(6) ـ في (ب): ذلك غير متحقق ولا واضح.
ذهب قاضي القضاة(1) إلى أنه فسق لأن الإجماع منعقد من جهة الأمة على اندراج فساق الصلاة تحت هذه العمومات الوعيدية فالقائل بخروجهم عنها قد خرق إجماعاً مصرحاً وخرق الإجماع فسق ونظَّره الإمام يحيى بأن قال: إن كان المدعي إجماع الصحابة على فسق من قال بهذه المقالة فهو فاسد؛ لأنهم لم يخوضوا في هذه المسألة وإنما خيض فيها في زمن التابعين وتابعيهم وما لم يخوضوا فيه فلا وجه لدعوى إجماعهم عليه لأن الإجماع والخلاف فرع على الخوض وإن كان إجماعاً لاحقاً فالمرجئة من جملة الأمة ولا يخرجون عنهم إلا بالفسق وهم لا يفسقون إلا بالإجماع فيتوقف أحدهما على الآخر.
قلت: كلامه عليه السلام لا يخلو عن انضراب لأنه بناه على أن المدعي للإجماع على فسق أهل ذلك القول وليس كذلك. فإن القاضي ادعى الإجماع على دخول الفساق في الوعيد وجعل الوجه في التفسيق خرق الإجماع لكن كلام الإمام يستقيم بوجهيه على ما ادعى القاضي من الإجماع فإنها دعوى لا برهان عليها.
قوله: (نحو ذلك من أقوال المرجئة).
يعني: كالقطع بأن الله تعالى يعفو عن البعض ويعذب البعض وهو مذهب محققي الأشعرية كالجويني والغزالي والباقلاني وكالقول بأنه يقطع بدخولهم النار ثم خروجهم عنها.
قوله: (والذي نسبته أن يقال..) إلى آخره.
يعني: الذي نسبته أن يكون حجة على تكفيرهم عند المكفرين لهم وهم كثير من الأصحاب. قالوا: بتكفير من جوز شرطاً أو استثناء في عمومات الوعيد الصادرة من الله تعالى.
فصل: في الخوارج
__________
(1) ـ في (ب): ذهب القاضي.
سُمُّوا بذلك لخروجهم على أمير المؤمنين اعتقاداً لوجوب الخروج عليه، ومع ذلك كفروه ولعنوه وأظهروا البراءة منه ويسمون المارقة لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم في وصفهم: ((يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)). ويسمون المحكمة للهجهم بقولهم: لا حكم إلا الله إنكاراً منهم لتحكيم الحكمين، ويسمون الحرورية لنزولهم بحرورى في أول أمرهم، ويسمون الشراة تهكماً بهم لزعمهم أنهم باعوا الدنيا بالآخرة نظراً إلى قوله تعالى: {ومن الناس من يشري نفسه إبتغاء مرضاة الله}. وفي الحقيقة أنهم على العكس من ذلك وأنهم باعوا الآخرة بالدنيا وآثروا الخسارة على الربح.
واعلم أن مذاهبهم متسعة وهم طوائف كثيرة إلا أنهم يجمعهم تكفير أمير المؤمنين وعثمان بن عفان وإنكار التحكيم والبراءة من حكم الحكمين وتكفير من ارتكب كبيرة.
قوله: (ذهب أهل العدل..) إلخ.
هذا مذهب أهل التحقيق من الزيدية والمعتزلة، وهو ـ أيضاً ـ مذهب المحققين(1) من الأشعرية، وذلك لعدم الدليل القاطع القاضي بكفرهم.
قال الإمام يحيى: فلا جرم وجب القطع بعدم إكفارهم.
قوله: (وذهب أكثر الأشاعرة إلى أنهم يكفرون).
هذا أيضاً منسوب إلى بعض أهل البيت عليهم السلام.
قوله: (فلا يبعد أن يكون اعتقادهم لحسنه وإباحته عاصماً لهم من الكفر).
مثل هذا ذكره الإمام يحيى، ولعمري أن اعتقادهم حسن ما ذكروا إباحته من الخطأ العظيم والغلو الفاحش فمن أشد الأمور بعد أن يكون ذلك عاصماً من الكفر ومانعاً عنه وكيف يعصم عنه ما هو من جنسه من العصيان بأن ينضم إليه لو لا أن الإكفار مما لا ينبغي بغير برهان قاطع ساطع الأقدام عليه.
قوله: (فإنما يكون جهلاً فقط).
لا بد أن يقال مع ذلك يكون خطأ وكونه إثماً إلا في المسائل الاجتهادية.
قوله: (إنهم يمنعون وقوع المعاصي من الأنبياء).
__________
(1) ـ في (ب): مذهب مذهب المحققين.
هو الذي تقتضيه قاعدتهم وإما أنهم يكفرونهم فلم يسمع بذلك عن أحد منهم لكن إنكارهم ومنعهم وقوع المعاصي من الأنبياء من جملة اعتقاداتهم الفاسدة ومذاهبهم الرديئة المبنية على غير قاعدة، فإن القرآن مصرح بنسبة المعاصي إلى الأنبياء نحو قوله تعالى: {وعصى آدمُ ربَّه فغوى}، ولعلهم يتأولون ما ورد من ذلك بأن المعنى أنهم عصوا بترك الأولى وارتكاب ما هو مكروه وهو تأويل بعيد ويخلص غير مفيد.
قوله: (الثالثة أنهم كفَّروا أمير المؤمنين..) إلخ.
قد تحرر هذه الشبهة تحريراً أوضح من هذا وهو أن يقال: إنهم استحلوا تكفير المؤمنين وأكابر الأئمة ولعنهم والبراءة منهم وذلك يدل على استخفافهم بالدين وتهاونهم بأمره، والمعلوم ضرورة من الدين أنه يكفر مستحل تكفير المؤمنين والمستخف بالدين، وهذه أقوى ما يحتج به على كفرهم ونعترض بما ذكره المصنف، وجوابه يناسب تحريره للمشبهة وأما هذا التحرير فيقال: إنهما يعلم ضرورة كفر(1) مستحل تكفير من يحكم هو بإيمانه وأما من اعتقد كفره لشبهة طرت عليه وهو في نفس الأمر مؤمن فلا يسلم العلم ضرورة من الدين تكفيره.
قوله: (فهو آحادي).
يعني فلا يصح أن يحتج به على كفرهم وإن كان ظاهره قاضياً بذلك، وقد عرفت ما اعترض به أدلة تكفيرهم ولأجل ذلك عدل المحققون عنه إلى تفسيقهم.
والحجة على فسقهم: ما ذكر من أدلة المكفرين فإن الاعتراضات الواردة عليها إنما تمنع(2) عن الإكفار وأقل الأحوال بعد ورودها أن تبقى دالة على فسقهم كما ذكر من استخفافهم بأمير المؤمنين وغيره من أئمة الحق ولعنهم والتبرؤ منهم وذلك فسق بالإجماع وقد اعترضه الإمام المهدي بأن الإجماع المذكور غير متواتر، وإن سلم تواتره فإنما يكون الاستخفاف فسقاً حيث يكون المستخف بالإمام معتقداً لإمامته لا حيث ينفيها ويعتقد ظلمه لشبهة طرت عليه فلا نسلم فسقه.
__________
(1) ـ في (ب): كتكفير.
(2) ـ في (ب): إنما المنع.
واعلم أن ما(1) كان دليله الإجماع والقياس من الإكفار والتفسيق فهو معرض الاحتمال عند أولي التحقيق فإن حصول القطع فيما طريقه ذلك متعسر أو متعذر والله ولي التوفيق.
ومن أدلة فسق الخوارج بغي متقدميهم على أمير المؤمنين وبغي متأخريهم على غيره من الأئمة فالباغي فاسق بالاتفاق، ومن لم يخرج منهم لا(2) على إمام ولا نعي عليه مع كونه مذهبه مذهبهم الذي يجمعهم على ما قدمناه وكان رأيه رأيهم فهذا الدليل لا يتناوله إلا أن أبا القاسم البستي نقل إجماع أهل البيت على فسقه وادعى ـ أيضاً ـ إجماع الأمة على عدم الفرق بين من حارب الإمام وخرج عليه وبين من اعتقد وجوب محاربته لأن الأمة لم يفرقوا بين الخوارج المتأخرين وبين من حارب منهم أمير المؤمنين.
قيل (مهدي): وهذا في(3) غاية الضعف لأن الخوارج بعض الأمة وهم لا يرون ذلك.
قلت: ولعله لا يعتد بهم في الإجماع ولكن لا قطع بالإجماع الذي ادعاه من غيرهم وإن سلم فلا قطع بأن ينعقد من دونهم ومما يحتج به على تفسيقهم إن رميهم لأمير المؤمنين وغيره بالكفر أفحش من قذف مؤمن بالزنا فإن الكفر أفحش من الزنا ويكون هذا من باب الفحوى وهو قياس جلي قطعي فيكون رميهم لعلي عليه السلام وعثمان بالكفر كما لو رموهما بالزنا بل هذا أولى.
قال الإمام المهدي: وهذا أقرب ما يتمسك به في فسق خوارج زماننا لكنه لا يفيد القطع عندي لأن القذف إنما قبح لكونه مفسدة، ووجوه المفاسد لا يعلم تفاصيلها إلا الله تعالى فلا مانع من أن تكون المفسدة في الرمي بالزنا أبلغ من المفسدة في الرمي بالكفر.
قلت: ويقوي ذلك وجوب الحد على القذف بالزنا دون الرمي بالكفر ثم صرح المهدي بأنه لم يظهر له برهان يدل على تفسيق القوم في عقيدتهم.
فصل: في الرافضة.
قوله: (في حديث زيد: يسبون أبا بكر وعمر).
__________
(1) ـ في (ب): أن كل ما.
(2) ـ سقط من (ب): لا.
(3) ـ في (ب): وهذا هو في.
قال الإمام يحيى: حديث زيد يدل على أن تلقيبهم بالرفض لأجل سبهم الشيخين.
قوله: (وقد اختلف الناس في تكفيرهم).
الذي عليه أئمة الزيدية وجمهور المعتزلة والرازي من الأشعرية: أنهم ليسوا بكفار ولا يقتضي شيء مما ذهبوا إليه الكفر، وذهب أكثر الأشعرية إلى إكفارهم.
قال الإمام يحيى: والحق هو الأول والمعتمد ما ذكرناه وهو أنه لا حجة على إكفارهم من نص كتاب أو سنة ظاهرة متواترة ولا فيه إجماع قاطع ولا قياس يرشد إلى العلم ولأنه لم يصدر من جهتهم إلا ما كان من سب الصحابة واعتقاد كفرهم والسب ليس كفراً، ومن اعتقد في بعض الاعتقادات الصحيحة أنها كفر فلا يلزم إكفاره لأجل هذا الاعتقاد. انتهى.
واعلم أن الروافض فرق كثيرة، وكثير منهم ينسب إليه مقالات كفرية كالمفوضة والخطابية والغلاة، فإن المفوضة زعموا أن الله فوض الخلق والرزق إلى الأئمة، وزعمت الخطابية و ـ كذلك ـ الميمونية أن الله يظهر في صورة البشر، ثم منهم من قال: يحتجب بالأئمة. ومنهم من قال: يتحد بهم. وقال بعضهم: إن الله هو عليٌّ وأن محمداً إنما هو رسول علي وإن كل من ظهرت عليه معجزة فهو الله. وسائر الغلاة لهم أقوال ـ كذلك ـ شنيعة ومذاهب فظيعة كما أشار إليها نشوان في رسالة الحور العين وشرحها وغيره من المصنفين بكتب المقالات، ولا شك في كفر أولئك وإنما محل الخلاف هل تكفر الرافضة بمذهبهم هذا الشهير الذي يجمعهم وهو تكفير الصحابة وسبهم أولاً، وقد أورد المكفرون لهم بذلك ثلاث شبه:
الأولى: أنهم كفَّروا سادات الإسلام، ومن كفر مسلماً فهو كافر لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((إذا قال المرء لغيره يا كافر فقد بآء بها(1) أحدهما))، ونحوه، وقد تقدم ما يرشد إلى جواب هذه الشبهة وحاصله عدم تسليم أن يقتضي تكفير المسلم الكفر مطلقاً إنما يقتضيه إذا كان المفكر يعتقد إيمانه، وتأويل الرازي للحديث وحمله على ذلك مع أنه آحادي.
__________
(1) ـ في (ب): كاء بها.
الشبهة الثانية: أن القرآن والأخبار مشتملة على مدح الصحابة والثناء عليهم فتكفيرهم رد للكتاب والسنة وذلك كفر.
وأجبت: بأن الرافضة لا يسلمون المدح والثناء في الجماعة المعنيين الذين قضوا بكفرهم ولأنه إن(1) سلم ذلك فهو مشروط سلامة العاقبة(2) ولم يحصل ذلك في حقهم عندهم بل اعتقدوا أنهم قد غيروا وحرفوا وبدلوا فلم يكونوا رادين للكتاب والسنة في عقيدتهم.
الشبهة الثالثة: دعوى الإجماع على إكفار من كفر سادات الصحابة.
وجوابه: أنه غير مسلم أما الصدر الأول فلم يخوضوا في هذا، وأما إجماع غيرهم فالرافضة منهم وإن أجمع غيرهم على ذلك فالمجمعون بعض الأمة.
فصل: في المقلدين والعوام.
قد سبق في أول الكتاب ذكر حقيقة التقليد، والمراد هنا بالمقلدين من اعتقد ثبوت الصانع وثبوت صفاته تقليداً.
وأما العوام فهم في الحقيقة غير مقلدين وليس لهم من التمييز ما يهتدون به لمسلك التقليد ويعرفون به كيفيته، وسيأتي ذكر حكمهم.
فأما المقلدون فقد قال المصنف: (لا خلاف بين الجمهور أن المقلد مخطئ).
__________
(1) ـ في (ب): ولأنه أنه.
(2) ـ في (ب): سلامة العافية.
أشار بقوله: (الجمهور) إلى ما يحكى من خلاف شرذمة من الملاحدة والحشوية وأهل التعليم زعموا أن النظر بدعة وأن التكليف لم يرد متعلقاً بالاعتقادات العلمية وإنما ورد متناولاً للإقرار فقط بالنطق بكلمتي الشهادة وهذا هو الإيمان عندهم وكلام المصنف يقضي بأن الشيخ أبا القاسم ومن تابعه يقولون بخطأ المقلد وإنما يخالفون في كفره كأنه نظر إلى قول الإمام يحيى، ولا خلاف بين أهل التحقيق من الزيدية والمعتزلة والنظار من الأشعرية في خطأ المقلد فيما يتعلق بالأمور النظرية في المباحث الإلهية فإنما الخلاف هل يكفّر أو لا والمنقول عن أبي القاسم ومن قال بقوله ما يقضي بخلاف ذلك وأنه مصيب. قال في الغايات وقال الشيخ أبو القاسم البلخي وأبو إسحاق بن عباس والقاسم بن إبراهيم والإمام يحيى والرازي وغيرهم كأبي حامد الحاجرمي: بل المقلد مؤمن مستحق للثواب قائم بما وجب عليه إذا وافق الحق لحصول ما كلف به من الاعتقاد الحازم وهو المطلوب منه ولإجماع الصحابة على إسلام العوام الذين لم يتقدم منهم نظر في الأدلة.
قال: والعجب كله من هؤلاء العلماء كيف مالوا إلى هذا القول الذي تنهدم به قواعدهم التي أصلوها بل قواعد الإسلام كله فإن هلاك الأمم السالفة إنما كان من جهة تقليدهم أسلافهم فقيل(1) فيهم: {أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون}. أراد تعالى فكيف اتبعوهم من دون نظر في حسن ما اتبعوهم فيه أو قبحه فعنفهم سبحانه على ذلك وهو عين ما قال هؤلاء العلماء بجوازه وحسنه من هذه الأمة وأشنع من ذلك أن أضافوا تجويز ذلك إلى رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم والسلف من أصحابه(2) وتابعيهم كأنه لم يمر على أسماعهم ما ذم الله به في كتابه المتبعين لدين الأسلاف تقليداً.
__________
(1) ـ في (ب): فقال.
(2) ـ في (ب): من الصحابة.
قلت: بالغ المهدي عليه السلام في تشنيع هذه المقالة ولا يمكن القطع بكونها ضلالة وما من شيء إلا ويمكن تشنيعه وإذا تؤمل ما ورد من أخبار الأمم السالفة والخالفة استقرأت التواريخ وقصص الأنبياء في القرآن وغيره ظهر أن اتباع الأنبياء فيما جاءوا به ناجون وإن لم ينظروا ويستدلوا وأنهم غير ملومين ولا معدودين في زمرة الكافرين وإنما تعلق الذم والتسفيه بمن قلد أسلافه في رد ما جاءت به الرسل والاستمرار على الكفر من غير قبول لما جاءوا به ولا نظر في معجزاتهم ولا استماع لدعائهم، فكيف يلحق متبعوا الأنبياء ومصدقوهم إذا لم ينظروا ويستدلوا بمن ردهم ونأى عنهم واعتقد كذبهم واستهزأ بهم تقليداً لأسلافه العصاة وعدم مبالاة برسل الله.
وفي حكاية الإمام المهدي عن الإمام يحيى أن قوله كقول أبي القاسم نظر فإن الإمام يحيى نص على أن أبا القاسم يصوبه وأنه يخطئه فقال: إذا تقرر أن المقلد غير كافر فهل يكون مصيباً فيما فعله من الاعتقاد أو(1) لا، فيه قولان:
القول الأول: يكون مصيباً.
القول الثاني: أنه مخطئ في اعتقاده.
قال الإمام يحيى: وهذا هو الأقرب عندنا، وهو مذهب الأكثر من الزيدية والمعتزلة فصارت المذاهب في المقلد ثلاثة:
أحدها: أنه مصيب.
والثاني: أنه مخطئ خطأ غير كفر.
والثالث: أنه كافر.
فالإمام يحيى يقول بتخطئته، ولكنه يقول مع ذلك بأنه ناج.
قال: والمختار عندنا مع القول بخطائه أنه ناج عند الله وأنه يتجاوز عنه تقصيره(2) وإهماله للنظر لأجل اعتقاده هذا المطابق.
قال: وأظن ما ذكرته من الحكم بنجاته محكي عن الإمام المؤيد بالله.
حجة المصوبين: أن اعتقاده مطابق كما لو كان علما(3)ً فقد حصّل لنفسه اللطف في أداء الطاعات واجتناب المقبحات ولم يتأخر عنه إلا سكون النفس وثلج الصدر ومع حصول المطابقة لا يحل ذلك بالاعتقاد.
__________
(1) ـ في (ب): أم.
(2) ـ في (ب): بتقصيره.
(3) ـ في (ب): عالماً.
واحتج المخطئون غير المكفّرين بأنه ترك المعرفة مع إمكانها ومن أمكنه فهو مأخوذ بتحصيلها لما فيها من اللطف والمصلحة فيكون مخطئاً لا محالة، ولا يكفّر لعدم الدليل القاطع بكفره.
واحتج المكفِّرون بما ذكره المصنف.
قوله: (وقال الشيخان وغيرهما..) إلى آخره.
ذهب الشيخان وأكثر شيوخ المعتزلة أن كل من عدل إلى التقليد مع تمكنه من تحصيل العلم المقتضي لسكون النفس فإنه كافر وليس بمؤمن لأن المؤمن من قام بالطاعات الواجبة والمندوبة، وهذا قد أخل بأعظم الواجبات وهو العلم بالله وصفاته وعدله وحكمته، وقد قيل بأنه مؤمن عندنا، وفي ظاهر الحال إذا كان صلى اللّه عليه وآله وسلم يقبل إيمان العوام الذين لم ينظروا ولا استدلوا ولا يدري ما هو عند الله هل عقيدته مقبولة يحق بها الثواب أو لا يفيده إلا حقن دمه وتحصين ماله ووجوب موالاته في الدنيا وهو غير متخلص في الآخرة. حكاه الحاكم عن بعض العلماء مبهماً.
قوله: (فغير مسلم).
قال الإمام يحيى: لا نسلم انعقاد الإجماع على خطأ المقلد فضلاً عن كفره فإن في الأمة من عذره في التقليد وصوبه، فكيف يمكن دعوى الإجماع؟.
قوله: (ويمكن الجواب بأن المدعي إجماع كل عصر..) إلخ.
قد أتى المصنف بأبلغ ما يمكن في تقويم هذه الحجة لكن لا يعقل عما قد تكرر منا ذكره وهو أنه لا سبيل إلى حصول إجماع قطعي يؤخذ به في هذه المسائل كثيرة الخطر، وارجع إلى نفسك هل تجد روايات هذه الإجماعات موصلة لك إلى العلم بإجماع الأمة في محل الخلاف فإنك تجد العلم غير حاصل ولا تجده منك بمكان قريب.
قوله: (وهذا ثابت في المقلد).
أي: العلة الجامعة وهي انتفاء المعرفة وهذه طريقة قياسية.
قوله: (لقبحه).
إنما قضى بقبحه وإن كان مطابقاً لأن من قواعدهم أنه لا يجوز الإقدام على اعتقاد تجوز كونه جهلاً ولو كان في نفس الأمر مطابقاً وأنه قبيح، والإقدام عليه قبيح كالإقدام على الجهل.
قوله: (وهذا العدد وإن كان غير صحيح).
يقال أنه في الحقيقة إبداء فارق بين الأصل وهو الشاك والفرع وهو المقلد وهو فرق ظاهر.
قوله: (نجد في قلب كثير من العوام من الخشوع..) إلى آخره.
هو كما ذكره، ولقد وصل إلى عندي مرة رجل بدوي من أهل الشعر والوبر لا يقرأ القرآن فوقف بجنب تلميذ يقرأ في الكشاف ويبدأ بتلاوة قطعة من القرآن ثم تذاكر في تفسيرها فلما شرع التلميذ في قراءة تلك القطعة وذلك البدوي يجيبه أقبل بكليته على القارئ وأصغى سمعه وأحسن تعقل ما يتلوه فكان فيما أحسب إذا سمع ذكر الله سبحانه وهلله ومجده وإذا سمع ذكراً لرسوله صلى عليه(1) وإذا سمع ذكر الشيطان استعاذ بالله منه، وإذا سمع ذكر الجنة سأل الله دخولها، وإذا سمع ذكر النار استجار بالله منها ثم هملت عيونه وجرت دموعه وتحدرت في خدودة بسرعة وكثرت، فقضينا(2) من ذلك العجب وعلمنا أن له من الخشوع ما ليس لذي علم وأدب.
فائدة جليلة:
ذكر الإمام يحيى عليه السلام أن طبقات الخلق بالنسبة إلى إحراز العلوم الدينية على مراتب تنطوي على درجات خمس:
الدرجة الأولى: حصول هذه المعارف ضرورة وذلك مما اختلف فيه ولا مانع منه لأن موضوع إيجاب هذه المعارف منبني على اللطف والاستصلاح وليس يبعد في العقل أنه لا يصلح حال بعض المكلفين إلا بالعلم الضروري فلا جرم جوزناه وهذه أقوى الدرج في اللطف وأعظمها في الانتفاع.
الدرجة الثانية: تحصيل المعارف الإلهية كلها بالنظر والاستدلال.
قال: وهذا هو مذهب أكثر أئمة الزيدية والمعتزلة؛ لأن اللطف بما ذكرناه أكبر وأنفع وقد نبه عليه الشرع بما ورد في القرآن من التنبيه على طريق النظر.
قلت: أراد به أنفع من التقليد ونحوه لا من المعرفة الضرورية.
__________
(1) ـ في (ب): وإذا سمع ذكراً لرسول الله صلى الله عليه وآله.
(2) ـ في (ب): قضينا.
الدرجة الثالثة: تحصل هذه العلوم كلها على جهة الجملة من غير نظر في التفاصيل كما هو رأي أصحاب الجُمل وهم يخالفون أهل الدرجة الثانية لأن أولئك علموا(1) بالتفكر على جهة التفصيل في ذاته وصفاته وما يجب له ويجوز ويستحيل وهؤلاء إنما علموه على جهة الإجمال.
قال: وهذا هو الذي عليه العامة والنساء والعبيد والإماء ومن قعدت به همته عن النظر في التفاصيل كما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((عليكم بدين العجائز)). والغالب في حقهم السلامة.
الدرجة الرابعة: من أحرز هذه المعارف كلها تقليداً أو اعتقدها(2) وصمم عليها فهؤلاء وإن عدموا العلم فاعتقادهم حق وصواب، وقد تقدم حكمهم.
الدرجة الخامسة: أدنى هذه المراتب وأضعفها حالاً وهم الذين لا حظ لهم في هذه المعارف وليس معهم إلا الإقرار باللسان من غير اعتقاد لا عن نظر ولا عن تقليد، كما حكي عن الحشوية وأهل التعليم، وهؤلاء لا ثمرة لما جاءوا به إلا إحراز رقابهم عن السيف وأموالهم عن الأخذ حيث أقروا بمضمون المعارف ونطقوا بالشهادتين فأولى هذه الدرجات أعلاها وآخرها أدناها وما بينهما وسائط متفاوتة في القوة.
تنبيه:
اقتصر المصنف من ذكر من رمي بكفر التأويل على تلك الطوائف لأنهم أشهر من ذكر بذلك ووقع الاختلاف في كفره وقد ذكر المتكلمون مسائل غير تلك في أعيان مذاهب يجاذبوا فيها أهداب النظر يكون كفراً أو لا.
منها: حكم من ذهب إلى أن الله لا يقدر على الظلم ذهب البغداديون أنه يكفر، قالوا: ولكن النظام لا يكفر لأنه قد تاب عن تلك المقالة، وذهب أبو الهذيل إلى أن القائل بذلك لا يكفر. وفصل القاضي فقال: إن زعم القائل بذلك أن القبيح جنس مستقل برأسه لا يقدر الله عليه فكافر لأن ذلك يقدح في كونه تعالى قادراً للذات وإن لم يقل بذلك فلا يكفّر.
ومنها: حكم من جعل الألوان مقدورة لنا.
__________
(1) ـ في (ب): علموا الله.
(2) ـ في (ب): واعتقدها.
قال القاسم والمنصور بالله عليهما السلام، والشيخ أبو هاشم: أنه لا يكفر لإضافة فعل الله إلى غيره.
وقال القاضي وغيره: ليس بكافر.
ومنها: مذهب ثمامة أن المتولدات لا محدث لها.
قيل: إن أراد ظاهر ما ذكره فهي مقالة كفرية لأن بها تسند الطريق إلى العلم بالصانع لأن الطريق إليه حدوث هذه الحوادث فإذا جوزنا حدوث محدث ولا محدث له لم يبق لنا طريق إلى إثباته.
ومنها: القول بتجويز تعذيب الأطفال ذهب القاضي إلى أنه يكفر مجوز ذلك إذ أضاف الظلم إلى الله تعالى وتظليمه كفر.
وقال أبو علي: لا يكفر بذلك لأن القائل به يزعم أن الطفل مستحق فغلط في حال الطفل ولم يقله الاعتقاد أن الظلم جائز على الله تعالى، وتوقف أبو هاشم في ذلك.
ومنها: مذهب من يقول إن الإنسان غير هذا الشخص فقد قيل بكفره لرده صريح القرآن، فإن أدلى بشبهة واعترف بتسمية هذا الشخص إنساناً فخطأه محتمل.
ومنها: ذكر الإمام المنصور بالله أن معتقد إمامة الفجرة من الأمويين والعباسيين المتهتكين المتظهرين بشرب الخمور والفسوق كافر لأنه يعلم بضرورة الدين وجوب كون أولي الأمر عدولاً.
وعنه عليه السلام: أنه يكفر من أجار الكافر وأمَّنه إلى غير غاية محدودة لرده قوله تعالى: {وإن أحد من المشركين أستجارك..} الآية. فقصر إجارته على غاية معلومة.
قلت: وحاصل القول في هذه المسائل أنه لا ينبغي الإقدام على التكفير فيها إلا مع قيام الدليل القاطع والبرهان الساطع وحصوله فيها بعيد وما وقفنا من أدلة القائلين بالتكفير فيها على ما هو سديد ومفيد فالواجب عدم التكفير وإن تحذر الناظر فيها عن مهاوي التغرير والله الموفق.
تنبيه آخر:
قد يذكر ببعض كتب الكلام في هذا الباب أحكام الكفار وأحكام الدور وذكر وجوب الهجرة ونحوه ولم يستحسن وضع ذلك هنا لأن هذه فصول(1) من قبيل الفروع تذكر في كتب الفقه وهي بها أليق.
تنبيه آخر:
__________
(1) ـ في (ب): الفصول.
كافر التصريح: خارج عن أمة محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم وعن أهل القبلة اتفاقاً.
وأما كافر التأويل: فيوصف بأنه من الأمة ومن أهل القبلة والصلاة لأن الأمة في الأصل كل من بعث إليه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، وفي العرف كل من صدقه واعتقد وجوب إتباعه سواء كان مؤمناً أو لا، بدليل: ((ستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة..)). فجعل كل تلك الفرق من الأمة وليس الناجية منها إلا فرقة واحدة فقط وكذلك فأهل القبلة والصلاة من صدقه صلى اللّه عليه وآله وسلم واعتقد وجوب اتباعه وأهل التأويل كذلك.
وقيل: لا يصح وصف كافر التأويل بذلك لأن من شرط صحة الوصف بذلك أن يتابعه، وكافر التأويل غير متابع ولأن أمة النبي اسم مدح فلا يستحقه والصحيح هو الأول.
القول في التفسيق
قوله: (اعلم أن الفسق كالكفر في أنه لا يجوز إثباته إلا بدليل قاطع).
وكذلك فهو كالكفر في أنه لا مجال للعقل فيه وفي أنه ينقسم إلى:
مجمع عليه: وهو كل(1) ما علم من دين النبي ضرورة أنه كبيرة محبطة. ومختلف فيه وهو ما ليس كذلك.
وإلى فسق تصريح، وفسق تأويل: فالتصريح ظاهر كشرب الخمر والزنا ونحوهما مما لا يتأول مرتكبه.
قيل: وضابطه ما علم ضرورة من الدين أنه فسق وفيه نظر فليس كل فسق صريح يعلم كونه فسقاً بضرورة الدين ولو كان كذلك لم يحدث خلاف في شيء منه، ومعلوم أن في الكبائر خلاف في الأدلة التي تدل على كونها كبيرة.
وفسق التأويل: أن يرتكب المكلف معصية من ارتكبها عامداً مع علمه بكونها معصية فهو فاسق لكنه لا يعتقد كونها معصية لشبهة عرضت له.
__________
(1) ـ سقط من (ب): كل.
مثاله: ما كان من الخوارج من تكفير أمير المؤمنين ولعنه وقتاله واستباحة دمه وماله وكذلك دماء المسلمين وأموالهم لشبهة عرضت لهم وتلعبت بعقولهم اعتقدوا لأجلها إصابتهم في ذلك. وكذلك من بغى إلى أئمة الهدى وحاربهم معتقداً إصابته في ذلك وخطأ الأئمة وفسق من هذه حاله مذهب الزيدية وجل المعتزلة وكل الخوارج، وذهبت المجبرة وأهل الحديث إلى أن تلك مسألة اجتهادية فجعلوا ذلك من قبيل الخطأ في الاجتهاد فيكون المخطئ في ذلك معذوراً كسائر الاجتهاديات وقالوا في الحروب التي حدثت بين الصحابة هي من هذا القبيل فالقاتل والمقتول في الجنة لأن كلاً منهم فعل ما أدى إليه اجتهاده.
وبالجملة فالكفر والفسق أخوان متفقان في أكثر الأحكام وإنما يختلفان في أن عقاب الكفر أعظم وأحكام أهله أغلظ وفي أنه يجوز ثبوت فسق لا دليل عليه اتفاقاً. وأما ثبوت كفر لا دليل عليه فمختلف فيه كما سبق.
واعلم أن اختلاف أهل القبلة في المسائل الدينية العلمية للظن فيها التي لا مجال كالعقائد الإلهية لا بد من الخطأ فيه لأن الحق مع واحد ويعلم الخطأ فيه بالعقل كما يعلم من جهة العقل أن القادرية والعالمية ونحوهما صفات في حق الباري تعالى وأن المخالف في ذلك مخطئ ونحو ذلك، وأما كون ذلك الخطأ كبيراً أو فسقاً فلا مجال للعقل فيه وإنما يعلم من جهة الشرع، وقد سبق ذكر ما يبلغ من الخطأ في ذلك إلى حد الكفر واختلاف العلماء في التكفير جملة وتفصيلاً.
وأما التفسيق: فالمشهور عن أصحابنا وفي كتبهم أن ذلك الخطأ قد يكون فسقاً ولا يرتقي إلى درجة الكفر وينصون على فسق طوائف من المبتدعة وسبق عن المؤيد عليه السلام: أنه منع من تكفير المجبرة ونص على أن خطأهم كبير، والذي ظهر لنا من كلام الإمام يحيى عليه السلام في كتاب التحقيق: أنه لا يقول بالتفسيق في هذا الباب ويرفع قاعدته إلا نادراً لأنه ذكر وقوع الخطأ في بعض مسائل العقائد كما في مسألة الوجود هل هو حالة أو لا؟ وهل القادرية والعالمية أحوالاً ومعاني؟ وهل الصوت يسمع في محله أو غير محله؟ وهل الأكوان مدركة أو لا وغير ذلك من المسائل الكلامية ومنع من وقوع الفسق بذلك؟.
قلت: ومن هذا القبيل خلاف المعتزلة للزيدية في مسائل الإمامة وإن كان قد ذكر كثير من العلماء إن من أنكر إمامة ثابت الإمامة وجهلها فهو فاسق كمن نابذه وحاربه، ونسبه الشيخ أبو القاسم البستي إلى كثير من الزيدية. لكن المختار ما ذكره المؤيد بالله والبستي لنفسه وغيرهما من أنه لا دلالة على فسق من جهل إمامة إمام أو أنكرها إذا لم يقترن بذلك خروج عليه ومحاربة له.
قال الإمام المهدي: وهذا هو الحق عندي وعليه أهل التحصيل من الزيدية.
قال الإمام يحيى: والذي يدل على أن الخطأ في تلك المسائل لا يكون فسقاً أن القضاء بكونه(1) فسقاً لا بد فيه من دليل ولا دليل هناك، فوجب القطع بالخطأ دون الفسق، ولأنه لو كان الخطأ في تلك المسائل فسقاً لوجب انقطاع الموالاة وحصول المعاداة والإجماع منعقد على بطلان ذلك ووجوب المعاضدة والمناصرة مع وقوع الخلاف في هذه المسائل بينهم فعلمنا أن الخطأ فيها لا يكون كبيراً.
__________
(1) ـ في (ب): بكونها.
ثم ذكر عليه السلام المشبهة والمجبرة وذكر أن المنكرين لإكفار المشبهة والمجبرة منهم من زعم أنهم فساق وهذا شيء يحكى عن بعض الزيدية ولم أعرف هذه المقالة للإمام المؤيد بالله ولا للشيخ أبي الحسين ولا لأحد ممن أنكر إكفارهم ثم أبطل ذلك بأن الفسق لا بد عليه من دلالة قطعية من كتاب أو سنة أو إجماع من الأمة أو العترة أو قياس يقطع به وشيء من هذه الأدلة ليس حاصلاً(1) في حق المجبرة والمشبهة فلأجل هذا قطعنا بإنكار فسقهم ثم نقول لمن قطع على فسقهم إذا قد قطعتم على بطلان إكفارهم لعدم الدلالة عليه فأخبرونا لم قطعتم بفسقهم، هل الدلالة قامت على ذلك فاذكروها لننظر فيها أو من أجل قصور الدليل على كفرهم فوجب القطع بفسقهم فما هذا حاله باطل لأن قصور الدليل على الكفر لا يوجب إثبات فسقهم بل كل واحد من الكفر والفسق يحتاج إلى دلالة ثم إنه عليه السلام ذكر ما يستدل به على فسقهم ونقضه ثم ذكر المرجئة، وحكي أن أكثر الشيوخ من المعتزلة ذهبوا إلى أن من جوز من المرجئة على أن الله تعالى إلا تبين لنا مراده من الوعيد للفساق من أهل الصلاة فهو فاسق لأنه يتعذر عليه معرفة مراد الله في كل شيء ومن أخرج نفسه عن صحة أن يفهم عن الله بخطابه شيئاً فأقل أحواله أن يكون فاسقاً إذا لم يكفر(2) بهذه المقالة.
قال الإمام يحيى: واعلم أن تفسيقهم بما ذكرناه فيه نظر من وجهين:
الأول: أن تفسيقهم بذلك على جهة الإلزام ولا يلتزمونه.
الثاني: إظهار الفرق بين الوعيد وسائر خطاب الله. فقالوا: القصد بالوعد هو الترغيب فيما عند الله فلو لم تبين حاله لم يحصل الغرض به بخلاف الوعيد فالغرض التخويف(3) وهو كما يحصل مع القطع يحصل مع التجويز فافترقا.
__________
(1) ـ في (ب): ليس صالح.
(2) ـ في (ب): لم تكن.
(3) ـ في (ب): التخفيف.
ثم ذكر مذهب من زعم أن الوعد والوعيد تعارضا وقال: نهاية الأمر فيهم الخطأ فيما ذهبوا إليه من هذه المقالة فأما كونه فسقاً فلا دلالة تدل على ذلك وذكر من غلط في اللغة ولم يخط بحقائق الألفاظ الوضعية فخالف في ألفاظ العموم قال: وخطأهم دون خطأ من تقدم.
ثم ذكر الخوارج وحقق الأدلة على فسقهم ولجودتها وقوتها لم يعترضها ولا شك أن أقل أحوالهم الفسق واستحقاق عقابه وثبوت أحكامه.
قال الإمام يحيى: وقد سار أمير المؤمنين فيهم سيرة الفسق والبغي ولم يعاملهم معاملة الكفار.
قلت: وقد نقل الإجماع على فسقهم.
ثم ذكر عليه السلام الإمامية وذكر أنهم لقبوا بهذا اللقب؛ لقولهم بالنص على أعيان الأئمة ووجوب الرجوع إليهم في الأمور الدينية وزعموا أن منزلة الأئمة منزلة الأنبياء ولا بد في كل وقت من إمام، ويسمون الرافضة لما تقدم.
قال: ولما زلت أقدامهم في اعتقادهم في الأئمة ما لا يجوز من تفضيلهم على الأنبياء وإحاطتهم بالعلوم الغيبية وظهور الخوارق إلى غير ذلك من الجهالات خبطوا في كل وادٍ من الضلالة ثم تَحَزَّبُوا أحزاباً ثلاثة:
الحزب الأول: الغلاة، وهم المفوضة والخطابية والميمونية(1) وقد قدمنا طرفاً من الإشارة إلى ذكرهم ولهم أقاويل شنيعة وكفريات فاحشة لا يفوه بها مسلم.
قال الإمام عليه السلام: ولا خلاف بين الأمة في كفرهم وليسوا معدودين من فرق الإمامية كما لا تعد القرامطة والباطنية منهم وإن انتموا إليهم، ومنهم الغرابية يزعمون أن علياً هو الرسول وأنه أشبه بمحمد من الغراب بالغراب.
قال: ولهم تهويسات كثيرة أغفلنا ذكرها ظنة بالبياض وأكثر الغلاة يبطلون الشرائع ولا يعترفون بها.
__________
(1) ـ في (ب): اليمونية.
الحزب الثاني: المتوسطة الذين ليسوا بغلاة ولا حصلوا النظر وأظهروا الكياسة كغيرهم وهؤلاء فرق الكاملية وهم الذاهبون إلى أن الأمة كفرت يمنع على حقه وأنه كفر بترك المطالبة بحقه والكيسانية الزاعمون أن الإمام [بعد الحسين](1) محمد بن الحنفية ومنهم من جعله الإمام بعد علي ومنهم الجعفرية(2) الزاعمون أن الإمام بعد محمد بن علي جعفر بن محمد، وكل فرقة من هؤلاء تفرقت فرقاً كثيرة.
قال عليه السلام: معظم أقوالهم خطأ فإن قام برهان شرعي بعد إمتحانها وتعهدها بالنظر على أن فيها ما يكون كفراً أو فسقاً وجب القضاء به لأن الدليل منيع، وغالب الظن في مذاهبهم الخطأ وأنه ليس فيها ما يوجب الإكفار والتفسيق.
الحزب الثالث: القطعية قطعوا بموت موسى بن جعفر وزعموا أن الأئمة إثنا عشر وهم زبدة فرق الإمامية وعليهم التعويل في المذاهب وهم المنظرون فيهم الذين تصدروا لتقرير المذاهب وقعدوا في دست العلماء وأصغى إلى أقاويلهم الفضلاء في الرد والإفحام وهم العدد الكثير ومن عداهم حثاله(3) وغثاء وقد بادوا وانقرضوا فلا يوجد منهم إلا القليل النادر وهؤلاء يزعمون أن الإمام يجب عقلاً لكونه لطفاً في الدين وأن الزمان لا يخلو عنه وأنه تشترط فيه العصمة ولا بد له من معجزة وأنه يعلم الغيب ولا يعرف معنى القرآن إلا بواسطته ونحو ذلك من مذاهبهم.
قال عليه السلام: وهذه المذاهب وإن كان مقطوعاً على فسادها وبطلانها فليس فيها ما يقتضي الكفر والفسق لعدم الدلالة على ذلك وقد أبطل علماء الدين مذاهبهم وأفسدوها وسكتوا عن إكفارهم وتفسيقهم لما ذكرناه من عدم الدلالة على ذلك.
__________
(1) ـ سقط ما بين المعكوفين من (ب).
(2) ـ في (ب): والجعفرية.
(3) ـ في (ب): وما عداهم حثالهم.
فصل:
قوله: (وذلك الدليل هو السمع فقط).
الكلام في هذا الفصل على نحو الكلام فيما تقدم من نظيره في ذكر أدلة الإكفار.
قوله: ( إلى قوله: {ومن عاد فينتقم الله منه} التلاوة {ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}).
وهو أصرح في الاحتجاج على ما نحن بصدده. وأما قوله تعالى: {فينتقم الله منه}. فذلك في أنه قبل الضد.
قوله: (وبالجملة كل ما فيه وعيد يخصه).
فيه نظر وقد تقدم تحقيق هذا في ذكر ما يعرف به كبير المعصية والمعتمد عليه ما ذكر هناك فيراجع بالنظر فيه.
قوله: (وأما السنة..) إلى آخره.
لا كلام أنه ورد في السنة ما يقضي بكبر عقوق الوالدين وأنه فسق وإن لم يكن متواتراً كقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((ألا أخبركم بأكبر الكبائر..)). فذكر منها عقوق الوالدين وقد تقدم ذكر ذلك وكذلك الربا فإنه ورد عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم فيه: ((إن الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله من ثلاث وثلاثين زنية)). وورد عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: <إن أهون أبواب الربا وهي ثلاثة وسبعون باباً مثل أن ينكح الرجل أمة. وورد فيه من الكتاب ما يقضي بذلك كقوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله}. وقوله تعالى: {لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة..} الآيات. وقوله: {الذين يأكلون الربا..} الآية. وأما الفرار من الزحف ففي القرآن تصريح بما يقتضي كونه فسقاً وكبيرة وهو قوله تعالى: {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله}.
قوله: (كان يعلم أن سرقة عشرة دراهم..) إلخ.
هذا ذكره من يصحح التفسيق بالقياس وادعى أنه قياس قطعي وقد منع من ذلك المؤيد وأبو الحسين وغيرهما بدليل أن الغاصب لا تقطع يده بالإجماع، وهذا فارق أقل أحواله منع كون القياس قطعياً وقد حكي عن أبي الحسين وغيره أنه لا يمكن الاستدلال بقياس قطعي في التفسيق لأنه إن نفى ما يمكن جعله فارقاً فلا قطع وإن لم يبق ما يمكن فيه ذلك فلا قياس والأصح أن ذلك ممكن جائز كما قدمنا وأما قيامه ووقوعه فمحل نظر ولا يقطع به وقد مال المصنف إلى نحو ما حكي عن أبي الحسين بقوله: لكن(1) الأغلب أنه لا يمكن القطع بعلة فسق قط.
القول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قيل: إن هذا الباب مما تشتمل عليه الحيثية السمعية من باب الوعد والوعيد وهذا لا وجه له والصحيح أنه باب مستقل وقد جعله قاضي القضاة أحد الأصول الخمسة وقال: هو من أهم أبواب أصول الدين وأعظمها لأنه أخذ من التكليف جميع جوانبه وذلك من أربع جهات:ـ
أحدها: العقل والشرع فإن الأمر والنهي يقضي بهما العقل والشرع وكذلك المأمور به والمنهي عنه منهما ما يكون عقلياً ومنها ما يكون شرعياً.
الثانية: أنه يدخل فيه القطع والظن فقد يجب علينا قطعاً وقد يجب علينا ظناً.
الثالثة: أنه يشتمل على فرض العين وفرض الكفاية.
الرابعة: أنه يدخل فيما يخص المكلف الأمر الناهي وقد يكون فيما يتعداه.
__________
(1) ـ سقط من (ب): لكن.
قلت: بالغ قاضي القضاة رحمه الله في جعل هذا الباب من أبواب أصول الدين حتى عده من أهمها وأعظمها وجعله أحد الأصول الخمسة ......... للعدل والتوحيد والوعد والوعيد وإذا أعطي النظر حقه علم أنه ليس من أصول الدين في شيء وأنه من أبواب الفقه ومسائل الفروع لأن فن أصول الدين موضوعة الكلام في إثبات الصانع وصفاته وأفعاله وأحكام أفعاله وليس من هذه القبيل في شيء وكتب حال الدرس في علم الكلام أتعجب من عدهم له في أبواب هذا الفن وأنظر ما الوجه في ذلك حتى وقفت على كلام قاضي القضاة الذي ذكرناه وعلى جوه ذكرها غيره وكلها لا يقضي بكونه من علم الكلام أما ما ذكره قاضي القضاة من كونه أخذ من التكليف بجميع جوانبه فكثير من أبواب الفروع كذلك إلا في قوله: إن العقل يقضي به. وهو غير مسلم وكذلك ما ذكره بعضهم من كونه بطلت مناقبه مع العمل الأعتقاد الذي هو العلم دون الظن فقد رد بأن ذلك لا يقتضي كونه من أصول الدين كمسائل الفروع العلمية ومسائل أصول الفقه القطعية وكذلك ما أشار إليه الفقيه حميد في وسيطه من أن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عقوبات على العصيان فكان ذلك سبباً في إتصاله بما تقدم من إستحقاق العصاة عقوبات الآخرة.
قيل (ي): وهو وجه صحيح.
قلت: بل وجه فاسد فإن الصلاة والزكاة والحج كذلك.
وقيل: إنما عد من أصول الدين لأنه يجب على كل مكلف معرفة هذا الباب علماً يقيناً كمعرفة نبوة النبي ولا يكفي الظن في ذلك لأنه من أصول الشرائع وفيه نظر لأنا نقول ما تريد بكونه تجب معرفته علماً يقيناً هل على سبيل الجملة أو على سبيل التفصيل فيجب العلم بكل مسألة من مسائله. الثاني غير المسلم والأول لا فرق بينه في ذلك وبين وجوب الصلاة والزكاة ونحوهما من أصول الشريعة وعلى الجملة فإذا علمت موضوع فن الكلام علمت أن هذا الباب ليس منه بسبيل وأنه لا إلتفات إلى ما ذكر من الأعذار ولا تعويل، وأقرب ما يمكن بمحلة أن يقال لما كان باب الوعد والوعيد ينطوي على ذكر الطاعات والمعاصي وما تقتضيه فيقضي إليه وما يجب من التوبة عن ترك الطاعة وفعل المعصية وذكر اسماء فاعليهما وأحكامهم وحسن وناسب أن نردف ذلك بذكر وجوب الأمر بالطاعة والحث عليها والنهي عن المعصية وإلا يترك لمريدها سبيلاً إليها فكما أن في ذلك الباب ذكر أحكام فاعلي الطاعة والمعصية وما ينبغي منهم من حسن المعاملة لله فهذا كلام في بعض ما ينبغي أن يعاملهما به غيرهما من الأمر بالطاعات والنهي عن المعاصي ولو إلى حد القتال بعد تحسين المقال وقد وقعنا على مثل ما ذكرنا خطورة بالبال ووقوعه في النفس لبعض المتأخرين فإنه صرح بخروج هذا الباب عن فن الكلام ثم قال: خلا أنه ينبغي الإ........... المتكلمين في ذلك بتركاً ولا صبراً في إتباعهم دنيا ولا دينا.
قوله: (إفعل أو ما يقوم مقامها).
يعني: مقام هذه اللفظة أو الصيغة لتفعل في حق الغائب وأفعلا وأفعلوا ولتعفلا ولتفعلوا وأفعلي ولتفعل هند.
قوله: (على جهة الإستعلاء).
يعني: إستعلاء الأمر على المأمور والإستعلاء طلب العلو فيصبح ذلك وإن كانت رتبة المأمور أعلى.
قوله: (مع أرادته لحدوث ما تناولته الصيغة).
يحترز من التهديد كقوله تعالى: {أعملوا ما شئتم}. ويذكر المراد من هذه الإحترازات بعرف المراد من الإحترازات في حقيقة النهي.
قوله: (والمعروف..) إلخ.
الذي يذكره المتكلمون في حقيقته أنه كل فعل عرف فاعله حسنه، والمصنف عدل إلى الحقيقة التي ذكرها لأنها أصر وليس من شرط الحقائق الإشارة إلى وجوه الإشتقاق كما ذكره مع أن لفظة المعروف أصلها عرف مخففاً لا عرف بالتضعيف.
فصل:
قوله: (لا خلاف في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
يعني: على سبيل الجملة ولم يعتد المصنف بخلاف يعزى إلى الحشوية وهو أنهم منعوا وجوبه عقلاً وشرعاً وقولاً وفعلاً إلا طائفة منهم فزعموا أنه لا يجب شرعاً ويعلم وجوبه بالعقل.
قيل (مهدي): وتلخيص مذهبهم وتحقيقه أنه يجب الأنقياد لكل من غلب وإن يمتثل أوامره ولو كان ظالماً فيجب الجهاد معه والأمر والنهي حيث أمرنا بذلك إذا لم يدعنا إلى الأمر والنهي من له شوكة فلا يجبان بالسيف قط ويجبان بالقول فقط.
قوله: (وإن أختلف في كيفيته هل تجب بالقول والفعل..) إلى آخره.
لعله يشير إلى خلاف الإمامية وقولهم لا يجب فعلاً إلا في زمن الإمام وأما قولاً فيجب من دونه ومنهم من أطلق فقال لا تجب قولاً ولا فعلاً إلا في زمن الإمام.
وقال الأصم: لا يجبان إلا حيث يكون ثم إمام مجمع عليه لا إذا لم يجمع عليه فلا يجبان.
قوله: (ويدل على وجوبه من الكتاب قوله تعالى: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل}).
هي من أوضح الأدلة على وجوب التناهي عن المنكر في حق بني إسرائيل والإستدلال بها في حقنا مبني على أنا متعبدون بشرع من قبلنا ما لم ينسخ وفيه خلاف بين أهل الأصول لكن هذا هو المسترجح وما ثبت في النهي عن المنكر ثبت في الأمر بالمعروف إذ هما أخوان ولا فارق بينهما في الوجوب.
قوله: (فأمر الله أن يكون فينا من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر).
يعني: ولأمر يقتضي الوجوب على ما هو المختار عند الجمهور من علماء الأصول وفيه خلاف واسع ليس هذا موع ذكره وبسطه.
قوله: (فأوجبه على الكفاية وذلك أن الأمر متناول لبعض منا غير معين، وهذه الآية الكريمة كما تدل على وجوب الأمر والنهي المذكورين بدل على أن هذا الوجوب من فروض الكفاية التي إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين.
ويدل على ذلك أيضاً: أن الغرض بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يقع المعروف وألا يقع المنكر فإذا حصل الغرض بالبعض فلا معنى لإيجابه على الكل كنشرمعالم الدين ونحو ذلك من فروض الكفايات.
قوله: (وقال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض..) الآية.
وجه دلالة هذه الآية أنه تعالى حكم على المؤمنين بكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أوصافهم فمفهومه أن من لم يكن كذلك فليس بمؤمن كما أنه من لم يقم الصلاة ويؤت الزكاة فلا إيمان له.
قوله: (وقال تعالى: {كنتم خير أمة..} الآية).
تمامها: {تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر).
قال الفقيه حميد: والإستدلال بها على الوجوب بعيد لأن مدلولها المدح على ذلك والمدح غير مقصور على الواجب بل يحسن على المندوب ولا يقال وجه دلالتها أن الله تعالى جعل هذه الأمة خير الأمم بذلك لأنه يقال: قد يجوز أن يكون خيراً مع ذلك وإن كان مندوباً لأن ذلك إنما يقتضي فضل هذه الأمة والفضل الذي بالثواب يكون بالواجب ويكون بالمندوب ومن الأدلة القرآنية قوله تعالى حاكياً عن لقمان: {يابني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر}. وأقره الله على ذلك ولولا كونه حقاً لما حسن إقراره.
قلت: وهو مبني أيضاً على أنا متعبدون بشرع من قبلنا ما لم ينسخ ولا يقال: ليس في الآية ما يدل على الوجوب لأن الأمر صادر عن غير الشارع وإنما أقره الله تعالى لأنا نقول آخرها يدل على الوجوب وهو قوله: {إن ذلك من عزم الأمور}. فإنه إشارة إلى جميع ما سبق ذكره من إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والصبر ومعناه أنه مما عزمه الله من الأمور أي قطعه قطع إيجاب وإلزام ومنه أن الله يجب أن يؤخذ برخصة كما يجب أن يؤخذ بعزائمه.
وقوله: (عزمة من عزمات ربنا).
ومنه عزمات الملوك وذلك أن يقول الملك لبعض من تحت يده: عزت عليك إلا ما فعلت كذا. إذا قال ذلك لم يكن للمعزوم عليه بد من فعله والمعنى من معزومات الأمور أي من مقطوعاتها ومفروضاتها هكذا قرره جار الله.
ثم قال: ونهاهيك بهذه الآية قاضية بقدم هذه الطاعات وأنها كانت مأموراً بها في سائر الأمم.
قوله: (فقوله عليه السلام: ((ليس لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير أو تنتقل)). المشهور في رواية الحديث: ((لا يحل لعين..)). والمراد تنظري إطباق أحد الجفنين على الآخر يقال: أسرع من طرفة عين. والعين هاهنا عبارة عن جملة الإنسان لأنها التي يصح منها التغيير والإنتقال وليس المراد التخيير بين الإنتقال والتغيير الإنتقال بل المراد أنه إذا لم يمكنه زجر فاعل القبيح وجب عليه الإنتقال وفيه دلالة على وجوب الهجرة على ما يذهب إليه جماعة من أعيان الأئمة عليهم السلام كالقاسم والناصر والمنصور وإليه الإشارة بقوله: قيل عن البلد وعند كثير من أهل البيت وغيرهم أن الهجرة غير واجبة. وإليه الإشارة بقوله: قيل عن المكان. حملوا الإنتقال على أنه من مكان إلى مكان لترتفع التهمة عن الرضا بالمعصية.
قوله: (وعنه عليه السلام: ((لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر)). إلخ.
روى الترمذي ما هو بمعناه عن حذيفة عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم ولفظه: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم)).
قوله: (وأشباه هذا من الأحاديث أكثر من أن تحصى).
من ذلك ما رواه الفقيه حميد في العمدة عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((ليخرجن من أمتي أناس من قبورهم في صورة القردة والخنازير بما داهنوا أهل المعاصي وكفوا عن نهيهم وهم يستطيعون)). وروي عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((إن التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس بمؤمن بالقرآن ولا بي)). وروي عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((ما من رجل يجاور قوماً فيعمل بين ظهرانيهم بالمعاصي فلا يأخذوا على يديه إلا أوشك أن يعمهم الله بعقاب)). وذكر عبدالعظيم المنذري في كتاب الترغيب والترهيب جملة من الأحاديث الواردة في هذا الباب واسعة منها قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)). وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله)). وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه ولا يغيرون إلا أصابهم الله منه بعقاب قبل أن يموتوا)). وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)). وقال أبو بكر الصديق: يأيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: {يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا أهتديتم}. وقد سمعت رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده)). وغير هذا مما يطول ذكره ويشق حصره.
تنبيه:
قد عرفت مما ذكر أن هذا الباب دليله الكتاب والسنة والإجماع لأن المصنف قد أشار إلى الإجماع في أول الفصل لكن لم يُعِد ذكره.
قال الفقيه حميد: وأما الإجماع فهو أنه لا خلاف بين الأمة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جهة القول وإن أختلفوا في ذلك من جهة الفعل كما تقوله الإمامية والدليل قائم على وجوبه من جهة العقل من دون إمام إلا فيما يختص الإمام وخلاف الإمامية لا يعتد به لأن مذهبهم حادث بعد إنعقاد الإجماع من الأمة فتستقيم دلالة الإجماع على كل وجه.
فصل:
قوله: (كان المتقدمون من شيوخنا يطلقون القول بوجوب ذلك إطلاقاً).
أي: يطلقون وجوب الأمر بالمعروف من غير تقييد بأن يكون المعروف واجباً لأن المعروف قسمان: واجب، ومندوب، أو حقيقة المعروف تشملهما كما مر.
قوله: (حتى جاء المتأخرون).
أعلم أنه إذا قيل المتقدمون من المعتزلة فالمراد بهم من هو متقدم على قاضي القضاة وتلامذته، والمتأخرون القاضي وتلامذته ومن بعدهم.
وقال في تعليق الشرح: بل الأقرب أن المتأخرين أبو علي وأبو هاشم وطبقتهما ومن بعدهم والمتقدمون من قبلهم وعليه بنى المصنف فإن أول من فصل في وجوب الأمر بالمعروف الشيخ أبو علي وهو تفصيل حسن وكيف يتصور أن يجب الأمر بما لا يجب على المأمور فعله وعلى هذا التقييد ينبغي أن يحمل إطلاق المتقدمين ولكنه قد نسب إلى الشيخ أبي القاسم تبقية الإطلاق على حقيقته والتصريح بوجوب الأمر بالمندوب وأحتج بحجة ضعيفة وهو أنه قد ورد عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في السنن والرواتب ما يقضي بأن تركها منكر وما كان تركه منكراً وجب الأمر به كقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((لا تدعوا ركعتي الفجر)). وقد ذكر بعض العلماء أنه إذا أطبق أهل بلدة على إهمال السنن وتركها وجبت محاربتهم والمحاربة أقصى ما ينتهى إليه في الأمر والنهي.
وجوابه: أما قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((لا تدعوا ركعتي الفجر)). فالمراد به الحث على فعلهما والتعريف بأنهما سنة مؤكدة وأنه ينبغي الحرص عليهما لعظم ثوابهما ولو حمل النهي على ظاهره فالذي يقضي به وجوبهما فقط ومع ذلك نسلم وجوب الأمر بهما وأما أنه يجعل دليلاً على وجوب الأمر بهما فقط فهذا ما لا وجه له وكما يرد الأمر للندب فكذلك يرد النهي للكراهة لا للتحريم فيكون مؤدى النهي عن الترك كراهته، وأما ما ورد عن بعض العلماء من ذكر قتال من أطبق من أهل البلدان على ترك المندوبات فليس بحجة ويحمل على أن مرادهم من تركها تهاوناً بالفرض وأستخفافاً بها.
قوله: (فأما المنكر فلا ينقسم).
يعني: لأنه قسم واحد وهو ما يستحق عليه العقاب فكله قبيح ولا يدخل فيه المكروه كراهة تنزيه وحكم النهي عنه حكم الأمر بالمندوب فيكون النهي عنه مندوباً.
فصل:
وأختلف الشيخان في هل يدل العقل مع السمع على وجوب ذلك.
قوله: (وقال أبو هاشم لا تدل).
وإلى مثل قوله ذهب قاضي القضاة وأبو الحسين والجمهور وصححه السيد صاحب شرح الأصول.
قوله: (إلا في صورة واحدة وهي أن يلحق أحدنا برؤيته المنكر إغتمام وغيظ).
يعني: على وجه يتضرر بذلك ويلحقه مضض ولا شك أن الغم من أنواع الضرر وزاد القاضي صورة أخرى: وهو أن يفوته بعدم إنكار المنكر تأدية واجب عليه كما إذا أعد مالاً لقضاء دينه فأراد الغير أخذه أو ماء ليتوضأ به فقصد غيره إلى إراقته أو الإنتفاع به غصباً فيجب حينئذ عليه عقلاً أن ينهى عن ذلك لأن تأدية ما وجب عليه لا يتم إلا بنهيه ومدافعته وما لا يتم الواجب إلا به يكون واجباً وقد أعترض ما ذكره أبو هاشم والقاضي بأنه لا معنى لأستثناء الصورتين المذكورتين لأن النهي فيهما لم يجب عقلاً لكونه نهياً عن المنكر بل وجب في الأول إلى لدفع الضرر وفي الثانية لتوقف الواجب عليه وهذا غير ما نحن فيه فإنه لا فرق في الصورتين المذكورتين بين الأمر والنهي وغيرهما فإنه يجب دفع كل ضرر بالأمر والنهي وغيرهما ويجب ما لا يتم الواجب إلا به أمراً ونهياً كان أو غيرها وإنما كلامنا في أنه هل يجب الأمر والنهي لكونهما أمراً بمعروف ونهياً عن منكر عقلاً ويكون هذا هو الوجه في وجوبهما أو لا فأبو علي ذهب إلى ذلك وأبو هاشم منعه ولم يجعل ما ذكر وجهاً في الوجوب فلا معنى لإستثنائه تلك الصورة لأن الأمر والنهي فيها وجباً لوجه آخر لا لذلك الوجه وهذا أعتراض حسن وكلام جيد لا غبار عليه.
قوله: لأنه من باب الإحسان إلى الغير ودفع الضرر عنه أما كونه إحساناً فظاهر لأنه يقوده إلى فعل الطاعة أو ترك المعصية يحصل له نفع عظيم وخير كثير وأما دفع الضرر عنه فلأن المأمور بفعل الواجب وترك القبيح يندفع عنه ضرر العقاب ولما كان الآمر والناهي كالسبب فيما ذكر صار كأنه النافع له ودافع الضرر عنه وإن كان حصول النفع والدفع بفعله لما أمر به وتركه لما نهى عنه.
قوله: (والذي ....... الحال فيه).
يعني: من الوجوه التي تحتملها القسمة على ما يذكره كثير من أصحابنا فإنهم يقولون لو وجب ذلك عقلاً لم يحل إما أن يجب لأمر يرجع إلى الآمر الناهي من كونه آمراً وناهياً وإلى الأمر والنهي من كونه أمراً بالواجب ونهياً عن القبيح أو إلى المأمور به والمنهي عنه وهو كون أحدهما واجباً والآخر قبيحاً أو لمجموع ذلك أو بعضه وكل ذلك لا يصح لأنه كان يجب أن يلزم الأمر والنهي في كل حال وعلى كل إنسان لأن وجه الوجوب قائم في كل حال وفي حق كل إنسان فيجب على الأعيان وكان يجب ألا يرد الشرع بإقرار أهل الذمة على عقائدهم الباطلة ومذاهبهم الفاسدة إذ ما كانت علته قائمة لا يجوز تغير حاله ولا أن يرد الشرع بخلافه كما في الكذب والجهل.
قوله: (لأن الباري تعالى مكلف..) إلخ.
قد يجاب عن هذا بأن وجه الوجوب وعلته إذا حصل في حق الباري تعالى ثبت الوجوب ولزم أن يمنع وإذا بطل التكليف في ذلك المأمور به أو المنهي عنه فلا ضير كما أنه لما وجب المنع من فعل المفسدة التي تصدر من مكلف لكونها مفسدة في حق مكلف آخر وجب ذلك عليه تعالى وإن بطل التكليف في حق ما منع عنه ذلك المكلف.
قوله: (لكن السمع قضى بإقرارهم).
قد أجبت بأنه لو كان وجه الوجوب ما ذكر لم يصح ورود السمع بخلاف مقتضاه كما أن الكذب والجهل لما قبحا لكونهما كذباً وجهلاً لم يختلف الحال فيهما ولم يصح أن يرد السمع بخلاف ذلك فعلمنا أن وجه الوجوب في الأمر والنهي ليس إلا حصول المصلحة لنا فيهما كغيرهما من الواجبات الشرعية والمصالح يجوز أن تختلف بإختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة بخلاف الوجوه العقلية المقتضية للقبح والوجوب فإنها لا تختلف بحال.
قوله: (لأنه لا يمكن القطع من جهة العقل..) إلخ.
يعني: فلا يصح أن يجعل ذلك وجهاً عقلياً يعرف به وجوب الأمر والنهي وإنما يعرف ذلك بالشرع فيكون كوجوب الصلاة والزكاة فإنه وإن كانا لطفين إلا أنه لما لم يعرف ذلك بالعقل لم يكن وجوبهما عقلياً وحيث لم يعرف إلا بالشرع كانا شرعيين وقد أحتج الشيخ أبو علي على مذهبه بوجهين:ـ
أحدهما: أنه لو لم يكن الطريق إلى وجوب الأمر والنهي عقلية لكان المكلف مغري بالقبيح وكمن أبيح له فعله.
وجوابه: أن هذا الكلام في غاية الركة إذ يقتضي أنه لا يجب واجب ولا يقبح قبيح إلا والطريق إليه عقلية وإلا كان المكلف مغرري بالقبيح، والإخلال بالواجب وفي حكم من أبيح له ذلك وهذا فاسد ولا ينبغي أن يعول عليه ولهذا أهمله المصنف.
الوجه الثاني: أنه قد ثبت وجوب الإمتناع عن المنكر فكذلك يجب المنع منه لأن العقل لا يفرق بينهما.
وأجبت: بأنه إذا كان الوجه ما ذكر لزم أن يجب المنع على الله لأن الإمتناع واجب عليه ومثل هذا لا يلتفت إليه.
فصل:
وكيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يبدأ بالقول اللين هو ما يأتي به على طريقة النصح والوعظ والتذكير.
قوله: (وإلا تعداه إلى القول الخشن).
وهو ما فيه غلظة وينطوي على الشتم والوعيد والتهديد.
قوله: (وإلا فالعصا).
وفي حكمها السوط والضرب بالنعال ونحو ذلك.
قوله: (ثم السيف).
أراد القتال لأن الأصح أنه يجوز هنا القتل والقتال سواء كان في الزمان إمام أو لم يكن لأن ذلك من مقتضى النهي عن المنكر إذ الغرض ألا يقع فإذا لم يتم إلا بالقتل جاز وعلته قوله تعالى: {وقاتلوا التي تبغ}.
قوله: (وقد ورد النص..) إلى آخره.
فيه نظر من وجهين:ـ
أحدهما: أن مثل هذه الآية لا تعد من النصوص على ما نحن بصدده بل من الظواهر.
الثاني: دعواه أن الإصلاح يتضمن الكلام اللين والخشن فلا دلالة في ظاهره على ذلك ولهذا فسره جار الله بما لفظه: فالذي يجب على المسلمين أن يأخذوا ببه في شأنهما إصلاح ذات البين وتسكين الدهماء..... الحق والمواعظ الشافية ونفي الشبهة إلا إذا أصرتا فحينئذ تجب المقاتلة.
وأعلم أن الآية في الحقيقة غير دالة على ما أستدل بها المصنف وغيره عليه من وجوب الترتيب لأن ذكر الإصلاح فيما إذا أقتتلت فئتان على سبيل البغي منهما جميعاً وذكر القتال فيما إذا بغت فئة على فئة وكان الباغي إحدى الفئتين فأمر الله تعالى في حق القسم الأول بالإصلاح وأقتصر عليه لكنه يعلم بدليل آخر أنه إذا لم .......صير إلى قتالهما معاً وذكر في القسم الآخر القتال للباغية لكنه يعلم بدليل آخر أنه لا قتال إلا مع عدم جدوى غيره قليتأمل.
قوله: (لأن الآية لم تفصل) إلى آخره.
ظاهره أنه أراد هذه الآية ......... العهد بالذكر وهي قوله تعالى: {وإن طائفتان..} الآية. وهو غير مستقيم وإنما يستقيم إذا قصد بها ما سبق ذكره فيما يدل على وجوب إنكار المنكر فيكون الأحسن أن يقول لأن الآيات المتقدمة وأما هذه الآية فإنها تدل على الإصلاح والقتال لمن بغى.
فصل:
وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شروط.
قوله: (ولأن ذلك يتضمن الخبر..) إلخ.
يعني: أن الأمر أريد بان يفعل كذا لوجوبه بتضمن الأخبار بالوجوب إذ لو لم يكن جاء كما يوجبه لما أمر به وكذلك في النهي فإذا كان الخبر الحسن إلا مع العلم فكذلك ما يتضمنه ويبنى عنه.
قوله: (....... على وجوب الفعل والكف عنه..) إلخ.
فقال: قياسك هذا مخيل لأنه يلزمك أن تساوي الفرع الأصل فيجب على الآمر الناهي أن يأمر وينهى ولو لم يعلم وجوب ما أمر به وقبح ما نهى عنه إذا كان يمكنه العلم وهذا لا يصح فإنه يقبح منه في تلك الحال فلا معنى لهذا القياس المتكلف ولا ملجي إليه ففيما سبق عينه عنه.
قوله: (أليس قد يدخل النكير في مسائل الإجتهاد).
تلخيصه أن يقال: أليس ما يجب علينا فيه الأمر والنهي الأمور الإجتهادية التي طريقها الظن بحث أنا نظن وجوبها أو قبحها ولا نعلم ذلك ومقتضى ما ذكرتم وشرطتم أن يرتفع فيها باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونها غير معلومة وتخليص الجواب إن الظن إنما هو في مسالكها فمتى دلت عليها الأدلة الظنية بعد توفية الإجتهاد حقه صار الوجوب فيها والقبح معلومين لأن دليل وجوب العمل بما أدى إليه الإجتهاد قطعي عندهم ونظيره ما إذا حصلت قرينة تقتضي الظن بأن الطعام مسموم أو أن في سلوك هذه الطريق لحوق ضرر فإنه حينئذ يعلم بالعقل علماً يقيناً وجوب تجنب الطعام والطريق.
قوله: (أما الإنكار على من يكلم امرأة في السوق..) إلخ.
هو جواب لسؤال مقدر تقديره إنه يجب نهي من أيناه يكلم امرأة في السوق أو على قارعة طريق ولا يعلم أن ذلك منكر لجواز أن تكون زوجة له أو محرماً.
قوله: (من حيث وقف موقفه تهمة).
يعني: وقام في مقام ريبة ولا شك في وجوب تجنب ذلك ولهذا بالغ صلى اللّه عليه وآله وسلم في تعريف من مر عليه ليلاً ومعه بعض زوجاته في المسجد بأنها زوجته وقال إنها...... ........
قلت: المار شك مع كونه صلى اللّه عليه وآله وسلم ممن لا تعلق به التهم ولا تتطرق إليه الوهوم وهو الطاهر المعصوم.
قوله: (وينزل منزلة أستدعاء الغير إلى الدين).
يعني: فإنه يحسن وإن علم أن ذلك لا يقع منه.
قوله: (وتكليف من المعلوم أنه يكفر كان الأولى أن يقول....... الله ......... من علم أنه لا يأتمر ولا ينتهي مع أن معنى ما ذكره مستقيم.
قوله: (فهاهنا يجب).
هو الأولى والأرجح ولا معنى لسقوط الوجوب مع أبتداء العلم والظن لعدم التأثير فإن المانع وهو علم عدم التأثير أو ظنه منيف والأصل والذي تقضي به الأدلة الوجوب مطلقاً.
قوله: (الثالثأن يعلم أو يغلب في ظنه..) إلى آخره.
قد يذكر هذا الشرط على وجه آخر وكيفية هي أوفق وهو أن يقال أن يعلم أو يغلب على ظنه أنه إن لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر أدى إلى تضييعهما نحو أن يرى آلات الملاهي المعتادة موضوعة والخمر حاضراً ومن يريد الشرب واقفاً أو يشاهد الغير لم يصل مع إن وقت الصلاة قد أذن بالزوال.
قوله: (والأمر بالتوبة عنه ونحو ذلك).
يعني: مما يكون فيه دعاء له إلى الإقلاع ومعرفة خطابه فيما أقدم عليه كان يعرفه بما يفضي إليه تلك المعصية والإقدام عليها والإصرار وعدم الإستغفار وما ينال بالتوبة من الفوز بالجنة والنجاة من النار.
قوله: (قيل: له المعرفة حاصلة من قبل).
يقال: ليس هذا على سبيل الإطلاق فقد يكون من مرتكبي المنكر من هو غافل عن الله غير عالم بحدود الله وقد يكون قريب العهد بالإسلام فمن كان كذلك فلا كلام في حسن تعريفه أو وجوبه.
قوله: (وأختلفوا في الوجوب).
القياس ثبوت الوجوب لأنه إذا علم إجتماع جماعة لشر الخمر في دار وحضوره عندهم ولم يعلم هل قد شربوا أو فرغوا من العلم أو لا فالأفصل عدم ذلك ويوجه الوجوب وعدم المسقط.
قوله: (ينزل به أو بأطرافه).
قال الفقيه حميد: ومن ذلك نحو الضربة والجنس الطويل.
قوله: (أو بماله المجحف).
قال الفقيه حميد: والمجحف بحاله ما يؤدي إلى هلاكه أو يدنو من ذلك من المشاق العظيمة وما لم يؤد إلى ذلك لم يسقط الوجوب كما لا يسقط وجوب الجهاد لمكان ما يتحمله من المؤن التي ..... في ماله وكذلك هاهنا.
قوله: (ونحو ذلك).
يعني: الإفطار في واجب الصوم وترك الصلاة حتى يخرج وقتها وغير ذلك.
قوله: (وذكر السيد في شرح الأصول..) إلى آخره.
قال ما لفظه: وفي هل يحسن ينظر فإن كان الرجل ممن يكون في تحمله لتلك المذلة إعزاز للدين حسن وإلا فلا وعلى هذا يحمل ما كان من الحسين بن علي عليهما السلام لما كان في صبره على ما صبر إعزاز لدين الله عز وجل وعلى هذا نباهي به سائر الأمم فنقول لم يبق من ولد الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم إلا سبط واحد فلم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى قتل في ذلك.
قوله: (والأقرب أنه لا فرق بين ما فعله الحسين وما يفعله غيره).
يقال: بل الفرق ظاهر لأن صدور ذلك ممن يقتدى به ومن له رتبة عالية ليس كصدوره ممن لا ينظر إليه ولا يلتفت عليه.
قال الفقيه حميد: فإن كان ممن يقتدى به حسن منه ذلك وإن أدى إلى هلاكه وعلى ذلك جرت أحوال كثير من أئمتنا عليهم السلام نحو الحسين وزيد ومن حذا حذوهما فإنهم قاتلوا في قلة من الأنصار حتى أدى إلى أستئصال شأفتهم فصاروا قدوة للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر من بعدهم وقد رجع المصنف في آخر كلامه إلى الإعتراف بالفرق لكن بنى على أنه لا فرق في حسن ذلك سواء صدر ممن له منصب الأقتداء أو لا.
قوله: (فقال تعالى حاكياً عن لقمان إلى قوله {واصبر على ما أصابك}).
أراد أن هذه الآية الشريفة دالة على حسن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن أدى إلى أن يصاب لأنه أمر بالصبر على ذلك وهذا بناء على أحد تفسيرتها وهو أن المراد الأمر بالصبر على ما ناله من الأذى بسبب أمره ونهيه لأنهما مطيتان لذلك. والتفسير الثاني: أن المراد بالأمر بالصبر مطلقاً ذكر المعنيين في الكشاف.
قوله: (يؤدي إلى تضييع معروف آخر).
كان الأولى أن يقول: يؤدي إلى ترك واجب آخر لأنه لو أدى إلى ترك مندوب لم يضر ذلك ولا يمنع وجوب الأمر بالواجب.
قوله: (ولا يوصف الآمر الناهي بأنه معين له).
يقال: صحيح ذلك وأما أن أمره ونهيه في حكم المفسدة لدعائه إلى فعل القبيح أو ترك الواجب فليس هذا جواباً عنه وظاهر كلام السيد في شرح الأصول أنه لا يشترط إلا ألا يؤدي إلى مضرة أعظم منه ومثله بما إذا علم الناهي عن شرب الخمر أو غلب على ظنه أنه نهيه يؤدي إلى قتل جماعة من المسلمين أو إحراق محلة فلا يجب حينئذ ولا يحسن. وأما الفقيه حميد: فجعل الشرط ألا يؤدي إلى منكر آخر أو ترك معروف واجب مطلقاً فيسقط الوجوب والحسن لأنه يكون حينئذ مفسدة وقد أحسن المصنف البيان وجود في النقل فليوف الناظر النظر حقه.
فصل:
أعلم أن المعروف والمنكر ضربان:ـ
قوله: (أحدهما: يكون ضرورياً ظاهراً).
وذلك نحو وجوب رد الوديعة وشكر المنعم وقضاء الدين في العقليات ووجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج في الشرعيات وقبح الظلم والكذب في العقليات وقبح شرب الخمر والزنا في الشرعيات.
قوله: (والثاني: لا يكون ظاهراً بل يجوز خفاؤه).
وذلك نحو العقائد الفاسدة في المسائل المختلف فيها وظاهر كلام المصنف أن من هذا القبيل أيضاً ما يجب ويقبح من الأعمال الظاهرة وليس معلوماً من ضرورة الدين بل يجوز خفاؤه على المأمور به أو المنهي عنه وقد صرح من بعد بوجوب تقديم التعريف فيه.
قوله: (فهذا لا يحسن الأمر والنهي فيه إلا بعد التعريف).
أخبار المصنف أنه لا بد من البيان والتعريف قبل الأمر والنهي إلى هذا مال الفقيه حميد فإنه قال بعد ذكر النهي عن الإعتقادات الفاسدة: والنهي لا يكتفي به في هذا الباب بل لا بد من أن يبين له أن هذا الإعتقاد خطأ وأن تركه يجب لأن إزالته عن أعتقاده في هذه الصورة من غير أن ينصح أنه باطل بعيد ولأنه يروم منه أعتقاد خلاف ذلك المذهب وأعتقاده من دون دلالة تدل عليه قبيح فيقبح منه أن يأمره بذلك لأنه يكون أمراً بالتقليد.
قال في تعليق الشرح: وكلام قاضي القضاة يقضي بأنه ينهى عن ذلك وينكر عليه فيه وإن لم يبين له.
وجه الحجة: كما في غيره من القبائح التي من أفعال الخوارج ولأنه ممكن من العلم بقبحه.
قال: والأولى التفصيل فإن كان المنهي قريب العهد بالإسلام أو من لم يمارس الأدلة ووجوه الحجج وجب أن يبين له الدلالة على بطلان ما هو عليه وصحة ما يدعوه إليه وإن لم يكن كذلك لم يجب بل عليه أن ينظر في الأدلة ونظره فيها على الوجه الصحيح يقوده إلى الصواب فإن لم ينظر فقد أتى من جهة نفسه.
قوله: (** مؤخر ** ويكون مؤيداً لما ذكرناه يقال: ليس مؤيداً له لأن هذا النوع لا يتوقف على فعل ........ لفاعله فليس من ذلك القبيل والإتفاق حاصل هنا على أنه يصح ...........**
قوله: (فقال بعضهم لا يتصور الإكراه في ذلك).
هذا هو إختيار الإمام المنصور وصححه الفقيه حميد وذلك لأن الصلاة لا تكون صلاة على الحقيقة إلى بالنية فإذا عزبت عنها لم تكن صلاة فلا تكون حسنة وقد ثبت أن النية لا تصح بالأكراه عليها فلا يصح الإكراه على ما يحتاج إليها وفي حكم الصلاة الوضوء والصيام والتيمم والحج ونحوها.
قوله: (وقال بعضهم يتصور الإكراه في ذلك).
هذا يقتضي به مذهب الهادي عليه السلام أن تارك الصلاة عمداً......... ثلاثاً فإن تاب وإلا قتل.
ومذهب المؤيد بالله أنه يحبس ويضيق عليه لأن مثل ذلك لا ثمرة له إلا طلب فعلها منه وإن يضطر إلى ذلك فلولا صحة الإكراه لم يحسن إلى ذلك.
قوله: (أحدهما لا يكون الإجتهاد محال فيه).
يريد به ما كان وجوبه أو تحريمه قطعياً ولا يعلم من ضرورة الدين كوجوب غسل الوجه في الوضوء وقبح الكذب الذي فيه نفع.
قوله: (بعد التعريف).
يعني: بوجوبه أو قبحه إقامة الدليل على ذلك ولا يحتاج إلى معرفة حال فاعله لأنه مما لا يختلف الوجوب فيه والتحريم بإختلاف الإجتهاد بل الحكم فيه واحد في حق كل مكلف.
قوله: (وعلى الحنفي أن ينهى الشفعوي في شربه).
يعني: لأن العبرة في هذا بحال الفاعل لا بحال الأمر والمنكر فالشافعي إذا فعل ذلك مرتكب المحظور عنده لكونه مذهبه تحريمه وعند الحنفي لأن الحنفي يرى تحريمه على الشفعوي ويفتي بذلك وإن أستحله هو.
قوله: (إما لفقد العلم أو للتساهل في النظر).
يعني: فقد العلم المعتبر في المجتهد الذي بحق له أن يقلد ويتبع لأجله أو لعدم الثقة به بأن لا يكون من أهل التحري فيتساهل في النظر بألا يوفيه حقه.
قوله: (فإذا عدل المجتهد أو المقلد عما كلفاه في المسألة الذي يكلفه المجتهد أن يوفي النظر حقه ويبحث عن الأدلة ولا يقصر في إجتهاده ولا يخالف ما أداه إليه).
والذي يكلفه المقلد أن يقلد المجتهد العدل بعد أن يحصل له الطريق إلى علمه وعدالته على ما ذلك مبين في موضعه من أصول الفقه.
قوله: (بل هو حلال عندك).
أي: حلال له عندك لا لك.
تنبيه:
إعلم أنا سلكنا في هذا الباب مسلك الإيجاز ولم نبسط القول فيه ولا عولنا على إستيفاء ما يورده أصحابنا فيه ضمن مصنفاتهم في علم الكلام وألغينا فصولاً يذكرونها في ما يتغير حاله بالإكراه وما لا يتغير وفيمن أعتقد أعتقاداً ثم ظهر له فساده وكونه خطأ باطلاً ما الذي يجب عليه وفي المفتي إذا أخطأ ما الذي يلزمه وفي الحاكم إذا أخطأ في الحكومة ونحوها لأن في ذلك ....... في الخروج إلى فن آخر وتعرضاً لما لا يعني فيما نحن بصدده وله كتب آخر يلتمس منها وفن آخر والله ولي التوفيق.
بسم الله الرحمن الرحيم
في أحوال الأئمة عليهم السلام في حق الصحابة رضي الله عنهم.
هذا باب بسط فيه المصنف وأستوفى الكلام عليه وأنصب بسرعة ورغبة وصدق همة وشدة إلتفات إليه وقد أفاد وأجاد ووفى بحق الصحابة الأمجاد ويمكن ......... من وجهين أمرهما يسير:ـ
أحدهما: أنه أتى بهذا الباب في غير موضعه المعتاد اللائق به والقياس أن يؤتى به في أحد موضعين إما في الكلام على التفسيق لأنه أليق به وأعرق فيه إذا هم ما في هذا الباب الذب عن تفسيق الصحابة والرد على من فسقهم أو كفرهم وذكر الشبه في ذلك والأجوبة عنها وذكر ما يدل على خلاف ذلك من الآيات والأخبار عن المصطفى المختار والآثار عن الأئمة الأطهار وهذا هو الذي أعتمده الإمام عماد الإسلام يحيى بن حمزة فإنه ذكر ذلك في باب التفسيق لأنه باب يذكر فيه تفسيق من فسق من الأمة صحيحاً كان أو فاسداً وإما أن يذكر في باب الأمة ويستدعيه منه الكلام في إمامة أمير المؤمنين وذكر أنه أحق بالإمامة ممن تقدمه وحكم من تقدم عليه وأغتصب حقه كما يعتاده الأصحاب في كتبهم وأحسن ما يعتذر به المصنف أنه تحاشى عن ذكر هذه النبذة في باب التكفير والتفسيق صيانة لمكان الصحابة ومحلهم عن أن ينظموا في عداد الطوائف المرمية بالفسق والكفر ولم يدخلها في مسألة إمامة أمير المؤمنين وتوسطها فيها لطول الكلام في هذه النبذة وإتساع شأن الصحابة إلى أن ينقضي الكلام على الإمامة فإن الكلام فيها أهم وأقدم وهذه النبذة من لواحقها وتوابعها والإختلاف الواقع في شأن الصحابة بسببها ولأجلها.
الوجه الثاني: من وجهي المنافسة والمصنف ترجم هذا الباب بأن قال: الكلام في أحوال الأئمة في حق الصحابة. ثم رتبه على أربعة أبواب:ـ
أولها: شبه المفسقين على الجملة.
الثاني: في الرد على الطاعنين في كل واحد على إنفراده.
والثالث: فيما ورد من النهي عن سبهم.
والرابع: في تزكيتهم والترضية عنهم.
وهذه الأبواب المذكور غير ما تقضي به الترجمة وأمور خارجة عنها وإنما أتى بالكلام في أحوال الأئمة في آخر فصل من فصول الباب الرابع فهذا كلام لا تلائم بين جملته وتفصيله وترجمته وحصيله ولو أنه قال: الكلام في أحوال الصحابة لكان حسناً لا بأس به وكذلك لو أنه قال: الكلام في أحوال الأئمة في حق الصحابة فذكر ما ورد عن الأئمة فيهم من حسن الثناء ثم عقبه بذكر من خالف هذه الطريقة وبنى في أمرهم على غير حقيقة بفسقهم وحظهم عن منزلتهم ثم أحتج عليهم بما ورد من الآيات والأخبار ثم ذكر شبههم وأجاب عنها وأيضاً فإن في قوله: (الصحابة). والأتيان بهذه اللفظة العامة لكل صحابي نظر فإن الكلام هذا من أوله إلى آخره إنما هو في شأن المشائخ الثلاثة ثم ذكر أمير المؤمنين على جهة الإستطراد فيما نال سائر الصحابة وإن كان في أدلة التزكية والترضية ما يشملهم وإنما أوردها من أجل الخلفاء لكونهم يدخلون فيها دخولاً أولياً وأما سائر الصحابة فغير مقصودين.
وأعلم أن الإمام يحيى عليه السلام ذكر هذه الأبواب والأنواع في باب التفسيق من كتابه التحقيق وأحكم في نظمها غاية الإحكام حتى أفرغها في قالب الألتئام وجعلها ثلاث مسائل:ـ
المسألة الأولى: في التصفح لما وقع في الصدر الأول من الخلاف هل يوجب الكفر أو الفسق أم لا. وذكر الخلاف في ذلك ثم قال: وحقيقة المسألة لا تصفو إلا ببيان كيفية التنصيص على إمامة أمير المؤمنين ثم بيان حكم من خالف هذه النصوص فهذان مطلبان، ثم ذكر المظلمين وأستوفى الكلام عليها بياناً للمذاهب وذكر الأدلة والأسئلة والأجوبة والشبه وحلها وأبطالها.
المسألة الثانية: في بيان ما أورد من المطاعن التي توجب تفسيق المشائخ الثلاثة ثم ما يتعلق بأمير المؤمنين وأستوفى الكلام على ذلك وأجوبة ما أورد منه.
المسألة الثالثة: في إقامة البرهان على التزكية للصحابة وأختصاصهم بالعدالة وجعلها أربع مراتب:ـ
الأولى: فيما ورد من الآيات القرآنية.
الثانية: من الأخبار النبوية.
الثالثة: من جهة الطرق الإعتبارية.
الرابعة: من جهة الآثار المروية.
ومن كلام الإمام يحيى أخذ المصنف رحمه الله ما أورده ولكنه ما رتبه على ما رتبه بل خالف في الترجمة والسياق فما طابق كل الطباق والأمر قريب وما مثل ذلك ترتيب والله الموفق.
قوله: (فتارة يكفرون وتارة يفسقون).
أعلم أنه لا خلاف عند أهل التحقيق من أئمة الزيدية والمعتزلة ونظار الأشعرية في أن الخروج على إمام الحق بغياً وعدوناً وإبطال إمامته والطعن فيه والقعود عن نصرته والتخذيل عنه وترك الإعانة له على أمره مع التمكن من غير عذر فسق لمخالفة الإجماع المنعقد على ذلك وأما الجهل بإمامته وإدعاء الإمامة لغيره والجلوس مجلس الإمام من غير أمر منه ومخالفته في ذلك كما كان من المشائخ الثلاثة في حق علي عليه السلام فهل يكون كبيرة أم لا فيه مذهبان:ـ
المذهب الأول: إنه من جملة الكبائر وأختلف هؤلاء هل يكون كفراً أو فسقاً فمذهب أكثر الإمامية ونسب إلى الصباحية من الزيدية أنه كفر. وحكي عن بعض الإمامية وعن الجارودية من الزيدية أنه فسق وإلى هؤلاء أشار المصنف بقوله: (فتارة يكفرون وتارة يفسقون) وفي غيار ........... أن التكفير صادر عمن صدر عنه التفسيق وإنما يقولون تارة بهذا وتارة بهذا وليس كذلك وإنما أراد ما ذكرناه من أن منهم من يكفر ومنهم من يفسق.
المذهب الثاني: أن ما ذكر لا يعد كفراً ولا فسقاً.
قال الإمام يحيى: وهو رأي أهل التحقيق من أئمة الزيدية والمعتزلة. قال: وهو المختار.
قوله: (ولعل المزري عليهم).
كان الأولى أن يقول: المزري بهم من الأزراء وهو التهاون يقال: أزريت به إذا قصرت به ولو ..... أي حقرته والزاري عليهم والزاري على الإنسان الذي لا يعده شيئاً وينكر عليه فعله والزاري أيضاً الغائب الساخط.
قوله: (أما لاباب الأول).
وهو في الجواب عما ذكروه في فسق الصحابة لم يعتد المصنف بما يذكر في تكفيرهم رضي الله عنهم لتناهيه في الضعف وإفراطه في الفحش وكيف يرمي بالكفر أرسخ الناس إيماناً وأشدهم فيه أركاناً.
وأعلم أن مدار الخلاف هنا على الخلاف في النصوص الواردة في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام فمن قال: بأنها جلية فمخالفتها لا محالة تكون كبيرة إما كفراً كما زعمته الإثنا عشرية وبعض فرق الزيدية، وإما فسقاً كما يزعمه بعض الإمامية وبعض الزيدية كما تقدم تقريره.
ومن قال: بأنها خفية يعلم المراد منها بنوع من الفكر والنظر.
قال الإمام يحيى: فنهاية الأمر فيه الخطأ من غير كفر أو فسق. قال: وهذا هو المختار عندنا وعليه الأكابر من علماء العترة.
قوله: (أكثر ما يقتضي إن صح أنهم أخطئوا).
هذا يقضي بالشك في خطأهم ولا قائل بذلك من أصحابنا.
قال الإمام يحيى: وهو أكثر الأئمة مبالغة في تحسين أمر الصحابة فوجدنا الذي يقطع به هو الخطأ لا غير ذكره في تحرير هذه الدلالة التي أوردها المصنف.
قوله: (وبشارتهم بالجنة).
يشير إلى ما ورد من أخبار النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بدخول أصحابه العشرة الجنة وهم الخلفاء الأربعة وعبدالرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بن عمرو بن مقبل وطلحة والزبير ونظمهم الشاعر في قوله:ـ
علي والثلاثة وابن عوف وسعد منهم وكذا سعيد
كذاك أبو عبيدة فهو منهم وطلحة والزبير ولا مزيد
ولفظ الحديث المأثور فيهم وهو من رواية سعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: ((أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وسعد بن مالك في الجنة وعبدالرحمن بن عوف في الجنة)). وسكت عن العاشر، قالوا: ومن هو العاشر؟ قال: سعيد بن زيد. يعني نفسه. أخرجه أبو داود والترمذي وفي رواية أشهد على رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم أني سمعته وهو يقول: ((عشرة في الجنة النبي في الجنة وأبو بكر في الجنة..)). وذكر الحديث ولم يذكر أبا عبيدة.
قوله: (يوضحه أن في العلماء من ينكر القياس رأساً وخبر الواحد والتضرر في هذا الإنكار..) إلخ.
هذا كلام قلق غير مأنوس وكان الأحسن أن يقول: يوضحه أن في العلماء من ينكر القياس رأساً فضلاً عن أن يكون عنده حجة قطعية يؤخذ بها في التفسيق. ولو قال: يوضحه أن المخالف في هذه المسألة المورد لهذه الشبهة وهم الإمامية ينكرون القياس لكان أرجح وأوضح وأما خروجه إلى أن إنكار القياس ونحوه ضرره أكبر من الضرر في سرقة عشرة دراهم وهو لا يفسق به فكان التمثيل بغير هذا أنسب وأثبت لكنه أخذ ذلك من كلام الإمام يحيى عليه السلام فإنه جعل هذا وجهاً مستقلاً في جواب هذه الشبهة.
قال ما لفظه: وأما رابعاً: فلأن الضرر في إنكار القياس وخبر الواحد والإجماع أضر من سرقة عشرة دراهم والمعلوم من حال العلماء من أئمة الزيدية والمعتزلة أنهم لم يفسقوا من خالفهم في هذه الأصول كأهل الظاهر في إنكار القياس ولا من دفع خبر الواحد ولا فسقوا إبراهيم النظام في إنكاره الإجماع ولو كان أعتبار الضرر صحيحاً في التفسيق لوجب تفسيق من ذكرناه.
قوله: (فما المانع أن يكون تصرفهم على وجه الصواب..) إلخ.
قال الإمام يحيى: وينزلون في ذلك منزلة من قام للإمامة وبويع له بعد بيعة غيره وجهلاً بذلك ولم يتحقق الحال ثم لا يقول أن تصرفه كان خطأً بل يكون معذوراً في تصرفه فهكذا هاهنا.
قوله: (وبعد فقد سئل أمير المؤمنين عن الذين تخلفوا عنه أيام صفين..) إلى آخره.
هم سعيد بن أبي وقاص وابن عمر وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة هؤلاء هم المشهورون بذلك وأقتصر الإمام يحيى عليهم فلم يذكر غيرهم وذكر غيره أن منهم زيد بن ثابت وسعيد بن زيد بن عمرو بن مقبل وترجم عنهم الإمام يحيى بأن قال:
المسألة التاسعة: في حكم من تأخر عن أمير المؤمنين على جهة التوقف من غير بغي ولا محاربة وحكى عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه لما بلغه تخلفهم قام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس إنكم بايعتموني على ما بويع عليه من كان قبلي وإنما الخيار للناس قبل البيعة فإذا بايعوا فلا خيار لهم ألا وإن عليَّ الإستقامة وعلى الرعية التسليم وهذه بيعة عامة من ردها رغب عن دين المسلمين وأتبع غير سبيلهم وإنه لم يكن بيعتكم إياي فلتة وقد بلغني عن عبدالله بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة أمور كرهتها والحق بيني وبينهم في ذلك ثم نزل عن المنبر وبعث إليهم ومع الناس عليهم، وقال: بلغني عنكم أمور كرهتها ولست أكرهكم على القتال بعد بيعتكم إياي فأخبروني عن السبب الذي أبطئكم عن الدخول فيما دخل فيه المسلمون وما الذي تكرهون من القتال معي أليس قد بايعتم أبا بكر وعمر وعثمان؟
قالوا: بلى.
قال: فأخبروني لو أن معاوية وعمرو بن العاص قاتلاً واحداً من الخلفاء أكنتم تقاتلون معه؟
قالوا: نعم.
قال: فلم تكرهون القتال معي، وقد علمتم أني لست بدونهم ولو أشاء أن أقول لقلت فأخبروني عنكم هل تخرجون عن بيعتي؟
قالوا: لا والله ولكنا نكره معك قتال أهل الصلاة.
فقال لهم: إن أبا بكر قد أستحل قتال أهل الصلاة ورأى عمر مثل ما رأى أبو بكر.
قال ابن عمر: نشدتك الله الرحم أن تدخلني فيما لا أعرف ثم أنصرف القوم.
وقيل: إن عمار بن ياسر رضي الله عنه أستأذن أمير المؤمنين في مكالمة ابن عمر فأذن له، فقال: يابن عمر إنه قد بايع علياً من المهاجرين والأنصار من إن فضلناه عليك لم تغضب وإنما أنكرت قتال أهل القبلة بالسيوف قد علمت أن القاتل يقتل بالسيف والمحصن يرجم بالحجارة، وما قاتل علي من أهل الصلاة إلى من لزمه من حكم القتال ما لزم هؤلاء.
فقال ابن عمر: والله ما أختار الدنيا وما فيها بأن أظهرت عداوة علي يوماً وأضمرت بغضه ساعة واحدة.
وقال: إن عمر جمع أهل الشورى فكان أحقهم بها في نفسي علياً وهو اليوم على ما كان عليه بالأمس غير أنه جاء أمر فيه السيف فصفحت عنه.
فقال عمار: يعلمون ولا يعلمون.
ثم استأذن في مكالمة محمد بن مسلمة فلما كالمة.
قال محمد: إنه لو لا ما في يدي من رسول الله لبايعت عليهاً ولو أن الناس مالوا جانباً ومال علي جانباً لكنت معه.
أشار محمد إلى ما سمع عن رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم مما يقضي بمنع قتال أهل الصلاة فإنه قال: أمرني رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم أن أقاتل بسيفي ما قوتل به المشركون فإذا قوتل به أهل الصلاة فأضرب به صخرة حتى تكسره فقد كسرته بالأمس.
ونقل أن أمير المؤمنين عليه السلام قال في حقه: مفتون يعاتب وإن أمر ......
بعد ذلك قال لعمار: دع عنك هؤلاء الرهط الثلاثة، أما ابن عمر فضعيف في دينه، وأما سعد فحسود، وأما محمد بن مسلمة قد بنىء الله أني قتلت قاتل أخيه مرحباً اليهودي يوم خيبر.
قلت: وهذا يؤيد ما يرويه أصحابنا أن علياً عليه السلام هو قاتل مرحب ولعله أراد أن محمد بن مسلمة حسده لذلك وغاضه إن لم يكن هو قاتله ليتولى النقم بثأر أخيه محمود بن مسلمة فقد كان قتل عند أفتتاح أول حصن من حصون خيبر ألقيت عليه رحاً فقتلته، وأما ابن هشام فالذي ذكره في سيرته أن محمد بن مسلمة هو قاتل مرحب.
قال الإمام يحيى: وأعلم أنه لا خلاف أن ابن عمر وسعداً ومحمد بن مسلمة لم يمتنعوا من البيعة والرضا بإمامته وإنما أمتنعوا من المقاتلة معه لأهل القبلة ولم يشدد عليهم أمير المؤمنين في المقاتلة بل تركهم على حالهم من الشبهة وإن كان قد نسبهم إلى ضعف في الدين والبصيرة وقد رويت عنهم هذه المعاذير المذكورة فإن كان عليه السلام قد قبلها منهم فلا عيب عليهم في الأعتزال والتخلف لرضاه فأسقاط ذلك عنهم وإن ثبت أنه ألزمهم الخروج معه ولم يعذرهم في التخلف فنكصوا فما هذا حاله لا يبعد أن يكون كبيراً لأن كل من أمره الإمام بأمر ثم خالفه بعد أن ضيق عليه فيما تلزمه فيه الطاعة والإنقياد فلا يبعد فسقه وأنه بمنزلة البغي عليه.
قال عليه السلام: والظاهر من حالهم والذي نرتضيه في حقهم أنه لم يضيق عليهم أمر الخروج معه بل عذرهم لما عرض لهم من الشبهة في ذلك فلا يفسقون بالقعود والتخلف عنه.
قلت: وقد تظاهرت الروايات على توبة ابن عمر وندمه على ترك الجهاد مع أمير المؤمنين وأشتد أسفه على ذلك حتى قال: ما أتأسف على شيء تأسفي على أني لم أشهد معه المشاهد.
وحكى الحاكم في شرح العيون: أن أمير المؤمنين أذن له في التخلف.
تنبيه:
الذي تقدم من الروايات المذكورة في شأن أولئك الرهط فيه ما يقضي بأنهم غير متوقفين في إمامة أمير المؤمنين وإنما توقفوا في جواز حرب أهل القبلة مع أعتقادهم لإمامته وإلتزامهم لبيعته وتقدم أن الإمام يحيى عليه السلام روى الإتفاق على ذلك وعدم الإختلاف فيه ورجح الإمام المهدي عليه السلام ما روى أنهم متفقون في الإمامة ومتأخورن عن البيعة وذكر أن هذه الرواية أظهر من الأولى وأشهر ولا أعلم مستنده في ذلك.
قال الإمام يحيى عليه السلام: لم يقع الخلاف في شأن أمير المؤمنين عليه السلام إلا بعد إنعقاد إمامته لأمور:ـ
أما أولاً: فلأنه قسم بينهم بالسوية ولم يفضل أحداً على أحد فغضب أقوام وأنكروا ذلك.
قلت: أشار إلى طلحة والزبير ومن حذا حذوهما.
قال: وأما ثانياً: فلأنه دفع إلى محاربة أهل القبلة فضعفت بصائر قوم عن قبول ذلك وأنكروه.
قلت: أشار إلى ابن عمر ومن حذا حذوه.
قال: وأما ثالثاً: فلما كان من أمر عثمان وكل هذه أمور عارضة لا تقدح في صحة إمامته بعد ثبوتها واستقرارها بالنصوص الواردة فيها وبما كان من إجماع المسلمين على بيعته.
قوله: (الشبهة السادسة).
قوله عليه السلام: ((من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية))..) إلى آخره.
تلخيص ما قالوه أن ذلك يدل على أن كل من جهل إمامة الإمام مات ميتة الكفار من الجاهلية وفي هذا أوضح دلالة على كونه مخالفاً للدين وخارجاً عنه.
قوله: (وقد أجمع أهل التحقيق على أن معناه..) إلى آخره.
لا يعرف مستند المصنف فيما ذكره وكيف يحمل على معرفة الشروط وقد قيده بالزمان فقال: ((إمام زمانه)). فإن الشروط شروط في الإمام مطلقاً لا في إمام زمانه فقط والذي رواه الإمام يحيى عن العترة أن المراد وجوب معرفة داعي الوقت .......... مع الكمال. وقيل: أراد القرآن. وقيل: أراد علياً عليه السلام.
قال الإمام يحيى: وفيهما تعسف ذكره في البحر.
قوله: (بدليل أنه يجوز خلو الزمان عن إمام).
ليس في حمله على معرفة الإمام نفسه ما يمنع عنه ذلك لأن المراد من لم يعرف إمام زمانه الموجود لا غير الموجود.
قوله: (وأكثر ما فيه أن يكون أعتقادهم خطأ).
هذه عبارة تقتضي الشك في التخطئة وقد سبق أن الخطأ مقطوع به وقاعدة المصنف تقتضيه.
قوله: (وليس فيه أنه يموت كافراً أو فاسقاً).
قال الإمام يحيى: لأنه لم يقل من جهل إمامته للإمام فهو كافر أو فاسق وإنما قال: إنه يموت على خلة من خلال الجهل وقد يكون الرجل جاهلاً بالحق وهو غير فاسق ونحن نقول بموجب الخبر وهو أن الواجب أن يعرف الإنسان إمام زمانه لأن الجهل به قبيح ولا يأمن أن يكون مع الجهل قبيحاً مخلاً بما هو واجب عليه.
قوله: (ولهذا لا يقطع أهل التحقيق..) إلخ.
بناه على أن المراد بمعرفة الإمام معرفة شروطه.
قوله: (ومن آذى الله يوشك أن ينتقم منه).
مضارع أوشك أي أسرع في السير إيشاكاً.
قال الجوهري: ومنه قولهم: يوشك أن يكون كذا.
قال الإمام يحيى: وفي حديث آخر: ((ومن آذى الله لعنه الله)). قالوا فظاهر الخبر يدل على أن أذية علي كأذية الله ورسوله فأدنى درجاته أن يكون فاسقاً ومن أخذ حقه فقد آذاه إذ لا أذية أعظم من أخذ الحق على صاحبه.
قوله: (ونحو ذلك).
يعني: من الدعاء لهم باسم الخلافة والخروج مع بعضهم في بعض مغازية وأخذ نصيبه من الفيء والترحم عليهم.
الباب الثاني: في الجواب عما طعنوا به على كل واحد من الص1حابة
والمراد هنا بالصحابة المشائخ الثلاثة فكان الأولى عدم الإتيان بهذا اللفظ العام فليس المراد من عدده الكثير وما هو من أفراده الجم الغفير إلا ثلاثة فقط.
قوله: (في فدك).
قال الجوهري: هي قرية بخيبر.
وقال الإمام يحيى: هي قربات أفأها الله على رسوله من غير إيجاف عليها بخيل ولا ركاب.
وكان رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم ينفق مما يرتفع من غلاتها إليه على نفسه وخاصته ثم توفي صلى اللّه عليه وآله وسلم وهي في يده على هذه الصفة وقد ذكر في عدد قرى فدك أنها سبع وذكر في تقدير غلتها أنها كانت في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار. وأعلم أن وجه الظعن بقضية فدك من جهتين:ـ
أحدهما: أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم ....... فاطمة عليها السلام لأنها أدعت ذلك وهي صادقة في دعواها لعصمتها فيكون قولها حجة ولأنها جاءت بشهادة ثانية على ذلك وهي شهادة علي عليه السلام وأم أيمن فيكون أبو بكر ظالماً لها لأنه أخذ مالها من غير حجة ظلماً وإذا كان الفسق يقع بأخذ عشرة دراهم فلأن يقع بأخذ أموال كثيرة أولى وأحق.
الجهة الثانية: دعواها لفدك بسبب الأرث من أبيها وهو ثابت بنص القرآن وقد أشار المصنف إلى الجهتين في أثناء جوابه.
قوله: (فعدلت إلى دعوى الإرث).
هذا أحد أقوال ذهب إلى كل منها طائفة من العلماء وأهل التاريخ.
القول الثاني: أن فدك كانت في يد رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى أن مات ثم تناولها أبو بكر بعده ولم يتفق من فاطمة عليها السلام منازعة فيها لأبي بكر وإنما راجعته في ذلك على جهة الإستخبار فلما عرفت جوابه سكتت وأعرضت عن ذلك وكفت.
القول الثالث: قول من قال: إنه أخذ فدك ظلماً ورد فاطمة رداً يوجب الفسق.
قوله: (سواء كان الخبر ناسخاً أو مخصصاً).
يعني: لآية المواريث القاضية بأن كل ميت يورث من نبي وغيره فإن جعل التوريث من الأنبياء مشروعاً في الأصل ثم رفع فهذا معنى النسخ وإن جعل غير مشروع وجعلوهم غير مرادين في آية المواريث وإنما شملهم اللفظ فورد الخبر لبيان ما أريد من عدم دخولهم فهو مخصص.
قوله: (جواز أن يكون في أفعالها ما هو صغير).
يعني: فليس دعواها لما أدعته حيث لا صحة له مما يقطع بكثرة.
قوله: (فكيف يغلب على ظن أبي بكر صدق الخبر).
هذا كلام مختل لأن ظاهر الأمر أن أبا بكر أدعى أنه سمعه من رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم وإنما يصح هذا لو أنه رواه له غيره.
قوله: (ويجعله مخصَّصاً).
هو بفتح الصاد الأولى، يعني: لعموم الخبر الأنبياء وإخراج الآية بعضهم فهي مخصصة له وهو أيضاً مخصِّص بكسر الصاد الأولى لآية الميراث الشاملة للأنبياء وغيرهم.
قوله: (لما قرره أمير المؤمنين عليه السلام حين أنتهى الأمر إليه).
هذا هو الظاهر من الروايات وأخبار التواريخ وما يؤكده ما روي أن عبدالله بن الحسن بن الحسن أراد من السفاح العباسي بعد تملكه وهلاك بني أمية أن يرد فدك إلى أولاد فاطمة وقال: ناشدتك الله إلا أوفيتنا حق أمنا فأجاب السفاح عليه بمناشدته الله هل صار إلى علي بعد عثمان.
قال: نعم.
قال: فما صنع؟
فسكت عبدالله والسفاح يكرر المناشدة له فدل على أنقطاع حجته إذ لو رده علي عليه السلام لأجاب بذلك.
قال الإمام يحيى عليه السلام: والمختار عندنا أمران:ـ
أحدهما: أن الذي أدعته فاطمة في فدك كان حقاً، وقال: وهو الذي عليه الأكثر من أكابر أهل البيت وأتفق عليه أهل التاريخ وأنها جرت بينها وبين أبي بكر المناظرة في فدك وأدعت أن أباها ....... إياها.
فقال لها: ائتني برجلين أو رجل وامرأتين.
فقالت: شهودي والله سيد الوصيين وأمير المؤمنين والحرة الصالحة أم أيمن التي أختارها رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم لخدمة ولديه.
فقال: رجل مع رجل أو امرأة مع امرأة.
فأعرضت عن ذلك وسكتت.
ثم قال أبو بكر: إن الله إذا أطعم نبيه طعمة في حياته فهي للخليفة من بعده.
فلما أقر لها تملك رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم لفدك وإقراره مقبول فيما كان في يده.
قالت: ويحك يا ابن أبي قحافة أترث أباك ولا أرث أبي!!.
فأحتج بالخبر فلما سمعت ذلك أعرضت ومرت على قبر أبيها فضربت بيدها عليه وقالت: كان بعد ...... ....... لو كنت حاضرها لم يكثر الخطب.
قال عليه السلام: فهذه المناظرة ظاهرة بين أهل التاريخ لا يمكن إنكارها لظهورها واشتهارها.
الأمر الثاني: أنها صادقة فيما أدعته من ذلك لأن رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم بشرها بالجنة وأن منزلها ومنزل أمير المؤمنين في الجنة حذاء منزله. وقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد)). وقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((فاطمة بضعة مني يريبني ما ..... ويؤذيني ما آذاها)). وكيف لا تكون صادقة في تلك الدعوى وقد شهد يصدقها فيها أمير المؤمنين ولا يشهد إلا بالحق ولا يقول إلا الحق هكذا ذكره الإمام يحيى في كتاب التحقيق وذكر في الإنتصار عن أهل البيت تصحيح كون فدك كانت ملكاً للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم لظاهر قوله: {فلله وللرسول}. وتصحيح حكم أبي بكر وأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم لا يورث ويجعلون مصرفه المصالح كسائر الأفياء أعتماداً على حكم أبي بكر.
قلت: وإنما صححوا حكم أبي بكر لأنه قضى بظاهر الشرع وق روي عن زيد بن عليه عليه السلام أنه قال حين سئل عن ذلك: لو كان ذلك إليَّ ما قضيت إلا بما قضى به أبو بكر وقد أشتهر عند أهل التواريخ أن عمر بن عبدالعزيز لما أفضت الخلافة إليه ووليَ الأمر رد فدك لآل فاطمة ونقض حكم أبي بكر وقَبِل ذلك ولم ينكر فيقال: إذا كان حكم أبي بكر صحيحاً عند أهل البيت فلم قبلوا ما فله عمر فأنهم بجملتهم معصومون عن الخطأ.......
وقد أجبت: بأن عمر بن عبدالعزيز لم يقصد نقض حكم أبي بكر وإنما أراد الإحتياط فن كان لفاطمة في معلوم الله فقد صيره إلى أبنائها وإن كان لمصالح المسلمين ومن المعلوم تعذر تخصيصه بينهم فقد صيره إلى خيرة المسلمين ورأسهم وإذا لم يكن بد من وضعه في بعض فالأولى وضعه فيهم لما ذكر وقد خالف صحة حكم أبي بكر الإمامية جميعاً وبعض الزيدية وبعض المعتزلة واحتجوا بعصمة علي عليه السلام، فقوله: وشهادته حق وحجته قطعية فطلب شاهداً آخر معه مخالف للقاطع والحكم بخلاف ذلك باطل ورد بأنه لو كان باطلاً لنقضه علي عليه السلام بعد توليه وكذلك الحسن وغيره لأنهم لا يقرون الباطل ولأنكره في وقته بنو هاشم وسائر المسلمين غضباً لفاطمة الزهراء وكيف يقرون أول حكم حكم به في الإسلام مع كونه باطلاً.
وقد أجبت عن تقرير علي عليه السلام ومن بعده من الأئمة له بأنهم تركوا نقضه لمصلحة أخرى لصحته.
فائدة:
قد أختلف في كون قول علي عليه السلام حجة قاطعة للإجتهاد فقال بذلك أكثر الزيدية قياساً على قول رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم وعلى هذا يكون حكم أبي بكر في فدك باطلاً. وقال بعضهم: ما هو إلا كقول سائر الصحابة تجوز مخالفته والعدول عنه إلى غيره للأطباق على أن المستفتين كانوا بالخيار في الأخذ بقوله وقول غيره من غير نكير ولأن مخالفة العترة له في كثير من الأقوال الفقهية ظاهرة وللمنصور عليه السلام في ذلك قولان.
قوله: (وإلا فلا أقل من أن يخرج به عن الفسق).
ظاهره أنه إذا لم يثبت له سماع الخبر ولا غلب على ظنه فلا أقل أن يخرج به عن الفسق ويقال: ماذا لم يثبت له ذلك فلا يخرج به عن شيء وما الذي يبقى بعد عدم ثبوت ذلك فيصير حاكماً بما يصادم الشرع وينافيه.
قوله: (ومنها أن النبي عليه الصلاة والسلام مات وهو يقول: ((نفذوا جيش أسامة))) إلى آخره.
لا يخلو كلام المصنف هذا عن إنصراف وكان ينبغي أن يبني الإعتراض على أحد وجهين:ـ
إما أن أبا بكر لم يمتثل للأمر في حال مرض رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم لعدم الخروج إلى مخيم إسامة وقد قال الشيخ أبو الحسين الخياط: إن أبا بكر أسترد عمر من جيش أسامة للحاجة إليه.
وإما أن يبني الإعتراض على أن أبا بكر لم يمتثل أمر رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم بتنفيذ جيش أسامة بعد موته صلى اللّه عليه وآله وسلم وبعد أن أفضت الخلافة إليه وولي الأمر.
وإذا تأملت كلام المصنف وجدته خلط الوجهين وجاء من كل واحد منهما بطرف لأنه في أوله رمز إلى عصيانه بعد موت رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم وفي آخره رمز إلى الوجه الأول فليتأمل.
والذي عول عليه الإمام يحيى وغيره الوجه الأول قال حاكياً عن الخصوم لأنه قال عليه الصلاة والسلام في مرضة مرة بعد مرة: ((نفذوا جيش أسامة)). وكان أبو بكر وعمر وعثمان فيه وكانوا من جملة من يلزمهم النفوذ فيه لأمره فلم يفعلوا ذلك مخالفة لأمه ومنعهم أبو بكر عن ذلك ومخالفة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم لا محالة فسق ولعل المصنف لم يقصد إلا هذا المعنى ولكن ركَّب عبارته بقوله: مات وهو يقول. وكان المطابق أن يقول: مرض وهو يقول أو قال في مرضه والقصة أن رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم أقام بعد ......... من حجة الوداع بقية ذي الحجة والمحرم وصفر أو ضرب على الناس بعثاً إلى الشام وأمَّر عليهم أسامة بن زيد بن حارثة مولاه وأمره أن يوطي الخيل تخوم البلقاء ـ أي حدودها ـ والدارم من أرض فلسطين فتجهز الناس وأوعب مع أسامة المهاجرون والأولون.
قال ابن هشام: قال إسحاق وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير وغيره من العلماء أن رسول الله أستبطأ الناس في بعث أسامة وهو في وجعه فخرج عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر وقد كان الناس قالوا في أمرة أسامة أمر غلا ما حدثا على جلة المهاجرين والأنصار فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال: ((أيها الناس نفذوا بعث أسامة فلعمري لئن قلتم في أمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله وإنه لخليق للإمارة وإن كان أبوه لخليقاً لها)). ثم نزل صلى اللّه عليه وآله وسلم وأنكمش الناس في جهازهم واستعز برسول الله مرضه فخرج أسامة وخرج بجيشه معه حتى نزلوا الجرف من المدينة على فرسخ فضرب به عسكره و... الناس وثقل رسول الله فأقام أسامة والناس لينظروا ما الله قاض في رسوله.
قال ابن إسحاق حدثني سعيد بن عبيد بن السباق عن محمد بن أسامة عن أبيه أسامة بن زيد قال: لما ثقل رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم هبطت وهبط الناس معي إلى المدينة فدخلت على رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم وقد أصمت فلا يتكلم فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها عليَّ أعرف أنه يدعو لي.
قوله: (من الجائز أن يرى الصواب في تأخيره لنصرة الإسلام ولئلا يفترق المسلمون).
كان أيسر من هذا أن يقول: إن إنفاذ الجيوش والسرايا إنما هو مبني على أنقداح المصلحة ومراعاتها ولا شك أنه لما ولي الأمر بعد الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم رأى الصلاح متعلقاً بالوقوف بالمدينة عقيب وفاة رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم فإن كان هذا صلاحاً فقد فعله وإن كان غير صلاح فقد أعتقد أنه صلاح ولم لا يكون عذراً له هكذا ذكر الإمام يحيى.
وأما كلام المصنف فلقائل أن يقول: وأي نصرة للإسلام في تخلف الجيش، وأي أفتراق يكون في نفوذه، وكان المصنف لمح إلى أن وقوف الجيش وتخلفه كان وازعاً من الفرقة في أمر الإمامة لما شجر بين المهاجرين والأنصار فيها ولا معنى لهذا فإن الشجار أرتفع ببيعة أبي بكر وأنتظم الأمر وأستقر ولو نفذ الجيش لم يعد ذلك خذلاً للإسلام ولا فرقة بين المسلمين أو لعله لمح إلى ما كان من أرتداد بعض العرب وأنه لو نفذ الجيش والحال ما ذكر لكثرت فرق الردة ولكان في ذلك خذلان عن جهاد المرتدين.
قوله: (وقد جهزه من بعد لما أستقر الأمر).
فيه نظر لأن جيش أسامة المذكور لم ينقل تجهيز أبي بكر له وإن جهز عسكراً إلى الشام فغير ذلك الجيش ومع غير ذلك الأمير وبعد ذلك الزمان بزمان كبير. والله أعلم.
قوله: (قالت المعتزلة كل هذه الأحاديث أفتعلها الروافض).
في هذه العبارة إشارة إلى أنه لا يقطع بما قطعت به المعتزلة من أختلاق تلك الأخبار لأنه أضاف ذلك إليهم وتخلص عن عهدته وقد وردت في شيء من التواريخ ونقلها غير الروافض من الزيدية وغيرهم ولكن نقول لا شك أنها لم تبلغ حد التواتر وإيمان القوم معلوم مشهور وفضلهم معروف غير منكور وتلك الأمور المنسوبة إليهم لا تليق بحالهم وفضلهم ولا يصدر مثلها إلا عن الجبابرة المفرطين في الظلم والعدوانكما كان من خلفاء الجور الأمويين والعباسيين وأما أصحاب رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم وخواصه ومن سمحوا بديارهم وأموالهم وآبائهم وأبنائهم في محبته ونصرته وحفظ ............ فمن البعيد أن يصدر منهم ما فيه إحباط لأعمالهم الصالحة وجرأة على الله وعتك لحرمة رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم وينبغي أجتناب الظن السَّيء فيهم فهو من البعض الذي هو أثم. والله أعلم.
قوله: (وقال لأبي سفيان حين أمره بالمشاقة).
هي مفاعلة من الشق وأصلها المشاققة فأقتضى حكم التصريف تسكين القاف الأولى وإدغامها في الثانية وقد نقل عن أبي سفيان أستنكار تولي أبي بكر ومصير الإمرة والخلافة في تيم وهم من أضعف بيوت قريش ولم يكن لهم رئاسة ولذلك روي عن أبي سفيان أنه قال لعلي عليه السلام حملكم على هذا الأمر أذل بيت في قريش أما والله لأن شئت لأملأنها خيلاً ورجلاً فزجره علي عليه السلام وقال: طال ما غششت الإسلام وأهله. وكأنه عليه السلام فهم منه قبح القصد وعدم النصيحة للإسلام وأهله وأعتماد الهوى فيما نفخ منه وعداوته للإسلام ظاهرة ولم يدخل في الإسلام إلا عن غير رضا منه.
قوله: (أحياء منار الإسلام).
المنار في الأصل: علم الطريق. والمعنى المراد: حفظ بيضة الإسلام وحماية سربه أن يضام.
قوله: (والمنافسة في الرئاسة).
المنافسة الرغبة في الشيء على وجه المباراة.
قوله: (إذ مسلك المناظرة والمحاجاة).
كان الأصوب أن يقول: والمحاجة بمعنى الحجاج وهي إقامة الحجة وأما المحاجاة فهي من قول أهل اللغة بينهما أحجته يتحاجون بها وهي لغة وأغلوطة يتعاطاها الناس بينهم.
قال أبو عبيدة: نحو قولهم أخرج ما في يدي ولك كذا وقد صارت بالعرف فيما أورد من المسائل على جهة الألغاز وليس هذا بمقصود هنا.
قوله: (فلم يكن الصحابة حينئذ يستحسنوا).
الصواب يستحسنون بإثبات النون.
قوله: (إن عدم التولية لا يدل على أنتقاص مرتبته).
يوضح هذا أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قد ولى من المعلوم قطعاً أنه دون أبي بكر بمراحل بعيدة ومراتب كثيرة كتولية عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وقد ولى أبا بكر الصلاة التي هي سنام الدين ولا يتولاها إلا أخيار المسلمين.
قوله: (ولهذا قطع سارقاً..) إلى آخره.
قالوا: وأحرق الفجاة بالنار مع نهيه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن ذلك وقال: ((لا يحرق بالنار إلا رب النار)).
قوله: (قالت المعتزلة المشهور أنه كان من أعلم الصحابة..) إلخ.
قال الإمام يحيى عليه السلام: وعلى الجملة فهب أن الأمر على ما ذكره السائل. يعني من مخالفة للدين.
قلت: مقتضى ما ذكره الإمام يحيى عليه السلام أنه من ......... تحت الإمامة ظاناً للصلاحية وليس منها في شيء فأورد وأصدر وقدم وأخر وتصرف في النفوس والأموال وحال في ميدان هذا الأمر الواسع المجال أنه لا يحكم بفسقه وفي هذا ترخيص كثير فليتأمل.
قوله: (فقد أقدم بالكذب على الكبيرة).
ولم يتعرض المصنف لمناقشتهم في هذا ووجهها ظاهر وهو منع كون ذلك مما يقطع بكبره.
قوله: (ومنها قول عمر كانت بيعة أبي بكر فلتة..) إلى آخره.
وجه أحتجاجهم بذلك أن قالوا في هذا بيان أنها كانت خطأ وأنه يجب المقابلة فيها وهو يدل على أعتقاد عمر أنه غير صالح للإمامة.
قوله: (وبعد فقوله: وقى الله شرها يدل على أنه لم يكن يعتقدها خطية).
يعني: لأنه لو أعتقدها خطية لقال ونسأل الله أن يغفرها لنا أو فنستغفر الله منها ونحوه. وأما وقى الله شرها فإنما يدل على أن فيها نوع خطر وإن مثل ذلك لا تؤمن معه الفرقة والتشاجر لأن البيعة وقعت بعد نزاع شديد عن غير أتفاق رأي وإجماع كلمة وإنما وقعت فجأة من غير تدبر ولا تردد ولا مشاورة وإنما قال عمر لأبي بكر أمدد يدك أبايعك فوقى الله شر ذلك حيث لم يقل غير عمر لغير أبي بكر مثل ذلك فيفترق المسلمون و........ الفساد والعناد لكن وقى الله شر ذلك وتم لعمر ما أراد. والمعنى أن الملجي إلى ذلك في صدر الإسلام وعقيب وفاة رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم خشية أنتهاب هذا الأمر وما وقع في السقيفة من التنازع العظيم الذي كاد يقضي إلى أشد الفساد ولا مجلي إلى مثل ذلك فيما بعد لاستقرار أمر الإمامة وعدم منازعة قريش فيها وأحتكام المسلمين لمن وليها في أمره وأمر من يخلفه إلى أن نجم أمر معاوية وما سنة من سنن الجبارين ثم صارت كسروية قيصرية أتباعاً لسنته الشنية الردية وكان المحتجين بحديث عمر توهموا أن معنى فلتة. كمعنى زلة أو الخطية وليس كذلك.
قال الجوهري: يقال: كان ذلك الأمر فلتة أي قحام إذا لم يكن عن تدبر ولا تردد، والفلتة آخر ليلة من كل شهر ويقال: في آخر يوم من الشهر الذي بعده الشهر الحرام. أنتهى.
قيل: وإنما سميت آخر ليلة من الشهر الذي بعده الشهر الحرام فلتة لأن من لم يدرك ثأره فيه فاته بدخول الشهر الحرام لما يكون من كف الأيدي عن القتل والقتال.
فصل: وأما ما طعنوا به على عمر فوجوه
قوله: (لولا علي لهلك عمر).
قال ذلك حين أراد أن يرجم مجنونة وحين أراد أن يرجم حاملاً فمنعه علي عليه السلام وقال له في شأن الحامل هب أن لك عليها سلطاناً فما سلطانك على ما في بطنها.
قوله: (فعلاه بالدرة).
الدرة بكسر الدال المهملة وهي شيء يستعمله الأمراء يضربون به إذا أدعى الداعي إلى ذلك.
قال الجوهري: الدرة التي يضرب بها.
قوله: (وقال لابن عباس ما أظن صاحبك..) إلخ.
وفي الرواية أن ابن عباس قال بعد قوله الأول أد إليه ظلامته وأنه قال بعد قوله الثاني والله ما أستضعفه الله حين ولاَّه سورة براءة وعزل أبا بكر وما رووه أن عمر قال للعباس رضي الله عنه في مناظرته: إن هذا الأمر لمن هو أحق به مني ومنك لمن تركناه وراءنا بالمدينة. يعني علياً عليه السلام.
قوله: (إنه قال عام الحديبية).
هو بالتخفيف مكان معروف بالقرب من مكة كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قد أنتهى إليه من المدينة قبل الفتح يريد دخول مكة معتمراً بهدي معه فصده المشركون ووقع بينه وبينهم خوض في الصلح والهدنة فقبل ذلك رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم مع إنطواء الهدنة على رجوعه وعدم دخوله فنحر الهدي بالحديبية وققد كان سبق الوعد بدخولهم مكة برؤيا رأها رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم قبل خروجه إلى الحديبية كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا وقصروا فقص الرؤيا على أصحابه ففرحوا وأستبشروا وحسبوا أنهم اخلوها في عامهم وقالوا إن رؤيا رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم حق وكان الذي راجع في ذلك عمر لأنه كان رجلاً جهورياً جسوراً وحاشى فضله وعلمه ورسوخ قدمه في الإسلام أن ينحو منحى التكذيب لله ورسوله وإنما قصد إلى أستنكار تقبل رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم ذلك مع القطع بصدق وعد الله منازعة في الرأي لأن عمر كانت تلك عادته كما نازع في أمر أسرى بدر ومفاداتهم وكما نازع في الصلاة على المنافق ومما جسره على ذلك تصويب الله رأيه في عدة مواضع كما كان في قصة أسرى بدر وفي الصلاة على المنافق وإذا تأمل كلامه في الحديبية حق التأمل وجد قاضياً بقوة الإيمان لا بضعفه.
قوله: (فلما قال له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((أنفلت لكم في عامكم هذا)). فسكت. المروي أنه قال: لا. قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((فهو كما قلت)). يعني: أن ما وعدتكم فهو صدق فسيكون الأمر في المستقبل كما قلت لكم.
قال الإمام يحيى: فلما سمع ذلك عمر سكت وعلم أن ذلك كائن في المستقبل كما وعد الله وقد كان ذلك يوم الفتح فدخلوها آمنين محلقين ومقصرين غير خائفين من أحد حرباً ولا نكاية وإنما صدر الإستنكار والأستهجان وما هو في معنى التكذيب من عبدالله بن أبي رأس المناافقين وعبدالله بن نفتل ورفاعة بن الحرب فإنهم قالوا والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين}.
قوله: (قالت المعتزلة: لا نسلم صحة هذا الخبر..) إلخ.
قال الإمام يحيى: والحاصل أن هذا الخبر إن كان آحادياً فلا يقبل في أحكام التفسيق لأنه لا شك في أن الأمر بقتل المسلم يكون فسقاً بلا مرية فضلاً عمن يعظم محله في الإسلام ويرتفع مكانه فيه كأمير المؤمنين، وإن كان متواتراً يورث العلم وأمكن حمله على النهي عن الإختلاف والتفرق وجب حمله عليه ولا يجوز القطع به في التفسيق مع إمكان الحمل على ما ذكر.
قال الإمام المهدي: يحمل على أنه أراد أن البعض الذي فيهم عبدالرحمن بن عوف إذا عقدوا الواحد لزم أتباعه وإن أمره لازم لهم لأن ذلك من أحكام الإمامة فصار الذي الذي يختاره عبدالرحمن ومن أنضم إليه كالمنصوص عليه ونص الإمام على إمام بعده ....... في أعتقاد إمامته عدد كبير من الأمة.
قال عليه السلام: وإذا كان يعتقد ذلك جاز عنده أن يأمر بقتل من خالفه لأنه يصير عنده باغياً وإذا كان مخطياً في هذا الإعتقاد فهو خطأ لا يقتضي الفسق إذ لا دليل على ذلك ولا تفسيق إلا بدليل قاطع.
قوله: (جاء إلى باب فاطمة فأحرقه وفعل وفعل).
المذكور أن عمر قام على الباب وقال: لئن لم يخرج ابن أبي طالب لأحرقن عليه البيت بمن فيه وأخرج علياً والزبير وكسر سيفه.
قوله: (وإن فاطمة ماتت بسبب ضربة على بطنها).
الذي رووه أنه لما دخل عمر عليهم البيت أعتمد على الباب وأعتمدت فاطمة عليه فضرب الباب على بطنها فألقت صبياً أسمه محسن وبقيت عليلة إلى أن ماتت.
قوله: (من أنه لا يظن العاقل بالصحابة مثل هذا).
قال الإمام يحيى: وهذه الروايات رويت من طرق ضعيفة وحكايات موهومة عن رجال لا يوثق بدينهم ينسبون إلى وضع الأحاديث ...... وهذه الأخبار في ......... والتهمة منزلة أخبار الجبر والتشبيه والقصد بوضعها الطعن في الصحابة وإسقاط منازلهم في الدين.
قال: ولا معنى لتأويل هذه القصص فإنها لو صحت لكانت من الكبائر المبطلة للأعمال الموجبة لاستحقاق النار.
قال: (وخلافها معلوم من حال الصحابة).
يعني: فقد علم منهم تعظيم أمير المؤمنين ورفع منزلته وأستمدادهم من جهته للرأي والمشورة وأعتمادهم على فتواه في مسائل الإجتهاد.
قوله: (وهذا أستخفاف بأمير المؤمنين وهو فسق).
قالوا: والوعيد بالقتل في حق أمير المؤمنين أعظم من الخروج عليه.
قوله: (روايات آحادية غير مقطوع بها).
قال الإمام يحيى: منسوبة إلى رجل ثقفي في نفسه بعلة الثقة وأختلاف الرواية ولو قدرنا صحته فغاية الأمر فيه أنه خبر آحادي لا يعمل به في التفسيق ومعارض بما أثر عن عمر من الرجوع إلى أمير المؤمنين في الإجتهادات والإعتراف بحقه وتصريحه بأنه لولاه لهك وغير ذلك من الروايات لاحسنة فأين هي عن هذيان الروافض وفرية الملاحدة.
قوله: (ومنها ما رووا أن رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم لما أحتضر..) إلخ.
تحرير هذه الشبهة على ما ذكره الإمام يحيى أن قالوا: لما حضرت رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم الوفاة وكان في البيت رجال منهم عمر قال صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً)).
فقال عمر: حسبنا كتاب الله. وأختصموا في البيت، فقال عمر في الرسول إنه مهجر وعصاه حين طلب أن يكتب الكتاب وهو رد على الرسول في أمره وأعتراض عليه فإن لم يكن هذا كفراً لما فيه من الإستخفاف بالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم فأقل أحواله أن يكون فسقاً.
قلت: المهجر من الهجر هو الهذيان يقال: هجر المريض يهجر هجراً فهو هاجر والكلام مهجور.
قوله: (والجواب ما تقدم من أن هذه الأخبار لا يظن صدقها).
قال الإمام يحيى: إن أحداً من الخلق في زمن عمر ما أتهمه بالردة والرجوع عن الإسلام بعد وفاة رسول الله ولو كان ما نقلوه صحيحاً لوجب ذلك.
قلت: بل هذا من الأخبار الصحيحة أخرجه الشيخان البخاري ومسلم في جامعهما من رواية ابن عباس رضي الله عنه قال: لما حضر رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم وفي البيت رجال منهم عمر بن الخطاب فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((هلموا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده)).
فقال عمر: إن رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبكم كتاب الله.
فأختلف أهل البيت وأختصموا فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم ومنهم من يقول: ما قال عمر. فلما كثر اللغط والإختلاف قال رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((قوموا عني فلا ينبغي عند التنازع)). فخرج ابن عباس وهو يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم وبين كتابه.
وفي أخرى: قال ابن عباس: يوم الخميس وما يوم الخميس. ثم بكلى حتى بل دمعه الحصى.
قلت: بابن عباس ما يوم الخميس؟
قال: أشتد برسول الله وجعه، فقال: ((ائتوني بكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً)). فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: ما شأنه هجراً استفهموه فذهبوا يردون عليه فقال: ((ذروني دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه)). فأمرهم.
وفي رواية: فأوصاهم بثلاث فقال: ((أخرجوا اليهود من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم)). وسكت عن الثالثة أو قال نسيتها.
وقد قال الإمام يحيى: إذا قدرت صحته فإنما هو منقول بالآحاد فلا تعول عليه في المسائل العلمية ويجوز أن يكون عمر قد ألتبس عليه حال رسول الله فظنه مغمي عليه فيكون الخطأ في هذا دون الخطأ في العمد وسيأتي إن شاء الله أعتراف عمر بما كان منه من مدافعة رسول الله عما أراد من أمر الكتاب وذكره لعذره في ذلك.
قوله: (لما قال الناس توفي رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم أنكر ذلك).
ذكر أهل السير أن عمر حينئذ قام وقال: والله ما مات رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم ولا يموتن حتى يظهر على الدين كله، وليرجعن فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم من أرجف بموته ولا أسمع رجلاً يقول مات رسول الله إلا ضربته بسيفي، وكان أبو بكر حال موت رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم بمنزله فجاء في تلك الحال حتى كشف عن وجه رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم فوجده ميتاً. فقال: بأبي وأمي طيب حياً وميتاً ثم خرج والناس حول عمر وهو يذكر أنه لم يمت وإنما هو غائب كما غاب موسى عن قومه ويخلف.
فقال له أبو بكر: أيها الحالف على رسلك، ثم قال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت قال الله تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون}.
قال عمر: فعلمت أن رسول الله قد مات ولم أملك نفسي حيث سمعتها أن سقطت إلى الأرض.
قوله: (وربما توهم أنه لا يموت حتى يظهره الله على الدين كله).
المذكور في سيرة ابن هشام عن ابن عباس عن عمر أنه قال: يا ابن عباس: هل تدري ما كان حملني على مقالتي التي قلت حين توفي رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم؟
قال: قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين، الله أعلم.
قال: والله إن كان الذي حملني على ذلك إلا أن كنت اقرأ هذه الآية: {كذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً}. فوالله إن كنت لأظن أن رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم يبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها فإنه للذي حملني على أن قلت ما قلت.
فصل: وأما ما أستدلا به على فسق عثمان فوجوه
قوله: (من لا يصلح للولاية).
إشارة إلى كونه ولى الوليد بن عقبة وأستعمله على العراق وكان أخاه من أمه فظهر منه شرب الخمر حتى صلى بالناس وهو سكران، يروى أنه صلى بهم الصبح أربعاً ثم ألتفت إليهم فقال: أزيدكم.
وأستعمل سعيد بن العاص على الكوفة فجار وظلم حتى أخرجه أهل الكوفة منها.
وولى عبدالله بن أبي سرح مصر فتظلموا منه وكاتبه سراً بخلاف ما كتب إليه..... وأمره بقتل محمد بن أبي بكر وقد كان وجهه إلى مصر لتوليها وعزل ابن أبي سرح لما شيع عليه في أمره.
وولي عبدالله بن عامر العراق فكان منه ما كان.
وولى معاوية الشام حتى أبتغى لدين الله الغوائل وحرف وبدل وفعل ما فعل.
وولى مروان مقاليد أمره ودفع إليه خاتمه.
قالوا: فجميع هذه الأمور تدل على تهاونه بالدين وترك الإهتمام بأحوال المسلمين وهذا يوجب سقوط عدالته وفسقه.
قوله: (فإنه لم يعلم ذلك من حالهم حتى ظهر قد أعترض هذا بأنه ما ولى أولئك النفر إلا وحالهم مشهور في التهتك والمجانة ولاشك أن الوليد بنعقبة فسقه متقدم لولايته وكان شرب الخمر سنة له وعادة معروفة حتى نزل فيه: {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً}. فهو المراد بالفاسق والمؤمن أمير المؤمنين نزلت لمسابَّة وقعت بينهما، وفيه نزل قوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ}. فكيف يخفى على عثمان مع أختصاصه به وكونه أخاه لأمه من حاله ما لا يخفى على الأباعد.
قوله: (فلما ظهر عزلهم).
قد أعترض بأنه لم يعزل الوليد إلا بعد أن دافع عنه غاية المدافعة ولولا أن أمير المؤمنين قهره على رأيه لما عزله ولما مكن من جلده وكذلك الحكم في غيره.
قوله: (وقد ولَّى أمير المؤمنين قوماً ظهر منهم الخيانة).
أعترض هذا بأنه لا سواء فإنه لم يول أمير المؤمنين إلا من ظاهره حسن ولا يتهمه الناس ومن أحص منه بعض الريبة يمهله ولا يداهنه.
قوله: ( وولي ابن عباس البصرة فجار في مالها أعظم).
إن عبدالله بن عباس فضله أشهر من نار على علم وقدمه في العلم والكمال أرسخ قدم وقد نسب إليه ما ذكره المصنف وما كان جدير بذلك، وقد أختلف أهل السير والتواريخ.
فقال الأكثر منهم: إن ذلك جرى لابن عباس قبل قتل علي عليه السلام.
ومنهم: من أنكر ذلك كأبي عبيدة معمر بن المثنى وزعموا أن عبدالله لم يزل عاملاً على البصرة حتى قتل علي عليه السلام وحتى صالح الحسن معاوية فعاد إلى البصرة وأخذ أثقاله ومالاً قليلاً من بيت المال زعم أنه ......... ومضى إلى مكة.
وقال أبو الحسن المدائني: الصحيح أن علياً قتل وعبدالله بن العباس بمكة والذي شهد صلح الحسن عليه السلام ومعاوية عبيدالله هكذا وقفنا عليه في بعض التواريخ المستجادة وممن صحح تلك الرواية محمد بن أحمد بن عبد ربه وذكرها في تاريخه العقد وبايعه صاحب الجليس وهو من التواريخ البسيطة المحيطة وصحح ذلك الفقيه العلامة عمران بن الحسن بن ناصر العدوي الشتوي في شرح قصيدة أبي فراس الميمية التي أنشدها أنتصاراً لأهل البيت عليهم السلام وذكر في شرح قوله:ـ
أننكر الحبر عبدالله نعمته أبوكم أم عبيدالله أم قثم.
فقال ما لفظه: وكان عبدالله بن عباس من أكثر أعوانه وأنصاره شديد المحبة له وهو عالم الأمة وحبرها بعد علي وابن مسعود وأبي الدرداء وله تفسير قد جمع بين أحسن تفسير وولي البصرة لعلي عليه السلام وأخذ منها مالاً جسيماً لبيت المال مبلغة ألف ألف درهم وهرب من علي، وقال: إن تركتني وإلا لحقت بمعاوية فأمسك علي عنه ورجع إليه وتاب وعمي في آخر عمره من البكاء على عليه عليه السلام ولأمة كلها ترضى عنه وتقبل حديثه وهو أحد العميان هو أبوه وجده في نسق واحد لا يعلم سواهم قال: وعبيدالله هو الذي هدَّ ركن الإسلام حيث فلَّ عسكر الحسن وأخذ من معاوية مائة ألف درهم. أنتهى.
وهذه القصة منقولة من العقد بإختصار قال:
ثم خرج عبدالله بن العباس على علي بن أبي طالب عن أبي بكر بن قط، فقال له يوماً أردت أن أستعملك ولكني أخشى أن تستحل الفيء على التأويل فلما صار الأمر إلى علي أستعمله على البصرة فاستحل الفيء على تأويل قوله الله تعالى: {واعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذوي القربى}. فأستحله بقرابته من رسول الله ثم ذكر ابن عبدربه مامعناه أن أبا الأسود الدؤلي وكان يخلف ابن عباس على أعمال البصرةكتبت إلى علي عليه السلام وقال في كتابه: إن ابن عمك قد أكل ما تحت يديه بغير علمك فلم يسعني كتمانك ذلك.
فكتب علي عليه السلام إلى ابن عباس: أما بعد فقد بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت الله وأخزيت أمانتك وعصيت إمامك وخنت المسلمين فأرفع إليَّ حسابك. واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس والسلام.
فأجابه ابن عباس: بأن الذي بلغك باطل وإني لما تحت يدي ضابط وعليه حافظ فلا تصدق على المظننين والسلام.
فكتب إليه علي: أما بعد فإنه لا يسعني تركك حتى تعلمني ما أخذت من الجزية من ابن ..... وما وضعت منها ابن وضعته فاتق الله فيما أئتمنتك عليه وأستر عيبك أياه فإن المناع بما أنت راز منه قليل وتباعته وبال لا .......والسلام.
فأجاب عليه: أما بعد:
فقد بلغني بعظمك على مرزية ما بلغ عني ...... رزاية أهل البلاد وأثم الله لأن ألقى الله بما في بطن الأرض من عقبانها ولحينها وما على ظهرها من طلاعها أحب إليَّ من ألقى الله وقد سفكت دم الأمة لا بأل بذلك الملك وللأمرة فأبعث إلى عملك من أحببت فإني ظاعن عنه والسلام.
ثم أنه مل ما كان في بيت المال وكان فيما زعموا ستة آلاف ألف فجعله في الغرائر وذكر صفة حملة له وأنتهاضه به وما كان من منازعة بعض القبائل له في ذلك ودفع بعضهم عنه حتى أجرزه ونزل به مكة فاشترى من عطاء بن جبير ثلاث جواري موالدات عجاريات يقال لهن: سادن وحوراء وفتون بثلاثة آلاف دينار فلما كان من أمره الذي كان وبلغ علياً عليه السلام قال: وايل عليه بناء الذي ابتناه......... ما يسلخ منها فأسبعه الشيكان فكان من العلم وكتب إليه أما بعد:
فإني كنت أشركتك في أمانتي ولم يكن في أهل بيتي رجل أوثق عندي منك لمواساتي وموأزرتي وإذاء الأمانة إليَّ فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلت والعدو عليه قد جزت وأمانة الناس قد خربت وهذه الأمة قد قتنت قلبت لابن عمك طهر المجن ففارقته مع القوم وخذلته اسوأ خذلان وخنته مع من خان فلا ابن عمك آسيت ولا الأمانة إليه أديت كأن لم تكن على بينة من ربك وإنما كدت أمة محمد على دنياهم وغررتهم في فيئهم فلما أتتك الفرصة في خيانته أسرعت العدوة وعاجلت الوثبة فأختطفت ما قدرت عليه من أموالهم وأنتقلت بها إلى الحجاز كأنك إنما أحرزت إلى أهلك ميراثك من أبيك وأمك فسبحان الله أما يومن بالمعاد أما تخاف الحساب أما تعلم إنما تأكل حراماً وتشرب حراماً وتشتري الإماء حراماً وتنكحهن بأموال اليتامى والأرامل والمجاهدين ومأ آفاء الله عليهم فأتق الله وأردد إلى القوم أموالهم فإنك والله إن لم تفعل ثم أمكنني الله منك لأ عذرن إلى الله فيك والله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كان لهما عندي هوادة ولما تركتهما حتى آخذ الحق منهما والسلام.
فأجاب عليه ابن عباس: أما بعد، فقد بلغني كتابك يعظم عليَّ إصابة المال الذي أصبت من بيت مال ....... ولعمري أن حقي في بيت المال أكثر وأعظم مما أخذت والسلام.
فكتب إليه علي عليه السلام: أما بعد، فإن العجب كل العجب منك أن ترى لنفسك في بيت مال المسلمين أكثر مما لرجل من المسلمين قد أفلحت إن كان تمنيك للباطل وأدعاؤك لما لا يكون ينجيك من الأثم ويحل لك ما حرم الله عليك عمرك الله أنك لأنت المفيد السعيد أتخذت مكة وطناً وبها عطنا تشتري المولدات من المدينة والطائف وتختارهن على عينك وتعطي بهن مال غيرك فإني أقسم بالله ربي وربك رب اللعزة ما أحب أن ما أخذت من أموالهم حلال لي أدعه لعقبي فما نال ........ بأكله حراماً صح رويداً فكان قد بلغت المدى وعرضت عليك أعمالك بالمحل الأعلى ينادي فيه المعتر بالحسرة ويتمنى المصنع التوبة والظالم الرجعة.
فكتب إليه ابن عباس: والله لأن لم تدعني من أساطيرك لأحملنه إلى معاوية يقاتلك به. فكف عنه عليه السلام، أنتهى ما ذكره ابن عبدربه وغيره والله أعلم بصحته.
فأما ظاهره فمناف لما كان عليه ابن عباس رضي الله عنه من العلم والفضل.
قوله: (وهو طريد رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم).
ذكر الذهبي في النبلاء: أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نفاه لكونه حكاه في مشيته وفي بعض حركاته فسبه وطرده.
وذكر صاحب الإستيعاب: أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم طرده من المدينة فنزل الطائف وكان صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا مشى يتكفى وكان الحكم يحكيه فألتفت صلى اللّه عليه وآله وسلم فرآه يفعل ذلك فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((فكذلك فلتكن)). فكان الحكم متخلجاً يرتعش من حينئذ.
قوله: (حتى أمر بقتل محمد بن أبي بكر وغيره).
يعني بعد أن ولاَّه عثمان مصر وعزل عبدالله بن أبي سرح ولم يكن ذلك برضا منه وإنما فعله لما ألحق عليه وكثر التظلم من ابن أبي سرح فلما أنفصل محمد بن أبي بكر ومن معه متوجهين إلى مصر وصاروا في بعض المسافة لحقهم بعض خدم عثمان يريد مصراً فأستكروه فوجدوا معه كتاباً من عثمان بخط مروان وخاتم عثمان إلى ابن أبي سرح فيه أمره بقتل محمد بن أبي بكر ومن معه إذا قدموا عليه فرجع محمد ومن معه وكان ذلك سبب حصار عثمان في الدار وما آل إليه أمره.
قوله: (وذلك فسق منه أما إيوآؤه للحكم فلأن فيه رداً لأمر الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ومخالفة له وإيواء الطريدة وأما ............. عن مروان وعدم مؤاخذته له فلأن ذلك يقضي بأحد أمرين:ـ
إما أنه كتب بأمره ورضاه فيكون هو الآمر بقتل عصابة من المسلمين والناقض لعهده.
وإما الإغضاء له على ذلك والإدهان إذا كان فعله بغير أمره ورضاه وذلك يؤذن بعد المبالاة بالدين والإسلام والمسلمين.
قوله: (فلم يقبل قوله أبو بكر وعمر).
إنما تقبلاه لأنه شاهد واحد ومثل ذلك يفتقر إلى شهادة كاملة ولا تقبل فيه رواية الواحد.
قوله: (إنه أحرق المصاحف).
قيل الذي كان مشهوراً من المصاحف ثلاثة مصاحف ابن مسعود ومصحف أبي بن كعب ومصحف زيد بن ثابت. قيل: فابن مسعود قرأ القرآن على رسول الله وعرضه عليه ولم يكن قد كمل النزول وأبي قرأه عليه صلى اللّه عليه وآله وسلم بعد الهجرة وما كان عرضه عليه إلا في ذلك الوقت وكانت قرآءة زيد له عليه صلى اللّه عليه وآله وسلم بعدهما وتأخر عرضه له عليه صلى اللّه عليه وآله وسلم عنهما وكان صلى اللّه عليه وآله وسلم يقرأ في صلاته به حتى مات والمختارون لقراءة زيد أكثر ثم وقع الإتفاق عليها. وقد قيل: إن عثمان لم يحرقها وإنما غسلها لكن الإحراق أشهر.
قوله: (فلا عنت عليه).
قال الإمام يحيى: فأما جمع القرآن على حرف واحد فهو معدود من مناقبه لأنه لما وقع أختلاف في القرآن كتب مصاحف على رأي ابن عباس وحرق ما عداها فقرآءة السبعة المأثورة الآن هي على مصاحفه.
قوله: (إلا ابن مسعود).
أعترض بوجهين:ـ
أحدهما: منع ........ إنكار غير ابن مسعود وأدعاء أن المنكر جماعة من الصحابة وطائفة منهم.
الثاني: أن إنكار ابن مسعود كاف لفصله وعلو درجته ولقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم فيه: ((من سره أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقراءه على قراءة ابن أم عبد)). وعن ابن عباس أن قراءته هي القراءة الأخيرة لأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يعرض القرآن على جبريل في كل سنة عرضة في شهر رمضان وأما العام الذي توفي فيه فعرضه صلى اللّه عليه وآله وسلم عليه عرضتين وشهد عبدالله بن مسعود ذلك وما صح منه وما نسخ فقرآءته هي الأخيرة، وعن ابن مسعود، أخذت عن رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم سبعين سورة وإن زيد بن ثابت لغلام يهودي له ذؤابة.
قوله: (لبشاعة الإحراق).
هو بالباء الموحدة والشين المعجمة من قولهم شيء بشع إذا كان كريه الطعم بأخذ بالحلق وكان الأحسن أن يقول لشناعته بتقديم الشين والنون.
قوله: (أنه ضرب ابن مسعود).
وفي رواية رووها أنه ضربه حتى مات وفي رواية أنه أمر بأخراجه.
قوله: (كان يكفره ويسبه).
روي أنه كان يقول في عثمان ليتني وإياه برمل عالج يحثو عليَّ وأحثو عليه حتى يموت الأعجز مني ومنه وأوصى ألا يصلي عليه وكان يقول: ما يزن عثمان عند الله جناح ذباب.
قوله: (لأجل أنه عزله ونقص من عطائه).
أما عزله إياه فقد كان أميراً على الكوفة على عهد عمر رضي الله عنه فلعل عثمان عزله بعد موت عمر عند أن أفضت الخلافة إليه، وأما نقصه من عطائه فظاهر بل روي أنه منعه إياه كله وذكر أن عثمان عاده في مرضه، فقال له: ما تشتكي؟
قال: ديوني.
قال: فما تشتهي فلا رحمه ربي؟
قال: أفلا أدعو لك طبيباً؟
قال: الطبيب أمرضني.
قال: أفأمر لك بعطائك؟
قال: منعتنيه وأنا محتاج إليه وتعطينيه وأنا مستغن عنه.
قال: يكون لولدك.
قال: رزقهم على الله.
قال: لتستغفر لي يا أبا عبدالرحمن؟
قال: أسأل الله أن يأخذ لي منك بحقي.
قوله: (إنه ضرب عماراً).
زعموا أنه ضربه ضرباً عنيفاً حتى صار به فتق من الضرب فكان عمار يطعن فيه وهو ممن ظاهر عليه وكان يقول قتلناه كافراً.
قوله: (فإنه لم يصح ذلك).
قد أعترض بأن إنكار ضربه عماراً كإنكار طلوع الشمس فإنه لم يختلف فيه الرواة.
قوله: (إن عثمان أشخصه من الشام).
قيل: إنه أشخص على جمل ليس عليه إلا القتب حتى جرحه ذلك وسقط لحم فخذيه وكان ذلك من عثمان أتباعاً لهوى معاوية لأنه كره إقامة أبي ذر في الشام وأدعى أنه يثبط عن عثمان وأراد أن يبعد عنه لئلا يطلع على مبتدعاته فينكرها لأنه كان صليباً في دين الله فاضلاً من فضلاء أصحاب رسول الله قدوة يقتدى به في دين الله وقد روي إنكاره على معاوية أشياء فعلها منها بناء الخضراء بدمشق قال له: إن كانت من مال الله فخيانة، وإن كانت من مالك فأسراف. وكان يقول: والله لقد حدثت أعمال أعرفها والله ما هي في كتاب الله ولا سنة رسول الله وإني لأرى حقاً يُطفى وباطلاً يحيى وصادقاً مكذباً وكاذباً مصدقاً وأثرة تغير تقى وصالحاً مستأثراً عليه. وقيل لمعاوية: إن أبا ذر لمفسد عليكم الشام فتدارك أهله فكتب معاوية إلى عثمان فيه. وقد قيل: إن عثمان هو الذي نفاه إلى الشام وأرجعه من المدينة إليه فلما رجح له معاوية أبعاده عن الشام أشخصه إلى المدينة ثم أخرجه منها مرة إلى إلى الربذة بليدة بالبادية وبها قبر أبي ذر رضي الله عنه وهي بالراء المهملة والباء الموحدة المفتوحتين والذال المعجمة وكان سبب نفرة أبي ذر عن عثمان إيثار أهل بيته بالأموال العظيمة كما سيأتي ذكره.
قوله: (حين قتل الهرمران).
هو ررجل من أهل فارس أسلم وسبب قتل عبيدالله له أنه رآه مع أبي لؤلؤة قاتل أبيه عمر يشاوره فأتهمه بأن له يداً في قتل عمر ونقل أن عمر أوصى بقتل أبنه عبيدالله إن لم يقم بينه على الهرمران بما أتهم به من الأمر بقتله فلما مات عمر طلب المسلمون إلى عثمان إمضاء الوصية في عبيدالله و......... فعظم ذلك على المسلمين.
قوله: (وأراد أن يعطل الحد في الوليد بن عقبة).
يعني: حده على شربه لاخمر وقد تقدم وذكر وقامت به الشهادة المعتبرة وزعموا أن عثمان توعد الشهود وتهددهم وضرب أحد الشهود أسواطاً، فأتاه أمير المؤمنين وقال: علطنا الحدود وضربت قوماً شهدوا على أخيك فقلبت الحكم.
قال: فما ترى؟
قال: أن تعزله ولا توليه شيئاً من أمور المسلمين وأن الشهود إذا لم يكونوا أهل ظنة ولا عداوة أقمت عليه الحد فساعده ولكن ما جسر أحد على حده فأخذ أمير المؤمنين السوط فجلده بيده.
قوله: (لم يكن للهرمران ولي).
قيل: إنه كان وليداً فعفا عن قاتله. فقيل: إن أمير المؤمنين أعترضه في عفوه عنه، وقال: إنه قتل في أمره غيرك وقد حكم الوالي الذي قتل في إمارته بقتله ولو أنه قتل أيضاً في إمارتك لم يكن لك العفو عنه فأتق الله فإن الله سائلك عن هذا.
قوله: (ومنها أنه كان يؤثر أهل بيته بالأموال العظيمة..) إلخ.
قد روي أنه أعطى أزواج بناته وهم أربعة من قريش ما ذكره المصنف، وفي رواية: أنه أعطى مروان مائة ألف عند فتح أمر نفيه. وفي رواية: أنه أعطاه خمسها وكان ألف ألف دينا. وقيل: مائتا ألف دينار.
قالوا: وكان من قتله يعطي على جهة الإقتصاد وبقدر الإستحقاق وإذا كانت سرقة عشرة دراهم توجب الفسق فإتلاف هذه الأموال على بيت المال وإعطاؤها من لا يستحقها بمنزلة إلقائها في اليم فيكون ذلك فسقاً مبطلاً لعدالته.
قوله: (وجائز أن يعطي من ماله).
قال الإمام يحيى: قد روي ذلك فإنه كان ذا مال وثروة عظيمة.
قال: وإذا كان من بيت المال فالإحتمالات فيه كثيرة ما هذا حاله لا يمكن القطع بالتفسيق به وغاية الأمر أنه أخطأ في العطاء من غير استحقاق فلا يكون بذلك فاسقاً خاصة مع أعتقاده للولاية وأن بيت المال في يده يقبض فيه ويبسط.
قوله: (ومنها: أن أكابر الصحابة كانوا بين قاتل له وراض بقتله وخاذل له وذلك دليل على فسقه).
قالوا: لأنه لو لم يكن قتله حقاً لم يتفق عليه المهاجرون والأنصار ومع كون قتله حقاً فأقل أحواله الفسق.
وأعلم أن قصة عثمان وما كان من قتله في صحن داره والمصف في حجره بمهاجر رسول الله وفي جواره وحول قبره وبمدينته المسماة طيبة بين ظهراني المهاجرين والأنصار الذين أثنى الله عليهم ومدحهم وخصهم بالفضائل الكبار مع قرب عهدهم بنبيهم خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم يأخذون عنه ويشاهدون نزول الوحي عليه وهبوط جبريل إليه وكان لهم من الحرص على صيانة الإسلام وعدم تعدي الحدود وجري الأمور على فوانينها وبنائها على قواعدها وأستنكار الأمر اليسير الذي يخالف مقتضى الشرع الشريف ما لا يقدر قدره ومع ذلك فسكوتهم هذا يكون على أعظم فاحشة وأكبر منكره القتل الذي عظم الله الرزية فيه حتى جعل من قتل نفساً واحدة كمن قتل الناس جميعاً وذهب أعيان من علماء الإسلام إلى أنها لا تقبل توبة فاعليه مع تعلقه بشيخ من مشائخ المسلمين وكبير من كبراء المهاجرين السابقين وأحد العشرة الخواص البررة المبشرين و...... رسول الله ومن أرتضاه زوجاً لأبنتين من بناته واحدة بعد واحدة رقية وأم كلثوم فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((لو كان لنا ثالثة لزوجناك إياهما ونحلة)). وله فضائل الدثرة وناهيك بتجهيز جيش العسرة ثم ختم مكارمه وأوصافه بأقتعاده عازب الخلافة وتولي إمرة المؤمنين فبايعوه والتزموا طاعته وأمتثلوا أوامره ما يدهش الألباب ويبهر العقول وتحار فيه الأذهان ويصير له النظر في كل واد يهيم فلا يهتدي إلى الوجه في ذلك كما لا يهتدي ضال الطريق في الليل البهيم وليس القسمة تحتمل إلا أحد أمرين:ـ
إما أن عثمان قد أستحق القتل بما صدر منه وصار دمه هدراً فما بال كبراء الصحابة ورؤساء المهاجرين والأنصار وأهل الحل منهم والعقد لم يتولوا الأمر ويكونوا فيه رأساً لا ذنباً والغاضبين لدين الله والمنتصرين له ممن تعدى حدوده وعصاه.
وإما أن يكون غير مستحق لما ناله وهو باق على الأصل في كونه محترم الدم ثابت الحرمة فما يكون المخلص من السكوت على ذلك والإغضاء عليه وعدم الغضب لله والذب عن رجل من أكابر المسلمين ومن يتولى أمورهم وقد بايعوه ومدوا أكفهم إلى يده ولو أن رجلاً حاول أن يذبح دجاجة في المدينة ظلماً وتعدياً على مالكها بحضرة صحابي واحد أو أثنين لما تم له ذلك ولا ترك له سبيل إليه فكيف تم لأولئك الأهماج الرعاع ذبح عثمان وإراقة دمه على ورقات القرآن ما هي إلا مصيبة عظمى وطامة كبرى وقصته فاحشة ومؤلمة للقلوب موحشة ونحن نتكلم منها في أطراف خمشة نذكر في كل طرف منها شبح فالأستقصاء يؤدي إلى بسط كثير:ـ
الطرف الأول: في السبب المفضي إلى ذلك.
والسبب في ذلك ما صدر من عثمان من الأحداث التي تقدم ذكرها والمهم منها ما كان منه من توليه الأعمال كلها قرابته مع سوء أحوالهم وقلة أديانهم وقبح سيرتهم وأنه ترك أصحاب رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم مهاجريهم وأنصارهم في المدينة بحكم المسجونين وإن ذهب أحد منهم إلى جهة لم يجد فيها مجالاً لمكان ولآة السوء فهذا أشد ما دأبهم منه.
قيل: فهموا بعزله فما أسعدهم ولا تمكنوا من ذلك لرسوخ قدمه في الأمر وأشتداد وطأته ونفوذ أحكامه وأرادوا منه أن يولي غير ولاته فما أنقاد لذلك لكن لما ألحق أغلبه أسعد أمير المؤمنين إلى أن يولي محمد بن أبي بكر مصر وفعل ذلك وخرج محمد بن أبي بكر ومع مصريون كانوا قد وفدوا إلى المدينة متظلمين من المتولي عليهم فلما صاروا ببعض الطريق أدركهم خادمه يسير في أثرهم قاصداً إلى مصر ففتحوا أمتاعه فوجدوا معه كتاباً إلى عاملة بمصر أن إذا وصلك محمد بن أبي بكر فأضرب عنقه وحد على الطريق حى لا يأتل العلم بذلك حتى يأتي كتابي أو كما قال: فأخذوه ورجعوا إلى المدينة وأطلعوا أمير المؤمنين عليه وأزمعوا أن يقصدوه إلى داره فقال علي عليه السلام دعوه حتى أطلعه على كتابه فلما أطلعه أعترف أن الختم له وأنكر أن يكون الكتاب منه وأعتذر بأن مروان كتبه بغير ضامنه.
فقال علي: إدفع إلينا مروان لنقيم عليه ما هو عليه.
فقال: لا أفعل.
فعند ذلك تجهز محمد بن أبي بكر في المصريين وغيرهم من أهل الأفاق بعد أن فهموا من الصحابة النقم لطريقته فهجموا عليه وحاصروه.
الطرف الثاني: ذكر ما نسب إلى أكابر الصحابة في شأنه.
أعلم أنه قد شهر نسبة قتله والرضا به إلى أمير المؤمنين وهو عليه السلام أبرأ الناس من دمه وقد ذكر المصنف عنه ما يدل على ذلك من قوله: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان. وعنه: والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله. وقال لعثمان: ........ قتله بعد أن عاتبه عثمان: والله إني لأكثر الناس ذباً عنك ولكني كلما جئت لشيء أظنه لك رضاء...... وإن نغيره ..........
قوله: (وتركت قولي).
وروى الإمام يحيى عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: والله لقد دفعت عنه حتى حسيت أن أكون آثماً.
قال: ولما قال عمار: هو جيفة على الصراط ناظره الحسن السبط فأحتكما إلى علي عليه السلام.
فقال علي لعمار: أتكفر بما آمن به عثمان؟
قال: لا.
قال: أفتؤمن بما كفر به عثمان؟
قال: لا.
فقال له: حل عن ...........
وقال عليه السلام لرجل سأله عنه: ليس رأي فيه رأي أبي اليقضان، أما أنه استأثر فأسىء الأثرة وجزعتم فاسأتم الجزع ولله حكم واقع في المستأثر والجازع وإنما بالغ في إضافة ذلك إلى علي عليهم السلام فرقتان:ـ
أحدهما: أرادت بذلك........ عنه والحط من شأنه وإغراء الناس عليه في حياته وبعد موته وهذا هو الذي أراده معاوية وأتباعه والمقتفون لآثاره.
والفرقة الثانية: المتحاملون على عثمان المبالغون في وضعه وتشنيع أفعاله وتقطيع ما صدر منه فأرادوا بذلك حصول غرضهم لأن أمير المؤمنين حجة وأي حجة وأقواله وأفعاله إلى الهدى أوضح محجة وقد نسب الرضا بقتل عثمان وما كان في أمره إلى عائشة وطلحة والزبير وكانوا من المتحاملين عليه.
وقفت في بعض التواريخ على أن عائشة أبرزت قميصاً لرسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى رآه من بالمسجد وقالت: يأيها الناس هذا قميص رسول الله لم يبل وعثمان قد أبلى سنته فقال: {إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم}.
ورأيت في بعضها: أن رجلاً سئل عن أمر عثمان فقال: قتل بسيف شحذه فلان وسمه فلان وضرب به فلان وذكر أمراً رابعاً وعين علياً عليه السلام وعائشة وطلحة والزبير.
وأما شأن عمار بن ياسر في ذلك فظاهر ومحمد بن أبي بكر هو زعيم تلك القضية ورأسها لكنه ليس بصحابي على الحقيقة لحداثة سنة وإن كان قد ذكر في تقريب التهذيب إن له رواية وأحسب أن المشاركين في قضية عثمان هم العدد الكبير من الصحابة والجلة منهم ولو لم يرضوا بما كان ولا ظنوا أن القضية تنتهي إليه لما كان يصدر منهم من النعم عليه و....... بأفعاله وتصرفاته والإنكار لها ومثل ذلك يكفي في إغراء الجهلة وأهل الحماقة ومن ليس له تورع يصوبه عما....... وقد نسب إلى أمير المؤمنين أنه قال: قتله الله.
ولا صحة لهذا وأتفق من الصحابة أن تزكوه بعد قتله ثلاثاً لم يدفن.
وقال عمار: هو جيفة على الصراط، وقبر في خش ولم يؤثر أجتماعهم للصلاة عليه وحضور مواراته فلمثل ذلك......... الرافضة على أن نسبوا قضيته إلى أكابر الصحابة وأعتقدوا رضاهم.
الطرف الثالث: في ذكر الأصح من حال الصحابة في أمره.
فالذي صححه المحققون أن أكابر الصحابة كانوا متوقفين في بطلان إمامته بسبب أحداثه فما أمروا بخلعه لعدم قطعهم بإنتفائها ولا كرهوه لعدم قطعهم ببقاء أحكامها ولم يرضوا بقتله وقد روي أن أمير المؤمنين أمر أولاده ومن عنده من أصحابه أن يفكوا عنه الحصار فما أمكنهم ذلك ونسور الدين قتلوه من خلف الدار حتى قتلوه ولم يشعر بهم من في وجة الدار حال مدافعتهم عنه.
قال بعض أئمتنا: والظاهر أن جميع الصحابة الذين بمدينة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم خذلوه فلم يدفعوا عنه وذلك لما كرهوه من أفعاله وإما أنهم رضوا بقتله فلا لأنه ظهر غضبهم منه فيما تعد وأشتهر.
قلت: ولعلهم ظنوا أن خذلانهم له وتركهم لنصرته على جهة الغضب عليه لما فعل ما فعل وما أنزجر ولا أعتدل لا يؤدي إلى قتله وإنما يؤدي إلى خلعه فلما حشي عليه القتل أمر الحسنين أن يدافعا عنه.
قيل: (مهدي): ورجاء أمير المؤمنين أنه بعد مضايقتهم له يسعد إلى الإنخلاع فتجتمع كلمة المسلمين وقد كان ذلك قريباً فقد كان عثمان أمر الحسن إلى والده فسبق ما سبق عن غير رضا من علي عليه السلام بقتله وأما خلعه فكان لا يكرهه وعليه يحمل ما روي عن علي عليه السلام أنه قال: والله ما أمرت ولا نهيت ولا رضيت ولا كرهت.
أراد: ما أمر بالخلع ولا نهى عنه ولا رضي به ولا كرهه.
الطرف الرابع: في حكم قتله عندنا.
فالذي نختاره وندين به أنه قتل ظلماً بغير حق وأن قتله معصية لأنه إن كان لا يستحق القتل فظاهر، وإن فرض أستحقاقه له فليس ذلك إلى من قتله لعدم الولاية على ذلك إنما الولاية في مثله إلى الأئمة.
قال الإمام يحيى: ولم يقتله إلا السفهاء والأوباش الذين لا رشد لهم.
الطرف الخامس: في حكم قاتله.
والتحقيق: القول بتفسيقهم لما ذكر من كون قتلهم إياه ظلماً وعدواناً على كل تقدير ولأن أمير المؤمنين عليه السلام قال: اللهم ألعن قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل.
قال الإمام يحيى: وفي هذا دلالة على فسقهم وقتلهم له بغير حق وإلى ذلك ذهب أكثر المعتزلة. وقالوا أيضاً: بتفسيق خاذليه. وتوقف الشيخ أبو القاسم فيه وفيهم وبعضهم توقف في الخاذلين لا القاتلين.
وذهب ابن جرير: إلى تكفير عثمان بأحداثه.
وبعضهم: ذهب إلى تفسيقه لأجلها.
وقال الشيخ أبو الهذيل: أتولى عثمان وحده.
معناه: أجرى عليه أحكام المسلمين من وجوب موالاته ولا أقول بفسقه، وأتولى قاتله وخاذليه وحدهم ولا أدري كيف حالهم عند الله.
قال الإمام المهدي: وهذا عندي هو أعدل الأقوال وأقربها إلى السلامة إلا أن قاتليه إن كانوا متمكنين من أستخلاص ما في يده من الأموال والعهد من دون قتله فلا شك في فسقهم، وإن كانوا لا يتمكنون من أستخلاص ما في يده بغير قتله إما بأسره أو غير ذلك فلعل الشبهة في ذلك تدفع عنهم الفسق كما ذكره أبو الهذيل.
قلت: أما من تولى القتل بيده وباشره بنفسه وأقدم عليه فلا ينبغي أن نتولاه ولا أن يتأول له ولا أن يجعل شبهته دافعة لفسقه.
وأما من أعان عليه وحضر مهلكه وأغرى الناس به فلا بأس بذلك القول في حقه والله سبحانه الموفق للصواب والعالم بحقيقة ما نشتك فيه ونرتاب.
قوله: (وإنما دخل عليه أعلاج لم يدر أيهم قاتله).
العلج: الرجل من كفار العجم. والجمع: أعلاج وعلوج ومعلوجاً وعلجة. وقد أدعى بعض المؤرخين أن قاتله رجلان معينان أسمهما: قنبرة بن وهب وسودان بن حمران. وروي أنهما قتلا في الدار عقيب قتلهما لعثمان بأيدي عبيده فيسقط السؤال من أصله وقد روي أن محمد بن أبي بكر ممن دخل الدار وهم أن يباشر القتل وأمسك بلحيته عثمان.
فقال له عثمان: لو رأى أبوك مقامك هذا لأنكره أو كما قال.
فتركه ولم ينله بشيء.
فصل: فيما يطعن به أهل الزيع على أمير المؤمنين عليه السلام.
قوله: (أعلم أنه عليه السلام أحل قدراً وأشهر فضلاً من أن يطعن عليه).
يعني: لما خصه الله به من العصمة عن كل شين وضيمة والفضائل الدثرة والمكارم التي يفوت الوصف كثره بحيث أنه لا يدرك أحد حصرها ولا يقدر الناظر فيها قدرها وليس بجهل منصف أمرها ولكن الشيطان نعوذ بالله منه أستفز كثيراً من الناس بمكره وحيله، وأجلب عليهم بخيله ورجله وأوقعهم في مهاوي اللال حين أتاهم من خلف وقدام ويمين وشمال ففدح الأهماج في رب العزة والجلال وعادى ........ جبرائيل وميكائيل وطعن الزعانف في الأنبياء المصطفين للأرسال ومن العجائب أن من الطاعنين في أمير المؤمنين وسيد الوصيين بعض أهل الأعتزال نسب ذلك إلى الجاحظ عمرو بن بحر مع أشتهاره وسعة علمه وقول بعضهم فيه وقد سئل عن الدليل على أعجاز القرآن إيمان الجاحظ به فنعوذ بالله من مسلك الضُّلاَّل.
روي عنه: أنه كان شديد الإنحراف عن أمير المؤمنين والتعصب للعثمانية وصنف في ذلك وبالغ فيه حتى روي من يجامله أنه صنف كتاباً للعثمانية وأيده وأحتج فيه وطعن على أمير المؤمنين عليه السلام وأعقبه بتصنيف آخر في إمامة المروانية وأقوال شيعتهم، وترجمه بكتاب أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان وذكر فيه رجال المروانية وأحتج على إمامة بني أمية من بني مروان ثم صنف كتاباً آخر ترجمه بكتاب مسائل العثمانية وذكر فيه ما فاته ذكره من نقص فضائل أمير المؤمنين.
فأنظر إلى هذا الزيغ الشديد والضلال البعيد وقد نقض كتبه هذه جماعة من متكلمي الشيعة وبالغ في نقضها الشيخ أبو جعفر محمد بن عبدالله الأسكافي وهو من شيوخ المعتزلة البغدادية ورؤسائهم وأهل الزهد والديانة فيهم وممن يذهب إلى تفضيل أمير المؤمنين والقول بإمامته نقل ذلك من المروج للمسعودي.
قال: ولم يصنف الجاحظ هذه الكتب لأنها مذهبه أو كان يعتقده لكن فعل ذلك بما جنا وقد نسب إلى عباد والأصم أنه عليه السلام لا يصح للإمامة فأنظر ما أشنع هذه العبارة على أن كلامهما قد تأول بأن عباد أراد عدم الصلاحية قبل العقد. وأن الأصم قال بذلك لما كان من قضيته الحمل.
قوله: (منها قتاله لأهل الصلاة).
أعلم أن الناس في محاربته عليه السلام لأهل القبلة على فرق:ـ
منهم: من خطأه في قتالهم جميعاً.
ومنهم: من خطأه في قتال طلحة والزبير وعائشة.
ومنهم: من وقف فيه وفي هؤلاء.
ومنهم: من قصر التصويب على حرب معاوية.
ومنهم: من صوبه في حرب الخوارج.
وأحتج من خَطَّأَهُ بأن القتال إنما يجب ويستحق بخصال الكفر والردة والقتل والزنا.
وقد ثبت أن الذين قاتلهم لم يكن منهم شيء من ذلك بل منهم من محله في الدين ومنصبه في الإسلام وفي صحبة رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم لا تخفى فقتلهم وقتالهم حرام لا يحل.
وأعلم أن هذا من التجاهل العظيم والخطأ الفاحش الذميم فإن محاربته عليه السلام وقتاله لمن قاتل من بغاة الأمة وأهل القبلة جدير بأن يعد من فضائله وكرم شمائله.
قال الإمام يحيى عليه السلام: هو دليل على علو منزلته عند الله لما فيه من مضاعفة الأجر وجزيل الثواب فقد روي أن امرأة قتل ولدها فجاءت إلى الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال لها: ((إن أبنك له أجر شهيدين لأنه قتله أهل الكتاب)). فإذا كان ذلك لأجل قتال أهل الكتاب مع كفرهم فكيف حال المحق في حرب أهل القبلة ومن هو على بصيرة من أمره مع القطع بخطأ من قاتله وهلاكه عند الله للخروج على إمام الحق ومحاربته له ومنعه عن القيام بأمر الله وجمع شمل المسلمين ورفع كلمة الدين كما كان من الخارجين على أمير المؤمنين.
قلت: ولهذا المعنى جزم كثير من فضلاء الأئمة بأن حرب البغاة أفضل من حرب الكفار كالإمام المؤيد بالله عليه السلام.
قال الإمام يحيى: فأما تعلقهم بأن القتل لا يستحق إلا بأحدى تلك الخصال الثلاث فهو باطل لأن الشرع كما أباح القتل بما ذكروه فقد دل على جواز القتل لما يكون من البغي بغير الحق والفساد في الأرض وأما كون طلحة والزبير من فضلاء الصحابة وكبرائهم ولهم من الفضائل ما لهم فذلك لا يمنع من جواز حربهما لأن أمير المؤمنين حيث صحت إمامته وأجمع عليها الأحمر والأسود قد وجبت طاعته وحرمت مخالفته فلا فرق بين مخالفة طلحة والزبير وعائشة وبين مخالفة معاوية والخوارج في كونها بغياً وخروجاً على الإمام وربما يحتجون بما روي عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: ((نُهيت عن قتل المصلين)). وهو متروك الظاهر فإنهم يوافقون أنهم إذا قَتلوا أو قُتلوا وإذا زنوا مع الإحصان رجموا ولا تمنعهم الصلاة عن ذلك فكذلك لا تمنعهم مع البغي.
قوله: (ولا بغي أعظم من الخروج على إمام المسلمين).
يعني: لما في ذلك من شق العصا وتفريق كلمة الدين وتشتت أمر المسلمين.
قوله: (فقد قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((ستقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين)). هذا خبر شهير متلقى بالقبول معدود من معجزات الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم.
والناكثون: طلحة والزبير وأتباعهما ممن بايع علياً عليه السلام على السمع والطاعة ثم نكث بيعته فإن طلحة أول من مد يده إليه للبيعة الزبير كان من أشد الناس حرصاً على إمامته وبايعه.
والقاسطون: معاوية وأتباعه والقاسط الجائر، ولا شك في جورهم وعدوانهم.
والمارقون: الخوارج، قال فيهم صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)). ولا شك أن في هذا الخبر دلالة على جواز قتالهم وأنه مصيب للحق فيه لأنه ورد في معرض المدح له والتعظيم لشأنه والانتفاض لمحاربته ووضفهم بصفات النقص والذم ولم يرد مورد الأنكار كما قال صلى اللّه عليه وآله وسلم للزبير: ((لتقاتلنه وأنت له ظالم)). أو كما قال، وكما أخبر عائشة بخروجها وأنها تنبحها كلاب الحؤب.
قوله: (وقوله عليه السلام: ((سيكون هنا وهنا بعدي))).
أي: حصلات سوء والتكرير للمبالغة.
قوله: (حتى قال الفقهاء..) إلى آخره.
أول من قال ذلك أبو حنيفة وإنما قاله لأن علياً عليه السلام كان أول من حاربهم وقرر أحكامهم وإنما أقتدى به الأئمة من بعده ولم يتفق قبله خروج ولا بغي على أحد من الخلفاء.
قوله: (على صحة مقاتلة اللصوص).
يعني: إذا قصدوا بلداً من بلاد المسلمين وخيف منهم سفك الدماء وأجتياح الأموال لا قتالهم على سبيل الإطلاق كما يقضي به ظاهر كلام المصنف.
قوله: (أولى وأحرى).
إنما كان أولى لما سبق وهو ما فيه من شق العصا.
قوله: (إنه لدار أن يتزوج من بني المغيرة).
المروي أن التي أراد أن يتزوجها بنت لأبي جهل بن هشام.
قوله: (يريبني ما .....).
هو من قولك: رأيني هذا الأمر ورأتني أمره إذا أدخل عليك شكا وخوفاً.
قوله: (وإن صح فإنما أراد أن يستأذن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم).
سياق الحديث مضى بأنه لم يستأذن ولو استأذنه صلى اللّه عليه وآله وسلم لكفاه ألا يأذن له ولم يحتج إلى إظهار الإنكار.
وأعلم أن الإمام يحيى عليه السلام قطع بأنه إن صح الحديث فإنها هفوة من أمير المؤمنين وزلة وتكون صغير في حقه لدليل العصمة.
وكلام المصنف أعدل حيث قال: ومن البعيد أن ينكر النبي هذا الإنكار في أمر هو حلال من الله وأكثر ما فيه أن يكون هفوة.
قلت: وهذا الحديث مما تستبعد صحته من جهات:ـ
إحداها: أنه لا يناسب ما كان عليه أمير المؤمنين من محبة البتول وتعظيم أمرها ومعرفة قدرها فإنها سيدة نساء العالمين.
الثانية: أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم معلم الشرائع فلا يناسب حاله أن ينكر ما هو غير منكر ومقتضى شرعة الشريف ونص القرآن الكريم جوار نكاح ما فوق الواحدة إلى أربع فكيف ينكره ويشنع الأمر فيه ولو فرض أنها أدركته الغيرة فليست تتعدى به إلى حد الإنكار والتجريح فيما هو حلال طيب.
الثالثة: أنا لو فرضنا أنه يحرم ذلك لمكان فاطمة عليها السلام وأن هذا حكم خاص لها وأن علياً عليه السلام دعته الشهوة البشرية إلى ذلك فهم به فمن البعيد أن يكون الإنكار من الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم لذلك على تلك الكيفية وأن يفتقر في منع علي عليه السلام إلى صعود المنبر والتكلم بذلك على أعين الناس مع ما كان بينه وبين علي من الإختصاص ومن المعلوم المتيقن إمكان الإنكار على صفة جميلة كما يفعله الخواص والأحباب في مقام العتاب فذلك لا يناسب ما كان عليه صلى اللّه عليه وآله وسلم من الحلم الواسع والخلق العظيم على أن هذا الحديث قد أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من رواية المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال: إن علياً خطب بنت أبي جهل وعنده فاطمة بنت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فسمعت ذلك فاطمة فأتت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقالت: يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك وهذا علي ناكحاً أبنة أبي جهل فقام رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم فسمعته حين تشهد يقول: أما بعد، فإني أنكحت العاص بن الربيع فحدثني وصدقني وإن فاطمة بضعة مني وأنا أكره أن يسوؤها. وفي رواية: أن يفتنوها والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد أبداً. وفي رواية: إنما هي بضعة معني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها. قال: فترك علي الخطبة.
قوله: (ومنها قصة التحكيم. قالوا: فَحَكَّمَ وهو يعلم أنه على الحق).
هذه الشبهة الركيكة معتمد الخوارج المارقين الحمفى في تخطئته عليه السلام والطعن عليه بل في تضليله وتكفيره ألجؤه إلى التحكيم ثم عادوا إلى تخطئته فيه ورميه بالأمر العظيم والقصة أنه لما طال قتال صفين وبدا عنوان النصر للمؤمنين على الباغين وأشرف أهل الشام على التلف أحتالوا في التخلص بأن يرفعوا المصاحف على الرماح وأظهروا أنهم باذلون للإنصاف وتحكيم الكتاب المحكم والرجوع إليه في ذلك الأمر.
فقال أمير المؤمنين: إنا أحق من أحاب إلى كتاب الله ولكن معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن إني أعرف بهم منكم صحبتهم صغاراً ورجالاً فكانوا شر صغار وشر كبار وما رفعوها إلا خديعة.
فجاءه عليه السلام من أصحابه قدر عشرين ألفاً مقنعين بالحديد حاملي سيوفهم على عواتقهم قد أسودت جباههم من أثر السجود فنادوه بأسمه ولم يدعوه بأمير المؤمنين.
قالوا: يا علي أجب القوم إلى كتاب الله وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان وكف الأشتر عن قتالهم.
فقال الأشتر: أمهلوني ....... بامة فقد أحسست بالظفر.
فقالوا له: تحب أنك تظفر ويقتل أمير المؤمنين أو يسلم إلى عدوه فصاح بهم الأشتر يا أهل الذل والوهن أحين علوتم وظنوا أنهم مقهورون رفعوا المصاحف وراجعهم وسبهم وسبوه وضرب وجه دوابهم وضربوا وجه دابته فصاح بهم أمير المؤمنين فكفوا وبعث علي عليه السلام قراء من أهل العراق وبعث معاوية قراء من أهل الشام فاجتمعوا بين الصفين ومعم المصحف على أن يحيوا ما أحيي ويميتوا ما أمات وعلى أن يحكموا رجلين أحدهما من أصحاب أمير المؤمنين والآخر من أصحاب معاوية فأختار أهل الشام عمرو بن العاص وأختار الأشعث والخوارج أبا موسى.
فقال علي عليه السلام: أنا لا أرضى به وقد فارقني وخذل الناس عني ثم هرب مني ولكن هذا ابن عباس.
فقالوا: والله ما نبالي أنت كنت أو ابن عباس.
قال: فالأشتر.
قالوا: وهل ضيق سعة الأرض علينا إلا الأشتر.
قال علي عليه السلام: إني أخاف أن يخدع ...... فإن عمرو ليس من الله في شيء.
قال الأشعث: هو أحب إلينا.
قوله: (لما غلب على رأيه في التحكيم).
قد علم ذلك من سياق القصة المذكورة فإنها تشهد بعدم رضاه عليه السلام بما كان من التحكيم وإنها قهر عليه وألجي إليه.
قوله: (وأما قولهم إنه رضي بمحو إسم أمير المؤمنين ـ إلى قوله ـ يوم صحيفة التحكيم).
لما تقرر الأمر على التحكيم وشرعوا في كتبه الصحيفة كتب عبدالله بن أبي رافع هذا ما صالح عليه أمير المؤمنين فأمتنع البغاة عن ذلك حتى كتب علي بن أبي طالب فذكر عليه السلام قصة الحديبية وتمثل بها.
فقال عمرو: أونقاس بالمشركين.
فقال عليه السلام: أولم تكن يابن النابغة للمؤمنين عدواً وللمشركين ولياً أولم تكن في الإسلام ذنباً وللضلالة رأساً قم من هاهنا يا عدوا الله.
الباب الثالث
قوله: (أبو سعيد عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((لا يستوا أصحابي..))). إلى آخره.
أخرجه مسلم من رواية أبي هريرة وهذا أسلوب لبعض أهل كتب الحديث يذكرون في المراسيل أسم الراوي الصحابي ويحذفون الفعل المسند إليه مثل قال أو نحوه.
وقوله: (فيه ما أدرك مدا حدهم ولا بصفة المد مكيال معروف قال الجوهري هو رجل وثلث عند ........... ......................................
والصاع أربعة أمداد والنصف هنا بمعنى النصف لغة فيه.
قوله: (لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً).
الصرف التوبة، والعدل الفدية ذكره الجوهري وغيره.
وأما الباب الرابع: فهو في إقامة الدلالة على تزكيتهم والترضية عنهم
قوله: (في تزكيتهم جملة وتفصيلاً).
يعني: بالجملة ما ورد فيهم معاً وبالتفضيل ما ورد في كل واحد منهم وهذا الباب ....... وتنطوي كتب الحديث منه على الواسع الكثير والجم الغفير.
قوله: (والقياس).
أراد به: طريقة الأعتبار وليس المراد القياس المركب من أصل وفرع وعلة وحكم وعطف على الكتاب والسنة هنا ليس بالمطابق فكان الأحسن أن يقول ما ورد في الكتاب والسنة ودل عليه الأعتبار.
أما ما ورد في الكتاب من ذلك فنحو قوله: {والسابقون الأولون..} إلخ هذه الآية. دالة على رضاه عنهم ورضاهم عنه ولا غاية فوق هذه الدرجة ولا فضل يساوي هذه ....... وقوله: {إذ يبايعونك..} الآية. إشارة إلى بيعة الحديبية وهي بيعة الرضوان وسببها أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم لما وصل الحديبية عام الصلخ أمر عثمان إلى مكة ليفهم أخبارها وما أهلها عليه فأرجف بقتله فقال والله إن قتلوه لأضرمنها عليهم ناراً وبايع من حضره من المؤمنين لأجل ذلك على الموت ثم صفق بشماله على يمينه وقال هذه لعثمان لئلا يفوته فضل تلك البيعة.
قوله: (إلى قوله: {رضي الله عنهم ورضوا عنه}).
وجه الإستدلال بها أنه لما ذكر حكم من في وقته صلى اللّه عليه وآله وسلم من كبار أهل الكتاب ذكر حكم من في وجه صلى اللّه عليه وآله وسلم من المؤمنين وهم الصحابة لأنه لا يوجد حينئذ من مؤمن إلا هم فذكرهم في معرض المدح لذكر نقيضهم في معرض الذم ثم عقبه وختمه بأعجب الخواتيم وهي رضاه عنهم ورضاهم عنه.
قوله: (ونحو قوله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}).
وجه دلالتها أنهم لو كانوا فساقاً خارجين عن سمت العدالة لم يكن فيهم خير فضلاً عن أن يكونوا خير أمة.
قوله: (ونحو قوله: {والسابقون..} إلى آخرها).
وجه الدلالة أنه ذكر السبق في معرض المدح والغرض بذلك هو السبق إلى الإسلام ومناصرة الرسول.
قوله: (ونحو قوله: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين..} الآية).
وجه دلالتها أنه أيد رسوله بهم في إظهار الدين و..... عليهم بكونه ألَّف بين قلوبهم وهاتان خصلتان عظيمتان ومن هه حاله كيف لا يكون ظاهره السير والعدالة وإحراز التزكية لنفسه.
قوله: (ونحو قوله: {رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه}).
هذه الآية ليست مما ورد في الصحابة جملة وإنما أريد بها بعض منهم فجيء في أولها بمن التي للتبعيض ذكر جار الله أنها نزلت في حمزة بن عبدالمطلب ومصعب بن عمير وعثمان بن عفان وطلحة بن عبيدالله وسعيد بن زيد بن عمرو بن فقيل وغيرهم نذروا أنهم إذا لقوا حرباً مع رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم يثبوا وقاتلوا حتى يستشهدوا {فمنهم من قضى نحبه} يعني: حمزة ومصعباً {ومنهم من ينتظر} كطلحة. وفي الحديث: ((من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة)).
فصل:
وأما السنة فنحو قوله عليه السلام والسلام: ((أصحابي كالنجوم بأيهم أقتديتم أهتديتم)). أخرج معنى هذه الحديث من رواية ابن المسيب عن عمر بن الخطاب قال سمعت رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: ((سألت ربي عز وجل عن أختلاف أصحابي من بعدي فأوى إليَّ يا محمد إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء ولكل نور فمن أخذ بشيء فيما هم عليه من اختلافهم فهو عندي على هدى)).
قوله: (((خياركم القرن الذين بعثت فيهم ثم الذين يلونهم..)) الخبر).
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من رواية عمران بن حصين أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ـ قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ـ ثم إن بعدهم قوماً يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذورن ولا يوفون ويظهر فيهم السمن ويحلفون ولا يستحلفون)). أراد في رواية لهما وللترمذي عن ابن مسعود: ((تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته)). القرن من الناس أهل زمان واحد. قال الشاعر:ـ
إذا ذهب القرن الذي أنت فيهم وخلفت في قرن فأنت غريب
قوله: (ونحوه مما يدل على أن الإجماع حجة).
يعني: كقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)). وقوله: ((سألت الله ألا تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيها)). وما روي عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((لن تجتمع أمتي على خطأ)).
قوله: (وعنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((رحم الله أبا بكر..)) إلى آخره).
هذا الحديث مما يختص ببعض منهم معين وهو مما أخرجه الترمذي من رواية علي عليه السلام ولفظه: ((رحم الله أبا بكر زوجني أبنته وحملني إلى دار الهجرة وصحبني في الغار وأعتق بلالاً من ماله، رحم الله عمر يقول الحق وإن كان مراً وتركه الحق وما له من صديق، رحم الله عثمان تستحيي منه الملائكة، رحم الله علياً اللهم أدر الحق معه حيث دار)). وقد ذكر المصنف في أول الباب أنه لا يأتي بشيء من هذا القبيل خشية التطويل والأحاديث الواردة في أعيان من الصحابة رضي الله عنهم واسعة دثرة ولا تنحصر كثرة.
فصل: وأما طريقة الأعتبار.
قوله: (ويهون عليهم قتل الآباء والأولاد والأخوة قد أثر ذلك عن عدة من الصحابة كما كان من أستئذان بعضهم له صلى اللّه عليه وآله وسلم في قتل أبيه فقال دعه له غيرك وأحسبه أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة وكما كان من أغلاظ عبدالله بن عبدالله بن أُبَي على أبيه ومنعه له من دخول المدينة حتى يعترف بأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين وربما هم بقتله روي أنه قال له: لئن لم تقر لله ولرسوله بالعزة لأضربن عنقك.
فقال: ويحك أفاعل أنت.
قال: نعم.
فلما رأى منه الجد قال: أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
قوله: (خاضوا غمرات الموت).
هي شدائده.
قوله: (حتى كانوا يتنافسون في ذلك).
هو من نافست في الشيء منافسة ونفاساً إذا أدعيت فيه على وجه المباراة في الكرم ولقد بلغ من مناصبتهم في المؤاساة أنه إذا كان للرجل منهم امرأتان نزل عن إحداهما لأخيه أبتغاءً لوجه الله وطلباً لما عنده.
قوله: (النجدة ما النجدة).
الشجاعة.
تنبيه:
أختصر المصنف رحمه الله هذه الطرق الأعتبارية في فضل الصحابة وتزكيتهم والمجال فيها واسع وقد بسط فيها الإمام يحيى وغيره وهو أمور ظاهرة وأحوال شاهرة تعلمها ضرورة من طالع الأخبار والسير والتواريخ وأستقصاء تفاصيلها يطول ويتفرع إلى أنواع كثيرة وفصول.
فصل:
وأما ما ورد عن أمير المؤمنين علي عليه السلام فيهم فهو ضربان: جملي، وتفصيلي.
قوله: (والمشهور من حال عمر التعويل عليه ومشاورته من ذلك أنه أستشاره في الخروج إلى الروم وقد كان عزم على ذلك فأشار عليه أمير المؤمنين بالقعود فقعد وقبل رأيه.
قوله: (والتعويل عليه في المهمات والرجوع إليه في المعضلات).
المهمات جمع مهمة والمهم الأمر الشديد وأهمني الأمر إذا أقلق وأحزن والمعضلات الشدائد جمع معضلة يقال: أعضلني الأمر أي أعياني وأعضل الأمر أشتد وأستعلق وأمر معضل لا يهتدى لوجهه ولا شك في رجوعهم إليه وتعويلهم عليه في المسائل الدينية والفتاوى والأقضية والأحكام حيث أستغلفت عليهم وأستبهمت وإنهم كانوا يعترفون له بالعلم الواسع والفضل الباهر.
قوله: (يخالف معاملته لمعاوية وعمرو بن العاص ونحوهم).
يعني: كأبي الأعور السلمي وأبي موسى الأشعري فإنه يعامل هؤلاء باللعن والتبري والبعد عنهم لسوء حالهم وحيث يواظنهم ويعامل أولئك بالمودة والنصرة.
قال الإمام يحيى: إنما عاملهم معاملة الأبرار المصطفين الأخيار.
قوله: (ويهدد من يعود إلى الوقوع فيها).
قال الإمام يحيى: ثم قال في آخر هذه الخطبة: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر ثم الله أعلم بالخير أين هو.
قوله: (أماما الهدي).
رقم المصنف رحمه الله بخط يده حاشية على هذا في نسخته لفظها: فإن قيل: هذا تصريح منه عليه السلام بإمامتهما فيكون حجة.
قلنا: الخبر آحادي فلا يقطع بصحته عنه ولو صح فهو محمول على البقية كغيره مما ورد عنه عليه السلام والصلام من الدعاء لهما بإسم الخلافة في حياتهما وأنه كان يظهر الرضا فيحمل عندنا على البقية.
قلت: وقد تناول بأن المراد إمامتهما في العلم والفضل فإنه قد يقال: إمام هدى لمن يؤخذ عنه ويهتدى به ويقتدى.
قوله: (فقال: ناصح الله فنصحه).
أراد أنه كان شديد الإخلاص يعاكس حاله حال من خادع الله فخدعه.
قوله: (فقال: كان أواهاً منيباً).
الأواه الدعَّاء وقيل كثير التأوه أي التوجع أشفاقاً وفرقاً.
قوله: (من هذا المسجى بينكم).
هو من سجيت الميت تسجية إذا مددت عليه ثوباً.
قوله: (وتجرم).
أصله الجرم وهو الذنب والتجرم على الشخص أن يدعى ذنباً عليه، وفي الصحاح وتجرم على فلان أي أدعى ذنباً لم أفعله فقيده بأن تكون الدعوى غير صحيحة، ولعل ذلك أصله ثم صار بالعرف مستعملاً مع صحة الدعوى وعدمها.
قوله: (قد أخذ الله ميثاقكم).
في أم الكتاب وأصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ لأن كل كائن مكتوب فيه.
قوله: (وعقدة ذمتي).
هو جمع عاقد كقعدة في جمع قاعد ولعل ذلك كتابه عن أختصاصهم به وزلفتهم لديه وكرامتهم عليه لأنه لا يعقد الذمة عليك إلا من كانت تلك منزلته لديك.
قوله: (ولا تدابر).
والتدابر في معنى التقاطع. قال الجوهري: تدابر القوم تقاطعوا وفي الحديث: ((لا تدابروا)).
قوله: (وتظاهروا).
أمر بالمظاهرة غير داخل في حيز النهي وهي المعاونة.
فصل:
وأما ما ورد عن ذرية أمير المؤمنين والغرض بذكر ما ورد عنهم على ما قرره الإمام يحيى عليه السلام فالمصنف تابع له وأخذ عنه أمران:ـ
الأول: أن يعلم الناظر في ذلك أن أمير المؤمنين والأفاضل من أئمة أولاده عليهم السلام لا يكفرون أحداً من الصحابة ولا يفسقونهم مع مخالفتهم للنصوص الواردة في إمامة أمير المؤمنين فثبت أن مخالفتهم لها عندهم لا تقطع موالاتهم ولا تبطلها.
الغرض الثاني: ألا ينقل ناقل يتقول عنهم خلاف ما نقلناه وآثرناه فيظن صحته وحاشى وكلا.
قال المؤيد بالله: لو قيل لواحد ممن يدعي تزعمه كفراً أو فسقاً في حقهم أرني نصاً من جهة الأئمة صريحاً أنه يتبرئ فيه من الشيخين لم يمكنه ذلك.
وعن بعض أئمة أهل البيت أنه قال: من زعم أن أحداً من العترة من لدن زيد بن علي إلى يومنا هذا يذهب لى تفسيق الصحابة فإنه كاذب في هذه المقالة.
قوله: (فرضينا لدنيانا من رضية رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم لديننا).
يقال: ولم جعل الإمامة دنيوية مع أنها من معالم الدين؟
والجواب: أنها دينية على التحقيق بلا شك وإنما جعلها دنيوية لما سيأتي ذكره إن شاء الله في الإمامة.
قوله: (لما وضع الديوان).
هو سجل يذكر في المعطوب وينزل فيه عطاياهم ويشتمل على تقدير ما لكل منهم.
قوله: (فالصوكلكلة الكل).
كل الصدر وكذلك الكلكال ذكره الجوهري.
قوله: (وأنه لما رأى الفسادلم يتلبث في إظهار دين الله بالسيف).
تمام كلامه عليه السلام ما لفظه: كما فعل بأهل الجمل وأهل النهروان وصفين وغيرها.
قال الإمام يحيى: فهذا كلام من شرح صدره للإسلام فهو على نور من ربه لم يمزج بالحسد ولا خالطته العصبيه والمكر.
قوله: (ومنه ما روي عن عبدالله بن الحسن وأولاده عليه السلام).
ذكر الإمام يحيى من أولاده محمد بن عبدالله النفس الزكية وإبراهيم ويحيى وأهل المصنف ما نقله الإمام يحيى عليه السلام عن الباقر والصادق قال عليه السلام: والمأثور عن الباقر شدة المحبة وعظم الثناء على الشيخين والموالاة لهما أثر عن أسلافه، وعن جعفر الصادق أنه كان شديد المحبة لهما. وقد روي عنه خلق عظيم أنه كان يترحم عليهما. قال: وروي عن الصادق أيضاً أنه قيل له: ما تقول في أبي بكر؟
فقال: ما أقول فيمن ولدني مرتين.
أراد بذلك: أن أمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر وأم أمه بنت عبدالرحمن بن أبي بكر.
قال الإمام يحيى: فقوله هذا يدل على الرقة في قلبه والرحمة وإعظام المنزلة.
قلت: بل يقضي بأنه ...... لحق الولادة ولولا هي لقال فما في مثل هذا حجة، والله سبحانه أعلم.
قوله: (والجاحظ).
هكذا ذكر الإمام يحيى وقد تقدم ما روي عنه مما يدل على أنه ناصبي المذهب وهو ينافي هذا.
قوله: (وغيرهم).
إشارة إلى معتزلة بغداد فإنهم ...................... أهل البيت.
قال الإمام يحيى: معتزلة بغداد فإنهم يفتخرون بأئمة الزيدية فلو ظهر هؤلاء الأئة نقصاً في حالهم ما بايعوهم ولا كان منهم أعتقاد لإمامة واحد منهم.
قوله: (ومنه ما روي أن القاسم عليه السلام..) إلى آخره.
قال الإمام يحيى: وروي عنه أنه قال: ننكر أفعالهم ونسخط ولا نقول قول الرافضة فنفرط.
قال: وهذا تصريح منه بتحريم الأذية والسب.
قال: وكلا الروايتين دال على سلامة الأمر من جهته في حقهما ولهذا صرح بأن قول الرافضة إفراط وغلو وليس يرتضيه مذهباً لنفسه ولو كان صواباً وحقاً لقال به وحاشى لبصيرته النافذة وورعه الذي فاق به على نظرائه أن يصدر من جهته ما لا يليق بذلك.
قوله: (قال سمعت المؤيد بالله..) إلى آخره.
قال الإمام يحيى: وكان المؤيد بالله في أول غره وعنفوان شبابه متوقفاً عن الترضية ثم ترحم عليهما في آخر عمره وذكر في الهوسميات أن الخلاف في الإمامة وإن كانت عطعية لا يوجب كفراً ولا فسقاً ولهذا فإن أمير المؤمنين لم يصدر من جهته رمي لهم ببكفر ولا فسق مع مخالفتهم له فيها.
قوله: (وكتبه مشحونة بذلك).
قال عليه السلام في بعضها: والذي نختاره ما نقلناه عن الأفاضل من آبائنا عليهم السلام فإن المأثور عنهم ما أوضحناه من المحبة والتولي لهما وإعظام منزلتهما وبترك المقالة القبيحة في حقهما بل أقول كما قال الصادق عليه السلام: اللهم إني أحبهما وأودهما وأتولاهما وأحب من يحبهما اللهم إن كنت تعلم خلاف ذلك من قلبي فلا تنلني شفاعة محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم.
قوله: (فيها لمن أنصف بلاغ).
أي: كفاية لأن البلاغ لغة الكفاية، وهو أيضاً أسم بمعنى الإبلاغ والتبليغ.
قوله: (وأما ما روي عن أبي طالب ـ إلى قوله ـ فصحيح).
وليس فيه أن الصحابة قد خرجوا على أمير المؤمنين عنده، أما ظاهر إطلاق أبي طالب فكما ذكر ليس فيه بأس ولكن لا يبعد أنه قصد به المشائخ الثلاثة ولهذا ذكر الكني رحمه الله أن كلامه هذا إنما كان في أيام متقدمة من أول عمره وعنفوان شبابه حين كان أمامياً يرى رأي الإمامية ويعتقده فأما بعد أن صار زيدياً محققاً في الأصول فلا يظن به أنه معتقد لذلك ويؤيد ذلك أن شرح التحرير مشحون بذكر الإستدلال والرواية عن الشيخين في الأخبار والأقضية والفتاوى ولو كانا فاسقين عنده لم يكن الإحتجاج بشيء من أقوالهما وأقضيتهما وجه.
قلت: وممن يظهر عنه التجرم على المشائخ والنفحات التي تقضي بالتفسيق السيد أبو العباس الحسني رحمه الله فمن طالع كتابه المصابيح رأى ما يقضي بأنه كان إمامي المذهب وقد روى فيه أخباراً عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم تدل على الفسق وتشغر به.
قال الإمام يحيى: وكلها آحادية لا يمكن أن تكون معتمدة في الكفر والفسق لونها غير مرشدة إلى القطع.
قوله: (وأما توقف كثير من متأخري أهل البيت عليهم السلام..) إلى آخره.
قال الإمام يحيى عليه السلامك أن أحداً من الأئمة وأكابر العترة لم ينقل عنه إكفار ولا تفسيق كما شرحناه أولاً ونقلناه ثم هم بعد ذلك فريقان:ـ
الأول: مصرحون بالترحم عليهم والترضية والموالاة وصدق المحبة والمودة كما حكيناه عن أمير المؤمنين ومن ذكر من أولاده عليه السلام.
الفريق الثاني: متوقفون عن الترضية والترحم وعن الإكفار والتفسيق وعلى هذا دل كلام القاسم والهادي وأولادهما وإلى هذا يشير كلام الإمام المنصور بالله فهؤلاء يحكمون بالخطأ ويتوقفون في حكمه ولا يقدمون على سب ولا أذية أراد والأولون يحكمون بالخطأ ويقطعون بأنه ليس بكفر ولا فسق.
قلت: قد عرف ما ذكره الإمام يحيى عليه السلام من توقف الهادي والمنصور وما ذكره هو والمصنف فيما ورد عن الهادي عليه السلام في الأحكام من الكلام الشديد الغليظ المحوج إلى التأويل وقد وقفنا لهذين الإمامين على كلام من جنس ما ورد عن أمير المؤمنين والحسنين ومن ذكر معهم.
أما الهادي عليه السلام فقال في رسالته التي أجاب بها على أهل صنعاء وذكر فيها عقائده وبراءته من البدع ومذاهب أهلها ما لفظه: ولا أنتقص أحداً من الصحابة الصادقين والتابعين بإحسان المؤمنات منهم والمؤمنين أتولى جميع من هاجر ومن آوى منهم ونصر فمن سب مؤمناً عندي إستحلالا فقد كفر ومن سبه أستجراماً فقد ضل عندي وفسق ولا أسب إلا من نقض العهد والعزيمة وفي كل وقت له ...... من الدين بالنفاق تمردوا وعلى الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم مرة بعد مرة تمردوا وعلى أهل بيته أجترؤا وطعنوا وإني لأستغفر الله لأمهات المؤمنين اللواتي خرجن من الدنيا وهن من الدين علي يقين وجعل لعنة الله على من تناولهن بما لا يستحققن من سائر الناس أجمعين وقفنا على هذا في الرسالة نفسها وحكاه أيضاً الفقيه العلامة محمد بن يوسف بن هبة الفضلي القدمي في كتاب له سماه الإنتصاف أجاب به رسالة وردت من بعض الشافعية المجبرة يتضمن التنفير عن مذهب الزيدية ونسبة مذاهب قبيحة إليهم وهو كتاب حسن فلما أنتهى فيه إلى ذكر ما ورد عن الأئمة في شأن الخلفاء روى كلام الهادي هذا ثم روى عن المنصور بالله عليه السلام ما أصرح من ذلك قال ما لفظه: ومن ذلك ما قاله إمامنا المنصور بالله عبدالله بن حمزة عليه السلام في الرسالة الإمامية في جواب المسائل التهامية للفقيه محمد بن أسعد الواقدي الصليحي من ناحية زبيد قال: وأما ما ذكره المتكلم حاكياً عنا من تضعيف آراء أصحاب رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم فهم خير الناس على عهد رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم وبعده يرضى الله عنهم وجزاهم عن الإسلام خيراً
ولكن ذلك لا يمنع من أن يكون عترة رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم أفضل منهم وأولى بمقامه من قائمهم، أنتهى.
قوله: (وأعجب من هذا أن الرجل من علماء زماننا..) إلى آخره.
سمعنا من السنة عدة من معاصرينا أنه رمز بهذا التعجب إلى القاضي عبدالله بن حسن الدواري وكان بينهما على ما بلغ وحشة ولكنا وقفنا على ما يقضي من حال القاضي المذكور بخلاف ذلك وهو الترضية عنهم وشاهدنا ذلك في بعض مصنفاته بخط يده ولما ذكر في تعليقه على الشرح الكلا في حكم من تقدم في الإمامة على أمير المؤمنين حكى المذاهب في ذلك فأجاد في النقل وأستوفى ذكر الخلاف في ذلك وذكر أن القول بتفسيقهم أشهر الروايات عن الجارودية وإليه ذهب بعض الإمامية.
قال: وظاهر إطلاق القاسم بن علي العياني وولده الحسين والإمام أبو الفتح الديلمي وذكر ذلك الإمام أحمد بن سليمان في كتاب الحقائق ورواه عن السيد أبو طالب وأبو العباس، ثم قال: وينبغي تأويل هذه الرواية لمن كان بذلك من سادات أهل البيت وصالحي المسلمين لأن هذه مزلة قدم نعوذ بالله منها.
وتأول كلام الهادي في الأحكام وروى كلامه المذكور في جواب أهل صنعاء، وحكي عن المنصور بالله أقوالاً مختلفة وسلك في جميع ذلك مسلك الإنصاف وما لا ينقد عليه.
قوله: (ولقدد أحسن القائل:ـ
إني أحب أبا حفص وشيعته كما أحب عتيقاً صاحب الغار)
قيل أن قائل هذه الأبيات أبو نواس وأبو حفص كنية عمر كنى ببنته حفصة أم المؤمنين ولعله إنما كني بها لمكانها من النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وكانت من فضليات زوجاته ولما هَمَّ بطلاقها أمر بالكف عنه لأنها صوامه قوامة، وحذف آخر السم ترحيماً وعتيق لقب أبي بكر وأسمه عبدالله وإنما لقب بذلك قيل لجماله لأن العتق لغة من اسماء الجمال كما أنه ........... وقيل: لأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال له: ((أنت عتيق النار)). ذكره الجوهري.
القول في التفضيل
قوله: (وأبو عبدالله هو من أهل المبالغة في ذلك وصنف فيه كتاب التفضيل).
وممن قال بأفضلية أمير المؤمنين من المعتزلة الحاكم نص عليه في شرح العيون وعلل ذلك بأنه وصي رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم.
قوله: (وروي هذا عن ابن عباس..) إلى آخره.
وممن روي عنه من الصحابة أبو سعيد الخدري وخالد بن سعيد وأبي بن كعب وقيس بن عبدالله الخزرجي وأبو الهيثم بن ......... وأبو بردة الأسلمي وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين وأبو أيوب الأنصاري وسهل بن حنيف وعثمان بن حنيف.
قوله: (وقال النظام والجاحظ أبو بكر أفضل قالوا ثم عمر ثم عثمان).
وهذا رأي أكثر المعتزلة والشافعية والحنفية ورأي الخوارج فيهم إلى أن حديث الإحداث من عثمان ووقع التحكيم من علي ثم ذهبوا فيهما إلى غير ذلك.
قوله: (وقال أبو علي وأبو هاشم بالوقف).
قد روي عنهما الرجوع عنه إلى تفضيل أبي بكر والتوقف في الثلاثة الباقين ونقل عن قاضي القضاة أن أبا علي رجع آخراً إلى تفضيل علي عليه السلام وذكر ذلك لأبنه أبي هاشم في عدة أشياء أسرها إليه قرب موته بعد أن أستدناه إليه.
قال قاضي القضاة: ونقل ذلك عنه سماعاً ولم يوجد في شيء من مصنفاته.
تنبيه:
ومن الخلاف في هذه المسألة ما ذهب إليه أبو الهذيل وجعفر بن حرب وغيرهما أن الأفضل أبو بكر ثم عمر ثم علي ثم عمثان.
وأعلم أنه لم يذهب أحد إلى تفضيل غير الخلفاء الأربعة عليهم ولا ذهب أحد إلى تفضيل عمر على أبي بكر ولا إلى تفضيل عثمان على الشيخين. وقيل: بل قد ذهبت العباسية والروندية إلى تفضيل العباس على الأربعة والحكايات في هذه المسألة لا تخلو عن تفاوت.
ذكر ابن أبي الحديد العالم النحرير في شرح نهج البلاغة: أن الذي عليه قدماء البصريين من المعتزلة منهم عمرو بن عبيد والنظام والجاحظ وثمامة والقوطي هشام بن عمرو ويوسف السجام أن أبا بكر أفضل وأن فضلهم على ترتيب خلافتهم.
قال: وذكر البغداديون قاطبة قدماؤهم والمتأخرون منهم أن علياً عليه السلام أفضلهم فيهم بشر بن المعتمر وجعفر بن ميسر وعيسى بن صبيح والأسكافي وأبو الحسين والخياط وأبو القاسم البلخي وهو عبدالله بن محمود وتلامذته.
قال: وإلى هذا ذهب من البصريين أبو علي ذكره أخيراً سماعاً عنه ولم يذكر ذلك في شيء من مصنفاته. وقال به الشيخ أبو عبدالله وكان مبالغاً في ذلك، وبه قال قاضي القضاة ب توقفه والشيخ أحمد بن السن بن متويه وأحتج لذلك وأطال.
قال: وكثير من الشيوخ توقف منهم أبو هاشم وأبو الحسين البصري وأما أبو الهذيل وواصل فقطعا على تفضيل علي على عثمان وتوقفا في شأنه وشأن أبي بكر وعمر.
قوله: (وقال بعض الناس إن كان الخلاف في الأفضل أي الأكثر ثواباً..) إلى آخره.
ذكر الفقيه حميد في العمدة أن المراد بالفضل الأكثر ثواباً وبنى الخلاف على ذلك وقال في تعليق الشرح الأفضل له معنيان متفرعان على معنى الفضل:ـ
أحدهما: الأكثر ثواباً خالصاً من غيره.
الثاني: من خصال المحامد فيه أكمل وأتم ويظن لأجلها أستحقاقه لزيادة الثواب ومرادنا هاهنا بقولنا في علي أنه الأفضل المعنيان جميعاً وهذا القول الذي نسبه المصنف إلى منهم ولا يبعد أن يكون هو ....... عذره وإنما ........ ستر ذلك تحرزاً من طعن جهلة الشيعة وأهل التعصب المفرط سمعت من المعاصرين من يستحسنه ويستقويه في حال درس هذا الكتاب أبان الشباب وعنفوانه قد قمت في تلك الحال حاشية عليه في ......... معناها أنه يمكن أعتراضه بأنك إذا سلمت كثرة فضائل علي وهي عبارة عن سبق أسلامه وعظم جهاده وسعة علمه وشدة ورعه ونحو ذلك ولا شك في أن هذه الفضائل أسباب في أستحقاق الثواب الجزيل ويعلم قطعاً أنه يستحق الثواب عليها وأنه لم يأت بما يحبطه لما ثبت من عصمته وإن ثواب المختص بها أكبر من ثواب من ليس على صفته فيها إما بأن تكون معدومة في حقه أو مقتضية فيقطع بأن علياً أكثر ثواباً من أبي بكر لقطعنا بأن فضائله أكبر وإنها أوفر كما أنا نعلم أن ثواب من جاهد أكبر من ثواب من لم يجاهد حيث لم يعلم أن الأجر يفضله في غير ذلك وليس العلم بكثرة الثواب يتوقف على العلم بكميته ومقاديره فإنا نعلم قطعاً أن ثواب الني أكثر من ثواب غيره ومع ذلك لا نعلم القدر والكمية وإذا قلت من الجائز أن يكون لأبي بكر طاعات خفية لم نعلمها يستحق عليها من الثواب مثلما يستحقه علي على تلك الفضائل الظاهرة أو أكثر لعدم العلم بمقادير الثواب في عظم الموقع.
قلت: إذا سلمت أن علياً فضائله الظاهرة وأعماله المشهورة أكثر وأوفر وسلمت أن ثوابه أكثر بالنظر إليها ولم يبق إلا التجويز المذكور فهو لا يقدح في الأمر المعلوم ويقابله تجويز آخر أن يكون لعلي عليه السلام أعمال باطنة وطاعات خفية مثلما جوزت في حق غيره بل لك أقرب في حقه وأغلب ثم إنا بينا ما ذكره على تسليم القطع بأنه أكثر فضائل كما صرحت به والتجويز المذكور ينافيه فليتأمل ما سمح به سن الحداثة وبلوغ أوان الحلم والله الموفق.
قوله: (وأحسنهم بلاءً).
يقال: أبلى في القتال بلاء حسناً أظهر بأسه حتى بلاه الناس وأمتحنوه.
قوله: (والمروي أن المأمون ناظر أبا العتاهية..) إلى آخره.
المأمون هو أحمد بن هارون الخليفة العباسي العالم الشهير وله من جودة العلم وصفات الكمال ما ليس لغيره من سلفهم وخلفهم وكان شديد التشيع ولم ينل أحداً من العترة عليهم السلام نكبة من جهته ومما يؤثر عنه في تفضيل أمير المؤمنين قوله:ـ
لا تقبل التوبة من تائب إلا بحب ابن أبي طالب
أخو رسول الله خلف الهدى والأخ لا يعدل بالصاحب
لو جمعاً في الفضل يوماً لقد نال أخوه رغبة الراغب
ولم أقف على مناظرته لأبي العتاهية في غير هذا الكتاب وإنما الذي وقفت عليه مناظرة له كثيرة مع جماعة كثيرة من الفقهاء مما ذكرها ابن عبدربه في عقده وهي مناظرة عظيمة ودرة يتيمة حملني شدة الإعجاب بها على رقمها في هذا الموضع وكتبها ونحن ننقلها بلفظ العقد غالباً على ما ذكرره من زوائد فإنها تشتمل على فوائد وفرائد وحيط ذلك مما ينبغي أن يقصده القاصد.
قال: (أحتجاج المأمون على الفقهاء في فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه).
بسم الله الرحمن الرحيم
قال إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد بعث إليَّ يحيى بن أكثم وإلى جماعة من أصحابي وهو يؤمئذ قاضي القضاة للمأمون فقال إن المأمون أمرني أن أحضر عدا من الفجر أربعين رجلاً كلهم فقيه يفقه ما يقال ويحسن الجواب فسموا من تظنونه يصلح لما طلب أمير المؤمنين فسمينا له عدة وذكر هو عدة حتى أم العدة التي أراد وكتب تسمية القوم وبعث فيهم وأمرنا....... في السحر فغدونا عليه قبل طلوع الفجر فوجدناه قد لبس ثيابه وهو جالس ينتظرنا فركب وركبنا معه حتى صرنا إلى الباب فإذا الخادم واقف فلما نظر إليه قال يا أبا محمد سيدي ينتظرك فدخل ودخلنا معه وأمرنا بالصلة فلم يستقمها حتى خرج الرسول فقال: أدخلوا فدخلنا فإذا المأمون جالس على فراشه وعليه سواد وطيلسانة والطويلة وعمامته فوقفنا وسلمنا فرد السلام وأمرنا بالجلوس فلما أستقربنا المجلس تحدر عن فراشه ونزع عمامته ووضع قلنسوته ثم أقبل علينا.
فقال: إنما فعلت ما رأيتم لتفعلوا مثل ذلك وأما الخف فمنع من حلة من عرفها فقد عرفها ومن لم يعرفها فسأعرفه بها ومد رجله وقال أنزعوا فلا نسكم وخفافكم وطيالستكم.
قال: فأمسكوا.
فقال لنا يحيى: أنتهوا إلى ما أمر به مولانا فتنحينا فنزعنا حفافنا وطيالستنا وملابسنا ورجعنا فلما أستقر المجلس.
قال: إني بعثت فيكم معشر القوم للمناظرة فمن كان به شيء من الحفتين لم ينتفع بنفسه ولم يفقه ما يسمع فمن أراد منكم الخلاء فهناك وأشار بيده فدعونا له ثم ألقى مسألة من الفقه.
فقال: بلى أبا محمد قول وليقل القوم بعدك.
فأجاب يحيى القاضي ثم الذي يليه ثم الذي يليه حتى أجاب آخرنا في العلة وعلة العلة وهو مطرق لا يتكلم فلما أنقطع الكلام ألتفت.
فقال: يا أبا محمد أصبت الجواب وتركت الصواب في العلة ثم لم يزل يردد على كل واحد منا مغالته حتى أتى على آخرنا.
ثم قال: لم أبعث فيكم لهذا ولكن أحببت أن أبسطكم أني أحببت مناظرتكم في مذهبي الذي أنا عليه وديني الذي أدين به.
فقلنا: أفعل وفقك الله وأرشدك.
فقال: إني أدين الله بأن علي بن أبي طالب أفضل خلق الله بعد رسول الله وأحقهم بالخلافة.
قال إسحاق: فقلت: إن فينا من لا يعرف ما ذكرته في علي رضي الله عنه وقد دعوتنا للمناظرة؟
قال: يا إسحاق أختر إن شئت أن اسألك وإن شئت أن تسأل؟
قال إسحاق: فأغتنمتها منه.
فقلت: بل اسألك من أين قلت إن علي بن أبي طالب أفضل الناس بعد رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم وأحقهم بالخلافة بعده؟
قال: يا إسحاق خبرني عن الناس بما يتفاضلون حتى يقال فلان أفل من فلان؟
قلت: بالأعمال الصالحة.
قال: صدقت.
قال: فأخبرني عمن فضل صاحبه على عهد رسول الله ثم إن المفضول عمل بعد وفاة رسول الله بأفضل من عمل الفاضل على عهد رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم أيلحق به؟
قال: فأطرقت.
قال: يا إسحاق لا تقل نعم. فإنك إن قلت: نعم أوجدناك في دهرنا هذا من هو أكثر منه جهاداً وصلاة وصياماً وصدقة.
قلت: أجل لا يلحق المفضول على عهد رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم الفاضل أبداً.
قال: يا إسحاق فأنظر ماذا روى لك أصحابك ومن أخذت عنهم دينك وجعلتهم قدوة لك من فضائل علي فقس عليها ما أتوك به من فضائل أبي بكر وعمر فإن وجدت لهما من الفضائل ما وجدت لعي وحده فقل إنهما أفضل منه لا والله ولكن قس فضائل العشرة الذين شهد لهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بالجنة فإن وجدتها تشاكل فضائله فقل إنهم جميعاً أفضل منه.
يا إسحاق أي الأعمال كانت أفضل يوم بعث الله رسوله؟
قلت: الإخلاص بالشهادة.
قال: أليس السبق إلى الإسلام؟
قلت: نعم.
قال: اقرأ ذلك في كتاب الله تعالى يقول الله تعالى: {والسابقون السابقون أولئك المقربون}. إنما علي من سبق إلى الإسلام فهل غلمت أحداً سبق علياً إلى الإسلام؟
قلت: إن علياً أسلم وهو حديث السن لا يجوز عليه الحكم وأسلم أبو بكر وهو مستكمل يجوز عليه الحكم.
قال: أخبرني أيهما أسلم قبل ثم أناظرك عليه من بعد في الحداثة والسن؟
قلت: علي أسلم قبل أبي بكر على هذه الشريطة.
قال: نعم.
فأخبرني عن إسلام علي حين أسلم هل يخلو من أن يكون رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم دعاه إلى الإسلام أو يكون إلهاماً من الله؟
قال: فأطرقت.
قال: يا إسحاق لا تقل إلهاماً فتقدمه على رسول الله لأن رسول الله لم يعرف الإسلام حتى أتاه جبريل عن الله.
قلت: أجل بل دعاه رسول الله إلى الإسلام.
قال: يا إسحاق هل يخلو رسول الله حين دعاه إلى الإسلام من أن يكون دعاه بأمر من الله تعالى أو تكلف ذلك من نفسه؟
قال: فأطرقت.
قال: يا إسحاق لا تنسب رسول الله إلى التكلف فإن الله تعالى يقول: {وما أنا من المتكلفين}.
قلت: أجل بل دعاه بأمر من الله عز وجل.
قال: فهل من صفة الجبار جل ذكره أن يكلف رسله دعاء من لا يجوز عليه حكم؟
قلت: أعوذ بالله.
قال: أفتراه في قياس قولك يا إسحاق أن علياً أسلم صبياً لا يجوز عليه الحكم فقد كلف رسول الله من دعاء الصبيان ما لا يطيقون فهذا يدعوهم الساعة ويرتدون بعد ساعة فلا يجب عليهم في أرتدادهم شيء ولا يجوز عليهم حكم الرسول عليه الصلاة والسلام.
أتُرى هذا جائز عندك أن تنسب إلى الله عز وجل؟
قلت: أعوذ بالله.
قال: يا إسحاق فأراك قصدت إلى فضيلة فضل رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم علياً بها على هذا الخلق أبانه بها منهم ليعرف مكانه وفضله ولو كان الله تعالى أمر بدعاء الصبيان لدعاهم كما دعا علياً عليه السلام؟
قلت: بلى.
قال: فهل بلغك أن الرسول دعا أحداً من صبيان أهله وقرابته لئلا يقول كان علي ابن عمه؟
قلت: لا أعلم ولا أدري فعل أو لم يفعل.
قال: يا إسحاق ارأيت من لم يدره ولا يعلمه ايسأل عنه؟
قلت: لا.
قال: فدع ما قد وضعه الله عنك وعنا.
ثم قال: أي الأعمال كانت أفضل بعد السبق إلى الإسلام؟
قلت: الجهاد في سبيل الله.
قال: صدقت. فهل تجد لأحد من أصحاب رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم ما تجد لعلي في الجهاد؟
قلت: وفي أي وقت؟
قال: في أي الأوقات شئت؟
قلت: بدر.
قال: لا أريد غيرها.
قال: فهل تجد لأحد ما تجد لعلي يوم بدر. أخبرني كم قتلى بدر؟
قلت: نيف وستون رجلاً من المشركين.
قال: فكم منهم قتل علي وحده؟
قلت: لا أدري.
قال: ثلاثة أو أثنين وعشرين والأربعون لسائر الناس.
قلت: إن أبا بكر كان مع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في عريشه.
قال: يصنع ماذا؟
قلت: يدبر؟
قال: وتلك دون رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم أو شريك معه أم أفتقاراً من رسول الله إلى رأيه أي الثلاثة أحب إليك؟
قلت: أعوذ بالله أن يدبر أبو بكر دون رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم أو يكون معه شريكاً أو أن يكون برسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم أفتقار إلى رأيه.
قال: فما الفضيلة بالعريش إذا كان الأمر كذلك أليس من ضرب بسيفه بين يدي رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم أفضل ممن هو جالس؟
قلت له: كل الجيش كان مجاهداً.
قال: صدقت كل مجاهد، ولكن الضارب بسيفه الحامي عن رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم وعن الجالس أفضل من الجالس أما قرأت كتاب الله عز وجل: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر}، {والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم}، {فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى}، {وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفوراً رحيماً}؟
قلت: وكان أبو بكر وعمر مجاهدين.
قال: فهل كان لأبي بكر وعمر فضل على من لم يشهد ذلك المشهد؟
قلت: نعم.
قال: فكان لسبق الباذل نفسه فضل على أبي بكر وعمر؟
قلت: أجل.
قال: يا إسحاق هل تقرأ القرآن؟
قلت: نعم.
قال: اقرأ {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا}.
قال: فقرأت حتى إذا بلغت: {إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا إلى قوله ويطعمون الطعام على حبه}.
فقال: على رسلك فيمن نزلت هذه الآية.
قلت: في علي.
قال: فهل بلغك أن علياً حين أطعم المسكين والييم والأسير قال: إنما نطعمك لوجه الله، هل سمعت الله وصف في كتابه بمثل ما وصف به علياً عليه السلام؟
قلت: لا.
قال: صدقت. لأن الله جل ذكره عرف سريرته، يا إسحاق ألست تشهد أن العشرة في الجنة؟
قلت: بلى.
قال: ارأيت لو أن رجلاً قال: والله ما أدري هل هذا الحديث صحيح أم لا، ولا أدري أقاله رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم أو لم يقله أكان عندك كافراً؟
قلت: أعوذ بالله.
قال: ارأيت لو أنه قال: ما أدري هذه السورة من كتاب الله أم لا أكان كافراً؟
قلت: نعم.
قال: يا إسحاق أدى بينهما فرقاً، يا إسحاق أتروي الحديث؟
قلت: نعم.
قال: فهل تعرف حديث الطير؟
قلت: نعم.
قال: فحدثني به فحدثته بالحديث.
قال: يا إسحاق إني كنت أكلمك وأنا أظنك غير معايد للحق فأما الآن فقد بان لي عنادك ....... هذا الحديث صحيحاً؟
قلت: نعم. رواه من لا يمكنني رده.
قال: افرأيت من أيقن أن هذا الحديث صحيح وزعم أن أحداً أفضل من علي يخلو من أحد ثلاثة:ـ
من أن تكون دعوة رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم مردودة عنده عليه.
أو أن يقول إن الله عرف الفاضل من خلقه وكان المفضول إليه أحب.
أو أن يقول إن الله عز وجل لم يعرف الفاضل من المفضول.
فأي الثلاثة أحب إليك أن تقول، فأطرقت.
ثم قال: يا إسحاق لا تقل شيئاً منها أستمسك وإن كان للحديث عندك تأويل غير هذه الأوجه الثلاثة فقل؟
قلت: لا أعلم وإن لأبي بكر فضلاً.
قال: أجل، لولا أن له فضلاً ما قيل: إن علياً أفضل فما فضله الذي قصدت له الساعة؟
قلت: قول الله عز وجل: {ثاني أثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}. فنسبه إلى صحبته.
قال: يا إسحاق أما إني لا أحملك على الوعر من طريقك إني وجدت الله تبارك وتعالى نسب إلى صحبة من رضيه ورضي عنه كافراً وهو قوله: {قال لصاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نظفة ثم سواك رجلاً لكن هو الله ربي ولا أشرك بربي أحداً}.
قلت: ذلك صاحب كان كافراً وأبو بكر مؤمن.
قال: فإذا جاز أن تنسب إلى صحبة من رضيه ورضي عنه كافراً جاز أن تنسب إلى صحبته مؤمناً وليس بأفضل المؤمنين ولا الثاني ولا الثالث.
قلت: قدر الآية عظيم لأن الله تعالى يقول: {ثاني إثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}؟
قال: يا إسحاق فإني الآن أخرج إلى الإستقصاء عليك أخبرني عن حزن أبي بكر كان لله رضاً أم سخطاً.
قلت: إن أبا بكر إنما حزن من أجل رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم خوفاً عليه وغماً أن يصل إلى رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم شيء من المكروه.
قال: ليس هذا. جوابي أن تقول رضا أو سخط؟
قلت: بل كان لله رضا.
قال: فكان الله جل ذكره بعث رسولاً ينهى عن رضا الله وعن طاعته؟
قلت: أعوذ بالله.
قال: أوليس قد زعمت أن حزن أبي بكر كان رضا لله؟
قلت: بلى.
قال: أولم تجد أن القرآن يشيد أن رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم قال له: لا تحزن نهياً له عن الحزن؟
قلت: أعوذ بالله.
قال: يا إسحاق إن مذهبي الرفق بك لعل الله أن يردك إلى الحق ويعيدك عن الباطل لكثرة ما يستعين به حديثي عن قول الله تعالى: {فأنزل الله سكينته عليه}. من عني بذلك رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم أم أبا بكر؟
قلت: بل رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم.
قال: صدقت. فخبرني عن قوله: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً إلى قوله فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين}. أتعلم من المؤمنين الذين أراد الله في هذا الموضع؟
قلت: لا أدري.
قال المأمون: الناس جميعاً أنهزموا يوم حنين فلم يبق مع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إلا سبعة من بني هاشم علي منهم فضرب بسيفه بين يديه والعباس أخذ بلجام بغلة رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم والخمسة المحدقون به خوفاً من أن يناله من جراح القوم شيء حتى أعطى الله لرسوله الظفر والموهمون في هذا الموضع علي خاصة ثم من حضره من بني هاشم فمن أفضل من كان مع رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم في ذلك الوقت أم من أنهزم عنه ولم يره الله موضعاً لينزلها عليه؟
قلت: بل من أنزلت عليه السكينة.
قال: يا إسحاق من أفضل من كان معه في الغار أم من نام على فراشه ووفاه بنفسه حتى تم لرسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم ما أراد من الهجرة، إن الله تبارك وتعالى أمر رسوله بأن يأمر علياً بالنوم على فراشه وأن يقى رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم بنفسه فأمره رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم بذلك فبكى علي رحمة الله عليه، فقال له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: ما يبكيك أجزعاً من الموت؟
قال: لا والذي بعثك بالحق يا رسول الله ولكن خوفاً عليك.
قال: فنم على فراشي.
قال: سمعاً وطاعة طيبة بذلك نفسي بالفداء لك يا رسول الله.
ثم أتى مضجعه فاضطجع وسجي بثوبه وجاء المشركون من قريش فجفواته لا يشكون أنه رسول الله وقد أجمعوا أن يضربه كل رجل من كل بطن من بطون قريش طربة بالسيف لئلا يطلب الهاشميون بطناً من البطون بدمه وعلي يسمع ما القوم فيه من تلف نفسه ولم يدعه ذلك الجزع كما جزع صاحبه في الغار ولم يزل علي صابراً محتسباً فبعث الله تعالى ملائكته فمنعته مشركي قريش حتى أصبح فلما أصبح نظر القوم إليه.
فقالوا: أين محمد؟
قال: وما علمي بمحمد أين هو.
قالوا: فلا نراك إلا كنت مغروراً بنفسك منذ ليلتنا.
فلم يزل علي أفضل مائة يزيد ولا ينقص حتى قبضه الله.
يا أبا إسحاق هل تروي حديث؟
قلت: نعم.
قال: أروه. ففعلت.
قال: يا أبا إسحاق ارأيت هذا الحديث هل أوجب على أبي بكر وعمر ما لم يوجب لهما عليه؟
قلت: إن الناس ذكروا أن هذا الحديث إنما كان بسبب زيد بن حارثة لشيء جرى بينه وبين علي وأنكر علي فقال رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)).
عند ذلك قال: يا سبحان الله ما هذه العقول ثم قال رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه)). وفي أي موضع قال هذا، أليس بعد منصرفه من حجة الوداع؟
قلت: أجل.
قال: فإن قتل زيد بن حارثة قبل الغدير كيف رضيت لنفسك بهذا، أخبرني لو رأيت أبناً لنفسك قد أتت عليه خمس عشرة سنة يقول: مولاي مولى ابن عمي أيها الناس فاعلموا ذلك، أكنت منكراً ذلك عليه تعريفه الناس ما لا ينكرون ولا يجهلون؟
قلت: اللهم نعم.
قال: يا إسحاق أفتنزه أبنك عما لا تنزه عنه رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم، ويحكم لا تجعلوا فقهائكم أربابكم دون الله فإن الله عز ذكره يقول: {أتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله}. ولم يصلوا لهم ولا قاموا ولا زعموا أنهم أرباب ولكن أمروهم فأطاعوا أمرهم.
يا إسحاق أتروي حديث: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى))؟
قلت: نعم. قد سمعته وسمعت من يجحده.
قال: فمن أوثق عندك من سمعته منه وصححه أم من جحده؟
قلت: بل من صححه.
قال: فهل يمكن أن رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم مزح بهذا القول؟
قلت: أعوذ بالله.
قال: فهل يمكن أن يقول قولاً لا معنى له ولا يوقف عليه؟
قلت: أعوذ بالله.
قال: فما تعلم أن هارون كان أخا موسى لأبيه وأمه.
قلت: بلى.
قال: فعلي أخو رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم لأبيه وأمه.
قلت: لا.
قال: أوليس هارون نبياً وعلي عترتي.
قلت: بلى.
قال: فهذان الحالان معدومان في علي وقد كانا في هارون، فما معنى قوله: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى))؟
قلت: إنما أراد أن تطيب نفس علي لما قاله المنافقون خلفه أستثقالاً له.
قال: فأراد أن تطيب نفسه بقول لا معنى له.
فأطرقت.
قال: يا إسحاق له في كتاب الله معنى بَيِّن.
قلت: وما هو؟
قال: قوله عز وجل حيث يحكي عن موسى أنه قال لأخيه هارون: {أخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين}.
قلت: إن موسى خلف هارون في قومه وهو حي ومضى إلى ربه وإن رسول الله خلف علياً حين خرج إلى عرانة.
قال: كلا ليس كما قلت.
أخبرني عن موسى حين خلف هارون هل كان معه حين ذهب إلى ربه أحد من أصحابه أو أحد من بني إسرائيل؟
قلت: لا.
قال: أوليس أستخلفه على جماعتهم؟
قلت: نعم.
قال: أخبرني عن رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم حين خرج إلى عرانة هل خلف إلا الضعفاء والنساء والصبيان فأنى يكون مثل ذلك وله عندي تأويل آخر من كتاب الله يدل على أستخلافه إياه لا يقدر أحداً أن يحتج به ولا أعلم أحداً أحتج به وأرجوا أن يكون توفيقاً من الله.
قلت: وما هو؟
قال: حين حكا عن موسى: {رب أجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً}. ....... علي بمنزلة هارون من موسي وزيري من أهلي وأخي أشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبح الله كثيراً ونذكره كثيراً فهل يقدر أحد أن يدخل في هذا شيئاً غير هذا ولم يكن يبطل قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وأن يكون لا معنى له.
قال: وطال المجلس وأرتفع النهار.
فقال يحيى للمأمون: قد أوضحت لمن أراد الله به الخير وثبت ما لا يقدر أحد أن يدفعه.
قال إسحاق: فأقبل علينا.
وقال: ما تقولون.
قال: كلنا نقول بقوله أعزه الله.
قال: والله لولا أن رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: ((أقتلوا القول من الناس)). ما كنت لأقبل منكم القول، اللهم قد نصحت لهم القول، اللهم إني قد أخرجت الأمر من عنقي، اللهم إني أدينك بالتقرب إليك بحب علي وولايته.
قوله: (فأوضح المأمون أن علياً أول الناس إسلاماً).
قد سبق ما ذكره المأمون في ذلك ومما يؤيده قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم لفاطمة: ((ألا ترضين أني زوجتك أقدمهم سلما وأعلمهم علماً)). وقال علي عليه السلام في أبيات له:ـ
سبقتكم إلى الإسلام طراً غلاماً ... ما بلغت أوان حلمي
وفي جامع الترمذي عن أنس بن مالك أنه قال: بعث رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم يوم الأثنين وصلى علي يوم الثلاثاء.
قوله: (لأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم دعاه إلى الإسلام..) إلى آخره.
قد تقدم في مناظرة المأمون تقرير ذلك.
قال الفقيه حميد: ولأنه عليه السلام كان مع بني عبدالمطلب يوم دعاهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فبادر إلى التصديق ولأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم مدحه بذلك في آثار مشهورة منها قوله لفاطمة: ((ألا ترضين أني زوجتك أقدمهم سلما)). ولو كان إسلامه لا يعتد به لمكان الصبا لما حسن تعظيمه به لأنه يستحق التعظيم ولأنه عليه السلام لما أورد ذلك في مناشدة الشورى استدلالاً منه على فضله أقرته الصحابة ولم يعترضه ولا قالوا ولا بعضهم وأي شرف لك بإسلامك وأنت صغير وقد قيل أن المراد بقوله عليه السلام أوان حلمي: أن إسلامه وقع في وقت لم يقف عليه في هذا الحلم المعتاد لغيره مع كونه كامل العقل وآفر اللب.
قوله: (وذلك من التكاليف العقلية..) إلخ.
جواب غريب لم يقف عليه في هذا الموضع لغير المصنف والظاهر أن التكليف بالعقليات يلازم التكليف بالشرعيات وإن وقت ذلك كله واحد توضحه أن الشرعيات وجبت لكونها ألطافاً في العقليات فكيف يتأخر إيجابها عنها وإذا حقق النظر فلا يعد في ذلك ولا مانع أن يعلم الله في حق بعض الناس أنه يفعل التكاليف العقلية من دون ألطافها االتكاليف الشرعية فيكلفه بها قبل ولعل غير المصنف قد ذكر معنى كلامه في موضع غير هذا والله أعلم.
قوله: (على أنه لا يمنع أن يكون من خصائص أمير المؤمنين صحة إسلامه صغيراً).
قال في تعليق الشرح: نقرب أنه أسلم دون الإدراك وذلك وإن لم يستحق به ثواب فهو وصف كمال وفضيلة وبه يقع المدح سيما إذا أستمر كذلك إلى وقت الإدراك وذلك معلوم فإن من نشأ مطهراً عن الرذائل في صغره حتى أدرك يمدح ويكون له على ....... درجة في الفضل، أنتهى.
أعلم: أن له عليه السلام فضيلة في الإسلام ومزية غير حاصلة في أحد من أكابر الصحابة وهو أن إسلامه لم يسبقه كفر بخلاف غيره وقد قال بعض العلماء أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم نبه في قوله: ((إلا أنه لا نبي بعدي)). ولو كان لكنته على أنه لو صلح أحد للنبوة بعده عليه الصلاة والسلام لكان علياً لكون إسلامه لم يسبق بكر وذلك شرط في بعثه من بعث للنبوة.
قوله: (حتى باهي الله به الملائكة).
المذكور في المناظرة السابقة أن الله أمر الملائكة لتحرسه وأما المباهاة فلعل المصنف أطلع على خبر ينطوي عليها.
قوله: (إن علياً كان أعظم الناس جهاداً).
لا شك في ذلك يحيث أنه لا يعلم لأحد من الصحابة وسائر أهل الإسلام لما يساويه في ذلك أو يدانيه ولا ينكر ذلك إلا معاند تكذبه الشواهد ولا قال أحد ولا يقل أنه ولى دبره قط في شيء من وقعاته وغيره من الخلفاء ليس كذلك أما أبو بكر رضي الله عنه فلم يشتهر بقتل أحد ولا قتاله وعمر وعثمان من المولين مدبرين يوم أحد وقد بولغ في هرب عثمان حتى ذكر بعضهم أنه أستمر ثلاثة أيام وجمع أمير المؤمنين في الجهاد بين قتال الكفار الذين قوتلوا على تنزيل القرآن وقتال البغاة الذين قوتلوا على تأويله وإليه يرجع أهل الإسلام عن........ في تعرف أحكام البغاة.
قال الفقيه حميد: وإذا ثبت أن له في الجهاد الفضل الذي لا يجارى والسبق الذي لا يبارى ثبت كونه أفضل الصحابة لقوله تعالى: {وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفوراً رحيماً}. فصرح بتفضيل المجاهدين على من ليس بمجاهد ويلزم منه تفضيل الأكثر جهاداً على الأقل.
قوله: (حين هرب الناس عن رسول الله).
يعني: في أحد وحنين.
قوله: (وكان من اللذين أنزل الله عليهم السكينة وألزمهم كلمة التقوى).
لا يخلوا هذا الكلام عن وهم لأن هذه الآية المشار إليها في سورة الفتح ولم تنزل في ذلك المعنى بل نزلت في شأن صلح الحديبية وما كان من المشركين فيه من حمية الجاهلية وإنما الذي نزل فيما نحن بصدده قوله تعالى في سورة التوبة: {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها}.
قوله: (وكان علي أول من بارز).
يعني: لما ألتقى الجمعان يوم بدر وذلك أنه برز عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة من صف الكفار وطلبوا البراز فبرز إليهم عوف ومعاذ وعائذ ابنا عفراء من الأنصار فقالوا: قوم كرام ولكن نريد أكفأنا من قريش ونادوا يا محمد أخرج إلينا أكفأنا من قريش فبرز علي وحمزة وعبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب فقتل علي الوليد وقتل حمزة شيبة ثم أعانا عبيدة على عتبة فقتلوه وقد كان ضرب عبيدة فقطع رجله ثم توفي عبيدة بالصفراء، وقال قبل موته: لو عاش أبو طالب لعلم أنا أولى بهذا البيت.
ونسلمه حتى نصرع حوله ويذهل عن أبنائنا والحلائل
وروي أن ابن مسعود قال له أبو جهل وبه رمق في خطاب جرى بينهما من الغلام النقي العارضين الذين كان ............ كما تحذر أمامه؟
قال: علي بن أبي طالب.
فقال: أبو جهل قطع الرحم وسفك الدماء وقتل الصناديد وما ودع ولا وذر للصلح موضعاً.
قيل: والذين قتلهم عليه السلام في بدر الوليد بن عتبة وحنظلة بن أبي سفيان والوليد بن نوفل والعاص بن سعيد شجاع بني أمية والحرث بن زمعه وعمر بن عثمان وحرملة بن عمرو بن أبي عتبة وأبو قيس بن الوليد ومسعود بن أبي أمية وعبدالله بن المنذر ومنبه بن الحجاج السهمي وولده العاص بن سنبه وغيرهم، وشارك حمزة في شيبة بن ربيعة وفي عقيل بن الأسود.
قوله: (حتى أجمع المفسرون..) إلخ.
فيه نظر فإنهم لم يجمعوا على ما ذكره بل ذهب بعضهم أن سبب نزولها أن أهل الكتاب قالوا للمؤمنين: نحن أحق بالله وأقدم منكم كتاباً ونبياً.
وقال المؤمنون: نحن أحق بالله أمنا بالله وبمحمد ونبيكم وبكتابنا وكتابكم وكل كتاب ونبي وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تركتموه حسداً فنزلت قوله: {أبلى فيه بلاء عظيماً}. قيل أن رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر علياً بأن يحمل على نفر من الكفار ففعل، وقيل: منهم هشام بن أمية المخزومي وفرق جماعتهم ثم أمره صلى اللّه عليه وآله وسلم بأن يحمل على زمرة أخرى فقتل منهم رجلاً جمحياً وفرقهم ثم أمره بالحملة على طائفة أخرى فهزمهم وقتل رجلاً من بني عامر بن لؤي.
فقال جبريل للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إن هذه المؤاساة.
فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((إنه مني وأنا منه)).
فقال جبريل عليه السلام: وأنا منكما يا رسول الله.
وروي أن علياً عليه السلام قتل يؤمئذ عثمان بن طلحة وكان حامل لواء المشركين.
وقيل: بل طلحة بن أبي طلحة وحمل عثمان اللواء بعده فقتله حمزة ثم حمله مشافع بن أبي طلحة ثم مجالس بن أبي طلحة ثم أرطأة بن شرحبيل مولى لهم فقتلهم عليه السلام جميعاً واحداً بعد واحد.
قوله: (حتى جاء النداء من السماء..) إلخ.
قيل أنها هاجت في ذلك اليوم ريح فسمع مناد ينادي بذلك وقد قيل إن الذي سمع بيتا شعر وهما:ـ
لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي في الوغى ... فإذا نديتم هالكاً فاتكوا الوفاء وأخا الوفاء
قوله: (وسائر الصحابة يصعدون ولا يلوون على أحد).
ليس على عمومه فإن من الصحابة من ثبت ذلك اليوم غير علي عليه السلام كطلحة بن عبيدالله وغيره.
تنبيه:
أقتصر المصنف على ذكر بدر وأحد لأنهما الملحمتان الشهيرتان ولعظم بلاء أمير المؤمنين فيهما والأقلة مقامات أخرى في الجهاد كقتله لعمر بن عبد ود وقد أقتحم الخندق حتى تركه من وراء ظهره وهابه الناس أشد الهيبة وله المقام المحمود يوم خيبر وغير ذلك وغيره.
قوله: (وروى بعضهم).
لا معنى لجعل هذا من قبيل الرواية وكان الأولى أن يقول وقال بعضهم.
قوله: (علي وأبو بكر وزيد).
أراد: زيد بن حارثة بن شرحبيل الكلبي مولى رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم.
وقد قيل: أنه أول الرجال إسلاماً أستشهد يوم مؤتة في حياة رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم سنة ثمان وهو ابن خمس وخمسين سنة.
قوله: (ومعاذ وابن مسعود).
هما معاذ بن جبل بن عمور بن أوس الأنصاري الخزرجي وكان من أعيان الصحابة وشهد بدراً وما بعدها.
قيل: وكان إليه المنتهى في العلم بالأحكام والقرآن وكان موته سنة ثماني عشرة بالشام، وعبدالله بن مسعود بن عاقل بن حبيب الهذلي وهو من السابقين الأولين ومن كبار علماء الصحابة ومات بالمدينة سنة أثنتين وثلاثين أو ثلاث وثلاثين.
قوله: (وأبو ذر).
هو أبو ذر الغفاري الصحابي المشهور وهو ممن تقدم إسلامه وتأخرت هجرته فلم يشهد بدراً، وله مناقب كثيرة وأختلف في أسمه وأسم أبيه أختلافاً كبيراً والصحيح أنه جندب بن جنادة مات سنة أثنتين وثلاثين بالربذة.
قوله: (وأبو دجانة).
هو من الأنصار وهو ممن شهر بالنجدة وأبلى بلاء حسناً في الجهاد.
قوله: (وأُبَيّ).
هو أبي بن كعب بن قيس الأنصاري الخزرجي من بني النجار وهو من فضلاء الصحابة وقرآئهم وأختلف في سنة موته فقيل تسع عشرة. وقيل: أثنتان وثلاثون. وقيل: غير ذلك.
قوله: (علي وجعفر والعباس).
كان جعل حمزة الثالث هو القياس مع أن العباس ممن لا يشك في فضله ونبله.
قوله: (ولله القائل: من فيه ما في جميع الناس .........).
يعزى هذا البيت إلى العباس رضي الله عنه على كفيفة أخرى وهي:ـ
من فيه ما فيهم من كل مكرمة وليس في كلهم ما فيه من حسن
وفي هذا المعنى قال الصاحب الكافي:ـ
علي على في المواقف كلها ... ولكنهم قد خانهم فيه مولد
يجمع فيه ما يفرق في الورى ... فمن لم يعدده فإني معدد
وقال خزيمة بن ثابت الأنصاري:ـ
وفيه الذي فيهم من الخير كله ... وما فيهم كل الذي فيه من حسن
وقال أيضاً:ـ
كل خير يربهم هو فيه ... وله دونهم خصال تزينه
قوله: (والمشهور عنه عليه السلام يوم الشورى أنه أحتج عليهم في المناشدة المعروفة حتى عد بضعاً وعشرين فضلة).
في الأصل بضع ........... ألف وهو وهم أو من سهو القلم وأراد بيوم الشورى اليوم الذي أججتمع فيه أهل الشورى وهم الذين جعل عمر أمر النظر في الإمام إليهم وجعله منهم وهم ستة عثمان وعبدالرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وأمير المؤمنين.
قال عامر بن وائل: كنت على الباب يوم الشورى إذ دخل علي عليه السلام وأهل الشورى وحضرهم عبدالله بن عمر فهذا اليوم هو المراد بيوم الشورى.
وقد ذكر في تعليق الشرح أنه عدد ذلك اليوم إلى سبعين فضيلة والمذكور في الحدائق الوردية والعمدة هو حديث عامر هذا قال: سمعت علياً يقولهم لهم بايع الناس أبا بكر فسمعت وأطعت ثم بايعوا عمر فسمعت وأطعت ثم يريدون أن يبايعوا عثمان إذن أسمع وأطيع ولكني محتج عليكم أنشدكم الله هل تعلمون فيكم من أحد أحق برسول الله مني؟
قالوا: اللهم لا.
هل فيكم من أحد له عم مثل عمي حمزة أسد الله وعم رسوله وسيد الشهداء؟
هل فيكم من أحد له أخ كأخي جعفر له جناحان أخضران يطير بهما مع الملائكة؟
هل فيكم من أحد له زوجة مثل زوجتي فاطمة سيد نساء الجنة؟
هل فيكم من أحد له سبطان مثل سبططي الحسن والحسين سيدى شباب أهل الجنة إلا أبنى الخالة؟
هل فيكم من وحَّد الله قبلي؟
هل فيكم من أحد صلى القبلتين غيري؟
هل فيكم من أحد قتل مشركي قريش في حرب رسول الله وإخراجه ناجزاً عنه عند كل شديدة تنزل مني؟
هل فيكم من أحد مسح رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم عينيه وأعطاه الراية يوم خيبر وقال: ((لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله يفتح الله على يديه ليس برعديد ولا جبان)). غيري؟
هل فيكم من أخذ نصيبه رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم للناس ولكم يوم غدير خم فقال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم والا من والاه وعاد من عاداه)). غيري؟
هل فيكم من أحد أخاه رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم يوم آخا بين المسلمين وقال: ((أنت أخي وأنا أخوك ترثني وأرثك وأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)).
هل فيكم من أحد عارز عمرو بن عبد ود يوم الخندق وقتله غيري؟
هل فيكم من أحد وقف مع الملائكة يوم حنين غيري حين ذهب الناس؟
هل فيكم من أحد أشتاقت الجنة إلى رؤيت بقول نبيكم غيري؟
هل فيكم من أحد هو وصي رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم في أهله غيري؟
هل فيكم من أحد له سبق مثل سبقي في الإسلام؟
هل فيكم من أحد ورث سلاح رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم ودوابه عند موته غيري؟
هل فيكم من أحد له شقيق مثل شقيقي ووزير مثل وزيري؟
هل فيكم من أحد هو أعنى عن رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم مني حين أضطجع في مضجعه وأضجعني في مضجعه وبذل له مهجة دمي وأقيه بنفسي.
هكذا في الحدائق الوردية والعمدة ولا تخلوا عن أنضراب، في أنوار اليقين:ـ
هل فيكم أحد أضطجع على فراش رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم حين أراد أن يسير من مكة فوقاه بنفسه حين أرادوا قتله غير؟ وهو أصح وأقوم.
هل فيكم من أحد له سهمان كسهمي سهم في الخاصة وسهم في العامة؟
هل فيكم من أحد وهو أحدث عهداً برسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم مني؟
هل فيكم من أحد ولي غسل رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم بالروح والريحان مع الملائكة المقربين غيري؟
هل فيكم من أحد قال له رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((أغسلني فإنه لا يرى أحد من عورتي شيئاً إلا عمي غيرك يا علي))؟
هل فيكم من أحد وضع رسول الله في حفرته ولف في أكفانه غيري؟
هل فيكم من أحد أمر الله بمودته في السماء حيث يقول: {لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} غيري، وأمر الله نبيه بسد أبواب المهاجرين وأخرجهم غيري؟
هل فيكم من أحد جار رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم في مسجده يحل له فيه ما يحل لرسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم حين قال له ذوو قرابته: سددت أبوابنا وأخرجتنا من من مسجدك وتركت علياً؟
قال صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((ما أنا أخرجتكم ولا سددت أبوابكم ولا تركت علياً لكن الله أمرني بأخراجكم وترك علياً لم يخرجه)).
في كل واحدة من الخصال الشريفة المذكورة والفضائل الحميدة المبروزة بقول علي عليه السلام في أولها: أنشدكم الله ويقولون في آخرها: اللهم لا. وقد يقول: أنشدكم الله وبحق نبيكم.
وقد يقولون: اللهم لا نعلمه.
فلما أنتهى إلى آخرها قال عليه السلام: اللهم أشهد وكفى به شهيداً بيني وبينكم أسمع وأطيع وأتبع وأصبر حتي يأتي الله بالفتح من عنده شأنكم فاصنعوا ما بدا لكم ثم قال هذه الأبيات:ـ
محمد النبي أخي وصهري وحمزة سيد الشهداء عمي
وجعفر الذي يضحى ويمسي يطير مع الملائكة ابن أمي
وبنت محمد سكني وغرسي ....... لحمها بدمي ولحمي
وسبطا أحمد أبناي منها فمن هذا له سهم كسهمي
سبقتكم إلى الإسلام طراً غلاماً ما بلغت أوان حلمي
وروى الفقيه حميد هذه الأبيات في موضع آخر من الحدائق وحكى أنه أنشدها يوم الشورى بحضرة من حضر من المهاجرين والأنصار وزاد فيها:ـ
وأوجب بالولاية لي عليكم رسول الله يوم غدير خم
وأعلم أنا أوردنا من حديث المناشدة هذا ما أورده الفقيه حميد رحمه الله وأعتمدنا على ما نقله في الحدائق والعمدة والذي ينطوي عليه من الخصال الشريفة والفضائل المتيقنة قريب من ثلاثين خصلة وأما الذي ذكر الإمام الحسن بن بدر الدين في كتاب أبوار اليقين فهو أكثر من ثلاثة أضعاف ذلك فإنه حكى حديث المناشدة وعدد فيه من الخصال الحميد والفضائل سبعاً وتسعين فضيلة خليلة تنطوي على عجائب وغرائب فليطالعه من أحب استقصأها.
قوله: (بهذا المعنى).
يعني: بأعتبار كثرة الفضائل.
قوله: (خبر الغدير وخبر المنزلة).
الأول: قوله: ((من كنت مولاه فعلي مولاه..)). والثاني: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى..)). وسيأتي ذكرهما وشرح سرهما.
قوله: (وخبر الطائر).
عن أنس بن مالك قال: أهدي لرسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم طائر مشوي فقال: ((اللهم أئتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر)). فجاء علي فدق الباب فقلت: من هذا؟
فقال: أنا علي.
فقلت: إن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم على حاجة حتى فعل ذلك ثلاثاً، فجاء الرابعة فضرب الباب برجله فدخل فقال له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((ما حبسك))؟
فقال: قد جئت ثلاث مرات.
فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم لأنس: ما حملك على ذلك؟
قال: كنت أحب أن يكون رجلاً من قومي.
وفي رواية: أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لما سمع صوت علي قال: ((والى........... أنه أحب خلق الله إليه فهو أحبهم إلي)). وأنه لما أعتذر أنس بذلك قال: إن الرجل ليحب قومه.
وأعلم أن هذا الخبر من أجل الفضائل وأبلغها وأدلها على فضل علي عليه السلام.
قال الفقيه حميد: لأنه لا يكون أحبهم عند الله إلا وهو أكثرهم ثواباً وأكرمهم عنده تعالى وهو خبر صحيح مشهور وممن أخرجه الترمذي في جامعه.
قال في كتاب العواصم: ولقد صنف الحافظ العلامة محمد بن جرير الطبري كتاباً في طريق حديث الطير في فضائل علي عليه السلام لما سمع رجلاً بقوله: أنه ضعيف.
قال الذهبي: وقفت على هذا الكتاب فأندهشت لكثرة ما فيه من الطرق.
قوله: (وخبر المؤاخاة وخبر سد الأبواب).
قد تقدم في مناشدة علي عليه السلام يوم الشورى ذكرهما بأوفى عبارة وفيه كفاية وإن كان لهما سياق أبسط من ذلك.
قال الفقيه حميد: وإنما أخا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بين أصحابه على قدر منازلهم في الثواب فلما كان علي لا يساويه أحد في الثواب ولا يدانيه لم يجد له صلى اللّه عليه وآله وسلم أخاً ألا نفسه.
وخبر سد الأبواب إلا باب علي، فما أخرجه الترمذي من رواية ابن عباس وأخرج أيضاً من رواية أبي سعيد أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لعلي: ((لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجدغير وغيرك)).
قوله: (وفضيلة فتح خيبر لما غزى صلى اللّه عليه وآله وسلم خيبر وشق أفتتاحه بات صلى اللّه عليه وآله وسلم مهموماً وقد كان أعطى الراية عمر قولى هارباً وفي رواية أنه قد كان أعطاها قتله أبا بكر فولى هارباً أيضاً فقال: ((لأبعثن بالراية رجلاً يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله)). وكان علي أرمد فدعاه رسول الله فتفل على عينيه فبرأ وأعطاه الراية فأفتتح الحصن وقد كان ألجأ من فيه إلى قصر فلم يدر المسلمون من أين يأتونهم فأقتلع علي الباب فوضعه على عاتقه ليرتقوا عليه ففعلوا ووقع الفتح ونظر وأبعد إلى ذلك الباب فوجد مما لا نقله إلا أربعون رجلاً وفي هذه القصة قال حسان بن ثابت:ـ
وكان علي أرمد العين يبتغي دواء فلما لم يحسن مداويا ... حياه رسول الله منه بتغلة فبورك مرقياً وبورك راقياً
وقال:ـ
سأعطي الراية اليوم صارماً كمياً محباً للرسول موالياً ... وأصفى بها دون البرية كلها علياً وسماه الوزير المؤاخيا
قال الإمام الناصر في كتاب المسفر: لما فتح الله خيبر على يد علي عليه السلام سر رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم بذلك كثيراً ولما رجع إلى رسول الله بعد فتح خيبر قال رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((لولا أن تقول طائفة من أمتي فيك ما قالت النصارى في عيسى بن مريم لقلت فيك مقالاً ........ ........ من المسلمين إلا أخذوا التراب من تحت رجليك وفضل طهورك يستشفون بهما ولكن حسبك مني أن تكون بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي وأنك تبرئ ذمتي وتقاتل على سنتي وفي الآخرة أقرب الناس مني وعلى الحوض خليفتي وأول من يرده وأول من يكتسي وأول داخل الجنة وشيعتك على منابر من نور مبيضة وجوههم وحربك حربي وسلمك سلمي وسرك وعلانيتك علانيتي وسري وإنك على الحق ليس أحد من الأمة يعدلك بعدي وإن الحق على لسانك وقلبك وبين عينيك والإيمان مخالط لحمك ودمك كما خالط لحمي ودمي ولن يرد الحوض مبغض لك ولن يغيب عنه محب لك)). فخر علي عليه السلام ساجداً لله شكراً.
قوله: (وفضيلة حمل اللواء يوم القيامة).
روي من حديث طويل أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: ((وإني أخبرك يا علي إن أمتي أول الأمم يحاسبون ثم إنك أول من يدعى به لقرابتك مني ومنزلتك عندي ويدفع إليك لواء وهو لواء الحمد وآدم وجميع خلق الله يستظلون بظل لواي يوم القيامة)).
قوله: (وفضيلة الوصاية وفضيلة ذهاب الرجس).
سيأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى.
قوله: (وأشباه هذا مما لم يوجد لأحد).
من ذلك ما رواه البيهقي في فضائل الصحابة عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: ((من أحب أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى توسع في تقواه وإلى إبراهيم في حلمه وإلى موسى في هيبته وإلى عيسى في عبادته فلينظر إلى وجه علي)). وروى الفقيه حميد عن علي عليه السلام قال: كان لي من رسول الله عشر ما أحب أن لي بأحداهن ما طلعت عليه الشمس قال لي: ((يا علي أنت أخي في الدنيا والآخرة وأقرب الخلائق مني في الموقف يوم القيامة ومنزلي يواجة منزلك في الجنة وأنت الولي والوزير والوصي والخليفة في الأهل والمال وفي المسلمين في كل غيبة وأنت صاحب لوائي في الدنيا والآخرة وليك وليي ووليي ولي الله وعدوك عدوي وعدوي عدو الله)).
وأعلم: أن فضائل أمير المؤمنين وما نقل فيها وورد لا يتمكم من حصر ذلك أحد وقد صنف فيها كتب كثيرة من محاسنها كتاب الدعامة للسيد أبو طالب، وقيل: أن الأعمس كان يروي في فضائل أمير المؤمنين قدر عشرة آلاف حديث.
قيل (ي): وقد أشتملت الإمهات كالبخاري ومسلم ونحوهما على ستمائة حديث وخمسة وثمانين حديثاً وأما ما يرويه أهل البيت وشيعتهم في فضل علي عليه والسلام وأبنائه فقد قيل أنها ألف ألف حديث أو ما يقارب ذلك، ولبعضهم:ـ
ولولا أن يظن بنا غلو لزدنا في المقال من أسترادا
قوله: (عائشة أقضاكم).
على ظاهره وقف الحديث على عائشة وقد رفعه الفقيه حميد قال ما لفظه: وقال صلى اللّه عليه وآله وسلم وقد خص بعض الصحابة بنوع ..... من العلم أقضاكم علي وهو أولى فإنه مما أخرجه الترمذي من رواية أنس قال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأشدهم حياء عثمان، وأقضاهم علي، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرأهم أبي بن كعب، ولكل قوم أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر أشبه عيسى عليه السلام وورعه)).
قوله: (والقضاء جامع لعلوم الإجتهاد).
يعني: لأنها شرط في صحته فالوصف به وصف بها وقد ورد مما يدل على سعة علمه عليه السلام ما هو أصرح من هذا كقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها)). وهو مما أخرجه الترمذي في جامعه هكذا وغيره زاد: ((فمن أراد المدينة فليأت الباب)). ولما نزل قوله تعالى: {وتعيها أذن واعية}. قال: ((سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي)). وقال ابن عباس رضي الله عنه: قسم العلم إلى ستة أسداس أخذ علي منها خمسة وشارك الناس في الباقي.
قال الفقيه حميد: ثم إذا تأملت أصناف العلوم وجدته الأصل في جميعها فله في الأصول ما لا يوجد لأحد من الصحابة مثله بل اليسير من كلامه فيها يعدل بكلامهم ثم له في الفرائض البديهية العجيبة والوادث الغريبة ثم في الفروع الفقهية الحظ الأسنى والقدح المعلى وكم من مرة تدارك فيها عمر على سعة علمه وبعد أن باشر الخطأ حتى قال: لا أبقاني الله لمعضلة لا أرى فيها ابن أبي طالب.
وما رجع علي عليه السلام إلى أحد منهم في شيء من الحوادث فإذا تقرر أنه أعلم وجب أن يكون أفضلهم قال تعالى: {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}.
قوله: (يحيى بن آدم: ما أدركت بالكوفة..) إلخ.
يحيى بن آدم هذا مولى أموي كان من الثقات الحفاظ الأفاضل وهو من كبار الطبقة الثالثة من طبقات تابعي التابعين وكانت وفاته سنة ثلاث مأتين من الهجرة.
الكلام في الإمامة
قد قدمنا في جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فن علم الكلام وعدهما من أبوابه ما ينبغي أن يؤتى بمثله في مسألة الإمامة.
قال بعض المتأخرين: والتحقيق أنها من مسائل الفروع القطعية.
قال: وقد أفرط بعض الناس في إخراجها من أصول الدين فقال: هي من مسائل الإجتهاد التي كل مجتهد فيها مصيب وأقرب ما يعتذر به في إدخالها في هذا الفن وجعلها باباً من أبوابه أن الإمامة خالفة النبوة وعليها مدار كثير من أحكام الإسلام ولهذا ذكر أصحابنا أن العلم بها جملة من فروض الأعيان وتفصيلاً من فروض الكفايات.
وقال بعضهم: هي أهم التكاليف وأفحمها وأعظمها ثواباً والإمام أفضل الآدميين وهو في الدرجة الثانية من النبي وكما أن النبي لا يراد لنفسه بل يراد لغيره فكذلك الإمام فلو قدر أنه لم يبق إلا مكلف واحد لم يصح أن يبعث نبياً ولا يجعل إماماً.
قوله: (هي التقدم).
قيل: لا بد معه من أعتبار حصول الإقتداء فالإمام لغة: المتقدم على غيره في أمر من الأمور على وجه يقتدى به.
قوله: (كما قال تعالى: {يوم يدعو كل أناس بإمامهم}).
هذا شاهد يعم الوجهين لأن المعنى سواء كان إمام خير أو إمام شر.
والذي يختص إمام الخير: {إني جاعلك للناس إماما}. {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا}.
والذي يختص إمام الشر نحو: {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار}.
قوله: (قلنا: رئاسة عامة، أحتراز من الخاصة كرئاسة الرجل على أهل بيته).
المراد بعمومها إنها تعم الأمة كافة ولا تتعلق ببعض منهم دون بعض ولا بجهة دون جهة ولا بوقت دون وقت إلا أنها لا تعم الجن فلا تكليف عليهم فيها ولا يلزمهم طاعة الإمام ولا يعلم منهم أئمة إذ لا دليل على ذلك ويخرج كل رئاسة خاصة كولاية القضاء والإمارة في بلد أو على عسكر وولاية الأوقاف والمساجد ونحو ذلك.
قوله: (ولهذا قال عمر: سيفان..) إلخ.
قاله يوم السقيفة جواباً للأنصار وقد قال قائلهم: منا أمير ومنكم أمير.
قوله: (والألطاف تختلف).
يعني: فمن الجائز أن يكون اللطف في بعثة نبي واحد وأن يكون في بعثه نبيين أو ثلاثة.
قوله: (وقلنا في أمور مخصوصة..) إلخ.
سيأتي تحقيق هذا في بيان ما يحتاج إلى الإمام فيه.
قوله: (وحفظ بيضة الإسلام).
أي: حوزته والحوزة في الأصل الناحية.
قال الجوهري: بيضة كل شيء حوزته.
قوله: (لكن يد الإمام فوق يده).
يعني: فيلزمه أمتثال ما أمره به ونهاه عنه ولو صدر منه ما يوجب الحد وجب على الإمام أن يقيمه عليه.
تنبيه:
لم يذكر المصنف حقيقة الإمام أكتفاء بذكر حقيقة الإمامة لأنها ترشد إليها فالإمام من له تلك الرئاسة العامة المذكورة.
فصل:
قوله: (والظاهر من كلام العلماء أن الإمامة واجبة).
هكذا يذكرون وهو كلام مجمل.
قال الفقيه حميد: ومعنى ذلك أنه يجب على من صلح للقيام بأعباء الأمة أن ينتصب ويدعو الناس إلى طاعة الله تعالى وطاعته والأنقياد للأحكام الشرعية.
قلت: ويجب ذلك على الصالح ويتعين إن لم يصلح غيره وكفاية إن كان الصالح لذلك جماعة ويجب على سائر الأمة نصبه على قول من يجعل طريقها العقد والإختيار ويخيرون في نصب من شاؤا من الصالحين لها.
قال الرازي في نهايته: أتفق جمهور الأمة على أنه يجب نصب إمام في كل وقت.
وتابعه على ذلك الإمام يحيى وهذا يستقيم على القول بالعقد والأختيار........... الواجب على الأمة وأما إذا لم تكن طريق الإمامة إلا الدعوة فالواجب على الإمام لا عليهم ولا يبعد أن يعد من الواجب على الأمة حثه على القيام وإعانته عند من يجعل طريقها الدعوة لأنه قد يفهم من كلامهم أن الواجب على الأمة وعلى ما ذكره الفقيه حميد أن الواجب على الإمام فقط، وإنما يجب عليهم الإجابة والطاعة، والقول بوجوبها مذهب أهل العدل والأكثر من الأمة والخلاف في ذلك مع الحشوية ..... من الخوارج والأصم وهشام بن الحكم وهشام الفوطي وبعض المرجئة، وأختلف في الرواية عنهم.
فقيل: ذهبوا إلى أن الإمامة لا تجب شرعاً ولا عقلاً لكن إن أمكن نصب إمام عدل من دون سفك دم ولا ضرر فحسن وإن لم يتفق ذلك وقام كل واحد بأمر منزله ومن يشتمل عليه من ذي قرابة وجار فيقيم فيهم الحدود والأحكام على مقتضى الكتاب والسنة جاز ذلك ولا حاجة إلى الإمام، وإما أنه يقوم بالسيف والحرب فلا يجوز هكذا حكى نشوان عنهم.
وقيل: بل الخوارج لا توجب الإمامة بحال تناصف الناس أو لم يتناصفوا.
وقال هشام بن الحكم: تجب الإمامة مع التناصف لأن الإمام يحتاج إليه لتنفيذ الأحكام مع التناصف لا عند التشاجر.
وقال الأصم ومن طابقة: إن وقع التناصف لم يجب لعدم الحاجة إلى الإمام حينئذ.
قال في تعليق الشرح: وكلامهم يعود إلى قولنا، لأن المعلوم ضرورة من عادة البشر أنه لا يقع بينهم تناصف.
وقد حكى الرازي عن عشام الفوطي مثل ما نقل عن هشام بن الحكم فقال هؤلاء: يجب نصب الإمام في حال ظهور الظلمة لأنهم ربما أنفوا عن طاعته فيؤدي قيامه إلى إثارة فتنة وأما مع ظهور التناصف فيجب نصبه لإظهار شعار الشريعة.
قوله: (ويحتجون لذلك بإجماع الصحابة).
أختصر المصنف في ذكر هذا الدليل وعادة المستدلين به توسيع الكلام فيه وذكر ما ظهر من أهتمام الصحابة بتأدية هذا الأمر الواجب حتى أشتغلوا عن تجهيز رسول الله وقدموه عليه وأثروه بالنظر ثم لما دنت الوفاة من أبي بكر أشتغل بذلك في مرضه وأمعن النظر فيه وعقد الولاية لمن يقوم بالأمر بعد ثم لما أتفقت قضية عمر جعل المهم له النظر في ذلك مع معاناته لأسباب الموت وصير الأمر شورى ثم لما أتفق مهلك عثمان أنثال الناس على أمير المؤمنين وبادروا إلى بيعته من غير تراخ ولا مهلة وفي جميع هذا الأحوال لم يسمع من دان ولا عال أن قال: لا حاجة بنا إلى هذا ونحن في غنية عنه أو ليس هذا بلازم لنا ولا واجب علينا، ولا أنكر أحد قول أبي بكر: لا بد لهذا الأمر ممن ينظمه ويقوم به. ولا قول غيره في هذا المعنى وهذا الدليل هو أبلغ ما يعتمد عليه في وجوب الإمامة وأستقواه كثير من العلماء وبنوا على أنه دليل قطعي برهاني وقد أورد المصنف عليه الإشكالات الثلاثة المذكورة في المتن وهي واردة عليه بعد تسليم وقوع الإجماع وأنه منقول بالتواتر وأن الإجماع حجة قطعية وأنه لا يشترك في ذلك أتفاق جميع من وجد من الأمة قطعاً بل إجماع أهل كل عصر كاف وفي كل من هذه الوجوه نزاع شديد.
قوله: (أحدهما: أن إجماع الصحابة..) إلخ.
قد أجاب عن ذلك في العمدة بأنهم لو فعلوا ذلك لحسنه فقط من دون وجوب لما خلا بعضهم عن أن يقول لا حاجة بنا إلى ذلك ولخالف فيه كما ثبت أختلافهم فيما ليس بواجب ومعلوم ان الأمر ليس كذلك فإنهم كانوا يبادرون إلى نصب الإمام أشد المبادرة على حد يظهر منهم دلائل أعتقاد الوجوب لا الحسن فقط، وقد بالغ الإمام المهدي عليه السلام في رد هذا السؤال وتضعيفه وقال: إنه لا يصدر عن ذي فطانة لأنا نعلم ضرورة من دين النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وجوب نصرة الإسلام على كل مسلم وتوهين الكفر حسبما نستطيع وكل عاقل يعلم ضرورة أن بقاء الأمة بعد موت الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم فوضاء ليس لهم أمير يجمع كلمتهم ويسد الثغور ويصلح ما أفسده الجهال والضلال فيه هدم لما كان صلى اللّه عليه وآله وسلم مشيده والمنكر لذلك معايد دافع للعلم الضرورة فعلم أنهم إنما فزعوا إلى نصب الإمام لتقوية أمر الإسلام وذلك عليهم فرض واجب فيجب أن يكون فعلهم ذلك لوجوبه.
وعندي أن هذا الجواب غير مطابق للسؤال وفيه مجازفة وإذا ثبت ما أدعاه من العلم ضرورة بوجوب نصرة الإسلام على كل مسلم والعلم ضرورة بأن عدم الإمام ينافي ذلك أستغنينا عن الإستدلال بإجماع الصحابة فالأمور المعلومة ضرورة من الدين لا تفتقر إلى إقامة البراهين.
قوله: (لما جاز خلو الزمان عن إمام).
يعني: مع أنه يعلم ضرورة خلو كثير من الأزمنة عن أئمة الهدى والمحققون متفقون على ذلك وأنه يجوز خلو الزمان عن إمام.
وأما أنه هل يجوز خلو الزمان عمن يصلح للإمامة أو لا؟
فالعدلية وجمهور المتكلمين منعوا ذلك وقالوا: لا يجوز أن يخلو الزمان عمن هو صالح لهذا الأمر وكل من أصله فالزيدية يقولون: بإمتناع أن يخلوا عن صالح من الفاطميين.
والمعتزلة: عن صالح من قريش، إلا أبا علي: فجوز أن يخلو عمن يصلح من قريش.
وقال: ومع ذلك تجوز الإمامة في غيرهم.
وقال: ولا بد أن يوجد الصالح بكمال الشرائط ما عدا المنصب.
والخلاف في هذه المسألة مع المخالفقين في وجوب الإمامة أستدل الجمهور بأن علينا تكاليف لا يصح تأديتها إلا مع وجود الإمام كإقامة الجمعات والحود وأخذ الزكوات كرهاً ونحو ذلك فيجب على الله تعالى أن لا يخلي الزمان عن صالح للإمامة ليتم لنا تأدية ما كلفناه إذ لا يتم إلا مع وجود من كملت في الشرائط فما كان منها من فعل الله كالعقل والذكورة والمنصب والبلوغ وجب عليه تعالى فعله، وما كان منها أكتسابياً كالعلم والورع وجب عليه تعالى توفير دواعي المكلف إلى تحصيله.
وإذا قيل: هذا يقتضي ألا يخلوا الزمان عن إمام ثابت الإمامة لأن أداء التكاليف المذكورة يتوقف على وجوده لا على وجود من يصلح فقط.
قالوا: الواجب على الله ما ذكر من فعل ما كان من الشرائط من فعله وتوفير الدواعي إلى إكتساب ما هو من فعل المكلف بحيث يقع منه ثم إذا أكملت فقد صار الواجب على غيره وهو الدعوة والخروج عند من يجعلها طريق ثبوت الإمامة والعقد على العاقدين عند من يجعله الطريق والرضا على الآخرين، وإذا ثبت أنه لا يخلو الزمان عن صالح للإمامة فمن الجائز بل الواقع وجو جماعة يصلحون للإمامة فمن دعا فهو الإمام أو من عقد له على أعتبار العقد والأختيار.
وذهب عباد بن سليم والإمامية: أنه لا يجوز أن يوجد في وقت واحد ممن يصلح للإمامة إلا رجل واحد وإلا كان تخصيص واحد بها لغير مخصص ورد بأن عمر جعلها شورى في ستة ولم ينكر عليه وبأنا نقطع بصلاحية كل واحد من الحسنين وهما في وقت واحد.
وذهب الشيخان: أنه لا بد من أن يقرع بينهم مع الاستواء لأن القرعة معتبرة في الشرع.
وقال ضرار: بل يؤثر العجمي على العربي.
والدليل على العزيز: ليكون أقرب إلى إمكان الخلع والإزالة.
وهي جهالة فإن المعتبر ما كان أقرب إلى قوة الشوكة وإنفاذ الكلمة.
وقد أجبت عن الوجه الثاني من وجهي الأشكال اللذين أوردهما المصنف: بأن الإمامة وإن وجبت على الأمة في كل عصر فوجوبها موسع غير مضيق لتباعد التواخي وأختلاف الأراقي في طلب الصالح وتعيينه وإذا كان وجوبها موسعاً لم يظهر الأخلال بالواجب من أهل العصر إلا بعد أن ينقرضوا كافة ولا يبقى منهم أحد قبل أن يقوم منهم قائم حق ولا يعلم أتفاق ذلك والخلو عن قائم حق في مدة ممتدة يقطع فيها بإنقراض أهل عصر كلهم إذ لا يقطع بذلك أو يغلب الظن به إلا في قد مائة وخمسين سنة ومن المعلوم أنه لم تخل الأمة عن قائم حق قدر هذه المدة وإنما تقع فترات يسيرة في أوقات قصيرة ذكر معنى ذلك الإمام المهدي وفيه نظر لأن الواجبات التي يحتاج إلى الإمام فيها وجب نصبه للقيام بها غير متأخرة بل يجب في أوقاتها فكيف يكون ما يتوقف عليه متأخراً موسعاً وكيف يقولون بأنه يجب نصب الإمام ليمكن تأدية ما وجب من إقامة الجمعة والحدود وأخذ الزكوات وتجييش الجيوش وحفظ بيضة الإسلام ثم يقولون يجب وجوباً موسعاً متراخياً في قدر مائة وخمسين سنة فما يكون حكم الجُمَع في هذه المدة وهي تجب في كل شهر أربع مرات وما يكون حكم الحدود وأسبابها ترتكب كل يوم وليلة في الأغلب وما يكون حكم الزكوات وهي تجب في كل سنة ومنها ما يجب في السنة مرتين ومرات مع أنكم تقولون أنه إذا قام لم تقم الحدود في الوقت الذي مضى قبل ولايته و.......... الماضية قد تعذرت إقامتها فما جاز في مدة التراخي هذه من عدم قيامة جاز فيما بعدها وأي غرض في أن يتعين وجوب إقامة على أهل العصر على آخر مدة بقائهم وأوان أنقراض آخرهم وإذا أستغنوا عنه في مدتهم وزمانهم حتى مضى الزمان وذهب أكثر الأعيان ولم يبق إلا يوم أو يومان ولا بقي منهم إلا واحد أو أثنان فلتقع الغنية عنه لتلك البقية اليسيرة في تلك المدة القصيرة وما أحوج إلى هذا إلا التكليف وسلوك سبيل التعسف.
قوله: (ووجه ثالث: وهو أن يقول المعتزلي للزيدي..) إلخ.
في هذا الوجه ضعف وجوابه واضح: وهو أن حكمنا على سكوت علي عليه السلام ومن على رأيه عن إنكار إمامة أبي بكر بأنه للتقية إنما كان لقرائن أقتضت ذلك من تجرم علي عليه السلام وفلتات تصدر منه وما صح من أدعائه الأولوية مع ما نعلم أو نظن من أن منكرها لا يسلم من الإهانة ولخوف الضرر وإرغام الأنف كما كان في حق سعد بن عبادة وما روي من هذا المعنى في حق غيره ولم يحصل مرتبة تقضي بأن السكوت عن إنكار وجوب الإمامة لمثل ذلك بل القرائن قاضية بخلافه.
قوله: (وقد أستدل على وجوبها بوجه آخر).
هذا الدليل هو الذي أعتمد عليه الإمام القاسم بن إبراهيم عليه السلام وأبو علي وأبو هاشم في بعض كتبهما وأعتمده الرازي في نهايته.
قوله: (وأجمعت الأمة..) إلخ.
كذلك دل عليه الحديث وهو قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((أربعة إلى الولاة الحدود والجُمعات والفيء والصدقات)).
قوله: (وبوجه آخر، وهو أن يقال: ما أنكرتم..) إلى آخره.
حاصله أن يجعل الإمام شرطاً في الوجوب كالنصاب في الزكاة ولا يجب تحصيل الشرك الذي هذا حاله لا شرط أداء كالوضوء لأن الإجماع وقع على أن الوضوء شرط أداء فيجب تحصيله ولا إجماع على أن الإمام شرط في أداء الحد وأول من أورد هذا الإعتراض الشيخ أبو عبدالله وضعف هذه الدلالة لأجله.
وقد أجبت: بأن الأمر بالحدود وقع مطلقاً غير مقيد بالشرط كالأمر بالصلاة فيجب تحصيل الشرط، وليس في قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((أربعة إلى الولاة..)). ما يقضي بأن الولاة شرط وجوب بل منه كالتصريح بأنهم شرط أداء لأنه قال: ((إلى الولاة)). أي إقامتها بعد وجوبها بحصول أسبابها إليهم لا إلى آحاد الناس وإذا وجبت كذلك ولم يجز إقامتها إلا على وجه مخصوص داخل تحت مقدورنا وجب علينا تحصيله لنقوم بما قد وجب علينا وجوباً مطلقاً، وهذا الجواب لا يستغنى عن إعادة النظر فيه وتأمل ما أشتمل عليه من تعليل وتوجيه وأوضح من ذلك الإعتراض أن يعترض ذلك الإستدلال بمنع الإجماع وكيف يدعى الإجماع مع أن أبا حنيفة لا يشترط الإمام في إقامة الحدود ويجعل إقامتها إلى الأمراء وأهل الشوكة وإن لم يكن ثم إمام والمخالفون في وجوب الإمام وهم الحشوية ومن قال بقولهم يمنعون من كون تلك الأمور مشروطة بالإمام ومقصورة عليه وفي كون الحد والفيء والصدقات وإقامة الجمعات مقصورة على الإمام خلاف ظاهر مشهور مبين في مواضعه من كتب الفروع فكيف يحتج بالإجماع هنا، وأما الخبر المذكور فآحادي ولا تصريح فيه بالإشتراط وما المانع من أن يكون المراد أنها إليهم مع وجودهم ولا يصح أن يتركب على مثله دليل يدعي كونه قطعياً وقد أستدل بعض أصحابنا على وجوب الإمامة بدليل ثالث يجري الكلام في تقريره وتنظيره على نحو من الإستدلال بدليل الأمر بإقامة الحدود وهو أن الجهاد فرض واجب على الأمة والإمام شرط في أدائه وتحصيل هذا الشرط ممكن للأمة فثبت وجوبه ووجوب الجهاد لا نزاع فيه، وأما أن الإمام شرط فيه فغير مسلم وقد أحتج على ذلك بحجة متكلفة وسلك إلى تصحيحة في طريق متعسفة والمعلوم ضرورة إمكان جهادة الكفار والبغاة من دون حصول الإمام الجامع للشرائط وإن العلماء متفقون على من شاء الجهاد لا يتوقف عليه كمدافعة الكفارة والبغاة وبعضهم يجيز قصدهم من دون إمام ويلحق بما ذكر إيراد
ما تمسك به المانعون لوجوب الإمامة ونصب الإمام وقد تمسكوا بوجوه:ـ
الأول: لو وجب ذلك لكان إما لفائدة فيه أو مع غيره فائدة محال أن يكون نصبه لغيره فائدة لأنه يكون عبثاً وإذا كان لفائدة فهي:
إما دينية وهو كونه الأصل في معرفة الله ومعرفة صفاته كما تقوله طائفة، أو لكونه لطفاً في الواجبات والكف عن المحرمات كما تقوله الإمامية والقسمان باطلان فبطل أن يكون نصبه لفائدة دينية.
وإما دنيوية فأما جلب نفع فهو غير واجب إتفاقاً أو دفع ضرر فيكون الوجوب موقوفاً على حصول المضرة وإندفاعها ولا مانع من أن ينكف الناس عن الأضرار مع عدمه لا يكون دفعه ممكناً فضلاً عن أن يكون واجباً.
وأجبت: بأن نصبه لغرض ديني خلاف ما ذكر وهو إظهار شعار الدين كالجهاد وإقامة الحدود والجمعات وغير ذلك، وغرض دنيوي وهو دفع ضرر بعض الخلق عن بعض ودفع الظلم وهذا غرض عظيم ومقصد كلي.
وقولهم: فلا مانع من أن ينكف الناس عن الأضرار إلى آخره.
قلنا: ذلك أمر موهوم وأما الحاصل الموجود فهو أن الخلق لا يخلو حالهم عن إضرار بعضهم بالبعض.
الثاني: قالوا: نصب الإمام يتضمن الإضرار بالخلق لأنه ربما يستنكف الناس عن طاعته فيحاربونه فإما قتلوه أو قتلهم فتعظم الفتنة وتشتد البلوى وأي ضرر أعظم من هذا فلا يتوجه نصبه.
والجواب: هب أنه كذلك لكن الضرر الحاصل من تركه أعظم وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير فإن في نصبه صلاحاً للخلق وقطعاً للشجار وكفاً للظلم.
الثالث: أجمعت الأمة على أن طريق الإمامة ليس إلا أحد ثلاثة أمور: النص، الأختيار، والدعوة.
والنص باطل بما تذكره المعتزلة، والأختيار باطل بما يذكرونه فإذا بطل ذلك كله ولا طريق للإمامة سواه وجب بطلان وجوب نصب الإمام.
والجواب: أن ما ذكره لا يستقيم لإقامة الدليل على صحة ما يذهب إليه في طريق الإمامة.
الرابع: قالوا: من شرط الإمامة الإجتهاد وضبط علوم الإجتهاد صعب وإحراز شروطه متعذر فقد يستغرق الإنسان في بعض علوم الإجتهاد عمره ولا يقع على المقصود منه فكيف إذا أراد إحراز جميعها وإذا كان ذلك متعذر كان نصب الإمام متعذراً.
قال الإمام يحيى: والجواب من وجهين:ـ
أحدهما: أنا إن قلنا أن الإجتهاد ليس شرطاً في الإمام وإن إمامة المقلد صحيحة لم يلزمنا ما قلتم إذا كان محرزاً لسائر الصفات من الورع وحسن السياسة والتدبير كما سنقرره بعد إن شاء الله.
وإن قلنا: إن الإجتهاد شرط فإن كان ممكناً فنصب الإمام واجب وإن كان غير ممكن لم يجب لأنا لم نوجب الإمام إلا مع الإمكان دون التعذر والإستحالة.
وأما ثانياً: فسنوضح الكلام في علوم الإجتهاد ونبين مقدار الواجب منها وإن إحرازه ممكن على القرب فسقط ما ذكرره.
الخامس: لو وجب النصب للإمام لكان إما أن ينصب إمام واحد أو أكثر. والأول باطل لأنه مستحيل أن ينفذ أمره في قضية واحدة من جهة المشرق والمغرب جميعاً. والثاني باطل للإجماع على بطلان إمامين في وقت واحد فيجب القضاء ببطلان نصب الأئمة.
والجواب: أن المحال إنما يلزم إذا كان هو المتولي للقضايا في المشرق والمغرب بنفسه وأما إذا كان لنصب القضاة وإنفاذ الولاة فإن ذلك غير متعذر كما كان حال الخلفاء في جميع الأقطار فسقط جميع ما تعلقوا به.
تنبيه:
أعلم أن الجمهور يعدون مسائل الإمامة من المسائل القطعية التي لا مجال للإجتهاد فيها ويحكمون بأن وجوب الإمامة معلوم قطعاً وإن أدلته موصلة إلى العلم وذهبت الأشعرية وبعض المعتزلة إلى أنها من المسائل الظنية الإجتهادية.
قيل (مهدي): ومعنى قولهم إن الإمامة إجتهادية أن الأمة إذا أختلفت في إمامة إمام فبعضهم قضى بصحتها وبعضهم قضى بفسادها فثبوت إمامته ووجوب طاعته ظني لا قطعي مهما لم يحصل عليه نص متواتر ولا إجماع ولا قياس قطعيان وحكموا بتعذر هذه الطرق الثلاث فيمن قام منذ قتل عثمان، وَرَدَّ بأن الأدلة القطعية قد قامت على وجوب الإمامة ولم يشترط الشرع حصول نص ولا إجماع على القائم بها ومن أنتصب لها كامل الشرائط فقد قام بما أوجبه الله قطعاً فلزم القطع بإمامته.
قلت: وقد أتفقت بيننا وبين أعيان علماء عصرنا مراجعة في هذا المعنى مجموعها قدر مجلد لطيف ابتدأناها برسالة وأجاب عنها أعيان علماء صنعاء وغيرهم وأجبنا عن أجوبتهم وفي تلك المراجعة فوائد وفرائد لا ينبغي أن يغفل عنها من عول على التحقيق في هذه المسألة.
فصل:
وطريق وجوب الإمامة عند جمهور العدلية السمع فقط.
قوله: (وبنوا ذلك..) إلى آخره.
تحقيق هذا الوجه أن الإمامة إنما وجبت لأجل وجوب أمور علم وجوبها من جهة السمع كإقامة الحدود ولا شبهة أن العقل لا يقضي بوجوبها وإذا ثبت ذلك فلا يجوز أن يعلم وجوبها بالعقل لأنه لا يعلم وجوب ما هو وصلة إلى الواجب إلا بعد العلم بوجوب ذلك الواجب فإذا كان الإمام إنما يراد لأداء أمور واجبة وجب ألا يعلم وجوب الإمامة إلا بعد العلم بها وهي لا تعلم إلا من جهة الشرع، وأحتجوا أيضاً بأن العقل يمنع من مقتضى الإمامة إلا بمبيح شرعي لأن الإمامة إنما تراد لأمور ضارة كالقطع والرجم والصلب وأخذ نصيب من أموال الناس على كره منهم وقتالهم وقتلهم إن أمتنعوا من ذلك ولا شك أن العقل يمنع من وجوب هذه الأمور لأنه يمنع من حسن الإضرار بالغير لا لنفع أو دفع ضرر والعقل لا يدل على ثبوت غرض في هذه الأفعال بل هو مما ينفرد الله بالعلم به ولا يعلم إلا بوحي يرد من جهته.
قوله: (قالوا: والذي يقضي به العقل من ذلك هو رئيس ما هو كذلك).
فإن هذا الدليل إنما يقضي بأنه لا بد من رئيس يحصل به الغرض المقصود كافراً كان أو مؤمناً جامعاً للشرائط أو خالياً عنها ولا نعلم منه أيضاً أنه لا يصح أن يكون إلا واحداً بل مقتضاه أن أهل كل قرية لا يستغنون عن الرئيس الذي يحصل به ما ذكر وقد جعل أصحابنا هذا وجهاً مستقلاً في بطلان ما ذهبوا إليه لأن الذي زعموا أن العقل يقضي به هو غير ما نحن فيه، وإذا قالوا نرجع في شرائطه وتفصيل أحواله إلى دلالة أخرى وهي: الشرع. أو قالوا: يجب أن يكون مؤمناً لأن النفوس إليه أميل ويجب أن يكون واحداً لأن كثرة الرؤساء يؤدي إلى التنازع والمنافسة وذلك يقضي إلى نقيض الغرض المقصود.
قال الإصحاب لهم: إذا كان وجوب الرئاسة.
دليله: ما ما نعلم من فزع العقلاء إلى الرؤساء وجب ألا يعتبر في الإمامة إلا ما يعتبرونه عند الفزع، فأما أن يجعل الفزع دليلاً على بعض ذلك دون بعض فلا مخصص وإما كون النفوس أميل إلى المؤمن والكافر تنفر عنه النفس فغير المسلم لأن كثيراً من الجاحدين يقع منهم العدل وكثير من أمراء الإسلام يقع منهم الجور.
وقولهم: إن كثرة الرؤساء يؤدي إلى التنازع.
غير مُسَلَّمٍ فمن المعلوم أنه متى أراد الواحد منها أنفاذ أوامره على أقطار كثيرة وأستبداده بالرئاسة وقع من التنازع والتشاجر والتناحر ما يزيد على ما يقع بسبب تعدد كثرة الرؤساء هكذا قرره الفقيه حميد في العمدة.
قوله: (فالواجب دفع أكثر الضررين بأقلهما).
المعنى هنا: دفع أكثر الضرر بالأمر الذي ينشأ منه أقلهما.
قوله: (وقد جاز خلو الزمان من نبي فليجز خلوه عن إمام).
هذا الوجه يرد على قولهم أنه لا يجوز خلو الزمان عن إمام وهو ظاهر من مذهبهم وإن لم يذكره المصنف في أول المسألة عند ذكر خلافهم.
قوله: (إلا من رأى هذا الإمام).
يقال: ليس من شرط اللطف أن يكون مرئياً فكان القياس أن يقول أو من ...... دعوته.
قوله: (وبعد فأكثر الألطاف تختلف..) إلخ.
هذا وجه ركيك وكان يلزم مثله في معرفة الله تعالى ونحوها فإنما تختلف الأحوال في نحو الصحة والألم والغناء والفقر ولا يلزم من أختلاف الحال فيها أختلافه في كل لطف.
قوله: (لأن الناس يكونون معه أقرب إلى الطاعات).
يعني: ومن حق اللطف أن يفعل على أبلغ الوجوه كما تقدم.
قوله: (ومع فَقْدِ الإمام وعدم إطلاعه على الأفعال لا سيما أفعال القلوب كيف يفعل لأجله).
أما مع فَقْدِ الإمام وغيبته على ما تقوله الإمامية فمستقيم، وأما مع وجدانه وظهوره والعلم به فلا مانع من ثبوت اللطفية وليست مقصورة على أن يطلع الإمام على فعله ويفعل المكلف ما يفعله ليعلم الإمام ذلك منه.
قوله: (يكفي لجميع الأزمان).
يعني: كما ثبت ذلك في حق النبي.
قوله: (ولو كان هناك إمام كما زعموا).
كان الأحسن أن يقول: فلو كان الخلاف يرتفع بالإمام كما زعموا.
قوله: (لأن العلم بهذه الأمور ليس بواجب لا يبعد أن تعد أو بعضها من الواجبات على الكفاية.
قوله: (وإلى هذا أشار المتنبي بقوله:ـ
يموت داعي الضأن في جهله ميتة جالينوس في طيه)
هذا البيت من أبيات له فائقة رائقة عظمها صاحب اليتيمة ويعلمها في سلك المنظومات الحكيمة وهي:ـ
نحن بنو الموتى فما بالنا نعاف ما لا بد من شربه ... تبخل أيدينا بأرواحنا على زمان هن من كسبه
فهذه الأرواح من جوه وهذه الأجساد من تربه ... لو فكر العاشق في منتهى حسن الذي ....... لم ........
لم ير قرب الشمس في شرقه فشكت الأنفس غربه ... يموت راع الضأن في جهله ميتة جالينوس في طبه
وربما زاد على عمره وزاد في الأمر على شربه ... وغاية المفرط في سلمه كغاية المفرط في حربه
ولا قضى حاجته طالب فؤاده يخفق من رغبة
قوله: (وبعد فنهاية الأمر أن يهلك المرء..) إلى آخره.
يعني: وإن كان فهذا غير مُسَلَّمٍ لما سبق ذكره ولأنه يمكن معرفة ذلك بضروب من الخبرة والتجربة.
فصل: فيما يحتاج له الإمام
قوله: (وحفظ الأوقاف).
يعني: التي لا ولي لها خاص يصلح لتوليها وقد تقيد الأوقاف بالعامة بناء على أنه لا تعلق للإمام بالأوقاف الخاصة والأطلاق أولى.
قوله: (وتجييش الجيوش ونحو ذلك).
يعني: غزو الكفار والبغاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإرهاب الفسقة.
قوله: (وإن أختلفت فبعضها لا يقوم به إلا الأئمة وبعضها يقوم به غيرهم).
إعلم أن التكاليف التي شرعت الإمامة لأجلها وما يرجع إلى الإمام من الأحكام ينقسم إلى ثلاثة أقسام:ـ
القسم الأول: ما لا يقوم به إلا الإمام وإذا لم يوجد الإمام لم يقم به غيره.
وهو أربعه أنواع: إقامة الجمعات، وإقامة الحدود، وغزو الكفار والبغاة، وأخذ الزكاة كرهاً.
وهذا رأي أهل المذهب ومستندهم الحديث النبوي وهو: ((أربعة إلى الولاة الحدود والصدقات والجُمعات والفيء)). وفي كل واحد من هذه الأنواع خلاف.
أما إقامة الجمعات: فذهب الشافعي ومالك إلى صحتها في غير زمن الإمام وعدم أشتراطه فيها.
وقال به أعيان من متأخري أهل البيت وأئمتهم: كالمطهر بن يحيى وولده محمد والمؤيد يحيى بن حمزة والمهدي علي بن محمد.
وذهب أبو حنيفة: إلى عدم أشتراط الإمام جامع الشرائط وقال: لا بد من سلطان له قهر عادلاً كان أو جائراً.
وأما الحدود: فقد أدعي الإجماع على أنه لا يقيمها على الأحرار إلا الأئمة.
وروي عن بعض الفقهاء منهم: مالك وبن شروين: أن إقامتها تصح من آحاد الناس.
وعن بعضهم: أن للوالد أن يقيم الحد على ولده.
وللمؤيد عليه السلام: قول أن المنصوب للقضاء من جهة الخمسة يجوز له إقامة الحدود وكذلك كل قاض صح قضاؤه من غير جهة الإمام بالصلاحية أو بنصب الظلمة.
وعن بعضهم: أن ذلك يصح من أمراء الأمصار والشُّرط.
وأما المماليك: فعند القاسم والمنصور بالله أن السيد يحد مملوكه مع عدم الإمام لا مع وجوده.
قيل (ي): وهو الظاهر لأهل المذهب.
ويروى عن الشافعي: أن ذلك يجوز للسيد مع وجود الإمام كما يجوز مع عدمه.
وأما غزو الكفار إلى ديارهم: فالجمهور على أن ذلك مما يختص به الإمام ولا يجوز مع عدمه، نص عليه الهادي في الأحكام، وقال به أبو العباس وأبو طالب، والظاهر أنه قول أكثر أهل البيت.
وذهب المؤيد أخراً إلى أنه يجوز قصد الكفار إلى ديارهم من غير إمام ولا إذن منه.
قال في الكافي: وإليه ذهب زيد بن علي والناصر للحق وأبو عبدالله الداعي.
قيل (ي): وإليه ذهب الإمامان المتوكل أحمد بن سليمان والمنصور بالله.
وأما غزة البغاة إلى ديارهم: فنص القاسم والهادي وأسباطهما على أنه لا يجوز إلا للإمام وهو الظاهر من أقوال السادة الهارونيين، وبه قال المنصور بالله أخراً.
وذهب السيد أبو عبدالله الجرجاني: إلى أنه يجوز بغير إمام ولا أذنه في وقته وغير وقته قال: وهو الذي ذهب إليه المحصلون من محدثي أصحابنا وأختاره الحاكم أبو سعد، وقال به المنصور بالله أولاً.
وأما أخذ الزكاة كرهاً: وفي حكمها الخمس فمذهب أهل البيت عليهم السلام أن ذلك مما يختص به الإمام ولا يجوز لأحد غيره.
وذهب أبو الفضل بن شروين والقاضي جعفر: أن ذلك جائز لغير الإمام، ولكل من أهل هذه المذاهب المختلفة دليل على ما ذهب إليه وليس هذا موضع التنبيه عليه وهو مذكور في مواضعه من كتب الفقه.
القسم الثاني: ما يكون إلى الإمام مع وجوده لا إلى غيره ومع عدمه يكون إلى غيره.
وهو كتولية القضاة والتولية على الأوقاف ونصب القُوَّام على الأيتام والحكم بين الناس وتعديل الشهود وجرحهم والأخذ على أيدي السفهاء وإنصاف المظلوم من الظالم فهذه الأحكام إلى الإمام عند وجوده ثبتت له الأولوية بالقيام بها.
تنبيه:
إذا عدم الإمام فكيف يكون في تولي القضاة والولاة على الأوقاف والأيتام والمساجد ونحو ذلك؟
ذهب الجمهور من أهل البيت كالقاسم والهادي والناصر وأبو طالب: إلى أنه لا يعتبر النصب وإن من صلح لذلك قام به وتعين عليه ونصب نفسه وأحتسب فيه.
وذهب السيد المؤيد بالله والحنفية والشافعية والشيخان أبو علي وأبو هاشم وقاضي القضاة وأنور سيد وخرجه المؤيد بالله للهادي: أنه لا بد من النصب ينصب خمسه من أهل العلم والزهد وإن لم يكونوا من أهل الإجتهاد والصلاحية للإمامة والقضاء سادساً يصلح لما نصبوه له ولا يصح ذلك ليتصرف المنصوب بالولاية هذا في غير وقت الإمام أو في بلد لا تنفذ أوامره فيه.
القسم الثالث: ما يستوي في القيام به حال الأئمة وغيرهم لكن الواجب فيه آكد على الأئمة.
وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الأصح فإنه يجب ذلك والمقاتلة عليه سواء كان في الوقت إمام أو لم يكن لأن الأدلة الدالة على وجوبه لم تفصل وإنما تكون آكد في حق الإمام لما سبق ذكره.
وعده الفقيه حميد من القسم الثاني قال: لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجبان على حسب الإمكان فمن كان تأثيره فيهما أقوى كان الوجوب في حقه آكد وأولى ولا شك أن للإمام من التمكن ما ليس لغيره.
فصل: في شروط الإمامة
وإعلم أن العلم بصحة إمامة الإمام يتوقف على العلم بها فلهذا أوجب أصحابنا معرفة الصفات والشرائط على كل مكلف كما أنه يجب معرفة إمام الزمان على كل مكلف لأن على كل مكلف تكليفاً يتعلق بالإمام وما لا يتم الواجب إلا به يكون واجباً وللإجماع على ذلك، ولقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)). وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((تمسكوا بطاعة أئمتكم ولا تخالفوهم فإن طاعتهم طاعة الله ومعصيتهم معصية الله)). ولن يتمكن من التمسك بطاعة الإمام إلا من عرفه وعرف شرائطه المعتبرة وحصولها فيه وهذا ثابت في حق كل مكلف ذكر، وأما المرأة فإن تعلق بها تكليف يرجع إلى الإمام كوجوب الزكاة أو ألزمها الإمام أمراً له أن يلزمها إياه وجب عليها أن تعرف الإمام وشرائطه في الدرجة الثانية من درجة النبوة إذ لم ينقص عنها إلا في أمر الوحي لا غير ولا شك في لزوم معرفة النبوة لكل مكلف عامي أو غيره وكذلك الإمامة وما من شرط إلا ويمكن العامي معرفة حصوله في الإمام إلا العلم فلا يصح أن يعلمه العوام إلا جملة وما عداه يمكنهم معرفته والعلم به بالخبرة والتجربة أو بالتواتر ولا فرق في ذلك بين العالم والعامي.
وقيل: بل التدبير وجودة الرأي مما يسوغ التقليد فيه إذ ليس كل أحد يتمكن من معرفة وجوه الأراء مصادرها ومواردها، وأما معرفة العلم تفصيلاً فمتعذرة فيجوز للعامي التقليد فيه إذ لا يمكنه طريق آخرى وقد أجاز بعضهم للعوام التقليد في معرفة الإمام وإجتماع الشروط فيه وضعفه أصحابنا، لأن العلم بما ذكر ممكن فلا يعدل عنه إلى التقليد مع إمكانه.
تنبيه:
وأما من مضى من الأئمة فلا تلزم معرفة إمامته لكن من تواتر كماله وجمعه للشرائط حصل العلم بإمامته ومن لم يتواتر ذلك فيه فلا يجب طلب معرفة إمامته والبحث عنها إذ لا يتوقف على ذلك تكليف علمي ولا عملي إلا الثلاثة المنصوص عليهم وهم علي والحسنان، فالأكثر من الزيدية على أن معرفة إمامتهم من فروض الأعيان تجب على كل مكلف ذكر وأنثى، وأستدلوا على ذلك بإجماع العترة، وذكر الهادي عليه السلام: أن الجهل بإمامة علي عليه السلام فسق ومثله ذكر صاحب الكافي ونص المؤيد بالله والأمير الحسين على ذلك في إمامة أمير المؤمنين ولم يتعرضا لذكر إمامة ولديه بنفي ولا إثبات، وصاحب الكافي صرح بأن العلم بإمامتهما غير داخل في أصول الدين.
قال في تعليق الشرح: وتجب معرفة إمامة زيد بن علي عليه السلام على الأظهر من كلام الزيدية وغيرهم، ومعرفة الأوصاف التي كان عليها لأنه مجمع على إمامته وحصول شرائط الإمامة فيه فعلينا أن نعلم ذلك ليكون طريقاً لنا إلى معرفة شرائط إمام الزمان وأوصافه إذ الأعتبار في أشتراط الشرائط أو أكثرها بإجماع الأمة وأهل البيت ولا إجماع معلوم إلا فيه إذ بعد زمانه أنتشرت الأمة وأنتشر أهل البيت فقلما يعلم لهم إجماع.
قلت: وفيه نظر وليس الإجماع على إمامة زيد يتضمن الإجماع على أن جميع أوصافه شرائط في صحة الإمامة بل يتضمن الإجماع على أنه قد جمع الشرائط وقد يكون في الإمام من الصفات الحسنة والخصال الحميدة ما ليس مشترطاً في صحة الإمامة.
قوله: (وهي عشرة صحيحة).
أصحابنا يجعلونها أثنى عشر ولكن المصنف حذف واحداً فلم يعده من الشروط وإن كان متفقاً على أنه لا بد منه وهو ألا يسبقه داع كامل مجاب وإنما لم يعده منها لأنه أمر خارج عن الأوصاف الراجعة إلى الإمام وليس بمزية ثابتة له وأدرج واحداً وأدخله فيها ولم يعده شرطاً على حياله وهو البلوغ فذكره مع العقل لأن البلوغ مع عدم العقل لا معنى له وأشتراط البلوغ ليس لأمر يرجع إليه نفسه بل لكونه أمارة للعقل ومستلزماً له.
وإعلم أن هذه الشروط المذكورة المعدودة لا تثبت الإمامة لشخص إلا مع أحرازها وأجتماعها فيه ومن لم يعلم إجتماعها فيه لم تعلم إمامته.
قيل (ي): إلا الثلاثة المنصوص عليهم فإن إمامتهم علمت بالنص فلا تتوقف معرفتها على العلم فحصول الشروط فيهم وإن كانت فيهم أتم وأكمل ولو قدرنا أنه لم يكن فيهم بعض الشرائط أو كلها لكانوا أئمة مع فقدها لثبوت النص فيهم.
قلت: بل لو قدر أنتفاء بعض الشرائط فيهم كان ذلك دليلاً على عدم أشتراطه في حق غيرهم لأن إمامتهم إذا كانت ثابتة مع عدمه لأجل النص دل ذلك على أن الإمامة لا تتوقف عليه وليس يصح أن تتوقف الإمامة في حق شخص على ما لا تتوقف عليه في حق غيره، وإن صح أن يكون بينهما فرق من حيث الطريق إلى إمامتهما فأحدهما الطريق إلى إمامته النص والآخر الدعوة لأن أختلافهما في الطريق إلى إمامتهما لا يقتضي أختلافهما من حيث توقف الإمامة على المشروط وعدمه.
قوله: (لأن الصغير والمجنون..) إلى آخره.
قال الفقيه حميد: ولأن من ليس بعاقل لا يمكنه التمييز بين القبيح والحسن والواجب وغيره فينتقض الغرض بقيامه.
قوله: (أن يكون ذكرا).
حكى أصحابنا الإجماع من الأمة على أشتراط الذكورة، وقد حكى أيضاً بعض أصحابنا الأتفاق على أشتراط البلوغ والعقل والحرية والشجاعة والتدبير والسخاء.
قوله: (لأن الأنثى يتعذر عليها التصرف في هذه الأمور أو يتعسر).
الظاهر أنه يتعذر ولو لم يتعذر من حيث القدرة تعذر من حيث الجواز لضرب الحجاب عليها وعدم إباحة الشرع لها رفع الستر.
قال الفقيه حميد: ولأن المرأة مولى عليها فكيف يجوز أن تلي عقد النكاح على غيرها وقد قال الله تعالى: {الرجال قوامون على النساء}. وإذا كانت لا تصلخ للقضاء عند العلماء لم يخالف في ذلك إلا أبو يوسف في غير الحدود فأولى وأحرى ألا تصلح للإمامة.
قوله: (لأن العبد مملوك التصرف).
أي: يجب أن يكون تصرفه عن أمسر سيده وفي مصالحه وقيامه بأمر الأمة يؤدي إلى ألا يصح تصرفه في أمور سيده لأنه والحال هذه لا يمكنه ذلك.
قوله: (ولأنه لا بد من أعتبار المنصب في الإمامة).
يعني: والرق ينافيه وهو غير مسلم لأنه لا مانع من إجتماع المنصب وعدم الحرية كأن يتزوج الفاطمي أمة مملوكة لحصول شرط جواز ذلك في حقه فيأتي له منها ولد ذكر.
قوله: (الرابع: أن يكون من منصب مخصوص أتفاقاً) في دعوى الإتفاق نظر فإن المشهور عن الخوارج القول تجوز الإمامة في جميع الناس عربهم وعجمهم هكذا نص عليه الفقيه حميد وذكره الرازي في النهاية والإمام يحيى في التمهيد.
وقال في تعليق الشرح: ذهب الخوارج إلى صحة الإمامة في جميع الناس خلا المماليك. ويروى ذلك عن النظام، وقال به قوم من الصحابة فيهم سعد بن عبادة وغيره من الأنصار وهو قول أعداد من سائر الفرق لم يعتبروا المنصب وكلام عمر يقضي بذلك حيث قال: لو كان سالم مولى أبي خذيفة حياً ما خالجتني فيه الشكوك.
وبه قال القاضي نشوان بن سعيد قال: وهو أعدل الأقوال وذهب ضرار إلى أن الإمامة في الأعاجم أولى من كونها في غيرهم لأنه رفع يد العجمي عنها أيسر إذا أحتيج إلى ذلك.
قوله: (فحكى ابن الملاحمي عن الجاحظ..) إلخ.
المذكور في التمهيد للإمام يحيى أن الجاحظ حكي عن جل المعتزلة أنها في جميع الناس وأشار إليه في النهاية وفي تعليق الشرح قال الإمام يحيى وفيما ذكره نقله الجاحظ عن جل المعتزلة أنها في جميع الناس ضعف بل الظاهر من قولهم أنها في جميع قريش وقد حكي عن أبي علي أنه قال: إن قدر خلو الزمان عن صالحي قريش جاز نصب الإمام من غيرهم لئلا تضيع الحدود وتتعطل الإحكام لكن الظاهر من قول جماهيرهم ما نقلناه.
قوله: (وبه قال نشوان).
قد تقدم عنه أن يجيزها في جميع الناس.
قوله: (لا بد أن يكون فاطمياً).
يعني: من أولاد فاطمة مع كونه علوياً من أولاد علي لصلبه ويخرج من أولاده من لم يكن من أولاد فاطمة كولد العباس بن علي.
قوله: (وقالت الإمامية لا بد أن يكون من أولاد الحسين).
بني المصنف على أنهم ممن يعتبر المنصب، والذي بنى عليه الفقيه حميد: أنهم لا يعتبرون المنصب ولا يعولون عليه وإنما أعتبروا النص.
قال الفقيه حميد: وتعويلهم على النص في ذلك ولا يقولون بأعتبار منصب.
قوله: (وقالت العباسية لا بد أن يكون عباسياً).
يعني: من ولد العباس بن عبدالمطلب وهو مذهب حادث حدث زمن المنصور والمهدي وذهبت الكيسانية أنها في أولاد محمد بن الحنفية وأولادهم وذهب بعضهم إلى أنها تصح في أولاد علي عليه السلام وأولادهم ما تدارجوا من غير أعتبار أن يكونوا من أولاد فاطمة.
قوله: (وسيأتي بيان الصحيح من هذه الأقوال).
يعني: في ذكر أن الإمامة بعد الحسن والحسين مقصورة على أولادهما ونحن نذكر ما يبطل به أقوال هذه الفرق المخالفة.
أما قول الخوارج ومن ذهب إلى ما ذهبوا إليه من كون الإمامة جائزة في جميع الناس فيبطله وجهان:ـ
أحدهما: الإجماع وهو ما ثبت بالنقل المتواتر أن الأنصار لما طلبوا الإمامة يوم السقيفة لأنفسهم وأعتقدوا صحتها منعهم أبو بكر لكونهم ليسوا من أهلها وأشتهر قوله في ذلك ولم ينكره أحد.
الوجه الثاني: ما روي عنه عليه السلام من قوله: الأئمة من قريش. رواه أبو بكر وكثير من الصحابة. وقال: الولاة من قريش ما أطاعوا الله وأستقاموا لأمره. وقال عليه السلام: قدموا قريشاً ولا تقدموها.
وأحتجوا بقوله عليه السلام: أطيعوا السلطان ولو أمر عليكم عبد حبشي أجدع.
وأجبت: بأن المقصود المبالغة في الأنقياد لأمر الولاة والأئمة وهضم النفوس وإزالة..... ...... لا دلالة في الحديث على ما ذكروه فإن كل إمام سلطان وليس كل سلطان إماماً فلا يلزم من دلالة الحديث على كون العبد الحبشي سلطاناً دلالته على صحة كونه إماماً وبأن ظاهر الخبر متروك إتفاقاً للأتفاق على أن إمامة العبد لا تصح وقد تؤول على أن المراد ولاة الإمام الذين يتصرفون عن أمره وأحتجوا بقوله تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}.
قالوا: فلم يفصل في وجوب طاعة من له الأمر ولا شرطها بالمنصب.
وأجبت: بأن الآية مجملة لأنه تعالى لم يبين من أراد بأولي الأمر ولو فرضنا عدم الإجمال فظاهرها يقضي بطاعة من تأمر حراً كان أو عبداً ذكراً كان أو أنثى فإذا المراد الأمر بالطاعة لمن تجب طاعته وهم من كملت فيه الشرائط ومنها المنصب للدلالة القائمة على أعتباره والذي يدل على غبطال قول جمهور المعتزلة والصالحية من الإكتفاء بكونه قرشياً إجماع العترة وإجماعهم حجة كما سيأتي وأنه لا دليل على ذلك يقطع به إذ مستندهم تلك الأحاديث المروية وقد ظعن فيها وصدر من عمر ما يقضي بإنكارها إنه قال: لو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً ما خالجتني في الشكوك. وكذلك سعد بن عبادة وولده فإنهما بنيا على الخلاف ولم يعتبرا الأحاديث المذكورة وغاية ما يكون أن يحكم عليها بالصحة فهي آحادية والمسألة قطعية.
قال أصحابنا: ولأن قوله: الأئمة من قريش. إنما يقضي بأن الإمامة في بعض مجهول منهم وليس في الحديث تعيين، وأحتجوا بإجماع الأمة على صحة إمامة من دعا من قريش كامل الشرائط كأبي بكر وعمر ورد ...... الإجماع وأن الخلاف لم يزل في إمامة أبي بكر مذ عقد له إلى الآن.
وأما الذي يبطل قول الإمامية: فإن مذهبهم لم يدل عليه دليل والنص الذي يدعونه إن كان آحادياً فلا ...... عن مسئلتنا، وإن كان متواتراً لا يحتاج إلى بحث لزم أن يعلم ذلك الكل من المكلفين كعلمهم ببعثة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وكون مكة في الدنيا وإن كان محتاجاً إلى البحث لزم أن يعلم ذلك عند البحث كالعلم بكثير من أحوال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ومغازيه ومن العلوم أنه لو بحث عما ذكروه أشد البحث لم يعلم.
والذي يبطل ما ذهبت إليه العباسية: أنها لو كانت لبني العباس بالأرب لادعاها العباس وأولاده والمعلوم منهم خلاف ذلك وأنهم كانوا منقادين لعلي عليه السلام ومصرحين بإمامته ولأنه كان يلزم أن يستحقها النساء والصبيان.
والذي يبطل ما ذهبت إليه الكيسانية: أنتفاء الدلالة على صحته إذ لا دليل من أدلة الشرع تقضي به ولأن المعلوم أنه لم يدعها أحد من أولاد محمد بن الحنفية وبمثل ذلك يبطل قول من قال أنها تصح في العلويين مطلقاً.
فائدة:
الذي به يعرف ثبوت نسب الإمام وكونه من منصب الإمامة الشهرة وقد أختلف في معناها.
فقيل: تواتر الخبر بذلك بحيث يحصل العلم الضروري.
وقيل: بل أنه مشهور النسب أو بخبر ثقة من النساء وهي ....... بأنه ولد على فراش فاطمي.
وقيل: بل أربع.
ذكر ذلك كله في تعليق الشرح.
فائدة أخرى:
إذا تزوج فاطمي مملوكة فأتت له بولد ثم أعتق فقد أختلف في صلاحيته للإمامة وفي كفائة لفاطمية لم يجر عليها رق فمنع بعضهم من الوجهين وصححه بعضهم فيهما وفصل بعض فمنعوا الكفاءة وأجازوا الإمامة.
قال في تعليق الشرح: وهو الصحيح.
وذكر أيضاً أن الأصح صحة إمامة الولد المدعى بين فاطمي وغيره حيث وطئا أمه مشتركة بينهما جهلاً وأدعيا ولدها لأنه ابن لكل واحد منهما وكل واحد منهما أن كامل له.
وقال أبو مضر: لا تصح.
قوله: (لأن الغرض الذي نصب له الإمام لا يتم إلا بالعلم).
لأن الجاهل يجوز أن يقدم على المحظور معتقداً لوجوبه ويطرح الواجب معتقداً لحظره أو عدم وجوبه.
قوله: (بل لا بد أن يكون مجتهداً).
هذا مذهب أهل العدل وغيرهم وذهب الغزالي والإمام يحيى: إلى أنه يصح كون الإمام مقلداً، وروي ذلك عن المنصور بالله رواية غير مشهورة هكذا ذكر في تعليق الشرح.
وذكر المهدي عليه السلام: أن الذي ذهب إليه الغزالي أنه إذا أعوز المجتهد فلم يوجد صحت إمامة المقلد لئلا تتعطل الأحكام المتعلقة بالإمام وإلى هذا مال الإمام يحيى.
قال: ولقد تطرق أهل محبة الدنيا بهذه المقالة إلى أن سهلوا طريق الإمامة حين ولوها من لم يعلم فروض صلاته وصيامه ولا عرف من أصول دينه أصلا ولا أدرك من سياسة الأمور فصلاً.
قلت: لا يبعد أن يريد بذلك الإشارة إلى ما أتفق في زمانه من القاضي عبدالله عن الدواري ومن تابعه بعد موت الإمام الناصر محمد بن علي من تنصيب ولده وتأهيله للخلافة ومما يؤكد ما ذكره ما رأيناه نحن في كتابي تعليق الشرح وتعليق الخلاصة للقاضي المذكور من أحتجاجه على أشتراط الإجتهاد إلا به وإطلاق........ ثم لما كانت القصة عن أن كتابه المذكور فخدش ذلك وكتب بخط يده في حاشيتهما إجازة إمامة المقلد ومن قبل ذلك يقضي العجب.
قال الفقيه حميد: الظاهر من مذاهب العلماء أعتبار الإجتهاد في الإمام.
ويحكى عن بعضهم: أنه تجوز إمامة الإمام وإن لم يبلغ إلى درجة الإجتهاد في الأحكام الشرعية ويكفي فيه أن يقلد غيره ويعمل بمقتضى فتواه وإن كان لا بد أن يكون مجتهداً في أبواب السياسة.
والدليل على أعتبار الإجتهاد: الإجماع فإنه قد أنعقد على أن الإمام يجب أن يكون مجتهداً هكذا ذكر أصحابنا.
قالوا: والذي يذهب إلى خلاف ذلك.
قوله: (حادث مسبوق بالإجماع فلا يقدح فيه).
وأوضحه الإمام المهدي بأن قال: ما وقفنا على باب الإمامة في أي المصنفات الأصولية والفروعية إلا وفيها حكاية أنعقاد الإجماع على ذلك مع تباين أراضي مصنفيها وآرائهم حتى لو أدعى مدع حصول التواتر في ذلك لم يعد لأن كل واحد بأقل من طريق غير الطريق الذي نقل عنه غيره فيكون المخالف خارقاً لما أجمعت عليه الأمة.
قلت: وفي هذا نظر. أحتج أصحابنا على أعتبار الإجتهاد بأن الأحكام منوطة بالإمام كأستباحة الفروج والدماء والأموال والفيء والغنائم فيها من الأحكام اللطيفة والمسائل الغامضة ما لا يدرك إلا بالإجتهاد ولا يزال يتجدد على ممر الأوقات، فإذا لم يكن مجتهداً يستقل في معرفتها بنفسه وقع في الحيرة واللبس ولم يدر ما يأتي ولا يدر، والرجوع إلى غيره قد يتعذر في كثير من الأحوال فإن أقدم بغير بصيرة أثم إثماً كبيراً وإن وقف تعطلت الأحكام وأنتثر النظام.
وقد أستدل بقوله تعالى: {أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع} الآية. لأن المقصود بالإمام إقامة الحق ومن حق الداعي إلى ذلك أن يكون عالماً به غير متبع لغيره فيه وإلا كان الإمام هو ذلك المتبع وقد أبطلت الآية الكريمة حق المقلد من وجوب الإتباع بقوله: {أم من لا يهدي إلا أن يهدى} لأن هذه حقيقة المقلد لا يهدي إلى الحق إلا أن يهدى إليه.
وأستدل بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((من أستعمل على قومه عاملاً وفي تلك العصابة من هو أرضى منه وأعلم بكتاب الله تعالى وسنة نبيه فقد خان الله ورسوله)). فإذا أعتبر في العامل على القوم والمراد القيم عليهم في تنفيذ الأحكام الشرعية والمناصفات ونحوها كونه عالماً مرضياً فالإمام أولى.
وأستدل بقول علي عليه السلام في شأن أهل السقيفة: والله يا معشر المهاجرين لنحن أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم ما كان فينا القاريء لكتاب الله الفقيه في الدين العالم بالسنة. وهذا هو الإجتهاد بلاشك.
قوله: (وليس المراد بكونه مجتهداً..) إلخ.
إشارة إلى ما هو المعتبر في الإجتهاد وذكر علومه وما هو المقصود منه.
قوله: (بحيث يتمكن من إرشاد الضال وحل الشبهة).
جعل هذا من ثمرة الإجتهاد المقصودة منه وهو يتعلق بعلم أصول الدين وليس ذلك من الأمور المختصة بالمجتهد فكان الأولى أن يأتي به عند ذكر علم الكلام عقيب قوله: حتى يكون ........ علم الكلام أو يأتي به على نحو كلام الإمام يحيى لأنه قال: لا بد أن يكون الإمام عالماً مجتهداً في أصول الدين وقواعد الشريعة وفروعها حتى يكون متمكناً من إيراد الأدلة وحل الشبه في أصول الديانة ومن الفتوى في أحكام الشريعة.
قوله: (وإيراد........).
يعني: على الأحكام الشرعية.
قال الإمام يحيى: الواجب أن يكون متمكناً من تحصيل الحكم في الحادثة وعدم التمكن من ذلك نقصان وما عداه فزيادة وفضل وتبحر في العلوم.
قوله: (حتى يكون مجوداً في علم الكلام).
قيل (مهدي): وهو من أهم العلوم المعتبرة في الإجتهاد لتوقف صحة الإستدلال بالسمعيات على الحقيقة.
والمراد أنه مجوداً فيه أن يطلع على مسائله المحتاج إليه ويوصله النظر الصحيح إلى العلم بها.
قوله: (وعلم الأصول).
يعني: أصول الفقه وهو مما أجمع على أعتباره في الإجتهاد ولم يخالف أحد في أنحرام الإجتهاد بإنحرام تحقيق أبوابه.
قوله: (فيكون عالماً بأنواع الخطاب إلى قوله وأركانه وشروطه).
تعداد لأبواب أصول الفقه غير مستكمل على ما يتضح للخائض فيه وكان عن هذا التعداد مندوحة.
قوله: (والإجماع لئلا يخالفه).
فيه نظر لأنه الآن في تعداد أبواب أصول الفقه والذي يتعلق به من الإجماع ذكر أنه حجة وتفصيل مسائله.
وقوله: (لئلا يخالفه).
يقضي بأنه أراد معرفة المسائل المجمع عليها وذلك من فن الفقه.
قوله: (وأن يكون مجوداً فيما يحتاج إليه من علم المنطق).
قال المهدي عليه السلام في ديباجة النحر: فأما المنطق فالمحققون لا يعدونه لإمكان إقامة البرهان دونه ولم يعده الإمام يحيى أيضاً من علوم الإجتهاد وهو الأصح وقد سبق للمصنف في أول هذا الكتاب ما يقضي بأستهجانه لهذا الفن وأعتقاداته مما لا ثمرة له بل إنه مفسدة في الدين وقد ذكرنا ما يمكن به التلفيق بين كلامه أولاً وآخراً.
قوله: (فيعلم من ذلك ما يتوصل به إلى علم التصور إلى قوله ونحو ذلك مما يحتاج إليه في الإجتهاد).
تعداد لأبواب المنطق وإشارة إلى مسائله التي يحتاج المجتهد إلى معرفتها وأراد بنحو ذلك بقية مسائله التي لم يذكرها مع كون الحاجة تدعوا إليه ولعله أراد بذلك نحو معرفة كيفية الأشكال وترتيب مقدمات الأدلة وإن كان قد سبق له في أول الكتاب ما يقضي بعدم أعتبار تلك الأشكال.
قوله: (وأن يكون مجوداً في العلم بكتاب الله..) إلى آخره.
هذا مما أجمع على أعتباره ولم يعلم خلاف في إنحرام الإجتهاد بإنحرامه.
قوله: (قيل: وهي خمسمائة آية. وقيل: أكثر).
قال الإمام يحيى: ولا يلزم أن يكون حافظاً لذلك من ظاهر قلبه بل أن يعلمها علماً يتمكن معه من أن يطلبها من مكانها.
قال في تعليق الشرح: وأجود ما وضع فيها كتاب الأنوار للأمير محمد بن الهادي بن تاج الدين.
قلت: ومن أحسن المصنفات فيها كتاب الثمرات.
قوله: (وأن يكون مجوداً في العلم بالسنة).
يعني: الأخبار النبوية.
قوله: (فيعلم أيضاً ما يتعلق بالإجتهاديات).
يعني: الأخبار الواردة في الأحكام الشرعية من وجوب وندب وحظر وإباحة وكراهة دون ما ورد منها في القصص وفضائل الأعمال وفضائل الأصحاب والمواعظ والآداب ونحو ذلك ولا مخالف في أعتبار ما ذكر في الإجتهاد وأن الإجتهاد ينحرم بإنحرامه لكن لا يلزمه حفظها من ظاهر قلبه والإحاطة بجميعها.
قوله: (ويعلم أحوال الرواة).
يعني: في العدالة والجرح على مراتبها ومن هو مقبول منهم ومن هو مردود والحاصل أنه يلزمه معرفة كون الراوي ظابطاً ولا يلزم أن يعلم جميع طرائق الرواة وأحوالهم وأنسابهم ذكره الإمام يحيى.
قوله: (وكيفية الرواية).
لعله أراد: ما يذكره علماء الحديث فيما يأتي به الراوي عن غيره من نحو حدثنا وأخبرنا ونحوه، وقد ذكر الإمام المهدي في ديباحة النحر ما لفظه: فأما علم أحوال النقلة تفصيلاً وأنتقاد أشخاصهم جرحاً وتعديلاً فقبول المراسيل أسقطه وإنكار قبولهم أياها سفسطة فإنه لما كان غاية محصولة التظنين ولم يستثمر به العلم اليقين حكم فحول علماء الأصول بقبول مراسيل العدول وأن رواية العالم العدل تعديل حيث لا يرى قبول المجاهيل.
قلت: بالغ عليه السلام في تسهيل الأمر وتيسيره كما بالغ ...... السيد العلامة علي بن محمد بن أبي القاسم في تنكيده وتعسيره وخير الأمور وأوساطها ولا أقل للمجتهد من أن يطلع على ........ وافية من علم الحديث وأحوال الرجال وما يفتقر إليه الإسناد.
قوله: (ووجوه الترجيح).
كان الأولى أن يعد هذا من جملة أبواب أصول الفقه فإنه منه وإن كان يرجع بشيء منه إلى معرفة أحوال الرواة.
قوله: (وإن يكون مجوداً في علم العربية).
هو بجمع معرفة النحو والتصريف والمعاني والبيان واللغة فأشار إلى النحو بأحوال الإعراب وإلى التصريف بالإشتقاق فإنه مما يذكر في فن التصريف وإن كانت أبوابه كثيرة.
قوله: (والإسناد والحذف إلى قوله والكنايات).
فن المعاني والبيان وأهمل المصنف ذكر العلم باللغة وهي معرفة معاني الألفاظ اللغوية ولا بد من ذلك لتوقف العلم بالمراد من أدلة الكتاب والسنة على العلم به.
قوله: (والتنبيهات).
التنبيه والإيماء مما يذكر في القياس من فن أصول الفقه وكلام المصنف لا يخلو عن أنضراب.
قوله: (ونحو ذلك).
مما يتمكن معه من معرفة أحوال الخطاب وكيفية الإستدلال به هذا مما مرجعه إلى أصول الفقه.
قوله: (وأما الفقه فلا يحتاج أن يعلم منه إلا ما كان قطعياً).
كان الأولى أن يقول: فلا يحتاج أن يعلم منه إلا مسائل الإجماع لئلا يخالفها بإجتهاده. لكنه أنكل على ما سبق من تلك الإشارة الواقعة في غير موضعها. وأما المسائل القطعية غير المجمع عليها فليس العلم بها من علوم الإجتهاد وإنما هي مما يستنتج بعلوم الإجتهاد فإنه إذا علم مسائل الإجماع وآيات الأحكام وجملة صالحة من الأخبار أرشده ذلك إليها كما ترشد إلى معرفة الأحكام الظنية. وفي كلام الفقيه حميد ما يقضي بأنه لا بد من أن يكون له معرفة في الفقه مسائل الإجماع وغيره لأنه قال: يجب أن يعلم قطعة شافية من الفروع الفقهية وما أنعقد عليه الإجماع منها مما لم ينعقد عليه لئلا يجتهد في خلاف ما أجمعت عليه الأمة لأن الإجماع من الأدلة المقطوع بها.
قال الإمام يحيى: ولا تلزم الإحاطة بجميع الإجماعات بل يكفيه ألا يفتي بحكم قد وقع الإجماع على خلافه.
تنبيه:
إعلم: أن أقوال العلماء مختلفة في تبعيد الإجتهاد بقرينة وتيسيره وتعسيره وكثيراً ما يذكر الأصحاب أنه يكفي في الأجتهاد قراءة كتاب من كل فن وإن كان مختصراً كالخلاصة في الكلام والمجزي أو الفائق في الأصول ومعرفة آيات الأحكام ومعرفة كتاب من كتب الحديث كالسنن لأبي داود أو شفاء الأوام ومقدمة ظاهر أو ابن الحاجب وكتاب المجمل لابن فارس في اللغة ونحو ذلك. والتحقيق أن هذا مما لا يقف على تحديد فإن أحوال القراءة وطلبه العلم تختلف فمنهم من يستثمر ويستفيد بأيسر علاج ومنهم من لا يتم له ذلك إلا بعد التعب والنصب وكثرة مدارسة الكتب وذلك لن العلوم منح إلاهية ومواهب أختصاصية.
قوله: (السادس: أن يكون ورعاً).
معنى الورع الكف عن المحرمات والقيام بالفرائض الواجبات وأشتراطه مذهب الزيدية وجماهير العدلية وغيرهم.
قال الإمام يحيى: ولا يشترط حصوله في أعلى مراتب الكمال في الورع والزهد ولكن مقدار الغرض يحصل بمجانبة الكبائر والتنزه عن الأمور المستسخفة، أنتهى.
فلا تصح إمامة الفاسق ومن يفعل ما لا يعتاد صدوره إلا من أهل الفسق وذهب بعض الناس إلى صحة إمامة كافر التأويل وفاسقه.
قيل (ي): ولا يبعد أن الخلاف في إمامة فاسق التأويل كالخلاف في شهادته ونسب إلى الحشوية صحة إمامة الفاسق المجاهر بالفسق وأنهم لا يعتبرون إلا التغلب على الأمر وأفضى بهم ذلك إلى أن قالوا بإمامة يزيد مع فسوقه ومروقه.
ونسب القول بصحة إمامة الفاسق: إلى أهل خراسان ومن كان من البغدادية وراء النهر.
قيل: ولا خلاف في أن الإمام يجب أن يكون عدلاً عند ادعائه للإمامة وخلاف الحشوية فيما إذا فسق بعد العقد وقد أشار المصنف إلى الدليل على أشتراط الورع. بقوله: (لأنه ما لم يكن كذلك..) إلى آخره.
وأستدل على ذلك: بإجماع الصحابة فإنهم أجمعوا على طلب الأفضل في الإمامة.
وأستدل: بقوله تعالى: {لا ينال عهدي الظالمين}. فإن المراد بالعهد الإمامة على ما يقضي به سياق الآية.
وقيل: المراد به الأمر.
أي: لا ينال أمري، والمعنى أمره بأن يقتدي بهم في الدين وما أودعه من شرعه الذي أمر المكلفين بإتباعهم فيه فلا يجوز كون الفاسق نبياً ولا خليفة ولا أميراً ولا قاضياً ولا محدثاً ولا مفتياً ولا إماماً في الصلاة لأن الإمامة تشمل هذه المعاني.
وأحتج القائل بصحة إمامة كافر التأويل وفاسقه: بأنه متحرج في دينه لا يقدم على معصية يعلمها فأشبه من ليس كذلك ورد بأن الله تعالى قد أمر بالجهاد للكفار والبغاة ولم تفرق الأدلة بين مصرح ومتأول فكيف تصح طاعته مع وجوب جهاده.
وإعلم أن النووي على جلالة قدره في العلم وتبحره فيه أجاز إمامة الفاسق المتغلب وقضى بوجوب طاعته ونفوذ أحكامه، وقال في منهاجه ما لفظه: وبالغلبة ولو جاهلاً أو فاسقاً في الأصح وهذه غلطة من مثله.
وما أحسن ما قاله جار الله في كشافه عند تفسير قوله تعالى: {لا ينال عهدي الظالمين}. أن من كان ظالماً في ذريتك لا يناله أستخلافي وعهدي إليه بالإمامة وإنما ينال من كان عادلاً بريئاً من الظلم.
وقالوا: في هذا دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه ولا شهادته ولا تجب طاعته ولا يقبل خبره ولا يقدم للصلاة، وكان أبو حنيفة يفتي سراً بوجوب نصرة زيد بن علي رضوان الله عليه وحمل المال إليه والخروج معه على اللص المتغلب أنا يسمى بالإمام والخليفة كالدوانيقي وأشباهه.
قالت له امرأة: أشرت على أبني بالخروج مع إبراهيم ومحمد أبني عبدالله بن الحسن حتى قتل.
فقال ليتني مكان أبنك.
وكان المنصور وأشياعه لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على عد آجره ما فعلت.
وقال ابن عيينة: لا يكون الظالم إماماً قط وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة والإمام إنما هو لكف الظلمة فإذا نصب من كان ظالماً في نفسه فقد جاء المثل السائر من أسترعى الذئب ظلم.
قوله: (السابع: أن يكون فاضلاً لا خلاف فيه).
يعني: لإجماع الصحابة ولهذا فزعوا يوم السقيفة إلى ذكر المناقب والمفاخر فعد الأنصار فضائلهم وحاجهم أبو بكر بتقرير أمتياز المهاجرين بالفضل ولما قال عمر لأبي عبيدة: أمدد يدك أبايعك.
قال: مالك هفوت في الإسلام أتقول لي هذا وأبو بكر قائم فأنكر فعل عمر لأعتقاده أن أبا بكر أفضل.
قوله: (وإن كان المرجع بالفضل في الحقيقة إلى جمع الشرائط).
يعني: وإن عد في ظاهر الأمر شرطاً مستقلاً وإراد الشرائط التي هي العلم والورع والسخاء والشجاعة والقوة على تدبير الأمور وسياسة الجمهور وهذا أختيار الإمام المنصور بالله وغيره.
قال عليه السلام: فلا ينبغي أن يعد شرطاً مستقلاً إذ لا يصح أن يقال: فلان عالم ورع سخي شجاع قوي على تدبير الأمور إلا أنه ليس بفاضل بل يعد من قال ذلك مناقضاً والأفضل على هذا هو الأكمل في ثبوت الشرائط له.
وقيل: المرجع به إلى الصلاح في الدين والعفة فيكون معناه معنى الورع.
وقيل (ي): الأصح أن المراد به أن يكون له من المحافظة على الطاعات والتجنب للمكروهات ما يعتاده كثير من الصالحين ويكون بينه وبين القبيح والإخلال بالواجب حاجزاً كما هو شيمة كثير من الصالحين أعتياد كثير من الطاعات غير الواجبة وتجنب كثير مما لا يقطع بقبحه نظراً إلى قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((إن لكل ملك حمى وإن حمى الله محارمه وأنه من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه)). وليس المراد بالأفضل هنا الأكثر ثواباً قطعاً.
قوله: (ولا وجه لهذا).
يقال: بل له وجه يستند إليه القائلون به وهم الإمامية وغيرهم كما سيأتي.
قوله: (وقال أكثر المعتزلة وبعض الزيدية يكفي أن يكون من جملة أفاضلهم).
قيل (ي): هذا مذهب البغدادية من المعتزلة والذي أختاره صاحب المحيط.
وقال ابن الملاحمي في الفائق: هو رأي الصالحية من الزيدية.
قوله: (ولم ينكر عليه).
قد رد بمنع عدم الإنكار فقد قال أمير المؤمنين: فيالله متى أعترى الشك في مع الأولين حتى أقرن بهذه النظائر. وبتجويز أن يكون عمر قد أعتقد في مساواتهم في الفضل.
قوله: (وقال بعض الزيدية يجب أن يكون أفضل الناس وقت الصحابة لا بحضار أهل الفضل وإمكان معرفتهم ولا يجب بعد ذلك كثير من أصحابنا).
ينسب هذا القول إلى الزيدية من غير تبعيض ولا تخصيص بوقت الصحابة.
قيل (ي): وممن نص على ذلك القاسم والهادي والناصر والمؤيد.
قال الناصر: ويفسق المفضول إذا سبق الأفضل بالدعاء إلى الإمامة.
حجة أهل هذا القول: أن الإجماع منعقد على جواز إمامة الأفضل.
ولا دليل يدل على جواز إمامة المفضول من كتاب ولا سنة ولا إجماع فوجب قصرها على الأفضل وما سبق من فزع الصحابة إلى عد الفضائل وتقرير الإمتياز فيها ويمكن أن يقال: ليس عدم الإجماع على جواز إمامة المفضول يقدح في ذلك لأن الأدلة قد دلت على وجوب الإمامة وعلى أن الإمام لا بد له من شرائط وقد حصلت في حق المفضول وافية فعلى المانع من صحة إمامته أن يقيم الدليل وأما فزع الصحابة إلى عد الفضائل فليس فيه تصريح بأنه لا بد أن يكون القائم هو الأفضل وإنما يعلم منه الأولوية ونحن لا ننكرها.
قوله: (وقال بعض المعتزلة..) إلى آخره.
هذا منسوب إلى الشيخين أبي علي وأبي هاشم.
قوله: (فخافت الصحابة ألا ينقاد له الناس).
قلت: وقد صرح بذلك عمر على ما روي عنه في شرح نهج البلاغة من كلام له سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى قال في آخره: لا ورب هذه البينة لا يجتمع عليه قريش أبداً ولو وليها لانتفضت عليه العرب من أقطارها.
قوله: (هذا كلامهم فإنه أشارة إلى عدم تصحيحه).
وقد نقض أصحابنا هذا الإعتذار بوجوه:ـ
أحدها: أنه لو منع ذلك من تولية هذا الأمر أولاً لمنع ثانياً لأن هذه العلة مستمرة بالضرورة فكان يلزم ألا تصح إمامته بحال وإلا يفزعوا إليه بعد قتل عثمان.
وثانيها: أنه لو منع عن الإمامة لمنع عن الإمرة فكان لا يؤمره رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم ونحن نعلم خلافه فإن رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يؤمره على المهاجرين والأنصار في كل موضع يخرج فيه ولم يؤمر عليه أحداً كما كان منه بعد تولية أبي بكر تبليغ سورة براءة فإنه أرسل علياً في أثره وآثره بذلك، هكذا ذكر الفقيه حميد وينبغي أن يتأمل.
وثالثها: أن هذا الأعتذار يوجب اساءة الظن بالصحابة لأن فيه أنهم كانوا يرون أمير المؤمنين بعين النقص وأمتنعوا من العقد له لأسباب تعد في مناقبه وفضائله ورد أصحابنا على أهل هذه المقالة أصل ما ذهبوا إليه من جواز العدول إلى غير الأفضل لعذر بأن العذر كان راجعاً إلى الإمام قادحاً في صلاحيته فنحن نسلم ما ذكرتم إلا أنا فرضنا الكلام في حق من هو صالح للإمامة وإن كان العذر راجعاً إلى غيره من المكلفين كأن يكون فيهم من يكره إمامته وينفر عنها فلا نسلم أن ذلك يوجب العدول عنه لأنه إن كان بسبب الحسد ونحوه فهم عاصون بذلك والمعصية لا تدافع وقوع الطاعة وأن كان لغير ذلك فلا دليل يدل على أن عدم رغبتهم فيه مع كماله وأفضليته يمنع عن إمامته ويوجب العدول إلى من هو دونه، وللقائل أن يقول: إنما كان الأفضل أحق بالإمامة لكونه أصلح وأرجح والقلوب إليه أميل، فإذا عرض في حقه مامنع من ميل القلوب إليه وتعويل الناس عليه وعلم أو غلب على الظن أنه يقل الأنقياد له ويتفاقم الأمر عليه فلا شك أنه يصير غيره أرجح منه وإن كان هو الأفضل لأن العبرة بالصلاح والمقصود حصول ثمرة الإمامة لا مجرد قيام الإمام.
يوضحه: أنهم قد نصوا على أنه لا ينبغي أن يؤم في الصلاة من كرهه الأكثر وإن كان صالحاً لها بل ورد التصريح بالنهي عن ذلك مع عدم الحظر في إمامته والأمن من الضرر فكيف بالإمامة الكبرى التي يفتقر فيها إلى طيبة النفوس وأستمالة القلوب.
تنبيه:
إذا قام المفضول بهذا الأمر ولا يعلم في تلك الحال أن غيره أفضل منه ثم ظهر بعد ذلك من هو أفضل منه في خصالها وأكمل في شرائطها ما يكون الحكم في ذلك عند من يعتبر الأفضل.
قال الفقيه حميد: أختلف أئمتنا عليهم السلام في ذلك.
فذهب الناصر: إلى أنه يجب عليه التسليم.
وذهب أبو طالب: إلى أنه لا يخرج عن إمامته بل هو أولى بالإستمرار عليها وقد صار أفضل لتحمله أعباء الإمامة وقيامه بأمر الأمة.
قوله: (وقالت الصحابة الأولى أن يقول، وقالت المهاجرون في مقابله فقالت الأنصار).
فالصحابة اسم يعمهم جميعاً.
قوله: (نحن عترة رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم).
أي رهطه لأن العترة يستعمل في النسل وهو المقصود في تسمية أهل البيت عترة وفي الرهط.