الكتاب : كتاب الرسالة النافعة بالأدلة الواقعة- المنصور بالله ع |
كتاب الرسالة النافعة بالأدلة الواقعة
في تبيين الزيدية ومذاهبهم،
وذكر فضائل أمير المؤمنين عليه السلام،
وتقرير أدلة على الإمامية،
وسنن من خرج عن الشيعة المحقين من الإمامية والباطنية والمطرفية
للإمام الحجة المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليهما السلام
الحمد لله الذي جعل إلهام الحمد من موجبات حمده، وصلاته على محمد الصادق المصدوق وعلى الذرية الطيبين من بعده.
أما بعد .. فإنه بلغنا نزاع جرى من الأصحاب، لا يحسن مثله من أولي الألباب، لأن التلاحي من غير بصيرة في الدين، من حبائل إبليس اللعين، وإنما الواجب على العاقل التبصر والتفكر، وتنقير الأدلة والتدبر، ليكون من الفائزين، كما روينا عن أبينا الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله الطيبين أنه قال: ((من أخذ دينه عن التفكر في آلاء الله تعالى، والتدبر لكتابه، والتفهم لسنتي، زالت الرواسي ولم يزل، ومن أخذ دينه عن أفواه الرجال، وقلدهم فيه ذهبت به الرجال، من يمين إلى شمال، وكان من دين الله على أعظم زوال)) وهذا كما ترى عظيم، والخطر بالنفس شديد، ولا سيما مع صحة النقل بالخلود، وصدق الوعيد، ولما جعلنا الله تكرمة ورثة الكتاب وتراجمه، من أهله وحفظته واستأمننا على خلقه، واستخلفنا في بلاده، واستشهدنا على عباده، وكان من لوازم ذلك وموجباته أن نعمل له شكراً، وأن تزداد به الأمة نصحاً، وإذا كان ذلك كذلك لزمنا أن نبيِّن للراغبين، وأن نشفي قلوب الطالبين، برسالة تتضمن ما نذهب إليه بأدلة مختصرة، وأدلة شافية تثلج لها قلوب الراغبين، ولابد والحال هذه من مقدمات يبنى عليها الكلام .
أولها : تبيين الزيدية من هم ولم اختصوا بهذا الاسم؟ وما الظاهر من قولهم الآن في جميع أقطار البلاد؟.
وثانيها: تبيين مذهبهم في الإمامة من وقت الصحابة رضي الله عنهم وبعدهم إلى انقطاع التكليف.
وثالثها : الدلالة على صحة قولهم فيما ادعوا ليعلم العاقل أن ذلك لم يكن تجنياً ولا اتباع هوى.
ورابعها : اعتقاد ما قطعنا على علمه من قولهم في الصحابة - رضي الله عنهم - وما الموجب لما رأيناه من ذلك من الأدلة والبراهين ليكون من الأمر على يقين.
[ سبب تسمية الزيدية ]
واعلم أيدك الله أنها سميت زيدية لاتباعها زيد بن علي عليه السلام وهو أول قائم من أهل البيت بيت النبوة عليهم السلام بعد الحسين بن علي عليهما السلام على بني أمية، ولد سنة خمس وسبعين، واستشهد عليه السلام سنة اثنتين وعشرين ومائة، وأمه أم ولد اشتراها المختار بن أبي عبيد بثلاثين ألف درهم وبعثها إلى علي بن الحسين عليه السلام وقد كان قبل ذلك رأى في المنام ما رويناه بالإسناد إلى الشريف أبي عبد الله محمد بن علي بن الحسين الحسيني الكوفي قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي بن الحكم الهمداني قال: أخبرنا عمار بن محمد القطان قال : حدثنا سعيد بن عمر القطان قال: حدثنا حسن بن عمر الجعفي قال: حدثني أبي، قال: كنت أديم الحج فأمر على علي بن الحسين عليهما السلام [لأقضي] واجب حقه، ففي آخر حجة غدا علينا بوجهه فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ليلتي هذه آخذ بيدي فأدخلني الجنة، وزوجني حوراء فواقعتها فعلقت، فصاح فيَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي بن الحسين، سمي المولود زيداً، قال: [فأقمنا] حتى أرسل إليه المختار بأم زيد فجاءت بزيد.
وروينا بالإسناد الموثوق به في حديث فيه بعض طول، في قصة سير الحسين عليه السلام إلى العراق أنه مرّ بماء من مياه بني سليم، فاشترى خادم له شاةً ونقد ثمنها إلى صاحبها فجاء الأعرابي، فقال: من هذا؟ فقيل: الحسين بن علي عليهما السلام فصاح بأعلى صوته: أنا بالله وبك - يا بن رسول الله - إن عبدك هذا أخذ شاتي ولم يدفع لي ثمناً فنظره الحسين نظراً منكراً، فقال: يا بن رسول الله، إني قد دفعت له ثمن شاته وجاء بالبينة، فقال عليه السلام: ما حملك على هذا؟ قال أصحابه: يا بن رسول الله، عرفك فأراد أن تعوضه شيئاً، فأمر له بشيء وعلي بن الحسين عليه السلام قائم فقال: ما اسمك يا أعرابي؟ فقال الأعرابي: زيد، فضحك علي بن الحسين، وقال: يا أعرابي، ما بالمدينة أكذب من زيد يريد رجلاً كذّاباً بالمدينة كان يبيع -الخُمُرُ والخُمُرُ جمع خمرة- وسجاجيد من خوص بيته، يقال له: زيد فقال الحسين: مه، يا بني لا تعيره باسمه، فإن أبي أخبرني: أنه يولد من ذريتي رجل يقال له: زيد، يقتل فلا يبقى في السماء ملك مشرف، ولا نبي مرسل إلا تلقّى روحه بالسلام، يرفعه أهل كل سماء إلى سماء، وقد بُلغت: يأتي يوم القيامة هو وأصحابه يتحللون رقاب الناس، يقال: هؤلاء خلف الخلف وأئمة الحق.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لزيد بن حارثة: ((يا زيد، لقد زادك اسمك إليّ حبا))، في أحاديث كثيرة سليمات المتون، صحيحات الأسانيد، ولو أردنا استقصاءها خرجنا إلى الإسهاب، صحبه الخيار، وتابعه العلماء، وعقدت البيعة له في الأمصار، وكانت دعوته من الكوفة. وسبب خروجه أنه دخل على هشام بن عبد الملك وفي مجلسه يهودي يسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له زيد: أولى لك يا عدو الله أما والله لو تمكنت منك لأختطفنّ روحك. فقال له هشام: مه!! يا زيد لا تؤذي جليسنا. فخرج عليه السلام وهو يقول: من استشعر حب البقاء استدام الذل إلى الفناء، فوصل إلى الكوفة وكان منه الدعاء كما قدمنا، وخرج ليلة الأربعاء لسبع بقين من المحرم أو تسع -الشك من قبلي- قبل ميعاده مخافة أن يرهقه الطلب وصاح بشعار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورفعت [الهرادي فيها النيران]، ودارت رحى حربه عليه السلام على خمسمائة مقاتل وسأل عن الناس لأن ديوانه انعقد من أهل الكوفة على خمسة عشر ألفاً قيل: إنهم في الجامع، وكان صائح بني أمية قد انتشر في البلد بين أقطارها: برئت الذمة من كل محتلم لا يصل الجامع فانفض الناس إخلاداً إلى الدنيا، وميلاً إلى الهوى، ورغبة فيما يفنى، وزهداً فيما يبقى، فقال: لا يسعنا عند الله خذلان أصحابنا، سيروا على اسم الله فسار بهم فهزم الجموع بينه وبينهم إلى أن وصل باب الغيل وأمر أصحابه بإدخال عذب الرايات من أفواه العقود، وقال لهم نصر بن خزيمة: يا أهل الكوفة، اخرجوا من الذل إلى العزِّ فلم يفعلوا فأذلهم الله سبحانه، وجاءت جنود الشام من تلقاء الحيرة، وحمل عليهم عليه السلام كأنه الليث المغضب فَقَتل منهم أكثر من ألفي قتيل بين الحيرة والكوفة، وقاتلهم ثلاثة أيام كل يوم يروحون من حربه أسوأ حالاً من اليوم الأول، وهو في خمسمائة وهم في اثني عشر ألفاً، فأصيب في آخر أيامه في جبينه الأيسر بنشابة، وحمل إلى دور أرحب وشاكر، فدعي
له طبيب فنزعها فمات منها، وقد وجب على الله أجره.
وروينا بإسناد طرقه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حذيفة بن اليمان، قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى زيد بن حارثة فقال: ((ادْنُ مني - يا زيد - زادك اسمك عندي حباًّ فأنت سمي الحبيب من أهل بيتي)).
وبالإسناد إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يقتل من ولدي رجل يدعى بزيد بموضع يعرف بالكناسة يدعو إلى الحق يتبعه كل مؤمن ومؤمنة)).
وبالإسناد عن حبة العرني قال: كنت أنا والأصبغ بن نباته بالكناسة في موضع الجزارين والحناطين مع علي بن أبي طالب عليه السلام وهي يومئذ صحراء فما زال يلتفت إلى ذلك الموضع ويبكي بكاءً شديداً، ويقول: بأبي بأبي. فقال له الأصبغ: يا أمير المؤمنين لقد بكيت والتفت حتى بكت قلوبنا وأعيننا والتفت فلم أرَ أحداً. فقال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه يولد لي مولود لم يولد أبوه بعد، يلقى الله غاضباً وراضياً له على الحق، حقاً حقاً، على دين جبريل وميكائيل صلّى الله عليهم وأنه يمثل به في هذا الموضع مثالاً ما مثل بأحد قبله ولا يمثل بأحد بعده صلوات الله على روحه وعلى الأرواح التي توفى معه.
وبالإسناد إلى أبي داود المديني عن علي بن الحسين قال: يخرج مني بظهر [الكوفة] رجل يقال له: زيد [في أبهة سلطان، والأبهة الملك] لم يسبقه الأولون ولم يدركه الآخرون إلا من عمل بمثل عمله، يخرج يوم القيامة هو وأصحابه معهم الطوامير، ثم يتخطون أعناق الخلائق قال: فتلقَّاهم الملائكة، فيقولون: هؤلاء خلف الخلف، ودعاة الحق، ويستقبلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: ((قد عملتم بما أمرتم ادخلوا الجنة بغير حساب)).
وبالإسناد عن زاذان عن أمير المؤمنين قال: الشهيد من ذريتي القائم بالحق من ولدي المصلوب بكناسة كوفان، إمام المجاهدين، قائد الغر المحجلين، يأتي يوم القيامة هو وأصحابه تتلقاهم الملائكة المقربون ينادونهم ادخلوا الجنة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
فإذا قد تقررت هذه المقدمة في ذكر زيد عليه السلام فالزيدية من اعتزى إليه وسلك منهاجه، ومنهم الصالحية ينتسبون إلى الحسن بن الصالح بن حي، وبترية، وجارودية، وتفصيل شرحهم يطول، وإنما هم أئمة الهدى عليهم السلام وأتباعهم من علماء الإسلام واختصوا باسم الزيدية لانتسابهم في الاعتقاد إلى زيد بن علي عليهما السلام.
[ مبادئ الزيدية ]
وأما الفصل الثاني فيما هو الظاهر من مذهبهم الآن.
فاعلم أن الظاهر من مذهبهم تقديم علي عليه السلام في الإمامة على أبي بكر وعمر وعثمان، واعتقادهم النص الاستدلالي دون الضروري خلافاً للإمامية، وهم لا يسبون الصحابة ولا يفسقونهم وإنما يخطئونهم في ترك الاستدلال والإخلال بالنظر في النصوص الموجبة إمامة علي عليه السلام ويعيبون عليهم،ويعيبون أفعالهم من دون كلام قبيح، ولا يمكن لأحد أن يدعي على أحد من أئمة الهدى دعوى صحيحة بأنه سب أو آذى، وهذا منهاج علي عليه السلام فإنه كان في خطبته وأثناء محاوراته يشكو من القوم تقدمهم وأنه أولى بالأمر منهم، ويظهر أنه أغضى صبراً واحتساباً ونظراً للدين مخافة انشقاق العصا مع تربص أهل النفاق وقوة أهل الردة وقربهم من المدينة، وكانت الردة في سليم، وتميم، وأسد، وحنيفة، وعمان، وغطفان، والبحرين، ومهرة، وحضرموت في كندة وألفافها، والجند، فلم يرَ إلا ترك الشقاق نظراً للدين، وحسن قصد القوم في تحري قوة الإسلام، وتعظيم حاله والرمي من وراء حوزته، وبذل الوسع في تقوية قواعده، ولم يقع الخلل إلا فيما يتعلق بحقه عليه السلام فصبر واحتسب نظراً لصلاح الأمة وتحرياً لقوة الإسلام، ولم يظهر منه سبّ ولا ذمُّ للصحابة في خاصة ولا عامة ولا رضا ولا غضب، ونقول في معصيتهم إنها صحيحة، ولا نقطع بكونها كبيرة ولا يتضح لنا كونها صغيرة، فنردُّ أمرها إلى الله إلا أنها لا تقطع بكبرها، والكبيرة توجب الفسق، والفسق لا يكون إلا بالنصِّ ولا يثبت بالقياس؛ لأن مقادير الثواب والعقاب لا طريق لنا إلى العلم بها.
وأما أناَّ لا نقطع بصغرها فلأن الصغيرة ثواب صاحبها في كل وقت أكثر مما يستحق من العقاب في كل وقت، وهذا لا طريق لنا إليه، وقد قدموا على رب كريم فإن عفا عنهم فلحميد سوابقهم وعظم إحسانهم ولما تحملوا من الأثقال في معاداة الأسود والأحمر في نصرة الدين، وإن عاقبهم فما ربك بظلاَّم للعبيد وهو على خلقه غير متهم ولا مستخان في حكمه إن حكم .
وأما الفصل الثالث: مذهبهم في الإمامة في وقت الصحابة قد تقدم، وأن الإمام عندهم بلا فصل علي بن أبي طالب عليه السلام.
فصل [ في فضائل أهل البيت ]
اعلم أيدك الله وأرشدك أن الطالب لرشده، المتحري للنجاة بجهده، ينظر في لحن قول المتكلمين كما قال تعالى: ?إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ?[الحجر:75]، وأعدل الشهادات شهادة الخصم لخصمه؛ إذ هي لاحقة بالإقرار الذي لا يفسخه تعقب الأفكار، وقد أكثرت السبعة في روايتها بالأسانيد الصحيحة إلى حد لم يدخل تحت إمكاننا حصره في وقتنا هذا إلا أنه الجم الغفير في فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام والحسن والحسين وذريتهما الطيبة، وما يوجب لهم الإمامة، ويخصهم بالزعامة إلى يوم القيامة، فهو على ذلك كتب وألوف أحاديث كثيرة، فرأينا أن لا نعيد شيئاً من رواياتها في هذا الباب لكون أهل تلك الجهة مائلين إلى الفقهاء ومعتمدين على أئمة العامة الأربعة في الفقه وغيره، فلن يختلفوا في صحة نقل الصحاح من صحيح مسلم والبخاري، ومن كتاب الجمع بينهما لأبي عبدالله محمد بن أبي نصر الحميدي، ومن كتاب (الجمع بين الصحاح الستة) لأبي داود السجستاني وصحيح الترمذي والفسحة الكبرى من صحيح النسائي، ومن صحيح أبي الحسن رزين بن معاوية بن عمار العبدري إمام الحرمين السرقسطي الأندلسي، ومسند أبي عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل الشيباني، وتفسير القرآن للأستاذ أبي إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ويتبع ذلك كالشافعي له مما لعله شذ ذكره ما رواه الفقيه الشافعي أبو الحسن علي بن محمد الطبيب الجلالي المعروف بالمغازلي الواسطي فما تعلق بالقرآن الكريم، فهو شفاء كل سقيم، والدواء من الداء العقيم، والصراط المستقيم.
أما ما يتعلق بالصحاح فهي القدوة للمذاهب الأربعة إذ الشك لو اعترى فيما شاهد بالعيان لما اعترى أهل المذاهب الأربعة الشك فيما أخبر به الصحيحان، ثم قد عدلت بأربعة صحاح ناطقة فصاح اعتمدها علماء الإسلام، الخاص منهم والعام، ثم يشفع ذلك بما يرويه العدول في مذهب الشافعي فهو كالمعدل للمعدل للشهادة وتركنا ما يرويه السبعة بطرقها الصحيحة التي لا يمكن عالم نقضها إلا بما يقدح به في أصول الإسلام الشريف.
وكذلك ما اختص به آباؤنا عليهم السلام إذ روايتهم كالشهادة لأنفسهم فكان للخصم أن يشغب فيها، وإلا فهم كما قال الكميت بن زيد الأسدي رحمه الله تعالى:
وهم الأبعدون من كل ذام
رأفة والأحلمون في الأحلام
فرع القداميس القدام
فيهم ملامة اللوام
حسبي من سائر الأقسام
من الشك في عمى وتعامي
بهم لا همام لي لا همام
فهم الأقربون من كل خير
وهم الأرأفون بالناس في الـ
أسرة الصادق الحديث أبي القاسم
لا أبالي إذا حفظت أبا القاسم
فهم شيعتي وقسمي من الأمة
أنا إن مت لا أمت ونفسي نفسان
عادلاً غيرهم من الناس طراً
ومثل ذلك قول الفرزدق:
في كل شيء ومختوم به الكلم
أو قيل من خير خلق الله قيل: همُ
كفر وقربهم ملجأ ومعتصم
مقدم بعد ذكر الله ذكرهم
إن عدَّ أهل التقى كانوا أئمتهم
من معشر حبهم دين وبغضهم
وأصدق من ذلك كله قوله تعالى: ?أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ?[يونس: 35]، وقد علم الكافة أن علياً عليه السلام كان المفزع، وعليه معول الصحابة رضي الله عنهم عمر فمن دونه في الحوادث حتى قال: لا أبقاني الله لمعضلات لا أرى فيها علي بن أبي طالب، وإنما أراد أن يقطع شغب العامة، ونورد مالا يخالف فيه الكافة ولو استقصينا ذلك لطال شرحه، وإنما نذكر من الجملة زبدة ذلك جملة ليطلبه الراغب فيه، ونذكر من الجملة زبدة ?لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ?[ق:37]، وفصول ما تناوله هذه الكتب مما يختص بالعترة الطاهرة خمسة وأربعون فصلاً يشتمل على تسعمائة وعشرين حديثاً، منها من (مسند ابن حنبل) مائة وأربعة وتسعون حديثاً، ومن (صحيح البخاري) تسعة وسبعون حديثاً، ومن (صحيح مسلم) خمسة وسبعون حديثاً، ومن (تفسير الثعلبي) مائة وثمانية وعشرون حديثاً، ومن (الجمع بين الصحيحين) للحميدي ستة وخمسون حديثاً، ومن (كتاب ابن المغازلي الشافعي) مائتان وتسعة وخمسون حديثاً، ومن (الجمع بين الصحاح الستة) لرزين بن معاوية العبدري تسعة وتسعون حديثاً، ومن (الجزء الأول من غريب الحديث) لابن قتيبة الدينوري على انحرافه من العترة الطاهرة ستة أحاديث، ومن كتاب (المغازي) لمحمد بن إسحاق حديثان، ومن رواية أبي نعيم المحدث بما خرجه بكتاب (الاستيعاب) حديث واحد، ومن كتاب (الشريعة) للآجري حديث واحد، ومن كتاب الحافظ أبي زكريا [ابن مندة] حديث واحد، ومن كتاب (الملاحم) لأبي الحسين أحمد بن جعفر بن المنادى حديث واحد، ومن (كتاب الطبري) حديثان.
وفيما يختص بعلي عليه السلام ستمائة وخمسة وثمانون حديثاً، من (مسند ابن حنبل) مائة وثمانية وسبعون حديثاً، ومن (صحيح البخاري) تسعة وثمانون حديثاً، ومن (صحيح مسلم) أربعة وثلاثون حديثاً، ومن (مناقب الفقيه ابن المغازلي) مائتان وخمسة وخمسون حديثاً، ومن (تفسير الثعلبي) مائة وخمسة أحاديث، ومن (الجمع بين الصحاح الستة) لرزين بن معاوية العبدري أحد وأربعون حديثاً، ومن كتاب (الفردوس) حديث واحد، ومن رواية أبي نعيم المحدث مما خرَّجه من كتاب (الاستيعاب) حديث واحد، ومن كتاب ابن مندة حديث واحد، ومن كتاب (الملاحم) لأبي الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي حديث واحد.
فقد عيّنا لك مواضع هذه الأحاديث وكتبها لتطلبها فيها فتعلم صدق الرواية عنها؛ إذ هذه الكتب هي التي توجد في أيدي الأمة سبيلاً إلى ربها، ولسنا نأتي على جميع الأحاديث لأن ذلك لا يدخل تحت الإمكان في هذا المكان.
وإنما نذكر في المذهب دليلاً واحداً محققاً على وجه الاختصار، ونشفعه بما يؤيده من الآيات، فإذا أنصف العاقل نفسه لن يعدل عن سبيل نجاته، وطلب الرشد من مظانه، وورد الهدى من شرائعه، وتنوَّر الحق من مشكاته، ورجع إلى هداته، وانساق لدعاته ورعاته، حماة شرع الإسلام، وصفوة الصفوة من الخاص والعام.
فأما روايات السبعة على صحة نقلها وفن أصلها فقد أضربنا عنها في رسالتنا هذه ليعمل العاقل بمقتضى عقله، ويسلم الأمر لأهله، ويرد الفرع إلى أصله؛ لأن الأمة إذا كانت سنية وشيعة واتفق الثقلان على تقديم النصاب المخصوص ما العذر عند الله سبحانه في الاطراح له ورفضه والعدول عنه، إلى غيره؟ في الابتداء بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى انقطاع التكليف؟ إذ التعبد لا بد له من ساق تقوم عليه، وفئة يرجع إليها، وإذ قد قررنا هذه القاعدة فلنبدأ بالدليل على أن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام التي تدل على ذلك أدلة كثيرة وكل واحد منها يوصل إلى العلم؛ لأنها وإن كانت أدلة شرعية فقد لحقت بالعقليات في القوة، ولا يمكن ذكر الجميع فلنقصر الكلام على الآية والخبر.
أما الآية فقوله سبحانه: ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ?[المائدة:55].
الكلام في هذه الآية يقع في موضعين: أحدهما: أن أمير المؤمنين عليه السلام المراد بها دون غيره، والثاني: أن ذلك يفيد معنى الإمامة .
أما أنه عليه السلام المراد بها دون غيره فلوجهين:
أحدهما: إجماع أهل النقل على تباين أغراضهم إلا من لا يعتد به أنها نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام وأنه المتصدق بخاتمه في ركوعه دون غيره، والثاني: أنه لا يجوز أن يكون المراد بها غير أمير المؤمنين، لوجوه :
أحدها: أنه سبحانه وصف الولي في هذه الآية بصفة لم توجد في غيره عليه السلام وهي الصدقة بخاتمه في حال الركوع، فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون المراد بذلك جماعة المسلمين وأن الركوع من شأنهم وإن لم يتصدقوا في حاله؟
قلنا: لا يجوز ذلك. ألا ترى أن مخبراً لو أخبرنا أن فلاناً تلقط الرمح من الأرض وهو راكب لعلمنا أنه تلقطه في حال ركوبه، ولو أخبرنا أن المراد بقوله وهو راكب أن الركوب من شأنه أو من عادته لكان في خبره الأول عندنا من الكاذبين وفي تأويله من الجاهلين، وكذلك لو قال: فلان يؤثر على نفسه وهو فقير أفاد ذلك الإيثار في حال فقره دون أن يكون المراد بذلك فقره في المستقبل.
ومنها أن المعطوف يقتضي في اللغة العربية التي نزل القرآن الكريم أعلاها وهو في الحقيقة مولاها، يقتضي كونه غير المعطوف عليه بالاتفاق بين أهل اللغة أو بعضه للتفخيم عندنا على خلاف في هذا الآخر، مع الإطباق على الأول على ما ذلك مقرر في مواضعه من أصول الفقه، فإذا لم يجز عطف قوله سبحانه: ?والَّذينَ آمَنُوا? على جميع من ارتد الضمير في قوله : ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ?، وحمل على الغير المتفق عليه، أو البعض المختلف فيه، والغير أو البعض المختلف فيه، والبعض والغير لا يكون إلا أمير المؤمنين عليه السلام.
فإن قيل: هذا في قصة عبادة بن الصامت، والمراد به جماعة المسلمين.
قلنا: فإذا بطل بما بيَّنا أنه لا يجوز عطف الجمع عليه لاستحالة عطف الشيء على نفسه لغة، وكان المراد بعضهم كما قال تعالى: ?وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ?[الأحزاب: 7]، فالمعطوف ها هنا بعض من تقدم، وهو علي عليه السلام وله أمثال كثيرة أو الغير كما هو موضوع في الأصل، كان المراد بذلك أمير المؤمنين عليه السلام بالاتفاق.
ومما يزيد ذلك وضوحاً أن الآية أفادت مُخَاطِبًا هو الله سبحانه، ومُخاَطَباً هم المؤمنون، وولياً هو الله سبحانه ورسوله وأمير المؤمنين، ألا ترى أن قوله تعالى: ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ? يعلم بظاهره أن المراد بذلك هم المؤمنون، وقد صرح بذكر رسوله مع ذكره تعالى، فالمراد بلفظ الجمع هاهنا أمير المؤمنين عليه السلام وورود ذكره بلفظ الجمع تفخيماً لشأنه وتعظيماً لحاله، وقد قال تعالى: ?إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ?[الحجر: 9] قد ذكر لفظ الجمع هاهنا في خمسة مواضع، والمراد الحكيم سبحانه وحده ومثله كثير في اللغة العربية.
ومن (الجمع بين الصحاح) لرزين العبدري في تفسير سورة المائدة، من (صحيح النسائي) عن ابن سلام قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلنا: إن قومنا حادونا لما صدقنا الله ورسوله وأقسموا أن لا يكلمونا، فأنزل الله تعالى: ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ?[المائدة:55]، ثم أذن بلال لصلاة الظهر، فقام الناس يصلّون فمن بين ساجد وراكع، وإذا بسائل فسأل فأعطاه علي خاتمه وهو راكع، فأخبر السائل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الآية، فهذا تنبيه كما ترى بقراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الآية عقيب حكايتهم له إعطاء علي عليه السلام السائل بأن علياًّ عليه السلام هو الولي للمؤمنين وهذه قرينة حال انضافت إليها قرينة مقال.
ومن (مناقب ابن المغازلي) بإسناده في تفسير قوله تعالى: ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ? ما رفعناه إليه، فرفعه بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: نزلت في علي عليه السلام.
وبالإسناد في طريق أخرى من كتابه، رفعه إلى محمد بن الحسن، عن أبيه، عن جده، في قوله تعالى: ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا?، فقال: الذين آمنوا علي بن أبي طالب.
وفي كتابه بإسناده، رفعه إلى أبي عيسى، رفعه إلى ابن عباس - رضي الله عنه - قال: مرَّ سائل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي يده خاتم قال: ((من أعطاك هذا الخاتم؟))قال: ذلك الراكع - وكان علي يصلِّي - فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((الحمد لله الذي جعلها فيّ وفي أهل بيتي: إنما وليكم الله ورسوله وقرأ الآية)) فهذا كما ترى تصريح عما تقدم في الأول في معنى الإشارة، وكان نقش خاتمه الذي تصدق: سبحان من فخري بأني له عبد.
وفي كتابه رفعه بإسناده، إلى علي وابن عباس وأبي مريم قالا: دخلنا على عبدا لله
بن عطاء، قال أبو مريم: حدِّث علياًّ بالحديث الذي حدّثتني عن أبي جعفر، قال: كنت عند أبي جعفر حالة إذ مر عليه ابن عبد الله بن سلام قلت: جعلني الله فداك، هذا ابن الذي عنده علم من الكتاب؟ قال: لا، ولكنه صاحبكم علي بن أبي طالب الذي نزلت فيه آيات من كتاب الله عز وجل: ?وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ?[الرعد:43]، ?أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ?[هود:17]، ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ...الآية?[المائدة:55].
وفي (تفسير الثعلبي) رفعه إلى ابن أبي حكيم عتبة، والسدي، وغالب بن عبدالله: ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ?[المائدة:55] علي بن أبي طالب عليه السلام لأنه مرَّ به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه.
وبإسناده رفعه إلى عبد الله بن عباس قال: بينا عبد الله بن عباس رضي الله عنه جالس على شفير زمزم يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ أقبل رجل معتمٌّ بعمامة فجعل ابن عباس رضي الله عنه لا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا وقال الرجل: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له ابن عباس: سألتك بالله، من أنت؟ قال: فكشف عن وجهه، وقال: يا أيها الناس، من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدري، أبو ذر الغفاري، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهاتين وإلا فصمَّتا، ورأيته بهاتين وإلافعميتا، يقول: ((علي قائد البررة، وقاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله)) أما إني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً من الأيام صلاة الظهر، فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل إلى السماء، وقال: اللّهمَّ، اشهد إني سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئاً، وكان علي راكعاً فأومأ بخنصره اليمنى وكان يتختم فيها، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره وذلك بعين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال: ((اللهمّ، إن موسى سألك فقال: ?رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي، وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي?[طه25-32]، فأنزلت عليه: ?سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا?[القصص:35]، اللهم وأنا محمد نبيك ووصيك وصفيك، اللهمَّ، فاشرح صدري، ويسر لي أمري، واجعل لي وزيراً من أهلي، علياًّ اشدد به ظهري)) قال أبو ذر: فما استتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكلمة حتى نزل جبريل عليه السلام من عند الله تعالى، فقال: يا محمد، اقرأ.
فقال: وما أقرأ؟ قال اقرأ: ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ?[المائدة:55].
فهذه نبذة من الآثار المتفق عليها جعلتها تذكرة للمنتهي، وتبصرة للمبتدي، وتنكبنا رواية الشيعة على اتساع نطاقها، وثبوت ساقها، ليعلم المستبصر أن دليل الحق واضح المنهاج، مضيء السراج، فصح الموضع الأول.
وأما الموضع الثاني وهو أن ذلك يفيد الإمامة فلأن السابق إلى الأفهام من معنى لفظ: ولي المالك للتصرف، كما يقال: هذا ولي المرأة وولي اليتيم الذي يملك التصرف عليهما، فلما كان الله تعالى مالكاً للتصرف على عباده وكذلك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وجب ذلك لعلي عليه السلام بمقتضى هذه الآية، فثبتت بذلك إمامته عليه السلام، وإذ قد فرغنا بما يتعلق بمعنى الآية فلنذكر الخبر وما يتعلق بمعناه.
ومن (مسند ابن حنبل) رفعه إلى البراء بن عازب قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فنزلنا بغدير خم، ونودي فينا الصلاة جامعة، وكسح لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهم: ((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه)) فلقيه عمر فقال: هنيئاً لك يا بن أبي طالب أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة.
وفي مسنده بإسناده عن [ميمون أبي عبد الله] قال: قال زيد بن أرقم وأنا أسمع نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بواد، يقال له: وادي غدير خم، فأمر بالصلاة فصلاها قال: فخطب وظلل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثوب بسط على شجرة من الشمس فقال النبي: ((أو لستم تعلمون، أو لستم تشهدون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا: بلى. فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه)). ومنه يرفعه إلى أبي الطفيل قال: جمع علي عليه السلام الناس بالرحبة، ثم قال: أنشد بالله كل امرئ مسلم سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم غدير خم [ما سمع] لما قام، فقام ثلاثون رجلاً من الناس، فقال: قام أبو نعيم فقام أناس كثير فشهدوا حين أخذ بيده، فقال للناس: ((أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم. قالوا: نعم يا رسول الله. قال: من كنت مولاه [فهذا] مولاه. اللهم، والِ من والاه وعادِ من عاداه)).
وبإسناده يرفعه إلى زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه))، ومثله بغير زيادة يرفعه إلى ماذان، عن أبي عمر، ومثله بطريق غير الأولى يرفعه إلى زيد بن أرقم، وقريباً منه رفعه بإسناده إلى ابن إسحاق، قال: سمعت عمر الحديث. وزاد فيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((اللهمَّ، والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، وأحب من أحبه، وأبغض من أبغضه)).
وبإسناده إلى البراء بن عازب قال: أقبلنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع حتى كنا بغدير خم، فنودي فينا إلى الصلاة جامعة، وكسح لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين شجرتين، فأخذ بيد علي وقال: ((ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: ألست أولى بكل مؤمن ومؤمنة من نفسه؟ قالوا: بلى يارسول الله. قال: هذا مولى من أنا مولاه، اللهمَّ، والِ من والاه، وعادِ من عاداه)) فلقيه عمر فقال: هنيئاً لك يا بن أبي طالب!! أصبحت مولاي وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة.
وبإسناد فيه، رفعه إلى ابن أبي ليلى الكندي، أنه حدثه قال: سمعت زيد بن أرقم، يقول، ونحن ننتظر جنازة: فسأله رجل من القوم، فقال: أبا عامر أسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لعلي عليه السلام: ((من كنت مولاه فعلي مولاه))، قال: نعم. قال أبو ليلى: فقلت لزيد بن أرقم: قالها؟ قال: نعم، قالها أربع مرات.
وبإسناده إلى بريدة الأسلمي، قال: غزوت مع علي عليه السلام أرض اليمن فرأيت منه جفوة، فلماَّ قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكرت علياً فنقصته، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتغيَّر فقال: ((يا بريدة، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى، يا رسول الله، فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه)) ومثله بإسناده حديثان إلى أبي بريدة.
ومن (تفسير الثعلبي) بإسناده في تفسير قوله تعالى: ?يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ?[المائدة:67]، فلما نزلت هذه الآية أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيد علي، وقال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)).
وبإسناده رفعه إلى البراء بن عازب قال: لما أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع بغدير خمٍّ، فنادى: إن الصلاة جامعة، وكسح للنبي صلى الله عليه وآله وسلم تحت شجرتين، فأخذ بيد علي فقال: ((ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، يا رسول الله. قال: ألست أولى بكل مؤمن ومؤمنة من نفسه؟ قالوا: بلى. قال: هذا مولى من أنا مولاه، اللهمَّ، والِ من والاه وعادِ من عاداه))، فلقيه عمر فقال: هنيئاً لك يا بن أبي طالب!! أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة، ومثله رفعه إلى ابن عباس بلفظ يقرب من الأول.
ومن (تفسير الثعلبي) أيضاً في تفسير قوله تعالى: ?سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ?[المعارج:1] بإسناده قال: سئل سفيان بن عيينة عن قوله عز وجل: ?سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ?[المعارج:1]، فيمن نزلت؟ قال: لقد سألتني عن مسألة ما سألني أحد قبلك. حدثني جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام قال: لما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغدير خم نادى الناس، فاجتمعوا، فأخذ بيد علي - صلى الله عليهما - قال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه))، فشاع ذلك وطار في البلاد، فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ناقته حتى أتى الأبطح، فنزل عن ناقته فأناخها وعقلها، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في ملأ من أصحابه فقال: يا محمد، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله فقبلناه، وأمرتنا أن نصلّي خمساً فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصوم شهراً فقبلناه منك، وأمرتنا أن نحجَّ البيت فقبلناه منك، ثم لم ترض هذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك ففضلته علينا وقلت: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)) وهذا شيء منك أم من الله؟ فقال: ((والذي لا إله إلا هو أنه من أمر الله))، فولى الحارث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول: اللهم، إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله، فأنزل الله تعالى: ?سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ، لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ?[المعارج:1، 2] وهذا كما ترى يدل على خبر الغدير وقع في الورود والصدور ليكون جمعاً بين الأخبار، وتصديقاً للآثار، فهذا هو الواجب فيها عند أهل العلم.
ومن (الجمع بين الصحاح) في باب مناقب علي عليه السلام ذكره رزين العبدري بإسناده، من صحيح أبي داود السجستاني، وهو [كتاب السنن]، ومن (صحيح الترمذي) قال: عن أبي سرحة، وزيد بن أرقم، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ((من كنت مولاه فعلي مولاه)).
ومن مناقب الفقيه أبي الحسن علي بن المغازلي الواسطي الشافعي بإسناده، يرفعه إلى الوليد بن صالح، عن [ابن] امرأة زيد بن أرقم قال: أقبل نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكة في حجة الوداع حتى نزل بغدير الجحفة بين مكة والمدينة فأمر بالدوحات فقم ما تحتهن من شوك، ثم نادى: الصلاة جامعة فخرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم شديد الحر إن منَّا لمن يضع رداءه على رأسه، وبعضه تحت قدميه من شدة الحر، حتى انتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلَّى بنا الظهر ثم انصرف إلينا فقال: ((الحمد لله نحمده ونستعينه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، الذي لا هادي لمن أضل، ولا مضل لمن هدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. أما بعد : أيها الناس، فإنه لم يكن لنبي من العمر إلا نصف ما عمِّر من قبله، وأن عيسى بن مريم لبث في قومه أربعين سنة، وأنا قد أشرعت في العشرين، ألا وإني يوشك أن أفارقكم، ألا وإني مسؤول وأنتم مسؤولون، فهل بلغتكم؟ فماذا أنتم قائلون))؟ فقام [من كل] ناحية من القوم مجيب يقولون: نشهد أنك عبد الله ورسوله وقد بلغت رسالته، وجاهدت في سبيله، وصدعت بأمره، وعبدته حتى أتاك اليقين، فجزاك الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، فقال: ((ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق، والنار حق، وتؤمنون بالكتاب كله؟ قالوا: بلى، قال: أشهد أنكم قد صدقتم وصدقتموني، ألا وإني فرطكم وأنتم تبعي، توشكون أن تردوا عليَّ الحوض فأسألكم حين تلقوني عن ثقلي كيف خلفتموني فيهما؟ قال: فأعُيل علينا ما ندري ما الثقلان؟ حتى قام رجل من المهاجرين وقال: بأبي وأمي أنت - يا رسول الله - ما الثقلان؟ قال: الأكبر منهما كتاب الله سبب، طرف بيد الله تعالى وطرف بأيديكم، فتمسكوا به ولا تلووا، ولا تضلوا، والأصغر منهما عترتي، من
استقبل قبلتي، وأجاب دعوتي، فلا تقتلوهم، ولا تقهروهم، ولا تقصروا عنهم، فإني قد سألت لهما اللطيف الخبير فأعطاني، ناصرهما لي ناصر، وخاذلهما لي خاذل، ووليهما لي ولي، وعدوهما لي عدو، ألا فإنها لم تهلك أمة قبلكم حتى تدين بأهوائها وتظاهر على نبوتها وتقتل من قام بالقسط منها، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فرفعها، وقال: من كنت وليه فهذا وليه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه)) قالها ثلاثاً آخر الخطبة.
وهذا كله خبر في هذا الباب؛ لأن تفصيله قد ورد في الصحاح ما يختص بأهل البيت مفرداً، وما يختص بحديث ولاية علي عليه السلام وحده أيضاً، وسبب ذلك أن الشرح لما طال روى كل إنسان ما حفظ، وبعض الروايات أتم من بعض.
وفيه بإسناده مثله، إلا أنه ذكر فضل صيام يوم الثامن عشر، وقفه على أبي هريرة: ((من صامه كتب له صيام ستين شهرا)) والتقرير إذا وقف على الصحابي حمل على التوقف من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهذا دليل على عظم خطر هذا اليوم بحسن موقعه في الإسلام بدلالة اتباع الكتاب والعترة وتقرر ولاية أمير المؤمنين عليه السلام على الأمة، وفيه زيادة قول عمر: بخ! بخ! يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة قال: فأنزل الله تعالى : ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ?[المائدة:3].
وفيه مثله، بإسناده رفعه إلى جابر بن عبد الله، بزيادة في أوله: إن الناس لما نزلوا بغدير خم تنحوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمر علياً فجمعهم، فلما اجتمعوا قام فيهم وهو متوسد يد علي عليه السلام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((أيها الناس، إني قد كرهت تخلفكم عني حتى خيل إلي أنه ليس شجرة أبغض إليكم من شجرة تليني ثم قال: لكن علي بن أبي طالب أنزله الله مني بمنزلتي منه فرضي الله عنه كما أنا عنه راضٍ، وإنه لا يختار على فرقي ومحبتي شيئاً))، ثم رفع يده وذكر الخبر، قال: فابتدر الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبكون ويتضرعون، ويقولون: يا رسول الله، ما جنبنا عنك إلا كراهة أن نثقل عليك، فنعوذ بالله من سخط رسول الله، فرضي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنهم.
ومثله إلى اثني عشر رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم سرد الخبر، ورفع الحديث بإسناده مفرعاً إلى مائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم العشرة، ومتن الحديث فيها ومعناه واحد، وفيها زيادات نافعة في أول الحديث وآخره، وسلك فيه اثنتي عشرة طريقاً بعضها يؤدي إلى غير ما أدى إليه صاحبه من أسماء الرجال المتصلين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد ذكر محمد بن جرير الطبري صاحب التأريخ خبر يوم الغدير وطرقه من خمسة وسبعين طريقاً، وأفرد له كتاباً سماه (كتاب الولاية).
وذكر أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة خبر يوم الغدير، وأفرد له كتاباً، وطرقه من مائة وخمس طرق، ولا شك في بلوغه حدَّ التواتر وحصول العلم به ولم نعلم خلافاً لمن يعتدُّ به من الأمة، وهم فيه بين محتج به ومتأول له إلا من يرتكب طريقة البهت ومكابرة العيان، ولم نذكر مما يتعلق برواية السبعة في هذا الحديث كلمة واحدة؛ لأنا أردنا إلزام الحجة وكشف الحال، وإلا فروايتهم فوق ما رويناه عن غيرهم؛ لأنهم أهل هذا الشأن وهم أهل الجري في هذا الميدان، فإذا فرغنا من الكلام في متن الخبر، فلنتكلم في بيان معنى لفظة مولى في اللغة العربية.
اعلم أن أكثر ما قيل أو وجد في معنى لفظة (مولى) أنها تحتمل عشرة معاني:
لها: الأولى وهو الأصل والعماد الذي ترجع إليه المعاني في باقي الأقسام، ثم اعلم أن أهل اللغة ومصنفي العربية قد نصُّوا على أن لفظة (مولى) تفيد الأولى، وفسروا ذلك في كتبهم من كتاب الله تعالى ومن أشعار العرب.
فأما من الكتاب العزيز فإن أبا عبيدة معمر بن المثنى وهو مقدم في علم العربية غير مطعون عليه في معرفتها ذكر في كتابه المتضمن (تفسير غريب القرآن) المعروف بالمجاز، في سورة الحديد في تفسير قوله تعالى: ?فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمْ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ?[الحديد:15] يريد جل اسمه: هي أولى بكم على ما جاء في التفسير، واستشهد بقول لبيد:
مولى المخافة خلفها وأمامها
ففدت كلا الفرخين تحسب أنه
معناه أولى بالمخافة.[يريد أن هذه الظبية تحيرت فلم تدرِ أخلفها أولى بالمخافة أم أمامها].
ويقول الأخطل في عبد الملك بن مروان:
أعف وأوفى من أبيك وأمجدا
غداة اختلاف الناس أكدى وأصلدا
وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا
فما وجدت فيها قريش لأمرها
وأورى بزنديه ولو كان غيره
فأصبحت مولاها من الناس كلهم
فخاطبه بلفظ مولى وهو [عند نفسه] خليفة مطاع الأمر من حيث اختص بالمعنى الذي احتمله، وليس أبو عبيدة متهماً بالتقصير في علم اللغة ولا مظنوناً به الميل إلى أمير المؤمنين عليه السلام [بل هو معدود من جملة الخوارج وقد شاركه في مثل ذلك التفسير ابن قتيبة وهو أيضاً لاميل له إلى أمير المؤمنين عليه السلام] إلا أنه لو علم أن الحق في غير هذا المعنى لقاله.
وقال الفراء في كتابه (كتاب معاني القرآن) في ذكر تفسير هذه الآية: إن الولي والمولى في لغة العرب واحد.
وقال أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري في كتابه المعروف ([بتفسير] المشكل في القرآن) في ذكر أقسام المولى: إن المولى الولي، والمولى الأولى بالشيء، واستشهد على ذلك بالآية المتقدم ذكرها وببيت لبيد أيضاً، وأنشد لغير لبيد:
فأدركوه وما ملوا ولا لغبوا
كانوا موالي حق يطلبون به
وقد روي أن في قراءة ابن مسعود: ?إنما مولاكم الله ورسوله? مكان قوله: ?إنما وليكم الله ورسوله?، وفي الحديث: ((أيما امرأة تزوجت بغير إذن مولاها فنكاحها باطل))، والمعلوم من ذلك أن المراد بمولاها وليها والذي هو أولى الناس بها، والأخطل هو أحد شعراء العرب وممن لا يطعن عليه في معرفة [اللغة] ولا ميل له إلى مذهب الإسلام، بل هو من المبرزين في علم اللغة.
وقد حكي عن أبي العباس المبرد أنه قال: الولي هو الأحق والأولى ومثله المولى، فيجعل الثلاث عبارات لمعنى واحد، ومن له أدنى أنس بالعربية وكلام أهلها لا يخفى عليه ذلك.
والثاني من أقسام المولى : هو مالك الرق قال الله تعالى: ?ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ?، ?وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ?[النحل:75، 76] يريد مالكه، والأمر في ذلك أشهر من أن يحتاج إلى استشهاد.
والثالث: المعْتِق.
والرابع : المعْتَق.
والخامس: ابن العم، قال الله تعالى: ?وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي?[مريم:5] يعني بني العم، ومنه قول الشاعر:
لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا
والسادس: الناصر. قال الله تعالى: ?وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ?[التحريم:4] يريد: ناصره، وقال تعالى: ?ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم? [محمد:11] يريد: لا ناصر لهم.
والسابع: المتولي ليضمن الجريرة وتحويز الميراث .
والثامن: الحليف. قال الشاعر:
موالي حلف لا موالي قرابة .......
والتاسع: الجار. قال الشاعر: مولى اليمين ومولى الجار والنسب
والعاشر : الإمام السيد المطاع.
وهذه الأقسام التسعة بعد الأولى إذا تُؤمل المعنى فيها وُجِدَ راجعاً إلى معنى الأولى ومأخوذ منه؛ لأن مالك الرق لما كان أولى بتدبير عبده من غيره كان مولاه دون غيره، والمعْتِق لما كان أولى بميراث المعتق من غيره كان مولاه كذلك، والمعتق لما كان أولى بمعتقه في تحمل جريرته وألصق به ممن أعتقه غيره كان مولاه أيضاً كذلك، وابن العم لما كان أولى بالميراث ممن بعده عن نسبه وأولى بنصرة ابن عمه من الأجنبي كان مولاه لأجل ذلك، والناصر لما اختصَّ بالنصرة فصار بها أولى كان من أجل ذلك مولى، والمتولي لتضمن الجريرة لما ألزم نفسه ما يلزم المعتق كان بذلك أولى ممن لا يقبل الولاء فصار به أولى بميراثه فكان بذلك مولى، والحليف لاحق في معناه بالمتولي فلهذا السبب كان مولى، والجار لما كان أولى بنصرة جاره ممن بعد عن داره وأولى بالشفعة في عقاره فلذلك صار مولى، والإمام المطاع لما كان له من طاعة الرعية وتدبيرهم وملك التصرف عليهم ما يماثل الواجب بملك الرق كان بذلك مولى.
فصارت جميع تلك المعاني فيما حددناه ترجع إلى معنى الوجه الأول الذي هو الأولى وتكشف عن صحة معناه، فيما ذكرناه في حقيقته ووصفناه، فتأمل ذلك ففيه بيان لمن تأمله. فإن قيل: فإذا ثبت أن لفظة (مولى) قد تستعمل مكان الأولى وأنها أحد محتملاتها، فما الدليل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد بها يوم الغدير الأولى دون أن يكون أراد بها غيره من الأقسام التي يعبر بها عنها؟ قيل له: مقدمة الكلام التي بدأ صلى الله عليه وآله وسلم بذكرها وأخذ إقرار الأمة بها من قوله عليه السلام: ((ألست أولى بكم من أنفسكم)) ثم عطف عليها بلفظ يحتملها ويحتمل غيرها دليل على أنه لم يرد بها غير المعنى الذي قررهم عليه من دون إحدى محتملاتها؛ وأنه قصد بالمعطوف ما هو معطوف عليه، فلا يجوز أن يرد من الحكيم تقرير بلفظ مقصور على معنى مخصوص ثم يعطف عليه بلفظ يحتمله، إلا ومراده المخصوص الذي ذكره وقرره دون [أن يكون أراد بها غيره] ما عداه، يوضح ذلك ويزيده بياناً أنه لو قال: ألستم تعرفون داري التي في موضع كذا ثم وصفها وذكر حدودها، فإذا قالوا: بلى. قال لهم: فاشهدوا أن داري وقف على المساكين، وكانت له دور كثيرة لم يجز أن يحمل قوله في الدار التي وقفها على أنها الدار التي قررهم على معرفتها [ووصفها] وكذلك لو قال مثل ذلك في عبد من عبيده وقال: اشهدوا أن العبد حر، حمل على من قدَّم ذكره دون غيره .
وإذا كان الأمر على ما ذكرناه ثبت أن مراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم [بقوله]: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)) بمعنى الأولى الذي قدم ذكره وقرره ولم يجز أن يصرف إلى غيره من سائر أقسام لفظة (مولى) وما يحتمله، وذلك يوجب أن علياً عليه السلام أولى بالناس من أنفسهم، بما ثبت أنه مولاهم، [مما أثبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه أنه مولاهم]، وأثبت له القديم تعالى أنه أولى بهم من أنفسهم، فثبت أنه أولى بهم من أنفسهم، فثبت أنه أولى بلفظ الكتاب العزيز وثبت أنه مولى بلفظ نفسه، فلو لم يكن المعنى واحداً لما تجاوز ما حد له في لفظ الكتاب العزيز إلى لفظ غيره، فثبت لعلي عليه السلام ما ثبت له في هذا المعنى من غير عدول إلى معنى سواه، ويزيده بياناً أيضاً أنا نتصفح جميع ما تحتمله لفظة (مولى) من الأقسام التي يعبر بها عنها، وننظر ما يصح أن يكون مختصاً بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم منها، وما لا يصح اختصاصه به، وما يجوز أن يوجبه لغيره في تلك الحال مما يخصه، وما لا يجوز أن يوجبه، ومع اعتبارها لا يوجد فيها [ما يوجبه] لأمير المؤمنين عليه السلام غير الأولى والإمام والسيد المطاع؛ [لأن جميع الوجوه محتملة فتبين لك أنه لا يجوز أن يكون مراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم سوى ما ذكرنا، فنقول وبالله التوفيق]:
أما المالك والمعتق فلا يصح أن يكونا مراده صلى الله عليه وآله وسلم لأن علياًّ لم يكن مالكاً لرق من كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مالكه، ولا يجوز له ما كان يجوز لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الوطء وتوابعه، والعتق أبعد لأن الولاء لمن أعطي الورق، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((الولاء لمن أعتق ولا يباع ولا يوهب)).
وأما أنهما معتقان ومولاهما واحد فهما حرا الأصل معروفا النسب أباً، وأما الحليف والجار فلا يجوز أن يكون مراده؛ لأن من في درجة علي شركة في مثل نسبه، ولأنه لا يجوز أن تحتمل المشقة لمثل ذلك وهو معروف الشرع صلى الله عليه وآله وسلم وكانت المنة لمن عقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحلف.
وأما خبره السكنى: فإخباره به ورفع يده يكون عبثاً.
وأما ضمان الحريزة فالخطاب وقع إلى الكافة ولا حرائز لهم ولا هو أيضاً يستحق مواريثهم.
وأما الناصر وابن العم فلا يجوز أن يكونا مراده؛ لأن ذلك معلوم ضرورة؛ فلا يجوز من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يجمع الناس في مثل ذلك المقام العظيم الكبير ويقفهم على الرمضاء - في الحر الشديد - ثم يعلمهم بما هم عالموه ويخبرهم بما هم متيقنوه، وإذا لم يصح أن يكون مراده صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً من هذه الأقسام علمنا أن مراده منها ما بقي منها مما هو واجب له على العباد، ويصح أن يوجبه لمن أراد، ولم يبق كما ترى غير قسمين وهما: الأولى، والسيد المطاع]؛ ولأن عمر قد صرح بذلك وعلم معنى التفضيل ومزية الاختصاص بما قدمنا ذكره، ولأن الخبر في الصحاح قد وردت منه قطعه تفيد معنى ولاية التصرف لأهل البيت باتباعهم ووجوب طاعتهم، وأنه لا نجاة إلا بالتمسك بهم، وعلي عليه السلام سيد أهل البيت ورأسهم مما جاء فيهم من ذكر صفوة، وأحتسب أنا قد قدمنا ذكره من صحيح أبي داود، ومن صحيح مسلم، ومن الجمع بين الصحيحين للحميدي والترمذي، وهو ما رواه عن زيد بن أرقم أنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطيباً بماء يدعى خماًّ بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: ((أما بعد أيها الناس، فإنما أنا بشر مثلكم يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم الثقلين أولها كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به -فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي)) فأوصى بكتاب الله دفعة وبأهل بيته ثلاثاً لتأكيد الحق وامتثال الأمر، وعلي رأس أهل البيت، والإجماع منعقد على أنه لا أمر لأحد منهم مع أمره، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((حبلان ممدودان لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)) ثم نعى إليهم صلوات الله عليه وعلى آله وسلم نفسه، فكان الخبر وصية في آخر العمل لا يصح نسخها، ويجب امتثالها، فرحم الله من نظر بعين فكره، وتوسم بمقتضى دليل عقله وعقل ما يعقله العالمون
من براهين ربه وشريف آثار سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا قد تقررت لك قواعد الخبر وظهرت فلنذكر ما يؤيد ما ذهبنا إليه من كون علي عليه السلام أولى بالأمر من سائر الصحابة رضي الله عنهم لأنه بلغنا أن زيدية الناجية قد كان بعضهم يذهب مذهب المعتزلة وهو يعلم أو لا يعلم؛ والجهل لا يكون عذراً في الاعتقاد الفاسد، فأردنا تبيين منهاج الرشد، ونكشف وجه الحق، ?لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ?، ونذكر ما تيسر من الآثار على وجه الاختصار معراة عن التعليل وترتيب وجه الدليل، ونكل العاقل في ذلك إلى نفسه وما تيسر له من توفيق ربه، ومن الله سبحانه نستمد الهداية في البداية والنهاية.
ومن (الجمع بين الصحاح الستة) لرزين في الجزء الثالث ثلاثة في ثلثه الآخر في باب مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام .
ومن صحيح أبي داود وهو كتاب (السنن)، وصحيح الترمذي بالإسناد إلى زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)).
ومن (صحيح مسلم) في الجزء الرابع منه من أجزاء ستة في آخر الكراس الثانية من أوله بإسناده إلى يزيد بن حباب قال: انطلقت أنا وحسين بن سيرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم، فلما جلسنا إليه قال حصين: لقد رأيت يا زيد خيراً كثيراً، رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسمعت حديثه، وغزوت معه وصليت، لقد أوتيت يا زيد خيراً، حدثنا يا زيد ما سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا بن أخي والله لقد كبر سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما حدثتكم فاقبلوه، وما لا فلا تكلفونيه ثم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً فينا خطيباً بماءٍ يدعى خماًّ0 بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال: ((أما بعد.أيها الناس، إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه النور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به - فحث على كتاب الله ورغب فيه - ثم قال: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي)) فقال حصن: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ فقال: نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده.
ومن ذلك ما ذكره في مسند ابن حنبل رفعه إلى أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)) ثم رفعه بإسناده إلى سعد بن أبي وقاص وزاد فيه ((أو ما ترضى)) فكانت هذه الإشارة تفيد الولاية والشركة في الأمر، ولأنه استثنى النبوة، ورفعه من طريق أخرى إلى سعيد بن المسيب، عن سعد، ورفعه بإسناده إلى مصعب بن سعد إلا أنه أبدل مكان ((أو ما ترضى)) بغير واو، ورفعه إلى سعيد بن إبراهيم، عن سعد ولم يرو الواو، ورفعه إلى عائشة بنت سعد، عن سعد، ورفعه بإسناده إلى أسماء بنت عميس مثله واستثنى النبوة، ورفعه بإسناده إلى سعد بن مالك مثله إلا أنه زاد فيه أن المسرة لما خامرت قلبه بما ساق الله من فضله خلافة النبوة، وأشركه في تصرف أعمال النبوة، ورجع يسعى فرأيت غبار قدميه تصدع، ورفعه بإسناده إلى عامر بن سعد عن أبيه سعد إلا أنه -الراوي- قال: أحببت أن أشافه بذلك، فلقيته فذكرت له ما ذكر لي عامر قال: فوضع أصبعيه في أذنيه فقال: سكَّتا إن لم أكن سمعته من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورفعه بإسناده بطريق أخرى إلى أسماء بنت عميس، ورفعه بإسناده إلى سعيد بن زيد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنه لم يذكر فيه سوى النبوة.
ومن (صحيح البخاري) من الجزء الخامس بإسناده إلى مصعب بن سعد عن أبيه سعد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى تبوك فاستخلف عليا عليه السلام فقال: أتخلفوني في الصبيان والنساء؟ فقال: ((ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس نبي بعدي)).
وبإسناده بطريق أخرى إلى مصعب مثله في الجزء الرابع من صحيح البخاري أيضاً على حدة رفعه بإسناده إلى إبراهيم بن سعد مثله ولم يذكر سوى النبوة.
ومن (صحيح مسلم) من الجزء الرابع رفعه بإسناده إلى عامر بن سعد عن أبيه مثله، وذكر سوى النبوة وذكر أنه شافه سعد بن أبي وقاص برواية عامر فقال: سمعته بهاتين وإلا فسكَّتا، ورفعه بإسناده إلى مصعب بن سعد مثله سواءً سواء بغير زيادة ولا نقصان فيه سوى النبوة، وذكر من رواية أخرى رفعها إلى إبراهيم بن سعد عن أبيه سعد مثله ولم يذكر سوى النبوة.
ومن (صحيح مسلم) من الجزء الرابع من أوله في مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بإسناده إلى عامر بن سعد عن أبيه، وذكر الخبر واستثنى النبوة، وذكر مشافهة سعد، وذكر أن سعداً ترك أصبعيه في أذنيه وقال: نعم وإلا فسكَّتا، وبإسناده عن مصعب بن سعد عن أبيه سعد واستثنى النبوة، ورواه بإسناده إلى عامر بن سعد عن أبيه عن سعد أن معاوية أمر إليه ما منعك من سب أبي تراب؟ فقال: أما ما ذكرت، له ثلاث قالهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلن أسبه، لئن يكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول له وقد خلفه في بعض مغازيه. قال علي: يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)) وسمعته يقول له يوم خيبر: ((لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله))، فتطاولنا لها فقال: ((ادعوا لي علياًّ)) فأتي به أرمد العين فبصق في عينيه ودفع الراية إليه ففتح الله على يديه.
ولما نزلت هذه الآية: ?نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ?[آل عمران:61] دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياًّ وفاطمة وحسناً وحسيناً وقال: ((اللهم هؤلاء أهل بيتي)) وقد تكرر حديث خيبر في الصحاح.
وما ذكرنا في الكتب الظاهرة في أيدي الأمة دونما يرويه آباؤنا سلام الله عليهم وأشياعهم رضي الله عنهم فقلت فيه أبياتاً أحببت إيداعها هذا المكان لأن راية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ردت مهزومة حتى كاد من لا بصيرة له ييأس من الفتح، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قال من الخير، فقلت في ذلك:
لكنهم جهلوا والجهل ضرار
والخيل تعبر والأبطال فرار
خواطر من بني الدنيا وأفكار
صبحاً وقد شخصت في ذاك أبصار
إذ كان في عينه ضر وإعوار
فكان فتح وباقي القوم صدار
وريحه المسك لم يقصصه عطار
قد عرفوا طرق التقديم لو عرفوا
ساروا برايته فاسترجعوا هربا
حتى إذا سد وجه الفتح أو فلجت
نادى أبا حسنٍ موفي مواعده
فجاء كالليث يمشي خلف قائده
فقال خذها وصمم يا أبا حسنٍ
فمج فيها بريق عمه عسل
ومن (مسند ابن حنبل) بإسناده رفعه إلى الحارث بن حصين عن القاسم عن رجل من جعشم عن أسماء بنت عميس تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((اللهم أقول كما قال أخي موسى: اللهم اجعل لي وزيراً من أهلي، علياًّ أخي، اشدد به أزري، وأشركه في أمري، كي نسبحك كثيرا، ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا)).
فهذا كما ترى تصريح بما ذكرنا أولاً من أن المراد بنزوله عليه السلام منه صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة هارون من موسى الخلافة في القوم، والشركة في الأمر بالنصح الصريح، فاستغنيت عن التعليل فأي كشف أجلى من هذا.
ومن (مناقب الفقيه ابن المغازلي الشافعي) بإسناده رفعه ابن عباس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يا أيها الناس من آذى علياًّ فقد آذاني إن علياًّ أولكم إيماناً، وأوفاكم بعهد الله، أيها الناس من آذى علياً بعث يوم القيامة يهودياً أو نصرانياً، فقال جابر بن عبدالله الأنصاري: يا رسول الله وإن شهد أن لا إله إلا الله وأنك محمداً رسول الله. فقال: يا جابر كلمة يحتجزون بها ألا تسفك دماؤهم وأموالهم فإن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)) وقد تضمن هذا الخبر أنه عليه السلام أول الناس إيماناً، وقد تواترت به الآثار والنقل الصحيح من غير طريق لو فصلناه لطال به الشرح، وصرح أنه أوفى الجميع بعهد الله تعالى وكانت هذه إشارة إلى أنه أولى بالأمة؛ لأن الله سبحانه قد ذكرها بلفظ العهد في قوله تعالى لإبراهيم : ?إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ?[البقرة:124]، فجعل الإمامة عهدا فهو أوفى بأمانة الله سبحانه، وتضمن الخبر أن من آذى عليا فقد آذاه، وقد ثبت أن أذاه كفر بالإجماع، وقد صرح في آخر الخبر بأنه يحشر يوم القيامة يهوديا أو نصرانياً ولا يحشر بهذه الصفة إلا المشركين، فما ضنك بمن حاربه وأجرى سبه على فروق المنابر وفي محاريب المساجد فما يكون إثمه عند الله غداً بعد خبر الصادق المصدوق.
وبإسناده رفعه إلى جابر بن عبدالله الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم الحديبية وهو آخذ بضبع علي بن أبي طالب وقال: ((هذا أمير البررة، وقاتل الفجرة، منصور من نصره، مخذول من خذله -ثم مد صوته- أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب)) فتضمن هذا الخبر معنى الإمامة، ثم أفاد معنى الأمانة بذكر العلم، وأنه لا دخول لأحد إليه إلا من طريق علي عليه السلام قد نهى الله سبحانه عن إتيان البيوت من ظهورها وأمر بإتيانها من أبوابها، فإذا المتصل بالرسول غير علي عليه السلام قد أتى البيوت من حيث نهي عن إتيانها، وكان هذا إشارة تؤيد ما قدمنا من الدلالة على أنه الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلا فصل.
ومنه رفعه بإسناده عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنما مثل علي في هذه الأمة مثل قل هو الله أحد في القرآن)).
فتأمل هذا الخبر فهو مفيد جداً؛ لأن قل هو الله أحد سورة الإخلاص فإذا الإخلاص بوده، وفيه معنى التوحيد ولفظه وكانت الإمامة له وحده دون غيره، وفيه معنى الإمامة من لغة العرب وهو ما ذكر في تفسير الصمد أنه السيد المصمود إليه، وهو أولى من قول من قال: هو ما لا جوف له لو كان جسماً لكان محدثاً وهو تعالى قديم، وقد قال الشاعر:
بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
ألا بكر الناعي بخبر بني أسد
ومن كتاب (الفردوس) لابن شيرويه الديلمي ذكره في قافية الواو، ورفعه بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ?وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ?[الصافات:24] عن ولاية علي بن أبي طالب عليه السلام، نسأل الله تعالى الثبات في الأمر، حتى إذا سئلنا قلنا: أنزلناه حيث أنزلته أنت ورسولك، وقدمناه على الجميع كما قدمته، وحيث شكر تقديمك فتقدم في المواضع التي زاغت فيها الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وظن قوم بالله الظنون، وابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً في بدر وخيبر وحنين؛ فلو عدلنا به عن معنى الإمامة وتقدم الرئاسة فأجرنا والحال هذه لا تنطيا قول عنترة العبسي:
وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
لا أم لي إن كان ذاك ولا أب
وإذا تكون كريهة أدعى لها
هذا وحقكم الصغار بعينه
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((اللهم، أدر الحق مع علي حيث دار)) وقد علمنا إجابة دعوته، ومن قوله : إنه أولى بالأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يخالف في أحد من العلماء، فإذا الحق في دعواه فلا يجوز تعديه إلى غيره والحال هذه.
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يدخل الجنة إلا من جاء بجواز من علي بن أبي طالب عليه السلام)) وإذا كان هذا هكذا كان تقديمه واجباً واعتقاد ولايته على الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مثل علي في هذه الأمة مثل الوالد)) فهذه إشارة قوية إلى وجوب إمامته على الكافة؛ إذ هو بمنزلة الوالد للصحابة وهو خير الأمة، فإذا طاعته على الجميع واجبة، وتضمن ذلك معنى الإمامة لمن تأمله بعين النصف ولم يركب متن العناد في دفع الحجة.
وحديث الراية يوم خيبر رواه ابن حنبل في مسنده، رواه بإسناده إلى عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: كان أبي يسمر مع [علي] عليه السلام، وكان يلبس ثياب الصيف في الشتاء، وثياب الشتاء في الصيف، فقيل: لو سألته عن هذا فسأله عن هذا فقال: صدق [إن] رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث إليّ وأنا أرمد العين يوم خيبر فقلت: يا رسول الله إني أرمد فتفل في عيني وقال: ((اللهم أذهب عنه الحر والقر والبرد)) [هكذا في الحديث، وكان القر أعظم البرد أو أعاد ذكره للتأكيد قال عليه السلام]: فما وجدت حراً أو برداً. قال: وقال: ((لأبعثن رجلاً يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله ليس بفرار)) قال: فتشرف لها الناس فبعث علياًّ عليه السلام، ورفعه بإسناده إلى أبي سعيد الخدري إلا أنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الراية فهزها وقال: ((من يأخذها بحقها. فجاء فلان فقال: امض، ثم جاء آخر فقال: امض، ثم قال: والذي كرم وجه محمد لأعطينها، ثم سرد الخبر.
ورفعه بإسناده إلى عبدالله بن بريدة عن أبيه بريدة وذكر طرفاً من حديث خيبر إلا أنه قال: فأعطي اللواء أبا بكر فانصرف ولم يفتح، وأصاب الناس يومئذ شدة وجهد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم ذكر الخبر بطوله، وزاد فيه: قال بريدة: أنا ممن تطاول لها يعني الراية.
ورفعه بإسناده إلى أبي هريرة وذكر الحديث من أوله كما ذكرنا إلا أنه قال: قال عمر: وما أحببت الإمارة قبل يومئذ فتطاولت لها واستشرفت رجاء أن يدفعها إلي، فلما كان الغد دعا علياً فدفعها إليه، وزاد فيه قائل: ولا تلتفت حتى يفتح عليك، ورواه بطريق أخرى عن أبي بريدة وزاد في حديثه هذا قتال علي ومرحب وارتجازه وقتل علي إياه.
ورواه بإسناده إلى سهل بن سعد عن أبيه وذكر الحديث بطوله إلا أنه زاد فيه قول علي عليه السلام: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا.
ورفعه بإسناده من طريق أخرى إلى أبي هريرة وذكر وزاد في اللفظ ما لا يخرجه عن المعنى الأول، ورفعه من طريق أخرى إلى أبي سعيد الخدري إلا أنه جعل مكان قوله: ((إمط)) ((امض))، ورفعه بإسناده من طريق أخرى إلى أبي هريرة وروى الحديث.
ورفعه بإسناده من طريق أخرى إلى عبد الرحمن بن أبي ليلى وذكر الحديث،ولم يخالف في ألفاظه خلافاً يجب إفراده بالذكر إلا أنه قال: ((اللهم اكفه أذى الحر والبرد)).
ورفعه بإسناده إلى سعد بن أبي وقاص، وذكر إعطاءه الراية في أربع خلال ذكر منها تيقناً ثلاثاً ونسي واحدة، ذكر فيها حديث الغدير والمنزلة والراية يوم خيبر.
ورفعه عن أبي هريرة بطريق أخرى ووسع في لفظ الخبر.
ومن (صحيح البخاري) في آخر الجزء الثالث منه رفعه بإسناده إلى سلمة بن الأكوع قال: كان علي عليه السلام تخلف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خيبر، وكان به رمد، فقال: أتخلف عن رسول الله فخرج علي فلحق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما كان مساء تلك الليلة التي فتحها في صباحها فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لأعطين الراية أو ليأخذن [غداً] رجل يحبه الله ورسوله أو قال: يحب الله ورسوله يفتح عليه)) فإذا نحن بعلي وما نرجوه، فقال: هذا علي، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففتح الله عليه.
ومن الجزء المذكور أيضاً بالإسناد المتقدم، ورفعه إلى سهل وزاد فيه بعد قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله)) فبات الناس يدكون دكا- معناه يختلطون اختلاطاً، ذكره ابن فارس في المجمل- ليلتهم أيهم يعطى فغدو يرجونه فقال: ((أين علي؟ )) فقالوا: يشتكي عينيه ودعا له فبرئ كأن لم يكن به وجع فقال: أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ثم سرد الحكاية ونص الخبر.
ومن (الجزء الرابع) أيضاً في ثلثه الأخير في باب مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام بالإسناد المقدم، وذكر الخبر وزاد فيه قال: قال عمر: توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو عنه راضٍ، وقال لعلي: ((أنت مني وأنا منك)).
ورفعه بإسناده إلى سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه))، قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلهم يرجو أن يعطاها فقال: ((أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: يشتكي عينيه يا رسول الله. قال: فأرسلوا فأتي به فلما جاء بصق في عينيه ودعا له فبرئ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال علي: يارسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ قال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه فوالله لئن يهد الله بك رجلاً واحداً خير لك أن يكون لك حمر النعم)) .
وبإسناده المتقدم ذكره رفعه بطريق أخرى إلى سلمة بن الأكوع ثم ذكر الحديث بطوله.
ومن (الجزء الخامس) من (صحيح البخاري) بإسناده رفعه إلى سلمة ثم سرد الخبر، ورفعه بإسناده إلى سهل بن سعد وذكر الحديث بطوله.
ومن (صحيح مسلم) من الجزء الرابع بإسناده إلى عمر بن الخطاب بعد قتل عامر: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي بن أبي طالب وهو أرمد فقال: ((لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله))، قال: فأتيت علياً فجئت به أقوده وهو أرمد حتى أتيت به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبصق في عينيه فبرئ فأعطاه الراية، فخرج مرحب وقال:
شاكي السلاح بطل مجرب
قد علمت خيبر أني مرحب
إذا الحروب أقبلت تلهب
فقال علي عليه السلام:
كليث غاب كريه المنظرة
أنا الذي سمتني أمي حيدرة
أوفيهم بالصاع كيل السندرة
وضرب رأس مرحب فقتله ثم كان الفتح على يديه.
وبإسناده إلى عكرمة بن عمار وذكر الحديث بطوله ورفعه إلى ابن عباس بالإسناد والخبر طويل، وفي آخر كراس من الجزء المذكور أيضاً من صحيح مسلم بإسناده المقدم ورفعه إلى أبي هريرة، وذكر الحديث بطوله إلا أنه قال: سار علي يسعى ووقف ولم يلتفت فصرخ: يا رسول الله على ما ذا أقاتل الناس؟ قال: ((قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)).
ومثله رفعه أيضاً برواية أخرى وذكر الحديث بطوله، ولم يذكر اختلاف لفظ يخل بمعناه، ورفعه بإسناده إلى سلمة بن الأكوع وروى نحواً مما تقدم.
ومن (تفسير الثعلبي) في معنى قوله تعالى: ?وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا?[الفتح:20]، قال: وذلك في فتح خيبر رفعه بإسناده قال: حصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل خيبر حتى أصابتنا مخمصة شديدة، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعطى اللواء عمر بن الخطاب ونهض من نهض معه من الناس ولقوا أهل خيبر فانكشف عمر وأصحابه ورجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحيبة أصحابه ونحيبتهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس، فأخذ أبو بكر راية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم نهض يقاتل ثم رجع، فأخذها عمر فقاتل ثم رجع، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((أما والله لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يأخذها عنوة)) وليس ثم علي، فلما كان الغد تطاول لها أبو بكر وعمر ورجال من قريش رجاء كل واحد منهم أن يكون صاحب ذلك، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابن الأكوع إلى علي فدعاه فجاءه على بعير له حتى أناخ بالقرب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو أرمد، وقد غطت عيناه بشقة برد قطري، قال سلمة: فجئت به أقوده -ولفظ هذا الحديث يدل أن عمر قاده بعض المسافة وسلمة بعضها- قال: فأتيت به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مالك؟ فقال: أرمد. قال: ادن مني)) فدنى منه فتفل في عينيه فما يشتكي وجعهما بعد حتى مضى لسبيله، ثم أعطاه الراية فنهض بالراية وعليه حلة أرجوان قد أخرج كميها فأتى مدينة خيبر فخرج مرحب وعليه مغفر مصفر وحجر قد نعته مثل البيضة وهو يرتجز ويقول:
شاكي السلاح بطل مجرب
وإذا الحروب أقبلت تلهب
قد علمت خيبر أني مرحب
أطعن أحيانا وحينًا أضرب
وكان حماي كالحمى لا يقرب
ونزل علي صلوات الله عليه فقال:
كليث غاب شديد القسورة
أنا الذي سمتني [أمي]حيدرة
أكيلهم بالسيف كيل السندرة
فاختلفا ضربتين فبادره علي بصوته ففر الحجر والمغفر وفلق رأسه حتى أخذ السيف في الأضراس وأخذ المدينة وكان الفتح على يديه.
وقد رواه ابن المغازلي الفقيه الشافعي في مناقبه بأسانيد كثيرة وطرق جمة، وقال في بعض ذلك: لما ولدت فاطمة بنت أسد رحمة الله عليها علياًّ عليه السلام سمته : أسداً بأبيها، فلما قدم أبو طالب كره ذلك فسماه علياًّ، فلما ارتجز علي عليه السلام ذكر ما سمته به أمه، وحيدرة من أسماء الأسد والسندرة شجرة يعمل منها القسي يحتمل أن يعمل منها مكاييل جائزة، أو تكون السندرة امرأة تكيل كيلاً وافياً فمثل به، وقد قيل يسار العيدان ذكره في مناقبه بزيادات مفيدة وهي لمن طلبها بحمد الله موجودة وميلنا إلى الاختصار.
ومن (الجمع بين الصحاح الستة) لأبي الحسن رزين من الثالث في ذكر غزوة خيبر من صحيح الترمذي رفعه بإسناده إلى سلمة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي عليه السلام وهو أرمد فقال: ((لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله))، وتلا الخبر بطوله.
وفيه بالإسناد المتقدم رفعه إلى سهل بن سعد عن أبيه وذكر الخبر، فقد رأيت هذه الآثار وما فيها من الدلالة القوية، والفضيلة العظيمة والقطع على المغيب، وأن البائن منه علي عليه السلام مثل الظاهر، وأنه الآخذ صفوة الفوز العظيم؛ لأنه تعالى ذكر في آخر آية البشرى: ?فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ?[التوبة:111]، فما بعد ذلك من ملتمس، وقد نطق القرآن بلفظ المحبة، فقال تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ?[الصف:4]، وكان أثبت البنيان قياماً، وأصدق الفرسان صداماً، ثم ذكر تعالى بصفة أخرى في قوم نكلوا عن الجهاد، أو خيف منهم ذلك: ?فَسَوْفَ يَأْتِ اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ?[المائدة:54]، ثم كشف ذلك في تمام الآية بقوله تعالى: ?يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ?[المائدة:54]، فإذا تقرر ذلك وقد علمنا أن أحداً لا يبلغ إلى منزلته في الجهاد ولا كاد، ولو لم يكن قد ورد نص في تفضيله والثناء عليه من الله ورسوله مصرحاً لاستدللنا على فضله وتقديمه على الجميع بتقدمه في الجهاد وعنايته في الدين، وكيف وقد صرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمحبته لله وبمحبة الله له.
ومما يزدك بياناً وهداية إن شاء الله أن خصال الفضل والكمال إنما تكون بالقرابة من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فخرت العرب على العجم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفخرت قريش على العرب بقربها منه صلى الله عليه وآله وسلم، وكان أهله أولى بذلك.
وعلي عليه السلام بإجماع الأهل وإطباق العلماء معهم على ذلك أفضل الكل،ومن ذلك التقدم في الإسلام، وقد سبق طرف من الحديث فيه.
ومن ذلك الجهاد فقد قدمنا ما يدل عليه وهو ظاهر، ومن ذلك العلم فهو باب مدينته وزلفى القيام بالحوض فهو من السقاة عليه وولديه، ومن ذلك الشفاعة فله صفوها.
روينا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لأهل بيته: ((لن يبلغوا الخير حتى يحبوكم لله ولقرابتي أيرجو سلهب شفاعتي ويُحرَمها بنو عبد المطلب)) سلهب حي من أحياء مراد؛ فكيف ينبغي تأخير من هذه صفته لولم يرد النص بإمامته، ولا نطق القرآن بولايته، فنسأل الله الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، فكيف أثار الأخوة والخلافة والوزارة والشركة في الأمر والإرث وقضاء الدين وإنفاذ المواعيد ورد الودائع.
ومن (مسند ابن حنبل) بإسناده إلى عبد المؤمن عن أبي المغيرة عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: طلبني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوجدني في حائط نائماً فضربني برجله وقال: ((قم والله لأرضينك أنت أخي وأبو ولدي تقاتل على سنتي من مات على عهدي فهو في كنف الله ومن مات على عهدك فقد قضى نحبه، ومن مات بحبك بعد موتك يختم الله له بالأمن والإيمان ما طلعت شمس أو غربت)) وبطريق ذكر فيها سليمان بن الربيع وزاد في آخره: ((علي أخي وصاحب لوائي)) والأخ عند المنصف أولى من الصاحب، وصاحب اللواء الناس تبعه ونفسه نفسه بدليل خبر المباهلة الذي أطبق أهل النقل عليه وولده ولده،وخرجت الزوجات من إطلاق لفظ النساء بإخراجه فاطمة عليها السلام وحدها دون زوجاته رضي الله عنهن، وكم من آية يمرون عليها وهم عنها معرضون، وما يعقلها إلا العالمون.
وحديث سورة براءة وما كان منها، والكلمات الخمس بعدها وإذا كانت نفس علي نفسه فكيف يجوز لنفس أن تقدم على نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن (مسند ابن حنبل) حديث الأبواب الذي كانت إلى المسجد وسدها قال يوماً: ((سدوا هذه الأبواب إلا باب علي))، فتكلم في ذلك ناس قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((أما بعد فإني أمرت بسد هذه الأبواب غير باب علي -عليه السلام- فقال فيه قائلكم: والله ما سددت شيئاً ولا فتحته ولكني أمرت بشيء فاتبعته))، ثم كرره بأسانيده ثلاثاً أو أربعاً، في بعضه زيادات من قول أبي بكر وعمر والعباس ، وكل ذلك دليل على مزية الاختصاص توجب الإقرار بالتقديم؛ لأنه لا ينبغي للأمة أن تخرج من أدخله الله ورسوله وميزه على الكافة من خلاصة أصحابه رضي الله عنهم.
ومن (مناقب الفقيه ابن المغازلي) رواه بإسناده إلى عدي بن ثابت قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسجد فقال: ((إن الله أوحى إلى نبيه موسى أن ابنِ مسجداً طاهراً لا يسكنه إلا موسى وهارون وأبناء هارون، وإن الله أوحى إلي أن ابنِ مسجداً طاهراً لا يسكنه إلا أنا وعلي وأبناء علي)) وقد رأيت المشابهة بين علي وهارون في هذا الخبر وفضله السكنى له دون البشر، وقد رواه بطرقه، وميلنا إلى الاختصار إلا أنه قال في بعض أحاديثه: ((فمن ساءه فهاهنا)) وأومأ بيده نحو الشام، يريد أن من كره ذلك فليبصر إلى إشارة إلى عظيم الإنكار تفضيل الله له، وقد أدخله حيث دخل وأدخله حيث دخل، وباهل به إذ باهل، وقرنه بنفسه في المؤاخاة، وهذا دليل على القطع على الباطل وصلاح المغيب، فمن أولى منه بالأمر لولا العصبية والحمية ودفع الآية الجليلة .
وقد ذكر الثعلبي حديث وفد نجران في قصة المباهلة، وذكر الحديث بطوله وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج محتضناً للحسين وآخذاً بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعلي خلفهما وهو يقول: إذا دعوت فأمنوا. فقال اسقف نجران: يا معشر النصارى إني أرى وجوهاً لو سأل الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله فلا تبتهلوا ولا يبق على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة. فقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا أنا لا نلاعنك ونثبت على ديننا وأنت على دينك وأعطوه الصلح في كل عام ألفي حلة نصف في رجب ونصف في صفر، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((والذي نفسي بيده إن العذاب قد تدلى على أهل نجران لو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم الوادي عليهم ناراً ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر)).
ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى هلكوا فقال الله تعالى: ?إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ?[آل عمران:62]، فإن تولوا وأعرضوا عن الإيمان فإن الله عليم بالمفسدين.
ورواه ابن المغازلي الفقيه الشافعي الواسطي رواه بإسناده عن جابر بن عبدالله الأنصاري، إلا أنه ذكر في أول الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لهما: ((أسلما . قالا: يا محمد أسلمنا قبلك. قال صلى الله عليه وآله وسلم : كذبتما)) ثم دعاهما إلى الملاعنة وذكر الحكاية.
ومن (مسند ابن حنبل) رفعه بإسناده إلى عمران بن حصين قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية فأمر علياًّ فأُحْدِثَ شيء في سفره قال عمران: فتعاقد أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يذكروا أمره لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال عمران: وكنا إذا قدمنا من سفر بدأنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسلمنا عليه، فدخلوا عليه فقام رجل منهم فقال: يا رسول الله إن علياًّ فعل كذا وكذا، فأعرض عنه، ثم قام الثاني فقال كذلك، فأعرض عنه، ثم قام الثالث فأعرض عنه، ثم قام الرابع فقال: يا رسول الله إن علياًّ فعل كذا وكذا ، قال: فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد تغير وجهه وقال: ((ادع علياًّ إن علياًّ مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن ومؤمنة بعدي)).
وبإسناده رفعه إلى حبشي بن جنادة السلوي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((علي مني وأنا منه ولا يؤدي علي إلا أنا أو علي)).
وروى بطرقه ورجاله رفعه إلى سلمان الفارسي قال: سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله عز وجل قبل أن يخلق آدم بأربعة وعشرين ألف عام، فلما خلق الله آدم قسم ذلك النور جزأين فجزء أنا وجزء علي)).
وقد ذكر من طريق ابن المغازلي رفعه بإسناده لفظ الخبر وزاد فيه: حتى افترقنا من صلب عبد المطلب ففي النبوة وفي علي الخلافة، ومثله ذكره في كتاب (الفردوس) لابن شيرويه الديلمي مثله سواء، فإذا كان قسيمه والمخلوق معه من نور ربه وشريكه في نسبه وسنته، فكيف ينبغي لمعدم أن يقدم على من قدمه، وهل كرم ذي كرم يساوي شرفه وكرمه هيهات هيهات، لعل ما بقي غير ما فات، ما آمن بالله من جحد رسله، ولا صدق رسوله من أنكر قوله وعمله.
وصحح التقوى ونعم المؤدب
ثواكلها ذو الطب والتطيب
فنعم ولياً لي الأمر من بعد وليه
ونعم طبيب الداء من أمر أمه
وما يتقون من أبي حسن شبيه هارون إذا شفعوا، وأخي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ قربوه، والصابر في مواطن الموت إذ نكلوا، فانظر رحمك الله ما للآخر الذي بعده مما قرب منه غيره، أو أوجب تأخره عما استولى عليه سواه؛ فإذا كان الدليل لا يتبع، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يسمع، فإلى أين المرجع، وأين المفزع، فنسأل الله تعالى توفيقاً يقود إلى الهدى من طلبه، ورشداً يصل نسبنا نسبه، وأن يجعل البراهين مالكة زمام أمرنا، والآثار النبوية هاديتنا في اجتلاب نفعنا، واستكفاء شرنا، فإن شر النفوس أعظم الشرور، والإعراض عن الأدلة النافعة -نعوذ بالله منه- مفتاح البور.
[ إمامة الحسن والحسين ]
فهذا ما أمكن على وجه الاختصار من إمامة أمير المؤمنين عليه السلام وتقديمه باستحقاق الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلا فصل، فإذا قد فرغنا من ذلك فلنتكلم في إمامة الحسن والحسين عليهما السلام، والدليل في ذلك قوله تعالى في إبراهيم عليه السلام: ?إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ?[البقرة:124]، وقد وقع الإجماع من علماء الأمة على إجابة دعوة إبراهيم عليه السلام، فإن قوله تعالى: ?لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ? استثناء لإخراج الظالمين بعد إجابة الدعوة، فقد جعل الله الإمامة لمن لم يدخل في زمرة الظالمين من ولد إبراهيم، ولم تقع العصمة فيمن علمنا من ولد إسماعيل إلا لمحمد وعلي وفاطمة وابنيها سلام الله عليهم أجمعين .
فإذا قد صحت الإمامة لهم بدعوة إبراهيم على القطع عليه السلام شفعنا ذلك بقوله تعالى: ?وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ?[الطور:21]، وهما سلام الله عليهما ممن آمن أهلها واتباعهم بإيمان فلحقا بهم، وقد استحق أبواهما محمد وعلي سلام الله عليهما الإمامة، فلما شركهما هذان في شروط الإمامة استحقاقها لحقا بهما في استحقاقها والقيام بها، فقد قاما سلام الله عليهما؛ ومما يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا وأبوهما خير منهما)) وهذا الخبر مما تلقته الأمة بالقبول وبلغ حد التواتر فصح الاحتجاج به، وهذا نص صريح في إمامتهما عليهما السلام، وإشارة قوية إلى إمامة أبيهما؛ إذ لا أحد خير من الإمام إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد ثبت أن علياًّ عليه السلام لا يستحق النبوة فبقيت الإمامة بطريقة الأولى.
وقد روينا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في كل واحد منهما: ((إن ابني هذا سيد)) والسيد إذا أطلق أفاد الإمامة، فإذا أضيف أفاد ما أضيف إليه، ولهذا يقال: هذا سيد هذا العبد، وهذه الأمة وهؤلاء القوم تفيد المالك للتصرف فيهم، فإذا أطلق أفاد التصرف في الكافة وهو معنى الإمامة، ولأن الأمة أطبقت على إمامتهما إلا من لا يعتد به (الحشوية) الذين لم يفصلوا بين الخلافة والملك، فهم ساقطون عند المحصلين من الأمة، إذ المعلوم من رجال العلماء في الطبقات الأولى، والعصور المتوسطة والمتأخرين، إخراج المتغلبين من الظلمة عن استحقاق الإمامة بمجرد الغلبة.
هذا أبو حنيفة رحمة الله عليه كتب إلى محمد بن عبدالله عليه السلام أما بعد..فإذا أظهرك الله على آل عيسى بن موسى فسر فيهم سيرة أبيك في أهل صفين فإنه قتل المدبر، وأجهز على الجريح، ولا تسر فيهم سيرته في أهل الجمل، فإنه لم يقتل المدبر، ولا يجهز على الجريح، فوجد الكتاب فكتمه أبو جعفر حتى انقضت حرب إبراهيم وسكن الناس فأشخصه إلى بغداد فسقي شربة بسمٍّ فمات منها فهو شهيد في حياة أهل البيت، وقام عليه رجل فقال: يا أبا حنيفة ما ابتغيت الله في فتواك أخي بالخروج مع إبراهيم بن عبد الله فقتل؟ فقال : قتل أخيك مع إبراهيم خير له من الحياة. قال: فما منعك أنت من الخروج؟ قال: ودائع للناس عندي.
وسأله رجل في تلك الأيام عن الحج والخروج إلى إبراهيم عليه السلام فقال: غزوة خير من خمسين حجة.
وممن خرج مع إبراهيم عليه السلام، طبقات أهل الحديث في عصره: شعبة بن الحجاج، وهشام بن سيرة، وعباد بن العوام، ويزيد بن هارون في آخرين وميلنا إلى الاختصار.
وقيل لمالك بن أنس رحمه الله تعالى: إن في أعناقنا لأبي جعفر يميناً، وقد دعا محمد بن عبد الله فما ترى؟ فقال: ففروا إليه إنكم حلفتم مكرهين وليس على مكره يمين.
وللشافعي محمد بن إدريس رضي الله عنه مشهور القيام والدعاء إلى يحيى بن عبدالله عليه السلام في أربعة عشر فقيهاً منهم: مخول بن إبراهيم، وعبد ربه بن علقمة، وسعيد بن حبيبي، وفليت بن إسماعيل ومرادنا الاختصار.
فهؤلاء فقهاء الأمصار كما ترى لا يرون إمامة لظالم لنفسه ولا لغيره، ولا بإطلاق الاسم عليه في الدعوة المجابة، وإنما يذهب إلى إمامة من لا يستحقها من أخذ الدنيا بالدين ولا خلاق له في الآخرة، فلا يعد خلافهم خلافاً وإن كبرت جماعتهم، فهذا هو الكلام في إمامتهما عليهما السلام على وجه الاختصار .
[ الإمامة مقصورة في ذرية الحسنين ]
وإذا قد فرغنا من الكلام في إمامتهما فلنتكلم في أن الإمامة مقصورة في ذريتهما من سار سيرتهما، وهدى وسلك منهاجهما، وجمع خصال الفضل التي يصلح معها لتقويم أمر الأمة وسياستهما.
الدليل على ذلك قوله تعالى: ?وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ?[الحج:78]، ووجه الاستدلال لهذه الآية أن هذا أمرٌ والأمر يقتضي الوجوب.
أما أنه أمر فظاهر لأن فيه صيغته وشرطه، وأما أن الأمر يقتضي الوجوب لقوله تعالى: ?فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ?[النور:63]، والوعيد لا يقع إلا في ترك الواجب، فإن قيل: هذا عام في ولد إبراهيم عليه وعليهم السلام . قلنا: المعلوم ضرورة أن اليهود والنصارى لا يرادون بذلك؛ لأنهم أعداء الإسلام فهم ممن أمر الصالح بجهادهم، وبقي المسلمون من قريش وغيرهم من ولد إبراهيم داخلون تحته، فإن قيل: الجهاد يلزم والمسلمون من ولد إبراهيم جميعاً. قلنا: الجهاد لا يقع بالناس فرضاً لأن الإجماع قد انعقد أن لا بد من رئيس لكل جيش محارب، فيتضمن وجوب المجاهدة ووجوب نصب الإمام، فإذا قد وجب نصب الإمام منهم، وقد قال قائل: هي في قريش وخالفهم العترة بالمنع من ذلك، وأجمعوا معهم في جواز الإمامة فيهم، فقد وقع التسليم فيهم والنزاع في غيرهم، وكانت الإمامة فيهم بالإجماع الذي أكد الدلالة؛ لأن الناس في الأمة على ثلاثة أقوال: منهم من جعلها في الناس كلهم وهم الخوارج، فمن أجازها في الناس كلهم فقد أجازها في ولد الحسن والحسين؛ إذ هم من الناس بل من خيرهم.
ومن الناس من جعلها في قريش وهم المعتزلة ومن قال بقولهم، ومن أجازها في قريش فقد أجازها في ولد الحسن والحسين؛ إذ هم من قريش بل من خيرهم.
ومن أجازها في ولد الحسن والحسين أخذ بالإجماع، وتنكب سبيل أهل الخلاف وذلك بعد بطلان قول أصحاب النص، والدليل على بطلان قولهم أن التعبد بالإمامة عام ودعواهم في النص خاص، والتكليف بما لا يعلم أقبح من التكليف بما لا يطاق، والتكليف بما لا يطاق قبيح، والله تعالى لا يفعل القبيح، أما أنه لا يفعله فلعلمه بقبحه وغناه عنه وعلمه باستغنائه عنه، وأما أن التكليف بما لا يطاق قبيح فمعلوم ضرورة، فلو كان النص صحيحاً لوجب ظهوره بحيث يعلمه الكافة ولا سبيل إلى ادعاء علمه فضلاً عن وقوعه إذ يستحيل على وجود ما لم يوجد.
ومن (تفسير الثعلبي) بإسناده عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد عليهما السلام قال: نحن حبل الله الذي قال تعالى: ?وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا?[آل عمران:103] وروايته مقبولة.
ومن (مناقب الفقيه ابن المغازلي) رفعه إلى أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنما مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق)) وهذا الخبر أيضاً مما تلقته الأمة بالقبول فصح أن يحتج به، وإذا قد علمنا أن أمة نوح كلها هلكت إلا من ركب السفينة، فكذلك هذه الأمة إلا من تمسك بالعترة، وجب على الأمة الرجوع إليهم، وإذا لم يكن الرجوع إليهم عموماً فليقع إلى الصالح، ولا بد للصالحين من إمام يكون هو والمفزع إليه والمرجع والكل كالمضاف إليه.
ومما يزيد ذلك وضوحاً ما رويناه من حديث الثقلين، وقد ورد ذلك من طرق شتى وصح تواتره، وقد روي في الصحاح وغيرها من الكتب المأثورة والنقل المقبولة عند الأمة.
وقد روينا بالإسناد الموثوق به إلى أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: اعلموا أيها الناس أن العلم الذي أنزل الله تعالى على الأنبياء من قبلكم في عترة نبيكم فأين يتاه بكم عن أمر تنوسخ من أصلاب أصحاب السفينة هؤلاء مثلها فيكم، وهم كالكهف لأصحاب الكهف، وهم باب السلم فادخلوا في السلم كافة، وهم باب حطة من دخله غفر له، خذوا عني عن خاتم المرسلين، حجة من ذي حجة، قالها في حجة الوداع: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)).
فقد رأيت أيدك الله ما تضمن هذا الخبر من وجوب المبايعة لهم، والانقياد لأمرهم، والتمسك بهم، فإذا كان هذا في عمومهم، فهو في خصوصهم وأعيانهم، وأئمتهم أولى بطريقة الأولى وهي أقوى معتمد في الشرعيات، والإمامة شرعية فتفهم ذلك موفقاً إن شاء الله تعالى.
[ اختلاف الناس في الإمامة وحكم من تقدم ]
وقد جاءنا سؤال فيما تقدم عن بعض ما نحن بصدده فأجبنا على وجه الاختصار، ورأينا أن نورد إليك المسألة مجردة لعل الله ينفع بها وهي هذه:
سألت أيدك الله عن اختلاف الناس في الإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتقدم من تقدم على علي بن أبي طالب عليه السلام.
اعلم أن الأمة مختلفة في الإمامة، فمنهم من أثبتها في أعيان مخصوصة في النص في أهل بيت النبوة عليهم السلام وهم الإمامية ومن حذى حذوهم، وهم مختلفون في أصل النص، وفي صورته، وكيفيته اختلافاً كثيراً، ومنهم من اعتبر منصباً مخصوصاً وهم الزيدية والمعتزلة.
فقالت الزيدية: هي في ولد الحسن والحسين عليهما السلام بشرائط، واختلفوا في طريقها، فقالت الزيدية: طريقها الدعوة، وقالت المعتزلة: طريقها العقد ولم يختلفوا في الشرائط.
وذهبت الخوارج إلى أن الإمامة في الناس كلهم ما صلحوا لذلك، عربهم وعجمهم في ذلك سواء وطابقهم النظام في طوائف.
فهذا أصل الاختلاف في الإمامة وله فروع يطول شرحها ولا يمكن في الحال ذكرها.
ومذهبنا أنها في ولد الحسن والحسين عليهما السلام محصورة، والدليل على ذلك أنها شرعية فدليلها شرعي وهو الإجماع على جوازها فيهم، وعدم الإجماع على جوازها فيمن سواهم فوجب حصرها فيهم.
وقول أهل النص باطلٌ لأنه غير معلوم، والتعبد بالإمامة عام فلو صح لعلم، ولا تجوز الإمامة في الناس كلهم؛ لأنه لا دليل عليه وما لا دليل عليه لا يكون مذهباً صحيحاً لأن المذهب دعوى فلا يصح بغير دليل.
وأما الإمامة في علي عليه السلام فهي ثابتة بالنص فيه وفي ولديه عليهم السلام ، والنص عليهم معلوم، والأمة بين محتج به ومتأول له، وتقدم من تقدم على علي عليه السلام من جملة الأحداث بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي أخطأ راكبها، ولسنا نعلم قدر عقوبة ذلك الخطأ عند الله سبحانه؛ لأن الخطيئة الكبيرة قد تصغر بقدر عظم صاحبها وتقدم إحسانه، كما نعلم من إقالة أهل الكرامة الهفوات والعثرات، والتجاوز عنهم من فارط السيئات بخلاف من لا حق له ولا مكان.
وقد كان المتقدم على علي عليه السلام من أعظم الناس على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد أهل بيته حقاً، وأقفاهم لآثاره، وهم خلة أصحابه وخيارهم ومنهم صاحبه وناصره، ومنهم ظهره ولهم حرمة، وقد أقدموا على ما لم يوسع لهم في ارتكابه ولا قام لهم دليل بجوازه، فإن عفا الله عنهم فأهل العفو وهم أقمن الناس به، وإن عاقبهم فما ربك بظلام للعبيد .
فهذا ما عندنا في هذه المسألة مجملاً فتفهمها موفقاً، فقد رأينا أن نجعل لك هذه المسألة كالأصل لما بعده، ولا يمكن أحد أن تصح دعواه على أحد من سلفنا الصالح عليهم السلام أنهم نالوا من الصحابة رضي الله عنهم أو سبوهم، بل يعتقدون فيهم أنهم قبل الإحداث أنهم خير خلق الله بعد محمد وعلي وولديهما صلوات الله عليهم وعلى الطيبين من آلهم، ويقولون قد أخطئوا بالتقدم على علي عليه السلام وعصوا بذلك معصية قدرها إلى الله سبحانه والخطأ لا يبرأ منه إلا الله تعالى، وقد عصى آدم ربه فغوى؛ فإن حاسبهم فبذنب قدموه، وإن عفا عنهم فهو أهل العفو وهم يستحقون بحميد سوابقهم، ولا يعدلون بعلي عليه السلام أحداً لأدلة تواترت عندهم لم نحب إيراد شيء منها؛ لأنا ألزمنا نفوسنا أن لا نحتج على الأمة إلا بنقلها وما هو موجود بين ظهرانيها، ثم ذكرنا من الموجود عندها القليل من الكثير، وضوء البارق يشير بالنوء المطير.
من ذلك حديث البساط رواه ابن المغازلي الفقيه الشافعي الواسطي في مناقبه،رويناه عنه ورفعه بإسناده إلى أنس بن مالك قال: أهدي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بساط من خزف فقال لي: ((يا أنس ابسطه فبسطته، ثم قال: ادع العشرة. فدعوتهم، فلما دخلوا أمرهم بالجلوس على البساط، ثم دعا علياًّ فناجاه طويلاً، ثم رجع، ثم جلس على البساط، ثم قال: ياريح احملنا. فحملنا الريح قال: فإذا البساط يدف بنا دفاً، ثم قال: يا ريح ضعينا، ثم قال: تدرون في أي مكان أنتم؟ قلنا: لا. قال: هذا موضع أصحاب الكهف والرقيم قوموا فسلموا على إخوانكم. قال: فقمنا رجلاً رجلاً فسلمنا عليهم، فلم يردوا علينا السلام، فقام علي بن أبي طالبٍ عليهم السلام فقال: السلام عليكم معاشر الصديقين والشهداء. فقالوا: عليك السلام ورحمة الله وبركاته قال: فقلت: مالهم ردوا عليك ولم يردوا علينا فقال لهم علي: ما بالكم لا تردوا على أصحابي؟ فقالوا: إنا معاشر الصديقين والشهداء لا نكلم بعد الموت إلا نبياً أو وصياً. قال: يا ريح احملينا فحملتنا تدف بنا دفاً. قال: يا ريح ضعينا. فإذا نحن بالحرة، قال: فقال علي: ندرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في آخر ركعة، فطوينا وأتينا وإذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في آخر ركعة: ?أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا?[الكهف:9]، فتأمل معنى هذا الحديث ما أعجبه وأغربه.
ومنها حديث السطل روينا عنه رفعه بإسناده إلى أنس أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر وعمر: ((امضيا إلى علي حتى يحدثكما ما كان في ليلته، وأنا على إثركما، قال أنس: فمضيا ومضيت معهما فاستأذن أبو بكر وعمر على علي. فخرج عليهما فقال أبو بكر: حدث أمر؟ قال: لا وما حدث إلا خير قال لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولعمر: امضيا إلى علي يحدثكما ما كان منه في ليلته، وجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا علي حدثهما ما كان منك في ليلتك. قال: أستحي يا رسول الله. فقال: حدثهما إن الله لا يستحي من الحق، فقال علي: أردت الماء للطهارة وأصبحت وخفت أن تفوتني الصلاة فوجهت الحسن طريق والحسين في طريق في طلب الماء فأبطئا علي فأحزنني ذلك، فرأيت السقف قد انشق، ونزل علي منه سطل مغطى بمنديل، فلما صار في الأرض نحيت المنديل عنه، فإذا فيه ماء فتطهرت للصلاة، واغتسلت، وصليت، ثم ارتفع السطل والمنديل، والتأم السقف. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: أما السطل فمن الجنة، وأما الماء فمن نهر الكوثر، وأما المنديل فمن إستبرق الجنة من مثلك يا علي في ليلته وجبريل يخدمه)).
ومنها حديث الشمس رفعه إلى فاطمة بنت الحسين عن أسماء بنت عميس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوحى إليه ورأسه في حجر علي فلم يصل العصر حتى غربت الشمس، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن كان علي في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس))، فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعدما غربت.
وقد روي هذا الحديث بطرق منها رفع إلى أبي رافع وغيره وذكر في آخره الحديث، فقام فصلى العصر فلما قضى صلاته غابت الشمس فإذا النجوم مشتبكة.
ومنها حديث القضيب رويناه عنه، ورفعه بإسناده إلى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أحب أن يستمسك بالقضيب الياقوت الأحمر الذي غرسه الله في جنة عدن فليتمسك بحب علي بن أبي طالب)).
وقد روي بطريق أخرى، وإنما ميلنا إلى الاختصار للتنبيه والهداية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ومنها حديث الوصية، رويناه عنه، رفعه بإسناده إلى عمار، قال: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((أوصي من آمن بي وصدقني بولاية علي بن أبي طالب، فمن تولاه فقد تولاني، ومن تولاني فقد تولى الله عز وجل، ومن أحبه فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أبغضه فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله عز وجل))، فانظر رحمك الله هل كان معاوية تولاه أم عاداه أم أحبه أم أبغضه؟.
ومنها مسألة الغنى، رويناه عنه، ورفعه بإسناده إلى يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن يحيى عن عمه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((اللهم إني أسألك غناي وغنى مولاي من بعدي - يعني ابن عمه -)) والمراد بذلك غنى التقوى، وقد كان ذلك لم يفتقرا مع التقوى إلى شيء.
ومنها حديث الكوكب، رويناه عنه، ورواه بإسناده إلى ثابت وأنس قال: انقض كوكب على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله: ((انظروا إلى هذا الكوكب فمن انقض في داره فهو الخليفة من بعدي))، فنظروا فإذا هو قد انقض في منزل علي، فأنزل الله تعالى: ?وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى?[النجم:1، 2، 3، 4].
فهذا كما ترى مجة من لجة، وقطرة من مطرة، ولو أردنا الاستقصاء لطال الشرح واتسع الميدان، ولكنا نورد ما نرجو أن يكون نافعاً لمن نظر بعين البصيرة، ولم يملك زمامه الهوى، ولم يستسلم للحيرة المردية.
وكما قد وقع لك الإرهاص في حق علي عليه السلام فلنذكر طرفاً مما يتعلق بالذرية الزكية، والعترة المرضية، إذ ذلك من مرادنا، وأصل اعتقادنا، تأكيداً لما تقدم مما نصبنا عليه الأدلة في أمرهم وفي أن الإمامة فيهم، ونرجو من الله التوفيق والإعانة على الهداية والإثابة.
فمن ذلك ما رويناه في باب تختموا بالعقيق، رويناه عنه، ورفعه إلى كثير بن زيد قال: دخل الأعمش على المنصور وهو جالس للمظالم؛ فلما بصر به قال له: يا سليمان تصدر. فقال: أنا صدر حيث جلست، ثم قال: حدثني الصادق قال: حدثني الباقر قال: حدثني السجاد قال: حدثني الشهيد قال: حدثني التقي وهو الوصي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام قال: حدثني النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((أتاني جبريل عليه السلام آنفاً فقال: تختموا بالعقيق فإنه أول حجر شهد لله بالوحدانية ولي بالنبوة ولعلي بالوصية ولولديه بالإمامة ولشيعته بالجنة))، فقال: فاستدار الناس بوجوههم نحوه فقيل له: تذكر قوماً فتعلم من لا يعلم فقال: الصادق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، والباقر بن محمد بن علي بن الحسين، والسجاد علي بن الحسين، والشهيد الحسين بن علي، والوصي وهو التقي علي بن أبي طالبٍ.
ورويناه عنه، ورفعه بإسناده إلى أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً لا حساب عليهم))، ثم التفت إلى علي عليه السلام فقال: ((هم شيعتك وأنت إمامهم)).
ومن مسند ابن حنبل في معنى قوله تعالى: ?إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا?[الأحزاب:33] رفعه إلى واثلة بن الأسقع قال: كان عنده قوم فذكروا علياً عليه السلام فشتموه فشتمته معهم، فلما قاموا قال لي: شتمت هذا الرجل. قال: رأيت القوم يشتمونه فشتمته معهم. قال: ألا أخبرك بما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قلت: بلى. قال: أتيت فاطمة أسألها عن علي عليه السلام فقالت: توجه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فجلست أنتظر حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجلس ومعه علي وحسن وحسين آخذاً كل واحدٍ منهما بيده حتى دخل، فأتى علياًّ وفاطمة فأجلسهما بين يديه وأجلس حسناً وحسيناً كل واحدٍ منهما على فخذه، ثم لف عليهما ثوبه، أو قال: كساءه، ثم تلا هذه الآية: ?إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا?[الأحزاب:33]، ثم قال: ((اللهم هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي أحق)).
وبإسناده رفعه إلى أم سلمة قالت: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيتي يوماً إذ قال للخادم: ((إن علياًّ وفاطمة عليهما السلام في الشدة قالت قال لي: قومي فتنحي عن أهل بيتي قالت: فقمت فتنحيت في البيت قريباً، فدخل علي وفاطمة، والحسن والحسين عليهما السلام وهما صبيان صغيران قالت: فأخذ الصبيين فوضعهما في حجره فقبَّلهما، واعتنق علياًّ بإحدى يديه وفاطمة باليد الأخرى وقبل فاطمة وأردف عليهم خميصة سوداء وقال: اللهم إليك لا إلى النار أنا وأهل بيتي، قلت: وأنا يا رسول الله، قال: وأنت)).
ومن (مسند بن حنبل) مثله إلا أنها قالت: وأنا في الحجرة أصلي، فأنزل الله تعالى هذه الآية: ?إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا?[الأحزاب:33]، قالت: فأخذ فضل الكساء فكساهم به، ثم أخرج يده فألوى بها إلى السماء وقال: ((اللهم هؤلاء من أهل بيتي وخاصتي اللهم فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، قالت: فأدخلت رأسي البيت وقلت: وأنا معكم يا رسول الله، قال: ((إنك إلى خير إنك على خير)).
وبإسناده روى مثله إلا أنه زاد في آخره قالت أم سلمة: فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه من بين يدي. وقال: إنك على خير.
وبإسناده رفعه مثله بالثبات مثله رفعه إلى وائلة وذكر طرفاً من حديث الحسين بن علي عليه السلام يوم أتي برأسه إلى الشام وسرد الحديث.
وبإسناده رفعه إلى ابن عباس أدرجه في حديث طويل فيه ذكر الغدير والراية ومثله رواه وسرده.
ومن (صحيح البخاري) في الجزء الرابع منه، ومن (صحيح مسلم) في الجزء الرابع منه أيضاً، وفي آخر البخاري من ثمانية في جميع المصنف، وأخرى مسلم من ستة وهذا من المتفق عليه فيهما، رفعه البخاري إلى الشيخ الإمام أبي بكر عبدالله بن منصور بن عمران الباقلاني المقرئ صدر الجامع بواسط العراق.
ورواه أيضاً من طريق الشيخ العدل الثقة أبي جعفر إقبال بن المبارك بن محمد السكوني رفعه إلى الشيخ مسلم بن الحجاج العنتري النيسابوري المصنف، رفع بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت عائشة: خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله ثم قال: ((إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)).
ومن (تفسير الثعلبي) رويناه عنه، ورفعه بإسناده إلى سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباته عن علي بن أبي طالب [عن النبي] صلى الله عليه وآله وسلم قال:((في الجنة لؤلؤتان إلى بطنان العرش أحدهما بيضاء والأخرى صفراء في كل واحدة منهما سبعون ألف غرفة أبوابها وأكوابها من عرق واحد، فالبيضاء لمحمد وأهل بيته والصفراء لإبراهيم وأهل بيته)) .
ومن تفسيره أيضاً بإسناده رفعه إلى أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((نزلت هذه الآية في خمسة: فيّ، وفي علي، وفي حسن، وحسين، وفاطمة، ?إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا?[الأحزاب:33] فهل من بعد هذا من تصريح وإشكال.
وبإسناده رفعه إلى إسماعيل بن عبد الله بن جعفر قال: لما نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرحمة هابطة من السماء قال: ((من يدعو أمرين؟ قالت: زينب أنا يا رسول الله. قال: ادعي علياًّ وفاطمة والحسن والحسين، قال: فجعل حسنا عن يمينه وحسينا عن شماله وعليا وفاطمة تجاهه، ثم غشاهم كساءً خيبرياً وقال: اللهم، لكل نبي أهل وهؤلاء أهل بيتي فأنزل الله عز وجل: ?إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا?[الأحزاب:33]، قالت زينب: يا رسول الله، ألا أدخل معكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مكانك فإنك إلى خير)) .
وقد روي هذا الحديث بأسانيد كثيرة وألفاظ متقاربة كلها تمت إلى معنى واحد، وقد رفعه بإسناده على وجه آخر عن أبي داود عن أبي الحمراء قال: أقمت بالمدينة سبعة أشهر كيوم واحد، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجيء كل غداة فيقوم على باب علي وفاطمة عليهما السلام، فيقول: الصلاة ?إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا?[الأحزاب:33]، فهذا نهاية التأكيد لمن كان له بصيرة.
ومن (الجمع بين الصحيحين) للحميدي رفعه إلى القاضي الأجل العالم أبي الفتح نصر بن علي بن منصور الباقلاني، رفعه إلى أبي علي السلامي البغدادي عن أبي عبدالله محمد بن أبي نصر الحميدي المصنف، وروى ما رويناه عن عائشة سواء سواء ليس فيه زيادة، وليس لمصعب بن سلمة عن صفته عن مسند عائشة من الصحيح غير هذا من الجمع بين الصحاح الستة: موطأ مالك بن أنس الأصبحي، وصحيح مسلم والبخاري، وسنن أبي داود السجستاني، وصحيح الترمذي، والفسحة الكبيرة من صحيح النسائي، جمع الشيخ أبي الحسن رزين بن معاوية العبدري السرفسطي الأندلسي.
ومن طريق أبي جعفر المبارك بن المبارك بن أحمد بن زريق الحداد إليه أيضاً، وبإسناده أيضاً في الجزء الثاني من أجزاء ثلاثة في تفسير سورة الأحزاب من صحيح أبي داود السجستاني وهو كتاب السنن في تفسير قوله تعالى: ?إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا?[الأحزاب:33]، قالت عائشة: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليه مرط مرجل من شعر أسود، فجاء الحسن فأدخله وجاء الحسين فأدخله، وجاءت فاطمة فأدخلها، [ثم جاء علي فأدخله]، ثم قال: ?إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا?[الأحزاب:33].
وعن أم سلمة أن هذه الآية نزلت في بيتها ?إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا?[الأحزاب:33] قالت: وأنا جالسة عند الباب فقلت: يا رسول الله ألست من أهل البيت؟ فقال: ((إنك إلى خير إنك من أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)).
وقد تكرر هذا الحديث من جهات شتى وألفاظ متقاربة ومتباعدة تمت إلى معنى واحد في تفسير هذه الآية، ويدل على أنه قد وقع مرات متقاربة تأكيداً لأن في بعضها ثوبه، وفي بعضها كساء، وفي بعضها برداء، وبعضها عن عائشة، وبعضها عن أم سلمة، وبعضها عن زينب رحمة الله عليهن، وبعضها عن وائلة، وبعضها عن مروره صلى الله عليه وآله وسلم على منزلهم، كل ذلك يفيد تأكيد الأمر في ثبوت عصمتهم؛ لأن الآية إن حملت على التطهير من رجس الأدران كما يكون في سائر الناس، فذلك لم يكن لهم، بل كان ينجسهم ما ينجس الناس، ويقع منهم من الأمور ما يقع من الناس، فلم يبق إلا التنزه من أسباب المعاصي وأنواعها وإلا خرجت الآية عن الفائدة ولا يجوز ذلك في كلام الحكيم سبحانه فتفهم ذلك موفقاً؛ فإذا صح لهم من نص الله سبحانه ومن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما روي في الصحاح وغيرها من الكتب المبسوطة في أيدي الأمة خارجاً عما روته الشيعة والأئمة السابقون من العترة عليهم السلام ، كل ذلك تحرياً بما يكون أقرب إلى الملاءمة بين هذه الأمة لعل الله سبحانه يرأب صدعها، ويلم شعثها، ويرفع أسباب الفرقة عنها، فأثبتناها بما لا يمكنها دفعه من كتاب الله سبحانه، والصحاح التي قطعت الأمة عن إخراجها بصحتها، وكفرت من أنكرها وردها، فلم نرَ الاحتجاج عليها بشيء لا تعرفه،، ولا بما نقلها خصمها من الشيعة المحدودين على هذه العترة المجفوة المغلوبة على حقها المستأثر عليها بفيئها، المخصوص بيتها بما قال فيه الشاعر:
طال علواً على الفرقد
بيت تقاصر عنه البيوت
فهذا مما تقرر في سورة الأحزاب. فلنذكر ما تقرر في معنى آية سورة حم وهي قوله تعالى: ?قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى?[الشورى:23].
ومن (مسند ابن حنبل) رويناه عنه، ورفعه بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما نزلت: ?قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى?[الشورى:23]، قالوا: يا رسول الله، من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: ((علي وفاطمة وابناهما عليهم السلام)).
ومن (صحيح البخاري) بإسناده من الجزء السادس من صحيح البخاري على حد كراستين ونصف من أوله في تفسير قوله تعالى: ?قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى?[الشورى:23]، قال: حدثني محمد بن يسار، قال: حدثني محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن طاووس، عن ابن عباس رضي الله عنه أنه سئل عن قوله تعالى: ?إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى?[الشورى:23]، قال سعيد بن جبير: قربى آل محمد صلوات الله عليهم.
ومن (صحيح مسلم) بإسناده موضعه من الجزء الخامس قال: وسئل في أوله رفعه إلى ابن عباس في تفسير الآية قال: هي قربى آل محمد صلوات الله عليهم.
ومن (تفسير الثعلبي) في قوله تعالى: ?قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى?[الشورى:23] بإسناده قال: اختلفوا في قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين أمر الله تعالى بمودتهم، فأخبرني الحسين بن محمد الثقفي العدل، رفعه إلى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه لما نزلت ?قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى?[الشورى:23]، قالوا : يا رسول الله، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟قال: ((علي وفاطمة وابنيهما صلوات الله عليهم أجمعين وسلامه)) قال ودليل هذا التأويل ما رواه بإسناده، ورفعه إلى علي بن أبي طالب عليه السلام قال: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حسد الناس لي فقال: ((ما ترضى أن تكون رابع أربعة، أول ما يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين، وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا، وذريتنا خلف أزواجنا، وشيعتنا من خلف ذريتنا)).
ورفع إلى أبي حاتم عن أبي هريرة قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم فقال: ((أنا حرب لمن حاربتم، وسلم لمن سالمتم)) فليت شعري هل علمت الأمة هذا الحديث فهو في نقلها أو لا؟ وإذ علمت هل علمت أن معاوية وولده حاربهم أم لا؟
وبإسناده إلى السدي عن أبي الديلم قال: لما جيء بعلي بن الحسين صلوات الله عليه أسيراً فأقيم على درج دمشق، قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة، فقال له علي بن الحسين عليه السلام: أقرأت القرآن؟ قال: نعم. قال: قرأت آل حم؟ قال: نعم، قال: قرأت القرآن ولم أقرأ آل حم. قال قرأت: ?قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى?؟ قال: أأنتم هم؟ قال: نعم.
وبإسناده إلى علي بن الحسين عن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وآله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي، ومن صنع صنيعة إلى ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه غداً إذا لقيني يوم القيامة)).
وقد ذكر في تفسير الآية أقوال منها ما قدمنا، ومنها أنها في ولد عبد المطلب، ومنها أنها في الجنس من ولد عبد مناف وبني هاشم وبني المطلب، فكل واحد من هذه الأقوال لمن ذكرنا صفوه دون كدره؛ لأنهم خلاصة الخلاصة وصفوة الصفوة بلا اختلاف في ذلك.
وبإسناده إلى جرير بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من مات على حب آل محمد مات شهيداً، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائباً، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مستكمل الإيمان، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة، ثم منكر ونكير، ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العرس إلى بيت زوجها، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله زوار قبره الملائكة بالرحمة، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة)).
ومن كتاب (المصابيح) تصنيف أبي محمد الحسين بن مسعود الفراء، بإسناده عن أسامة بن زيد قال: طرقت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة في بعض الحاجات، فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو مشتمل على شيء لا أدري ما هو، فكشفه فإذا الحسن والحسين على وركيه فقال: ((هذان ابناي وابنا بنتي اللهم إني أحبهما وأحب من أحبهما)) وهذا في ذكر ذريتهما وأتباعهم .
ومن كتاب ابن المغازلي رويناه عنه، ورفعه بإسناده إلى علي بن أبي طالب عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يا علي إن شيعتنا يخرجون [من قبورهم] يوم القيامة على ما بهم من العيوب والذنوب ووجوههم كالقمر ليلة البدر، وقد فُرِّجت عنهم الشدائد، وسُهّلت لهم الموارد، وأعطوا الأمن والأمان، وارتفعت عنهم الأحزان، يخاف الناس ولا يخافون، ويحزن الناس ولا يحزنون، شرك نعالهم تتلألأ نوراً، على نوق بيض لها أجنحة، قد ذللت من غير مهانة، ونَجُبتْ من غير رياضة، أعناقها من ذهب أحمر، ألين من الحرير لكرامتهم على الله عز وجل)).
هذا في فضل أهل البيت عليهم السلام ، وفضل شيعتهم، ووجوب اتباعهم، وفوز تابعهم، بما لا يختص به غيره، فلو روينا ما روت الشيعة في ذلك بأسانيدها لطال الشرح، ولكنا نريد الوفاء بما شرطنا في أول الكتاب، وهل بعد هذا رحمك الله من مطلب، وهل بعد وضوح المنهاج من مذهب، وإذا تقررت وظهرت، واستمرت الأدلة واشتهرت، فكيف المذهب، وإلى أين المهرب، وهل تصح طاعة بغير ائتمار؟ وهل تثبت مودة مع معصية؟ قال الشاعر:
هذا محال في المقال بديع
إن المحب لمن يحب مطيع
تعصي الإله وأنت تأمل حبه
هيهات لو أحببته لأطعته
فكيف تصح دعوى ولاية آل محمد ومودتهم مع بغضهم، والتنفير عن طاعتهم، وترك الاعتماد على قولهم، ما قولكم فيمن استخان دليله، وشتم هاديه، ونابذ مرشده، ونازع نصحه، فنعوذ بالله من ضرر الفتنة، ووضوح المحنة، ومكابرة الدليل، ومعاصاة النصيح، ومخالفة الحبيب، وموالاة المضل، وإذ قد تقرر وجوب التمسك بهم تصريحاً وتمثيلاً لقرنهم بالكتاب الكريم، فكما أن الكتاب واجب الاتباع فكذلك هم، وأمّن الصادق مع ذلك من الضلال بشرط التمسك بهم وذكرهم بلفظ (لن) وهي لنفي الأبد فلا خوف مع ذلك، وجعلهم بمنزلة سفينة نوح، ومعلوم أنها العاصمة من القاصمة، فأخبرنا بتطهيرهم وهو لا يخبر إلا بالحق، وأيد ذلك لنا رسوله بأنهم المرادون، وأُوجبت علينا محبتهم في كتابه الكريم في أول حم، وفسره لنا نبيه برفع الألباس لئلا يقع عندنا أن المراد غيرهم، وبين لنا أنهم عترته وأهل بيته، ومنع من شركهم في الأيمان يدخل معهم، وبشر بالخير لسابق فضله.
فإن كان التقليد مخلصاً فَلِمَ لا نقلدهم أمرنا؟ وإن كان الدليل متبعاً فَلِمَ لا نقبل الدليل فيهم؟ وإذا كان ذلك كذلك فكيف يحسن الظن في معاديهم؟ وقد ثبت بما تقدم عداوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاديهم، وولايته لمواليهم، وحربه لمن حاربهم، وسلمه لمن سالمهم، وما حكم مبغض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندك وقد علمت أن من أبغضهم فقد أبغضه، وما حكم مؤذيه؟ وما حكم محاربه وهل يكون ذلك كفراً أم لا؟ وهل يعلم منزلة بعد الكفر بالله في معصية تبت إن كان لك بنفسك حاجة، أو كانت لك إلى الله رجعة، فكم من هالك فيهم وناج بهم، وهل تعلم إن كنت ممن يعلم أن فعل بني أمية وبني العباس فيهم سلام الله عليهم ما يسوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو يسرُّه؟ فإن كان سره فكفاك من الدين انسلاخاً، ومن الملة خروجاً، ومن الإسلام مروقاً، وكيف تجعل قتل الذين يأمرون الناس بالقسط ديناً، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((أقرب الناس موقفاً مني يوم القيامة بعد حمزة وجعفر رجل منا أهل البيت خرج بنفسه فقاتل إماماً ظالماً فقتل)) فكيف تصوِّبُ من خطَّأه رسول الله، وتخطِّئ من صوَّبه؟! ولو كان الخروج على أئمة الظلم معصية لما عظم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حال من فعله ووعده بالقرب من مقامه المحمود، ولما أطبق علماء الأمة على تصويبه وتقوية أمره، كيف يكون هادياً للأمة ضال، ومقيم الحدود عليها محدود كما قال الشاعر:
أبو خالد تجلد الحد مسور
أيشربها صهباء كالمسك ريحها
وذلك أن مسور بن مخرمة نسب يزيداً لشرب الخمر فأُمِرَ به فَجُلِدَ الحدّ، فيا محسن الظن بيزيد أتعرف أن يزيداً إن تأهب في إنكار هذا عنه فهل يمكنك إنكار تحريم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمدينة بين عير إلى ثور وإلى كذا وكذا على اختلاف الأحاديث، ومنع الشرع فيها من قتل القنابر والعصافير والحمام واليمام، وأنواع الصيد، وقطع أغصان الشجر؛ فإن نازعت في هذا أتيناك بما رويناه بالإسناد الموثوق به في صحيح البخاري بإسناده عن إبراهيم التميمي عن أبيه قال: خطبنا علي عليه السلام فقال: ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله تعالى، وما في هذه الصحيفة. قلنا: وما في الصحيفة؟ قال: فيها الجراحات، وأسنان الإبل، والمدينة حرام ما بين عير إلى كذا؛ فمن أحدث فيها حدثاً، أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرفاً ولا عدلاً، ومن تولى غير مواليه فعليه مثل ذلك، وذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلماً فعليه مثل ذلك، فهل يقع الشك في أن قتل ستة آلاف رجل مسلم من المهاجرين وأبناء المهاجرين، والأنصار وأبناء الأنصار، ونهب المدينة ثلاثة أيام وإيطاء الخيل حوالي قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرب، ولا يختلف رجلان مسلمان بأن قتل حمامة أو عصفور حدث، وإذا حرم قطع غصن من أغصان شجرها فقطع عنق المسلم أدخل في باب التحريم.
وقد أكدنا وكررنا نريد المبالغة في الهداية والتعرض للأجر والمثوبة وذكرنا نبذاً مما تضمنه الصحاح، والثعلبي ومسند أحمد بن حنبل، وفيها ما قد علمنا وأعلمناك تنبيهاً، منها: ((علي مني وأنا منه))، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من سبك فقد سبني ومن سبني فقد سب الله تعالى))، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((حربك حربي وسلمك سلمي)) فهل علمت أيها المسلم أن معاوية خال المسلمين الذي تهافتوا في حبه، وجعلوا الخئولة عاصمة من عذاب الله سبحانه، ولم يجعلوا ولادة آزر لإبراهيم عليه السلام عاصمة فنعوذ بالله من الشقاوة .
فهل علمت أن معاوية حارب علياًّ عليه السلام أو سبه أو لم تعلم بذلك؟ فإن علمت أنه سب علياًّ أو حاربه فأفض على نفسك وعليه بما شئت من تصديق كلام الصادق صلى الله عليه وآله وسلم أو تكذيبه إن شئت أن تكتب في زمرة المكذبين، نعوذ بالله منهم.
فأما دفع هذه الآثار فلم ندع لك إليه سبيلاً؛ لأنا روينا لك من الآثار التي أنزلت الأمة صحتها منزلة صحة كتاب الله سبحانه، وجعلوها حجة لهم في أديانهم، وسبيلاً مذللاً في معالم شرعهم، فحللوا بها وحرموا، ونقضوا وأبرموا، ونعوذ بالله أن نكون من المؤمنين ببعض ومن الكافرين ببعض، ونسأله التوفيق لما يحب ويرضى، وأن يجعل لوجهه بعدنا وقربنا، وبغضنا وحبنا، وأن يحشرنا مع الصالحين.
فقد روينا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من أحب عمل قوم شرك معهم في عملهم، ومن أحب قوماً حشر معهم)) وما نقول إذا دعي كل أناس بإمامهم وجاءت الزيدية بأئمتها الذين يقضون بالحق وبه يعدلون من ذرية الصادق الأمين الذين غضبوا لله، وباعوا نفوسهم من الله بيعاً كرهوا فيه الإقالة والاستقالة، وضربوا بأسيافهم قدماً لتكون كلمة الله هي العليا وقدح الدين المعلى، فطابق أبو فراس معنى حالهم في قصيدته الميمية التي رد فيه على ابن سكرة فقال فيها :
ولا يضيعون حق الله إن حكموا
ومن بيوتكم الأوتار والنغم
لا يغضبون لغير الله إن غضبوا
تبدو التلاوة من أبياتهم أبداً
وإذا قد تقرر ذلك بالنصوص الصحيحة أن عنوان الإيمان حب علي بن أبي طالب، وأن أحداً لا يدخل إلا بجواز من علي بن أبي طالب وأنه باب دار الحكمة وباب الجنة فمن أحق بهذا الأمر من أتباعه، وقد ورد في الصحاح أن ببغضه يعرف المنافقون وبحبه يعرف المؤمنون، فكن من شيعته وأتباعه لتكون قد أخذت بالوثيقة، وتجوز على الحقيقة؛ وما يلحق بباب الزيدية في أول الرسالة أنهم ثلاث فرق: بترية، وصالحية، وجارودية، ومعظمهم الجارودية وهم أهل الحق منهم، والآخرون قد أخطئوا في بعض الاعتقاد، وإذا تقرر عندك هذا الباب فاعلم أن الشيعة قد دخل فيها من ليس منها بسبيل، وهم الذين بغضوا إلى الأمة أتباع آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فانتسبوا إليهم ليستروا بجلالهم عظم كفرهم، ويستدرجوا الأغمار إلى شركهم بسحرهم، فمنهم الغلاة وهم فرقة كبيرة لا تحتمل الرسالة تفصيل ذكرهم، وهم مراق عن الدين أعداء الكتاب وأهله، ونسبهم الباطنية وهم وإن لم يعدوا في فرق الإسلام لانسلاخهم عن الدين، وخروجهم عن الملة، واستخفافهم بالشريعة النبوية، وتعلقهم بمذهب المجوس في ارتكاب المحرمات وإباحة المحظورات، فإنا نذكرهم لانتسابهم إلى آل محمد - صلوات الله عليه وعلى آله - ومحرمهم على الغرام بأنهم متعلقون بولي آل محمد وذريتهم، وسترهم لكفرهم بالكتمان، والله عز من قائل يقول : ?وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ?[آل عمران:187]، وقال تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ?[البقرة:159،160]، فجعلوا يأخذون العهود على الكتمان،
ويلبسون الكفر بالإيمان، واستصدقوهم ومن شاكلهم في قولهم أنهم من الشيعة المتبرئين من حارب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعلوهم غرضاً لأذيتهم بغير بصيرة، فنحن إلى الله سبحانه منهم براء.
وكذلك الإمامية فإنهم يقولون في الصحابة مثل مقالتهم، إلا أن الإمامية من فرق الإسلام، وقد أخطئوا عندنا في الإمامة وفي ذم الصحابة وسبهم.
أما الباطنية: فإنهم يتأولون الشرائع ويقولون المقصود بها معاني وهي إشارة ورموز إلى غيرها.
وعندنا من أسرار كفرهم الجم الغفير، ولولا الاقتصار في هذه الرسالة لذكرناها، وإنما جملة الأمر عندهم أن من عرف تلك المعاني سقطت عنه التكاليف الشرعية ولا شيء عليه بعد معرفة الحقيقة، فإن كان تركه للعبادة الشرعية ينفر الناس عنه لزمه القيام بها لتأليف الناس، لا لكونه مصلحة في نفسها فافهم هذا، واعلم أنه التعطيل المحض، والكفر الصريح، ونجمت في الزيدية فرقة يقال لها: المطرفية بعد الخمسين والأربعمائة للتأريخ المبارك، وكثروا وليس لهم أصل مبسوط تستقر عليه حكاية مذهبهم لتراكم جملهم وأتباعهم في مقالتهم لمشائخ منهم جهَّال قلدوهم أمرهم، وأخذوا مذهبهم عنهم تلقيناً، وهم يرجعون إلى قريب من مذهب الباطنية في التعطيل؛ لأنهم ينفون عن الله تدبير خلقه وزيادته ونقصه، وربما نفوا عنه أن يكون خلق شيئاً في العالم بعد أصوله، قالوا: التي هي الماء والهواء والريح والنار، فقد جهلوا مذهب الفلاسفة، وخالفوا مذهب الإسلام، لأن الهواء والريح عند أهل التحصيل واحد، وإنما إذا تحرك الهواء كان ريحاً وإن سكن فهواء، فهؤلاء أهل الأصول من نفاة الصانع سبحانه عمَّا يقولون، يجعلون الأرض رابع العناصر والكل باطل.
ومن قولهم أنهم ينفون عن الله سبحانه إرادة حوادث العالم وربما أضافوها إليه لأنه خلق أصولها، وربما قالوا خلقها، ثم يقولون بالفطرة فإذا سألتهم قالوا: لم نقصدها ولم نردها، وربما قالوا بالإحالة وهم ينفون الأمطار والثمار والنبات والحيوانات والموت والحياة عن الله سبحانه، إلا أن منهم من يقول: هي فعله بما ذكرنا من فطرة، أو إحالة، وهم يثبتون البعث والنشور، وينكرون الصحف والميزان، والصراط، والشفاعة، والحوض، ويستبعدون ما يحكى، ويردون الآثار النبوية زادها الله جلالة وحدة من عظم ثواب الله سبحانه لأوليائه، وبما هجنوا بذلك، وسمعنا ذلك من بعضهم أنه قال: وما يريد المؤمن بألف حوراء؟ وهم يردون ظواهر كتاب الله سبحانه وينزهونه عن فعل جميع ما قدمنا، وعندنا أن ذلك ردة وكفر من قائله وأنهم إن حاربوا إمام الحق ولهم شوكة جاز قتل مقاتلهم، وسبي ذراريهم؛ وذلك لأن الأئمة وعلماء الأمة أجمعت على أن من ردَّ ظاهراً من ظواهر كتاب الله سبحانه، أو خبراً من معلومات دين نبيه صلى الله عليه وآله وسلم كفر بلا خلاف ولم يعصمه مجرد الشهادتين، لأن أكثر أهل الردة ما عطلوا شيئاً من الدين، إلا أنهم منعوا الزكاة من القائم بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقد علم من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة وجوب تسليمها إلى ولاة صاحب الأمر في الإسلام، وقال أبو بكر على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو منعوا عقالاً مما أعطوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحاربتهم عليه بمشهد الصحابة فلم ينكر عليه أحد، فكان إجماعاً وإجماعهم حجة على ما ذلك مقرر في مواضعه من أصول الفقه، فإذا قد تقرر لك ذلك والله سبحانه يقول في سورة البقرة: ?يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ?[البقرة:21، 22]، وربما أنكروا نزول القرآن وقالوا: في قلب الملك الأعلى لا يفارقه، وقد صرَّح سبحانه بنزوله في آي كثيرة منها في الآية بعد هذه الآية، وهي قوله تعالى: ?وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ?[البقرة:23]، ?وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ?[البقرة:41]، فقد رأيت امتنان الحكيم سبحانه على خلقه بما منحهم من الأرزاق، وهيَّأ لهم من الأرزاق، وأخرج من الثمرات، وأنزل من الأمطار، ونهى عن جعل الأنداد؛ لأن من أنكر ذلك فقد جعل لله سبحانه أنداداً؛ ومن جعل لله أنداداً فهو كافر بالإجماع، وصرَّح بنزول القرآن كما رأيت، وتحدّى الجاحدين لكونه من عنده بالإتيان بسورة من مثله، وقال تعالى في هذه السورة: ?وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ?[البقرة:99]، فجمع الكفر والفسق في مقابلة إنكارها.
واعلم أن القرآن الكريم مشحون بوقوع الأمطار، والرياح والغمام، والنبات والثمار، والزروع والأنهار، والحيوانات ومنافعها، والأرزاق وأجناسها من منته على خلقه وأن التناقص في الثمار والنفوس والزرع والأولاد والجدب والجوع والآلام التي هي الصوت، والفقر الذي هو البأساء، والموت منه سبحانه فذلك منه تعالى للترغيب وهذا منه سبحانه للترهيب، والقرآن ظاهر لمن أظهر التعلق بالإسلام بوجوده في جميع أقطار بلدان أهل الإيمان، ولا تخلو سورة منه عن دلالة إما تصريح وإما إشارة، ولابد إن شاء الله تعالى من كتابين كبيرين: أحدهما على الباطنية في نسف آرائها وتبيين عيبها وكفرها، والثاني على المطرفية في بيان ردتها وبغيها عمن أظهرت الانتساب إليه من أئمة الهدى، فإذا تقرر ذلك بيَّنا أحكام الفريقين في مقتضى شرع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما أطبقت عليه أئمة الهدى، وإنما خصصنا هؤلاء بالذكر لانتسابهم إلى الشيعة، وكون اعتقادهم منفراً للأمة عن اتباع الذرية الزكية، فهم عندنا من الأخسرين أعمالاً ?الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا?[الكهف:104]، وإذا قد فهمت المقصود فلنرجع إلى ذكر ما يتعلق بهذه السورة الشريفة دون غيرها من الرد عليهم، والتحقيق بالصدق لما ذكرنا، قال سبحانه مخاطباً لبني إسرائيل في نبيه عليه السلام في حال تيههم وظلمهم: ?وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ?[البقرة:57]، فلم يمنعه تعالى ظلمهم لأنفسهم من إتمام النعمة عليهم، وإصباغ أرزاقهم لبلوغ الحجة فيهم، وفي مثله قوله تعالى: ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنَ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ?[البقرة:126]، وهم ربما قالوا رزق المطيع سبحانه ولم يرزق العاصي وهذا عند عامتهم.
وأما عند أهل التحقيق فرزق العاصي والمطيع حصل بغير قصد من الله سبحانه،بل بالفطرة والإحالة والحركة، فقد رأيت اختياره سبحانه بأنه يمتع الكافر قليلاً؛ لأن متاع الدنيا قليل ثم يضطره الموت وغيره من أسباب الهلاك إلى عذاب النار؛ لأنه برزقه له وجب عليه حمده وشكره، وبكفره لا لأنه استحق النار، قال تعالى في الامتحان والبلوى في هذه السورة: ?وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ?[البقرة:155] الجوع: من أنواع الجدب، والخوف على وجهين: خوف من الله تعالى، وخوف من أعدائه وهما جميعاً في الحكم من جهته؛ لأنه لولا تعبدنا بعداوة أعدائه لم نخفهم، ولولا تعبدنا بطاعته لم نخف مخالفة أمره، ونقص من الأموال والأنفس، أنواع المال معروفة ونقصها ظاهر بالموت من حيوانها، وبتلف من جمادها، ونقص الأنفس: الموت والأمراض على أنواعها، والثمرات نقصانها بما يحدث من الآفات فيها، وكل هذا بغير حاجة منه سبحانه إليه، وإنما أراد بلوانا بالصبر لنفع يعود علينا، كما ابتلانا بالشكر لأمن يرجع إلينا فتدبَّر ذلك تصب رشدك، موفقاً إن شاء الله تعالى .
وقد كرر سبحانه ذكر الآيات في الكتاب، وما ينتفع به ذوو الألباب، فقال تعالى في هذه السورة: ?إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ?[البقرة:164]، فقد بين تعالى في هذه الآية من امتنان والاستدلال على وحدانيته بما لو شرحنا مقتضاه لما أتينا عليه إلا في كتب كبيرة، فسبحان من لا تنفد كلماته، ولا تنقطع آياته، فقد جمعت هذه الآية كثيراً مما نازعوا فيه وأنكروا، وهي صريح لا لبس فيه وهو إيجاب النظر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، وما منَّ به سبحانه من جري الفلك السيار بما ينفع الناس، والإخبار والإسرار، وما أنزل سبحانه من الأمطار، فأحيا به الأرض بما أظهر منها من الزرع والأشجار والثمار والأزهار، وما خلق من الحيوانات المختلفة الأجناس المتفاوتة الأعمار، من قول من رصدها أن الحية لا تموت حتى تقتل أو يميتها الجبار، وأن البعوضة وعمرها ثلاثة أيام، والذباب أربعون يوماً، وكل ذلك تقدير العزيز العليم، وأي وكيف كان فلا تكليف علينا فيه، وليس هذا من مقصودنا ولكنه عرض، وفي ذكر كل شيء من تقدير الحكيم سبحانه عرض وتصريف الرياح الأربع ومكافاتها التي في حكم البيع وما علق بها من المصالح والمضار، فالمصالح للاختبار، والمضار للاعتبار، والسحاب المسخر بين السماء والأرض، فسبحان من أقله ورفعه، وبسطه وقشعه، وأمطره وأقلعه، وجعل في جميع ذلك آيات لقوم يعقلون، فنسأله أن يجعلنا من العاقلين له، الراضين حكمه، وقال تعالى في توسع الرزق في هذه السورة الشريفة: ?وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ
يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ?[البقرة:212]، وفيها قوله تعالى في القبض والبسط: ?وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ?[البقرة:245]، وقال تعالى في اختصاصه بفضله من يشاء من عباده في هذه السورة الشريفة قال: ?إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ?[البقرة:247]، وفي مثله قوله تعالى: ?تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ?[البقرة:253]، وذكرنا هذه الآيات لأنهم ينكرون أيضاً أن يختص الله سبحانه برحمته من يشاء وأن يفضل بعض خلقه على بعض في شيء من الأشياء؛ لأن عندهم المساواة واجبة على الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
ولما كان مقصودنا في هذه الرسالة الشافية إن شاء الله تعالى الاختصار، فلنذكر ما يتعلق بالرد على هذه الفرقة من آيات القرآن الكريم، ونعينه لك في كل سورة كما فعلنا في الأخبار.
فهذا فيما يختص بالمطرفية دون الباطنية؛ لأن الباطنية في مكنون علمهم نفي النبوة وأن القرآن ليس بكلام الله سبحانه، وإنما هو كلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم وربما رجعت المطرفية إلى قول الباطنية لأنهم يقولون: إنما النبوة فعل النبي دون أن تكون فعل الله، وقد سمعنا ذلك من بعضهم وناضرنا عليه وأخزينا وجهه فيه لله عز وجل؛ لأنا قلنا: ما فعله؟ قال: حركة وسكون، وهم يحصرون في فعل العبد في حركة وسكون. قلنا : هل النبوة أحدهما أو مجموعهما، فإن كانت حركة بطلت بالسكون، وإن كانت سكون بطلت بالحركة، وإن كانت مجموعهما تضادت ولا يجوز ذلك، وإن كان كل فعله وكله لا يجتمع لأن الآخر يأتي بعد الأول، وإن كان حكم فعله فلا يتم إلا بعد الموت، ونبوته في حال حياته صلى الله عليه وآله وسلم وإلا كان كاذباً في دعواه، وإن كان ما مضى فقد بطلت نبوته وهو حي لاستحالة بقاء ما مضى فعله، وإن كان ما بقي فلم يحصل بعد وهو يدعي النبوة ناس غير واقع.
وهذه إشارة نستدل بها على غيرها، ونعمل في ذلك كما عملنا في الأخبار، بيَّنا لك مواضعها دون الإتيان على جميع ذكرها، وإنما نذكر الجميع في الكتاب الذي وعدنا به إن شاء الله تعالى.
واعلم أن الظواهر التي أنكرتها المطرفية أربعمائة آية وخمسة وثلاثون آية، لا تحتمل التأويل، ولا تفتقر إلى ضرب من الاستخراج والتعليل، لو أن أمة من الأمم جحدت آية منها لقضى أهل العلم بكفرها وردتها، ووجب على الأمة قتالها وحل سبيها، فما ظنك بأئمة الهدى، كيف لهذه الآيات المتظاهرات الباهرات التي لا شك عند أحد في صدقها وصدق من جاء بها، فإذا شئت تعيين مواضعها ففي سورة البقرة إحدى وعشرون، وفي سورة آل عمران ثمان آيات، وفي سورة النساء ثمان، وفي سورة المائدة تسع، وفي سورة الأنعام ثلاث عشرة، وفي سورة الأعراف تسع عشرة، وفي سورة الأنفال اثنتان، وفي سورة التوبة آية، وفي سورة يونس ست آيات، وفي سورة هود آيتان، وفي سورة يوسف عليه السلام آية، وفي سورة إبراهيم عليه السلام ست آيات، وفي سورة الحجر ثمان آيات، وفي سورة النحل سبع وعشرون آية، وفي سورة بني إسرائيل سبع عشرة آية، وفي سورة الكهف خمس آيات، وفي سورة مريم آية، وفي سورة طه ثمان آيات، وفي سورة الأنبياء عليهم السلام أربع آيات، وفي سورة الحج خمس آيات، وفي سورة المؤمنين عشر آيات، وفي سورة الفرقان ثلاث عشرة آية، ومن سورة الشعراء تسع آيات، ومن سورة النمل إحدى عشرة آية، ومن سورة العنكبوت إحدى عشرة آية، وفي سورة الروم ثمان آيات، وفي سورة لقمان تسع آيات، وفي سورة سجدة الجرز ثمان آيات، وفي سورة الأحزاب آية، وفي سورة سبأ ست آيات، وفي سورة الملائكة عليهم السلام ثمان آيات، وفي سورة يس تسع آيات، وفي الصافات ست آيات، وفي سورة ص ثلاث، وفي سورة الزمر إحدى عشرة آية، وفي سورة المؤمن ثلاث آيات، وفي سورة حم السجدة تسع آيات، وفي سورة حم عسق تسع آيات، وفي سورة الزخرف تسع آيات، وفي سورة الدخان آيتان، وفي سورة الجاثية خمس آيات، وفي سورة الأحقاف أربع، وفي سورة محمد عليه وآله السلام آيتان، وفي سورة الفتح آية، وفي سورة الحجرات آية، وفي سورة ق ست آيات، وفي الذاريات آية،
وفي الطور ثلاث آيات، وفي النجم ست آيات، وفي سورة القمر آية، وفي سورة الرحمن آية، وفي سورة الواقعة ثمان آيات، وفي سورة الحديد ثلاث آيات، وفي سورة المجادلة آية، وفي سورة الحشر آية، وفي سورة الجمعة آية، وفي سورة التغابن آية، وفي سورة الطلاق آيتان، وفي سورة الملك ثلاث آيات، وفي سورة نون أربع آيات، وفي سورة الحآقة ثلاث آيات، وفي سورة الجن آيتان، وفي سورة المزمل آيتان، وفي سورة المدثر آية، وفي سورة القيامة خمس آيات، وفي سورة هل أتى آية، وفي سورة المرسلات سبع آيات، وفي سورة النبأ أربع آيات، وفي سورة النازعات ثلاث، وفي سورة عبس خمس آيات، وفي سورة كورت آيتان، وفي سورة انفطرت آيتان، وفي سورة المطففين آيتان، وفي سورة انشقت آيتان، وفي سورة البروج آيتان، وفي سورة الطارق آية، وفي سبح آية، وفي سورة الفجر آيتان، وفي سورة القدر آية، وفي سورة القارعة آية.
والأمة قد أجمعت على تكفير من ردَّ خبراً من أخبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المعلومة التي لا تجهل التأويل وراد الآية التي هذا حالها أدخل في باب الكفر، فما ظنك بمن ردَّ ما ذكرنا من الآيات الشريفة، على أنا لم نذكر الآيات المتكررة للتأكيد بمعنى واحد، بل اكتفينا بالآية الواحدة عما يجانسها، وإذا تأملت كتاب الله سبحانه علمت ذلك.
فأما لو ذكرنا ما يفتقر إلى التعليل والاستدلال ويستخرج بالتدريج والاستنباط، ويوصل إلى العلم بالنسج على هذا المنوال لكان ذلك الجم الغفير ولما تعرت صورة واحدة عن آيات جمة، ولكنا أردنا أن يعلم المستبصر العلة التي لأجلها قطعنا بردتهم وأخرجناهم عن دائرة الزيدية بل عن دائرة المسلمين، وعلى أنا نلزمه عدة آيات وهم ينكرون نزول القرآن كما قدمنا الحكاية.
ولما كثرت عشرتنا لهم، علمنا من حالهم أنهم ينكرون مذهبهم في حال، ويظهرونه في حال، ويرون ذلك قبالة وحزماً، ويرون بجواز الكذب في نصرة دينهم وقوة مذهبهم، ودفع الضرر عنهم وعن أحوالهم، ولا يستمر إنكارهم، بل ربما ينكرون في المقام تحمية الجدال، فيناظرك مناظرة شديدة على تحقيق ما أنكره.
والنسبة إلى زيد بن علي عليه السلام تقتضي مطابقته؛ فإذا كان الأمر كذلك ذكرنا لك فصلاً نرويه بالإسناد الموثوق به إلى أبي عيشان الأزدي قال: دخل علينا زيد بن علي الشام أيام هشام بن عبد الملك فما رأيت رجلاً كان أعلم بكتاب الله منه، ولقد حبسه هشام خمسة أشهر يقصُّ علينا ونحن معه في الحبس تفسير الحمد وسورة البقرة يهذُّ ذلك هذاًّ، وذكر القرآن فقال فيه: واعلموا - رحمكم الله - أن القرآن والعمل به يهدي للتي هي أقوم، لأن الله شرفه وكرمه، ورفعه وعظَّمه، وسمَّاه روحاً ورحمة، وشفاءً وهدىً ونوراً، وقطع منه بمعجز التأليف أطماع الكائدين، وأبانه بعجيب النظم عن حيل المتكلفين، وجعله متلواً لا يملّ، مسموعاً لا تمجه الآذان، وغضاً لا يخلق على كثرة الردِّ، وعجيباً لا تنقضي عجائبه، ومفيداً لا تنفد فوائده، واعلموا رحمكم الله أن القرآن على أربعة أبواب: حرام وحلال لا يتسع بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتأويل لا يعلمه إلا الله، وهو ما يكن مما لم يكن، واعلموا رحمكم الله أن للقرآن ظهراً وبطناً وحداً ومطلعاً فظهره تنزيله، وبطنه تأويله، وحده فرائضه وأحكامه، ومطلعه ثوابه وعقابه.
فهذا هداك الله كما ترى قول زيد بن علي عليه السلام، فكيف ينتسب إليه من يخالفه في قوله وينكر ما جاء منه، وهل مدح زيد بن علي عليه السلام موجوداً أو معدوماً وفصله ونوعه، وجعله كما جعله ربه، شفاءً وهدىً، ونوراً ورحمة، وهل ينفعنا الشفاء الغائب عنَّا، ونستضيء بالنور النازح منَّا، هل هذا إلا العمى نعوذ بالله منه وما الذي نردده وهو لا يخلق على كثرة الرد، إلى غير ذلك مما بيَّنه عليه السلام في هذا الفصل، وميلنا إلى الاختصار فأردنا أن لا يغتر بمن ينتسب إلى الشيعة وليس منهم، وإلى أهل البيت عليهم السلام وهو عدوهم، وإلى الزيدية وهو لا يتبع زيداً عليه السلام ولعلي عليه السلام ولأولاده الأعلام سلام الله عليهم في مدائح القرآن ما يطول شرحه، وللقاسم بن إبراهيم عليه السلام مديحان في القرآن كبير وصغير.
فإذا سمعت من ينتسب إلى الشيعة لم تقبله على ظاهره ما لم تعرف بصحيح البرهان اعتقاده، أو يكون راجعاً إلى الهداة المهتدين من العترة الطاهرة المباركة الذين قال فيهم الفرزدق بن غالب التميمي الدارمي رحمه الله تعالى:
دين وقربهم ملجأ ومعتصم
في كل شيء ومختوم به الكلم
أو قيل من خير خلق الله قيل: هم
من معشر بغضهم كفر وحبهم
مقدم بعد ذكر الله ذكرهم
إن عُدَّ أهل التقى كانوا أئمتهم
لأنه لا تتم الصلاة إلا بذكرهم؛ لأنَّا قد بينَّا لك في الصحاح منهم، وهو بلفظ الأهل، ولا فرق بين آل محمد وأهل محمد، إلا أنهم أبدلوا الهمز من الهاء وهو جائز في لغة العرب ولهذا إذا صغر ردَّ إلى أصله وهذا حكم التصغير فتنقلب أهيل، ولا يقال أويل، وقد جعلنا لك ما يكفي من لم يعم التعصب عين بصيرته.
وهذه الفرقة الضالة كما ترى صدت فرق الإسلام عن العترة الطاهرة سلام الله عليهم بما أظهروه من الاعتقادات الفاسدة مع انتسابهم إلى آل محمد وهم لهم في الحقيقة أعداء في الدنيا والآخرة؛ لأنهم عليهم السلام النمرقة الوسطى، إليهم يرجع الغالي، وبهم يلحق التالي، وهم مفاتيح الجنة، وسبل النجاة، وأدلة الرشد، ودعاة الحق، وبحار العلم، وجبال الحلم، وما ظنك في أهل بيت عمره التنزيل، وخدمه جبريل، وزارته ملائكة الملك الجليل، دنت فيهم الحكمة ودرجت، ودخلت وخرجت، فكل خبر فيهم أصله وأهله، وكل رشاد وحكم فهم منشؤه وإليهم مرده، وما عسى أن نمدح من مدحه القرآن : ?إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا?[الأحزاب:33]، وقد تقدم معنى هذه الآية في الصحاح، ومن المراد بها، قرنهم الحكيم سبحانه بالكتاب الكريم، على لسان نبيه الصادق العليم، كما بينّا لك في حد الثقلين من الصحاح فما ظنك بمن هو عدل للقرآن، وردت بالتمسك به وصاة الرحمن، فإن قيل فيهم عصاة لا يجوز موالاتهم، ومخالفون لأهل البصائر منهم لا يتسع اتباعهم.
قلنا: وفي القرآن منسوخ سقط حكمه ولا تحرر لأهل الإيمان العمل به، ومتشابه يتبعه أهل الزيغ والضلال يجب رده إلى أمه واطراح حكمه، فإن قلت: لا يجب اتباع القرآن لذلك، فهل في أهل البيت عليهم السلام كذلك؟ قال الله تعالى: ?وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ?[الحديد:26]، فلم يسقط فسق الفاسقين وجوب اتباع الصادقين ولا إخراجهم من وراثة الكتاب، فعل أهل الزيغ والارتياب.
فتأمل ما ذكرت لك ذلك بحس قوي، وفهم سوي، وقد محضت لك النصح محضاً، ورفضت عنك النفس رفضاً، وعرَّفتك منهاج السلامة لتسلكه على يقين، وأريتك دار اليقين، لتهلك إن هلكت - والعياذ بالله - عن بينة، وتحيا إن حييت - وهو الرجاء في الله سبحانه وتعالى - عن بينة، والله سميع ممن دعاه وطلبه، عليم بمن أقبل إليه وتمسك بحبله، وبمن أدبر عنه وقطع سببه، وما حكمك فيمن عاب دليله في المفازة المهلكة، وخالف هاديه ولم يسلك مسلكه، فنسأل الله تعالى بياناً يرسخ في قرار قواعد التوفيق أقدامنا، وتوفيقاً يملأ بنوره ليالينا وأيامنا، لنعرف يميننا وشمالنا، وخلفنا وأمامنا، لنكون في أمرنا على بصيرة، ونسير في طلب هدايتنا أحسن سيرة.
والصلاة على محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وعلى كافة المسلمين ورحمة الله وبركاته.