الكتاب : كتاب الإيمان

كتاب الإيمان
تأليف
الإمام الأعظم الإمام زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام
كتاب الإيمان
بسم الله الرحمن الرحيم
[سند الكتاب]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين.
قال الشيخ الفاضل، شيخ المسلمين، وفخر الزيدية الأكرمين، أحمد بن الحسن الرصاص (قدس اللّه روحه) في كتابه (الكاشف لبصائر الأكياس عن مذاهب القدرية الأرجاس) حاكياً لرسالة مولانا ومولى المؤمنين، حبيب رسول رب العالمين، الإمام الأعظم، الشهيد الأكرم، هادي الورى إلى الطريق الأقوم، أبي الحسين، زيد بن علي بن الحسين بن علي ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ (في الرد على المرجئة) ما لفظه:
وسنورد دفع أهاضيب، ودرر شآبيب من آيات ظاهرة، في المنع من تسمية الفاسق مؤمناً، في فصل نذكره هاهنا، في عقب هذه الجملة مرفوعاً بسنده إلى إمامنا أبي الحسين زيد بن علي ـ صلوات الله عليه ـ الذي زعم أنا منتحلون غير مذهبه، وسالكون غير شعبه، كذب بل نحن أشياعه وهو إمامنا، فاخسأ صاغراً، ومت بغيظك، وسنرد في زمرة المصطفين محيطين به إحاطة الهالة بالقمر، والأكمام بالثمر، فنكرع من الحوض الريان، والمشرع الطفحان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1/1)


روينا من طريق الفقيه العالم بهاء الدين علي بن أحمد بن الحسين المعروف بـ(الأكوع) رحمه اللّه تعالى، قال: أخبرنا السيد الشريف العالم علي بن مهذب العلوي، قال: أخبرنا الشيخ العالم أبو العباس أحمد بن يحيى بن نافة المقري، قال: أخبرنا محمد بن علي بن ميمون النَّرسيّ إجازة، أخبرنا الشريف أبو عبد اللّه محمد بن علي بن الحسن بن عبد الرحمن العلوي رضي اللّه تعالى عنه، قال: أخبرنا أبو عبد اللّه أحمد بن عبد اللّه بن أبي داره الضبي إجازة، وحدثني والدي عنه، قال: حدثنا أبو العباس إسحاق بن محمد بن مروان بن زياد الغزال، وحدثنا أبي محمد بن مروان، قال: حدثنا إبراهيم بن الحكم بن ظهير، عن أبيه، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، عن الإمام أبي الحسين زيد بن علي بن الحسين هذه الرسالة التي ردّ بها على أهل الإرجاء والحشو.
بسم الله الرحمن الرحيم
[وصية الإمام زيد بالتمسك بالقرآن]
من رجل من المسلمين، إلى مَنْ قرأ هذا الكتاب من المؤمنين المسلمين، سلام اللّه تعالى عليكم، فإني أحمد اللّه تعالى إليكم الذي لا إله إلاهو وإليه المصير.
وأوصيكم بتقوى اللّه تعالى وطاعته، فإن تقوى اللّه رأس كل حكمة وجِماعُه، فـ{اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران: 102].
وأوصيكم أن تتخذوا كتاب اللّه قائداً وإماماً، وأن تكونوا له تبعاً فيما أحببتم وكرهتم، وأن تتهموا أنفسكم ورأيكم فيما لا يوافق القرآن، فإن القرآن شفاءٌ لمن استشفى به، ونورٌ لمن اقتدى به، ونورٌ لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، مَنْ عمل به رَشَدَ، ومَنْ حكم به عدل، ومَنْ خاصم به فَلَج، ومَنْ خالفه كَفَر، فيه نبأُ مَنْ قبلكم، وخبرُ معادكم، وإليه منتهى أمركم، وإياكم ومشتبهات الأمور وبدعها، فإن كل بدعة ضلالة.
[أولاً: الرد على المرجئة]
أما بعد..

(1/2)


فإن ناساً تكلموا في هذا القرآن بغير علم، وإن اللّه عز وجل قال في كتابه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}[آل عمران: 7]، فالمتشابهات هُنَّ المنسوخات، والمحكمات هُنَّ الناسخات.
[بعثة الأنبياء واستحقاق الإيمان بتصديقهم]
وإن اللّه تبارك وتعالى بعث نوحاً إلى قومه {أَنِِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِي}[نوح: 3] ودعاهم إلى اللّه وحده لا شريك له، {[وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ] إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}[الشورى: 13].
ثم بعث الأنبياء عليهم السلام، إلى قومهم على شهادة أن لا إله إلا اللّه، والإقرار بما جاء من عند اللّه؛ فمن كان منهم مخلصاً، ومات على ذلك أدخله اللّه الجَنَّة بذلك، وإن اللّه ليس بظلام للعبيد، ولم يكن اللّه ليعذب عبداً حتى يكتب عليه العمل، وينهاه عن المعاصي التي أوجب الله لمن عمل بها النار.

(1/3)


فلما استجاب لكلِّ نَبِيٍّ مَنِ استجاب له من قومه من المؤمنين، جعل لكل نبي شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً، والشِّرعة: السُنَّة، فقال لمحمد صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا}[النساء: 163]، فأمر كل نبي أن يأخذ بالسُّنَّة والسبيل.
فكان من السُّنة والسبيل التي أمر اللّه سبحانه وتعالى بها قوم موسى، أن جعل عليهم السَّبت، فكان مَنْ عَظَّم السبت ولم يستحله - يفعل ذلك من خشية اللّه - أدخله اللّه الجنة بذلك، ومن اسْتَخَفَّ بحقه، واسْتَحَلَّ فيه ما حَرَّم اللّه سبحانه وتعالى من العمل الذي نهاه عنه؛ أدخله اللّه النار، حتى ابتلاهم اللّه بالحيتان التي كانت تأتيهم يوم سبتهم شرعاً .
فلما اصطادوا الحيتان يوم السبت واستحلوا أكله غَضِبَ اللّه سبحانه عليهم بذلك، من غير أن يكونوا أشركوا بالرَّحمن، ولا شكوا في شيء مما أنْزَل على موسى صلى اللّه عليه وسلم، فقال اللّه تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}[البقرة: 65].

(1/4)


وبعث اللّه سبحانه عيسى عليه السلام بشهادة أن لا إله إلا اللّه والإقرار بما جاء به من عند الله، وجعل له شِرْعَةً ومِنْهَاجاً، فَهُدِمَ السَّبت ـ الذي كان بنو إسرائيل يعظمّونه قبل ذلك ـ وعامةُ ما كانوا عليه من السُّنة والسَّبِيل، فأُمِرُوا أن يتبعوا سُنَّة عيسى عليه السلام وسبيله، فمن اتَّبَع سُنَّة عيسى عليه السلام وسبيله أدخله اللّه الجنة، ومن ثبت على السبيل الذي جاء به موسى ولم يتبع عيسى عليه السلام أدخله اللّه النَّار؛ وإن كان مؤمناً بما جاء به الأنبياء عليهم السلام لا يشرك بالله شيئاً. فلم يزل من اتبّع عيسى عليه السلام مهتدياً ما عمل بسنة عيسى عليه السلام وسبيله مِنْ بعده.
[بداية بعثة النبي (ص)]
ثم بعث اللّه تعالى محمداً صلى اللّه عليه وآله وسلم، ثم أمر محمداً ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أن يدعو الناس إلى اللّه وحده، وأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ـ وهو بمكة عشر سنين، ـ فمن اتبع محمداً صلى اللّه عليه وآله وسلم ودينه أدخله اللّه سبحانه الجنة، ولم يكن كُتِبَ عليهم القتال، ولا الصلاة، ولا الزكاة، ولا حجّ البيت، ولا صيام شهر رمضان، فلم يكن أحد يموت مِمَّن يؤمن بمحمد صلى اللّه عليه وآله وسلم مخلصاً لا يشرك بالله شيئاً إلا أدخله اللّه سبحانه الجنة، ولا يعذب اللّه تعالى أحداً ـ ممن اتبع محمداً صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو بمكة ـ إلا من يشرك بالرَّحمن.

(1/5)


وتصديق ذلك ـ أنه لم يكن لِيُدْخل اللّه تعالى النارَ ممن اتبع محمداً صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو بمكة، مَنْ يقول: لا إله إلا اللّه مخلصاً لا يشرك بالله شيئاً ـ أن اللّه تبارك وتعالى أنزل عليه وهو بمكة في سورة بني إسرائيل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} إلى قوله: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا(37)كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا(38)ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا}[الإسراء: 23 ـ 39].
ففي هؤلاء الآيات وأشباههن مما أنزل بمكة لم يَعِدِ اللّه النار في شيء مما نهى عنه من هذه الذنوب، حتى بلغ: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا}[الإسراء: 39].
[بعض آيات الوعيد الخاصة بالمشركين]
ثم أنزل في سورة (المدثر): {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ(38)إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ(39)فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ(40)عَنْ الْمُجْرِمِينَ(41)مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ(42)قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ(43)وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ(44)وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ(45)وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ(46)حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ(47)فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}[المدثر: 38ـ 48]، فهؤلاء مشركون ليس فيهم أحد من أهل القبلة.

(1/6)


وأنزل في (تبارك): {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ(8)قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ(9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:8 ـ10]، فهؤلاء مشركون ليس فيهم أحد من أهل القبلة.
وأنزل أيضاً في (الصَّافَّات): {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ(33)إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ(34)إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ(35)وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:33ـ36]، فهؤلاء مشركون ليس فيهم أحد من أهل القبلة.
وأنزل في (الليل إذا يغشى): {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى(14)لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى(15)الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى}[الليل: 14 ـ 16]، [فهؤلاء ليس فيهم أحد من أهل القبلة ].
وأنزل في (إذا السماء انشقت): {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ(10)فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا(11) وَيَصْلَى سَعِيرًا(12)إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا(13)إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا}[الانشقاق: 10 ـ 15]، [فهؤلاء ليس فيهم أحد من أهل القبلة ].
وقال في(الواقعة): {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ(92)فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ(93)وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ(94)إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ(95)فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:92ـ96]، فليس في هؤلاء أحد من أهل القبلة.

(1/7)


وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيه(19)إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيه(20)فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(21)فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ(22)قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ(23)كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ(24)وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه(25)وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيه(26)يَالَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ(27)مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيه(28)هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيه(29)خُذُوهُ فَغُلُّوهُ(30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ(31)ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ(32)إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ(33)وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ(34)فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ(35)وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ(36)لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ}[الحاقة: 19 ـ 37]، فهؤلاء ليس فيهم أحد من أهل القبلة.
وأنزل تعالى في (طسم الشعراء): {وَبُرِّزَتِِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ(91)وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(92)مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ(93)فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ(94)وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ(95)قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96)تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(97)إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ(98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ(99)فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ(100)وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ(101)فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:91ـ102]، فهؤلاء مشركون ليس فيهم أحد من أهل القبلة.

(1/8)


وهي خاصة بقوم محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم من المشركين، ليس منها اليهود ولا النصارى.
وقول اللّه تبارك وتعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} [الشعراء: (94)]،. فالذين كبكبوا هم : الآلهة، {وَالْغَاوُونَ} : هم المشركون . {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [ الشعراء : (95) ]: ذريته من الشياطين. {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} [الشعراء: (99)] هم: المشركون الذين ضلوا قبلهم واقتدوا بسُنَّتِهم.
وتصديق أن ذلك في قوم محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم خاصة قوله الله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ}[الشعراء : (105)]، {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ}[الشعراء: 176]، فليس في هؤلاء اليهود الذين قالوا: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}[التوبة: 30]، ولا النصارى الذين قالوا: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}[التوبة: 30]، تبارك اللّه وتعالى علواً كبيراً، وسيدخل اللّه تعالى اليهود والنصارى النار، ولكن يذكر كل قوم بأعمالهم.
وتصديق قولهم: {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ}[الشعراء: 99]، قول اللّه تبارك وتعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنْ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ}[الأعراف: 38].
فهؤلاء الآيات في أشباههن فيما نزل بمكة أنه تعالى لم يدخل النار إلا مشركاً.
[بعض آيات الوعيد لأهل القبلة]
حتى إذا أمر اللّه تعالى محمداً صلى اللّه عليه وآله وسلم بالخروج من مكة والهجرة إلى المدينة، كتب عليهم القتال.
فلما قدم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم المدينة بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا اللّه، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصيام شهر رمضان.

(1/9)


وأنزل اللّه تبارك وتعالى على رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم في الزاني: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}[النور: 2].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا(68)يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}[الفرقان: 68 ـ 69].
وقال تعالى: في قتل النفس التي حرم اللّه: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[النساء: 93]، ولا يلعن اللّهُ مؤمناً.
وأنزل تبارك وتعالى في مال اليتيم ـ فيمن يأكله ظلماًـ:{ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}[النساء: 10]، والذي يأكل في بطنه ناراً يُبْعَثُ يوم القيامة ملتهبةً في بَطِِْنه حتى تخرج اللهب مِنْ فيه، يعرفه المسلمون بأكله مال اليتيم.
وأنزل تبارك وتعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ(1)الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}[المطففين: 1 ـ 3]...إلى آخر القصة، ولم يجعل لأحد الويل حتى يوجب له النار.
وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[مريم: 37].
وقال تعالى:{ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ}[الرعد: 29].

(1/10)


وأنزل في نقض العهد: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }[آل عمران: 77]. الخَلاَق: النَّصِيب، فمن لم يكن له نصيب في الآخرة فكيف [يسمى مؤمناً في الدنيا؟!]
[فقل] لأهل البدع والباطل: أرأيتم لو أن رجلاً دفع إلى رجل عشرة آلاف درهم كانت ليتيم في حِجْرِه، فسأله أن يردها إليه، فجحده فيها ولم تكن له عليه بَيِّنَة، فاستحلفه فحلف له بالله يمينَ صَبْرٍ، ما دفع إليه شيئاً، وما له عليه حَقٌ، قليل ولا كثير، أكان ممن اشترى بعهد اللّه وأيمانهم ثمناً قليلا؟ وإن اللّه تعالى قال: {مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}[النساء: 77]، فلو أنه كان ممن اتقى اللّه تعالى ولم يشتر بعهد اللّه وأيمانه ثمناً قليلا لم يَخُنْ أمانته، فإن اللّه قال: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}[الأحزاب: 72]. فمن لم يؤد أمانته فيها كان منافقاً وكان كافراً، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا}[النساء: 107].وقال عز وجل: {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}[يوسف: 52].
ولا يتوب اللّه إلا على من تاب إليه، ولا يرضى عمن اتبع سخطه، إنما يرضى اللّه تعالى عمن أرضاه واتبع رضوانه، ومن استغنى عن اللّه ولم يتب إليه استغنى اللّه عنه، ولو قال بلسانه: تُبْتُ إلى اللّه، وخان أمانته، وأكل مال اليتيم، ولم يرده إلى أهله كان منافقاً، يَخْدَع نفسه.

(1/11)


[الأدلة على أن مرتكب الكبيرة لا يسمى مؤمناً]
وأنزل اللّه تبارك وتعالى في المدينة: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(1)الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ}[النور: 1 ـ 2].
وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة: 128]، فلو كان مؤمنا(1)[1]) لكان النبي بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً.
وقال عز وجل: {الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}[النور:3] فلم يُسَمِّ الزاني مؤمناً ولا الزانية مؤمنة.
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، فإن تاب يتوب اللّه عليه )).
وأنزل الله عز وجل في القَذْفِ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ(4)إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[النور:4-5]، فبرأه اللّه ـ مادام مقيماً على الفِرْيَةِ ـ من اسم الإيمان.

(1/12)


وقال تعالى:{ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ}[السجدة: 18]، فصار منافقاً؛ لأن اللّه تعالى قال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[التوبة: 67]، فصار من أولياء إبليس، قال اللّه: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}[الكهف: 50].
وأنزل اللّه: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(23)يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 23 ـ 24].
وأنزل اللّه تعالى في المَرَح : {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18]، والمختال: المُتَجَبِّر، والفَخورُ في كفره.
فسل أهل البدع والباطل كيف يكون رجلٌ لعنه اللّه في الدنيا ويلقى اللّه ملعوناً في الآخرة، يرجون أن يكون له عند الله تعالى نصيب، ويَشكُّون فيه أنه ليس من أهل النار؟
وسلهم هل يشهد اللسان واليد والرجل على مؤمن؟ إنما يشهدن على من حَقَّتْ عليه كلمةُ العذاب، فأما المؤمن فهو يُعْطَي كتابه بيمينه، قال تبارك وتعالى: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}[الإسراء: 71].
وسورة (النور) أنزلت بعد سورة (النساء)، وتصديق ذلك في سورة النساء:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15].

(1/13)


والسبيل الذي قال اللّه تعالى [هو]: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(1)الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ}[النور:1 ـ 2].
وأنزل اللّه تبارك وتعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ }[النساء:48].
ثم أنزل تعالى بعدها: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[النساء: 93].
[العمل الصالح شرط في الإيمان]
ثم أنزل تعالى بعدها: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا}[النساء: 122].
ثم أنزل تعالى بعدها: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}[النساء: 124].
ثم أنزل تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } [النساء:125].
فأبى اللّه أن يقبل العمل الصالح إلا بالإيمان، ولا يقبل الإيمان إلا بالعمل الصالح، فقال عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}[فاطر: 10]، وأبى اللّه أن يقبل الإسلام إلا بالإحسان، ولا يقبل الإحسان إلا بالإسلام.

(1/14)


ثم أنزل عز وجل: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا}[النساء: 31]. فكل كبيرة ما وعد اللّه تعالى عليها النار.
ثم أنزل تعالى بعد ذلك: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[النساء: 93].
وقال اللّه عز وجل: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ(22)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22،23]، وحين تَوَلَّى الذين أفسدوا في الأرض تَوَلَّوْا عن طاعة اللّه تعالى وقطع الرحم، فإن لقي أخاه من المسلمين ضرب عنقه وأخذ ماله.
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات: 10]، فإذا قتله برىء من أخوته وصار خصمه.
وتصديق ذلك: لو أن أخوين لأب وأم قتل أحدهما صاحبه لم يرثه الذي بينهما من الميراث.
وقال اللّه تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا(29)وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}[النساء: 29 ـ 30].
فسلهم حين أصلاه اللّه تعالى النار أخرجه من رحمته إلى غضبه؟
فإنهم سيقولون: نعم.
فقل: هل أخرجه اللّه وهو في عداوته، أو في ولايته؟

(1/15)


فإن قالوا: هو في عداوته فقد صَدَقُوا. وإن قالوا: يعذبه اللّه تعالى وهو في ولايته فقد كذبوا وافتروا على اللّه الكذب؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى قضى على نفسه أنه ولي كل مؤمن؛ وأن إبليس قال لربه:{فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(79)قَالَ فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ(80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ(81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82)إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ}[ص: 79 ـ 83]، فهل من ذرية آدم أحدٌ لم يغوه إبليس إلا عباد اللّه المخلصين؟
قل: فمن أي الفريقين هذا الذي أكل المال وسَفَكَ الدَّم الحرام؟ ممن أغواه إبليس؟ أو من عباد اللّه المخلصين؟ فإنه لا بد له أن يكون من أحد الفريقين، فإن قالوا: لا ندري من أي الفريقين. لُبِّسَ عليهم دينهم، وشكوا في قول ربهم، وعمي عليهم أمرهم الذي ينتحلون؛ لأنه إنما سَفَك الدَّم وقَطَع الرَّحم، وأكل المال بطاعته إبليس وغوايته.
وقال اللّه تعالى:{ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ}[لقمان: 32]، والخَتَّار: الغَدَّار. ومن غدر بميثاقه كفر، قال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ }[الرعد: 25]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[الأنفال: 27]، فمن خان أمانته خان اللّه ورسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم.

(1/16)


وتصديق ذلك أن اللّه تعالى قال: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[آل عمران: 161]، أفيأتي بالغل يوم القيامة، فيلقيه في النار، ويدخل الجنة؟ فما أرى إذاً الغَلَّ الذي جاء به ـ يحمله يوم القيامة ـ ضَرَّه شيئاً إن كان كما يقولون: ((إذا قال: لا إله إلا اللّه دخل الجنة )). أليس القول حقيقة من العمل.
وقال عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]. فأصل القول العمل.
وقال اللّه تعالى: لمحمد صلى اللّه عليه وآله سلم: {وَلَا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا}[النساء: 107]. إنما أنزلت هذه الآية في أهل القبلة الذين خاصموا عن الرجل الذي خان الدرع من اليهودي ، وهو الذي أنزلت فيه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[النساء: 48] ولو مات خائناً قبل أن يشرك بالله شيئاً أدخله اللّه تعالى النار، إن اللّه تعالى لا يدخل الجنة إلا من يحب.

(1/17)


وموجبات العذاب نزلن بعد الآيات(1)[1]) التي نزلت في (سورة بني إسرائيل) التي ذكر فيهن: القتل والعهد والزنا وأكل مال اليتيم، وأشباه ذلك من الكبائر التي لم يكن اللّه وعد عليها النار، حتى بلغ: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا}[الإسراء: 39]، فأوجب لمن عمل بهؤلاء الآيات النار، الذين لم يكن أوجب عليهم النار في سورة بني إسرائيل بمكة(2)[2]).
فإن اللّه تعالى لايقبل العمل إلا من المتقين، وكيف يكون من المتقين من أقام على الزنا والقتل، وأكل مال اليتيم، ونقض العهد والميثاق، والفساد في الأرض، والإقامة على المعاصي؟
وإن التقوى ليس هو قولاً بغير عمل، إنما التقوى: الإيمان والعمل بحقيقة الإيمان، قال اللّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران: 102]، وقد سماهم اللّه تبارك وتعالى مؤمنين حين أسلموا وأخْبَتُوا وصدقوا بما جاء به نبيهم صلى اللّه عليه وآله وسلم، من أمرهم بالتقوى والعمل، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}[محمد: 33] وقال تعالى للمؤمنين: {لَا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}[الأنبياء: 103].
---
__________
(2) ـ معنى ذلك: أن الله عز وجل إنما كلف عباده في بداية الدعوة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فمن فعل ذلك استحق الجنة، ولم يكن قد أوجب النار على شيء من الكبائر، وإنما النار للمشركين، فلما زادت التكاليف وشرعت الشرائع حكم الله بالنار على من فعل الكبائر.

(1/18)


( [1]) ـ الآيات هي قول الله تعالى في سورة الإسراء: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا(31)وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا(32)وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا(33)وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا(34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا(35)وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا(36)وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا(37)كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا(38)}، يريد الإمام زيد ـ عليه السلام ـ أن الله عز وجل لم يتوعد بالنار في أي هذه الكبائر، وإنما حذر منها، وتوعد بالنار على الشرك بالله فقال: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا(39)} [الإسراء]، وهذه الآيات من سورة الإسراء وسورة الإسراء مكية باتفاق بين القراء والمفسرين.
[أدلة سمعية ومناقشة على وعيد أهل الكبائر]

(1/19)


وقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة: 275]. فإن زعموا أن هذا مشرك فقد كذبوا، لأن اللّه تعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(278)فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}[البقرة: 279]، فصار حربَ اللّه حين أقام على الربا من غير شرك بالرحمن، ولا شك فيما جاء به النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم.
إن اللّه تبارك وتعالى أمر الناس بالتقوى فمن اتقى مات مسلماً، ومن لم يتق مات وهو كافر وإن كان يدعي الإسلام.

(1/20)


تصديق ذلك قوله تعالى في (المائدة) ـ وهي آخر القرآن هي و(براءة) وهي ناسخةـ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ(27) [لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(28)إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ(29)فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ] ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}[المائدة: 27 ـ 32]، فإذا قَتَلَ قتيلاً بغير نفس أو فساد في الأرض كان مسرفاً، قال اللّه عز وجل:{ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}[غافر: 43].

(1/21)


فسلهم كيف يغفر اللّه تعالى لعبد لقي اللّه وفي عنقه مثل دماء المسلمين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وجميع بني آدم كل بَرٍّ منهم وفاجر؟ لم يتب إلى اللّه تعالى ، ولم يزدد إلا فساداً في الأرض وسفك الدم، فكيف يرضى اللّه تعالى عمن أسخطه واستغنى عنه، فإن اللّه الغني عن العباد وهم الفقراء وهو الغني الحميد.
فسل أهل البدع والباطل عن ابني آدم: من أهل الدعوة كانا أو مشركين؟ [فإن زعموا أنهما من أهل الدعوة فقد صدقوا. وإن زعموا أنهما مشركان فقد كذبوا].
وتصديق ذلك أنهما قربا قرباناً لله فَتُقُبِّل من أحدهما ولم يُتَقَبَّل من الآخر، ولم يكن آدم صلى اللّه عليه ليأمر ابنيه الذين خرجا من صلبه أن يكونا على غير ملته، ولم يكن إبليس نصب وثناً يومئذ دون الرحمن، إنما نصب إبليس الأوثان للناس بعد ما كثر الناس ومات العلماء منهم، فخدعهم إبليس عن أنفسهم، ولم يجعل سبحانه ابن آدم ـ حين قتل أخاه ـ من أهل النار بالشِّرك، ولكنه أضله بقتله أخاه ليكون للسعيد موعظة.
وسلهم هل يشهدون أن ابن آدم الذي قتل أخاه من أهل النار؟ فإن قالوا: نعم. فقد صدقوا.
وإن قالوا: لا ندري، شكّوا في قول اللّه عز وجل، لا يدرون هل ينجز اللّه وعده أم لا؟ فأي أرض أو سماء تسع رجلاً يشهد على ابن آدم الذي اصطفاه اللّه تعالى على خلقه، وسجدت له الملائكة كلهم أجمعون، أنه من أهل النار، ولا يشهدون على أخوين يدعيان الإسلام من أهل زمانهم هذا، لعل أبويهما كانا يدعيان الإسلام، أو كانا يهوديين أو نصرانيين أو مجوسيين، قَتَلَ أحدهما أخاه؟! فسلهم عنهما ألا يشهدون أن القاتل في النار؟
وقضاءُ اللّه جل وعلا في العباد واحد، ما نهى مَنْ قبلنا عن ذنب ـ أوجب لمن عمل به النار؛ فعملوا به فأدخلهم به النار ـ إلا عذب مَنْ عَمِلَ منا بذنب قد نهى اللّه عنه، فأوجب اللّه تعالى لمن عمل به النار.

(1/22)


وسلهم عن (داود) صلى اللّه عليه وسلم حين قال اللّه تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}[ص: 26].
وقال تعالى لمحمد صلى اللّه عليه وآله وسلم: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ } [النساء: 113]، فكانت الأنبياء عليهم السلام لو اتبعوا الهوى ضلوا عن سبيل اللّه تعالى.
ولو أن عربياً أو مولى أو نبطياً ممن يدعي الإسلام استعمله الأمير فقتل الأنفس، وقضى بغير الحق، واتبع الهوى، قلتم: ما ندري لعل اللّه يغفر له، إنه من أهل الدعوة!!
أيشهدون على (داود) صلى اللّه عليه وسلم أنه لو اتبع الهوى ضل عن سبيل اللّه ـ ومن ضل عن سبيل اللّه له عذاب شديد ـ ولا يشهدون على هؤلاء ـ الذين استعملهم الأمير فاتبعوا الهوى ـ أنهم ضلوا؟! كما يشهدون على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم!! أو يشكون فيما أنزل اللّه في شأن (داود) عليه السلام أنه لو اتبع الهوى كان يضله عن سبيل اللّه أم لا؟! فإن أقروا أنهم ليس لهم بتفسيرها علم، شكوا فيما وعد اللّه أهل معصيته في ستة آلاف ومائتين من القرآن، واستمسكوا بآية ليس لهم بتفسيرها علم، فقالوا فيها ما ليس لهم به علم.
[معنى المشيئة في قول الله تعالى:{ إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، والأدلة على ذلك]
واحتجوا بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ }[النساء: 48].

(1/23)


ثم أنزل بعدها: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[النساء: 93].
فبينت كل آية فيما أنزلت أنها مٍٍن وعد الله إن اللّه لا يخلف الميعاد، وهي سديدة وليست لهم بحجة، هي بينة لمن شفاه اللّه تعالى بالقرآن.
ثم أنزل من بعدها: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا}[النساء: 122].
وقال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}[النساء: 123].
ثم أنزل تعالى من بعده: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}[النساء: 124] فأبى اللّه أن يقبل العمل الصالح إلا بالإيمان، ولا يقبل الإيمان إلا بالعمل الصالح.
ثم أنزل تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء:125] فأبى اللّه تعالى أن يقبل الإسلام إلا بالإحسان، والإحسان إلا بالإسلام، والإيمان والعمل الصالح كالروح في الجسد إذا فرّق بينهما هلكا، وإذا اجتمعا عاشا.
وقول اللّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فلو أراد اللّه أن يغفر لأهل القبلة، أنزل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ولم يستثن لمن يشاء.

(1/24)


وسأبين لمن ضل عن هذه الآية كيف تفسيرها: إن قول اللّه تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الذين يشاء لهم المغفرة الذين أنزل فيهم: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا}[النساء: 31].
فمن وعد اللّهُ من أهل القبلة النارَ بكبيرة أتاها فإن اللّه تعالىقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}[الرعد: 31]، وقال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا}[مريم:61]، وقال تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}[ق: 29].
فسلهم عن أصحاب الموجبات هل وعدهم اللّه تعالى النار عليها أم لا؟ فإن شهدوا أن اللّه تعالى قد وعدهم النار عليها، فقل: أتشهدون أن اللّه سبحانه وتعالى سينجز وعده، أم في شك أنتم لا تدرون هل ينجز اللّه وعده أم لا؟
وسلهم عمن شهد اللّه عليه والملائكة، فإن اللّه عز وجل قال: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}[النساء: 166] فارضوا بما شهد اللّه به واشهدوا عليه ولا ترتابوا، فإن اللّه جل وعلا قال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا}[النساء: 122].
فمن حدثكم حديثاً بخلاف القرآن فلا تصدقوه واتهموه، وليكن قول اللّه عز وجل أشفى لقلوبكم من قولهم: إن أصحاب الموجبات في المشيئة.

(1/25)


قال اللّه تبارك وتعالى: {وَقَالَتِِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}[المائدة: 18] فمن يشاء أن يغفر له من هؤلاء يترك اليهودية والنصرانية، وكذلك من شاء أن يغفر له من أهل القبلة يترك الموجبات لا يعمل بها، فإن عمل بشيء منها ثم تاب إلى اللّه تعالى قبل أن يموت فإن اللّه تعالى قال: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27]، فمن مات مؤمناً دخل قبره مؤمناً، وبعثه اللّه تعالى يوم القيامة مؤمناً.
وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا(145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:145ـ146].
وقال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء: 144].
وقال تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا(46)وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا}[الأحزاب:45ـ47].

(1/26)


وقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ}[الحديد: 21].
وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(71)وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة: 71 ـ 72].
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا(41)وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا(43)تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب:41ـ 44]، فالمؤمنون عند اللّه بهذه المنزلة عليهم الصلاة وحق عليه رحمتهم.
ومن زعم أن اللّه تعالى: يعذب المؤمنين؛ فإن اللّه جعل النار للكافرين. قال تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24]، وقال تعالى: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمْ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[الحج: 72].
وقال تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}[التوبة: 49].
وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا}[الإسراء: 8].

(1/27)


وقال تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ}[الحجر: 43].
وإنها لا تحيط بمؤمن.
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الحديد: 28].
[حقيقة الإيمان وشروطه]
والإيمان: إيمانان: إيمان تصديق، وإيمان عملٍ وتقوى.
وحقيقة الإيمان: العمل، قال اللّه تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ}[محمد: 2] وكان إيمانهم بما نزل على محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم العمل بطاعة اللّه وطاعة رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم.
وقال اللّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة: 62]، فسماهم الذين آمنوا، ثم قال تعالى: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)}[البقرة]، وقال تعالى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ(32)مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ}[ق: 32 ـ 33].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ }[الحديد: 19].

(1/28)


وقال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة: 257].
وإنما الإيمان اسم حق من أسماء اللّه، والإسلام كذلك، والله هو المؤمن، وهو السلام، ولا يحرق اللّه بالنار من لقي اللّه تعالى واسم الإيمان له ثابت.
وقال اللّه تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران: 68].
وقال تعالى:{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ}[محمد:11].
قال تعالى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[التحريم: 8].
وقال تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}[آل عمران: 192]. فبرأ اللّه المؤمنين يوم القيامة من الخزي والذل والخوف.
وقال تبارك وتعالى: {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ}[النحل: 27].
وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}[غافر: 51].
وقال تعالى:{ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8].

(1/29)


فمن زعم أن اللّه تعالى يسود وجه المؤمن ويرهقه ذلة لم يشفه اللّه بالقرآن، فإن اللّه تعالى قال: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ(106)وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[آل عمران: 106].
وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ(38)ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ(39)وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ(40)تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ(41)أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}[عبس: 38ـ42].
[الفرق بين جزاء المؤمن والكافر]
فَسَلْ مَنْ خاصمك من أهل البدع والباطل: أرأيتم هذا المؤمن الذي تزعمون أن اللّه تعالى سيدخله النار، ما لونه في النار، وما طعامه، وما شرابه، وما حليته، وما اسمه، وما منزله في النار؟ فإن اللّه قد بينَّ منازل أهل النار فقال تعالى: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ(19)يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ(20)وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}[الحج:19ـ21].
فسلهم عن هؤلاء الذين أدخلهم اللّه تعالى النار من أهل القبلة هل تُقَطَّع لهم ثياب من نار ويصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد؟ أم لهم إذا أدخلهم اللّه النار من الطعام الذي أطعمه اللّه أهل الجنة، والشراب الذي سقى اللّه تعالى أهل الجنة والمساكن، والفُرُش، والأزواج، واللباس، والنمارق، والسرر المصفوفة، والآنية من الذهب والفضة، والكرامة التي أنزل اللّه تعالى بها أهل الجنة؟! فإنه ليس بينهما منزلة.فإن اللّه تعالى يقول:{تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ}[الرعد: 35].

(1/30)


وقال تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}[التوبة: 49]، وإنها لا تحيط بمؤمن{لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه:61].
فإنهم سيخاصمونك بآية أنزلها اللّه تعالى في القرآن، فقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنِ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[الحجرات: 9].

(1/31)


فسلهم عن الفئة التي بغت وأبت أن تفيء إلى أمر اللّه [وأمر الله بقتالها]، في أمر مَنْ خرجت حين خرجت، [في أمر الشيطان أو في ] أمر اللّه تعالى؟ فإن قالوا: في أمر الشيطان صدقوا. وإن قالوا في أمر اللّه كذبوا، إنما في أمر اللّه الذين يقاتلون في طاعة اللّه، وهم أولياء اللّه، وإنما في أمر الشيطان مَنْ يقاتل في طاعة الشيطان، فإن اللّه تعالى قال لقوم استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر اللّه: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ}[المجادلة: 19]، فالفئة التي قِتَالُها ابتغاء مرضات اللّه هي من حزب اللّه، والفئة الباغية هي من حزب الشيطان، قال اللّه تبارك وتعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}[المجادلة: 22].
وقال اللّه تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}[النساء: 76].
وقال اللّه تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[البقرة: 190]، ومن لم يحبه اللّه أكبه في النار، وبرىء من ولاية اللّه.

(1/32)


قال اللّه عز وجل ثناؤه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[الأعراف: 32] فخلصت الطيبات من الرزق، والزينة في الجنة لمن لقي اللّه تعالى مؤمناً يوم القيامة.
وقال اللّه تعالى لـ(يونس): {وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88].
وقال تبارك وتعالى: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُنْتَظِرِينَ(102)ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ}[يونس: 102 ـ 103].
وقال اللّه تعالى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُْالْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}[الأنبياء: 103].
فمن زعم أن المؤمنين يخافون أو يعذبون يوم القيامة، ركب هواه وهوى غيره من السفهاء من الناس، والحجة غير القرآن(3).
[استحقاق أهل القبلة العذاب بالكبائر]
ومن زعم منهم أنه من صلى إلى القبلة أدخله اللّه تعالى الجنة على كل أمر يعمل به من معاصي اللّه، استخف بحق القرآن، ولم يشفه القرآن، وغره أماني الشيطان فإن اللّه تعالى قال لقوم: {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[الحديد: 14] والغرور: هو الشيطان.
وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}[الإسراء: 82]

(1/33)


وإنهم يحتجون بهذه الآية التي في سورة البقرة: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(136)فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[البقرة: 136 ـ 137]، فمن آمن بهذه الآية فقد اهتدى كما قال اللّه تعالى، ولا يخرجه من الهدى إلاَّ المعاصي التي أوجب اللّه تعالى عليها النار، ولعن الذين يعملون بها.
وأنزل اللّه في سورة (التوبة): {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[التوبة: 115].
وقال تبارك وتعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}[الأنعام: 158].
فسل أهل البدع عن من لم ينفعه إيمانه ولم يكسب في إيمانه خيراً، أيرجون له الجنة، أم هم في شك فيه أنه من أصحاب النار؟ قال اللّه تبارك وتعالى: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[يوسف: 111]، فالمؤمن مهتد مرحوم، قال اللّه تبارك وتعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الحج:54]، فمن هداه اللّه إلى صراط مستقيم كان منزله عند اللّه الجنة.

(1/34)


وقال اللّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(9)دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[يونس:9ـ10].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}[الطور: 21].
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ}[المنافقون: 9].
فسماهم اللّه تعالى في أول الآية مؤمنين، وسماهم في آخرها ـ إذا ألهتهم أموالهم عن الذكر ـ: خاسرين، بغير جحود بالله ولا شك فيما جاء به النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم.
وقال آدم (صلى الله عليه) حين أكل هو وزوجه من الشجرة: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف: 23].
فسلهم أيشكون في الخاسرين أن اللّه تعالى يدخلهم النار؟
[الإيمان هو التصديق والعمل]
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ }[الممتحنة: 10] فسماهن مؤمنات بالتصديق، وثنى لهن إيماناً بالعمل.

(1/35)


والعمل حقيقة، قال اللّه تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الممتحنة: 12].
فسل أهل البدع والباطل لو أن امرأة منهن قالت: يا رسول اللّه أشهد أن هذا الذي تبايعني عليه حَقٌ من اللّه تعالى، غير أني لا أصبر عن الزنا والسرقة، أكان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يبايعها، ويستغفر لها؟! أكانت تُنَزَّل منزلة المؤمنات؟! فيحق على نبي اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الاستغفار لها.
وسلهم عن امرأة بايعت وأقرت بما جاء به النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ثم ذهبت في السِّرِّ فزنت ، وقتلت ولدها، ثم ماتت في نِفَاسِها ذلك، فبلغ نبيُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنها فعلته، أكانت ممن أمر اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يستغفر لها، فقال: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]؟!
فإن قالوا: قد ثبت لها الاستغفار.
قيل لهم: فلو أن رجلاً قتل نفساً مؤمنة وقد فرض اللّه تعالى عليه الدية، وتحرير رقبة مؤمنة، فَدُلَّ على امرأة يشتريها ليعتقها، فوجدها قد زنت وقتلت ولدها فجاء يستفتيكم: تجوز عنه برقبة مؤمنة، التي أوجب اللّه تعالى عليه أم لا؟ فإن قالوا: لا تجوز برقبة مؤمنة. كان لهم دِيْنَانِ: دينٌ في السِّرِّ، ودين في العلانية.
وقال اللّه تعالى لمحمد صلى اللّه عليه وآله وسلم في المشركين: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [التوبة:11].

(1/36)


فسلهم عن مشرك تاب من الشرك، وصَدَّق بما جاء به محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولم يقم الصلاة، ولم يؤت الزكاة، أهو أخوهم في الدِّين، أم لا؟ فإن قالوا: نعم، هو أخونا. لم يكونوا من الذين قال اللّه تعالى: {وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[التوبة:11]، وإن قالوا: لا ندري. شكوا فيما أنزل على محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم وارتابوا.
وقال اللّه تعالى وتقدس: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[البينة: 5] فمن لم يُقِمِ الصلاة ويؤتي الزكاة ولم يحج البيت أَهَدَم الدين القيمة أم ثبت على الدين القيمة بالإقرار وتَرْكِ العمل؟ فإن قالوا: هو على الدين القيمة وقد ترك الصلاة والزكاة وحج البيت. خالفوا ما أنزل اللّه تعالى، وجحدوا كتابه واتبعوا أهواءهم، وكانوا في لبس من دينهم.
فإنهم يقولون فيما يقولون: إن اللّه تعالى قال في كتابه: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}[التوبة: 36]، فإنهم يقولون: الشهور من الدين، فقل: أرأيتكم لو أن رجلاً عَدَّ السَّنَة إحدى عشر شهراً وترك شهراً، وقال أشهد إنه حق من اللّه تعالى، غير أني لا أعدها إلا إحدى عشر شهراً، فأخر شهر رمضان فجعله شوالاً، وجعل الحج في ذي القعدة، أترك دين اللّه تعالى، أم هو مقيم على دين اللّه بالإقرار، وقد خالف بالعمل؟

(1/37)


وقد قال اللّه تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(12)يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ(13)يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[الحديد: 12 ـ 14] وذلك أن الشيطان أوردهم في طاعته ومعصية اللّه تبارك وتعالى، ومَنَّاهُم المغفرة بغير توبة إلى اللّه تبارك وتعالى فقال اللّه تعالى: {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[الحديد: 15].
فكان الذين أُرْسِل إليهم محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم ثلاثة أصناف: مؤمناً ومؤمنةً، ومنافقاً ومنافقةً، والذين كفروا ـ أهل الأوثان ـ ، على غير دين محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، فمن لم يكن اسمه يوم القيامة من أهل الدعوة مؤمناً كان منافقاً، ومن لم يكن اسمه منافقاً، كان من الذين كفروا، ولا يدخل اللّه النار أحداً من أهل الدعوة حتى يلزمه اسم النفاق، فإذا سيق الذين كفروا إلى النار، وسيق الذين اتقوا إلى الجنة، ذهبت الأسماء كلها إلا الإسمان اللذان خلق اللّه تعالى عليهما الناس.

(1/38)


وقال اللّه تبارك وتعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا}[الزمر: 71]، قال تبارك وتعالى: {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ}[الرعد: 35].
وقال جل وعلا لمحمد صلى اللّه عليه وآله وسلم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا(1)لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا(2)وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا(3)هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا(4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} [الفتح:1ـ5].
فقل لأهل البدع والباطل أليس تشهدون أن اللّه سبحانه وتعالى قد غفر لمحمد صلى اللّه عليه وآله وسلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فإنهم سيقولون: بلى. فقل لهم: فكيف لا تشهدون أن اللّه تبارك وتعالى يدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار ، وقول اللّه تبارك وتعالى حق، كما غفر لمحمد صلى اللّه عليه وآله وسلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أوجب اللّه تبارك وتعالى للمؤمنين الجنة، وقال اللّه تبارك وتعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82].
وقال اللّه تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[البينة: 5].

(1/39)


فسلهم أيشهدون أن الصلاة والزكاة والحج وصيام شهر رمضان من الدين؟ فإن قالوا: نعم. قل: أتشهدون أن من تركهن ترك الدين؟ فإن قالوا: ليست الصلاة والزكاة من الدين. فقل لهم: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}[آل عمران: 19]، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ}[آل عمران: 85].
فإنهم سيقولون: بلى.
فقل: فأنا أشهد أن الصلاة والزكاة وحج البيت وصيام شهر رمضان من الإسلام، وهنّ دعائم الإسلام وعليهن بُنِيَ الإسلام، وعلى شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فما تقولون أصدقت أم كذبت؟ أم لا تدرون أصادق أنا أم كاذب؟ فإذاً أنتم في شك مما أنزل اللّه على محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم.
وقد قال اللّه تبارك وتعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ(204)وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ(205)وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ(206)وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[البقرة: 204 ـ 207].
فسلهم عن رجل نهى عن الفساد فلما نهاه غيره عن الفساد أخذته العزة بالإثم فقاتله فشرى هذا نفسه فقاتله، فأيهما البار وأيهما الفاجر؟ فإن اللّه تبارك وتعالى قال: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ(13)وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}[الانفطار:13ـ14].

(1/40)


فإن قالوا: إن هذا حين قال له: اتق اللّه أخذته العزة بالإثم كان
مشركاً ، فقد كذبوا، لأن المؤمنين لا يعجبون من قول المشركين، قد قال اللّه تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، وإنما اطمئنان المؤمن إلى من ذكر اللّه تبارك وتعالى وخَبَّر بتلاوته للقرآن.
فسلهم عن هذا الذي أخذته العزة بالإثم، أسِلْمٌ هو لله أم حرب؟ قال اللّه تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[المائدة: 33].
فسلهم عن رجل من أهل القبلة قطع الطريق على المسلمين فقتل وأخذ المال، فظهر المسلمون عليه فصلبوه، أيشهدون أن صلبهم له خزي في الدنيا؟ فإن قالوا: نعم، فقل: أفتشهدون أن له في الآخرة عذاب عظيم؟ فإن قالوا: لا ندري، فإنما آمنوا بأول الآية وكفروا بآخرها. فإن قالوا: لا ندري ـ يعني أخزيٌ هو أولا خزي ـ شكّوا فيما أنزل اللّه تبارك وتعالى.
وقد أنزل تعالى في كتابه في فاتحة الكتاب:{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة:6].
فسلهم عن الصراط المستقيم، هو الدين المستقيم، أم لا؟ فإنهم سيقولون هو الدين المستقيم.

(1/41)


وأنزل اللّه تبارك وتعالى على نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:151ـ 153]، فهذه الوصية أمن دين اللّه تبارك وتعالى هي أم من غير دين اللّه؟
فسلهم عمن انتهك هذه المحارم التي نهى اللّه تبارك وتعالى عنها، أهي من السُّبل التي اتبعوها: {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[الأنعام: 153]. فإن قالوا: نعم. فقد صدقوا، وإن قالوا: لا. فقد كذبوا، وإن قالوا: لا ندري. فقد شكوا فيما أنزل اللّه تبارك وتعالى.

(1/42)


وقال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(34)يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34ـ35]، ولم يقل تبارك وتعالى ذوقوا ما كنتم تشركون.
[أنواع الكُفْر]
والكفر على أنواع ستة:كفر الشرك بالرحمن. وكفر لمن لم يحكم بما أنزل اللّه. وكفر لمن قتل النفس التي حرم اللّه بغير حق. إن اللّه تعالى لا يلعن مؤمناً، وقد لعن القاتل وغضب عليه وأعد له عذاباً عظيماً.
وقال اللّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا}[الأحزاب: 64]. وقال تبارك وتعالى للمؤمنين: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا(43)تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا}[الأحزاب: 43 ـ 44]، فمن كان مؤمناً فهذه منزلته.
ويكون كافراً بالنعيم. قال اللّه تبارك وتعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}[إبراهيم: 7].
وكفر بَالِهَ(1)[4])، وقد قال يعقوب صلى اللّه عليه وسلم لبنيه عليهم السلام: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ}[يوسف: 87]، وما خشي يعقوب على بنيه أن يشركوا بالرحمن وهم ممن اصطفاه اللّه تبارك وتعالى واختاره، ولكنه أمرهم أن لا يقطعوا رجاءهم من اللّه تبارك وتعالى أن يريهم يوسف عليه السلام وأخاه.

(1/43)


وقول(1)[5]) سليمان عليه السلام حين رأى العرش مستقراً عنده: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}[النمل: 40]، وإنما يعني بذلك شكر ما أعطاه اللّه تبارك وتعالى حين رأى العَرْش مستقراً عنده، وما كان سليمان عليه السلام يخشى من نفسه أن يشرك بالرحمن، ولكن كان يخشى أن لا يبتلي اللّه من نفسه قدر شكر ما أعطاه.
[تبيين أهل الحق]
وإن هؤلاء إنما فارقونا عند شهادتنا على أهل الموجبات التي أحل اللّه تعالى أصحابَها النارَ، والقَتَلَةِ، والزُّنَاةِ، وشُرَّابِ الخمر، والذين يعملون عمل قوم لوط، والذين يسعون في الأرض فساداً، ويسفكون الدماء، والذين يأكلون الربا، إنا شهدنا عليهم بما أنزل اللّه فيهم من النقمة والعذاب وتبرأنا منهم، فَفَارَقَنَا أهلُ البدع والباطل منهم، وغضبوا لهم وشهدوا أن إيمانهم ثابت عند اللّه تعالى ـ كإيمان جبريل وميكائيل والملائكة المقربين صلوات اللّه وسلامه عليهم ـ، وأدخلوهم في ولايتهم حين تبرأنا منهم.
فلا يحل لمؤمن يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر يُقْرأ عليه هذا الكتاب إلا أقام الشهادة لله الحق ، أنحن أولى بالحق بتبرئنا ممن سخط اللّه عليه وأوجب له العقاب، أم هؤلاء الذين أدخلوهم في دينهم وتولوهم فلم يتبرأوا منهم؟

(1/44)


وأني لم أجد لهم مثلاً إلا امرأة كان لها ابن عَاقٌّ، فاستعدت عليه ملك قومها، فأرسل معها شرطياً، وقال: ائتني به لأضربنه ضرباً شديداً أُسِيْلُ دَمَه. فلما أيقنت بالشر لابنها خرجت من عند الملك، فقالت لأول شاب لقيته لا تعرفه ولا تدري من هو: هذا ابني. فأخذه الشرطي فذهب به إلى الملك، فلما دخل الشاب على الملك قال للملك: والله ما هذه بأمي ولا أعرفها ولا أدري أي الخلق هي، فقالت المرأة: ألا تَبَيَّن عقوقه؟ إنه تبرأ مني. فاشتد غضب الملك عليه فجلده حتى سَيَّل دمه، وحمل المرأة على عنقه ، ثم قال للشرطي: إذهب به فطف به في الناس، وقل له ينادي على نفسه: من رآني فلا يعق والدته، فجعل الشاب ينادي من رآني فلا يعق والدته، وينادي: من لم تكن له أم فليأت الملك حتى يجعل له أماً.
فمن كان من الفساق الذين انتهكوا محارم اللّه كلها فليأت أهل البدع والباطل فإنهم سيشهدون له أن ليس أحد ـ من الملائكة المقربين والنبيين ـ أفضل إيماناً منه عند اللّه.
فإنهم قد ضعفوا دين اللّه، وخالفوا دين الله تعالى، وخالفوا قوله، وقالوا على اللّه غير الحق ، وجادلوا عن أهل المعاصي والْخَوَنة، وقد نهى اللّه تبارك وتعالى نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يُجَادِل عن الذين يختانون أنفسهم إن اللّه لا يحب من كان خواناً أثيماً.
فزعموا أن هؤلاء مؤمنين، فعادونا من أجل هؤلاء، وأدخلوهم في ولاية المؤمنين، فمن يعقل يعلم أنا أولى بالحق منهم، بالحب للمسلمين عامة، إلا أهل الفسوق منهم، الذين أوجب اللّه تبارك وتعالى في كتابه لهم النار، فهي لهم.
فسلهم هل يدخل الجنة إلا من يحب اللّه؟ أو يشكون فيمن لا يحبه اللّه تعالى، لا يدرون أيدخل الجنة أم النار؟ وقد قال اللّه تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران:28].

(1/45)


وقال تبارك وتعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(46)وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ(47)وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ}[النور: 46 ـ 48].
فسلهم عن خمسة رهط من أهل القبلة، وافقوا عشرة رهط من تجار المسلمين، فأرادوا أن يأخذوا أموالهم، فلم يستطيعوا، فذهب الخمسة إلى عشرة من الأكراد فوالوهم ، فشاركوهم على قتال المسلمين فيأخذوا أموالهم، فدعاهم المسلمون إلى اللّه تعالى ورسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم وإلى كتابه الكريم وإلى أن يكونوا معهم على قتال الأكراد، فأبوا عليهم وقاتلوا ـ مع الأكراد ـ المسلمين حتى قتلوهم وأخذوا أموالهم فاقتسموها هم والأكراد.
فسلهم عن هؤلاء الخمسة الرهط حين تولوا عن طاعة اللّه تعالى، وقتلوا المسلمين مع الأكراد، أمن المؤمنين هم، أم هم [ليسوا] من اللّه في شيء؟
فإن قالوا: نعم، كانوا من الذين سعوا في آيات اللّه معاجزين، والمعاجزون: المشاقون؛ لأنهم تركوا قول اللّه تبارك وتعالى وأخذوا بالظن والشبهات.
[الإيمان الثابت والبرآءة من الفساق]
واعلم أنه من كان له إيمان عند اللّه ثابت مثل إيمان النبيين صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين كان من رفقائهم، إن اللّه تعالى يقول: {وَمَنِ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا}[النساء: 69].
ولكن أهل البدع خصمهم أهل الحق بالقرآن حتى لبسوا عليهم أمرهم، وَظَهَرُوا عليهم بكتاب اللّه تعالى.

(1/46)


وإن أهل البدع والباطل إذا ذكر لهم فاسق من أهل القبلة ممن يعمل بالمعاصي التي أوجب اللّه تعالى بها النار، فشهد عليه المسلمون أنه إذا أدخله اللّه النار كان كافراً، وبرئ أن يكون مؤمناً؛ يقولون: فإن الله تعالى يقول: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ(1)لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ(2)وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(3)وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ(4)وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(5)لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}[الكافرون: 1-6]، فإنهم سيقولون لك أَتَبْرَأُ مما كان يعبدُ هؤلاء الذين من أهل القبلة إذا أدخلهم اللّه تعالى النار؟ فقل: إني لا أتبرأ من الذي كانوا يعبدونه، ولكني أَتَبَرَّأُ من عملهم الذي أدخلهم اللّه تعالى به النار.
وإنما نزلت (قل يا أيها الكافرون) في أصحاب عبادة الأوثان، في اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، فنهى اللّه محمداً صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يعبدها، وأمره أن يعبد اللّه وحده ولا يشرك به شيئاً.
وقال إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ(76)فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء: 75 ـ 77] فبرىء من عبادة أوثانهم ولم يتبرأ من ربه حين عبدوه، ولكنه تولى اللّه تبارك وتعالى وأطاعه.
وقال إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِِ}[الزخرف: 26 ـ 27]، وقال أصحاب الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}[الكهف: 16] فاعتزلوا قومهم في عبادة الأوثان، ولم يعتزلوهم في عبادة ربهم.
وقال جل وعلا: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}[يوسف: 106] فلا نَبْرأ من إيمان المشركين بالله، ونبرأ من شركهم بالله.

(1/47)


فكما لم ينفع المشركين [عمل] مع شركهم بالله، كذلك لم ينفع عمل من كان من أهل القبلة يدعي الإسلام يأتي الكبائر التي نهى اللّه تبارك وتعالى عنها، فأحبط اللّه إيمانه حين لم يقبل منه عملاً، فإنه إذا عمل بالكبائر لم يكن من المتقين.
وقال اللّه تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[القصص: 83].
وقال اللّه تعالى:{ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا}[مريم:63].
وقال تعالى لمن حج بيته: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[البقرة:203] فلم يتقبل اللّه تبارك وتعالى حجاً ولا عملاً إلا من المتقين.
وقال تبارك وتعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}[الأعراف: 169].
ومن قرأ القرآنَ فزعم أن اللّه تبارك وتعالى يغفر له أو لأحدٍ من أهل القبلة كبيرةً من الموجبات أتاها بغير توبةٍ، وأن اللّه تبارك وتعالى يُدْخِلُه الجنة بغير عمل يرضى به اللّه تعالى، فقد افترى على اللّه عز وجل، وقال غير الحق، وشك في قول اللّه تعالى، واعتلج الحق والباطل في قلبه، فلم يدر أيهما يتبع، فهو في لبس من دينه يتردد في ضلالِه.
[الإيمان الذي يستحق صاحبه دخول الجنة]

(1/48)


وإن أهل البدع والباطل سيقولون لك إن خاصمتهم: أتشهد على نفسك بأنك مؤمن؟ يريدون بذلك عيبك. فإذا سألوك، فقل: نعم.
فإنهم سيقولون لك: إنك قد شهدت على نفسك أنك من أهل الجنة، وأنك تقول: إن اللّه تبارك وتعالى لا يدخل مؤمناً النار.
فإذا سألوك عن نفسك، فقل: أنا مؤمن بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين والكتاب، وأنا مستكمل الإيمان بالقول والصفة.
والإيمان حقيقته: العمل، فمن لم يُتِمَّ الإيمان بالعمل بطل قوله وصفته، وكان من أهل النار.
فإنهم سيسألونك عن نفسك، فقل: هو أعلم بمن اتقى. وأنا أحد رجلين: إما أن أكون أعمل فيما بيني وبين ربي بالخيرات، فما كنت لأحَدِّثكم بعملي، وإما أن أكون رجلا مذنباً فيما بيني وبين ربي، فما كنت لأَهْتِكَ سِتْرَ اللّه عَلَيَّ، ولكن سلوني عن غيري ممن هو مستكمل الإيمان بالقول والصفة والعمل الصالح، فأشهد لكم أنه من أهل الجنة، ولكن سأرُدُّ عليكم قولكم فتضيق عليكم الأرض بما رحبت ولا يكون لكم بد من الجحود.
فإن اللّه تعالى قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(2)الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3)أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}[الأنفال: 2 ـ 4] فإنهم يقرون بالآية الأولى ويشهدون على أنفسهم، ويجحدون بالآية الأخرى، يقولون: لا ندري. لا يشهدون على أنفسهم أن لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم. فإذا هم قد دحضت حجتهم والتبس عليهم أمرهم، ذلك بأن اللّه يقذف {بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}[الأنبياء: 18].

(1/49)


وقال اللّه تبارك وتعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ}[البقرة: 177]، فقل: أتشهدون أن اللّه تعالى سينجز وعده في هؤلاء ويدخلهم جنات النعيم، فإنهم سيقولون: نعم.
وسلهم عن رجال قالوا: آمنا بالله والملائكة والكتاب والنبيين، يشهد أنه حق من اللّه تعالى، وهم يسعون في الأرض الفساد، ويقتلون النفس التي حَرَّم اللّه تبارك وتعالى بغير الحق، ويأخذون الأموال، ويزنون، ويشربون الخمور، ويضيعون الصلوات الخمس، ويتبعون الشهوات. فقل لهم: أتشهدون أن هؤلاء سيلقون غَيّاً، أوْ تَشْهَدون أنهم من الأبرار الذين صدقوا وهم من المتقين؟!
فإن قالوا: هم من الذين يلقون غَيّاً، فقد صدقوا على اللّه تعالى، وإن قالوا: هم من الأبرار الذين صدقوا وهم من المتقين، فقد كذبوا على اللّه تعالى، وبدلوا قوله. وإن اللّه تعالى يقول: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ}[يونس: 32].

(1/50)


وقال جل ثناؤه: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ(28)كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}[ص: 28 ـ 29] فمن كان له قلبٌ ـ نفعه اللّه تعالى وجهه في دينه، ونفعته موعظة ربه ـ لم يكن في صدره حَرَجٌ أن يشهد على ما شهد اللّه تعالى عليه، أن يقول مثل الذين قال اللّه تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ}[البقرة: 177]، ويشهدون على هؤلاء الذين سماهم اللّه تعالى المفسدين في الأرض، وسماهم الفجار إنهم كفار، قال: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ(13)وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}[الانفطار: 13 ـ 14] فمن جعله اللّه تعالى في الجحيم كان من الكافرين، فليعتبر أولوا الأبصار في قولنا وقولهم.
إنهم يزعمون أنهم يرجون لكل صاحب كبيرة ـ قد أوجب اللّه تعالى بها النار الجنة ، وقَنَّطهم الشيطان من رحمة اللّه تعالى، وآيسهم من روح اللّه، أنهم إن شهدوا بما سمى اللّه تعالى لأصحاب الموجبات أدخلهم اللّه تعالى النار، فإن غفر اللّه تعالى لأصحاب الموجبات كما يقولون، فهؤلاء ـ الذين شهدوا بما شهد اللّه تعالى ـ حقٌ أن يُغْفَر لهم، إن اللّه تبارك وتعالى عدل لا يحيف في القضاء.
ويزعمون أنهم هم المهتدون والمصيبون في رأيهم.

(1/51)


فسلهم عن رجل دعوه إلى رأيهم فاتَّبَعَهُم فواخوه في دينهم، فقال لهم: يا أخوتاه إني أريد أن أغزوا في سبيل اللّه تعالى فشيعوني، فخرج غازياً في سبيل الله وخرجوا معه، فسار قليلاً ثم نزل فقدم سفرة له فأكلوا منها، ثم إنه سلم عليهم وسلموا عليه، وودعهم ودعوا له بحسن الصحبة والكلاءة في السَّفر، فسار حتى إذا كانت صلاة الأولى قام فأذن للصلاة، فإذا هو برجل قد أقبل إليه، فقال: أنا أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، وأشهد عليك أن شهادتك هذه كاذبة، وأنك كافر، وأن ذبيحتك علي حرام، وأن دمك لي حلال، ثم تقدم إليه فضرب عنقه، وأخذ ماله لنفسه، فبلغكم ذلك والقاتل والمقتول من أهل القبلة، وأهل الشعار، وقد قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات: 10]، فأخبروني حين قتله وأخذ ماله أعدوه هو والمخاصم له يوم القيامة، أم هو أخوه في الجنة على سرر متقابلين؟!
فما شهادتكم على رجل قتل أخاكم في دينكم وحَرَّم ذبيحتكم التي أكلتم معه منها، فأخبروني أفي براءة منكم القاتل والمقتول، أم وفي ولاية، أم أحدهما في ولاية والآخر في براءة؟ فإن قالوا: نبرأ إلى اللّه من القاتل. فقولوا: ما اسم القاتل، أكافر هو أم مؤمن؟ فإن قالوا: هو مؤمن. فقولوا: إنكم برئتم ممن تولاه اللّه تعالى، فإن اللّه تبارك وتعالى قال: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران: 68]. وإن قالوا: كلاهما في ولاية منا، عَمُوا وصَمُّوا عن الحق، وكان صاحبهم المتقي المقتول والقاتل الفاجر عندهم سواء، واستخفوا بحق اللّه تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}[إبراهيم: 42].

(1/52)


وسلهم عن رجل قُتِلَ ابنُه، فأخذ قاتل ابنه فجاء بأربعة يشهدون عليه بالله أنه قتل ابنه، فجاء بهم إلى قاض من قضاة المسلمين فشهد الأربعة عنده أنه قتله، فسأل عنهم فوجدهم عدولاً مسلمين، فقال القاضي للرجل: ظَفِرَتْ يداك، خُذْ من القاتل كفيلاً، وأرجع يومك هذا فأتمر بينك وبين نفسك، إن شئتَ دفعنا إليك عدوّك فتقتله بابنك، وإن شئتَ أخذتَ الدية، وإن شئتَ تصدّقتَ بها على القاتل.
فرجع الرجل وقد أخذ منه كفيلاً بهذا، فقال للشهود الأربعة: بم حكم القاضي بيني وبين صاحبي؟
قال الأربعة الشهود: نشهد أنه قد حكم بما أنزل اللّه تعالى.
فلما أن أمسوا ذهب القاتل في ليله إلى القاضي، فقال: إن عندي إثني عشر ألفاً قد عرضتها عليه فأبى أن يقبلها مني، فهل لك أن آتيك بها فتبري كفيلي وتخلي سبيلي وتبطل شهادة الشهود؟
قال له القاضي: نعم، ائتني بها.
فجاءه بها، فلما أن أصبحوا جاء أبو المقتول بالشهود والقاتل والكفيل إلى القاضي ، فقال القاضي لأبي المقتول: إذهب فإنه لا حق لك إنَّّ شهودك شهودُ زورٍ، وبَرَّأَ القاتل والكفيل من كفالته.
فرجع أبو المقتول والشهود، فقال أبو المقتول للشهود: إنكم شهدتم أمس أنه قد حكم بما أنزل اللّه تعالى فما شهادتكم اليوم عليه حين غَيَّر حكمه الذي حكم به أمس؟
قال اثنان من الشهود الأربعة: إنه اليوم لم يحكم بما أنزل اللّه تعالى، فهو: كافر، قال اللّه تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ}[المائدة: 44].
وقال الاثنان اللذان شهدا أنه من المؤمنين: امرأتاهما طالقتان إن لم يكن من المؤمنين.

(1/53)


فقل لأهل البدع والباطل أرأيتم إن ابتليتم فَجُعِل أحدكم قاضي المسلمين، فجاءتا امرأتا الرجلين الذين شهدا على القاضي إنه من الكافرين، فقالتا: إن رأيتنا حلالاً فارددنا إليهما، وإن رأيتنا حراماً ففرّق بيننا وبين أزواجنا، وقالتا المرأتان اللتان طلقهما زوجاهما إن لم يكن القاضي من المؤمنين: ونحن إن كنتَ ترانا حلالاً فردنا إلى أزواجنا، وإن كنت ترانا حراماً ففرّق بيننا، فعند هذا القضاء تدحض حجتهم، ويضمحلّ باطلهم، ويعمى عليهم أمرهم.
فسلوا اللّه تعالى الهدى والبصائر والعمل والفقه في دينه، فإنكم قد أصبحتم على ريبة من أمركم يا أهل البدع.
وسلهم عن رجل ركب فرسه وتقلّد سيفه ثم ذهب فقطع الطريق على المسلمين، فقتل المؤمنين وأخذ أموالهم، وأخذ بالربا، وشرب الخمر، وقذف المحصنة، وترك الصلاة، فإذا قيل له: أرأيتك هذا الذي تعمل حلالاً هو أم حراماً؟ فيقول: لا، بل حرام من اللّه تعالى.
فسلهم: أهو ممن يشفع له محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم والملائكة؟ فإن قالوا: لا ندري، شكوا فيما أنزل اللّه تبارك وتعالى.
وإن قالوا: نعم، كذبوا على اللّه تعالى؛ لأن اللّه تبارك وتعالى يقول في كتابه: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء: 28].
وسلهم عن هذا الرجل أكافر هو بالله ورسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم، أم مؤمن بالله تعالى ورسوله؟ فإنهم سيقولون: هو مؤمن بالله ورسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم، فقل: فإن اللّه تعالى يقول: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ}[الحديد: 21].
فإن قالوا: لا ندري، شكّوا فيما أنزل اللّه تعالى، ولم تطمئن قلوبهم إلى قول اللّه تعالى: إنه سينجز وعده.

(1/54)


وقلْ لهم: لكني أشهد أنه كافر بالله ورسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولا أقول إن كُفْرَه كُفْر شكّ فيما جاء به محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولكن أقول كفر بأمر اللّه تعالى وأمر رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم، ففسق عن أمر ربه، فكان كفره كفر إبليس حين أبى أن يسجد لآدم صلى اللّه عليه، وهو مُصَدِّقٌ بالله تعالى يعلم أن اللّه تعالى هو الواحد القهار، ويعلم حين قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}[الأعراف: 12]، وقال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] وقال : {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِِِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا }[الإسراء: 62] فَصَدَّق بأمر ربه تبارك وتعالى كلّه لم يجحد شيئاً منه، غير أنه عصى معصية لم يتب إلى اللّه تعالى منها، فلعنه وغضب عليه وجعله من الكافرين بغير جحود بالله تعالى.
[تسمية أهل النفاق وصفاتهم وجزاؤهم]
وسلهم عن المنافقين: ما يسمونهم، أكفار أم مشركون؟ فإنهم سيقول لك: مشركون، فتراهم قد جحدوا ما أنزل اللّه تعالى وخالفوا قول اللّه تعالى؟
قال اللّه تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}[التوبة:56].

(1/55)


وقال اللّه تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا(142)مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}[النساء: 142 ـ 143] فأبى اللّه تعالى أن يجعلهم من المؤمنين، وأبى أن يجعلهم من المشركين، وأخبر أهل البدع والباطل وشهدوا أنهم مشركون، ليقيموا بذلك خصومهم، فلا أحد من أهل القبلة أشد مخالفة لكتاب اللّه تعالى منهم.
فإنهم سيقولون: فَلِمَ يرث بعضهم بعضاً؟

(1/56)


فقل: ذلك بأنه كانت تجري عليهم أحكام محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، وقد أعلم اللّه تبارك وتعالى محمداً صلى اللّه عليه وآله وسلم وعَرَّفَه طائفة من المنافقين فقال: {فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}[محمد: 30]، وكان المسلمون يأكلون ذبائح المنافقين، ويصلونهم ميراثهم، وتعتد نساؤهم، ويرث أبناؤهم للذكر مثل حظ الانثيين.وقد أخبر اللّه تبارك وتعالى نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنهم كفار، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ(3)وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ(4)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}[المنافقون: 3 ـ 5]، فقد عرفوهم إذ دعاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ليستغفر لهم فأبوا، فلم يأمره اللّه تبارك وتعالى بقتالهم، ولم يقطع ميراثهم، ولم يحرم نكاحهم ولا ذبائحهم، من أجل أنهم من أهل الدعوة.
وقال اللّه تعالى في سورة (الفتح): {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[الفتح: 6].

(1/57)


وقال في سورة (الأحزاب): {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[الأحزاب: 73]، ففصل اللّه اسم الشرك عن النفاق، واسم النفاق عن الشرك، وقضى على نفسه أنه يتوب على كل مؤمن ومؤمنة، فأنَّى تؤفك عقولهم عن قول اللّه تعالى.
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}[التوبة: 28]، فقد غزوا مع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وحجوا معه بعد ما نزلت هذه الآية، وكان نبي اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أطوع خلق اللّه تعالى لربه تبارك وتعالى، فلو كانوا مشركين لم يعص اللّه تعالى، فيدخلون معه بعد المسجد الحرام، ولأنهم لم يسمهم اللّه عز وجل: مشركين، وجرت عليهم أحكام محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم.
وقل لهم: أتعلمون أن اللّه تبارك وتعالى أنزل على محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ } [التوبة: 84]، فهذه الآية نزلت في (عبد الله بن أُبَي بن سلول) المنافق، وكان عبد الله رأس المنافقين، ليس يمتري فيه أحد ممن يقرأ القرآن أو سمع العلم.
وسلهم هل ورِثَهُ ولده للذكر مثل حظ الأنثيين أم لا؟ وورثته امرأته الثمن، واعتدت منه أربعة أشهر وعشراً، فإنها لو كانت تحت أصحاب محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم لم تزد على هذا.
فسلهم عن رجلين أخوين لأب وأم كان لأحدهما ابن وكلاهما يدعيان الإسلام وكلاهما أخوان، فوثب الذي له ابن على الذي ليس له ابن فقتله وبقي الذي له ابن. فورث الابن عمه، ولم يرث الأخ أخاه فسلهم لم ورث ابن الأخ عمه؟
فإن قالوا: لا ندري.

(1/58)


فقل: لكني أدري لأن الأخ قتل أخاه، فانقطع الميراث الذي بينهما فلم يرث أخاه، فلو كانا مؤمنين كليهما القاتل والمقتول ورثه.
وسلهم عن الذين قالوا: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}[الأحزاب: 12]، أمشركين كانوا؟ فإن هؤلاء قد أعلنوا قولهم، فلوا كانوا مشركين ضربت أعناقهم، وقد قال اللّه تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}[التوبة: 5]، فإن قالوا: نعم هم مشركون. فإنه حق على المسلمين أن يضربوا أعناقهم، ولكني أراهم قد عرفوا اللّه وعرفوا رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم بالقول بألسنتهم، وجحدوا قول اللّه تعالى، وما جاء به رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم.
وسلهم عن الذين استأذنوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فقالوا: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ}، قال اللّه تبارك وتعالى: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب: 13]، قل: هل عرفهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله سلم حين استأذنوه أم لا؟ فإنهم لا يستطيعون إلا أن يقولوا: لم يأمر بقتلهم ونفيهم.
وقال اللّه تبارك وتعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَأتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا}[الأحزاب: 14]، والفتنة: أن يكفروا. وقال اللّه عز وجل: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُم الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67].

(1/59)


فيعمد أهل البدع والباطل إلى كل رجل ـ من أهل قبلتنا ـ يعمل بالصفة التي سمّاها اللّه تعالى من أعمال المنافقين فيزكونه من اسم النفاق ويدخلونه في اسم المؤمنين {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة: 71]، فخالفوا قول اللّه تعالى في المنافقين والمؤمنين.
وقال اللّه تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}[النساء: 145]، فلو كان المنافقون مشركين لم يكونوا تحت أرجل المشركين في جهنم.
وقال اللّه تبارك وتعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ(22)مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ}[الصافات: 22 - 23]، وأزواجهم هم: المشركين الذين كانوا قبلهم، فلو كان المنافقون مشركين لم يحشروا مع المؤمنين الذين {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[الحديد:12] فألحقهم بالذين كفروا، فسيقوا إلى جهنم زمراً.
[مناقشة في تسمية بعض أهل الكبائر]
وسل أهل البدع والباطل عن رجل قال: أنا أشهد أن ما جاء به محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم حق، قد حرم اللّه لحم الخنزير وهو محرم على المؤمنين ولكن أشتهيه، فأمر بخنزير فذبح وأكل لحمه، حتى أكل خنازير، فكان آخر ذبيحة منها ذهب ليأكل منها، فدخل عظم من عظامه في حلقه فقتله في مجلسه ذلك.
فسلهم عن هذا الرجل أهو كافر أو مؤمن؟ فإن قالوا: مؤمن من المؤمنين. تبين حمقهم وضلالهم.

(1/60)


وإن قالوا: كافرٌ؛ فدعهم وباطلهم الذي ينتحلون، وطعام الخنزير ليس هو من طعام الأبرار ولكنه من طعام الكفار الذين كفروا بما جاء به محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم.
وسلهم عن رجل يقطع الطريق على المسلمين فجعل يَلْقَى كل يوم رجلاً من المسلمين فيقتله ويأخذ ماله، حتى قَتَلَ مائة نفس، فكان مع آخر من قتله لحم في سفرته، فجلس القاتل فأكل منه، فدخل في حلقه عظم من ذلك اللحم فقتله في مجلسه ذلك.
فسلهم أمؤمن هو أم كافر؟ فإن قالوا لك: كافر. اضمحل باطلهم عنهم.
وإن قالوا: مؤمن. فقل: لو أنكم حضرتموه حين مات أكنتم قائمين على قبره ومصلين عليه؟ فإن قالوا: لا. فقل لهم: شككتم في دينكم والتبس عليكم أمركم، وارتبتم في رأيكم ، وإن قالوا لك: نصلي عليه. فقل لهم: أهو من المؤمنين الذين كان رسول اللّه أمر بالاستغفار لهم؟ فإن قالوا: نعم. فقل: كذبتم على ربكم تبارك وتعالى وعلى نبيكم صلى اللّه عليه وآله وسلم، إن هذا حرب لله تعالى ولرسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولم يكن اللّه تعالى ليأمر نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يستغفر ويصلي على حربه.
وقد كانت الخمر حلالاً للمسلمين، فلما حرمها اللّه تعالى وجعلها مع الميسر والأنصاب والأزلام، جعلها رجساً من عمل الشيطان، فشكا المسلمون إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فقالوا: كيف بآبائنا وأمهاتنا وإخواننا الذين قُتِلُوا وماتوا وهذه الرجس في بطونهم؟ فأنزل اللّه تبارك وتعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[المائدة: 93]، فلم يبرأ الذين هلكوا من الأمم إلا من كان على هذه الصفة.

(1/61)


فهذا ميثاق اللّه على عباده واثقهم به، وبهذا يدخل اللّه تبارك وتعالى عباده الجنة، ولا يدخلهم بالفسق، ولا بالعمل الذي لعن اللّه تبارك وتعالى مَنْ عمله وغضب عليه.
وأهل البدع يزعمون: أن الإيمان قول وإقرار بما جاء به رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، وليس الإيمان العمل، فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حين قدم المدينة صلى إما ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، لم يتم فيها استقبال البيت الحرام، فلما صرف اللّه القبلة إلى البيت الحرام، وجد المسلمون في أنفسهم من صلاتهم قبل ذلك، فأنزل اللّه على نبية صلى اللّه عليه وآله وسلم: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ }[البقرة: 143] يعني بهذه الآية: الصلاة، فسمى صلاتهم: إيماناً.

(1/62)


وقال اللّه تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ [وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ(84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَتَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(85) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ] فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ } [البقرة:84 ـ 86]، فأخذ اللّه الميثاق على بني إسرائيل في التوراة: ولا تقتلوا أنفسكم. إنما يعني بأنفسهم أهل ملتهم، وألا يأتيهم أسير من بني إسرائيل أو عبد أو وليدة إلا شروه إن بِيْعَ، فأعتقوه.

(1/63)


فكان بين الأوس والخزرج في الجاهلية حرب شديد وقتل شهير، وكانت بنو قريظة من اليهود، والنضير من اليهود، حلفاء الأوس والخزرج؛ بنو قريظة خلفاء الأوس، والنضير حلفاء للخزرج، فكانت الأوس والخزرج إذا سارت بينهما القتال، جاء حلفاء الفريق كلاهما من اليهود، فقاتلوا مع حلفائهم خشية أن يستضعف حلفاؤهم، وبنوا الأوس والخزرج مشركون ليسوا على دين اليهود، فيقتل اليهود بعضهم بعضاً ويخرج اليهود بعضهم بعضاً من ديارهم، فإذا تخارجوا بينهم، وسكن القتال أتي بالعبد والوليدة من بني إسرائيل ليباع، أرسل الفريقان ـ الذين اقتتلوا قَبْلُ ـ بعضَهُم إلى بعض: اجمعوا فداء هذا الأسير حتى نعتقه، فإذا قيل لهم: لم تعتقونه ؟ قالوا: إن اللّه تعالى أمرنا بذلك. فيقال لهم: أليس؟ قد حرم اللّه تعالى دماء بعضكم على بعض في التوراة ، كما أمركم بشراء هذا الأسير؟ قالوا: بلى وكنا نخاف أن يستضعف حلفاؤنا.
فأقروا بأنه حق من اللّه تبارك وتعالى، فلم ينفعهم الإقرار حين لم يعملوا شيئاً، وجعلهم مؤمنين بإشترائهم الأسرى، وجعلهم كفاراً بسفك دمائهم وإخراج بعضهم بعضاً من ديارهم، وهم يهود كفار بالله وبرسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم، فجعلوا مؤمنون بالآية التي عملوا بها من اشتراء الأسرى، وغضب اللّه تعالى عليهم بسفكهم الدماء، حتى ردوا إلى أشد العذاب، قال اللّه تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}[غافر: 46].
[تم بحمد الله كتاب الإيمان]
---
( [1]) ـ يعني فلو كان الزاني مؤمناً لكان النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ به رؤوفاً رحيماً، والله قد قال لنبيه في الزاني: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2]، فهذا دليل على خروج الزاني من أن يسمى مؤمناً.

(1/64)


( [ 3]) - أي وحجته التي يحتج بها في زعمه وقوله غير القرآن، بل يردها القرآن، وكل قول خالف القرآن وجب رده ومخالفته.
( [ 5]) ـ يعني أن من أنواع الكفر عدم الشكر لله عز وجل.

(1/65)