الكتاب : كتاب الإيضاح في شرح المصباح المؤلف : القاضي العلامة أحمد بن يحيى حابس رضي الله تعالى عنه |
كتاب الإيضاح في شرح المصباح
تأليف
القاضي العلامة أحمد بن يحيى حابس رضي الله تعالى عنه
[ خطبة الكتاب ]
بسم اللَّه الرحمن الرحيم ، وبه نستعين
الحمد لله الذي أنشأ العالم من العدم، واخترعه اختراعاً، وأوجده بعد العدم المحض ، وأبتدعه ابتداعاً، وجعل حدوث المعلوم بقبوله الزيادة والنقصان، وملازمة المحدث من الأعراض إذ الانفكاك خارج عن دائرة الإمكان، والعرض معدود منه غير خارج عنه ، دليلاً على وجود ذاته جلَّ وعلا وكمال صفاته سبحانه وتعالى عمَّا يقول الجاحدون وما يعتقده الملحدون (علواً كبيراً) ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة سببها اليقين به والنظر المؤدي إلى معرفته مدخرة ليوم القيامة أرجو بها الفوز والكرامة،وأن محمداً عبده ورسوله الذي أيده بالمعجزات الدالة على صدقه التي أعظمها (ما هو الآن) بين أظهرنا وهو القرآن ، إذ نظمه خارج عن طوق البشر حيث تحدى به العرب وهم يومئذٍ الصمم والخلاصة وممن يشار إليهم بالبنان ، فأقحموا عن المعارضة ورجعوا إلى الحرب الدالة على العجز إذ ليست هي بإقامة برهان، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المحقين وتابعيهم وتابع التابعين بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فلما كان علم الكلام أشرف العلوم، (إذ هو لمعرفة الحي القيوم) ، والعلم يشرف بشرف المعلوم،وكان سبب افتراق الأمة إلى الفرق الهالكة والناجية اختلاف العقائد،وقد جمع سلفنا الصالح من الأدلة الصحيحة على مذاهب العترة الناجية ما هو (مطلوب الطالب و) بغية الرايد وضالة الناشد.
ووجدت بين القدماء والمتأخرين اختلافاً في مسائل معروفة وأطراف مألوفة لا ينبغي لرصين عقل أن يجعل ذلك سلَّماً إلى التفرقة بين العترة الكرام والأئمة الأعلام إذ لم يختلفوا مع التحقيق فيما يوجب هلكة أحدهم،ولا فيما يقدح في نجاتهم وعلو مرتبتهم ودقة نظرهم، ووجدت الهمم قد تقاعدت عن اقتناص فوائدهم وعن تتبع معرفة حقائق عقائدهم.
أحببت أن أعلق شرحاً مفيداً على الكتاب الشهير المعروف بمصباح العلوم في معرفة الحي القيوم لسهولة المأخذ منه على الطالبين وكونهم لطلب المذاكرة فيه لا يزالون سائلين،منبهاً على عقائد القدماء من أئمتنا الهادين ، ذاكراً أدلتهم وبراهينهم مميزاً لها أكمل تمييز على مذاهب المتأخرين،وكما أن للأول فضيلة الموصل السابق فللمتأخر درجة المقتدي اللاحق.
نجوم سماء كلما انقض كوكب بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
مقدمة
ينبغي قبل الشروع في شرح ألفاظ الكتاب،معرفة حد علم الكلام ،وثمرته، واستمداده،ولِمَ سمي علم الكلام؟، وفضله على غيره من سائر العلوم.
أمَّا حده: فهو القواعد اللاتي يتوصل بها إلى معرفة توحيد الله تعالى وعدله وما يترتب عليهما، فقولنا القواعد نعني بها القوانين الكلية،كقولنا كل ما لم يخل من المحدِث فهو محدَث متوصلين إلى معرفة الله تعالى بذلك،ونعني بقولنا وما يترتب عليهما الكلام في النبؤات والإمامة ومسائل الوعد والوعيد و(غير ذلك) ، ونعني بالترتيب الترتب الأخص بحيث لا يكون أحدهما أصلاً والثاني فرعاً،فلا يرد دخول مسائل الشرع الفرعية في قيد الترتيب .
وأمَّا ثمرته: فهي ثلاث فوائد:-
الأولى: أن يكون الإنسان من دينه على يقين،ومن علمه وعمله على بصيرة، ليعرف ما
يقدم عليه من دينه، وما يحجمه عنه،وليخرج من ضمن من دخل في قوله تعالى { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب } (البقرة:166.)وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(لا تكونوا إمعة تقولوا إن أحسن الناس أحسنا وإن أساؤا أسأنا ولكن وطنوا أنفسكم أنه إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤا لم تسيؤا).وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة إلا فرقة)، فلينظر الإنسان لنفسه ليدخل في الفرقة الناجية.
الفائدة الثانية: أن يكون آمناً عن أن يخدعه عن الحق المبطلون، ويدخله في الضلالة الضالون،ويدخل في الخبر المأثور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (من أخذ دينه عن التفكر في ألآء الله والتدبر لكتاب الله والتفهم لسنتي زالت الرواسي ولم يزل ، ومن أخذ دينه عن أفواه الرجال وقلدهم فيه ذهبت به الرجال من يمين إلى يسار وكان من دين الله على أعظم زوال).
الفائدة الثالثة: أن يكون متمكناً من إرشاد الضالين وهداية الغاوين، ويدخل في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو قوله:(يا علي لأن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس)، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أنه قال) : (ما أهدى المسلم لأخيه المسلم أفضل من كلمة حكمة سمعها فانطوى عليها ثم علمه إياها يزيده الله بها هدى أو يرده عن ردى،وإنها لتعدل عند الله إحياء نفس ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً).
وأمَّا استمداده: فمن العقل باستعمال الفكر في صنع الله تعالى وقياس فعل الباري على فعلنا في الاحتياج إلى المحدث مع الاشتراك في الحدث، وسيأتيك نبأه ومن السمع أيضاً فيصح الاستدلال على الباري تعالى بالآيات المثيرة لدفائن العقول وهي زهاء خمسمائة آية عند أئمتنا عليهم السلام والجمهور ، وعند أبي رشيد وبعض متأخري صفوة الشيعة : أنه يصح الاستدلال بالقطعي مطلقاً. وعند الإمامية والبكرية وبعض المحدثين : أنه يصح بالظني مطلقاً. وقال أبو هاشم: لا يصح بالجميع مطلقاً.
قلنا: المعلوم قطعاً باتفاق علماء الكلام أن الدليل ما اهتدى به العقل إلى المطلوب بواسطة النظر ولو بالتدريج والانتقال من دليل إلى دليل إلى المطلوب، والآيات التي وصفناها تدل العقل بواسطة النظر إلى الدليل على كون ذلك الدليل مصنوعاً ، إذ لابد من النظر فيها بدليل قوله تعالى{أفلا يتدبرون القرآن}الآية(النساء:82.)، ونحو ذلك. (ويُنتقل) إلى كونه له صانع يشهد بذلك تفسيرهم اسم الله تعالى في قوله تعالى{هو الظاهر والباطن}(الحديد:3.)حيث قالوا: هو الظاهر بصنعه ولا يكون ظاهراً حتى يعرف حق معرفته ولا يعرف حق معرفته حتى تعرف صفاته وكالاستدلال على (كونه حياً) بالمصنوع.
وأبو هاشم يجريها مجرى محض الدعوى ولم يقر بأنها منبهة وهو مردود بعدم الفرق بينهما وبين الاستدلال بالصنع على كونه تعالى حياً،وبقوله تعالى{إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}(الإسراء:9.)ولم يفصل ، (وبقول) علي عليه السلام في خطبة الأشباح: فانظر أيها السائل بعقلك فما دلك (القرآن عليه) من صفته فأتمر به.
[ تعريف علم الكلام وأدلة من الكتاب والسنة ]
وأمَّا لم سمي علم الكلام ؟:فذلك اسم غلب عليه وإن كان كل علم كلاماً،كما غلب على علم النحو اسم النحو وإن كان كل علم منحواً أي مقصوداً، وكذا علم الفقه فإنه غلب عليه هذا الاسم وإن كان كل علم مفقوهاً. وقال الغزالي: إنه العلم الكلي لأنه كلام في كل شيء من الخالق والمخلوق والمعدوم والموجود والقديم والمحدث.
وأمَّا فضله: على سائر العلوم فمن جهة العقل والسمع، أما من جهة العقل فلأن الشيء يشرف بشرف معلومه ، ألا ترى أن التفاسير لما كان معلومها كتاب الله تعالى واستخراج أسراره شَرُفَتْ بشرفه،و لما كان معلوم الفقه الحلال والحرام والتمييز بينهما
شرف بذلك،ومعلوم هذا الفن الله تعالى وصفاته وعدله وهو أعظم الأشياء فوجب أن يشرف بذلك وأن يكون أشرف العلوم.
وأما من جهة السمع فالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وألوا العلم } (آل عمران:18) فذكرهم الله بعد ملائكته،وأخبر أنهم شهدوا على وحدانيته،ولا يقال ليس في الآية دليل على أنها واردة في أهل علم الكلام خاصة لأن ظاهرها يقتضي العموم، لأنَّا نقول الشهادة لا تكون إلاَّ على القطع لقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام:(مثل هذه الشمس وإلاَّ فدع)، ولا يعرف الله على القطع الذي تجوز معه الشهادة إلاَّ أهل هذا العلم، ولا يقال دلالتها على فضل العلماء (لا العلم) ، وذلك خروج من المطلوب ،لأنا نقول المعلوم قطعاً استواءُهم لهم وغيرهم في كونهم بشراً مكلفين فلابد من مزية اختصوا بها ففضلوا وليست إلاَّ شهادتهم بالواحدانية ، (وفي ذلك) حكم بفضيلة هذه المزية كما لا يخفى ، والله أعلم.
وأمَّا السنة: فما روي أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يارسول الله علمني من غرائب العلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(وماذا صنعت في رأس العلم حتى تسألني عن غرائبه؟ فقال الرجل: يارسول الله وما رأس العلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: معرفة الله حق معرفته، قال: وما معرفة الله حق معرفته؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: أن تعرفه بلا مثل ولا شبيه وأن تعرفه إلاهاً واحداً أولاً آخراً ظاهراً باطناً لا كفو له ولا مثل له). وما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : (رأس مالي التوحيد وكنزي عقلي ومالي عملي).وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم : (قسم الله العقل ثلاثة أجزاء،حسن المعرفة بالله،وحسن الطاعة،وحسن الصبر لله). وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلاً سأله فقال يارسول الله أي العمل أفضل؟، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : (العلم بالله. ثم قال: أي العمل أفضل يارسول الله؟ قال: العلم بالله. فأعادها عليه الثالثة فقال الرجل: يارسول الله أسألك عن العمل وتخبرني عن العلم فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ( إن قليل العمل مع العلم كثير وكثير العمل لا ينفع مع الجهل). وعنه صلى الله عليه وآله وسلم:(لو عرفتم الله حق معرفته لزلزلت لدعائكم الرواسي ولو خفتم الله حق خيفته لعلمتم العلم الذي ليس معه جهل). وعنه صلى الله عليه وآله وسلم:(يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين). ويدل على ذلك أيضاً ما ورد من الأخبار في فضل آية الكرسي وسورة الإخلاص. قال الزمخشري: إنما خصتا بهذا الفضل لما تضمنتا من توحيد الله تعالى. إلى غير ذلك من الأخبار الواردة عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
وأمَّا الإجماع: فلا خلاف بين علماء الإسلام أن معرفة الله تعالى وما يتصل بذلك أفضل العلوم، وأن من فضل علماً من سائر العلوم فإنه يقول بعد المعارف الإلاهية بلسان المقال أو بلسان الحال بحيث لو سئل عن ذلك لاعترف به.
بسم الله الرحمن الرحيم
ابتدأ المصنف ببسم الله ، لدليلين عقلي ، وسمعي.
أما العقلي: فلما تقرر في العقول من وجوب شكر المنعم ضرورة،وقد علمنا قطعاً توارد نعم الله علينا قال تعالى{وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}(النحل:18) والشكر هو الثناء باللسان والعمل بالأركان والاعتقاد بالجنان فيكون ذكره شعبة من شعب الشكر.
وأما السمع: فأدلة ثلاثة الكتاب ، والسنة ، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين}(الفاتحة:1،2) وقوله تعالى{إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم}(النمل:30) وقوله تعالى{اقرأ باسم ربك الذي خلق}(العلق:1).
وأما السنة: فما روي عن عائشة أنه أُتي إليها بقميص مخيط فقالت: هل ذُكر عليه اسم الله؟، قيل: لا، قالت: ردوه فافتقوه ثم سموا عليه وخيطوه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : (كل أمر ذي بال لا يذكر عليه اسم الله فهو أَجَذ) (وقيل أقطع وقيل أبتر) وقيل خداج. والمعنى بذلك أنه منزوع البركة.
قال الدواري: هكذا في الرواية وهو يحتمل وجهين أن يكون الشك في الرواية عن عائشة،وأن يكون منها عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأول أقرب.ومعنى ذي بال: أي خطر بالبال،وقيل له خطر وشأن.
وأمَّا الإجماع : فلا خلاف بين العلماء أن من ألف باباً أو صنف كتاباً أو قام خطيباً إلى غير ذلك ولم يذكر اسم الله عليه فإنه معترض عليه ما لم يكن فعل قلب أو كلاماً أوله ذكر الله كالأذان والخطبة وإن لم يورد على جهة التسمية أو كتاب غضب ويكون للكاتب على المكتوب سطوة كسورة براءة فإنها نزلت على المشركين بوعد ووعيد وزجر وتهديد.وروي أن علياً عليه السلام كان يكاتب معاوية بن أبي سفيان بكتب محذوفة التسمية وفيه يقول الشاعر:
يدل على وجد الهمام كتابه وتخليفه للصدر عمن يكاتبه
والمراد بالبداية باسم الله تعالى أن يذكر في أول الأمر اسم من أسماء الله مثل بسم الله أو الله أو الرحمن أو الرحيم أو الرب وغير ذلك.
قلت:لا يبعد أن للتسمية على تلك الهيئة أرجحية لما في الكتاب العزيز من قوله{بسم الله الرحمن الرحيم،الحمد لله رب العالمين}(الفاتحة:1،2).ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(بسم الله الرحمن الرحيم مفتاح كل كتاب)، رواه السيوطي في الجامع الصغير عن الخطيب في الجامع عن أبي جعفر مرسلاً.ولا تبعد دعوى الإجماع على ذلك.
نعم: ولا بأس بتحقيق الأسماء الشريفة التي اشتملت (البسملة عليها) .
فنقول : أما الجلالة فذهب المتكلمون إلى أنها اسم لله بإزاء صفة ذات ، وتلك الصفة هي صفات الكمال اللاتي لأجلها تحق له العبادة . ومعنى أنه موضوع بإزائها : أنه إذا أطلق يفهم منه تلك الصفات ، وهو مشتق من الإله وهو الفرع ، وهو فعال بمعنى مفعول كإمام بمعنى مأموم لكنه قد صار اسم جنس لمن يحق له ذلك .
وقال البلخي: بل هو مشتق من وله العباد أي فزعهم.
قلنا: إذاً لقيل الولاه لا إله بالهمزة .
وقالت النحاة : بل هو علم.
قلنا: العلم لا يفيد المدح إذ لا يزيد على تمييز مسماه من جنسه مع أن الله تعالى لا جنس له ، وأيضاً الأعلام ألقاب وهي لا تجوز على الله تعالى لأنها للغائب كالإشارة إلى الحاضر.
قال بعض المحققين : لا خلاف عائد إلى المعنى لأن المتكلمين إنما يمنعون أن يكون الله تعالى موضوعاً على العلمية من أصل وضعه كزيد وعمرو ونحوهما،وهذه هي الألقاب التي لا تجوز على الله تعالى ، وأما كونه صار علماً بالغلبة بعد أن كان في الأصل غير علم بل موضوعاً بإزاء صفة ذات ، فهذا مما لا سبيل إلى منعه فيكون قولهم الله هو من تحق له العبادة في الأصل قبل الإدغام والتفخيم ، ثم أنه بقي ذلك المعنى ملحوظاً فيه أيضاً بعد الغلبة كما هو حكم الأعلام الغالبة .
قلت: هذا يحتاج إلى تأمل ، فإن دعوى أن الله كان جريه على الألسن بلفظ الإله قريب من دعوى علم الغيب ، فإنه لم يسمع في جاهلية ولا إسلام إلاّ لفظ الجلالة ولا يطلق على غير الباري ، وأما الإلاه فكانت الجاهلية تطلقه على آلهتها ، فمن أين لكم أنه كان ينطق به على لفظ الإله قبل الاهتداء إلى الجلالة ؟
وأما الرحمن الرحيم : فهما صفتان لله تعالى حقيقيتان دينيتان،وقال المتأخرون: بل مجاز.
قال في الأساس:لو كانا مجازين (كما زعموا) لافتقرا إلى القرينة وهما لا يفتقران (إلى قرينة) بل لا يجري رحمن مطلقاً ورحيم غير مضاف الإله تعالى ، وليستا لغويتين لاستلزامهما التشبيه لو كانا كذلك ورحيم منقول إذ هو كلمة تستعمل للخالق والمخلوق ، ففي المخلوق (لا تجوز) إلا بحذف التعريف وإثبات الإضافة هكذا قيل.
قال الدواري : والصحيح أنه يجوز بالتعريف وحذف الإضافة للخبر الذي فيه: (ألا وإن العَالِم الرحيم) (وأما الرحمن) فهو غير منقول إذ لم يطلق على غير الباري لغة البتة.وقولهم رحمن اليمامة كقول الصوفية الله للمرأة الحسناء . وأما الرحمة فإنما أثبتت للباري على سبيل المجاز بعد وجود خلقه تشبيهاً لفعله بفعل ذي الحنو والشفقة فلا يصح إدعاء اشتقاق الرحمن الرحيم منها.
اعلم أيها الطالب للعبادة أنه لا ينبغي لك الاشتغال بها قبل معرفة المعبود . وأن أول ما يجب والواجب في أصل اللغة الساقط كما يقال : وجبت الشمس أي سقطت.ومنه: وجبت جنوبها. والثابت : قال صلى الله عليه وآله وسلم : (إذا وجب المريض فلا تبكيه باكية) وهو في عرف اللغة والاصطلاح : ما يستحق الثواب بفعليهما السلامله والعقاب بتركه أو ما استحق المدح على فعله والذم على تركه بوجه ما ، يدخل فيه كل واجب المعين والمخير والمضيق والموسع والكفاية.إذ المخير يستحق الذم لتركه وترك ما يقوم مقامه، والكفاية يستحقه عند عدم قيام غيره به.
على المكلَّف : هو من أُعلم بوجوب بعض المقدورات عليه وقبح بعضها منه ، وما الأولى له إيجاده وما الأولى له تركه مع مشقة تلحقه في الفعل والترك أو أحدهما أو في سبب ذلك أو ما يتصل بذلك ما لم يبلغ الحال به حد الإلجاء.
قلنا: أُعلم ليدخل الكفار لأنهم أُعلموا ولم يعملوا بالتكاليف الشرعية وهم مكلفون بها.
وقلنا: بوجوب بعض المقدورات وقبح بعضها لأنه مكلف بهما، وما الأولى إيجاده كالمندوب، وما الأولى تركه كالمكروه.
وقلنا: مع مشقة احتراز من أهل الجنة فإنهم مع علمهم لا مشقة معهم.
وقلنا: أو في سبب ذلك كعلم المُتَنَبِّه بالله فلا مشقة عليه فيه وإنما المشقة في سببه وهو النظر.
وقلنا: أو ما يتصل بذلك نحو حراسة الفعل من الرياء والسمعة وغير ذلك من المحبطات وإن كان الفعل لا مشقة فيه كتلاوة القرآن بالصوت الحسن وبعض العبادات لمن اعتادها ووفق لها، وإنما المشقة في المحافظة على صيانته من الرياء والعجب. وقد احترزنا عن الباري بقولنا أُعلم، وبقولنا مع مشقة لأنه سبحانه لا يُعلَّم ولا تلحقه مشقة، وقولنا ما لم يكن ملجأ احترازاً من المحتضر وأهل الآخرة فإنهم عالمون بالواجبات والمقبحات وليسوا بمكلفين لما هم فيه من الإلجاء وزيادة هذا القيد مبني على القول بأن الإلجاء بجامع الوجوب، وعلى القول بأنه لا يجامعه لا لحاجة إليه.
قال الدواري: الأولى أن يحذف من الحد ما الأولى فعله وتركه لأنه لا يكلف بهما إلا على جهة التبع للواجب والقبيح، ففي الواجب والقبيح غنية عن ذكرهما.
نعم وما يلزم المكلف على ضربين عقلي وشرعي :
أما العقلي: فهو ما عرف من جهة العقل، أما وجوبه كمعرفة الله تعالى وقضاء الدَّين ورد الوديعة وشكر المنعم وما أشبه ذلك، وأما قبحه كالجهل بالله تعالى والظلم والكذب والعبث وترك رد الوديعة وما أشبه ذلك.
وأما الشرعي: فهو ما عرف من جهة الشرع، أما وجوبه كالصلاة والزكاة والصوم والحج وما أشبه ذلك، وأما قبحه كالزنا والسرقة وشرب الخمر وترك الصلاة والزكاة والحج والصوم ويعتبر في التكليف العقلي كمال العقل فقط .
[ العقل ]
واختلفوا في العقل ما هو؟ وأين هو؟ أما حقيقته فهو عند أئمتنا عليهم السلام والمعتزلة : عرض .وذهبت المطرفيَّة : إلى أنه القلب لقوله تعالى{لمن كان له قلب}(ق:37) أي عقل .
وذهب بعض الفلاسفة : إلى أنه جوهر بسيط ويعنون بالبسيط غير المتحيز، وقال بعضهم:جوهر لطيف، ومنهم من قال : إنه قوة للنفس لأجلها يتمكن من تحصيل العلوم عن النظر وهذا يُحكى عن الغزالي وغيره.
وقال بعض الطبائعية: بل طبيعة مخصوصة.
والحجة لنا: على أنه عرض أنه يزول عند النوم ونحوه ويعود عند خلافه، فلو كان القلب كما زعمت المطرفيَّة أو جوهر على ما زعمت الفلاسفة لم يزل، وأما القوة والطبيعة فإن كان المراد بهما العرض الذي ذكرنا فقول حق (لا خلاف) وإلاَّ كان قولاً لا يعقل وهو باطل ، واحتجاج المطرفية بالآية باطل لأن (المراد به قلب) يعقل به دليله الآية الأخرى وهي قوله تعالى{لهم قلوب لا يعقلون بها}(الأعراف:179). ونظيره ما يقال هذا الأمر واضح لمن له عين وأذن وتارة يزاد يبصر بها أو يسمع بها فبطل ما قالوا .
وأما محله : فمذهب أئمتنا عليهم السلام والمعتزلة أن محله القلب لقوله تعالى { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها } (الحج:46) ، ودلالتها على المطلوب ظاهرة لأنه كما يحكم في قول القائل له عين يبصر بها. إن البصر معنى محله العين كذلك يحكم بأن معنى قوله{يعقلون بها} أن العقل معنىً محله القلب هذا لاشك فيه ولا مرية ولا دليل على ما ذكرناه سوى السمع وقد صح الاستدلال به كما يأتي إنشاء الله تعالى .
وقالت الفلاسفة : محله الدماغ ودليلهم ما يعلم من كي دماغ متغير العقل وصلاحه به وذلك يدل دلالة ظاهرة على كونه فيه ولا حجة لهم في هذا إلاَّ ما نقول له مادة من الدماغ ككي باطن العقب لبعض أوجاع البطن، وكالمجبوب فإنها لا تنبت لحيته والفساد وقع بالجَب وموضع نبات الشعر سالم، لكن هناك مواد من ناحية الموضع الذي جُب فلما انقطعت تلك المواد لم تنبت الشعر، فالشعر دليل على الذكر ولا بعدم الشعر مع وجود الذكر إلاَّ في النادر من الناس ويقال له الكوسج الذي ذمه أمير المؤمنين عليه السلام في قوله: لا يوجد في أربعين كوسجاً رجل خير.
ثم اعلم إن الذين قالوا : بأن العقل عرض محله القلب كما هو المختار. اختلفوا في تعيينه فقال جمهور أئمتنا : إنه معنىً غير العلوم العشرة الضرورية إذ هو مدرك وهي إدراك فهو في منزلة المعنى الموجود في الحدق وهي بمنزلة المشاهدة، وقال المهدي عليه السلام والمعتزلة : بل هو مجموع العلوم العشرة الضرورية وقد جمعها الإمام المهدي عليه السلام في قوله:-
فعلم بحال النفس ثم بديهة كذا خِبْرة ثم المشاهد رابع
ودائرة والقصد بعد تواترٍ جلي أمور والتعلق تاسع
وعاشرها تمييز حسن وضده فتلك علوم العقل مهما تراجع
بيانها : أما العلم بحال النفس فالمراد : علمه بكونه مريداً وكارهاً ومشتهياً ونافراً وغير ذلك.
ومعنى البديهة نحو : ما يعلم من أن العشرة أكثر من الخمسة.
والخبرة تعني : ما كان يستند إلى الخبرة والتجربة نحو كون الحجر تكسر الزجاجة والنار تحرق القطن.
والمشاهدة تعني : علم ما نشاهده وذلك واضح.
والدائرة يعني : بها علمه بالقسمة الدائرة بين النفي والإثبات نحو زيد لا يخلو إما أن يكون في الدار أولا ونحو الشيء لا يخلو من كونه موجوداً أو معدوماً فيعلم أنه لا يصح اجتماع الأمرين ولا يخلو من أحدهما.
والقصد المراد به : علمه بمقاصد المخاطبين الجليَّة نحو أن يقول الغير أرأيت زيداً؟ فإنك تعلم مقصده الذي هو الاستفهام عن رؤية زيد.
وقوله بعد تواتر المراد به : العلم بمخبر الأخبار المتواترة كتواتر الأخبار بمكة فإنه يعلمها من لم يشاهدها لتواتر الأخبار خلافاً لأبي هاشم فإنه لم يعد ذلك من علوم العقل.
وقوله جلي أمور المراد به : العلم بالأمور الجلية قريبة العهد كالزلازل الظاهرة وموت سلطان البلد وإطباق الغيم ونحو ذلك.
وقوله التعلق تاسع المراد به : العلم بإسناد الفعل إلى فاعله كإسناد البناء إلى بانيه والكتابة إلى كاتبها.
وقوله وعاشرها تمييز حسن وضده المراد به : العلم بحسن الحسن وقبح القبيح نحو علم الواحد منا بحسن رد الوديعة ووجوب قضاء الدَّين وغير ذلك وعلمه بقبح الظلم والكذب ونحو ذلك.
فهذه العلوم العشرة زعم المهدي والمعتزلة ومن تابعهم أنها نفس العقل وكلامهم باطل .وبيان بطلانه أنَّا نعلم قطعاً أنه يُعَدُّ من العقلاء من لم يتصور جميعها بل بعضها وأيضاً فإن العاقل منَّا يشتغل بدقيق الفكر والنظر ويستنبط العلوم الغامضة ولا يخطرها (جميعاً بباله) ذلك معلوم عند كل عاقل غير مكابر، فلو كانت هي العقل لم يُعد من العقلاء إلا من تصور جميعها، ولما أمكن عاقلاً الاشتغال بنحو النظر إلاَّ بإحضارها جميعاً بباله وقد بينا بطلانه، هذا وأما تكليف المكلف بالشرعي فيعتبر فيه ما تقدم من كمال العقل وبلوغه بالاحتلام أو الإنبات أو السنين أو نحو ذلك على ما هو مقرر في كتب الفقه. وقد بنى إمام زماننا القاسم بن محمد أيده الله تعالى على أن من عُدَّ من العقلاء وأولي الألباب فهو مخاطب بالكل لأنه لم يفصل الدليل والخطاب وقد قال تعالى { واتقون يا أولي الألباب } (البقرة:193) ( هو) : النظر .
[ النظر ]
اختلف فيه فقيل : لفظة مشتركة وهو قول الأكثر، وقيل : معناه مفرد وهو نظر الفكر الذي هو المراد هنا وهو حقيقة فيه مجاز في غيره، والظاهر ما عليه الأكثرون من القول باشتراكه بين معانٍ خمسة:-
[ معاني النظر ]
القول باشتراكه بين معانٍ خمسة:-
أولها : نظر العين وهو تقلب الحدقة السليمة إلى جهة المرئي التماساً لرؤيته ومنه قول الشاعر:
نظروا إليك بأعين مزورة نظر التيوس إلى شفار الجازر
وعلى هذا حمل قوله تعالى في قصة المنافقين{وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد}(التوبة:127) معناه قلَّب بعضهم حدقته السليمة في جهة البعض الآخر التماساً لرؤيته.
وثانيها: نظر المقابلة يقال الجبلان يتناظران والداران تتناظران معناه تتقابلان ويدل عليه قول الشاعر:
إذا نظرت إلي جبال أحد أفادتني بنظرتها سرورا
معناه قابلتني .
قال الدّواري: فيه نظر إذ مقصود الشاعر بنظر جبال أحد تقليب أحداقها أورده على جهة الاستعارة والتجوز.
وثالثها: نظر الانتظار وهو التوقع لحصول أمر في المستقبل ومنه قول الشاعر:
وجوه يوم بدر ناظرات إلى الرحمن يأتي بالخلاص
معناه منتظرة وعليه قول الله تعالى في قصة بلقيس السبأية { إني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون } (النمل:35) معناه منتظرة.
ورابعها: نظر الرحمة وهو إرادة حصول منفعة للغير أو دفع مضرة عنه ومنه قول الشاعر:
أنظر إلي بنظرة من رحمة فالفقر يزري والنعيم متّجل
ويروى بعين بِرِّك نظرةً .
قال الدواري: فيه نظر لأنه أراد تقليب الحدقة ، وكأنه جعل للرحمة حدقة ، ولتلك الحدقة نظرات تعطف ورأفة فأمره أن ينظر إليه بتلك النظرات ، وهذا على جهة الاستعارة الرائقة ، ويشهد بذلك أن الرحمة قد ذكرت فلا (يصح أن يكون المراد) نظر الرحمة ، ومن ذلك قول الله تعالى في قصة أهل النار { ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم } (آل عمران:77) معناه ولا يرحمهم.
وخامسها: نظر الفكر وهو المراد هنا وهو إجالة الخاطر في شيء لتحصيل اعتقاد ويرادفه التفكر ، وعليه حمل قول الشاعر:
انظر بفكرك تستبين المنهجا .... واعلم بأن الفكر هو سبب النجا
ومنه قوله تعالى { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت…الآية } (الغاشية:17) معناه أفلا يتفكرون في خلقها لأنهم قد كانوا ينظرون إليها نظر الأحداق فحثَّهم على ما أهملوه ، وهو الفكر بالقلب وهو منقسم إلى صحيح وفاسد، فالصحيح ما تتبع به أثر نحو التفكر في المصنوع ليعرف الصانع. والثاني : ما كان رجماً بغيب نحو التفكر في ماهية الروح وذات الباري.
نعم والقول بأن النظر الصحيح يجب على المكلِّف هو مذهب أئمتنا عليهم السلام وصفوة الشيعة والمعتزلة وغيرهم، ووجوبه من جهة العقل و(من جهة) السمع على ما نبينه، وإنما قالوا : بوجوبه لأنه المؤدي أي الموصل إلى معرفة الله تعالى وهو موجب لها، وأنكر أبو علي الأسواري وصاحب الجوهرة ذلك ، وقالا: ليس بموصل إليها ولا موجب لها وإنما هو شرط اعتيادي كما يشترط في الحفظ الدرس، وعلى القولين فالمعرفة هي المقصودة،ولكن لولاه لما حصلت،واختلفوا أيهما أحق بأن يطلق عليه أنه أول الواجبات.فقالت الزيدية والمعتزلة البصرية : الأحق بهذا الاسم النظر لأنه سابق لتأدية المعرفة. وقالت البغدادية : الأحق بهذا الاسم المعرفة لأنها المقصودة وإنما هو وصلة إلى حصولها .
وخالف في وجوبه قوم منهم أهل المعارف والتقليد ومنهم أهل الخبرة قالوا: وجدنا كل فرقة قد بذلت وسعها وأفضى بها النظر إلى صحة اعتقادها وبطلان اعتقاد مخالفها فوجب اطراح النظر ومنهم أهل التكافؤ قالوا: وجدنا كل فرقة قد أقامت البراهين على اعتقادها وعتقدت أنما نظر فيه المخالف لها شبهة وليس بعض ذلك أولى من بعض فوجب اطراح النظر.
والجواب: أن الدلالة الصحيحة قد دلتنا على وجوب النظر@ عقلاً وسمعاً ولا يترك ما دلت عليه الدلالة الجلية لأجل أمر محتمل، أما من جهة العقل فالمعلوم قطعاً أن شكر المنعم واجب وإن الإخلال به قبيح ، وجهله يستلزم الإخلال بشكره على النعم، لأن توجيه الشكر إلى المنعم مترتب على معرفته ضرورة وهي واجبة لذلك لا لغيره.ولا طريق للمكلفين إليها سواه ، أي النظر لامتناع أن تعرفه بالبديهة وإلاَّ لما اختلف العقلاء فيه،ومعلوم خلافهم، وبالمشاهدة لأنها لو صحت مشاهدته في حال من الأحوال لشاهدناه الآن،ومعلوم أنَّا لا نشاهده الآن وسيأتي لهذا مزيد إيضاح.وبالأخبار المتواترة لأن الأخبار المتواترة لا تكون طريقاً إلى العلم إلاَّ إذا كانت مستندة إلى المشاهدة بدليل أنه لو أخبرتنا طائفة عظيمة بوجود بلد في الدنيا يقال لها بغداد لعلمنا ذلك ، ولو أخبرتنا تلك الطائفة أن الله تعالى يُرى بالأبصار لم نعلم صحة خبرها ، ولم يكن فرق إلاَّ أن الأول مستندة إلى المشاهدة التي لا يجوز فيها الالتباس ، والثاني مستندة إلى الاعتقاد الذي يدخله الالتباس . فلما سبرنا هذه الأقسام ولم نجد واحداً منها يصح أن يكون طريقاً إلى معرفة الباري ، علمنا أنه لا طريق إليها سوى النظر الذي هو الفكر،إذ لا طريق تعدو هذه الأربع .
وإذا تقرر ذلك علمنا وجوب النظر، لأن من المعلوم : أن ما لا يتم الواجب الذي هو المعرفة مثلاً إلاَّ به يكون واجب كوجوبه ، وإلاَّ وقع الإخلال بالواجب ، وقد قضى العقل بقبحه .
دليل ذلك : أن من وجب عليه قضاء دَّين أو رد وديعة أو نحو ذلك ولم يتمكن من ذلك إلاَّ بالقيام وفتح الباب وإخراج المال فإنها تجب عليه هذه الأفعال كلها، وإنما وجبت عليه لكونها وصلة إلى الواجب، بدليل أن العقلاء يذمون على الإخلال بها كما يذمون على الإخلال برد الوديعة. فتقرر بهذا الدليل وجوب النظر لأجل كون المعرفة لا تحصل إلاَّ به.
تنبيه : ما ذكرناه في أثناء الدليل من قولنا : أن جهل المنعم (مستلزم للإخلال) بشكره . فمبني على أن الطاعات شكراً كما هو مذهب الهادي عليه السلام وقدماء العترة،وأما من يقول : أن الشرائح ألطاف في العقليات،وأن الشكر الاعتراف فقط . كما هو مذهب المهدي عليه السلام ، وكثير من المعتزلة وبعض صفوة الشيعة فيقولون : إن وجه وجوب المعرفة كونها ألطافاً في أداء الواجبات . ومعنى ذلك أن العبد إذا عرف أن له خالقاً يثيبه إن أطاعه ويعاقبه إن عصاه كان أقرب إلى أداء الواجبات ، وكلامهم من أصله باطل لقوله تعالى { اعملوا آل داود شكراً } (سبأ:13) ، وإجماع أهل العربية على أن الشكر قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان في مقابلة النعمة قال الشاعر:
أفادكم النعماء مني ثلاثة .... يدي ولساني والضمير المحجبا
[ أدلة وجوب النظر ]
وأما الدليل:على وجوب النظر من جهة السمع فقوله تعالى { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } (الغاشية:17). ونحوها،وقصرت المجبرة الاستدلال على ذلك على السمع وأنكرت أن يكون العقل دليلاً بناء منهم على أصلهم وهو إنكار التحسين والتقبيح العقليين،وكلامنا عليهم من جهة إبطال أصلهم بالكلية،ومن جهة إبطال إنكار أن يكون العقل دليلاً على وجوب النظر خاصةً.
أما الأول:فهو أنَّا نعلم من حال العقلاء أنهم يصوبون مَنْ مدح المحسن أو أحسن إليه،ومن ذَمَّ المسيء أو عاقبه وما ذاك إلا لكونهم يرون الإحسان في العقل حسناً والإساءة في العقل قبيحة،فإنكارهم لذلك مخالفة لما عليه العقلاء.
وأما الثاني : فإنه يلزم من قولكم أحد محذورين،أما الدور وأما الكفر. أما الدور فحيث نقول بوجوب النظر على المكلفين في صحة دعوى الأنبياء عليهم السلام. لأنه لا يجب النظر إلاَّ بالسمع والسمع لا يثبت إلاَّ بالنظر،وأما الكفر فحيث نقول بعدم وجوب ذلك عليهم لأنه يلزم منه تصويب من أعرض عن دعوة الأنبياء عليهم السلام إذ لا واجب عليه وذلك كفر لأنه رد لما جاءت به الرسل وما علم من دين كل نبي ضرورة،وأيَّما كان فهو باطل.
ثم اعلم أن الذين قالوا بوجوب النظر اختلفوا هل هو فرض عين أو فرض كفاية؟.
فالذي عليه أئمتنا والجمهور أنه فرض عين. وقال أبو إسحاق بن عياش و البلخي والعنبري ورواية عن القاسم ورواية عن المؤيد بالله: بل فرض كفاية، ثم افترقوا في التقليد،فابن عياش والعنبري وغيرهما ورواية عن المؤيد بالله يجوز مطلقاً أي تقليد المحق وغيره هكذا رواه في الأساس عنهم،ونسب الدواري ذلك إلى البلخي والحشوية،ونُسب إلى ابن عياش جواز التقليد لمن غفل عن طريق النظر كالنساء والعبيد والعوام،قال وقد روي مثل ذلك عن البلخي أيضاً،قال الدواري: وذكر القاسم أن مقلد المحق ناجٍ . قال في الأساس: هذه رواية عنه وهو مذهب البلخي.
قلنا: أما القول بصحة التقليد مطلقاً فبطلانه ظاهر،وذلك لأن الله تعالى لم يكن مطابقاً لكل اعتقاد فالمخطي جاهل به والجاهل به كافر إجماعاً،وتقليد الكافر في كفره كفر إجماعاً،وقد ذم الله المقلدين في كتابه حيث قال حاكياً { إنَّا وجدنا آباءنا على أمة وإنَّا على آثارهم مقتدون } (الزخرف:23) ونحوها.وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أخذ دينه ) الخبر.وأما القول : بجواز تقليد المحق . فإنه لا يحصل العلم بالمحق إلاَّ بعد معرفة الحق ولا يعرف الحق إلاَّ بالنظر ، فيمتنع التقليد حينئذ.
تنبيه : اختلف في معرفة الله تعالى مع سائر مسائل أصول الدين الواجب معرفتها عندنا. فذهب أهل المعارف كالجاحظ وأبي علي الأسواري والشيخ الرصاص صاحب الجوهرة إلى : أن معرفة الله وجميع المعارف الإلهية ضرورية في الدنيا والآخرة. وذهب أبو القاسم البلخي ومن تابعه إلى : أنها لا تعلم إلا بالاستدلال في الدنيا والآخرة.
المذهب الثالث التفصيل : وهو أن الله تعالى يعرفه أهل الآخرة والمحتضر ضرورة،وأما أهل الدنيا فاختلف فيهم على ثلاثة أقوال، والذي عليه الأكثر من أهل العدل وغيرهم أنهم لا يعرفونه إلاَّ بالدلالة .
المذهب الثاني:ذهب إليه السيد المؤيد بالله والفقيه حميد أنه يجوز أن يكون في الأنبياء والملائكة والصالحين من يعرف الله ضرورة. دلالة القول الثالث ذكره ابن مُتَّويه وهو أيضاَ للفقيه حميد أن الله تعالى يعلم ضرورة جملة وتفصيلاً دلالة.
الجواب: أنه تعالى لو كان معلوماً ضرورة لكان الجاهل به معذوراً، إذ العلم الضروري حاصل من جهة الله لا اختيار للعبد فيه ومعلوم أن الكفار غير معذورين، للزم أن يشترك العقلاء في العلم به.ومعلوم أنهم مختلفون ، وأن لا ينتفي العلم به بشك ولا شبهة،ومعلوم أن بعض من برز في هذا الفن واشتهر به خالجتهم الشبه حتى أن بعظهم أفضى به ذلك إلى التعطيل كابن الراوندي وأبي عيسى الوراق.
تنبيه : أطلق كثير من أصحابنا أن العلم والمعرفة مترادفان،قالوا: وبهذا لا يصح أن يثبت الباري بأحدهما وينفى بالآخر وهذا فيه إشكال،فإنه قد فرق بينهما أهل العربية حيث جعلوا العلم يتعدى إلى مفعولين والمعرفة إلى مفعول واحد،ووافقهم في ذلك أهل المنطق حيث جعلوا العلم متعلق بالمركبات والمعرفة بالمفردات ، ومن ثم يقال : عرفت الله دون عَلِمته،وفرق بينهما بعضهم بأن العلم نقيضه الجهل، والمعرفة نقيضها الإنكار،وقال بعضهم: المعرفة علم ناقص ، ومن ثم يقال الله تعالى عالم ولا يقال : (أنه عارف) ، ومنع بعضهم أن يطلق على الله أنه عارف وإنما يقال أنه عالم،قال لأن المعرفة هي العلم المسبوق بالجهل والله متعالٍ عن ذلك. قيل: ومن ثم لم ترد لفظة عارف في أسماء الله الحسنى ولا وصف بها نفسه في كتابه العزيز مع كثرة ما وصف نفسه بالعلم وما تصرف فيه.
باب إثبات الصانع وذكر توحيده وذكر عدله ووعده ووعيده.
معنى إثبات الصانع اعتقاد ثبوته ووجوده،وعطف التوحيد عليه يشعر بأن مسألة إثبات الصانع غير داخلة في التوحيد وهي أصل باب التوحيد على ما قرره أصحابنا ويظهر ذلك في حد التوحيد على ما يجيء بيانه،وجعل المذكورة باباً واحداً لا يخلو من تسامح،وكان اللائق عند سلوك نهج التبويب أن يجعل الكتاب أبواباً أربعة.
الأول:في وجوب النظر وقد تقدم.
والثاني:في التوحيد.
والثالث:في العدل وما يتبعه.
والرابع:في الوعد والوعيد وما يتبعهما.وفي كل باب مسائل مذكورة على جهة الأصالة أو التبعية .
اعلم (أن المهمات من ما) يجب على المكلف من فن أصول الدين بعد النظر ثلاثون مسألة ،في التوحيد عشر،وفي العدل وما يتبعه عشر،وفي الوعد والوعيد وما يتعلق بذلك عشر،وذكر قاضي القضاة فصلين الأول في التوحيد والثاني في العدل وجعل جميع ما ذكر داخلاً تحت العدل.قال الدواري: وهي لعمري قسمة حسنة لم يسبق إليها وينبغي معرفة وجوه الترتيب بين الأبواب،فتقديم النظر لكونه يوجب العلم بالتوحيد، وتقديم التوحيد على العدل لوجهين، أحدهما أن بعض مسائله دالة على بعض مسائل العدل وباقي مسائله تابعة ودليل الشيء يتقدم عليه. الثاني أن التوحيد كلام في ذاته تعالى وصفاته والعدل كلام في أفعاله ، ومهما لم تعلم ذاته تعالى وصفاته لم تعلم أفعاله، وقدَّم العدل على الوعد والوعيد لوجهين :
أحدهما : أن بعض مسائله دالة على بعض مسائل الوعد والوعيد.
الثاني : أن الوعد والوعيد كلام في أحكام أفعاله ومهما لم تعلم الأفعال لم تعلم أحكامها،هذا ما ذكره أصحابنا.قال الدَّوَّاري: والأولى
في الوجه الثاني أن يقال قدم العدل،لأن من جملة مسائل العدل إثبات كون القرآن كلام الله ، والوعد والوعيد كلام في أنه تعالى قد وعدنا وتوعدنا وأنه لا يخلف وعده ولا وعيده ولا يمكن (أن نتكلم) في أنه وعد ولا يخلف حتى نعلم كون القرآن كلامه ، وألحقنا سائر مسائل العدل بمسألة القرآن اتباعا.
واعلم :أن الكلام في مسائل الاعتقاد يتعلق بثمانية أُمور:
أولها : بيان المذهب في المسألة.
ثانيها : بيان الدليل على صحة ذلك المذهب.
ثالثها : بيان تحقيق ذلك الدليل.
رابعها: بيان الأسئلة الواردة على ذلك الدليل والتحقيق.
خامسها : بيان أجوبة تلك الأسئلة .
سادسها : بيان مذاهب المخالفين في تلك المسألة .
سابعها : بيان شبههم التي يتعلقون بها .
ثامنها : حل تلك الشبه وإبطالها. وبتمام هذه الثمانية يكمل معرفة ما يتعلق بتلك المسألة .
وتنقسم باعتبار وجوبها على المكلف إلى ثلاثة أقسام فرض عين بكل حال وهي معرفة الثلاثة الأول ، وفرض كفاية على كل حال وهي معرفة مذهب المخالف وشبهته وسؤاله ، وفرض عين في حال دون حال وهي معرفة حل شبهة المخالف وجواب سؤاله ، لأنهما إن قدحا حتى دخل الشك في علم المكلف كانا فرض عين وإن لم يقدحا كانا من فروض الكفاية.
باب التوحيد
هو في اللغة:مصدر وحَّد الشيء جعله واحداً بالفعل أو القول.
وفي الاصطلاح : ما حكي عن الوصي أمير المؤمنين صلوات الله عليه التوحيد أن لا تتوهمه . وقد ذكر السيد مانكديم في شرح الأصول حده فقال: التوحيد العلم بأن الله تعالى واحد لا ثاني معه يشاركه فيما يستحقه من الصفات نفياً وإثباتاً على الحد الذي يستحقها مع الإقرار به . فقولنا : العلم بأن الله تعالى واحد لا ثاني معه . هذا هو التوحيد في الحقيقة وبه سمي باب التوحيد ، وقلنا : يشاركه في الصفات التي يستحقها نفياً وإثباتاً. فالنفي مما يستحيل عليه من الصفات ، والإثبات ما يثبت له منها على ما سيأتي. وقلنا : على الحد الذي يستحقها . احترازاً عن الواحد منا فإنه وإن شارك القديم في بعض هذه الصفات كالعالمية والقادرية ونحو ذلك ، فهي في حقه تعالى واجب إذ هي بالذات لا بجعل جاعل ولا لمعنى ولا لأمر غير الذات ، وفي حق المخلوق جائزة فلم يشاركه على الحد الذي يستحقها. وأما (قوله : مع) الإقرار به . فلا حاجة إليه لأن من اعتقد التوحيد موحِّد ، وإن لم يقر ولعله ذكر ذلك في تسمية الواحد منا لغيره موحِّداً ، فإنا لا نسميه موحداً حتى يقر أو ذكره لأن ذلك من شرط التوحيد عند التهمة.قال بعض المحققين: هذا الحد يشمل العلم بالذات وبالصفات.
نعم ويشتمل هذا الباب على عشر مسائل :
المسألة الأولى: أن لهذا العالم صانعاً صنعه ومدبراً دبره
الكلام في إثبات الصانع وقدَّمها على الصفات لأنها فرع عليها لأن من لم يعلم الذات لم يعلم الصفات فيجب على المكلَّف أن يعلم أن لهذا العالم صانعاً صنعه ومدبراً دبره، وحقيقة العالم في مواضعة المتكلمين الأجسام والأعراض الموجودة على الترتيب المشاهد مثل السماوات والأرض وما بينهما،وهو في الأصل اسم لجميع المخلوقات ومنه حديث وهب بن منبِّه أن لله تعالى ثمانية عشر ألف عالم الدنيا وما فيها عالم واحد، وقيل : اسم لمن يعلم وهو الملائكة والثقلان . وقيل : مشتق من العلم . وقيل : هو اسم لما يعلم به الله . وقيل : كل عصر يسمى عَالَم . ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة وقد ذُكرت عندها مريم(تلك سيدة نساء عالمها وأنت سيدة نساء العالمين). والقول بأن لهذا العالم صانعاً فاعلاً مختار هو مذهب جميع فرق الإسلام وأكثر فرق الكفر من أهل الكتب وكثير من عبدة الأوثان.
والخلاف في ذلك مع الملحدة والفلاسفة والدهرية والطبائعية والباطنية ، ثم اختلفت هذه الفرق الضالة على قولين فالملحدة والدهرية والطبائعية والفلاسفة المتقدمون ينفون المؤثر ويقولون : لا صانع جملة ولا تفصيلاً . ويقولون : العالم قديم وما ثمَّ إلاَّ ليل ونهار وشمس وأقمار وفلك دوار. وقد حكى الله مقالة الدهرية في قوله تعالى { وما يهلكنا إلاَّ الدهر } (الجاثية:24).والقول الثاني وهو قول الباطنية والفلاسفة الإسلاميين إثبات مؤثر جملة.
قالت الفلاسفة الإسلامية: إن أصل العالم علة موجبة ، وتلك العلة غير موصوفة بشيء من صفات الإثبات لأنها لو وصفت لتعددت وتكثرت ، وتلك العلة غير مختارة والعالم ملازم لها في الوجود وفي القدم ملازمة شعاع الشمس لها، قالوا: ثم أن تلك العلة أثرت في ذات يقال لها عقلاً فحصل لهذا العقل خلال ثلاث عقل لباريه ، وهي العلة الموصوفة وصحة وجوده في نفسه وإمكان وجوده من باريه، وهذه الخصال تتفاوت عندهم في الرتبة والشرف أشرفها صحة وجوده من باريه، وأوسطها عقل لباريه ، وأدناها إمكان وجوده في نفسه،ولأجل هذه الخلال الحاصلة له أثر في ثلاثة أشياء لأجل الأشرف أشرف ولأجل الأوسط أوسط ولأجل الأدون أدون أثر لأجل عقله لوجوده من جهة باريه في عقل ، ولأجل عقله لإمكان وجوده في نفسه في فلك ، ولأجل عقله لباريه في (نفس فلك) ، ثم حصل لهذا العقل من الخلال ما حصل للأول ، وأثر في مثل ما أثر فيه العقل الأول ، ولم تزل العقول كذلك إلى أن بلغت عشرة والأفلاك تسعة والنفوس تسع والعقل العاشر هو المتولي بتدبير جميع العالم من الإيجاد والإحياء والإماتة وسائر ما اشتمل عليه العالم منوط بهذا العاشر،فأما الذات المتقدمة وما يليها إلى العاشر فلاحظَّ لها في شيء من أمر العالم،ولهم أقوال تخالف ذلك ، وكلها متفقة أن الذي ينتهي إليه جميع العالم علة ، وأن العالم ملازم في وجوده وجودها في القدم ، وسمُّوا هؤلاء فلاسفة إسلاميين لأنهم يقرون بظواهر الإسلام،وقيل الحدوث مذهبهم بعد بعثة النبي صلى الله
عليه وآله وسلم.
وأما الباطنية: فلهم أقوال جمَّة من جملة أقوالهم قول يشابه هذا القول إلاَّ أنه يفارقه من ثلاثة أوجه :
الأول: أنهم يقولون : إن هذه العلة غير موصوفة بنفي ولا إثبات حتى أنهم قالوا لو لا الضرورة لما سميناها الله. والفلاسفة لم يتكلموا على النفي.
الثاني:أنهم يسمون العقل الأول سابقاً والثاني تالياً.
الثالث: أنهم يقولون إن العقل الثالث تحيَّر ، لأنه لم يحصل له العلم من أول وهلة كما حصل لغيره من العقول من الخلال الثلاث ، فحطَّ في المنزلة العاشرة وسبقه ما بعده على سبيل العقوبة له فهو المنوط به أمر العالم عقوبة له، ويسمون هذا العالم عالم الكون والفساد، ومنهم من قال أمر العالم منوط بالعقل الثاني المسمى بالتالي. ويحكى عنهم أقاويل باطلة غير ذلك.
واعلم أن الكلام إنما هو في الأجسام نفسها وأما تراكيبها فلا خلاف في حدوث كثير منها كالحوادث اليومية. والدليل على ذلك المذهب الصحيح وهو أن هذا العالم لابد له من فاعل مختار من وجوه كثيرة اعتمد كثير من الموحدين منها دليل الدعاوى وهو الذي ذكره في الكتاب لما أُورد على غيره من الأسئلة التي يصعب الجواب عنها إلاَّ بالرجوع إليه،وأول من حرر هذا الدليل هو الشيخ أبو الهذيل،وذكر الشيخ أحمد بن محمد بن الحسن الرصاص أنه إبراهيم الخليل صلوات الله عليه كما حكاه الله عنه في آية الأفول. وقال السيد المؤيد بالله: إن الصحابة والتابعين كانوا يستدلون بالتأليف فيقولون العالم مؤلَّف وكل مؤلَّف لابد له من مؤلِّف إلى أن جاء أبو الهذيل فحرر هذا الدليل. وبيان هذا الدليل أن هذه الأجسام على تنوعها من حيوان وجماد ونامٍ وغير نامٍ محدثة، والأجسام جمع جسم وحقيقته الطويل العريض العميق ومعنى ذلك أنه مؤتلف من أجزاء طولاً وعرضاً وعمقاً. وكثير من المتكلمين يعبر عن تلك الأجزاء بأنها جواهر، وأن حقيقة الطول ائتلاف الجوهرين أو الجواهر في سَمَتٍ واحد، وحقيقة العرض ائتلاف ماذكر عن يمين الخط ويساره ، والعمق على ضربين عمق مطلق وهو ائتلاف الجوهر أو الجوهران أو الجواهر من أعلى إلى أسفل مع الصفيحة وهي معنى العرض ويعبر عنها بالسطح أيضاً، وعمق الأجسام وهو الجواهر المؤتلفة أربعة فصاعداً من أعلى إلى أسفل (على ما صححه الدواري مع الصفيحة) . ونقول: إن كان المراد (بالجوهر ما اصطلح) عليه بعض المعتزلة من أنه الذي يشغل الحيز من جهة واحدة دون الثلاث فذلك مما لا يعقل لأن ما منع الحيز من جهة لا يعقل إلا يمين وشمال وأمام وخلف وفوق وتحت، وإن كان المراد به المتحيز غير
المنقسم مما ليس له طول وعرض وعمق فذلك صحيح. وبيان ذلك أن أهل الإسلام وكثيراً من الفرق الكفرية ذهبوا إلى أن الجسم لا يزال ينقسم إلى حد لا يمكن انقسامه وذلك هو الجوهر. وقال النظام والمطرفية: لا يزال الجسم يمكن في المقدور أن ينقسم أبداً مؤبداً إلى ما لا نهاية له. وذهبت الفلاسفة إلى أنه لا يزال يمكن في المقدور أن ينقسم حتى يبلغ حداً لا يمكن انقسامه بالفعل ثم يتكثر بعد ذلك حتى يصير ممكناً انقسامه وعندهم أن الجوهر لا ينقسم بالفعل وإنما يمكن انقسامه بالقوة والأصح الأول وقد أُلزم النظام القول بالطُّفْر حيث لا يمكن قطع المسافة اليسيرة إلاّ بقطع الأخرى وهي لا تتناهى عنده وقطع ما لا يتناهى محال فقال إن القاطع بطفر ما لا يتناهى والطفر في نفسه غير معقول لأنه كون الجسم في جهة بعد أن كان في جهة أخرى من غير قطع مسافة بينهما وذلك محال. هذا وما ذكرناه من أن أهل الإسلام وغيرهم أجمعوا على أن الجسم لا يزال ينقسم إلى حد لا يمكن انقسامه وهو الجوهر حكاه الدواري وهو مصرح بأن لا قائل بإنكار الجوهر وهو خلاف ما عثرت عليه في حقائق المعرفة للمتوكل على الله أحمد بن سليمان (عليه السلام) فإنه أنكر فيه الجوهر بالكلية وقال ليس إلاَّ جسم أو عرض وهكذا ذكر السيد حميدان رحمه الله تعالى ورواه عن الحسين بن القاسم العياني عليه السلام قالوا لأنه تفكرٌ فيما لم نكلف بالتفكر فيه من إثبات جزء لا ينقسم.
والمحدَث: هو الموجود الذي لوجوده أول لابد له قطعاً من محدث. والذي يدل على أن هذه الأجسام محدثة أنها لم تخل من الأعراض المحدثة ولم تتقدمها، وتحرير هذا الدليل وتقريره بأربعة أصول:الأول أن في الجسم عرضاً غيره.الثاني أن تلك الأعراض محدثة.الثالث أن الجسم لم يخل من العرض ولم يتقدمه.الرابع أن ملازمته إياها تستلزم حدوثه. وقد دل عليها كلام الكتاب.
أما الأصل الأول: وهو أن في الجسم عرضاً غيره، وحقيقة العرض هو مالا يشغل الحيز فذلك هو المذهب. وذهبت فرقة من الفلاسفة وحفص الفرد من المجبرة والأصم من النواصب (وهشام بن الحكم) إلى أنه لا عرض في الجسم وهؤلاء هم المعروفون بنفاة الأعراض. وذهب أبوالحسين وابن الملاحمي والإمام يحي بن حمزة إلى نفي المعاني وجعلوا الأعراض كلها صفات للجسم بالفاعل، وبه قال ابن الخطيب الرازي وكثير من الأشاعرة والمجبرة، قال ابن زيد وهو مذهب القاسم والهادي عليهما السلام ومعنى ذلك أن الحركة والسكون ونحوهما هي التي يعبّر بها عن كونه متحركاً وساكناً ومجتمعاً ومفترقاً وهذه الصفات إنما تثبت بالفاعل ويؤيد ذلك أن من قال هو متحرك وليس فيه حركة يعد مناقضاً وكذا سائرها. فعلمنا استواء كونه متحركاً وفيه حركة وليس هناك معنى زائد على الصفة. وذهب جماعة من المعتزلة ومال إليه بعض متأخري الزيدية كالمهدي إلى إثبات المعنى وهو الموجب صفة للجسم، فالحركة أوجبت كونه متحركاً ونحو ذلك من تأثير العلة وهو تأثير الإيجاب، وعندنا أن لا مؤثر حقيقة إلاَّ الفاعل المختار إذ تقدمه يدل على اختصاصه بصفة المؤثر والعلة مقارنة لمعلولها فما تخصيص
أحدهما بكونه مؤثِّراً والآخر مؤثَّراً بأولى من العكس وهذا مما لاشك فيه وسيأتي لهذا مزيد تحقيق. وأما ما ذهب إليه نفاة الأعراض فباطل. قال ابن الملاحمي: إذ ثبوتها معلوم ضرورة على الجملة وقال غيره، قال الدواري: وهو الأصح الأحسن التفصيل وهو أن يقال الحاصل في الجسم لا يخلو إما أن يكون جسماً أو معنى أو صفة لا يجوز أن يكون جسماً، لوجهين: أحدهما أن الواحد منَّا ليس بقادر على الجسم ولا يقف على اختياره وكون الجسم متحركاً يقف على اختيارنا. الثاني (أن كون) الجسم متحركاً يتجدد ثبوته في حال بقاء الجسم والجسم لا يتجدد ثبوته في حال بقاءه، ولا يجوز أن يكون معنى لأن المعنى يعلم على انفراده وكون المتحرك متحركاً لا يعلم على انفراده، وإنما يعلم تبعاً للعلم بذي الاحتراك فلم يبق إلا أنه صفة.
وأمّا الأصل الثاني: وهو أن تلك الأعراض محدثة فذلك هو المذهب، وذهبت طائفة من الفلاسفة إلى أنها قديمة مع الإقرار بثبوتها وهؤلاء هم أهل الكمون والظهور يثبتون الأعراض ويجعلونها قديمة فيقولون إذا تحرك الجسم ظهرت الحركة وكُمْن السكون والعكس. قلنا: الدليل على حدوثها أنها تعدم والقديم لا يعدم، أما أنها تعدم فلأن الأكوان التي هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق متضادة فالحركة ضد السكون والعكس والاجتماع ضد الافتراق والعكس فمتى سكن الجسم عدمت الحركة والعكس وعلى هذا القياس، وإذا تقرر في العقول عدمها ثم وجودها علم قطعاً أنها محدثة إذ ذلك حقيقة المحدث، وأما أن القديم لا يعدم فلأنه قديم بالذات ليس داخلاً في جنس المقدورات وما هو قديم بالذات فذاته ثابتة مستمرة لا يتطرق إليه الإيجاد والإعدام إذ خروج الموصوف عن صفة ذاته لا يجوز. وأما القول بالكمون والظهور فذلك باطل لوجهين: أحدهما أن ذلك إثبات لشيء لا دليل عليه وذلك يفتح باب الجهالات. الثاني أن الكمون والظهور لا يتعقلان إلا في المتحيزات إذ الكمون اختفاء الشيء بعد أن كان ظاهراً، والظهور بدو الشيء بعد أن كان خافياً وهذا كما ترى من أوصاف المتحيزات.
وأمّا الأصل الثالث: وهو أن الأجسام لم تخل من الأعراض المحدثة ولم يتقدمها في الوجود فهذا هو مذهبنا ومذهب أكثر الفرق والخلاف في ذلك مع قوم من الفلاسفة فإنهم مقرون بالأكوان وبحدوثها إلاَّ أنهم يقولون إن أصل العالم متعرٍ عنها ثم حلَّته بعد ذلك وأهل هذه المقالة يسمون أهل الهيولى والصورة وأهل العنصر والاستقص والطينة فسموا أهل الهيولى والصورة، لأن منهم من يقول: أصل العالم جوهران بسيطان موجودان غير متحيزين ولا محسوسين ولا ملموسين ولا كائنين في جهة اسم أحدهما الصورة والثاني الهيولى ثم حلَّت الصورة في الهيولى فتحيزا واحتملا الأعراض. ومنهم من قال: أصل العالم جوهر موجود غير متحيز. ومنهم من قال: أصل العالم جواهر موجودة غير متحيزة فلذلك سموا أهل هذه الدعوى أهل الاستقص والعنصر والطينة لأن هذه العبارات تستعمل في أصل الشيء وعبَّروا بهذه العبارات عن أصل العالم الذي ذهبوا إليه.
والجواب: أنه لو جاز خلو الجسم من الأعراض فيما مضى من الزمان لجاز خلوه عنها الآن لأن مرور الزمان لا تأثير له فيما يجب للجسم أو يجوز أو يستحيل، ألا ترى أن الجسم لما وجب له التحيز وجب له في كل مكان وزمان ولمَّا جاز عليه التنقل جاز في كل مكان وزمان ولما استحال عليه كونه في جهتين في حالة واحدة استحال عليه في كل زمان ومكان ومعلوم قطعاً أنه لا يجوز خلوه عنها الآن، إذ لو جاز ذلك لم يمتنع أن يكون كثير من الأجسام موجودة وهي غير متحركة ولا ساكنة وقد علمنا أن من جوَّز ذلك فقد كابر حكم عقله، ولو@ أخبرنا مخبر أنه شاهد أجساماً في بعض البلاد القاصية وهي غير متحركة ولا ساكنة لتبادر العقلاء إلى تكذيبه من غير توقف في أمره فتقرر أن الجسم لا يخلو من الأعراض المحدثة.
وأما القول بالهيولى والصورة فقول غير صحيح لأنهما قديمان عندهم، فليس أحدهما
بأن يكون صورة والآخر هيولى أولى من خلافه وهذه التسمية عندهم موضوعة لإفادة معنى مختلف، ولهذا كان أحدهما حالاَّ والآخر محلاً، فأما إن كانت التسمية لقباً فلا ضير عليهم في ذلك.
تنبيه:
اعلم أن إطلاق القول بأن الأجسام لا تخلوا من الأعراض المحدثة كما هو واقع في عبارات كثير من أصحابنا، لا يخلوا من تسامح، لأن الذي عليه الزيدية والمعتزلة جميعاً وأكثر الفرق، التفصيل وهو أن يقال الأعراض باعتبار وجودها في الجسم وعدمها على ثلاثة أضرب :
منها ما لا يجوز خلو الجسم عنه لكل حال وهي هذه الأكوان فإنه لا يجوز خلوها عنه بحال.
ومنها ما يجوز خلوها عنه بكل حال وهو كل عرض غير باق أو باق ولا ضد له، فغير الباقي كالإرادة والاعتقاد والأصوات ونحو ذلك، والباقي ولا ضد له كالقدرة والحياة والتأليف.
ومنها ما يجوز خلوها منه قبل حلوله فيه وبعد حلوله لا يجوز خلوها عنه أو عن ضده وذلك كل عرض باق له ضد كالألوان والطعوم ونحوهما، فأما المصنف فقد أشار إلى ما ذكرنا عن الزيدية ومن وافقهم بقوله: لم يخل من الأعراض المحدثة التي هي الحركة والسكون إلى آخره.
وأمّاالأصل الرابع: وهو أن ما لم يخل من المحدث ولم يتقدمه فهو محدث مثله. فهذا هو مذهبنا وهو الذي عليه أهل العدل وأكثر ملل الكفر، وقال قوم من الفلاسفة: الجسم قديم مع أنه لم يخل من الأعراض المحدثة ولم يتقدمها وحرَّر لهم ابن الراوندي لعنه الله شبهتهم لتقرير مذهبهم بأن قال إن الجسم لم يخل من حادث وقبل الحادث حادث وقبله حادث إلى ما لا نهاية له وذكر أن جملتها قديمة وآحادها محدثة فالجسم لم يخل منها وهو مقارن لأولها والأول لا أول له وكان الجسم قديماً.
والجواب: أنَّا إذا علمنا أن الجسم لم يخل من الأعراض وأنه لم يسبقها كما تقدم ذلك في الدعوى الثالثة وهي محدثة كما تقدم في الدعوى الثانية لزم حدوثه لأن الجسم لا يخلو إما أن يوجد قبلها أو معها أو بعدها والأول باطل لما بينا من أنه لم يتقدمها والأخيران يلزم منهما حدوثه لأن ما وجد مع المحدث أو بعده فهو محدث، وقول ابن الراوندي أن آحادها محدثة وجملتها قديمة باطل،لأن صفتي القدم والحدوث يرجعان إلى الأجزاء وهي الآحاد فإذا كانت محدثة كانت الجملة كذلك فثبت بما قررناه من الأصول الأربعة أن هذه الأجسام محدثة وبطل قول من قال بقدمها، وبقي أن يقال قلتم والمحدَث لابد له من محدِث والمطلوب بيان دليله.
قلنا: الذي يدل على أن المحدث لابد له من محدِث أمران: أحدهما ما ذكره الشيخ أبو الحسين والرازي من المجبرة وغيرهما من المعتزلة والجبرية وهو ما يعلم أنه أي الجسم إذا كان في الأصل معدوماً ثم خرج من العدم إلى الوجود لم يكن له بد من مخرج أخرجه وإلاَّ وجب بقاءه على عدمه الأصلي، أما أنه كان في الأصل معدوماً فقد دللنا على حدوثه والمحدث هو الموجود بعد أن لم يكن، وأما أنه لابد من أمر فلا شك في ذلك إذ هو يعلم بأدنى نظر وتأمل، بل من أصحابنا من قال هو معلوم ضرورة فصح أن ثم مؤثراً على سبيل الجملة. الأمر الثاني ما ذكره جمهور المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم وغيرهما وأكثر الزيدية وهو القياس على أفعالنا كالبناء والكتابة بجامع الحدوث، وبيان ذلك أن أفعالنا محتاجة إلينا قطعاً لأنها توجد بحسب قصودنا ودواعينا وتنتفي بحسب
كراهتنا وصوارفنا مع سلامة الأحوال إما محققاً وإما مقدراً، ونريد بالمحقق فعل العالم المميز لفعله، والمقدر فعل الساهي والنائم فإنه لم يوجد بحسب قصده وداعيه وهو مع ذلك مضاف إليه،وإذا تقرر حاجتها إلينا فلابد من علة وهي إما عدمها ولا يصح لأن العدم نفي والنفي لا يحتاج إلى مؤثر (أو بقاؤها بعد وجودها) ، ولا يصح أيضاً بدليل أن أحدنا يخرج عن كونه قادراً بل عن كونه حياً وأفعاله باقية مستغنية في بقائها عنه، فلم يبق إلا أن تكون محتاجة إلينا في حدوثها فيجب أن تكون علة احتياجها هي حدوثها، فإذا شاركها الجسم في الحدوث وجب مشاركته لها في الاحتياج إلى فاعل مختار وإلا بطل كونها علة، وهاهنا أصل وفرع وعلة وحكم، فالأصل أفعالنا، والفرع الأجسام والعلة الحدوث، والحكم وجوب الاحتياج إلى محدث وهذا هو القياس العقلي.
تنبيه:
قال بعض المحققين:من كان طريقه في الحكم باحتياج الجسم إلى محدث قياس الأجسام على أفعالنا فهو يحكم بأن المجبِر لا يعلم الصانع لجهله الدليل على إثباته حيث أنكر أن للعبد أفعالاً وهو الأصل المقيس عليه. وقد أُورد على هذا الدليل سؤالان يصعب الجواب عنهما، ولهذا مال عنه بعض المعتزلة والأشاعرة واستدلوا بما ذكرناه في الأمر الأول وهو الذي اعتمده المصنف في الكتاب وبعض أصحابنا المتأخرين، قال في حكايته عنهم قالوا العالم حدث مع الجواز فلابد من مؤثر وإلاَّ لم يكن بأن يحدث أولى من أن لايحدث، ثم يستدلون على أنه حدث مع الجواز بأنه لو كان حدوثه مع الوجوب لم يكن بأن يحدث في وقت أولى من وقت فيلزم قدمه والمعلوم والمفروض حدوثه وبأنه لو حدث مع الوجوب لكان جنساً واحداً غير مختلف في صفاته والمعلوم خلافه، فإن بعضه حيوان وبعضه جماد وبعضه سماء وبعضه أرض وبعضه إنسان وبعضه فرس ونحو ذلك. فعلم أنه لابد من أمر لأجله حدث في وقت دون وقت وعلى صفة دون صفة وهو المطلوب. قال وهذا الدليل قوي لا يَرِد عليه شيء مما ورد على ما قبله.
تنبيه:
الدليل القرآني المثير لدفين العقل على حدوث العالم على ما هو مذهب جمهور أئمتنا عليهم السلام قوله تعالى{إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون}(البقرة:164).
قال في الأساس: بيان الاستدلال بهذه الآية، أما السماوات والأرض فإنا نظرنا في خلقهما فوجدناهما لم ينفكا عن إمكان الزيادة والنقصان والتحويل والتبديل والجمع بينهما وتفريق كل منهما، فذلك الإمكان إما قديم أو محدث ليس الأول لأن الإمكان لا يكون إلاَّ مع التمكن والتمكن لا يكون إلاَّ عند أن يصح الفعل، والفعل لا يصح إلاَّ بعد وجود الفاعل ضرورة، وما كان بعد غيره فهو محدث فثبت الثاني وهو حدوثه فلزم حدوث لازمه وهو السماوات والأرض، فهما مع ذلك الإمكان إما قديمان أو محدثان ليس الأول لأنا قد علمنا ضرورة أنهما لا يعقلان منفكين عنه وكل ذي حالة لا يعقل منفكاً عن حالته يستحيل ثبوته منفكاً عنها كالعمارة مثلاً فإنه يستحيل وجودها منفكةً عن إمكانها وكالمستحيل فإنه يستحيل تخلفه عن عدم إمكانه فلو كانا قديمين لكانا قد تخلفا عن ذلك الإمكان لأن الإمكان لا يكون إلاَّ مع التمكن منهما والتمكن لا يكون إلاَّ بعد صحة الفعل وصحة الفعل لا تكون إلا بعد وجود الفاعل، وما كان بعد وجود غيره فلاشك في حدوثه ولزم حدوث ما يتوقف عليه من جميع ذلك، ولو كانا قديمين لزم تخلفهما عنه قبل حدوثه وهو محال لما بينا فثبت الثاني وهو حدوثهما، وأيضاً هما مختلفان فاختلافهما إما للعدم أو لعلة فرضاً أو لفاعل ليس الأول لأن العدم لا تأثير له ولا الثاني لأن تأثير العلة إيجاب بزعمهم، فلو كان كذلك لوجب أن تكون السماء أرضاً والعكس، والسفلى من السماوات عليا والعكس، إذ ما جعل أحدهما أرضاً والآخر سماء ونحو ذلك بأولى من العكس لعدم الاختيار، فثبت أنه لفاعل مختار ولزم تقدمه إذ لا يصح كونه فاعلاً مختاراً إلاَّ مع تقدمه ضرورة وما تقدم عليه غيره فهو محدث، فثبت بما تقرر من دليل
أهل المذهب الصحيح أن لهذا العالم صانعاً صنعه ومدبراً دبره، وذلك الصانع إما فاعل أو غيره أو لا فاعل ولا غيره ونعني بالفاعل الصانع المختار وحقيقته هو من وجد من جهته بعض ما كان قادراً عليه، الثالث باطل لأن تأثيراً لا مؤثر له محال وبذا نعرف بطلان قول عوام الملحدة: الدجاجة والبيضة محدثتان ولا محدث لهما، وقول ثمامة بن الأشرس من علماء المعتزلة المتولد محدث ولامحدث له وإلاَّ لزم أن يوجد بناء بلا بان وهو محال، وخلافهم هذا يدل على أن العلم بأن المحدث لابد له من محدث استدلالي لا ضروري خلاف أبي القاسم البلخي. قلنا: إذاً لأشترك العقلاء في العلم به، والثاني باطل أيضاً إذ ذلك الغير إما علة كما تقوله بعض الفلاسفة والعلة غير معقولة في نفسها سلمنا فلا صحة لتأثيرها إذ تأثيرها إيجاب وقد مرَّ إبطاله، سلمنا فلابد في المؤثر من كونه قادراً حياً على ما سيأتي بيانه ولا حياة لها ولا قدرة.
وأما الطبع كما يقوله الطبائعية وهو أيضاً غير معقول إذ لا يعلم ضرورة وإلا لاشترك في العلم به كل عاقل ولا دليل عليه وإلاَّ لظهر واستدل به وإذا كان لا يعلم ضرورة ولا استدلالاً فهو غير معقول فإن أرادوا به الباري فخطأ في العبارة إذ أطلقوا على الباري لفظاً لا معنى له وذلك لا يصح في حقه تعالى، ولو سلمنا أن الطبع في نفسه يعقل فلا حياة له فضلاً عن القدرة والعلم وذلك لابد منه في المؤثر. وتحقيق مذهب الطبائعية أن الذي يحدث من تراكيب الأجسام وما فيها من الأعراض كان بطبعها. وأما النجوم كما تقوله المنجمة وهي أجسام جمادات مسخرة خلقها الله تعالى لمنافع عباده كما قال سبحانه{إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب}(الصافات:6) وقال (تعالى){وجعلناها رجوماً للشياطين}(الملك:5) ولا حياة لها فضلاً عن القدرة والعلم، ولابد من ذلك في المؤثر كما سيأتي@، وأيضاً (فإن الجسم) لا يقدر على إحداث جسم على ما يجيء. وهؤلاء المنجمة فريقان منهم من يقول لا صانع غيرها ومنهم من يقر بالصانع ويقول إن الصانع أحال التدبير إلى النجوم والمتولي لتدبير سائر الحوادث سبعة من النجوم وهي زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر قال الشاعر جامعاً لها:
زحل شرى مريخه من شمسه فتزهرت بعطارد أقمار
وتدبيرها مرتب كترتيب ذكرها في البيت أولها زحل وآخرها في التدبير القمر، قالوا فكل نجم يتولى تدبير شهر فإذا فرغت عاد التدبير إلى الأول، ومن كلامهم أن هذه النجوم المذكورة تدبر الجنين في بطن أمه أولاً فأولاً شهراً فشهراً فإذا أكمل الشهر السابع عاد التدبير إلى أولها وهو زحل فيدير الجنين في الشهر الثامن فإن خرج فيه الولد هلك لأن من طبع زحل البرودة واليبس وإن خرج في التاسع عاش إلاَّ لعارض إذ طبع المشتري الحرارة واللين ثم كذلك، وهم مجمعون على أن النجوم تنفع وتضر، لكن منهم من يقول تأثيرها على جهة الإيجاب ولا قدرة لها ولا حياة وهو قول أكثرهم، ومنهم من يقول تأثيرها على جهة الصحة والاختيار وهي حية قادرة عالمة وهذه دعوى لا دليل عليها.
وإذا بطل أن تكون هذه الأشياء مؤثرة لم يبق إلا أن يكون المؤثر الصانع المختار وهو الله تعالى لا غيره، لأن غيره ممن كان صانعاً مختاراً إن قلنا إنه هو الذي أحدث نفسه فباطل، إذ لابد من التمييز بين المؤثر والمؤثر ولأنه يلزم أن يتقدم على نفسه لتقدم المؤثر على المؤثر وهكذا يجري في كل جسم، وإن كان المحدث غيره والحال أنه غير الله فباطل أيضاً لأنه لا يصح من جسم إحداث جسم وإلاَّ لصح منَّا إما في الحال أو بأن توجد فينا قدرة مخصوصة ومعلوم أنه لا يصح منا بوجه من الوجوه، إذ لو صح منا لكان إما على جهة المباشرة أو التعدي أو الاختراع والكل مستحيل، أما الأولان فلأن المباشر ما وجد في محل القدرة بواسطة فعل في محلها والجسم لا يصح حلوله في جسم آخر وإلا لزم التداخل،والمتعدي ما وجد في محل غير محل القدرة.
وأما الثالث فمعلوم الاستحالة أيضاً وإلاَّ لم تكن جهة أولى به من جهة فيلزم وجوده في جهات متعددة وفي وقت واحد ويلزم وجود الأجسام الكثيرة في جهة واحدة في وقت واحد لعدم المخصص. فإن قيل: اختيار الفاعل يخصص وجوده بجهة دون جهة كما في صدور الأجسام عن القديم تعالى . قلنا: قد تصدر الأفعال من أحدنا وهو غير عالم بها كالساهي والنائم ولا اختيار هناك فيلزم المحال المذكور ومن هنا يعرف بطلان قول المفوضة الغلاة وهم فرقة من الروافض حيث يقرون بالباري ويقولون إنه فوض إلى بعض الأنبياء أمر الخلق، ومنهم من يقول كل من ظهر عليه معجز أو كرامة فهو رب، وأول من ابتدع الغلو ابن سبأ وكان يقول في علي عليه السلام هو الله تعالى، وبعضهم قال محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسول علي بن أبي طالب عليه السلام، وروي أن أمير المؤمنين عليه السلام حرَّق جماعة منهم وتمثل في ذلك بقوله:
لما رأيت الأمر أمراً منكراً أضرمت ناري ودعوت قنبراً
وقيل أن بعضهم ازداد فيه بذلك غلوَّاً وقال لا يحرق بالنار إلاَّ رب النار،
ويعرف أيضاً بطلان قول المطرفية حيث وافقونا أن للعالم صانعاً مختاراً هو الله تعالى ولكنهم يقولون إنه تعالى صانع لأصول الأشياء وهي الماء والهواء والريح لا غير والنار زادها بعضهم، واختلفوا فمنهم من قال صارت مستقلة بالتأثير ولا تأثير لله فيها الآن حتى أنه لو عدم الله تعالى لاستقامت على ما هي عليه، ومنهم من قال ما من طرفة عين إلاَّ وله تعالى فيها تأثير ذلك التأثير كونه المؤثر في أصلها وما أثر في الأصل فهو المؤثر في الفرع، ففي عبارتهم أنه المؤثر وفي المعنى هم كالأولين. وحكي عن المطرفية القول بالصانع المختار وحدوث العالم كما ذكرنا ولكنهم يقولون: إن الحوادث اليومية كالنبات والمولودات والحياة والموت والآلام ونحوها حادثة من الطبائع الحاصلة في الأجسام ولا تأثير للقديم فيها أصلاً. وقد اشتهر عن أبي القاسم البلخي من المعتزلة القول بالطبع وهو أن تركيب الإنسان وغيره من التراكيب الحادثة حاصلة من تركيب الطبائع الأربع مع أن الله تعالى قادر على أن يبتدي الخلقة من غير تركيب.
تنبيه:
قد أورد القائلون بقدم العالم شبهاً ينبغي حلها ليتم المطلوب لما عرفت من عظم شأن هذه المسألة.
قالوا: تعلق القدرة به حال عدمه محال.
قلنا: بل محال تعلق القدرة بالموجود، وإنما تعلق بالمعدوم لتحصيله لأن المقدور لو كان حاصلاً حين تعلق القدرة به لتحصيله لأغنى ذلك عن تعلق القدرة به .
قالوا: تعلقت القدرة بالحجارة للعمارة والحجارة موجودة.
قلنا: الحجارة من جملة آلة العمارة فتعلق القدرة بالعمارة إنما هو حال عدمها بواسطة الآلة. قالوا: العمارة هي نفس الحجارة وإنما كانت كامنة في نفسها.
قلنا: هذا هو المحال لأن كمون الشيء في نفسه لا يعقل.
المسألة الثانية ((أن الله تعالى قادر))
وهي أول مسائل الصفات ، اعلم أن الصفة والحالة والمزية في الاصطلاح بمعنى واحد ولها معانٍ فتارة يعبر بها عن شيء هو الذات كما يقال قدرة الله، ويعبر بها عن ثبوت الذات على شيء نحو ثبوت الحيوان على حياته، ويعبر بها عن اسم لذات باعتبار تعظيم نحو قولنا أحد نريد به الله تعالى، فإنه عبارة عن ذاته باعتبار كونه المنفرد بما لا يكون من الأوصاف الجليلة إلاَّ له، وباعتبار معنى نحو قولنا قائم ونريد به إنساناً فإناسم له باعتبار معنى هو القيام، وبمعنى الوصف وهو عبارة عن قول الواصف كقولك زيد كريم مثلاً علم ذلك بالاستقراء. وقال المهدي عليه السلام: ليست إلاَّ بمعنى الوصف فقط. قلنا: يلزم أن تكون صفاته تعالى نحو كونه قادراً عبارة عن قول الواصف وذلك بيِّن البطلان. وقد فرقت الأموريَّة بين الصفة والحكم، فقالوا: الصفة لها معنيان أعم وهو المزيَّة التي تعلم الذات عليها وهذا ليشمل الحكم، وأخص وهو المزيَّة التي تعلم الذات عليها من دون اعتبار غير ولا ما يجري مجرى الغير فيخرج الحكم فإنه المزية التي لا تعلم الذات عليها إلاَّ باعتبار غير أو ما يجري مجراه فالحكم المعلوم بين الغيرين المماثلة والمخالفة إذ هما حكمان لا يعلمان إلا باعتبار غير إذ الشيء لا يماثل نفسه ولايخالفه، فلا تعقل مماثلة ولا مخالفة حتى تعلم ذات أخرى، ومثال ما يعلم بين الذات وما يجري مجرى الغير صحة وجود الفعل، فإنه حكم يعلم بين ذات المقدور وبين وجوده بحيث لو لم يخطر بباله ذات المقدور ووجوده لم يعلم صحة وجوده.
قال في الأساس: الملجي لهم إلى ذلك وصفهم لصفات الباري تعالى حيث جعلوها أموراً زائدة على الذات بأنها غَيْر، نحو العالمية غير القادرية ومثل نحو العالميَّة زائدة على الذات مثل القادرية ومنعهم وصفها بأنها قديمة أو محدثة وفرُّوا حين إلزامهم بذلك أن الصفات لا توصف والفرق تحكم ولا مانع من دعوى أن سائر ما توصف به الصفات أحكام مثلها. فإذا عرفت ذلك، فاعلم أنه يجب على المكلَّف أن يعلم أن الله تعالى قادر وحقيقة القادر هو من يصح منه الفعل مع سلامة الأحوال وهذا قول من يقر بالصانع المختار، والخلاف في ذلك مع الباطنية فإنهم يقولون بأن الله لا يوصف بأنه قادر ولا لا قادر ولاشيء من الصفات أصلاً لا إثباتاً ولا نفياً إذ لو وصف مثلاً بأنه قادر كان تشبيهاً وإن وصف بأنه غير قادر كان تعطيلاً، وقد ألزمت المطرفية بأنه لا يوصف بذلك لأن طريقنا إلى كونه قادراً وجود هذه الحوادث من الأجسام وغيرها منه تعالى، وعندهم أنها لم تحدث من الله بل حدثت بالفطرة والتركيب.
والدليل على ذلك المذهب الصحيح،أن الفعل وحقيقته هو ما وجد من جهة من كان قادراً عليه قد صح منه تعالى، وليس المراد بالصحة الإمكان التي هي مقابل الاستحالة وإنما المراد الصحة والاختيار الذي هو مقابل الإيجاب، فإن الصحة الأولى لا تدل على القادرية، فإن المسبب يصح صدوره عن السبب والمعلول عن العلة، ولا يدل على أن السبب والعلة قادران. وبيان ذلك أنه قد صح منه الفعل وجوده منه فلا يخلو إما أن يكون على وجه الإيجاب أو على وجه الصحة والاختيار، والأول باطل وإلاَّ لم يكن بأن يوجد في وقت أولى من وقت فيلزم وجوده في الأزل وهو محال لأنه قد ثبت حدوثه ولأنه كان يلزم أن يكون من جنس واحد إذ لا مخصص لوقوعه على صفة دون صفة فثبت أنه وجد على سبيل الصحة والاختيار وهذا هو معنى قولنا إن الفعل قد صح منه، هذا كلام بعض المحققين، وقد ذكر في الخلاصة أن المراد بالصحة الإمكان الذي هو مقابل الاستحالة وهو الذي اعتمده مؤلف الكتاب حيث قال والآخر يتعذر عليه وقد عرفت ما يرد على ذلك. قال الدواري: ويمكن الاعتذار بأن يقال أن الصحة التي هي مقابلة الاستحالة إذا أضيفت إلى الفعل فإنها تستدعي الصفة التي هي التخير في إيجاد المقدور وذلك يدل على كون القادر قادراً فكان ذكرها يؤذن بالصحة التي هي التخير وبها يستدل بخلاف الصفة الصادرة عن العلة و السبب فإنه لا يقال فيهما صحة الفعل من العلة والسبب فافترقت الحال، وإذا تقرر أن الفعل قد صح منه فالفعل قطعاً لا يصح إلا من قادر، دليل ذلك أي كون الفعل لا يصح إلاَّ من قادر، أنَّا وجدنا في الشاهد ذاتين كان الأجود أن يقول حيين أو جملتين ليسقط عنه مؤنة إبطال أن يكون المؤثر في صحة الفعل كونه حياً وكثير من الصفات الراجعة إلى
الجملة أو إلى الآحاد. أحدهما إذا حاول حملاً ثقيلاً حمله كالصحيح السليم والآخر يتعذر عليه ذلك كالمريض المدنف، فالذي صح منه الفعل يجب أن يفارق من تعذر عليه ذلك، فالمفارقة معلومة بالضرورة، ويجب أن يختص القادر عليه بمزية، تلك المزية هي التي عبرنا عنها بكونه قادراً، فإذا كان الله سبحانه قد صح منه من الأفعال ما يتعذر على غيره ثبت أنه قادر.
فإن قيل: هذا قياس الغائب على الشاهد ومثله إنما يفيد الظن لأن علته غير قطعية.
قلنا:لا نسلم أنه قياس وإنما هو رجوع إلى كلية وهي أن من يصح منه الفعل فهو قادر، وعرفنا هذه الكلية بأن الفعل لابد له من مقتضي وذلك المقتضي هو الصفة التي عبرنا عنها بالقادرية، وإنما ذكرنا الشاهد على وجه التمثيل والتقريب.
تنبيه:
ذهب إمام زماننا أيده الله تعالى إلى أن كون الفعل لا يصح إلاَّ من قادر لا يحتاج إلى الاستدلال بل هو أمر ضروري .
ونقول: لاشك في إثبات الصفة التي هي القادرية للقادر، ولكن اختلفوا فقيل المرجع بها إلى الجملة. قال الدواري: وهو الذي عليه الزيدية وجمهور المعتزلة وغيرهم، وقال أبو القاسم المرجع بكونه قادراً إلى الصحة واعتدال المزاج. وقال أبو الحسين وابن الملاحمي المرجع بكونه قادراً إلى النية المخصوصة في الشاهد من اللحم والدم وما يصحب ذلك من الأعصاب والرطوبة واليبوسة وفي الغائب إلى ذات الباري المخصوصة. قلت: هذا هو مذهب جمهور أئمتنا عليهم السلام بل إطباق قدمائهم على ذلك لأن الصفات عندهم هي الذات على ما يجيء بيانه إنشاء الله ، وقد غفل الدواري في إطلاقه الرواية عن الزيدية وسببه ريح الاعتزال والإعراض عن تتبع مذاهب الأئمة فالله المستعان.
تنبيه:
المقدورات ثلاثة وعشرون جنساً وهي الأجسام والألوان والروائح والطعوم والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والشهوة والنفرة والحياة والقدرة والفناء فهذه يقدر الله على أعيانها وأجناسها ومن كل جنس على ما لا يتناهى لأنه تعالى قادر بالذات ولا اختصاص لذاته بجنس دون جنس. وأما العشرة الباقية وهي الأكوان والاعتمادات والتأليفات والأصوات والآلام والاعتقادات والإرادات والكراهات والظنون والأفكار فهذه يقدر العباد على أعيانها وأجناسها لما مكنهم الله تعالى منها، ويقدر الله على أجناسها ومن كل جنس على ما لا يتناهى لما ذكر من أنه تعالى قادر بذاته فلا تنحصر مقدوراته جنساً ولا عدداً، وهو تعالى قادر فيما لم يزل وفيما لا يزال ولا يجوز خروجه عن هذه الصفة بحال من الأحوال إذ هو يستحقها تعالى بذاته، وهذا ما يجب على المكلف معرفته من مسألة قادر.
المسألة الثالثة ((أن الله تعالى عالم))
أنه يجب على المكلَّف أن يعلم أن الله تعالى عالم، وحقيقته هو من يمكنه إحكام الأشياء المتباينة وتمييز كل منها بما يميزه أو من إدراك الأشياء إدراك تمييز وإن لم يقدر على فعل محكم، وقيل هو المختص لصفة لكونه عليها يصح منه الفعل المحكم إذا لم يكن ثمَّ مانع ولا ما يجري مجراه وهذا هو مذهب المقرين بالصانع المختار، والخلاف في ذلك مع الباطنية تصريحاً (والمطرفية إلزاماً) كما تقدم.
والدليل على ذلك المذهب الصحيح، أن الأفعال المحكمة وحقيقة المحكم هو الفعل الواقع عقيب فعل أو مع فعل على وجه لا يمكن سائر القادرين إيجاده على ذلك الحد ابتداء. وحقيقة الحكمة هي كل فعل حسن له صفة زائدة على جنسه، وحقيقة الإحكام إيجاد فعل عقيب فعل أو مع فعل على حد لا يمكن سائر القادرين إيجاده على ذلك الحد ابتداء، والأفعال بحسب الحكمة، والإحكام تنقسم إلى أربعة أقسام: محكم وحكمة نحو الخط الحسن في نفاعة مسلم،ولا محكم ولا حكمة نحو الخطوط التي لا حروف فيها مفصلة إذا كان ذلك لمضرة مسلم أو نحو ذلك، ومحكم دون حكمة نحو الخط الحسن الذي لا غرض فيه، وحكمة دون محكم نحو الخط الذي لا تميز حروفه لنفع مسلم، ولا يوجد في أفعال الباري تعالى إلاَّ ما فيه الحكمة والإحكام أو الحكمة دون الإحكام ونحن نقطع بأن الأفعال المحكمة قد صحت منه ابتداء والمراد وجودها على سبيل الصحة والاختيار كما مرَّ. وبيان الاستدلال على إرادة ذلك أن يقال قد وقع الفعل المحكم من الله تعالى فأما أن يقع على جهة الإيجاب أو على جهة الاختيار، باطل وقوعه على جهة الإيجاب لأنه كان يلزم وقوع العالم دفعة واحدة ولأنه يلزم من ذلك قدم العالم فإذا بطل أن يكون وقوعه على جهة الإيجاب ثبت أنه على سبيل الاختيار. وذهب صاحب الخلاصة إلى أن المراد بالصحة الإمكان الذي يقابل الاستحالة كما مر في مسألة قادر، وتبعه المؤلف هنا أيضاً وقد ألزم فيما صدر عن العلل والأسباب أن الصحة ثابتة وثبوتها لا يدل على أن المؤثر فيها عالم.قال الدواري:يمكن الاعتذار بأن الصحة التي ثبتت لما ذكر ليست صحة لفعل محكم، وأما صحة الفعل المحكم فهي لا تصدر إلاَّ من فاعل مختار فاستدلالنا على أن ذلك غير مستحيل يكشف
عن صدوره من مختار. وأخذ المصنف في إتمام تحرير الدليل فقال:والأفعال المحكمة لا تصح إلاَّ من عالم والدليل على أن الأفعال المحكمة قد صحت منه ابتداء أنه أوجد العالم على سبيل الترتيب والنظام معناهما واحد وذلك ظاهر في ملكوت السماوات والأرض وما بينهما مع إحالة الفكر، لأن فيه من بدائع الحكمة وعجائب الصنعة ما يزيد على كل صناعة محكمة في الشاهد من بناء وكتابة وغيرهما،فإنا نظرنا فوجدنا العالم موجوداً على مطابقة مصلحة الخلق واتساق مرافقهم ألا ترى أنه خلق المخلوقات أصنافاً حيواناً وغير حيوان ونامٍ وغير نامٍ ومائع وجامد إلى غير ذلك،ثم جعل لكل صنف أصلاً،إذا أراد قاصدٌ حصول ذلك الصنف عمد إلى ذلك الأصل، بدليل أن الواحد منا إذا أراد حصول ولد عمد إلى الوطئ لآدمية، وإذا أراد حصول حيوان عمد إلى ما ينتج ذلك الحيوان فإذا أراد فرساً أنزى ذكور الخيل على إناثها، وإن أراد إبلاً فكذلك، وإن أراد بقراً فكذلك، وإن أراد صنفاً من النبات عمد إلى بذره فألقاه في الأرض ثم سقاه، واطّردت العادات بجميع ذلك بحيث لاتختلف، هذا كما مرَّ رفقاً بنا ومطابقةً لمصلحتنا، حتى لو لم يكن كذلك وأراد أحدنا شيئاً من ذلك لم يهتد إلى تحصيله،
ثم انظر إلى خلق السماء ورفعها وكونها كالسقف ثم إلى بسط الأرض ثم إلى ما أعد الله فيها من النبات والأمواه الجارية المستخرجة والجبال الراسية والأخاديد والآكام والشم الشوامخ ليعمد كل واحد إلى ما تميل إليه نفسه من ذلك، ثم زينت السماء بالقمرين والشهب فهي كالمصابيح المضيئة، فمثل السماء والأرض كمثل البيت المسقوف ومثل القمرين والنجوم كالمصابيح المعدَّة للاهتداء بها إلى رؤية ما في البيت وغير ذلك، والواحد منا كالمالك يتصرف في بيته مع الشموع المشعلة والمصابيح المضيئة. ثم انظر إلى تركيب ابن آدم وما فيه من لطائف الحكمة وعظيم التدبير إذ هو العالم الصغير كما قال الحكماء وقد أكثر الحكماء في الإشارة إلى بيان طرف من الحكمة في خلق ابن آدم منهم أمير المؤمنين عليه السلام فقال: عجباً لابن آدم ينظر بشحم، ويتكلم بلحم، ويتنفس من خرق ، ويسمع بعظم، ثم انظر إلى كون وجهه في أعلاه وهو أعظم أعضاءه هيئة وجمالاً، والعينان في رأس الوجه صيانة لهما من أن ينالهما ما ينال الرجلين، ثم الجفنان عليهما يغطيانهما أحياناً صيانة لهما وينفتحان أحياناً بالإحساس وغيره، ثم انظر إلى اللسان إذ هو لحمة تتقلب وما يتفجر منه من الكلام والحكم ويبلغ صاحبه به إلى الإبانة ويكشف عن كل ما يريد وغيره من اللحم إذا قلب لم يصدر منه شيء من ذلك، ثم الريق في الفم الذي لأجله يتهيأ للأكل الأكل بحيث لو كثر ماء الفم أو نقص لتعذر عليه ذلك وغيره،
ثم انظر إلى الحكمة في جعل مقدم الأسنان حداداً مصطفَّة لكونها كذلك أجمل في الخلقة وحداداً لتقطع ما نهشته ثم تلقيه إلى الدواخل وهي عراض مسطحة سفلاً وعلواً كالرحا لطحن وما يلقى فيها فإذا طحنت ألقته إلى الحلق فيزدرده ثم يصير إلى البطن وازدراد ذلك إلى الحلق ثم إلى البطن بسهولة وإن كان الفم في بعض الأحوال سفلاً والحلق علواً لكن تجذب ذلك القوة التي دبرها قادر الذات عالمها، ولو رام جسم أن يعتمد على الطعام الذي في الفم ليلقيه إلى الحلق ثم إلى البطن لم يتهيأ ذلك إلاَّ بعد مشقة شديدة وألم الأكل، ثم انظر إلى تشريح أعضاء الإنسان ونفع كل عضو النفع الذي لا يقوم غيره مقامه، (ثم انظر إلى مفاصل العظام التي لو لم تكن لتعذر كثير من نفع الأعضاء) ، ثم انظر إلى تركيبها ملائمة للطبع فلو كان باطن الكف ذي شعر لتنغص الأكل ولم يستمر ما يؤكل، ثم انظر إلى مخرج الأذى من السبيلين عند الحاجة وكيف يخرج ذلك بسهولة من غير جاذب ولا دافع وفي غير حاجة الخروج محتبس من غير أن يكون ثم حابس بل مخارجها على حالها لم يحصل هناك حتم ولاسد، فسبحان من رجعت العقول حسيرة عن إدراك حكمته وتدبيره في أصغر مخلوقاته حجماً ولو أحيلت العقول في فهم يسير من ذلك لَجُلِّدَ ما يكثر من الكتب والإشارة تكفي اللبيب.
والذي يدل على أن الأفعال المرتبة المنظومة لا تصح إلاَّ من عالم، أنا وجدنا في الشاهد قادرين اشتركا في القدرة كالكاتب بالقوة الأمي والذي يمكنه فعل الكتابة لكن أحدهما يصح منه الكتابة (المرتبة المحكمة) كالكاتب أي فاعل الكتابة بالإمكان والآخر يتعذر عليه ذلك كالأمي وهو الذي (يصلح أن) يكتب ولا يمكنه فلا شك أن هنا مفارقة فلابد من مزية فارقة، فالذي صح منه ذلك يجب أن يفارق من تعذر عليه ويختص عليه بمزية، تلك المزية هي التي عبرنا عنها بكونه عالماً، فإذا كان الله تعالى قد صح منه الفعل المحكم وجب أن يكون عالماً وفيه من السؤال والجواب ما تقدم في مسئلة قادر فثبت بهذا الدليل القطعي أن الله تعالى عالم ووجب على المكلف أن يعلم أن الله تعالى عالم فيما لم يزل وفيما لا يزال ولا يجوز خروجه عن هذه الصفة بحال من الأحوال (وهو عالم) بما كان ويكون وبما هو كائن وما لم يكن لو كان كيف كان يكون وبما كان لو لم يكن كيف كان الحال فيه فإنه عالم بجميع أعيان المعلومات على جميع الوجوه التي يصح أن تعلم عليها لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا غير ذلك .
تنبيه:
ذكر إمام زماننا أيده الله تعالى أن كون الفعل المحكم لا يصح إلاَّ من عالم لا يحتاج إلى استدلال (بل هو) أمر ضروري.
ونقول: لا مِرْيَةَ في إثبات الصفة التي هي العالمية للعالم ولكن اختلفوا في المرجع بها،فعند كثير من المعتزلة وجماعة من الزيدية أن للعالم بكونه عالماً صفة زائدة على ذاته ر اجعة إلى الجملة في الشاهد وإلى الحي في الغائب، وقال أبو الحسين وابن الملاحمي المرجع بها إلى تبيين العالم للمعلوم وهو تعلق العالم بالمعلوم ولم يثبتا صفة زائدة على التعلق للباري تعالى وللواحد منا إلاَّ أن أبا الحسين سمى هذا التعلق صفة لقلب الواحد منا، وابن الملاحمي لم يجعل ذلك صفة وكلامهما هو المطابق لما عليه جمهور أئمتنا عليهم السلام وقدماؤهم من كون الصفات هي الذات على مايجيء بيانه وإقامة البرهان عليه إنشاء الله تعالى.
تنبيه:
إذا تقرر في العقول أن الله تعالى عالم فمن جملة ما هو عالم به ما سيكون وهل يحتاج في علمه به إلى ثبوته في الأزل ولا خلاف بين العلماء، فعند جمهور أئمتنا عليهم السلام وقدمائهم وهو الذي مال إليه إمام زماننا أيده الله تعالى أن علمه بما سيكون لا يحتاج إلى ثبوت ذلك المعلوم في الأزل بمعنى أنه يعلم الأشياء وهي في العدم المحض لا ثبوت لها ولاوجود وأنه لا يجوز أن يوصف بالثبوت فيما لم يزل إلا الله وحده لا شريك له والله سبحانه قادر على أن يخلق خلقاً بعد خلق إلى ما لا نهاية له، ولا يجوز أن توصف مقدوراته بأنها ثابتة فيما لم يزل لأجل كونه سبحانه قادراً فيما لم يزل. (وقال متأخروا) الزيدية كالمهدي عليهم السلام وبعض صفوة الشيعة وبعض المعتزلة: بل يجب ثبوتها ليصح تعلق العلم بها، فقالوا ذوات العالم ثابتة في الأزل ولم يقولوا أعيان العالم موجودة في القدم ففرقوا بين الذات والعين وبين الأزل والقدم وبين الثبوت والوجود وأثبتوا لهم مذهباً متوسطاً بين مذهب العترة وهو القول بحدوث العالم ذاته وصفاته وبين مذهب الفلاسفة وهو القول بأن أعيان العالم موجودة في القدم لأنهم عابوا مذهب العترة ومذهب الفلاسفة.
والجواب: أن ذلك يستلزم الحاجة إليها وقد ثبت بما سيأتي أنه ليس بمحتاج، ثم أنكم مجموعون (معنا على أن) ذوات العالم هي العالم والعالم محدث والمحدث نقيض الأزل فيجب أن يستحيل الجمع بين وصف ذوات العالم بأنها محدثة وثابتة فيما لم يزل، وكذلك فإنه يستحيل بإجماعهم وجود ذوات العالم فيما لم يزل، فيجب أن يستحيل ثبوتها فيما لم يزل لعدم الفرق المعقول بين الثبوت والوجودية ولأن الله تعالى قد أخبر في محكم كتابه بأنه الأول وثبت بأدلة العقل أنه سبحانه ثابت فيما لم يزل وأنه لا أول لثبوته، فلو كانت ذوات العالم كما زعموا ثابتة فيما لم يزل لم يكن ما لأول لثبوته أولى بالأولوية مما لثبوته أول، ثم التعبير بالأزل بدلاً عن القدم وبالثبوت بدلاً عن الوجود وبالذات بدلاً عن العين مخالف لما عليه عرف أهل اللغة العربية من ترادف هذه الألفاظ ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال الله سبحانه قديم غير أزلي ولا موجود غير ثابت بل هو كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: دليله آياته، ووجوده إثباته. وكل اسم مبتدع لم يدل عليه دليل فهو من الأسماء المسماة التي ما أنزل الله بها من سلطان وما هذا حاله وجب رده.
دليل آخر إجماعهم معنا على كون الباري تعالى صانعاً للعالم فلا يخلو إما أن يكون صنعه هو ذات العالم أو صفاته أو هو الذات والصفات معاً. فإن قالوا: صنعه هو الذات بطل قولهم بثبوتها فيما لم يزل، وإن قالوا: صنعه هو الصفة التي هي الوجود وتوابعه بطل إقرارهم بأن الباري سبحانه صانع للعالم، لأن ذوات العالم هي العالم بإجماعهم فإذا لم يكن صانعاً للذوات بمعنى أنه جعلها ذواتاً فليس بصانعٍ للعالم، وإن قالوا: أنه صانع للذوات (بمعنى أنه جعلها ذواتاً فليس بصانع للعالم، وإن قالوا: أنه صانع للذوات) والصفات خرجوا من مذهبهم.
دليل آخر لو صح القول بثبوت ذوات مقدورات الباري سبحانه فيما لم يزل وأنه لا تأثير له في كونها ذواتاً أدى إلى القول بتعجيزه عن خلق العالم، والقول بأنه سبحانه لا يعلم الإيجاد فيما لم يزل كما هو مذهبهم حيث يقولون أنه تعالى لا تأثير له إلا في الصفة الوجودية وليست هي بصفة معلومة له فيما لم يزل يؤدي إلى القول بأنه سبحانه جاهل بتأثيره قبل أن يؤثر فيه وكل قول يؤدي إلى تعجيزه سبحانه وتجهيله فهو ظاهر البطلان. ومما يدل على بطلان قول المخالفين إجماعهم مع العترة على إنكار قول من زعم أن أعيان العالم قديمة ولا فرق بين ذلك وبين قولهم أن ذوات العالم ثابتة في الأزل بدليل أنه ما من دليل يصح أن يستدل به على بطلان أن أعيان العالم قديمة إلا ويصح أن نستدل به على بطلان أن ذوات العالم ثابتة في الأزل.ومما يشهد بصحة ما قلنا الكتاب والسنة وأقوال الأئمة.
أما الكتاب فقول الله تعالى {وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً}(مريم:09)وقوله تعالى{هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا}(الإنسان:01)وقوله سبحانه مذكوراً من التأكيد لنفي كون المعدوم شيئاً مما لا يجوز لمسلم إنكاره.
وأما السنة فما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(كان الله ولا شيء)وأنه ذكر في بعض خطبه (أن الله) سبحانه (مشيء الأشياء).
وأما أقوال الأئمة:فقول أمير المؤمنين عليه السلام في بعض خطبه: الحمد لله الذي دل على وجوده بخلقه وبحدوث خلقه على أزليته.وقوله: كذب العادلون وخاب المفترون وخسر الواصفون بل هو الواصف لنفسه والملهم لربوبيته والمظهر لآياته إذ كان ولا شيء كائن.وقوله: والذي الحدث يلحقه فالأزل بيانه.وقوله: عالم إذ لا معلوم ورب إذ لا مربوب وقادر إذ لا مقدور.وقول علي بن الحسين عليهما السلام في توحيده: فسبحان من ابتدع البرايا فأجادها،وأنشأها فأمارها،وشيئها فأصارها. وقوله: كيف يستحق الأزل من لا يمتنع من الحدث.وقوله: له جل جلاله معنى الربوبية إذ لا مربوب وحقيقة الإلاهية ولا مألوه ومعنى العلم ولا معلوم.
وقول جعفر بن محمد الصادق عليهم السلام في كتاب الاهليلجة: في كل شيء أثر تدبير وتركيب شاهد يدل على صنعه والدلالة على من صنعه ولم يكن شيئاً.
وقول القاسم بن إبراهيم عليهم السلام في كتاب الرد على النصارى: جل جلاله عن أن يصح عليه تشبيه شيء أو يناله في أزلية قديمة أو ذات أو صفة ما كانت من الصفات، إذ في ذلك لو كان كذلك إشراك غيره معه في الإلاهية إذ كان شريكاً له في القدم والأزلية.وقوله في كتاب الرد على ابن المقفع: الأشياء ليست إلاَّ قديماً أو حادثاً (لا يتوهم متوهما وجهاً ثالثاً فيها) .
وقول محمد بن القاسم عليه السلام في كتاب الوصية: الحمد لله الحي القيوم ذي العظمة والجلال الذي لم يزل ولا شيء غيره.
وقول الهادي إلى الحق عليه السلام في كتاب المسترشد: ولم يزل سبحانه قبل كل شيء وهو المشي لكل الأشياء.وقوله: نريد بقولنا شيء إثبات الموجود ونفي العدم المفقود لأن الإثبات أن نقول شيء والعدم أن لا نثبت شيء. وقول ابنه المرتضي عليه السلام في كتاب الشرح والتبيين:الأشياء محدثة مجعولة، مبتدعة مخلوقة، لأن الله سبحانه كان ولا شيء.
وقول الحسين بن القاسم العياني عليهما السلام في كتاب شواهد الصنع: إذا كان هذا المحدث عدماً قبل حدوثه فالعدم لا شيء ، ولا شَيء لا يكون شيئاً (بعد شيء) .
وقول الإمام أبي الفتح بن الحسين الديلمي عليه السلام في تفسيره (لقول الله سبحانه) {وهو أهون عليه}: إنما بين الله تعالى للإنسان تنقل أحواله حتى استكمل خلقه ليعلم نعمته عليه وحكمته فيه وأن بعثه بعد الموت أهون من إنشاءه ولم يكن شيئاً.
المسألة الرابعة ((أن الله تعالى حي))
أنه يجب على المكلَّف أن يعلم أن الله تعالى حي، وحقيقة الحي هو من يمكنه إدراك الأشياء عند اجتماع شرائط الإدراك أو القدرة عليها مع سلامة الأحوال، وحقيقة الحياة تارة يعبر بها عن الذات كقولنا حياة الباري إذ المرجع بها إلى ذاته على الأصح،قال أبو الحسين والشيخ محمود: المرجع بكونه حياً إلى أنه لا يستحيل أن يقدر ويعلم وتارة يعبر بها عن ثبوت الحيوان على صفة بها خالف الجمادات،وحقيقة الحيوان هو الحي بحياة عند أهل علم الكلام،وأما أهل المنطق فيقولون الجسم الحساس المتحرك بالإرادة.قال الدواري:والأول حذف المتحرك بالإرادة من الحد إذ لا حاجة إلى ذلك.والقول بأن الله تعالى حي هو مذهب جميع من أقرَّ بالصانع المختار إلاَّ أنه يلزم المطرفية أن لا يكون حياً والخلاف في ذلك مع الباطنية.والدليل على ذلك المذهب الصحيح ما تقرر بالأدلة القطعية من أنه تعالى قادر عالم جرت عادة الشيوخ أن يجمعوا بين هاتين الصفتين في الاستدلال على كونه تعالى حياً وإن كانت إحداهما كافية في ذلك.وتحرير هذا الدليل أن نقول قد ثبت أن الله تعالى قادر عالم،والقادر العالم لا يكون إلاَّ حياً فهذان أصلان لابد (لكل منهما) من دليل، أمّا الدليل على أنه تعالى قادر عالم فقد تقدم في مسألة قادر ومسألة عالم، وأما الدليل على أن القادر العالم لا يكون إلا حياً فلأن من المعلوم في الشاهد وجود ذاتين أحدهما يصح أن يقدر ويعلم كالواحد منا والآخر يستحيل أن يقدر ويعلم مثل الميت والجماد إذ هما لا يعلمان شيئاً ولا يقدران عليه ضرورة، فلابد من مفارقة لولاها لما صح من أحدهما ما استحال على الآخر، وقد عبر أهل اللغة عن هذه المفارقة بأن سموا من صح أن يقدر ويعلم حياً دون الآخر ويرد هنا من
السؤال والجواب مثل ما تقدم في المسئلتين السابقتين. فإن قيل: دليلكم على أن الله تعالى حي قادر عالم لا صحة أن يقدر ويعلم والمفارقة في الشاهد التي لزم منها الصفة إنما هي بين من يصح أن يقدر ويعلم وبين لا يصح منه ذلك وأين أحدهما من الآخر. قلنا: الصحة المذكورة هي نقيض الاستحالة، فإذا كان الله تعالى قادراً عالماً فقد صح أن يقدر ويعلم فلزم حصول الصفة له كما في الشاهد.
تنبيه:
قال إمام زماننا أيده الله تعالى دليل كونه حياً كونه قادراً وعالماً. ومعلوم بالضرورة أن الجماد لا قدرة له، فثبت بما بيناه من الدليل القطعي أن الله تعالى حي ويجب على المكلَّف أن يعتقد ذلك له تعالى في ما لم يزل وفيما لا يزال ولا يجوز خروجه عن هذه الصفة في حال من الأحوال.
المسألة الخامسة ((أن الله تعالى سميع بصير))
أنه يجب على المكلَّف أن يعلم أن الله تعالى سميع بصير، اتفقت المعتزلة على أن الله سبحانه وتعالى يوصف بأنه سميع بصير وسامع مبصر مدرك للمدركات، فأما كونه سميعاً بصيراً فالأكثر على أنها ليست بصفة زائدة على كونه حياً لا آفة به بل المرجع بها إليه خلافاً لأبي هاشم في أحد قوليه، وأما كونه سامعاً مبصراً فهي صفة الإدراك وهي بمعنى عالم، عند البغداذية وعند البصرية صفة زائدة عليها، ومنهم من يعبر عن صفة مدرك بسامع مبصر، ومنهم من يعبر عنها بكونه مدركاً، قالوا وهو أعم إذ يدخل فيه المسموع والمبصر وغيرهما، ومنهم من يجمع بينهما فيقال سامع مبصر مدرك للمدركات، هذا ما قيل في حكاية الخلاف.
وقد ذكر في الأساس أن الخلاف في هذه المسألة أعني سميعاً بصيراً بين جمهور أئمتنا والبغداذية وبين بعض أئمتنا وشيعتهم والبصرية، فالأولون ذهبوا إلى أنهما بمعنى عالم وأنه لا فرق بين قولنا عالم وبين قولنا سميع بصير وسامع مبصر ومدرك بل الكل راجع إلى العلم، والآخرون ذهبوا إلى أنهما بمعنى حي لا آفة به يوصف بهما الباري في الأزل وفرقوا بينهما وبين سامع مبصر وجعلوهما صفة مدرك والباري لا يوصف بهما في الأزل بل تجددت له بعد وجود المدرك والمصرح به في أقوالهم أن المراد بذلك المرجع بهما إلى ما ذكرنا لأن ذلك على سبيل الماهية فإنهم عند التحديد لهما لم يخلوهما من معنى الإدراك ولهذا قال في الخلاصة حقيقة السميع البصير هو المختص بصفة لكونه عليها يصح أن يدرك المسموع والمبصر إذا وجد، وقوله إذا وجدا يحترز من لزوم أحد محذورين، أما القول بأنه غير سميع بصير فيما لم يزل وهو خلاف ما عليه المسلمون، أو القول بأن معنى سميع بصير يصح أن يسمع ويبصر في الأزل وهذه الصفة واجبة له تعالى والصفة الواجبة متى صحت وجبت فيجب أن يسمع ويبصر في الأزل وأن يكون هناك مسموع ومبصر وفي ذلك قدم العالم وهو غير صحيح كما تقدم، هذا ما قيل في توجيه كلامه. إذا عرفت ذلك، فاعلم أنه ينبغي الاشتغال بكلام الكتاب أولاً ثم نذكر النزاع في صفة الإدراك وبيان المختار من الأقوال وإقامة البرهان عليه. فنقول: القول بأن الله سميع بصير هو مذهب جميع المقرين بالصانع المختار إلاَّ أنه يلزم المطرفية ألا يصفوه بذلك والخلاف في ذلك مع الباطنية كما مر. والدليل على ذلك المذهب الصحيح أنه تعالى حي لا آفة به. هذه المقدمة الأولى وقد ينازع بأن مصنف الكتاب ممن يقول المرجع بسميع بصير إلى كونه
حياً لا آفة به فيكون ذلك استدلالاً بالشيء على نفسه، وقد يجاب بأنه لم يذكر ذلك على سبيل الاستدلال على معنى السميع البصير وإنما أورده استدلالاً على الوصف له تعالى بكونه سميعاً بصيراً وكل من كان حياً لا آفة به فهو سميع بصير. فهذان أصلان لابد من إقامة البرهان على كل منهما، أما أنه تعالى حي فقد تقدم في مسألة حي، وأما أنه (تعالى) لا آفة به فلأن معنى الآفات فساد الآلات وهذا هو المعقول من إطلاق اسم الآفة في الشاهد، والآلات لا تجوز إلاَّ على الأجسام والله سبحانه ليس بجسم ولا عرض، فإذا كان الله تعالى ليس بجسم ولا عرض استحال أن تكون له آلة تنطرق إليها الآفة، وقلنا أنه ليس بجسم لأن الأجسام محدثة كما مر والله تعالى قديم على ما يجيء بيانه إنشاء الله تعالى. قال الدواري: الأولى في الاستدلال أن يقال أنه تعالى حي والآفة مستحيلة عليه فيجب أن يكون سميعاً بصيراً دليله الشاهد فإن الواحد منا إذا كان حياً لا آفة به كان سميعاً بصيراً وإن كانت الآفة جائزة عليه ففي حق الباري أولى لأن الآفة مستحيلة عليه واستحالتها أقوى في زوالها من عدمها مع جوازها، فثبت بذلك الدليل القطعي أن الله سميع بصير، ويجب على المكلف اعتقاد أن الباري (تعالى) كذلك فيما لم يزل وفيما لا يزال، وأنه لا يجوز خروجه من هذه الصفة بحال من الأحوال.
تنبيه:
كونه تعالى مدركاً للمدركات يرجع إلى كونه عالماً بالمعلومات فهو يدرك المدركات
على حقيقتها بعلمه أي ذاته لأن علمه ذاته على ما سنقرره إنشاء الله تعالى.
قال في الأساس: ولا فرق بين سميع بصير وبين سامع مبصر ومدرك في الرجوع إلى العلم. وبيان ذلك أن السميع حقيقة لغوية مستعملة لمن يصح أن يدرك المسموع بمعنى محله الصماخ،والبصير حقيقة كذلك لمن يصح أن يدرك المبصر بمعنى محله الحدق والله ليس له كذلك فلم يبق إلاَّ أنهما بمعنى عالم وقال تعالى{أم يحسبون أنَّا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون}(الزخرف:80) والسر إضمار في القلب غير صوت قال تعالى{فأسرها يوسف في نفسه}(يوسف:77) وقد عرفت ما حكينا عن جماعة من الفرق بين سميع بصير وبين سامع مبصر،فسميع بصير بمعنى حي لا آفة به يوصف بهما الباري تعالى في الأزل،وسامع مبصر بمعنى مدرك وهي صفة له متجددة بعد وجود المدركات زائدة على كونه تعالى عالماً،وعلى الجملة فالخلاف مبني على قاعدة وهي هل الإدراك راجع إلى الجملة أو إلى الحاسة في الشاهد و إلى الذات المخصوصة في الغائب مذهب مخالفينا الأول،ومذهبنا الثاني دليلنا أن الواحد منا يجد بحاسة السمع والبصر مالا يجد للجبهة ولا لسائر الجملة بالضرورة لأن كل عاقل متى علم تعلق حاسته بالمدرَك علم كونه مدرِكاً وإن فقد كل أمر يشار إليه مما عدا ذلك،ومتى لم يعلم تعلق حاسته بالمدرك لم يعلم كونه مدرِكاً وإن حصل كل أمر يشار إليه مما عدا ذلك،فلو كان الإدراك أمراً سوى ذلك ما صحت هذه القضية فثبت أن الإدراك أمر يرجع إلى الحاسة لا إلى الجملة كما يدعيه المخالف، وقولهم وهي صفة متجددة يعنون غير محدثة ولا يخفى نبوه عن عرف أهل اللغة العربية إذ لا فرق بين المتجدد والمحدث في كون كل واحد منهما كائناً بعد العدم وفي الحاجة إلى مكون كوَّنهما، ولا فرق بين التكوين والإيجاد والإحداث والتجديد في المعنى.
قال السيد حميدان :ومن أوضح الأدلة على كون تجديد المعتزلة محالا وصفهم له بأنه لا شيء ولا لا شيء مع أنهم لو جاز لهم تجويز ذلك في المسموع والمبصر لجاز تجويز تجديد سائر الإدراكات التي لا تجوز إضافتها إلى الله تعالى نحو إدراك لذة المشتهيات تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وقد أوردوا شبهة وهي أن أحدنا قد يعلم مالا يدرك ويدرك مالا يعلم وحصول كل واحدة من الصفتين مع عدم الأخرى دليل على التغاير بينهما،أما أنه قد يدرك ما لا يعلم فلأن أحدنا قد يدرك قرص البق والبراغيث في حال نومه ولا يعلمه وكذلك يدرك الأصوات الجارية بحضرته وهو لا يعلمها وكذلك الساهي فإنه قد يدرك كثيراً من المبصرات والمسموعات ولا يعلمها حتى أنه ربما ينكر إدراكها،وأما أنه قد يعلم مالا يدرك فذلك ظاهر كَلَوْ شاهد أحدنا الجبل العظيم ثم غمض عينيه فإنه حال التغميض عالم به غير مدرك له فتم قولنا أنه قد يدرك ما لا يعلم ويعلم ما لا يدرك وبهذا يعلم التغاير.قلنا: مطلوبنا الأهم الذي نحن مخاطبون به وملزمون بمعرفته ما كان يتعلق بالباري من هذه الأوصاف ونحن وإن سلمنا ما ذكرتم في الشاهد فلا يثبت ذلك في الغائب الذي هو المراد من العقيدة.وبيان ما قلنا أنَّا لا ننفي إدراكه تعالى للمدركات لكنه بذاته،وأما قياسكم ففاسد لأنه ليس لله من الإحساس ما يدرك به قرص البراغيث ونحوها إذ هو ليس بجسم ولا عرض على ما يأتي إنشاء الله و ليس بذي عينين يفتحهما ثم يغمضهما تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. فالفرق بينكم وبينه جلي إذ لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس ليس كمثله شيء.
ومما يشهد بصحة هذه الجملة من أقوال الأئمة قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض خطبه عند المشاهدة لخلقه، ومشاهدته لخلقه أن لا امتناع منه سمعه الإتقان لبريته. وقول علي بن الحسين عليهما السلام في توحيده: سميع لا بآلة بصير لا بأداة. وقول جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام في كتاب الأهليلجة: إنما سمي تعالى سميعاً بصيراً لأنه لا يخفى عليه شيء.وقول محمد بن القاسم عليهما السلام في كتاب الشرح والتبيين: إنما عنى بقوله تبارك وتعالى سميع بصير الدلالة لخلقه على دركهم وعلمه لأصواتهم التي إنما يعقلون دركها عنه بالأسماع وأنه مدرك عالم بجميع أشخاصهم وهيئاتهم وصورهم وألوانهم وصفتهم وحركاتههم التي إنما يعقلون دركها بالعيون والأبصار، إذ إدراك المخلوقين للأصوات والأشخاص بالأسماع والعيون التي ربما كلت وتحيرت وأخطأت وأدركت ظاهراً دون باطن وقصرت،ودرك الله سبحانه وتعالى لهذا كله درك واحد محيط بما ظهر وما بطن وبما بعد وقرب وهو درك علمه الذي لا يفوته من المدركات شيء.وقول الهادي إلى الحق عليه السلام في كتاب المسترشد: معنى سميع هو عليم،والحجة على ذلك قول الرحمن الرحيم{أم يحسبون أنَّا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى…الآية}والسر فهو ما انطوت عليه الضمائر.وقوله (تعالى){بصير بالعباد}(آل عمران:15) يريد عالم محيط بكل أمرهم،مطلع على خفي سرائرهم.وقوله في كتاب الديانة: وهو السميع البصير ليس سمعه غيره ولا بصره سواه ولا السمع غير البصر ولا البصر غير السمع.وقول القاسم بن علي (العياني) عليهما السلام في كتاب التجريد: والله فعظيم الشأن قوي السلطان لم يزل مدركاً للأشياء قبل تكوينها ولا فرق بين دركه لها بعد تكوينها ودركه لها قبل تكوينها.
المسألة السادسة ((أن الله تعالى قديم))
أنه يجب على المكلَّف أن يعلم أن الله تعالى قديم، (وقد) اشتملت هذه المسألة على مسئلتين مسألة موجود، ومسألة قديم، إذ القدم هو الوجود في الأزل ولهذا قال ومعنى القديم في اصطلاح المتكلمين هو الموجود الذي لا أول لوجوده، وكان القياس تصدير المسألة بمسألة موجود،لأن القدم كيفية في الوجود،والكيفية لا تعرف إلا بعد معرفة ما هي كيفية له، إلاَّ أنه لما كان من ضرورة الكلام على مسألة قديم إثبات كونه موجوداً ولهذا قدم إثبات معنى قديم وفيه ذكر الموجود صدر الكلام بالوصف له تعالى بأنه قديم دون الموجود،والموجب للعدول تفخيم شأنه تعالى إذ وصفه بالقدم أفخم ويدخل تحته الوجود.
وقد ذكر في الأساس: مسألة موجود على جهة الاستقلال واستدل عليها بأن العدم لا تأثير له ضرورة.قال بعضهم اعلم أن من لم يجعل الوجود صفة زائدة على ذات الموجود لا يحتاج إلى استدلال على هذه المسألة،بل إذا ثبت أن للعالم صانعاً فهو موجود قطعاً إذ هو ذات، والذوات كلها موجودة،ولهذا من نفى كون الوجود صفة زائدة لا يجعل الذوات ثابتة في حال العدم كما هو مذهب أبي الحسين وابن الملاحمي والرازي وغيرهم،وقد قررنا فيما سلف أنه القول الحق،ومن جعلها صفة زائدة جعل الذوات ثابتة في حال العدم فلابد من الدليل حينئذٍ على كونه موجوداً،والقول بأنه تعالى موجود هو مذهب من أقر بالصانع المختار إلاَّ أنه يلزم المطرفية عدم وصفه بذلك والخلاف في ذلك مع الباطنية.
دليلنا: أنه قد ثبت أنه تعالى قادر عالم والقادر العالم لا يكون إلاَّ موجوداً لأن المعدوم يستحيل أن يكون قادراً على شيء وعالماً به،ألا ترى أن كثيراً من الموجودات كالجمادات والأعراض يستحيل أن تكون قادرة على شيء وعالمة به مع وجودها،فإذا كان كذلك فالمعدوم أولى أن لا يكون قادراً على شيء ولا عالماً،وقد ثبت أن الله تعالى عالم قادر فلا يكون إلاَّ موجوداً،وحقيقة القديم في اللغة ما تقادم وجوده يقال بناء قديم ورسم قديم لمتقادم الوجود وحمل على هذا المعنى قوله تعالى{حتى عاد كالعرجون القديم}(يس:39) والعرجون هو العذق في طرفه شماريخ التمر وهو مقدار الذراع طولاً فيكون عند الجذاذ ممتداً ثم إذا يبس وتقادم احقوقف وصار كهيئة الهلال لتقادم وجوده على ما هو قريب العهد بالجذاذ.
وفي الاصطلاح: ما قاله المصنف وإن شئت قلت هو الموجود الذي لم يسبق وجوده عدم،وإن شئت قلت هو الموجود بغير موجد.قال صاحب الخلاصة: فلا يصح أن يوصف بهذا الوصف على الإطلاق إلاَّ الباري تعالى نظراً منه إلى هذه الحقيقة الاصطلاحية.
وقال في الأساس:أن الوصف بقديم غير مختص بالباري لثبوت بناء قديم ورسم قديم بين الأمة بلا تناكر وهذا نظر إلى اللغة،والقول بأن الله تعالى قديم هو مذهبنا.والخلاف للباطنية لا يأتي هنا لأنهم يصفون العلَّة التي هي الباري عندهم بأنها قديمة ويأتي خلاف غيرهم.
والذي يدل على ما ذهبنا إليه من أنه تعالى قديم أنه لو لم يكن قديماً لا أول لوجوده لكان محدَثاً لعدم الواسطة ولو كان محدَثاً لاحتاج إلى محدِث أحدثه قطعاً لما تقدم أن كل محدَث يحتاج إلى محدِث لأن علة الحاجة هي الحدوث وكذلك محدثه يحتاج إلى أنَّا نتكلم فيه فنقول هو إما قديم أو محدَث فإن كان محدَثاً تكلمنا في محدِثه وقلنا هو يحتاج إلى محدِث ومحدِثه إلى محدِث فيتسلسل حينئذٍ إلى ما لا نهاية له وذلك محال فوجب الاقتصار على قديم لا يحتاج إلى محدث وهو الله سبحانه وهو المطلوب. فإن قيل:ظاهر ما ذكرتموه أنه يلزم من بطلان التسلسل إثبات قدم الصانع وذلك غير مسلَّم، إذ قد يقال بحدوثه، ولا يتسلسل بأن ينتهي المحدثون إلى قديم لا يحتاج إلى محدث.قلنا: القديم الذي ينتهي إليه المحدثون هو صانع العالم وما سواه من المحدثين فهو من جملة العالم إذ هم أجسام وأعراض، وفاعل العالم ليس بجسم ولا عرض فثبت بما ذكرناه من الدليل القطعي أن الله تعالى قديم، ويجب على المكلَّف أن يعتقد أن الله تعالى موجود فيما لم يزل وفيما لا يزال، ولا يجوز خروجه عن هذه الصفة بحال من الأحوال.
تنبيه:
قال جمهور أئمتنا (عليهم السلام) وأبو الهذيل وأبو الحسين البصري والملاحمية من المعتزلة ومن تابعهم ما تقدم من الصفات الثابتة للباري تعالى بمزايا زائدة على ذاته وليست بذوات على انفرادها بل صفات راجعة إلى الذات والمتفكر في أمر أو معنى زائد على ذات الباري تعالى قد ارتكب خطأ عظيماً إذ أثبت التعدد في القدم وتفكر في ذات الباري وفي الأثر الصحيح(من تفكر في المخلوق وحد ومن تفكر في الخالق ألحد)وهو المتصف بالغلو والتجاوز لحد العقل المنهي عنه في قوله تعالى{يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم}(النساء:171) وفيه يقول الهادي إلى الحق عليه السلام وإلى الله أبرأ من كل معتزل غال ومن جميع الفرق الشاذة ونعوذ بالله من كل مقالة غالية.ولا بد من فرقة ناجية عالية وسيتضح لك من الأدلة على هذا ما ينفي عنك شبه المخالفين وتخيلاتهم الباطلة،وإذا كان ذلك هو المذهب الحق لم يحتج إلى بيان كيفية استحقاق الباري لصفاته هل لذاته أو لغيرها إذ لا شيء غير الذات يحتاج إلى أن يقال فيه أنه مستحق لها والعجب من الدواري حيث بنى على ما بنى عليه المتأخرون من إثبات المزية الزائدة وقال الخلاف في ذلك مع المطرفية فإنهم يقولون إن هذه الصفات ذات الباري لا غير فكونه قادراً ذاته وكونه عالماً حياً ذاته أيضاً وكذلك سائرها وبعض هذه الصفات هو البعض الآخر لأنه ليس عندهم إلاَّ مجرد الذات.قال وحكي عن أبي الهذيل أن علم الله هو الله وحملة العلماء على أنه أراد به أنه صفة ذاتية انتهى.
قلت: هذه مقالة من لم يغمس يده في علوم الأئمة،أين أنت من كلام الهادي عليه السلام في كتاب الديانة وكتب المرتضى والناصر وأصحابهم بل ذلك إطباق قدماء العترة كما يأتي بيانه في حكاية أقوالهم،وقولك إن العلماء حملوا كلام أبي الهذيل على ما ذكرت، نقول فيه تلك ليست مقالة العلماء كما رويت وما ذكرها إلاَّ السيد مانكديم في الشرح وكان له مندوحة عن جملة كلام أبي الهذيل على خلاف الظاهر وقد أبقاه الشيخ محمود بن الملاحمي والإمام المهدي عليه السلام على ظاهره.وأما من جعل صفاته تعالى أموراً زائدة على ذاته فهم فريقان:
الفريق الأول: يقول بأنه يستحقها تعالى لذاته على معنى أنه لم يؤثر له فيها ذات أخرى وهذا هو مذهب بعض أئمتنا المتأخرين كالمهدي عليه السلام وغيره وبعض شيعتهم وأبي علي والبهشمية.قال الدواري:وهو مذهب أهل العدل قاطبة وكثير من فرق الكفر.
قلت:في إطلاق أهل العدل نظر.ثم اختلف هذا الفريق فالذي عليه أبو علي وأبو الحسين الخياط وأبو القاسم البلخي قال الدواري: وأبو الهذيل وغيرهم أن الله تعالى يستحق صفاته الأربع كونه قادراًَ عالماً حياً موجوداً لذاته من غير توسط صفة بينهما وبين ذاته تعالى كسائر الصفات المستحقة للذات،فأهل هذه المقالة لا يثبتون الصفة الأخص وسيجيء تحقيقها عند أهل القول بها وربما لقب هؤلاء بالعلِّيَّة لأنهم يقولون أن ذات الباري عِلَّة موجبة لصفاته وتأثيرها تأثير العلة عندهم،وذهب أبو هاشم والقاضي وتلامذتهما وعوَّل عليه بعض متأخري أئمتنا كالمهدي عليه السلام وغيره إلى أن الله تعالى يستحقها لصفته الأخص وأنها مقتضاة عنها ،وأهل هذا القول يثبتون الصفة الأخص،وقد حكى ناس من متأخري أصحابنا عن القاسم القول بها وزعموا أنه صرح بذلك حيث قال لله صفة لا يشاركه فيها مشارك ولا يملكها عليه مالك،قالوا: وهو أيضاً قول الهادي (عليه السلام) والناصر (عليه السلام) وغيرهما.
قلت:أصولهم وصرائح أقوالهم تأبى ذلك وسنلقيها إليك إنشاء الله تعالى فلا يرعك ما حكاه المتأخرون، ثبتنا الله وإياك وجعلنا من متبعي كبراء آل محمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين.وحقيقة الصفة الأخص عند القائلين بها هي الصفة الواجبة لله تعالى التي لا يستحقها عيناً ولا جنساً ولا نوعاً إلاَّ هو، وإن شئت قلت هي الصفة الواجبة المقتضية لصفات أربع ، وإن شئت قلت هي الصفات الواجبة التي لا يستحق جنسها وقبيلها إلاَّ ذات واحدة وهي ذات الله وربما لقب هؤلاء بالمقتضية لقولهم بالمقتضى وهي الصفة الأخص،والفرق بينه وبين العلة أنها ذات عندهم موجبة لصفة أو حكم والمقتضى ليس بذات ومن شرطهما أن لا يتقدما على ما أثرا فيه وجوداً بل رتبة،ومن شرط الذي أثرا فيه أن لا يتخلف عنهما،وقد عرفت ما قدمنا من إبطال القول بتأثير الإيجاب.
واتفق أهل القولين على أن كونه مدركاً صفة مقتضاة عن كونه حياً وأن القدم كيفية لوجوده تعالى والكيفية ثبوت الوجود في الأزل وأما سميع بصير فهي راجعة إلى كونه حياً لا آفة به عندهم،قال الشيخ محمود: ولم يكن للمشائخ المتقدمين كلام في ذلك حتى جاء الشيخ أبو هاشم.قال واعلم أن الشيخ أبا هاشم وأصحابه هم المثبتون للأحوال فيثبتون لله تعالى حالة بكونه قادراً وحالة بكونه عالماً وحالة بكونه حياً وبكونه موجوداً ومريداً وكارهاً،ويثبتون له تعالى حالة ذاتية غير هذه الأحوال في الشاهد للحي القادر العالم المريد الكاره منا،ويثبتون له تعالى حالة ذاتية غير هذه الأحوال (توجب هذه الأحوال) إلاَّ كونه مريداً أوكارهاً فإنهما تجبان لوجود إرادة وكراهة لا في محل، والشيخ أبو القاسم وأبو علي وأصحابهما وشيوخ بغداد ينفون الأحوال وغيرهم من الشيوخ المتقدمين لم يجر لهم قول في إثبات الأحوال ونفيها،قالوا والجهات التي تستحق منها هذه الصفات أربع.وبيانه أن الذوات ثلاث لا رابعة لها وهي ذات الباري سبحانه وذات المتحيز وذات العرض،وجهات الصفات أربع لا خامس لها يستحق من جهة الذات وهي الذاتية،
ومن جهة الاقتضاء المقتضاة ، ومن جهة المعنى المعنوية، ومن جهة الفاعل التي بالفاعل. فالباري تعالى يستحق الصفات من جهة الذات وهي الصفة الأخص ومن جهة الاقتضاء وهي الصفات الخمس كونه قادراً وعالماً وحياً وموجوداً ومدركاً، ويستحق من جهة المعنى كونه مريداً وكارهاً، وسيأتي بطلان ما قالوا في مريد وكاره في مسألة الإرادة إنشاء الله تعالى، قالوا: ولا يستحق صفة بالفاعل أصلاً لأنه قديم لا فاعل له، ويستحق العرض من ثلاث جهات وهي الذاتية والمقتضاة والتي بالفاعل ولا يستحق صفة معنوية أصلاً لأن المعنى لا يوجب المعنى لعدم الاختصاص الذي هو شرط في الإيجاب، (وأما) المتحيز فيستحق من الجهات الأربع أجمع من جهة الذات الجوهرية، ومن المقتضاة التحيز ومن المعنى الكائنية، وغيرها ومن جهة الفاعل الوجود، قالوا: فصفات الباري تنقسم إلى قسمين جائزة وواجبة، فالجائزة كونه مريداً وكارهاً، والواجبة على ضربين، ذاتية وهي الصفة الأخص ومقتضاة وهي مقتضاة من جهتين مقتضاة عن الذاتية ومقتضاة عن المقتضاة، فالأُولى كونه قادراً عالماً حياً وموجوداً فهي مقتضاة عن الصفة الأخص،والثانية كونه مدركاً فإنها مقتضاة عن كونه حياً وكونه حياً مقتضاة عن الصفة الأخص.
،،
قال أهل القولين: والدليل على أنه تعالى يستحق صفاته لذاته أنه قد ثبت أن الله تعالى قادر عالم سميع بصير فلا يخلو إما أن يستحقها لذاته أو لغيره،والغير لا يخلو إما أن يكون فاعلاً أو علَّة،والعلة لا تخلو إما أن تكون معدومة أو موجودة، والموجودة لا تخلو إما أن تكون قديمة أو محدثة،والأقسام كلها باطلة سواء أنه يستحقها لذاته إما أنه لا يجوز أن يستحقها للفاعل فلأنه قد ثبت أنه تعالى قديم فلا فاعل له، وأما أنه لا يجوز أنيستحقها لمعانٍ معدومة فلأن العدم مقطعة الاختصاص (والعلة لا توجب إلاَّ لشرط الاختصاص) فإذا زال الشرط زال المشروط،وأما أنه لا يجوز أن يستحقها لمعانٍ قديمة كما تقوله الأشعرية كما يأتي فلأنه لو جاز ذلك عليه لوجب في تلك المعاني أن تكون أمثالاً لله تعالى لمشاركتها له في القدم الذي به فارق سائر المحدثات وقد ثبت أن الله تعالى لا مثل له على ما يأتي بيانه إنشاء الله تعالى،ولأنه إذا ثبت أن هذه الصفات واجبة لله تعالى عندنا وعند المخالف ثم لم نحتج في وجوب وجوده تعالى إلى معنى قديم وجب في سائر الصفات أن يستغني في وجوب ثبوتها له سبحانه عن معانٍ قديمة لأنه لا مخصص يقضي حاجة بعضها إلى معنى قديم دون الآخر.
الفريق الثاني: قالوا إن الله تعالى يستحق هذه الصفات الأربع لمعانٍ،وهذا قول أكثر المجبرة ثم افترقوا في ذات بينهم فذهبت الكلابية إلى أن الله تعالى عالم بعلم لا يوصف بحدوث ولا قدم ولا وجود ولا عدم إذ هو صفة والصفة عندهم لا توصف وإلاَّ لزم التسلسل عندهم وربما لقب هؤلاء بالصفاتية لأنهم أثبتوا لله صفات حاصلة عن معانٍ ثم جعلوا تلك المعاني صفات لا توصف فِراراً مما يلزمهم من المحال إن وصفوها بالقدم أو الحدوث،وقولهم ظاهر البطلان لتناقضه لأنهم جعلوها معاني وذوات ثم ادعوا بعد ذلك أنها صفات وبينهما فرق جلي وقد وافقهم الأمورية في أن الصفات لا توصف لكنهم أبطلوا قولهم بأنهم جعلوها ذوات فيلزمهم وصفها وإبطال هذا الأصل سيقرع سمعك.وقالت الأشعرية والكرامية: بل الله يستحقها لمعانٍ قديمة توجب تلك الصفات والمعاني هي العلم والقدرة والحياة ونحو ذلك،وتلك المعاني قائمة بذاته لكن الأشعرية يقولون أنها قائمة بذات الله لا على وجه الحلول، ويقولون أيضاً أن تلك المعاني ليست إياه ولا بعضه ولا غيره فراراً مما يلزمهم لو جعلوها مستقلة مغايرة لله تعالى من أن يكون مع الله تعالى قدماء غيره،وفي قولهم هذا مناقضة ظاهرة لأنهم قالوا ليست إياه ولا بعضه ولا غيره وهذا محال لأنه قد ثبت أن كل مذكورين يجب أن يكون أحدهما غير الآخر إذا لم يكن بعضاً له.
وأما الكراميَّة: فإنهم يقولون بل تلك المعاني غيره ويصرحون أيضاً بأنها قديمة قائمة بذات الباري على وجه الحلول وقد ارتكبوا من المحالات كلما فرَّ عنه من قبلهم من كون الله تعالى محلاً لغيره وإثبات قدماء مع الله وعلى الجملة فكلا القولين باطل،لأن قدم المعاني يوجب مماثلتها للباري ويوجب تماثلها لأنه وصف ذاتي، والاشتراك في صفة من صفات الذات يوجب الاشتراك في سائر صفات الذات فيلزم كونها آلهة كما أنه إلاه وكون كل واحد منها قدرة علماً حياةً فيستغني بأحدهما عن باقيها إذ قد صار كل واحد منها مثلاً كجميعها ساداً مسده فتوجب للقديم تعالى من الصفات مثل جميع ما يوجب كل واحد منها ولأن علمه واجب فتستغني عن موجب كقدمه كما تقدم.(وقال) هشام بن الحكم: أن الله تعالى عالم بعلم محدث يحدثه لنفسه فيوجب له الصفة وإليه ذهب قوم من الروافض ولم يشتهر عنه قول في باقي الصفات،وحكي عنه حكاية مغمورة في باقي الصفات أنه يستحقها لمعانٍ محدثة، وحكي عن جهم بن صفوان وأتباعه القول بمقالة هشام بن الحكم أنه تعالى عالم بعلم محدثٍ. قلنا:العلم كالفعل المحكم لا يوجده إلاَّ عالم بوجوهه، فإذا كان العلم لا يوجد إلاَّ بعد علم آخر تكلمنا في ذلك العلم الآخر، فقلنا هو ثابت في الأزل أو محدث فإن كان محدثاً كان مسبوقاً بعلم آخر وهلم جراً، فأما أن تنتهي العلوم إلى علم يكون مسبوقاً بالعلم الأول الذي كان الكلام فيه أولاً فيدور حينئذٍ إذ لا يحصل هذا العلم الأول إلاَّ بعد هذه العلوم ولا تحصل هذه العلوم إلا بعده لحاجة كل واحد منها إلى الآخر والدور محال لأنه يلزم منه توقف الشيء على نفسه وسبقه في الوجود على نفسه وكلاهما محال، وأما أن تذهب العلوم إلى غير النهاية فيتسلسل
والتسلسل محال.وما أدى إلى المحال فهو محال.قالت الأمورية:وإذا بطلت هذه الأقوال كلها تقرر ما ذهبنا إليه من القول بأنه تعالى يستحق صفاته لذاته وتعين القول بأن صفاته تعالى أمور زائدة على ذاته لا هي الله ولا هي غيره ولا هي شيء ولا لا شيء،وهكذا نقول في الصفة الأخص من قال بها.قال السيد حميدان (عليه السلام) : اصطلحوا على تسمية الصفات على الجملة أموراً لا أشياء وثابتة لا موجودة وأزلية لا قديمة وزوائد على الذات لا أغياراً لها وعلى وصفها بأنها لا شيء ولا لا شيء ولا قديمة ولا محدثة ولا موجودة ولا معدومة وأنها لا تعلم مع الذات ولا منفردة وأشباه ذلك مما لم يسبقهم إلى القول به موحد ولا يتبعهم إلاَّ مقلد،وأصَّلوا لهم من هذا أصلاً على جهة الإلجاء أن الصفات لا توصف.والحاجة إلى إبطال هذه المقالة وتقرير مذاهب الأئمة عليهم السلام ومن وافقهم من القول بأنها ليست بأمور زائدة على ذاته تعالى بل هي ذاته داعية إلى إبطال مذهبهم على الجملة. فهو أنه مذهب حادث بغير دليل معقول ولا مسموع وكل مذهب حادث فهو باطل لقول الله تعالى{قل إنما حرَّم ربي الفواحش ما ظهر منها}إلى قوله{وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}(الأعراف:33)وقوله تعالى{ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير}(الحج:08) وقوله في مثل ذلك{إن هي إلاَّ أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان}(النجم:23) وقوله تعالى {إن تتبعون إلاَّ الظن وإن أنتم إلاَّ تخرصون}(الأنعام:148).ولما روى الحاكم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(يوشك أن ينتقل الشرك من ربع إلى ربع ومن قبيلة إلى قبيلة.قيل يا رسول الله وما ذلك الشرك قال: قوم يأتون بعدكم يحدون الله حداً بالصفة).،،
وأيضاً فإن علمهم بذلك لا يخلو إما أن يكون عن التفكر في الله أو التفكر في غيره أو عن التفكر لا في ذاته ولا في غيره،فإن كان عن التفكر لا في الله ولا في غيره فهو تفكر لا في شيء،وإن كان عن التفكر في غير الله فالتفكر في غير الله لا يؤدي إلى العلم بكيفية استحقاقه لصفات ذاته، وإن كان عن التفكر فيه سبحانه فذلك باطل لتحريمه سبحانه عليهم أن يقولوا عليه ما لا يعلمون وقد أخبر سبحانه أنهم لا يحيطون به علماً ولقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(تفكروا في ألآء الله ولا تفكروا في الله).وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):(تفكروا في المخلوق ولا تفكروا في الخالق). ولقول أمير المؤمنين عليه السلام من فكر في الصنع وحَّد،ومن فكر في الصانع ألحد. وأيضاً فإن أكثر أقوالهم متناقضة وكل متناقض فهو باطل.مثال ذلك قولهم الصفات لا توصف ونقضهم لذلك بوصفهم لبعضها بالأزل ولبعضها بالتجدد،وكذلك قولهم أنها لا تغاير نقضوه بجعلهم لبعضها مقتضياً وبعضها مقتضى وكل مذكورَين على هذا الوجه فإنه يجب أن يكون أحدهما غير الآخر،ومن جملة المناقضة وصفهم لها بأنها لا شيء ولا لاشيء وأنها زائدة على الذات وليست غيرها.والذي ألجأهم إلى القول بأن الصفات لا توصف أنهم ألزموا بأن يصفوا الأمور الزائدة بالوجود والعدم والحدوث والقدم،فإن قالوا معدومة فهو باطل للزوم أن يكون الباري معدوماً لعدم صفته الوجودية،وإن قالوا موجودة،قيل أقديمة أم محدثة؟ فإن قالوا قديمة لزمهم مشاركتها للباري في القدم والإلاهية وهو باطل لما يأتي، وإن قالوا محدثة لزمهم حدوث الباري بحدوث صفته الوجودية فدفعوا هذا الإلزام بأن قالوا مذهبنا الصفات لا توصف لئلا يتسلسل ويقال لهم إذا تقرر في العقول،،
ثبوت وصف الصفة أطلق ذلك الوصف عليها وذلك وصف قطعاً، وإن سكت عن وصفها فلا وصف حينئذ فلا تسلسل، وأيضاً ففي قولهم إثبات الفرق بين أمور لا فرق بينها لا لغة ولا عرفاً نحو الأمر والشيء والزائد والغير والقدم والأزل والحدوث والتجدد وأشباه ذلك مما توصلوا بتحريفهم لمعانيه المعقولة إلى أن يعبروا به عما لا يعقل مع كونهم غير مفوضين ولا حكماء ولا معصومين عن الدخول في زمرة من ذمهم الله سبحانه على تحريفهم للكلم عن مواضعه، وأيضاً فإن إثباتهم لأمور متوسطة بين النفي والإثبات نحو قولهم لاشيء ولا لاشيء محال يعلم ذلك ضرورة كما يعلم ضرورة أن قول من يقول زيد لا في الدار ولا في غيرها محال وأيضاً فإن ظاهر مذهبهم في قولهم إن صفات الله أمور زائدة على ذاته موافق لقول من قال صفات الله أشياء غير ذاته وأشباه ذلك مما لا فرق بينه إلاَّ ما جروا عليه من مجرد الاصطلاح الذي لا يجوز قبوله فضلاً عن أن يجب، ومما يشهد بصحة هذه الجملة من أقوال الأئمة عليهم السلام قول أمير المؤمنين عليه السلام: باينهم بصفته ربَّاً كما باينوه بحدوثهم خلقا، فمن وصفه فقد شبهه ومن لم يصفه فقد نفاه، ووصفه أنه سميع ولا صفة لسمعه، وقوله وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزأه ومن جزأه فقد جهله، (وقوله من وصفه فقد حدَّه ومن حدَّه فقد عدَّه ومن عدَّه فقد أبطل أزليته) . وقول ابنه الحسن عليه السلام: في جوابه لابن الأزرق الذي حكاه الحاكم في السفينة أصف إلهي بما وصف به نفسه وأعرفه بما عرَّف به نفسه لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس. وقول القاسم بن إبراهيم عليه
السلام: في جواب مسألة الطبريين فهذه صفته (تبارك و) تعالى في الأينية والذات ليست فيه جل جلاله بمختلفة ولا ذات أشتات ولو كانت فيه مختلفة لكان اثنين أو أكثر في (الذكر والعدد) وإنما صفته سبحانه هو. وقول ابنه محمد عليهما السلام في كتاب الأصول: وصفته لذاته هو قولنا لنفسه نريد بذلك حقيقة وجوده. وقول الهادي عليه السلام في كتاب المسترشد: وليس قولنا صفتان قديمتان إن مع الله سبحانه صفة يوصف بها ولا نقول أن ثم صفةً وموصوفاً ولا أن ثم شيئاً سوى الله عند ذوي العقول مجهولاً ولا معروفاً. وقوله في كتاب الديانة: من زعم أن علمه وقدرته وسمعه وبصره صفات له لم يزل موصوفاً بها قبل أن يخلُق وقبل أن يُكوِّن أحداً يصفه بها وقبل أن يصف هو بها نفسه وتلك الصفات زعم لا يقال هي الله ولا يقال هي غيره فقد قال منكراً من القول وزوراً. وقول القاسم بن علي عليهم السلام في كتاب التوحيد: إن زعم زاعم أنه عالم بعلم ليس هو هو ولا هو غيره لم يكن بينه وبين من زعم أنه تعالى عالم بعلم هو هو وهو غيره فرق. وقول ابنه الحسين بن القاسم عليهما السلام في جوابه ليحي بن مالك الصعدي: ما تفسير علم الله وقدرته إلا كتفسير وجهه ونفسه فهل يقول أحد يعقل بأن له وجهاً كوجه الإنسان أو نفساً كأنفس ذوي الأبدان هذا ما لا يقول به أحد من ذوي الألباب ولا يعتقده في الله رب الأرباب وإنما وجهه هو ذاته وكذلك علمه وقدرته.
وأما إبطال قول من يقول بالصفة الأخص خاصة فنقول: هي لا دليل عليها رأساً ثم إن دعوى أن تأثيرها تأثير العلة من أوضح دليل على الإقرار ببطلانها إذ تأثيرها في الصفات تأثير إيجاب وقد عرفت أن المؤثر مقارن للمؤثر وحينئذ فما ادعاء تأثير أحدهما في الآخر بأولى من العكس، ثم إن قولكم لا هي الله ولا هي غيره ولاشيء ولا لاشيء مما يدل على بطلانها إذ ذلك مناقضة ظاهرة وكل قول متناقض فهو باطل، ثم القول بها لا يخلو من تفكر في ذات الباري وذلك لا يجوز كما مرَّ، ثم إن الخوض فيها تجاوز لحد العقل ومما لم يجر عليه شريعة إذ لم يعرف ذلك في زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولازمن الخلفاء وكل قول مبتدع لا دليل عليه من عقل ولا سمع فهو باطل وأيضاً لامحيص لكم من القول بأنها معدومة أو موجودة، إن قلتم معدومة فذلك باطل إذ العدم لا تأثير له وإن قلتم موجودة قلنا أقديمة أم محدثة؟ إن قلتم قديمة فهو باطل إذ لا قديم إلاَّ الله تعالى وإن قلتم محدثة لزمكم أن تكون صفات الباري محدثة إذ هي المؤثرة فيها بزعمكم وأنتم لا تقولون بشيء من هذه اللوازم وحاشاكم فيلزمكم العقول بتلاشيها، وإن قلتم لا نصفها بوجود ولا عدم ولا حدوث ولا قدم. قلنا: هذا هو المحال لأن المعلوم عند العقلاء أن كل مذكورين فلا بد من اتصافه بما ذكر وإلاَّ عدُّوا من نفى ذلك خارجاً عن قوانين العقلاء ويكفيك في بطلانه قول أن يؤدي إلى ذلك، وأما دعوى كل من يدعي أن (القاسم والهادي) وغيرهما من الأئمة يقولون بها فهو مردود بما حكينا من أقوالهم بلفظها وهي صريحة في أن الصفات هي الذات وذلك ينافي القول بالصفة الأخص إذ بعض من يجعلها أموراً زائدة ينفي الصفة الأخص كما عرفت فضلاً عمن قال هي الذات وذلك
واضح لكل من لم يعم التعصب عين بصيرته. وأما ما ذكره القاسم عليه السلام فهو يعني بتلك الصفة كونه شيئاً لا كالأشياء المراد بقوله تعالى{ليس كمثله شيء}(الشورى:11) يدل على ذلك أول كلامه وآخره لأنه قال في كتاب الدليل الكبير وهذا الباب من خلافه سبحانه لأجزاء الأشياء كلها فيما يدرك من فروع الأشياء جميعاً وأصولها مما لا يوجد أبداً إلاَّ بين الأشياء وبينه ولا يوصف بها أبداً غيره سبحانه وهي الصفة التي لا يشاركه فيها مشارك ولا يملكها عليه مالك ولا يعم الأشياء اختلاف عمومه ولا تصحح الألباب أبداً إلاَّ لله معلومة لأنه وإن وقع بين الأشياء ما يقع من الاختلاف فليس يوجد واقعاً إلا بين ذوات الأوصاف وكل واحد منها وإن خالف غيره في صفة فقد يوافقه في صفة أخرى كان مما يعقل أو كان مما يلمس ويرى. وقد أوردت الجبرية أهل المعاني آيات من متشابهة القرآن تعلقوا بها منها قوله تعالى {ولا يحيطون بشيء من علمه إلاَّ بما شاء}(البقرة:255) وقوله تعالى{أنزله بعلمه}(النساء:166) وقوله تعالى{فلنقصن عليهم بعلم}(الأعراف:07) وقوله تعالى{ذو القوة المتين}(الذاريات:58) وقوله تعالى{والسماء بنيناها بأيدٍ}(الذاريات:47) والأيدي القوة.
ووجه تعلقهم بذلك أن ظاهر الآي تفيد أن لله تعالى علماً وقدرة والعلم والقدرة معنيان.
والجواب: أن القرآن نزل خطاباً للعرب على لغتهم وهم لا يعقلون ما ذكرتم من المعاني وإذا لم يعقلوها لم يصح أن يخاطبهم الله تعالى بذلك ويريد منهم فهم المعاني ولم يبين لهم تعالى عقيب الخطاب المعنى الذي قصد منهم فهمه إذ ذلك يجري مجرى الإلغاز والتلبيس وهو تعالى منزه عن ذلك. والذي يعقله أهل اللغة على ما عرف بالنقل الصحيح استعمالهم العلم بمعنى العالِم مرة وبمعنى المعلوم أخرى فاستعمالهم العلم بمعنى العالم كقولهم جرى هذا بعلمي أي وأنا عالم به واستعمالهم له بمعنى المعلوم كقولهم هذا علم فلان أي معلومه كما نقول في زماننا هذا علم أهل البيت والفقهاء أي المعلومات التي علموها، فإذا ثبت هذا فمعنى قوله تعالى {أنزله بعلمه} أي وهو عالم به. ومعنى قوله {فلنقصن عليهم بعلم} أي ونحن عالمون به. ومعنى قوله {ولا يحيطون بشيء من علمه} أي من معلوماته، ومع الحمل على ما ذكرناه تقع المطابقة بين الأدلة العقلية والسمعية وكذلك القدرة تستعمل بمعنى القادر مرة، يقول مالي بهذا الأمر قدرة أي ما أنا قادر عليه. وبمعنى المقدور مرة كقولهم انظر إلى قدرة الله تعالى، أي مقدوراته. فيحمل قوله تعالى{ذو القوة المتين} على القادرية وكذلك قوله تعالى{والسماء بنيناها بأيدٍ وإنا لموسعون} أي ونحن قادرون. فثبت ما ذهبنا إليه وبطل ما قاله المخالف. وأورد المخالفون جميعاً القائلون بأن الصفات ليست هي الذات كما هو مذهبنا من الأمورية والجبرية شبهة وهي أن الصفات لو (كانت ذات) الله لم يجب تكرير النظر في معرفتها إذ من عرف الذات عرفها ومن عرف صفة منها عرف سائر الصفات.
والجواب: أن ذلك غير لازم إذ معرفة الباري لا تحصل إلاَّ بتكرير النظر فتكرير النظر لم يكن بعد معرفة ذات الله إذ النظر في الصفات معدود من النظر في معرفة الذات فقط ، فالناظر في إثبات الصانع فقط أو في صفة أو في صفتين لا معرفة له تامَّة بالذات أصلاً.
المسألة السابعة ((أن الله تعالى لا يشبه الأشياء))
وهي الأولى من مسائل النفي أنه يجب على المكلَّف أن يعلم أن الله لا يشبه الأشياء. فليس بجسم ولا عرض ولا جوهر وهذا هو مذهب العترة عليهم السلام وصفوة الشيعة والمعتزلة وبقيَّة أهل العدل وكثير من الفرق الداخلة في الإسلام والخارجة عنه. والخلاف في ذلك مع طوائف منهم الحشوية فإنهم ذهبوا إلى أنه تعالى جسم وله أعضاء وجوارح ولهم كلامات ضالة، قال بعضهم: أنه تعالى صفيحة مصمتة ملقاة على العرش، وقال بعضهم:أنه تعالى جسم لا يحاط به لعظمته، وقال بعضهم:أنه جسم على أتم ما يكون من الصور، وقال قوم من اليهود: أنه تعالى على صورة آدم، وقال قوم : أنه على صورة شيخ أبيض اللحية والشعر، ومن كلام المجسمة الشاهد بسخافة عقولهم وضلالهم قولهم أنه تعالى شاب أجرد أمرد قطط الشعر له سبتان من ذهب، ومن كلامهم أنه تعالى ينزل يوم عرفة على بعير له خفان من ذهب، ومن كلامهم أنه تعالى رَمِدَ فزارته الملائكة وهو متكي على سرير كهيئة ملوك البشر مستلقياً على قفاه واضعاً أحد رجليه على الأخرى وأنه خلق خيلاً في الجنة من زغب ذراعيه وأنه رأى نفسه في ماء ثم خلق آدم تشبيهاً بصورته، وممن أفرط في التشبيه الهشامان هشام بن الحكم وهشام الجوالقي وقد صنف هشام بن الحكم كتاباً في أعضاء الرب وسماه كتاب التوحيد ومن كلامه أن الله تعالى سبعة أشبار وقيل خمسة فقيل بأي شبر فقال شبر
نفسه فألزمه أبو الهذيل أن يكون كالذرة لأنه لا يمكن أن تكون مساحتها هذه الأشبار. وقالت الثنوية: أنه تعالى نور والنور جسم، ومنهم من يقول: بأنه تعالى عرض وهذا قول الصوفية وبعض الكراميَّة، ثم اختلفوا، فمنهم من قال أنه تعالى عرض غير حال، ومنهم من قال : أنه تعالى عرض حال في الصورة الحسنة،ومنهم من يقول: بأنه تعالى جوهر فبعض الفلاسفة يقول جوهر بسيط وهو العلَّة عندهم،والنصارى تقول: أنه جوهر على الحقيقة ثلاثة أقانيم على الحقيقة،وبعضهم يقول:أنه جواهر مبثوثة في كل مكان ويستشهدون لذلك بما ورد في الدعاء يا من هو في كل مكان وكل مكان منه ملآن.
والدليل على ذلك المذهب الصحيح وهو القول بأن الله لا يشبه الأشياء، أنه لو أشبهها لكان محدثاً مثلها أو كانت قديمة مثله ولا يجوز أن يكون تعالى مُحدَثاً و لا أن تكون الأشياء سواه قديمة.طوَّل الشيخ في الاستدلال وكان يكفيه أن يقول لو كان تعالى مُشْبِهاً لها لكان مُحْدَثاً وقد أبطلناه حيث أقمنا الدليل على أنه تعالى قديم وبينا أنه لو كان جسماً لما صح منه الفعل إذ لا يصح من جسم إحداث جسم، وهذه الدلالة التي ذكرها الشيخ مبنية على أصلين أحدهما أنه لو أشبهها لكان محدثاً مثلها أو كانت قديمة مثله.والثاني أن ذلك لا يجوز.
أما الأصل الأول: فالذي يدل عليه أن من حق المثلين أن يشتركا في وجوب ما يجب وجواز ما يجوز واستحالة ما يستحيل فيما يكون وجوبه وجوازه واستحالته راجعاً إلى ذاته ذلك معلوم قطعاً،ألا ترى أن الجوهر من أي الجسمين لما كانا مثلين اشتركا في وجوب ما يجب لهما من التحيّز والشغل للجهات وجواز ما يجوز عليهما من التنقل في الأمكنة واستحالة ما يستحيل عليهما من الكون في جهتين في وقت واحد وإنما وجب ذلك لكونهما مثلين ولهذا لم يجب في الجوهر والعرض لما لم يكونا مثلين.فظهر أن العلَّة في الاشتراك التماثل فإذا كانت العلَّة هي التماثل وجب اطرادها في جميع ما يصح أن تدَّعى فيه المشابهة وثبت حكمها الذي هو الاشتراك
فيما ذكر وإلا عاد عليها بالنقض والإبطال، وقوله فيما كان راجعاً إلى الذات يحترز مما كان وجوبه وجوازه واستحالته ليس براجع إلى الذات وذلك كوجوب كون الواحد منَّا مدركاً فإن الجماد لا يشاركه في ذلك وإن كان مثلاً له وجواز كونه مريداً أوكارها فإن الجماد لا يشاركه في ذلك واستحالة عدم جواز ذلك لما كان هذا الوجوب والجواز والاستحالة غير راجع إلى الذات، وإنما يرجع جواز ذلك ووجوبه واستحالته إلى كوننا أحياء على قول في مدرك وهي ليست بصفة واجبة لنا أو إلى كوننا عالمين في مدرك على قول وهو الصحيح كما مرَّ وهي كذلك فثبت بما ذكرناه الأصل الأول وهو لزوم أن يكون تعالى محدثاً كالأشياء أو أن تكون قديمة كالباري عند إدعاء المشابهة بينهما.
وأما الأصل الثاني:وهو أن كونه تعالى محدثاً كالأشياء أو هي قديمة مثله لا يجوز فهو معلوم ضرورة لأن اجتماع النقيضين محال كما تقتضيه العقول، هذا فيه نظر، والأولى أن يقال لا يجوز ذلك لما تقدم من كون الباري تعالى قديماً وقد أقمنا عليه البرهان القطعي فلا يثبت كونه محدثاً كالأشياء ومن كون هذه الأجسام والأعراض محدثة وقد بينا دليله القطعي فلا تثبت كونها قديمة، وإذا علمنا تخالفهما في ذلك بالأدلة القطعية لم تصح دعوى المشابهة بينهما في حال من الأحوال وغاية ما يعتذر به عن ذلك أن يقال إذا ثبت ما ذكرتم فلا مانع من دعوى أن يقال هو قديم محدِث أو هي قديمة محدِثة فإن الدليل إنما دل على قدم الباري وعلى حدوث العالم .
قلنا: يكون ذلك جمعاً بين النقيضين لِما تقرر في العقول من المناقضة بين القديم والمحدث على أن الدليل الدال على القدم مانع من الحدوث والدليل الدال على الحدوث مانع من القدم فتأمل.
((فصل))
وإذا ثبت أنه تعالى لا يشبه الأشياء لم يجب عليه ما يجب عليها، إذ ذلك من شأن المختلفين من التحيز في الجهة وهي الفراغ الذي يتحيز فيه الجسم، فهي أمرٌ عدمي فهو سبحانه لا يتحيز في جهة، وشغل المكان وهو الجسم الذي يقل الثقيل ويمنعه من الهُوي فليس تعالى بذي مكان.
والنزول والصعود يعني بذلك الانتقال في الجهات من جهة إلى جهة وهذان متلازمان فكل ذي مكان فهو ذو انتقال والعكس والله تعالى لا يجوز عليه شيء من ذلك، والقول بأنه ليس بذي مكان ولا انتقال هو مذهب العدلية جميعاً وأكثر المجبرة وقول المجسمة أنه يتمكن من الأماكن مبني على أصلهم الباطل.وقالت الكلابيَّة: من المجبرة أن الله تعالى على العرش تصديقاً لما ورد به القرآن لكنه بلا استقرار عملاً بما دلت عليه الأدلة العقلية من نفي التجسيم،وقال بعض الكراميَّة: أنه تعالى بجهة فوق إذ لابد له من جهة وإلاَّ لكان نفياً، قالوا: والقول بأنه لا داخل في العالم ولا خارج عنه قول ينفيه إذ من أراد أن ينفي لا يزيد على هذا (وتلك هي) جهة فوق لأنها الجهة التي تنزل منها الأوامر والنواهي والكتب وإرسال الرسل ومنها تنزل الرحمة والعذاب وإليها يتوجه الدعاء وتطلب الحاجات ولقوله تعالى{يخافون ربهم من فوقهم}(النحل:50) وقوله تعالى{وهو القاهر فوق عباده}(الأنعام:18)ونحو ذلك.
قلنا: القول بأنه ذو مكان وانتقال يستلزم الجسمية لأن كل ما تمكن في الأماكن أو شغل الجهات فهو متحيز وكل متحيز فهو من قبيل الأجسام، والجسمية تستلزم الحدوث لما تقدم في دليل الدعاوى أن كل جسم محدث فيلزم أن يكون تعالى جسماً محدثاً وقد بطل في حقه تعالى حيث بينا أنه قديم ثم بينا أنه ليس بجسم، وأما قولهم أن القول بأنه لا داخل في العالم ولا خارج عنه نفي له فغير مسلم وإنما هو نفي لأن يكون من جنس العالم،ونحن نقول كذلك،وأما كون الأوامر والنواهي وإنزال الوحي ونحو ذلك من جهة فوق فلا يدل على الجهة كما زعموا وإنما أجرى الله العادة بذلك لما فيه من الألطاف،إذ الأمر الذي يتوقع إتيانه من فوقنا ليس كالأمر الذي يأتينا من سائر الجهات.وأما الآيات الكريمة فالفوق فيها بمعني القدرة والقهر كما قال تعالى{يد الله فوق أيديهم}(الفتح:10)ومعنى قوله تعالى{على العرش استوى}(طه:05) أي استولى كما قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق من غير (سفك لدم) مهراق
فالاستواء في الآية بمعنى الاستيلاء سواء أريد بالعرش جميع الملك أو أريد به الخلق العظيم المخصوص كما جاء في بعض الآثار وفيها ما يقضي بأنه حيوان ودليل أنه قد يعبَّر به عن جميع الملك قول الشاعر:
إذا ما بنو مروان ثلت عروشهم وأودت كما أودت إياد وحميَر
وأنكر جمهور أئمتنا (عليهم السلام) ونشوان أن يكون المراد به الخلق العظيم المخصوص في الآية،قالوا: والآثار (في الآيات) من روايات الحشوية و لا وثوق بها وبنى الجمهور من العلماء ومتأخري الزيدية كالمهدي وغيره على خلافه، وقالوا بصحة الآثار الواردة في ذلك وفيه كلام يطول ذكره يخرجنا عما نحن بصدده من الاختصار،وأما رفع الأيدي إلى السماء عند الدعاء فلأنها قبلة للدعاء ومنها تنزل البركات والخيرات وليس هذا يوجب كونه تعالى فيها.
تنبيه: قال الجمهور ولا يصح أن يقال أنه تعالى بكل مكان بمعنى حافظ مدبر سواء أطلق القول فيه أو قيد،فقال عقيب ذلك أي حافظ مدبر،وقال أبو القاسم البلخي بل يجوز مع التقييد.
قلنا:المكان حقيقة للأجسام واستعماله بذلك المعنى مجاز فلا يجوز إلاَّ بإذن سمعي ولم يرد سمع بذلك وتحقيق هذه القاعدة أن الأسماء التي لا تضمن مدحاً لا يجوز إطلاقها على الباري تعالى، ومن هنا نص القاسم والهادي عليهما السلام على أنه لا يجوز أن يجري على الباري لفظ شيء إلاَّ مع قيد لا كالأشياء لتفيد المدح خلافاً للمهدي وأبي هاشم، وما تظمن مدحاً جاز إطلاقه على الباري لكن إن كان حقيقة فلا يفتقر إلى إذن سمعي عند الجمهور.قال (إمام زماننا) أيده الله تعالى: إلاَّ ما سمى به نفسه من الحقائق الدينة يعني كرحمن ورحيم فتفتقر إلى إذن سمعي كالمجاز، وقال المرتضى والبلخي وجمهور الأشعرية: بل الحقيقة مفتقرة كالمجاز.
قلنا:إذاً لامتنع وصفه تعالى بما يجوز له ممن عرفه ولا تبلغه الرسل ولا مانع عقلاً،وكذلك لا يجوز على الباري تعالى الزيادة والنقصان وأن يكون محلاً لغيره وكذلك أوصاف الحي من الأجسام لا تجوز عليه تعالى كالاستراحة والغم والسرور والألم واللذة هذا مذهب أهل العدل وأكثر أهل الملل الكفرية بل العقلاء، وبعض النصارى تقول أنه ولد عيسى ، وبعض اليهود تقول أنه ولد عزيراً، فجعلوه محلاً إذ الولد يستلزم الحلول والانفصال، وقوم من الروافض جوَّزوا عليه البدا، وقوم من المجوس جوَّزوا عليه الفكرة فقالوا:حدث إِهرمَن من فكرة يزدان الرديَّة وسيأتي قولهم.وقالت الكراميَّة: إن الحوادث تحل في ذاته تعالى فإذا أحدث شيئاً أحدث معنى حالاً في ذاته وهو الإحداث صرَّح بذلك متكلمهم ابن الهيصم في كتاب المقالات، وأبو البركات البغداذي قال: ولا يصح إثبات الإلاهية إلاَّ بذلك،وجوَّزت الفلاسفة عليه تعالى اللذة قالوا: إنه يتلذذ بإدراك ذاته وكماله،وحكي هذا عن الغزالي وروى ابن الراوندي عن الجاحظ أنه حكي عن أبي شعيب وهو من قدماء المعتزلة أنه يجوز عليه الغم والسرور والأسَف والغِيرة.
قلنا:قد ثبت بالدليل القطعي بطلان أن يكون تعالى جسماً وإذا ثبت ذلك بطل جميع ما ادعاه المخالفون، لأن ذلك الذي أثبتوه للباري من توابع الجسمية والتحيز، وهو تعالى ليس بجسم ولا متحيز كما ذكرنا،وإذا بطل الأصل بطل جميع ما تفرع عليه قطعاً.
تنبيه:
ذهبت الكراميَّة إلى أن الله تعالى ليس بجسم على الحقيقة ولا مماثل للأجسام ولكنه جسم لا كالأجسام فليس (بجسم طويل) عريض عميق وهذه مناقضة ظاهرة لأن المعقول من الجسم الطويل العريض العميق بدليل أنه لا يجوز أن يثبت بأحد اللفظين وينفى بالآخر،فلا يجوز أن يقول قائل هذا جسم وليس بطويل ولا عريض ولا عميق،ولا أن يقال هذا طويل عريض عميق وليس بجسم بل يعد من قال مناقضاً جارياً قوله مجرى قول من يقول هذا جسم وليس بجسم ولأن أهل اللغة يستعملون لفظ الجسم فيما كان طويلاً عريضاً عميقاً فيقول قائلهم الفيل أجسم من الإبل لمَّا اشتركا في الطول والعرض والعمق وزاد أحدهما على الآخر في ذلك .قال الشاعر.
وأجسم من عاد جسوم رحالهم وأكثر إن عدوا عديداً من الترب
ولأنه لو جاز أن يسمى جسماً لا كالأجسام لجاز أن يسمى إنسان لا كالناس وشابَّاً لا كالشباب وشيخاً لا كالشيوخ ونحو ذلك وذلك لا يجوز لإيهام الحدوث، فكذلك لا يجوز أن يسمى جسماً لا كالأجسام إذ العلَّة واحدة. وأما الذين قالوا: بأنه تعالى عرض على اختلاف أقوالهم فمذهبهم باطل أيضاً،لأنه لو كان مشبهاً للأعراض لجاز عليه ما جاز عليها من العدم والحدوث لأن ذلك شأن المثلين وهو تعالى لم يجز عليه العدم والبطلان والحلول في المحال لأن ذلك من توابع الأعراض وهو تعالى ليس بعرض لما قررنا أن العرض محدث وأن الله تعالى قديم والقديم لا يجوز خروجه عن صفته الذاتية وهي القدم إذ ذلك لا يصح كما مرَّ فلم يجز عليه تعالى العدم والحدوث والحلول في المحال لمنافاته العرض لما ذكرنا، وأيضاً فإن العرض ليس بحي ولا قادر ولا فاعل وقد ثبت أنه تعالى حي قادر فاعل ولا يخفاك أن الزيادة والنقصان مما لا يمتنع على الأعراض وأن الحلول في المحال على عمومه لايمتنع على الأجسام فإن خص بأنه لاعلى جهة الشغل فذلك مختص بالعرض وكذا العدم والبطلان مما يجري في الأجسام لا أن يقال أن الفناء تبدد وتفريق لا إعدام محض كان العدم يختص بالعرض لكنه خلاف مذهب أئمتنا والجمهور أن الله تعالى يفني العالم ويعدمه كذهاب المصباح والسحاب، فتخصيص
المؤلف لبعض الأوصاف بالجسم وبعضها بالعرض لا يخلو من تسامح. نعم قد يقال إنما لم يجز عليه تعالى الفناء لأن الفناء لا يكون إلا بقدرة قادر ولا تأثير لغير القادر كما مرَّ والله ليس من جنس المقدورات فلا تعلق به القدرة. وقال بعض العليَّة بل لأن ذاته أوجبت وجوده والذات ثابتة في الأزل وهو لا يتخلف عنها كما ذلك شأن العلَّة، وقالت المقتضية بل لأن المقتضي أوجب وجوده كما مرَّ.
قلنا: هذا مبني على أصل وهو القول بالأمور الزائدة الموجبة عن الذات بواسطة أو لا واسطة وقد تبين لك بحمد الله بطلانه، وأما الذين قالوا: (بأن الله) تعالى جوهر فقولهم باطل، لأن ذلك إثبات ما لا طريق إليه، وأيضاً فإن الجوهر ليس بحي ولاقادر، وقد ثبت (أنه تعالى) حي قادر. وقد تعلق المخالفون بآيات متشابهات وهي التي فيها ذكر الأعضاء ومن ذلك قوله تعالى{ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} وقوله تعالى{بل يداه مبسوطتان} وقول تعالى{يد الله فوق أيديهم} وقوله تعالى{تجري بأعيننا}وقوله تعالى{ولتصنع على عيني} وقوله تعالى{يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله} وقوله تعالى{والسماوات مطويات بيمينه}إلى غير ذلك وظاهرها يقتضي أنه تعالى جسم.
الجواب: أن الأدلة العقلية قد دلت على أنه تعالى ليس بجسم كما مرَّ وكذلك الآيات المحكمة نحو قوله تعالى{ليس كمثله شيء} وقوله تعالى{فلا تجعلوا لله أنداداً} وغير ذلك مما لا يدخله احتمال، والآيات التي احتججتم بها لا تخلوا إما أن تبقى على ظاهرها وفيه ثبوت مناقضة كلام الحكيم وخلاف صريح العقل وذلك لا يصح من الحكيم تعالى، وإما أن تتأول وتأويلها فرع احتمالها للمعاني الحقيقية والمجازية وما هو كذلك فهو من المتشابه ولابد من رده إلى المحكم الذي هو أصله كما نبَّه الله على ذلك في قوله {منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه} فنقول تلك الآيات واردة على جهة الاستعارة والتجوز، فالوجه عنى به الذات كما يقال عملت هذا لوجه الله أي لله، ومنه قولهم هذا وجه الرأي أي هو الرأي، وقوله تعالى{بل يداه مبسوطتان} اليد (هاهنا) بمعنى النعمة وثناها لأن المراد بذلك نعمة الدين والدنيا وقيل نعمة الدنيا والآخرة،واليد في قوله تعالى{يد الله فوق أيديهم} بمعنى القوة والقدرة،واليد بمعنى القدرة شائع في كلام العرب قال شاعرهم:
فقالا سقاك الله والله ما بنا لما حملت منك الضلوع يدان
والعين في قوله تعالى{تجري بأعيننا} (وقوله){ولتصنع على عيني}بمعنى العلم،من كلام العرب ما صدر منك من إحسان أو إساءة فهو على عيني.ويعني أي علمي،والجنب في قوله تعالى{يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله}بمعنى الجانب الذي لله وهو الطاعة،من كلام العرب الناس جنب والأمير جنب أي في جانب وهو في جانب إذ حملها على ظاهرها غير صحيح عندنا وعندهم لأن التفريط في المقدورات وذات الله غير مقدورة فلا تفريط فيها.ومن شبههم قوله تعالى{ما يكون من نجوى ثلاثة إلاَّ هو رابعهم ولا خمسة إلاَّ هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلاَّ هو معهم} ودعواهم أيضاً إجماع المسلمين أن الله تعالى في كل مكان وكل مكان منه ملآن.
والجواب: بأن المراد بقوله تعالى{ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم}أي علمه وسلطانه فهو لذلك في حكم الحاضر بل أبلغ إذ الحاضر لا يعلم بواطنهم والباري تعالى يعلم الباطن والظاهر،وكذلك قولهم في كل مكان أي قدرته وسلطانه وعلمه.
نعم وأمَّا الكلابية فأثبتوا له تعالى الأعضاء يداً وعيناً وجنياً ونحو ذلك وقالوا هي صفات لا جوارح على التخصيص وهو قريب من مذهب الكراميّة حيث قالوا إنه جسم لا كالأجسام وقد تقدم إبطاله.
وأما أهل الوقف فهم الذين يقولون: نقف على معاني ما جاء في القرآن من المتشابه المشعر ظاهره بالتشبيه، فإن قالوا: نقطع أنه ليس بجسم ولا ندري بعد ذلك ما أراد الله بهذه الألفاظ كما روي عن داود الظاهري وغيره فهؤلاء لا غير مجسمين، وإن قالوا: لا ندري ما أراد الله بها هل هي الجسمية على ظاهرها أم غيرها؟ فهؤلاء حكمهم حكم المجسمين لأنهم جاهلون بالله تعالى، فثبت بذلك الذي بيناه من الأدلة القطعية وقطع أقوال المخالفين بالبراهين الواضحة أن الله تعالى لا يشبه الأشياء ويجب على المكلَّف اعتقاد ذلك له تعالى فيما لم يزل وفيما لا يزال ولا يجوز خروجه عن هذه الصفة بحال من الأحوال.
المسألة الثامنة ((أن الله تعالى غني))
أنه يجب على المكلَّف أن يعلم أن الله تعالى غني وهي صفة نفي إذ معناه نفي الحاجة، وحقيقة الغني في اللغة: من استغنى بما في يده عما في أيدي الناس. وفي الشرع:من ملك مالاً تجب فيه الزكاة عند جميع أهل الشرع أومن ملك زائداً علىمنزله وخادمه وثياب بدنه قدر نصاب من المال وإن لم تجب عليه فيه الزكاة على ما ذكره بعض أهل البيت عليهم السلام.وأما في الاصطلاح: فهو ضربان أعم وأخص، فالاصطلاح الأعم هو عرف أهل كل زمان وأهل كل جهة ولا يكاد يطلق الغني في الأمصار ونحوها إلاَّ لذي المال الكثير ولا حد للكثرة لكن يعتبر في ذلك ما وقع في اصطلاح أهل كل ناحية أنه غني. والاصطلاح الأخص ما عليه المتكلمون وهو أن حقيقة الغني هو الحي الذي ليس بمحتاج فيحترز بالحي عن الجماد إذ الجماد لا يوصف بالغنا ولو كان غير محتاج، وقوله ليس بمحتاج لأنه لو كان محتاجاً لم يكن غنياً إذ خاصة الغنا عدم الحاجة وهذه الحقيقة لا محقق لها إلا الله تعالى، إذ ما من حي إلا وهو محتاج غير غني مطلقاً، واعتقاد أن الباري جل وعلا غني (مما لا) يعلم فيه خلاف إلاَّ ما ورد في الكتاب العزيز عن بعض اليهود (وهو قوله تعالى{لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء}(آل عمران:180)ووصفوه تعالى بالبخل. قال تعالى{وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم}(المائدة:64)) وغل اليد في وضع اللغة عبارة عن البخل ومن هؤلاء اليهود رجل يقال له فنحاص (لعنه الله تعالى) .
والدليل على ذلك: القول الصحيح أن الحاجة لا تجوز إلاَّ على من جازت عليه الشهوة والنفار لأن معنى الحاجة الدواعي الداعية إلى جلب نفع أو دفع ضرر بدليل أنه لا يجوز أن يثبت بأحد اللفظين وينفى بالآخر، فلا يجوز أن يقال أنا محتاج إلى هذا الطعام وما دعاني إليه داعٍ ولا يقال دعاني إليه داعٍ ولست بمحتاج إليه بل يعد من قال ذلك مناقضاً. فثبت أن الحاجة هي الدواعي الداعية إلى جلب نفع أو دفع ضرر، والمنفعة: هي اللذة والسرور وما أدى إليهما بدليل أنه لا يثبت بأحد اللفظين وينفى بالآخر فلا يجوز أن يقول قائل انتفعت بهذا الفعل وما تلذذت به ولا سررت ولا العكس بل يعد (من قال ذلك) مناقضاً. واللَّذة: هي المعنى المدرك بمحل الحياة فيه مع الشهوة له، وحقيقة السرور هو علم الحي أو ظنه أو اعتقاده بأن له في الفعل جلب منفعة أو دفع مضرة والذي يؤدي إليهما كالطاعات فإنها وإن كانت شاقة متعبة في الحال فإنها تسمى منفعة لأنها تؤدي إلى المنفعة، والشيء قد يسمى باسم ما يؤدي إليه قال الله تعالى{قال أحدهما أني أراني أعصر خمراً}(يوسف:36) فسماه خمراً لما كان مؤدياً إلى الخمر. والمضرة هي الألم والغم وما يؤدي إليهما بدليل أنه لا يجوز أن يثبت بأحد اللفظين وينفى بالآخر، فلا يجوز أن يقال تضررت بهذا الفعل وما تألمت به ولا العكس بل يُعد من قال ذلك مناقضاً. والألم: هو المعنى المدرك بمحل الحياة فيه مع النفرة عنه. والغم: هو علم الحي أو ظنه أو اعتقاده بأن عليه في الفعل جلب مضرة أو فوت منفعة والذي يؤدي إليهما كالمعاصي فإنها وإن كانت شهية لذيذة في الحال فإنها تسمى مضرة لما كانت تؤدي إلى المضرة وهو العقاب الدائم، والشيء قد يسمى باسم ما يؤدي إليه قال تعالى{إن الذين
يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً (وسيصلون سعيراً) }(النساء:10) فسمى ما يأكلون ناراً لما كان يؤدي إلى النار. فعلم بهذا التدريج ملازمة الحاجة للشهوة والنفار، وعلم أيضاً ملازمة الشهوة والنفار للذة والألم يعرف ذلك بتأمل الحدود التي ذكرنا فافهم أرشدك الله . فوجب القطع بأن الشهوة والنفار لا تجوزان إلا على من جازت عليه اللذة والألم فيلتذ بإدراك ما يشتهيه ويستر به ويتألم بإدراك ما ينفر عنه ويغتم به. (واللذة والألم) لا تجوزان إلا على من جازت عليه الزيادة والنقصان لحصول الزيادة باللذة والنقصان بالألم وعند النظر في حقيقة الألم واللذة لا يحتاج إلى واسطة الزيادة والنقصان إذ هما لا يجوزان إلا على الأجسام وعند جعلهما واسطة، يقال والزيادة والنقصان لا يجوزان إلا على من كان جسماً ذلك معلوم قطعاً، والقصر كما أسلفنا (في المسألة التي قبل هذه) فيه نظر إذ ذلك يدخل الأعراض كما لا يخفى (والله أعلم) . وهو تعالى ليس بجسم لأن الأجسام محدثة وهو تعالى قديم (على ما) تقدم من بيان ذلك وإقامة الدليل عليه، وأيضاً فإن الشهوة والنفار عرضان ولا يكونان إلا في جسم وهو تعالى ليس بجسم،
وأيضاً فإنه لو كان تعالى مشتهياً ونافراً لكان مشتهياً ونافراً بذاته لبطلان غيرها كما مرَّ في الصفات ولزوم أن توجد المشتهيات جميعاً إذ لا اختصاص لذاته لمشتهى دون مشتهى، وإذا اشتهاها أوجدها لقدرته عليها، ولو كان نافراً لذاته لم يخلق شيئاً من المنفرات، فلما لم يوجد المشتهيات وثبت خلقة لشيء من المنفرات مع عدم المانع دل ذلك على غناه، ومن الأدلة على أنه تعالى غني أنه لم يجبر من عصاه على الطاعة مع القدرة على ذلك، فثبت بذلك المذكور من الأدلةالقطعية أن الله غني لا يحتاج إلى شيء أصلاً لا في وجوده ولا في ذاته ولا في شيء من صفاته ولا في أفعاله وتأثيراته ولا في ما يحتاج إليه الحي من منافعه وشهواته، ولهذا بطل قول المعتزلة أن الصفات وجبت له تعالى وجازت علينا فلابد من أمر أوجبها له إما العلة أو المقتضى وهو الصفة الأخص، ويجب على المكلَّف اعتقاد أن الباري جل وعلا غني فيما لم يزل وفيما لا يزال ولا يجوز خروجه عن هذه الصفة بحال من الأحوال.
المسألة التاسعة ((أن الله لا يُرى بالأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة))
أنه يجب على المكلَّف أن يعلم أن الله لا يُرى بالأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة وهذا هو مذهب العدلية جميعاً والنجارية من المجبرة والخوارج والمرجئة وأكثر الفرق الخارجة عن الإسلام، قالوا لا يصح أن يَرى نفسه ولا يصح أن يَراه غيره، فعلى هذا كان اللائق بالعبارة، والله تعالى لا تجوز عليه الرؤية لشموله دون الأولى واشتهرت المسألة بنفي الرؤية وفيها وقع الخلاف وإلاَّ فالمراد أنه لا يجوز أن يدرك بشيء من الحواس. والخلاف في ذلك مع الحشوية والمجبرة على طبقاتها إلاَّ النجارية ثم اختلفوا في ذات بينهم فمنهم من قال: يصح أن يَرى نفسه ولا يَراه غيره حكاه الرازي عن بعضهم وقد روي هذا عن أبي القاسم البلخي وهو غير مشهور عنه، ومنهم من قال: يراه غيره أيضاً وعليه أكثرهم ثم اختلفوا فقيل يراه الكل من المؤمنين والعصاة وهو مذهب الحشوية وبه قال محمد بن اسحاق بن خزيمة وفرقة تسمى السالمية، وقالت المجبرة: يراه البعض وهم المؤمنون دون الكفار والمستحقين للعقوبة وذلك لأن الرؤية عندهم ثواب والثواب لا يستحقه إلاَّ المؤمنون، ثم من القائلين بالرؤية من قال يُرى في الدنيا والآخرة وهذا القول للحشوية قال بعضهم: تجوز رؤيته في الدنيا وملامسته ومصافحته، وقال قوم: الناس كلهم يرون الله تعالى إلاَّ أنهم لا يعرفونه، وقالت المجبرة: لا يجوز أن يُرى إلاَّ في الآخرة بناءً منهم على أن الرؤية ثواب كما مرَّ، ثم منهم من قال: يُرى في جهة على حد رؤية الأجسام وهو قول المجسمة (بناءً على) أنه جسم وقد أبطلناه، وقالت المجبرة: يُرى لا في جهة بل يُرى في الآخرة بلى كيف، والأشعرية قالوا: (يُرى بهذه الحاسة) بخلق معنى وهو الإدراك، وروي عن الأشعرية رواية مغمورة أنه تعالى
يدرك بجميع الحواس، قال أصحابنا هذه رواية غير معقولة، قال الرازي: مراد أصحابنا يعني الأشعرية لأنه أشعري بالرؤية أن يحصل لنا انكشاف تام بالنسبة إلى ذاته المخصوصة سبحانه وتعالى يجري مجرى الانكشاف الحاصل عند إبصار الألوان وهذا الانكشاف لا يقتضي أن يكون المكشوف حاصلاً في جهة، وقال في موضع آخر ربما عاد الخلاف بين أصحابنا وبين المعتزلة إلى العبارة في هذه المسألة يعني أن هذا الانكشاف الذي يسمونه رؤية بالحاسة هو الذي تسميه المعتزلة علماً ضرورياً لكن المشهور أن الخلاف بين الفريقين معنوي، وقال ضرار بن عمرو: أنه تعالى يُرى في الآخرة بحاسة سادسة لما رأى أن إدراكه تعالى بإحدى هذه الحواس محال وقوله هذا لا يعقل إذ الرؤية اسم للإدراك بهذه الحاسة ومما يلزمه هو والأشعرية جميعاً صحة أن يكون الله تعالى مطعوماً وملموساً ومسموعاً ومشموماً إما على جهة غير ما نعقله في الشاهد كما قالته الأشعرية في الرؤية أو بحواس أُخر كما قاله ضرار فيها وكل ذلك معلوم الاستحالة.
والدليل على ذلك المذهب الصحيح وهو القول بأن الله تعالى لا يُرى أبداً أنه لو كان يرى في حال من الأحوال لوجب أن نراه الآن. اعلم أن أصحابنا يستدلون على نفي رؤية الباري من العقل بدليلين دليل الموانع ودليل المقابلة واختلفوا في ترجيح أيهما، فقال القاضي عبدالجبار وغيره هما مستويان في إفادة المطلوب ورجح أبو هاشم وابن الملاحمي والمهدي دليل الموانع واعتمده الشيخ في الكتاب ورجح أبو علي دليل المقابلة وبه قال السيد المؤيد بالله.
وتحرير دليل الموانع: أن يقال لو كان الباري تعالى يُرى في حال من الأحوال لرأيناه الآن لوجود شرائط الإدراك الثلاثة للمرئيات وهي سلامة الحاسة وارتفاع الموانع ووجود المدرك. وذلك لأن من المعلوم قطعاً أن الحواس سليمة بدليل أن المدركات يدرك بها ولو كانت سقيمة لم تدرك بها، والحواس خمس حاسة السمع والبصر والشم والذوق واللمس، فحقيقة حاسة السمع هي ما أدرك بها الأصوات، وحقيقة حاسة البصر هي ما أدرك بها المتحيزات والألوان، وحقيقة حاسة الشم هي ما أدرك بها الروائح، وحقيقة حاسة الذوق هي ما أدرك بها المطعوم ، وحقيقة حاسة اللمس هي ما أدرك بها الحرارة والبرودة هذا على كلام بعضهم، ومنهم من قال اللمس ليس بحاسة لأن للحاسة شرطين أحدهما أن يدرك بها ما لا يدرك بغيرها من الحواس، والثاني أن يكون في حكم الغير لصاحبها بمعنى يدرك بها. وحاسة اللمس ليست كذلك بل جسد الحيوان جميعه يلمس به وليس هو في حكم الغير، والموانع مرتفعة وهي ثمانية البعد والقرب المفرطان والرقة واللطافة والحجاب الكثيف وكون المرئي في خلاف جهة
الرائي وكون محله في بعض هذه الأوصاف وعدم الضياء المناسب للعين ، فمثال البعد المفرط الإنسان الذي يكون على بعد منَّا نحو بريد أو شبهه، والقرب المفرط كالميل في العين ونحو ذلك، والرقة كأجسام الملائكة والجن، واللطافة كالجوهر الفرد في اصطلاح المعتزلة، والحجاب الكثيف كالجدار والجبل وما يجري مجرى ذلك مما يحول بيننا وبين المرئي،
وقولنا الكثيف احتراز عن الحجاب الرقيق كالزجاج ونحوه وكون المرئي في خلاف جهة الرائي وذلك نحو أن يكون المرئي خلف الرائي وكون محله في بعض هذه الأوصاف هذا مانع من رؤية اللون تبعاً لمحله والموانع المتقدمة مانعة من رؤية المتحيزات وهذا يمنع من رؤية اللون فقط، وعدم الضياء يمنع من رؤية الجميع، ومثال عدم الضياء أن يفتح الإنسان جفنه في موضع مظلم فإنه لا يرى لمَّا لم يكن هناك ضوء في الهواء يعين ضوء العين على الرؤية. فقد عرفت أن هذه الموانع لا تمنع إلاَّ من رؤية الأجسام والألوان والله تعالى ليس بجسم ولا لون كما بينا فيما سلف وأقمنا عليه البرهان، ولا يصح ادعاء أن هناك مانعاً سواه إذ لو جوزنا ذلك لجوزنا أن يكون بين أيدينا أجسام عظيمة ولا نراها لذلك المانع فترتفع الثقة بالمشاهدات ونجوز خلاف ما نعلمه ضرورة فكان يجوز أن يكون أحدنا على جناح نسر أو في لجة بحر ونحن لا نرى الجناح ولا النسر ولا البحر لمانع غير هذه، وهو تعالى موجود كما تقدم الكلام عليه وهذه الأمور الثلاثة هي الشروط التي تصح معها الرؤية للمرئيات، فلما لم نره تعالى مع وجودها علمنا أنه لا يُرى، ودليل أنها شروط الرؤية للمرئي، أنها متى اجتمعت رأينا ما تصح رؤيته ومتى عدمت أو بعضها لم نره، وليس هناك أمر تُعلق به الرؤية سوى مجموع هذه الشرائط إذ لو
كان ثمَّ أمر لصح اجتماعها ولا نرى الواحد منا بأن لا يحصل ذلك الأمر أو يصح أن يرى وإن لم تجتمع هذه الأمور بأن يحصل ذلك الأمر. وقد علمنا خلاف ذلك فصح أن هذه الشرائط التي معها تُرى المرئيات، ومتى قيل هي موجودة فيقال بأنه يُرى. وقولكم لم نره الآن دعوى تحتاج إلى دليل.
قلنا: الذي يدل عليه أنَّا لا نراه الآن، أنَّا لو رأيناه الآن لكان معلوماً لنا بطريق المشاهدة ومعلوم ضرورة أنَّا لا نشاهده الآن إذ لو شاهدناه الآن لما اختلفت العقلاء فيه فهذا دليل الموانع.
وأما دليل المقابلة: فتحريره أن يقال الواحد منا إنما يَرى بالشعاع والرآئي بالشعاع إنما يرى ما كان متحيزاً أو مختصاً بجهة يتصل بها الشعاع (فلو صحت رؤيته لكان متحيزاً أو لاختص بجهة يختص بها الشعاع) وذلك باطل في حقه تعالى كما مرَّ في نفي التجسيم.
فإن قيل إن هذين الدليلين العقليين إنما يدلان على أنَّا لا نراه تعالى وأما أنه لا يَرى نفسه فلا دليل فيهما على ذلك.
قلنا: إن الأمة قد افترقت على قولين، فرقة قالت: أنه لا يَرى نفسه ولا يراه غيره ، وفرقة قالت يرى نفسه (ولا يراه) غيره، فالقول بأنه يرى نفسه ولا يراه غيره قول ثالث رافع للقولين السابقين فيكون خرقاً للإجماع، وأما ما روي أن بعضهم قال به فهي حكاية شاذة على أن الإجماع منعقد قبل ذلك القائل وبعده فلا اعتداد بخلافه، فثبت بذلك المذكور من دليل العقل القطعي أن الله تعالى لا يُرى بالأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة وبطل ما قاله المخالفون جميعاً وقد جاء السمع مؤكداً لما دل عليه العقل من نفي الرؤية قال تعالى{لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير}(الأنعام:103) فنفى سبحانه أن يدرك بالبصر مطلقاً في كل وقت وكل بصر لأن الفعل وقع في سياق النفي المطلق والأبصار جمع معرف باللام فكل ذلك يوجب الاستغراق. وقد اعترض الرازي على الاستدلال بالآية الكريمة فقال: إما أن تحملوا الأبصار على حقيقتها أو تجعلوها بمعنى المبصرين، إن قلتم الأول لم يصح لكم الاستدلال لأنَّا لا نقول إن الأبصار هي المدركة له تعالى وإنما يدركه المبصرون، وإن قلتم بالثاني لزمكم في قوله تعالى{وهو يدرك الأبصار} أن يكون معناه وهو يدرك المبصرين وهو تعالى يبصر ويدرك نفسه وكل من قال بأنه يدرك نفسه قال بأنه يدركه غيره.
الجواب: أنَّا لا نحمل الأبصار على حقيقتها إذ لا مدح حينئذ، ولا على أن المراد بها المبصرون مطلقاً إذ لا دليل فيها على ذلك بل على المبصرين بالأبصار فيكون معناه لا يدركه أهل الأبصار وهو يدرك أهل الأبصار والقديم تعالى ليس من أهل الأبصار فاندفع الإشكال.
غاية ما يلزم أنه لا يكون في الآية دليل على نفي إدراكه لنفسه صريحاً وإنما نفى أن يدركه أهل الأبصار فقط لكنه يلزم من ذلك نفي إدراكه لنفسه لأن كل من قال أنه لا يدركه غيره قال بأنه لا يدرك نفسه. ومما يدل على ما ذهبنا إليه أيضاً قوله تعالى حكاية عن موسى (عليه السلام) {رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني}(الأعراف:143) فإنه نفى الرؤية والنفي بلن يقتضي التأبيد وأيضاً فإنه علق الرؤية بشرط مستحيل وهو استقرار الجبل ومعلوم أن الجبل قد تدكدك ولم يستقر فكأنه علق الرؤية باستقراره وقت تدكدكه وهو محال وما علق بالمحال كان محالاً، وأما سؤال موسى عليه السلام فلم يكن لنفسه فإنه أعلم الناس بالله وبصفاته وإنما سؤاله لقومه لكي يحصل لهم من الأدلة السمعية ما يعلمون به أنه تعالى لا تصح رؤيته وإنما نسبها إلى نفسه ليكون ذلك أبلغ في الدلالة (على أنه) تعالى لا يُرى وتوبته إنما كانت عن سؤاله بحضرتهم ولم يكن للنبي (صلى الله عليه وسلم) أن يفعل ذلك قبل الاستأذان.
ويدل على ما ذهبنا إليه من السنة: ما روي بالإسناد الموثوق به إلى جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(إنكم لن تروا الله في الدنيا ولا في الآخرة) وروي عن عائشة أنها سئلت هل رأى محمد ربه؟ فقالت: يا هذا لقد قَفَّ شعري مما قلت، ثلاثاً من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله عز وجل إلى غير ذلك. احتجت الأشعرية وضرار بقوله تعالى {وجوه يومئذ ناضره إلى ربها ناظره}(القيامة:22،23) والمراد بالأول مشرقة من النضارة وهي الحسن وبالثانية رائية. وقوله تعالى{للذين أحسنوا الحسنى وزيادة}(يونس:26) والزيادة هي الرؤية على ما جاء في بعض الأحاديث. وقوله تعالى{كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون}(المطففين:15) والمراد بها الكفار فمفهومها أن المؤمنين غير محجوبين وهو معنى الرؤية، وفي الحديث(سترون ربكم يوم القيامة كالقمر ليلة البدر) وفي بعض الأخبار(لا تضامُّون في رؤيته) بتشديد الميم وتخفيفها قالوا وهذا الخبر مما تلقته الأمة بالقبول.
والجواب: أنَّا قد بينا بالأدلة القطعية التي لا يدخلها التشكيك والاحتمال أن الباري
لا تصح رؤيته في حال من الأحوال وما استدللتم به مما يدخله الاحتمال قطعاً وذلك هو المتشابه الذي يجب رده إلى المحكم واعتمادكم على المتشابه دليل على حصول الزيغ في قلوبكم مع أنكم أيها المجبرة تعتقدون أن الله سبحانه (وتعالى يفعل) ما يشاء من فنون القبائح وهي غير قبيحة منه لأنه غير مربوب ولا منهي فلا تأمنوا أن تكون هذه الآيات التي هي شبهة لكم كذباً اخترعه تعالى وليس بقبيح منه فاستدلالكم بالسمع الذي لا طريق له سواه بزعمكم مبني على قاعدة منهارة وهي عدم القول بالعدل والحكمة ونحن نريكم كيفية رد حججكم إلى الأدلة القطعية.
فنقول: معنى قوله تعالى{إلى ربها ناظره}أي منتظرة لثوابه إذ الانتظار أحد معاني النظر كما مرَّ وهذا التأويل يروى عن علي عليه السلام وعن مجاهد وأبي صالح والحسن البصري وغيرهم وقد جاء الانتظار متعدياً بإلى في صحيح الكلام كقول حسان:-
وجوه يوم بدر ناظرات إلى الرحمن يأتي بالخلاص
وأيضاً فإن من معاني النظر الحقيقية تقليب الحدقة اتفاقاً بيننا وبينكم فإذا أمكن الحمل عليه فهو الأولى والمحققون منكم حملوه هنا على الرؤية لا تقليب الحدقة وقد أمكن حمله على الحقيقة لكن على تقدير مضاف محذوف إلى ثواب ربها ناظرة وحذف المضاف كثير في القرآن وغيره نحو((واسأل القرية)) وهذا التأويل مروي عن (أمير المؤمنين) علي عليه السلام أيضاً وعن ابن عباس والسدي ومجاهد وعكرمة وغيرهم سلَّمنا فهي ظنية لحصول هذه الاحتمالات، وما نحن فيه يحتاج إلى قطعي، ومعنى الزيادة في قوله تعالى{للذين أحسنوا الحسنى وزيادة}غرفة في الجنة لها أربعة أبواب وتلك الغرفة من لؤلؤة كما قد روي وهو المناسب، لأن الزيادة تجب أن تكون من جنس المزيد عليه والرؤية ليست جنساً للحسنى، ولهذا نقول شريت كذا حريراً وقطناً وزيادة يعني على ذلك العدد من ذلك الجنس فإن أراد غيره قال وشيء آخر، وأما قوله تعالى{إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبين}فمعناه محجوبين عن رحمة الله وثوابه والمؤمنون غير محجوبين عن ذلك وأيضاً فدلالتها على ما ادعيتم من باب المفهوم وهو منازع في الأخذ به في فروع الفقه فضلاً عن أصول الدين. ومن شبههم قوله تعالى{تحيتهم يوم يلقونه سلام}(الأحزاب:44) واللقاء الرؤية ولا دليل على ذلك لأنك تقول رأيت فلان وما لقيته، ونقول لقي الضرير الأمير وما رآه، فيكون المعنى يوم يلقون ثوابه وملائكته كما حكى الله تعالى في قوله{والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار}(الرعد:23،24) وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم(سترون ربكم يوم القيامة…الخبر) فنقول هذا الخبر مقدوح في روايته لأنه مسند إلى قيس بن أبي حازم وقيس يرويه عن جرير بن عبدالله البجلي
وكلاهما مطعون في دينه، أما جرير فيروى أنه كان يخون أمير المؤمنين (علي) عليه السلام ويكتب بأسراره إلى معاوية وقال ليس علي من أوليائي إنما وليي الله ورسوله وصالح المؤمنين ثم لحق بمعاوية بعد ذلك. وأما قيس فيروى أنه كان يرى رأي الخوارج ويقول دخل بغض علي في قلبي، ومن دخل بغض علي في قلبه فأقل منازله أن تطرح رواياته لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(لا يبغضك إلاَّ منافق) وقد قيل أنه مختل الضبط لأنه خولط في عقله في آخر مدته، يروى أنه كان محبوساً فكان يقرع الباب بيده فإذا صوَّت الباب ضحك، وقيل أنه كان يسأل الدراهم ليشتري بها عصياً ليضرب بها الكلاب ولعله روى هذا الخبر في هذه الحال. وإن سلَّمنا صحته قلنا: أنه ظني لا يصلح حجة فيما نحن فيه ولا يقوى على معارضة الأدلة القطعية التي تقدمت مع أنه يحتمل التأويل بأن يقال معناه ستعلمون لأن الرؤية قد تكون بمعنى العلم كما قال تعالى{ألم تر إلى ربك كيف مد الظل}(الفرقان:45) وقال تعالى{أولم ير الإنسان أنَّا خلقناه من نطفة}(يس:77) وقال الشاعر:
رأيت الله إذ سمّى نزاراً وأسكنهم بمكة قاطنين
ولم يتعدَّ إلى مفعولين لأنه بمعنى المعرفة فيكون معنى الحديث ستعرفون ربكم، فثبت ما قلناه واندفعت شبهة المخالفين.
المسألة العاشرة ((أن الله تعالى واحد))
أنه يجب على المكلَّف أن يعلم أن الله تعالى واحد. الواحد في أصل اللغة يستعمل بمعنى واحد العدد يقال واحد اثنان. قال الدواري: وبمعنى أنه لا يتجزأ كما يقوله في الجوهر أنه واحد على معنى أنه لا يتجزأ. وفي عرف اللغة بمعنى المنفرد بصفات الكمال على حد تقل مشاركته فيها،ولا يجوز أن يطلق على الباري تعالى أنه واحد على معنى أنه واحد العدد لأنه يقتضي أنه من أعداد وهو من جنسهم وذلك لا يجوز عليه تعالى،ولهذا قال علي عليه السلام في وصف الله تعالى واحد لا بعدد،ولا يجوز أن يطلق على الباري أنه واحد بالمعنى العرفي لأن معناه ثبوت مشارك ولا مشارك له عز وجل،ويطلق على الباري أنه واحد بمعنى أنه متفرد بصفات الإلاهية لا ثاني له يشاركه في القدم والإلاهية،والمعنى في ذلك أي حد الواحد في اصطلاح المتكلمين أنه منفرد بصفات الكمال وهي كونه قادراً على جميع أجناس المقدورات، عالماً بجميع أعيان المعلومات،حياً قديماً لم يزل ولا يزال على حد لا يشاركه فيها غيره على الوجه الذي استحقها وهو للذات بواسطة أو لا واسطة، وعلى قول الأئمة وأبي الحسين والشيخ محمود: القدر الأخير مغير للمعنى إذ لا كلام لهم في الاستحقاق كما مرَّ.والقول بأن الله تعالى واحد لا إله غيره هو مذهب جميع أهل الإسلام العدلية والجبرية إذ لا يقول أحد منهم بأن معه تعالى قديماً مستقلاً،واختلافهم إنما هو في قديم غير مستقل، فعند أهل العدل لا قديم معه مطلقاً،وعند المجبرة معه قديم
غير مستقل وهي المعاني كما مرَّ لهم وقد تقدم بطلان مقالتهم.
والخلاف في ذلك مع فرق ست وهم الثنوية، والمجوس، والنصارى، والمطرفية، والباطنية، والفلاسفة.
أما الثنوية: وسموا ثنوية لقولهم بإلاهين اثنين فإنهم يقولون بأن النور والظلمة صانعان للعالم قديمان، وإن النور مجبول على الخير لا يقدر على فعل الشر، والظلمة مجبولة على الشر لا تقدر على فعل الخير، فإنهما امتزجا فحصل منهما العالم، وأن جهة النور العلو وجهة الظلمة السفل.
وأما المجوس: فإنهم يقولون: بأن العالم له صانعان يسمون أحدهما يزدان والثاني إهرمن وأن جميع ما في العالم من الخير وهو ما تشتهيه النفوس فهو من يزدان، وما وقع فيه من الشر فهو من إهرمن، والشر عندهم ما تنفر عنه النفوس، والمشهور عنهم أنهم يعبرون بيزدان على الباري ويعتقدونه كما نعتقده، وبإهرمن عن الشيطان ويعتقدونه كما نعتقده، ثم منهم من قال: هما جسمان، ومنهم من قال: ليسا بجسمين، ومنهم من قال يزدان جسم دون إهرمن، ومنهم: من عكس، ثم اختلفوا في إهرمن، فمنهم من قال إنه قديم، ومنهم من قال: إنه محدث، ثم اختلفوا، فمنهم من قال: حدث من عفونة كانت مع يزدان، والعفونة هي المزبلة، ومنهم من قال: حدث من فكرة ردية ليزدان وذلك أن يزدان لمَّا استتب له الأمر نظر فقال: لو كان معي منازع كيف كانت الحال فحدث إهرمن من ذلك وقال: أنا منازعك ومخاصمك فاقتتلا قتالاً شديداً ثم تهادنا بعد ذلك على أن يقيم الشيطان في الأرض مدة معلومة، قالوا: ونحن الآن في تلك المدة. واختلفوا إذا انقضت المدة، ماذا يكون؟ ولهم في ذلك خرافات طويلة.
وأما النصارى: فعندهم أن الله تعالى جوهر على الحقيقة ثلاثة أقانيم على الحقيقة، أقنوم أب وهو ذات الباري، وأقنوم الابن وهو الكلام وقبل العلم، وأقنوم روح القدس وهو الحياة، فالآخر هو الرابط بين الأولين وقالت فرقة منهم إن أقنوم الابن اتحد بالمسيح فصارا ذاتاً واحدة، أي صار جوهر اللآهوت وجوهر الناسوت شيئاً واحداً، ثم اختلفوا هؤلاء في هذا الاتحاد فمنهم من قال : اتحد به وحدة نوعية، ويقولون: إن جوهر اللآهوت دخل في جوهر الناسوت واتخذه له هيكلاً،وربما قالوا: إن جوهر اللاهوت ادرع جوهر الناسوت كما يدرع الدهن السمسم، ومنهم من قال: اتحد به وحدة حقيقة أي صار الجوهران جوهراً واحداً وهؤلاء هم اليعقوبية منهم، وقد يحكى عنهم إطلاق أنه سبحانه اتحد بالمسيح من غير تخصيصه بأقنوم الابن، وبعضهم يجعل هذا الاتحاد اتحاد مشية بمعنى أن إرادتهما وكراهتهما صارت واحدة وهما مختلفان من جهة الذات فجوهر الناسوت غير جوهر اللآهوت وهؤلاء هم بعض النسطورية منهم.
وأما المطرفية: فمذهبهم أن الله تعالى أربعين اسماً وأنها قديمة وكل اسم هو ذاته،فمقتضى كلامهم أنه أربعون فقد زادوا على النصارى في الإحالة،قال بعض أهل العدل وقيل أنه الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام فعلى هذا أن كل مطرفي ثلاثة عشر نصرانياً وثلث لأن النصراني يقول أنه واحد ثلاثة، ومقتضى كلام المطرفية أنه واحد وأربعون.
وأما كلام الباطنية والفلاسفة: فإنهم يقولون بالعلة القديمة التي هي الرب عندهم والنفوس القديمة والعقول القديمة والأفلاك القديمة على ما تقدم، فمقتضى كلامهم أن في القدم مع العلة التي هي الرب عندهم ثمانية وعشرون قديماً. فهذي حكاية أقوال هذه الفرق الضالة التي افترت على الله الكذب وهذا كله وإن كان شغلاً للأوراق إلاَّ أنَّا قصدنا بذلك التنبيه على عقائدهم الفاسدة تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. والدليل على صحة مذهب أهل الإسلام أنه تعالى واحد لا ثاني له أنه لو كان له ثانٍ قديم وجب أن يشاركه في سائر صفات الإلاهية وهي كونه قادراً على جميع أجناس المقدورات، عالماً بجميع أعيان المعلومات، حياً لم يزل إذ القدم صفة ذاتية لأنا قد بينا أن الشيئين متى كانا مثلين كانا قد اشتركا في صفة ذاتية كالسوادين فإنهما إنما كانا مثلين لاشتراكهما في كونهما سوادين ويجب اشتراكهما في سائر الصفات الذاتية. إذ لو اشتركا في صفة ذاتية وافترقا في صفة أخرى ذاتية لكانا مثلين مختلفين لاشتراكهما فيما يقتضي التماثل ويقتضي الاختلاف وذلك محال، فثبت أنه تعالى لو كان له ثانٍ قديم وجب أن يشاركه في صفات الذات الذي قدمنا ووجب أن يكون مثلاً له فهذا أصل أول.
الأصل الثاني: أنه لا يجوز أن يكون له تعالى مثل وإلاَّ لصح بينهما الاختلاف والتمانع لأنه كما لا يمتنع أن يتفق مرادهما لا يمتنع أن يتضادا، لأن من حكم كل كفوين قادرين صحة اختلافهما وتمانعهما وإنما صح ذلك بينهما لكونهما قادرين، فإذا صح ذلك في الشاهد لم يمتنع مثله في الغائب، وكان يجب إذا أراد أحدهما تحريك جسم والآخر تسكينه في حال واحد أن لا يخلو الحال من ثلاثة أقسام: إما أن يحصل مرادهما معاً فيكون الجسم متحركاً ساكناً في حالة واحدة وذلك محال ، وإما أن لا يحصل مرادهما معاً فيخلو الجسم من الحركة والسكون وذلك محال أيضاً، وإما أن يحصل مراد أحدهما دون الآخر فمن حصل مراده فهو الإلاه القديم ومن تعذر مراده فهو عاجز ممنوع والعجز والمنع لا تجوزان إلاَّ على المحدثات والحدوث يبطل الإلاهية كما مرَّ، والقول بالقديم الثاني قد أدى إلى هذه المحالات فيجب القضاء بفساده، وأيضاً لو كان له تعالى ثانٍ لرأينا آثار صنعه كالباري تعالى ولأتتنا رسله ولم يقع شيء من ذلك، فهو إما لعدم الآلهة إلاَّ الله فهو الذي نريد أو الاضطرار إلى المصالحة أو لقهر الغالب المغلوب، وأيما كان فهو عجز والعجز لا يكون إلاَّ في المخلوقين، وقد دل السمع الكتاب والسنة والإجماع على الوحدانية، قال تعالى{لو كان فيهما آلهة إلاَّ الله لفسدتا}(الأنبياء:22) وفي الآيات دلالة على أنه لو كان له ثانٍ لتمانعا ومثلها قوله تعالى {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلى بعضهم على بعض}(المؤمنون:91) وقال تعالى {وما من إله إلاَّ إله واحد}(المائدة:73) وقوله تعالى{قل هو الله أحد}(الإخلاص:01) وقوله تعالى{الله لا إله إلاَّ هو}(البقرة:255) وقوله
تعالى{شهد الله أنه لا إله إلا هو}(آل عمران:18)وقوله{فاعلم أنه لا إله إلاَّ الله}(محمد:19) وقوله{لا إله إلاَّ أنا فاعبدون}(الأنبياء:25) إلى غير ذلك مما يكثر في الكتاب العزيز.
وأما السنة والإجماع: فمعلوم ضرورة من دينه صلى الله عليه وآله وسلم ومن إجماع المسلمين أنه لا قديم مع الله يشاركه في الإلاهية.
وأما ما تقوله الثانوية: من قدم النور والظلمة فقولهم باطل، لأنهما جسمان عندنا وعند أبو الهذيل عرضان، والخلاف في التحقيق عائد إلى إطلاق الاسم، فنحن أطلقناه على الجسم والسواد والبياض وصفاً لذلك، وأبو الهذيل أطلقه عليهما لأنه السابق إلى الفهم،وقد بينا أن الأجسام والأعراض محدثة فبطل ما ادعوه. وأما من قال من المجوس بقدم إهرمن فهو قول باطل لأن الشيطان من جملة الأجسام والأجسام محدثة كما بينا. وأما من قال إن إهرمن محدث ثم أضاف إليه هذه الشرور التي تنفر عنها النفوس فلا يصح قوله لأنها أجسام وأعراض ضرورية ولا يقدر على ذلك إلاَّ الله تعالى لكونه قادراً بذاته، وإهرمن إذا كان محدثاً كان قادراً بقدرة فلا يصح منه فعل الأجسام على ما تقدم.
وأما بقية المخالفين: ففي ما قدمنا مايدل على بطلان أقوالهم مع كون أكثرها غير معقول في نفسه فضلاً من أن (يدل على) صحته على أن الدليل قد دل على بطلانه فافهم. فثبت بذلك الذي ذكرنا من الأدلة الدالة على صحة مذهب أهل الإسلام وبطلان قول من خالفهم أن الله تعالى واحد لا ثاني له.
تنبيه:
اعلم أن الله سبحانه وتعالى لم يكلف عباده العقلاء من معرفته إلاَّ ما مرَّ من إثبات الصانع وصفاته الإيجابية والسلبية لتعذر تصوره تعالى لما ثبت أنه تعالى ليس بجسم ولاعرض، والتصور إنما يكون لهما ضرورة وينبغي للعاقل بل يجب عليه بعد استتمام الدلالة على معرفته تعالى بالأدلة التي قدمنا ونحوها، أن يردع نفسه عما يوسوس به الشيطان ويلقيه في روعه إذا بعثه على التفكر في ذات الله ، وكيف هذه الذات وأزمع في نفسه استعمال النظر ليقع على عرفان كيفية ذات الله فإن هذا الوسواس أعظم أبواب الشيطان إلى الإلحاد والكفر، وهو خلاف ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وصالح المسلمين في الأثر النبوي (إن الشيطان ليأتي أحدكم فيقول الله خلق الخلق فمن خلق الله) فمن وسوس الشيطان في صدره بذلك فليقل آمنت بالله وذلك حقيقة الإيمان وينظر في مصنوعات الله تعالى. فإنه صلى الله عليه وآله وسلم كان كثيراً ما يكرر الإقرار بالله تعالى ووحدانيته وصفاته الإثباتية والسلبية وينظر في مصنوعات الله الدالة على ذلك ويأمر بالنظر فيها وينهى عن النظر في ذات الله، وهكذا كان أمير المؤمنين (علي) عليه السلام، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لن تقدروا قدره) وقال علي عليه السلام: من تفكر في خلق الله وحد، ومن تفكر في الله ألحد. والله سبحانه وتعالى لم يأمرنا في كتابه العزيز إلاَّ بالتفكر في مصنوعاته لا غير والقرآن مشحون بذلك. وقال القاسم عليه السلام: جعل الله في جميع المكلَّفين شيئين العقل والروح وهما قوام الإنسان لدينه ودنياه وقد حواهما جسمه وهو يعجز عن صفتهما، فكيف يتعدى بجهله إلى عرفان ماهية الخالق، ومن لم يعرف
عقله وروحه والملائكة والجن والنجوم وهذه مدركة أو في حكمها، كيف ترمي به نفسه المسكينة إلى عرفان من ليس كمثله شيء. ولبعض العلماء الموحدين من اطمأن إلى موجود أدرك حقيقته فهو مشبه، ومن اطمأن إلى النفي المحض فهو معطل، ومن قطع بموجود يعجز عن إدراك حقيقته فهو موحِّد، قال أمير المؤمنين عليه السلام وقيل أبو بكر:-
العجز عن درك الإدراك إدراك والبحث عن فحص كنه الذات إشراك
ويروى لصاحب شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد شعراً:-
فيك يا أغلوطة الفكري تاه عقلي وانقضى عمري
سافرت فيك العقول فما ربحت إلا أذى السفر
رجعت حسرى وما وقفت لا على عين ولا أثر
فلحا الله الأولى زعموا أنك المعلوم بالنظر
كذبوا إن الذي زعموا خارج عن قوة البشر
ولأمير المؤمنين عليه السلام في خطبة الأشباح في نهج البلاغة مالفظه؛ وماكلفك الشيطان علمه مما ليس عليك في الكتاب فرضه ولا في السنة أثره فكل علمه إلى الله فإن ذلك منتهى حق الله عليك، فإن الراسخين في العلم أغناهم الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب فمدح الله اعترافهم عن تناول ما لم يحيطوا به علماً، وسمّى بتركهم التعمق رسوخاً، فاقتصر على ذلك ولا تُقَدِّر عظمة الله على قدر عقلك فتكون من الهالكين، هو الذي ارتمت الأوهام لتدرك كنه صفاته، وغمضت مداخل العقول لتناول علم ذاته، ردعها تعالى فرجعت إذ جبهت معترفة أنه لا ينال كنه معرفته ولا يخطر ببال ذوي الرّويّات خاطرة من تقدير جلال عزته، وكلما خلق حجة له ودليلاً عليه وإن كان خلقاً صامتاً محجته بالتدبير ناطقة.
وقد اختلف في العقول بأن لله تعالى ماهية يعلمها ولانعلمها، فالذي عليه أهل العدل والخوارج وأكثر فرق الإسلام أنه ليس لله ماهية يعلمها ولا نعلمها. وقال الإمام يحي (عليه السلام) وأبو الحسين من العدلية وضرار وحفص الفرد من المجبرة: بل له ماهية يختص بعلمها، واختلفوا فالإمام يحي وأبو الحسين قالا: معناه أن الله تعالى يعلم نفسه على تلك الصفة التي يختص بعلمها. وقال ضرار وحفص الفرد: بل يعلم نفسه ويراها لقولهم بالرؤية فيرى نفسه على صفة لا نعلمها نحن، وقد تقدم في مسألة الرؤية ما يرشد إلى معرفة بطلان هذا القول. ثم نقول: لمن أثبت الماهيّة على الإطلاق، الماهيّة ما يتصور في الذهن وقد امتنع أن يتصوره الخلق حيث لم يتمكنوا إلاَّ من تصور المخلوقات اتفاقاً بيننا وبينهم، وهو تعالى لا يُعلم بالتصور اتفاقاً، فإن أرادوا بذلك ذاتاً لا يحيط بها المخلوق علماً فصحيح، وقد أقسم أبو
هاشم ما يعلم الله من ذاته إلاَّ مثل ما يعلمه هو.
قلت: هذه فرية ما فيها مرية ولقد ركب متن عمياء وخبط خبط عشواء لأن الله تعالى يقول{يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما}(طه:110) والله تعالى قد أحاط بكل شيء علما على معنى لا يغيب شيء عن علمه لا أن المراد كإحاطة الأسوار، وبتمام ذلك تم الكلام في باب التوحيد.
))باب العدل))
هو في اللغة يستعمل للفعل والفاعل، فحقيقته في الفعل هو توفير حق الغير واستيفاء الحق منه للغير وترك ما لا يستحق عليه، وحقيقته في الفاعل الموفِّر حق الغير والمستوفي الحق منه للغير والتارك أخذ ما لا يستحق على الغير.
وفي الاصطلاح: قال الوصي صلوات الله عليه: والعدل ألاَّ تتهمه. قال في الخلاصة: حقيقة العدل في اصطلاح المتكلمين هو الذي لا يفعل القبيح كالظلم والعبث ولا يخل بواجب كالتمكين لمن كلَّفه والبيان لمن خاطبه، وهذه حقيقة لا يندرج تحتها إلاَّ محقق واحد وهو الباري تعالى.
قلت: عندنا أنه لا يصح إطلاق القول بأنه يجب على الله تعالى واجب لإيهامه التكليف بل هو تفضل منه يفعله قطعاً. وقالت المعتزلة: أنه يجب على الله للمكلَّف ستة أمور فثلاثة ليس الموجب لها ابتداء، التكليف: وهو العوض على الألم والانتصاف بسبب التخلية، وقبول التوبة لبقاء التكليف، وثلاثة يوجبها ابتداء التكليف وهي التمكين، والإثابة، واللطف.
واعلم أن هذا الباب يشتمل على عشر مسائل ذكرها الشيخ في الكتاب وهي من الحادية عشرة إلى العشرين وقد شرع فيها فقال:
المسألة الحادية عشرة ((أن الله تعالى عدل حكيم))
أنه يجب على المكلَّف أن يعلم أن الله تعالى عدل حكيم وإذا كان كذلك كانت أفعاله كلها حسنة، ليس في أفعاله ما هو قبيح لا ظلم ولا عبث ولا سفه ولا كذب ولاشيء من القبائح، والقائل بأنه تعالى يفعل القبيح لا يكون قائلاً بالعدل، ومن قال فعله ليس بحسن ولا قبيح فكذا أيضاً، لأن القول بالعدل مما يستحق به الثواب، فمن قال إن أفعال الله ليست بحسنة ولا قبيحة فإنه يكون كاذباً، لأن الفعل لا يخلو من الحسن أو القبح، والقول بأنه تعالى لا يفعل القبيح هو مذهب الزيدية والمعتزلة والإمامية وكثير من أهل القبلة، لأنه لو فعله قبح منه إذ قبح الفعل لوقوعه على وجه من الوجوه كالظلم ونحوه، وحسنه لتعريه عن ذلك ونافى أن يكون عدلاً حكيماً.
والخلاف في ذلك مع المجبرة والحشوية فإنهم يقولون: إن كل قبيح يقع في العالم فهو فعل الله كالظلم والكذب ونحو ذلك (تعالى الله) عما يقولون علواً كبيراً، وهم موافقون لنا في أنه لا يجوز إطلاق القول بأنه تعالى يفعل القبيح لأن عندهم أنه تعالى يفعله ولا يقبح منه ، فخلافهم في المعنى دون اللفظ ويختلفون في ذات بينهم بعد اتفاقهم أنه يفعل الظلم ونحوه ولا يقبح منه تعالى. فالأشعرية قالوا:إنما لم يقبح منه تعالى لأن وجه قبح الفعل كون فاعله منهياً والنهي منتفٍ في حقه تعالى. وبعض المجبرة قالوا: (إنما لم) يقبح منه لكونه رباً لأن وجه قبح الفعل كون فاعله مربوباً، وهذه المسألة أعني مسألة أن الباري يقبح منه القبيح لو فعله فيجب نفيه عنه عندنا لا عند مخالفينا من المجبرة هي أصل مسائل العدل. فإذا تقرر بطلان قول المخالفين فيها بطل كل قول لهم يتفرع منها.
فنقول: قول الأشعرية أن القبيح لا يقبح منه تعالى لكونه غير منهي باطل، لأن العلة في قبح القبيح ليست هي النهي لأنه قد يستقبح الفعل من لا يعلم النهي كالملحدة النافين للصانع فإنهم لا يعلمون الناهي فضلاً عن النهي، فلو كان علة قبحه هي النهي عنه لم يعلموا قبحه إذ لا يعلمون النهي. سلمنا لزم من ذلك أن يحسن الحسن للأمر لأن القبح يقابل الحسن والنهي يقابله الأمر فلا يحسن من الله حسن لأنه غير مأمور جل وعلا، وقول بعض المجبرة: أنه لا يقبح منه تعالى قبيح لأنه غير مربوب باطلٌ أيضاً، لأن العلة في القبح لو كانت كون الفاعل مربوباً لما علم القبح من لا يعلم الرب كالملحدة النافين للصانع والمعلوم خلاف ذلك، ويلزمهم (في ذلك) أن تكون الأفعال كلها قبيحة لأن نسبة الملك والربوبية إليها نسبة واحدة، فقبح بعضها من دون بعض تخصيص من غير مخصص وهو محال، ثم أنَّا لو جوزنا أن الله تعالى يفعل نحو الكذب لزم أن لا يوثق بخبره تعالى وذلك تكذيب لله تعالى حيث يقول{لا ريب فيه}(البقرة:02) وقوله تعالى{لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه}(فصلت:42).
ولنا أيضاً دليل الكتاب وهو قوله الدليل على ذلك أي القول بأنه تعالى عدل حكيم لا يفعل القبيح أنه تعالى عالم بقبح القبيح هذا الدليل مبني على أربعة أصول:
الأول: أنه تعالى عالم بقبح القبيح إذ هو عالم بالذات على ما تقدم ومن حق العالم بالذات أن يعلم جميع المعلومات إذ لا اختصاص لذاته بمعلوم دون معلوم والقبائح من جملة المعلومات فيجب أن يكون عالماً بها على ما هي عليه.
والثاني: أنه تعالى غني عن فعله لما قدمنا من أنه تعالى غني فلا تجوز عليه الحاجة إلى شيء أصلاً فيدخل تحت ذلك الحسن والقبيح.
والثالث: أنه تعالى عالم باستغنائه عنه إذ هو عالم بذاته تعالى كما مرَّ.
والرابع: أن كل من كان بهذه الأوصاف فإنه لا يفعل القبيح ولا يختاره ولا يرضاه.
والذي يدل على ذلك ما نعلمه في الشاهد أن الواحد منا إذا كان عاقلاً عالماً بقبح الكذب وقيل له إن صدقت أعطيناك درهماً وإن كذبت أعطيناك درهماً فإنه لا يختار الكذب على الصدق وإنما لا يختاره لعلمه بقبح الكذب وغناه عن فعله وعلمه بغنائه عن فعله إذ لو زال عنه بعض هذه الأوصاف لم يكن عالماً بقبح الكذب بأن يكون زائل العقل أولم يكن مستغنياً عنه بالصدق بأن يزاد في الأجرة على الكذب زيادة لا يستغني عنها أولم يكن عالماً باستغنائه عنه بأن يعتقد أن الدرهم المتعلق بالكذب أوفى من الدرهم المتعلق بالصدق وإن كان ذلك جهلاً منه وأنه في جميع هذه الأحوال لا يمتنع أن يختار الكذب على الصدق فعلمنا بذلك أن الواحد منا إنما يمتنع من الكذب لاجتماع هذه الأوصاف. فإذا ثبت ذلك علمنا أن الله تعالى أعلم العلماء بقبح القبيح وأغنى الأغنياء عن فعلها، وأعلم العلماء باستغنائه عنها فهو أولى أن لا يختار فعل شيء منها. فبهذه الطريقة ثبت أن الله تعالى عدل حكيم ومن العدل والحكمة أن لا يفعل القبيح كما مرَّ.
المسألة الثانية عشرة ((أن أفعال العباد حسنها وقبيحها منهم))
في أفعال العباد، والفعل على ضربين مخترع وغير مخترع، فحقيقة المخترع ما وجد من جهة القادر عليه لا فيه ولا بسبب فيه. وقالت البغداذية: إنه الفعل الواقع من الفاعل بغير آلة وسبب، وغير المخترع على ضربين مباشر ومتعدٍ، فحقيقة المباشر ما وجد من جهة من كان قادراً عليه في محل قدرته وهو على ضربين مبتدأ ومتولد، فحقيقة المبتدأ ما وجد من جهة القادر عليه في محل قدرته من غير واسطة وذلك نحو الإرادة والكراهة والظن والنظر، وحقيقة المتولد ما وجد من جهة القادر في محل قدرته بواسطة فعل وذلك نحو العلم فإنه يحصل بواسطة النظر وكذلك غيره مما يوجد متولداً فينا كالتأليف
والكون والاعتماد، وأما المتعدي فحقيقته ما وجد من جهة من كان قادراً عليه متعدياً عن محل قدرته بواسطة في محلها. واختلف الناس في أفعال العباد بعد الاتفاق على أنها منسوبة إليهم في الجملة. فذهب أهل العدل كافة وهم الزيدية والمعتزلة وبه قالت الخوارج وبعض الإمامية وهو قول أكثر الفرق الخارجة عن الإسلام إلى أن أفعال العباد جميعها الحسن منها والقبيح والمبتدأ والمتولد غير مخلوقة فيهم بل هي منهم وفعلهم وتأثيرهم ونسبتها إليهم حقيقة كنسبة أفعال القديم إليه، ولا يصح القول بأنها من الله تعالى وخلقه وتأثيره البتة.واختلف المعتزلة في ذلك فقال أبو الحسين: كون أفعال العباد منهم معلوماً بالضرورة حتى أن الصبيان يعلمون ذلك، ألا ترى أنك لو رأيت صبياً يبكي فقلت: من ضربك؟ فقال: فلان، فنسب الضرب إلى فاعله،قال والمجبرة لا يناظرون في هذه المسألة لأنهم أنكروا الضرورة. وذهب أكثر المعتزلة إلى أنها استدلالية وأن المعلوم ضرورة إنما هو نسبتها إليهم جملة وهو الفرق الذي نجده بينها وبين الصور والألوان، وقد صرح جماعة من الأشاعرة أيضاً بأن هذا الفرق ضروري، وأما الكلام بأن المؤثر فيها هو قدرتنا أو قدرة القديم تعالى فأمر وراء ذلك لا يعلم إلاَّ بالاستدلال. وقد خالف في ذلك طوائف المجبرة وبه سمّوا مجبرة لقولهم أن العبد مجبر على فعله أي مكره عليه لا اختيار له فيه وابتدأ مذهبهم من معاوية وظهر في سلطان بني أميَّة ولهذا يقال الجبر أموي والعدل هاشمي، وهم مجمعون على أن أفعال العباد جميعها من الله تعالى وأنه أحدثها وأنها واقعة بقضاءه وإرادته.ثم اختلفوا، فقالت الجهمية وهم جهم بن صفوان ومتابعوه: لا فعل للعبد البتة بل جميع ما يصدر منه فهو فعل الله وإنما
أضيف إلى العبد لأنه طرفه كما يضاف إليه اللوم فنسبة الكل إليه عندهم من باب المجاز، فقام وقعد وصلى وصام مثل طال وقصر وأبيض وأسود كما تضاف حركة الشجرة إليها وهي تحرك بتحريك الله تعالى وإرادته من غير تصرف لها في تلك الحركة ولا اختيار .
ومذهب جهم هذا حدث في زمن الظاهرية من بني العباس ظهر بنيسابور ومات قتلاً. وذهبت (النجارية والكلابية) وضرار بن عمرو وحفص الفرد إلى أن جميع أفعال العباد منهم خلق له كسب للعبد فأثبتوا لفعل العبد جهتين كونه خلقاً وكونه كسباً لما رأوا من بطلان قول الجهمية للفرق الضروري بين أفعالنا وألواننا ونحوها لكنهم أثبتوا ما لا يعقل فكانوا أعظم جهلاً من الجهمية. وذهبت الأشعرية إلى الفرق بين المباشر والمتولد فقالوا في المتولد بقول الجهمية وفي المباشر بقول النجارية ومن ذكر معهم، فكانوا أعظم في الجهالة ممن تقدمهم لذهابهم إلى الفرق من غير فارق، وأما متأخروا علمائهم كالجويني والغزالي والرازي وأبي إسحاق الإسفرائيني وقاضيهم الباقلاني فلم يذهبوا إلى شيء من ذلك بل ذهبوا إلى أن قدرة العبد هي المؤثرة لكنهم جعلوها موجبة مقارنة فلزمهم نسبة الأفعال إلى الله لأن فاعل السبب فاعل المسبب. وأما المطرفيَّة فإنهم يقولون: الفعل الموجود في الفاعل من جهته والذي في غيره من (جهة الله) .
والدليل على ذلك المذهب الصحيح وهو مذهب أهل العدل ومن وافقهم أن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم بل هي موجودة بإحداثهم وتأثيرهم وإرادتهم أنه يحسن أمرهم ببعضها ونهيهم عن بعض وثوابهم ومدحهم على الحسن منها. وحقيقة الحسن مالا يستحق على فعله الذم فيشمل الواجب والمندوب والمباح والمكروه وأنت خبير بأنه لا مدخل للثواب في المباح أصلاً ولا فعل المكروه بل في تركه، فإطلاق أنه يحسن الثواب على الحسن لا يخلو من خبط، اللهم إلاَّ أن يكون المراد به المعنى الخاص وهو ما فعله أولى من تركه كالواجب والمندوب فقط فذلك مستقيم ولكن المعنى الأول هو المراد حيث أطلق في هذا الفن وعقابهم وذمهم على القبيح منها. والقبيح له حقيقتان: حقيقية، ورسمية، فالحقيقية هو ما ليس للقادر عليه المتمكن من فعله الإقدام عليه على الإطلاق، والرسمية هو ما إذا فعله من كان قادراً عليه استحق الذم على بعض الوجوه، وقولنا على بعض الوجوه نحترز عن الخطأ وما يصدر عن النائم والساهي من القبائح وكذلك أفعال الصبيان والبهائم وكذلك المسبب للقبيح إذا تراخى عن سببه إذا وقعت التوبة قبل حصوله فإن هذه قبائح ولا يستحق على فعلها الذم. فثبت أن أفعال العباد يتعلق بها الثواب والعقاب والمدح والذم. فلو كانت من الله لما حسن فيها شيء من ذلك كما لم يحسن شيء من ذلك على صورهم وألوانهم، فإذا حسن ثوابهم وعقابهم ومدحهم وذمهم على أفعالهم ولم يحسن شيء من ذلك على صورهم وألوانهم علمنا الفرق بين أفعال العباد وبين الصور والألون ودل ذلك على أن أفعالهم منهم لا من الله تعالى وذلك متقرر في عقل كل عاقل. دليل ثانٍ: وقوع الفعل بحسب داعي العبد وإرادته وانتفاؤه بحسب صارفه وكراهته ولو كانت منه تعالى ما كانت
فيها هذه القضية فهذان أصلان: والذي يدل على الأول أن الواحد منا إذا دعاه الداعي المكين إلى إيجاد فعل منها حصل منه لا محالة، ومتى كرهه أو منعه منه مانع لم يحصل، والذي يدل على الثاني أن أفعالنا لو كانت من الله تعالى لجرت مجرى الصور والألوان فكما أن صورهم وألوانهم لا توجد بحسب قصودهم ودواعيهم ولا ينتفي بحسب كراهتهم وصوارفهم لما كانت (فعل الله) فكذلك كان يجب في أفعالنا لو كانت منه (تعالى). فلما علمنا الفرق بين الأفعال وبين الصور والألوان دل ذلك على أن أفعالنا منا لا من الله تعالى. دليل ثالث: هو أن أفعال العباد لو كانت من الله لوجب أن يشتق له منها اسماً فيسمى بفعله للظلم ظالماً وبفعله للجور جائراً، كما أنه لما كان فاعلاً للعدل والإحسان سمي عادلاً ومحسناً ولاشك أن من وصف الله تعالى بالظلم والجور فقد خرج عن دائرة المسلمين ودخل في زمرة الملحدين، فبطل إضافتها إلى الله تعالى. وأما ما يتعلق به أهل الكسب فهو تعلق لا طائل تحته وركون إلى غير معقول، وإنما غرضهم بذلك الفرار مما ألزمهم أهل العدل من قبح الأمر والنهي وإنزال الكتب وإرسال الرسل، لأن الأفعال إذا كانت خلقاً لله تعالى لم يحسن إرسال الرسل ولا إنزال الكتب، لأن لهم أن يقولوا إذا كانت أفعالنا خلقاً لله سبحانه فينا فلأي غرض جئتمونا فإرسالكم يكون قبيحاً لأن الله تعالى إن فعلها فينا حصلت وإن لم يفعلها لم تحصل، فلا فائدة حينئذ في إرسالكم إلينا، ثم أنا نقول لهم الكسب لا يخلو إما أن يكون شيئاً خلقه الله أو شيئاً لم يخلقه الله، فإن قالوا هو شيء خلقه الله فقد لحقوا بمقالة الجهمية ولزمهم ما ألزمناهم وإن قالوا هو شيء لم يخلقه الله فقد أثبتوا العبد فاعلاً لشيء لم يخلقه
الله سبحانه وهو الذي نريد، ولأن المعقول من الكسب في لغة العرب هو إحداث الفعل لجلب منفعة إلى الفاعل أو دفع مضرة عنه، ولهذا لم نجز أن يسمى الباري سبحانه مكتسباً لاستحالة المنافع والمضار عليه، فإذا ثبت أن العبد محدِث لفعله بطل ما تعلقوا به من الكسب ووجه إضافته إلى العبد من كل وجه من الوجوه، وقد أضاف الله تعالى أفعال العباد إليهم في كتابه الكريم بمعنى الفعل والخلق والعمل والكسب فقال تعالى{والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلاَّ الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون}(آل عمران:135) وقال { وتخلقون إفكاً}(العنكبوت:17) وقال تعالى{وإذ نخلق من الطين كهيئة الطير}(المائدة:110) وقال تعالى{يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً}(آل عمران:30) وقال تعالى{ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون}(المؤمنون:63) وقال {ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به برياً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً}(النساء:112). فإذا تطابقت الأدلة من العقل والسمع على أن أفعال العباد منهم لم نجز إضافتها إلى الله تعالى، قالوا: قال الله تعالى{والله خلقكم وما تعملون}(الصافات:96) وما مصدرية أي وعملكم.
قلنا: بل هي موصولة ومعناه و خلقكم والحجارة التي تعملونها أصناماً بدليل أول الكلام وهو قوله تعالى{أتعبدون ما تنحتون}(الصافات:95).فثبت بذلك الذي ذكرنا من الأدلة القطعية.مذهبنا أن العباد أفعالهم منهم لا من الله وبطل ما ذهب إليه المخالفون، وأما ما ذهب إليه ابن الولهان من أن فعل المعصية ليس من العبد بل من الشيطان يدخل في العبد فيغلبه على جوارحه ويتصرف بها ،فباطل لأنه لو كان كذلك لم يجز العقاب عليها (لأن ذلك ظلم ولا يظلم ربك أحداً) وقد قال تعالى{ولا تزر وازرة وزر أُخرى}(الإسراء:15).
تنبيه:
ذهب جهم بن صفوان ومتابعوه إلى نفي القدرة للعبد أصلاً وقال لا قادر إلاَّ الله تعالى، والعقل وصريح القرآن من نحو قوله تعالى{من عمل صالحاً فلنفسه}(فصلت:46) شاهد أن نُكَذِّب قوله.وقالت العدلية وأكثر المجبرة: بإثباتها للعبد،وافترقوا،فقالت العدلية لها ثلاثة أحكام: أولها أنها متقدمة على المقدور وجوباً وأقله يؤقت.وثانيها أنها غير موجبة له بل إنما توجب بها على جهة الاختيار.وثالثها أنها صالحة للضدين ووجود أحدهما دون الآخر باختيار القادر ليس إلاَّ،قالوا: وهذه الثلاثة الأحكام متلازمة فيلزم من القول بأحدها القول بالآخرين.وذهب النجارية إلى العكس فجعلوها مقارنة موجبة غير صالحة .
قلنا: دليل الأول أنها لو قارنت لما تعلق الفعل بالقادر لأنه قبل وجوده غير قادر عليه لعدم القدرة وبعد وجوده لا اختيار له فيه ولا تعلق له به بل إنما يكون تعلقه بفاعل القدرة،وأيضاً فلا يكون إيجاد أحدهما للآخر بأولى من العكس.ودليل الثاني: أنها لو أوجبت مقدورها لزم أمران أحدهما:أن لا يتعلق الفعل بالقادر ولا ينسب إليه البتة بل إنما يتعلق بفاعل القدرة لأنها موجبة له وفاعل السبب فاعل المسبب وكون القادر محلاً للسبب غير موجب تعلقه بمسببه كما في حركة الشجرة فإنها تنسب إلى فاعل سبب التحرك فيها لا إليها نفسها.
فإن قيل: غاية ما يلزمهم القول بالجبر وهو عين مذهبهم الذي يظهرونه ويفتخرون به .
قلنا:تعلق الفعل بفاعله والفرق بين حركة الصاعد والساقط ضروري ومتفق عليه فيلزمهم نفيه وهو بيِّن الاستحالة.وثانيهما:أنه يلزمهم أن لا يكون الكافر قادراً على الإيمان لعدم وجوده منه، وعدم الموجَب يدل على عدم الموجِب وهو مكلف به قطعاً مع عدم القدرة عليه فيكون تكليفه له تكليفاً لما لا يطاق وأكثرهم لا يقولون بجوازه وأكثر من قال بجوازه لا يقول بوقوعه.ودليل الثالث: أنها لو لم تصلح للضدين لجوزنا أن نقدر على حركة يمنة أميالاً وفراسخ دون حركة يسرة شيئاً يسيراً لأن إحدى الحركتين ضد الأخرى والضرورة ترد ذلك وترفعه.واعلم أن العدلية قد اتفقت على انقسام فعل العبد إلى مبتدأ وهو الموجود في محل القدرة ومتولد وهو ما ليس كذلك.واختلفوا في المتولد فالذي عليه الزيدية بأسرهم وجمهور المعتزلة أن فعل العبد وتأثيره كالمبتدأ.
والخلاف في ذلك مع النظام والجاحظ وثمامة بن الأشرس وصالح قبَّة، ثم افترقوا، فمنهم من قال: لا فعل للعبد إلاَّ ما كان مباشراً، وأما المتعدي فليس هو فعل له وهذا قول معمر والنظام وصالح قبَّة، ثم افترقوا، فقال النظام: المتعدي مضاف إلى الله تعالى بواسطة الطبع،وقال معمر إلى الطبع وليس بمضاف إلى الله وعنده أنه لا فعل لله غير المتحيز،ومنهم من قال: لا يفعل العبد سوى الإرادة وما عداها غير متعلق بالعبد وهذا قول الجاحظ وثمامة بن الأشرس، ثم افترقا ، فقال الجاحظ: ماخلا الإرادة فهو حاصل بالطبع،وقال ثمامة: حدث لا محدث له.قال الدواري: واعلم أن المجبرة أحسن حالاً من هؤلاء وأدخل في العذر في نفي الفعل عن العبد لأن المجبرة اعتقدوا قبح اعتقاد أن يكون في الأحياء فاعل ومحدث غير الله تعالى فلم يكن لهم بد من نفي الفعل عن الواحد منَّاوإضافته إلى الله تعالى وهؤلاء اعترفوا بأن العبد محدث لبعض الأفعال فلا معذرة لهم في نفي غيرها عن كونهم محدثين لها،والدلالة على أن العبد محدث للجميع واحدة والطبع الذي جعله الجاحظ مؤثراً وجعله النظام واسطة وهو غير معقول، فإن أرادا به الاعتماد كان كقولنا ويلزمهم أن لا يجوز القصاص ولا العقاب إلاَّ على الإرادة على قول الجاحظ وثمامة أو المباشر على قول النظام ومعمر،وإن سلم لزم استواء عقاب من قتل زيداً وعقاب من أراد قتل عمرو والاقتصاص منهما،وكذلك يلزم استواء من قتل بالمتعدي ومن فعل فعلاً مباشراً ولم يقتل به وذلك باطل.
المسألة الثالثة عشرة ((أن الله لا يقضي بالمعاصي))
أنه لا يجوز إطلاق القول بأن المعاصي من قضاء الله وقدره وإنما جعلت هذه من مسائل العدل وإن كان المراد بباب العدل بيان ما يحسن من الباري ويقبح وهذه مما يقبح منَّا إطلاقه لتضمنها أن الباري غير خالق للمعاصي ولا أمر بها وسائر أفعالنا حكمها أنه غير خالق لها ولا أمر ببعضها،وخالفت المجبرة وجوَّزت إطلاق القول بأن المعاصي بقضاء الله وقدره بل لهجهم بذلك وتقحمهم عليه كثير، والدليل على مذهبنا وفساد ما ذهبوا إليه، أن القضاء والقدر لفظتان مشتركتان بين معانٍ،فالقضاء بمعنى الخلق والتمام قال تعالى{فقضاهن سبع سماوات في يومين}(فصلت:12) معناه أتم خلقهن،وبمعنى الإلزام قال تعالى{وقضى ربك ألاَّ تعبدوا إلاَّ إياه}(الإسراء:23) معناه أمر وألزم،وبمعنى الإخبار والإعلام قال تعالى{وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً}(الإسراء:04) معناه أخبرنا وأعلمنا،فهذه ثلاثة معانٍ.والقدر له ثلاث معانٍ أيضاً بمعنى الخلق قال تعالى{وقدَّر فيها أقواتها}فصلت:10) معناه خلق فيها أقواتها،وبمعنى العلم قال تعالى{يُنزل بقدَر ما يشاء}(الحجر:21) وقال تعالى {إلاَّ امرأته قدرناها من الغابرين}(الحجر:60) معنى ذلك علمنا من حالها،وبمعنى الكتابة وفي الأساس بمعنى الإعلام قال العجاج:
واعلم بأن ذي الجلال قد قدر في الصحف الأولى التي كان سطر
أمرك هذا فاجتنب منه التبر
بمعنى الهلاك ويروى النتر بالنون والتاء فيكون معناه الفساد.
قال في الأساس: وبمعنى الأجل قال تعالى{إلى قدر معلوم}(المرسلات:22) وبمعنى الحتم قال تعالى{وكان أمر الله قدراً مقدوراً}(الأحزاب:38) ودليل اشتراك القضاء والقدر في معانيهما المذكورة انهما إذا أطلقنا لم يسبق إلى فهم السامع بعض معانيهما دون بعض إلاَّ بقرينة وهذه علامة الاشتراك، وإذا ثبت اشتراك كل واحد منهما بين كل من معانيه فنحن نقطع بأن بعض هذه المعاني صحيح وبعضها فاسد إطلاقه على الباري خطأ،فإذا أطلقناهما مع ثبوت ذلك قطعنا على أن إطلاقهما يوهم المعنى الفاسد وهو أنه تعالى خلقهما كما تقوله المجبرة، وذلك أصل قد أبطلناه فلا ثبوت له حينئذٍ ولا يجوز القول به، لأنَّا قد بيَّنا بالدليل القطعي فيما مرَّ أن العباد أفعالهم منهم وحدوثها على حسب دواعيهم وانتفاؤها على حسب صوارفهم لا منه تعالى.
وإذا تقرر ذلك علمنا أن ذلك المعنى في حق الباري فاسد، فإطلاق اللفظين المذكورين يوهمه وكل لفظة هذا حالها فإنه لا يجوز إطلاقها،وليس العلة مجرد الاعتقاد بحيث يصح الإطلاق مع اعتقاد المعنى الصحيح لأنه إن لم يكن هناك اعتقاد فربما توهم السامع الخطأ في المتكلم وإن لم يكن هناك آدمي يعلمه المتكلم فيجوز أن يكون هناك آدمي وهو لا يعلمه المتكلم فإن قدَّر القطع على أنه ليس هناك آدمي فإن الملائكة والجن إذا سمعوا ذلك منه توهموا الخطأ منه في اعتقاده وتعريض المكلَّف نفسه للتهمة باعتقاد الخطأ،و لا يجوز لأن ذلك ضرر يلحق النفس ودفع الضرر عن النفس واجب.قال الدواري: وكان يلزم على أصول المجبرة ألاَّ يجوز إطلاق القول بذلك في جميع أفعالنا لأن من جملة معنى القضاء كونه بمعنى الأمر وهم ينزهون الباري تعالى عن الأمر بالمعاصي لقوله تعالى{إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون}(الأعراف:28).ولكن كان ذلك منهم للهجهم بالقضاء والقدر وتقحمهم للمهالك الموردة إلى النار لنسبتهم القبيح إلى مولانا ومولاهم نعوذ بالله من دأبهم،ثم أنه يقال لهم من قضى بعبادة الأوثان والنيران؟ فإن قالوا: الله تعالى أكذبهم القرآن لقوله تعالى{وقضى ربك ألاَّ تعبدوا إلاَّ إياه}(الإسراء:23) وإن قالوا: غير الله رجعوا إلى الحق وتركوا مذهبهم ولا شك أن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل.
تنبيه:
من جملة الألفاظ المشتركة الهدى والضلال، فالهدى قد يكون بمعنى الدعاء إلى الخير قال تعالى{وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى}(فصلت:17) وبمعنى زيادة البصيرة بتنوير القلب بزيادة في العقل قال تعالى{والذين اهتدوا زادهم هدى}(محمد:17) ومثله قوله تعالى{إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً}(الأنفال:29) أي تنويراً تفرقون به بين الحق والباطل.وبمعنى الثواب قال تعالى{يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار}(يونس:09) أي في حال جري الأنهار،وبمعنى الحكم والتسمية به قال الشاعر:
مازال يهدي قومه ويضلنا جهراً وينسبنا إلى الفجار
وإذا عرفت هذه المعاني فاعلم أنه يجوز أن يقال إن الله تعالى لا يهدي القوم الظالمين، بمعنى لا يزيدهم بصيرة لمَّا لم يبصروا أو لا يثيبهم أو لا يحكم لهم بالهدى ولا يسميهم به،ومقتضى ما قدمنا في القضاء والقدر أنه لا يجوز إطلاق القول بذلك بل مع القرينة المشعرة بأحد هذه المعاني الصحيحة وإلاَّ أوهم المعنى الفاسد،وهو بمعنى لا يدعوهم إلى الخير،وبفساد هذا المعنى قالت العدلية خلافاً للمجبرة فجوزوا أن يقال أن الله لا يهدي القوم الظالمين بمعنى لا يدعوهم إلى الخير.
قلنا: ذلك رد لما علم من الدين ضرورة لدعاء الله الكفار وغيرهم بإرساله إليهم الرسل وإنزاله الكتب وقال تعالى{فأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى}(فصلت:17) وقال تعالى{وإن من أمة إلاَّ خلا فيها نذير}(فاطر:24) والضلال بمعنى الإغواء عن طريق الحق قال تعالى{وأضلهم السامري}(طه:85) أي أغواهم عن الحق،وبمعنى الهلاك قال تعالى{أئذا ضللنا في الأرض إنا لفي خلق جديد}(السجدة:10) أي هلكنا،وبمعنى العقاب قال تعالى{إن المجرمين في ضلال وسعر}(القمر:24) أي في عقاب والسعر جمع سعير وهو العذاب المستعر أي المشتد،وبمعنى الحكم والتسمية كقول الشاعر:
مازال يهدي قومه ويضلنا جهراً وينسبنا إلى الفجار
أي يحكم على قومه بالهدى ويسميهم مهتدين وعلينا بالضلال ويسمينا ضالين.
وإذا عرفت هذه المعاني فاعلم أنه يجوز أن يقال أن الله يضل الظالمين بمعنىيحكم عليهم بالضلال ويسميهم به لما ضلوا، و بمعنى يهلكهم أو يعذبهم، ولا بد من التقييد بما ذكر لإيهام الإطلاق المعنى الفاسد وهو أن يكون المعنى يغويهم عن طريق الحق، وبفساد هذا المعنى قالت العدلية خلافاً للمجبرة.
قلنا: ذلك ذمّ لله تعالى وتزكية لإبليس وجنوده (لعنهم الله) وذلك كفر.
فائدة:
الطبع على القلب المشار إليه في القرآن بقوله تعالى{كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار}(غافر:35) والختم المذكور بقوله تعالى{ختم الله على قلوبهم}(البقرة:07)لا يمنع الكافر من الإيمان عند العدلية.وقالت المجبرة: بل يمنع والأكثر منهم فسروه بخلق الكفر وقيل هو خلق القدرة الموجبة له.
قلنا: كل من هذين التفسيرين فاسد لغة وعقلاً، أما اللغة فلم ينقل عن أحد من أهل اللغة وضعهما لما ذكروه، وأما العقل فَلِما تقدم من بطلان أن يكون الكفر بخلق الله وبإيجاب القدرة، وننقض تفسيرهم أيضاً بقوله {بل طبع الله عليها بكفرهم}(النساء:155) أي بسبب كفرهم فجعل الطبع غير الكفر، قال بعض العدلية واعتمده المهدي عليه السلام: ويجوز أن يكونا بمعنى جعل علامة لأن الطبع في اللغة هو الرقم الثابت، والختم هو السد والرتق فهما علامة جعلهما الله على قلب كل كافر مأيوس الإيمان كنقطة سوداء مثلاً كما ورد في بعض الآثار، وإنما جعل الله تعالى تلك العلامة ليتميز ذلك الكافر للملائكة وفيه نوع لطف لأحد المكلفين من الملائكة وغيرهم وإلاَّ كان عبثاً وهو لا يجوز على الله تعالى.
قال (إمام زماننا أيده الله) في الأساس: وفيه نظر لأنها إن كانت للحفظة كما ذكرتم فأعمال الكفار أوضح منها مع أنهم عليهم السلام لا يرون ما وراء اللباس من العورة كما ورد أنهم يصرفون أبصارهم عند قضاء الحاجة فبالأحرى أنهم لا يرون القلب والله غني عنها لأنه عالم الغيب والشهادة لا يعزب عنه شيء، قال أيده الله تعالى فالتحقيق أنه عبارة عن سلب الله إياهم تنوير القلب الزائد على العقل الكافي لأن من أطاع الله نوَّر الله قلبه قال تعالى{ومن يؤمن بالله يهد قلبه}(التغابن:11) وقال تعالى{والذين اهتدوا زادهم هدى}(محمد:17) وقال تعالى{إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً}(الأنفال:29) أي تنويراً كما مر ومن عصى الله لم يمده بشيء من ذلك مادام مصراً على عصيانه فشبه الله سلبه إياهم ذلك التنوير بالختم والطبع، وأما قوله تعالى{وعلى أبصارهم غشاوة}(البقرة:07) وقوله تعالى حاكياً{وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب}(فصلت:05) فتشبيه لحالهم حيث لم يعملوا بمقتضى ما سمعوا وأبصروا ولا بنصيحة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمن في أذنيه وقر فلم يسمع وعلى بصره غشاوة فلا يبصر وبمن بينه وبين الناصح حجاب لا تبلغ إليه نصيحته مع ذلك الحجاب.
واعلم أرشدك الله أن الأمة قد اتفقت على أن القدرية اسم ذم وقد ورد في ذمها من الآثار ما هو متفق على صحته وصرنا نترامى نحن والمجبرة بهذا الاسم، فنحن نقول القدرية هم المجبرة وهم يقولون بل أنتم القدرية.
قلنا: طريقة الإنصاف أن نتبع الدليل في ذلك ويشهد بما قلنا ثلاثة أدلة.
الدليل الأول أن القدرية لفظة مشتقة وهم يقولون بالقدر ونحن ننفيه والأسماء لا تشتق من النفي بل من الإثبات ولذلك سمي الثنوية ثنوية لإثباتهم الثاني ولم نسمَ بذلك لنفينا له.
فإن قيل: أنتم تقولون بقدرة العبد فهو منسوب إليها.
قلنا: فكان يجب ضم القاف.
فإن قيل: أنتم تقولون المعاصي بقدر العبد.
قلنا: لا نتولع بذلك وليس من عباراتنا.
الدليل الثاني أن لهجهم بإطلاق هذه العبارة والعرب يسمون من لهج بشيء باسم ذلك الشيء ولهذا سمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم تمرياً لبنياً لكثرة لهجه بهذين الجنسين، والمجبرة لا يفعلون صغيراً من الأفعال ولا كبيراً إلاَّ ويقولون قضى الله علينا بذلك.
الدليل الثالث أنا وجدنا في صحيح الأخبار أوصافاً للقدرية ليست إلا فيكم لأنه قد روي أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم:(صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي لعنهم الله على لسان سبعين نبيئاً وهم القدرية والمرجئة قيل يا رسول الله من القدرية؟ قال:الذين يعملون المعاصي ويقولون هي من الله سبحانه. وفي رواية هي من قبل الله وفي أخرى يقولون إن الله قدرها عليهم، قيل ومن المرجئة؟ قال: الذين يقولون الإيمان قول بلا عمل). وما قال صلى الله عليه وآله وسلم في القدرية نص صريح في أنهم هم القدرية لأنهم أهل هذه المقالة وليت شعري ما عذرهم قاتلهم الله، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لقدرية مجوس هذه الأمة وهم خصماء الرحمن وشهود الزور وجنود إبليس) وطريقة الإنصاف أنا ننظر فيمن وجدت فيه هذه الأوصاف فهو المراد بالقدرية، أما كونهم مجوس هذه الأمة فليس المراد مذهب المجوسية على الحقيقة إذ ليس في هذه الأمة مجوس بل المراد من مذهبه أشبه بمذهبهم، وقد نظرنا فإذا هم أشبه بهم إذ قالوا القادر على الخير لا يقدر على الشر كالكفر لأن القدرة غير صالحة للضدين وهذا بنفسه عين مذهب المجوس على (ما تقدم) ، وأما كونهم خصماء الرحمن فلأنهم هم المخاصمون للرحمن فإنه إذا احتج يوم القيامة على العصاة وأظهر أنهم أتوا من قبل أنفسهم وأنه ليس ظالماً لهم، قامت المجبرة فردوا عليه الحجة، وقالوا: بل أنت الذي خلقت فيهم العصيان وخاطبتهم بما لا قدرة فيهم عليه وهو الطاعة ثم أخذت الآن فعاقبتهم على فعل ذلك وتوبخهم عليه، وأما كونهم شهود الزور فإن الله تعالى إذا سأل الشياطين لِم أضللتم العباد وأغويتموهم؟ قالوا أنت الذي أظللتهم وأغويتهم ثم لا يجدون من يشهد لهم إلاَّ المجبرة دون سائر
الأمم، قال بعض المفسرين قوله تعالى{ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودَّة}(الزمر:60) واردة في المجبرة لأنهم يحشرون فيخرج من أفواههم دخان فيقع على وجوههم فتسود بذلك وجوههم، وأما كونهم جنود إبليس فإنهم الذين يتعصبون لإبليس ويحتجون له على مقالته رب بما أغويتني، ويقولون: إنه غير مستحق للذم والبراءة لأنه لا فعل له بل الله هو المظل والمغوي. وإذا ثبت حصول هذه الأوصاف فيهم كانوا هم المرادين بالقدرية من غير شك ولا مرية، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تجالسوا القدرية ولا تفاتحوهم) وهذا خبر متلقى بالقبول. وطريقة الإنصاف: أنا ننظر من في مجالسته مفسدة فلما نظرنا وجدناهم المجبرة لوجوه: أحدها:أن مجالستهم تؤدي إلى إساءة الظن بالله من حيث أنهم يجوزون صدور كل قبيح منه تعالى.الثاني: أن مجالستهم تؤدي إلى الاستهزاء بكلام الله تعالى لأن السامع متى سمع الأمر والنهي والوعد والوعيد وهو يعتقد ما يعتقدونه استهزأ بالخطاب العزيز ويقول إن فعلها فينا وجدت وإن لم يفعلها فينا لم توجد فلأي شيء أمرنا و نهانا؟.الثالث:أنه يؤدي إلى التمادي في المعصية من حيث أنه يعتقد أن الله تعالى فاعلها ويستمر على ذلك ويقول الفعل لغيري وهو الله تعالى.الرابع: أنه يؤدي إلى التكاسل عن الطاعة متى سمعهم يقولون إن الطاعات فعل الله تعالى لأن من لا يقدر على شيء لا يهتم بفعله.الخامس:أنه يؤدي إلى أن الله تعالى لا يستحق العبادة لأن من مذهبهم أنه يجوز أن يكون الله تعالى لم يفعل هذه المنافع قاصداً بها وجه الإحسان إلينا بل من غير فضيلة أو فعلها استدراجاً لنا بها إلى النار فإذا كان كذلك لم يستحق العبادة لأنها لا تستحق إلاَّ على أصول النعم وفروعها
والنعم من حقها أن يقصد بها فاعلها وجه الإحسان.وقد روي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه لما قفل من صفين قال له شيخ ممن كان معه: أترى يا أمير المؤمنين أن مسيرنا إلى الشام كان بقضاء الله وقدره؟ فقال عليه السلام: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما علونا تلعة ولا هبطنا وادياً إلاَّ بقضاء الله وقدره.فقال الشيخ: عند الله أحتسب عنائي ما أرى لي من الأجر شيئاً،فقال علي عليه السلام: مه أيها الشيخ لعلك ظننت قضاءً لازماً وقدراً حتماً، لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب وسقط الأمر والنهي،ولما كانت محمدة من الله لمحسن،ولا مذمة (من الله) لمسيء،ولما كان المحسن بثواب الإحسان أولى من المسيء،ولما كان المسيئ (بعقوبة المذنب) أولى من المحسن، فتلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشيطان وخصماء الرحمان وشهود الزور وأهل العمى في الأمور قدرية هذه الأمة ومجوسها،إن الله تعالى أمر تخييراً،ونهى تحذيراً،وكلَّف يسيراً،لم يعص مغلوباً،ولم يطع مكرهاً،ولم يرسل الرسل عبثاً،ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار.قال الشيخ: فما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلاَّ بهما؟ فقال علي عليه السلام: الأمر من الله والحكم ثم تلا قوله تعالى{وقضى ربك ألاَّ تعبدوا إلاَّ إياه} فنهض الشيخ مسروراً وأنشأ يقول:
أنت الإمام الذي نرجوا بطاعته يوم النشور من الرحمان رضوانا
أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً جازاك ربك عنَّا فيه إحسانا
نفسي الفدا لخير الناس كلهم بعد النبي علي الحبر مولانا
نفى الشكوك مقال منك متضح وزاد ذا العلم والإيمان إيمانا
فليس معذرة في فعل فاحشة يوماً لفاعلها ظلماً وعدوانا
كلا ولا قائل ناهيه أوقعه فيها عبدت إذن يا قوم شيطانا
وهذا الخبر نص صريح في أن القدرية هم المجبرة وكلامه عليه السلام عندنا حجة.
وقد أوردوا شبهة تعلقوا بها: وهي ما يروونه من المناظرة بين آدم وموسى عليهما السلام فإنهم قالوا: إن آدم وموسى اتفقا في السماء فقال موسى لأدم: أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته فَلِمَ عصيته؟ فقال آدم أترى أن المعصية التي فعلتها كتبها الله علي قبل خلقي بألفي عام أم لا. فقال موسى بل كتبها عليك.كذلك فقال آدم: فَلِمَ تلومني على شيء كتبه الله علي؟ فانقطعت حجة موسى عليه السلام.
والجواب:من وجوه أحدها:أن هذا الخبر لم يصح من النبي صلى الله عليه وآله وسلم.والثاني:أنه من أخبار الآحاد. الثالث:أنه مخالف دلالة العقل ومحكم القرآن.الرابع:أنه لو صح ما ذكروه لوجب أن تكون الحجة لإبليس على آدم ولفرعون على موسى بأن يقول إبليس لمن ذمه وأنكر عليه مخالفته لربه كما رووا أن آدم عليه السلام احتج به، فكذلك يقول فرعون مثل ذلك، وهذا يوجب كون الحجة للعصاة على الله تعالى الله عن ذلك، وقد قال تعالى{لئلا يكون للناس على الله حجة}(البقرة:150) وإذا كان كذلك وجب رد هذا الخبر والقطع على أنه كذب على نبيئنا صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أنه يتقرر هذا لنا بأصل نرجع إليه قد قام عليه البرهان وهو أن سبق العلم بالمعاصي والطاعات ليس يدل على الجبر وعدم التمكن بل العلم سابق غير سائق،وكذلك سبق علمه بنزول المصيبة لا ينافي العوض عليها دليله أن الله تعالى عالم بسعادة المكلَّف بسبب عمله وهو فعله الطاعة وشقاوته بسبب عمله وهو فعله المعصية أو بنزول المصيبة بسبب عمله وهو الاستقامة فيكون امتحاناً أو الانحراف عن الطاعة فيكون عقوبة وربما كان منه دعاءٌ علّمه الله تعالى فيكون سبباً في عدم نزول المصيبة كما جاء في الأثر (إن الدعاء والبلاء يلتقيان في العرش فيعتلجان حتى تكون الغلبة للدعاء) وقد عرفنا أن (الله تعالى) قد علم أنه لو حصل ضد تلك الأسباب لحصل ضد المسببات،ألا ترى أن الله تعالى علم أنه صلى الله عليه وآله وسلم يولي فراراً من أهل الكهف ويملأ رعباً لو حصل منه بسبب ذلك وهو الاطلاع عليهم ،فلمَّا لم يحصل منه السبب لم يحصل المسبب وحصل (ضد السبب) فحصل ضد المسبب،فإذا فرضنا أن المطيع يعصي وأن العاصي يطيع وأن من تنزل به المصيبة يدعو
وانقلبت الحال لم يكشف عن جهل في حقه تعالى بعد علمه بالكل كما قررنا، ثم إن العلم ليس بجبر كعلمك بأن الكافر يعبد الصنم فليس علمك مجبراً له على ذلك، ويشهد بهذا ما جاء في الحديث عن عمر بن الخطاب قال : قال صلى الله عليه وآله وسلم:(مثل علم الله فيكم كمثل السماء التي أظلتكم والأرض التي تقلكم) فكما لا تستطيعون الخروج من السماء والأرض فكذا لا تستطيعون الخروج من علم الله وكما لا تحملكم السماء والأرض على الذنوب فكذلك لا يحملكم علم الله عليها. ولمَّا أورد الشيخ الحديث الذي في الكتاب استدلالاً على أنه لا يجوز إطلاق القول بأن المعاصي بقضاء الله وقدره، قال في آخر المسألة كما هي عادته فثبت بما ذكرنا من الدليل القطعي أنه لا يجوز إطلاق القول بأن المعاصي بقضاء الله وقدره وبطل ما قاله المخالف.
المسألة الرابعة عشرة ((أن الله لا يكلِّف عباده ما لا يطيقون))
أنه يجب على المكلَّف أن يعلم أن الله لا يكلف عباده ما لا يطيقون، وهذا هو قولالأكثر، واختلفوا، فقيل: لأنه قبيح كما يجيء في دليل الكتاب وهو تعالى لا يفعل القبيح كما مرَّ وهذا قول العدلية، ومنهم من قال: إنه لا يكلف ما لا يطاق لأنه تعالى لا ينفرد بفعل القبيح، ويقولون: يصح منه تعالى أن يكلَّف العبد ما لا يطيقه إذا كلَّفه بذلك غيره فيفعل ذلك مشتركاً وهذا قول النجارية، وعندهم أن تكليف الكافر بالإيمان ليس بتكليف لما لا يطاق وإن لم يكن فيه قدرة على الإيمان، قالوا: لأن الإيمان يصح من الكافر ويجوز ويتوهم فيحسن من الله ولا يقبح،ومنهم من قال: لا يكلف ما لا يطاق لا لقبحه فهو لا يقبح منه ولكن لعدم الداعي إذ لا داعي له إلى تكليف ما لا يطاق بل يستحيل عليه كما يستحيل على الواحد منَّا الداعي إلى تحريك الجمادات وهذا قول الغزالي. قال بعض أصحابنا: وقد ألزمنا المجبرة على قولهم بإيجاب القدرة وخلق الأفعال وعدم القبيح العقلي أن يكون الله تعالى قد كلَّف عباده ما لا يطيقونه وكانت المجبرة لا تلتزمه وإن لم يقولوا بقبحه عقلاً بل قالوا لأنه لا يليق من الحكيم لما فيه من النقص شاهداً، ولم يزالوا على ذلك حتى صرَّح أبو الحسن (بن بشر) الأشعري بجوازه على الله بناءً على قياس مذهبهم كما ذكرنا، قال بعض المحققين لما لا يطاق صوراً أربع:
الأولى: الجمع بين الضدين مما هو غير مقدور أصلاً لا له تعالى ولا لنا لأنه يستحيل الجمع بين الضدين من جهتنا ومن جهة الباري تعالى .
الثانية: مالا يطاق من جهتنا وهو مقدور للباري تعالى وهذا نحو إيجاد الأجسام وبعض الأعراض ونحو ذلك.
الثالثة: ما يصح منا جنسه إلا أنه لا يُمكنّا إيجاده على الوجه الذي يقع عليه من جهة الباري وهذا نحو الطيران.
الرابعة: ما يدخل تحت مقدورات القدر إيجاده في مقداره وصفته إلا أن العبد لم توجد فيه قدرة وذلك على زعمهم، فأما الصور الثلاث الأُول فإنهم ينفون على الله التكليف
بها، قالوا: لأن السمع ورد بأن الله تعالى لا يفعل ذلك وإن كان العقل يقضي عندهم بجواز ذلك من الله تعالى، وأما الصورة الرابعة فإنهم يجوزونها على الله تعالى ويقولون إن الله يكلف الكافر بالإيمان الذي يمكن غيره من المكلفين إيجاده وكلف الكافر ذلك ولا قدرة له على الإيمان. واختلف أصحابنا هل قبح تكليف مالا يطاق معلوم ضرورة أو استدلالاً؟ فقال أبو الحسين وابن الملاحمي: ذلك معلوم ضرورة جملة وتفصيلاً فلا يحتاج فساده إلى دليل، قالا: والمجبرة عوام وعلماء فالعوام تبع لعلمائهم والعلماء مكابرون ومتعصبون لمذهبهم الفاسد، والذي عليه الجمهور من أصحابنا أن قبح ذلك جملة معلوم ضرورة في الشاهد والغائب، وأما التفصيل فيحتاج إلى دليل ومن هنا قال الشيخ:-
الدليل على ذلك أي أن الله لا يكلف عباده مالا يطيقون ،أن تكليف ما لا يطاق قبيح وقد بينا فيما سلف بالدليل القطعي أن الله تعالى لا يفعل القبيح، وقد بينا فيما تقدم أيضاً بطلان أن تكون القدرة موجبة وغير صالحة للضدين وذلك هو أصل مذهبهم (هنا أنه) تعالى يكلف مالا يطاق. وإذا تقرر بطلان هذين الأصلين وهما أنه تعالى يفعل القبيح وأن القدرة موجبة غير صالحة بطل ما تفرع عليهما من القول بجواز تكليف مالا يطاق، لأنه إذا بطل الأصل بطل الفرع، ومتى قيل وما الذي يدل على أن تكليف مالا يطاق قبيح؟ قلنا: قبحه على الجملة هو معلوم ضرورة ولم تدر أنك أيها الخصم ممن يجهل الضروريات فإن غفل عقلك وتاه عن الصواب قلنا منبهين لك على أن ذلك ضروري، ألا ترى أنه يقبح في الشاهد من الواحد منا أن يأمر الأعمى بنقط المصحف نقطاً صحيحاً، وأن يأمر المقعد بالجري مع الخيل العربية، وأن يأمر من لا جناح له بالطيران، وقبح ذلك معلوم ضرورة، ولم يقبح ذلك إلاَّ لكونه (تكليفاً لما) لا يطاق لفقد ما يصح تعليق الحكم عليه سواه فصار القبح يدور على كونه تكليفاً لما لا يطاق وجوداً وعدماً، بدليل أنا متى علمنا أن ذلك تكليف لما لا يطاق قضينا بقبحه، ومتى لم نعلمه تكليفاً لما لا يطاق لم نقض بقبحه إذا لم يحصل هناك وجه آخر من وجوه القبح وليس هناك ما تعليق الحكم به أولى إذ لو كان هناك ما تعليق الحكم به أولى لجاز أن نعلمه تكليفاً لما لا يطاق ولا نعلم قبحه بأن لا نعلم ذلك الأمر المؤثر في القبح أو لجاز أن نعلم قبحه وإن لم نعلمه لا يطاق ولا علمنا وجهاً من وجوه القبح سوى ذلك، فلو كلَّف الله عباده ما لا يقدرون عليه لكان قبيحاً والله تعالى لا يفعل القبيح كما تقدم.
قلت وفي قول الشيخ: أن الذي يدل على أن تكليف مالا يطاق قبيح هو معلوم ضرورة ركاكة وقلقلة وكان الأولى في التعبير أن يقال وقبح تكليف ما لا يطاق معلوم ضرورة كما هو مؤدى عبارة((الخلاصة)). ومما يؤيد ما ذهبنا إليه قول الله تعالى{لا يكلف الله نفساً إلاَّ وسعها}و{إلاَّ ما آتاها}. وقوله{فاتقوا الله ما استطعتم}وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا أمرتم بأمر فأتوا به ما استطعتم). احتج المخالف: بأن الله تعالى كلف أبا جهل ما لم يطق حيث أمر أن يعلم بما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبالإيمان معاً، ومن جملة ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإخبار بأنه كافر فإعلامه به تكليف ويلزم التكليف بلازمه وهو الكفر مع الإيمان فالجمع بينهما لا يطاق.
الجواب: عن ذلك من وجهين:
أحدهما: ذكره في الأساس وهو أن كفر أبي جهل سبب الإعلام بأنه كافر ضرورة لا أن ذلك الإعلام سبب لحصول كفره، وإذا لم يكن الإعلام سبباً لم يلزم التكليف بالكفر ولأنه لم يكلف أبو جهل بالعلم بأنه كافر لحصوله عنده بسبب كفره إذ تحصيل الحاصل محال، وكذلك أمر الحكيم به محال. فثبت أنه لم يكلف إلاَّ بالإيمان فقط.
والثاني: ذكره بعض أصحابنا وهو أنه إنما كلفه بتصديق النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به على الجملة، لا في كل فرد إلاَّ فيما بلغه منها فقط، ولا نسلم أن هذا مما بلغه إذ لا يجب التبليغ إلاَّ إلى من له فيه مصلحة من حكم أو غيره ولا مصلحة لأبي جهل في ذلك. فثبت بذلك الذي قررنا من الأدلة وقطع شبهة المخالف أن الله تعالى لا يكلف عباده مالا يقدرون عليه وبطل ما قاله المخالف.
المسألة الخامسة عشرة ((أن الله تعالى لا يثيب أحداً إلاَّ بعمله ولا يعاقبه إلاَّ بذنبه))
أنه يجب على المكلَّف أن يعلم أن الله تعالى لكونه عدلاً حكيماً لا يثيب أحداً إلاَّ بعمله ولا يعاقبه إلاَّ بذنبه هذا مذهبنا. والخلاف في ذلك مع الأشعرية والحشوية والجهمية ويلزم المطرفية، أما الحشوية فإنهم قطعوا: أن الله يعذب أطفال المشركين بذنوب آبائهم يوم القيامة، وأما الأشعرية فيجوزون ذلك، والفريقان متفقان على أن الله تعالى يجوز أن يثيب بغير عمل ويعاقب بغير ذنب لأنه غير منهي فلا يقبح منه قبيح أصلاً، وأما المطرفية فإنهم يقولون: إن الله ما سوغ لنا ملك أولاد المشركين واسترقاقهم وإنزال المصائب بهم إلاَّ لأجل ذنوب آبائهم فألزمهم أهل العدل جواز أن يعاقبهم الله تعالى في الآخرة لأجل ذنوب آبائهم.
والدليل على ذلك: المذهب الصحيح وهو مذهبنا أن المجازاة بالثواب والعقاب لمن لا يستحقها قبح ، والله تعالى لا يفعل القبيح فهذان أصلان لابد من إقامة الدليل على كل واحد منهما.
أما الأصل الأول: فأخذ في بيان دليله فقال: أما الدليل على أنه لا يثيب أحداً إلا بعمله، فهو أن الثواب يتضمن التعظيم لا يخفى ما في هذه العبارة من الركة لأن الاشتغال بإبانة أن الثواب لمن لا يستحقه قبيح وفي تصدير الكلام بقوله أما الدليل على أنه لا يثيب أحداً إلاَّ بعمله رجوع إلى نفس المسألة لا إلى الاستدلال على أصلها المبنية هي عليه وبيان ما قصده الشيخ أن الثواب في اصطلاح المتكلمين، المنافع المستحقة المفعولة على جهة التعظيم، فقولنا المنافع جنس الحد، وقولنا المستحقة يخرج التفضل لأن حقيقته هي المنافع التي ليست بمستحقة، وقوله على جهة التعظيم يخرج العوض واللطف، لأن حقيقة العوض المنافع المستحقة المفعولة لا على جهة التعظيم وحقيقة اللطف ما يدعو المكلَّف إلى فعل ما كُلِّف فعله أو ترك ما كلِّف تركه أو إلى مجموعهما على الوجه الذي كُلِّف به.
وقال في الأساس: هو تذكير بقول أو غيره حامل على فعل الطاعة وترك المعصية.قال المهدي عليه السلام وأبو هاشم: ويجوز كون فعل زيد لطفاً لعمرو وتقدم اللطف بأوقات ولو قبل بلوغ المكلف ما لم يَصِر في حكم المنسي خلافاً لأبي علي.حجتنا عليه حصول الالتطاف بالمواعظ وهي فعل الغير وبأموات القرون الماضية وتهدم مساكنهم وهي متقدمة، فقد عرفت أن المنافع أربع تفضل وثواب وعوض ولطف، وأن الثواب هو المنافع المستحقة المفعولة على جهة الإجلال والتعظيم،فلو أوصلها الله إلى من لا يستحقها لكان قد عظم من لا يستحق التعظيم ومعلوم قطعاً أن تعظيم من لا يستحق التعظيم قبيح، دليله ما نعلمه في الشاهد ألا ترى أنه يقبح من الواحد منَّا تعظيم البهائم كتعظيم الأنبياء وتعظيم الأجانب كتعظيم الوالدين وأن يُنزل المسيء في باب التعظيم منزلة المحسن ولم يقبح ذلك لدليل منفصل بل إنما قبح ذلك لكونه تعظيم من لا يستحق التعظيم أي تعظيم الأنبياء وتعظيم الوالدين لا التعظيم المطلق فقد يكون الأجنبي مؤمناً يستحق التعظيم وهذه هي العلَّة في القبح لا غيرها إذ لا تجد ما تعليق الحكم به أولى فثبت أنها هي العلَّة، وإذا ثبت ذلك لزم من إثابة الباري من لا يستحق الثواب فعله القبيح وهو لا يصح منه تعالى كما مرَّ، ولهذه العلة قبح السجود للأصنام لأنه تعظيم من لا يستحق التعظيم. وأما الدليل على أنه لا يعاقب أحداً إلاَّ بذنبه، النظر هاهنا كما مرَّ لأن الاشتغال ببيان دليل أصل المسألة وهو أن عقاب من لا يستحق العقاب قبيح وهذا رجوع إلى نفس المسألة وفي بعض النسخ بلفظ لا يعاقب
من لا يستحق العقاب. فلأن عقاب من لا يستحق العقاب يكون ضرراً عارياً عن جلب نفع و دفع ضرر واستحقاق، وهذه حقيقة الظلم. قال الدواري: الأجود في حقيقته أن يقال هو الضرر العاري عن استحقاق أو جلب منفعة أو دفع مضرة، أو الضرر الذي لا يعرى عنها أو عن أحدها ولم يقض العقل أو الشرع بحسن ذلك الضرر أو العاري عن ظن جلب النفع أو دفع الضرر أو الذي لا يُعرى عن ظن ذلك ولم يكن فعله حسناً ولا يكون في الحكم كأنه في جهته غير فاعل الضرر، قلنا الضرر لأن النفع لا يكون ظلماً، قلنا العاري عن جلب منفعة أو دفع مضرة كما وصفنا لأن الضرر لأجل النفع أو دفع الضرر المذكورين لا يكون ظلماً كمن شرط أُذن ولده لدفع ضرر هو أعظم من ذلك، أو يقطع إصبعاً من يده خشية فساد جميع اليد، وكذلك إنزاله به مشقة السفر لما يرجو له من النفع الذي هو أعظم من تلك المشقة لا يكون ظلماً، قلنا أو استحقاق لأن المقتص من غيره عن نفس أو مال لما وجب له من القصاص لا يكون ظلماً وكذلك عقاب الله لأهل المعاصي بالنار والحدود. قلنا أو الظن للنفع أو دفع الضرر الموصوفين وذلك لأن ظنهما قائم مقام حصولهما لأن المنافع والمضار تقوم الظن مقام وقوع المظنون وهذا مما قضت به قضايا العقول، ولم يذكر فيهما ظن الاستحقاق لأنه لا يجوز إيلام الغير لظن الاستحقاق فلا تقتل شخصاً لظنك أنه قتل ولدك ولا نحو ذلك، هذا قول الزيدية وجمهور المعتزلة، وقال أبو هاشم بل يحسن لظن الاستحقاق.
قلنا:ولا يكون في الحكم كأنه من جهة غير فاعل الضرر ليحترز به من الملقى في النار والبحر فأن ضرره كان من جهة غير الله وإن كان الله هو الفاعل لذلك فكان الضرر من غيره وهو الملقي وتبعته عليه لأنه فعل الإلقاء وقد أجرى الله العادة بالهلاك عنده فكان الملقي هو المهلك. قال الدواري:قالا وأوجز من هذه الحقيقة ما ذكره المؤيد بالله عليه السلام والحاكم في حقيقة الظلم فقالا هو الضرر القبيح والدليل على أن ذلك الضرر ظلم أن من علم ضرراً هذا حاله علمه ظلماً ومن لم يعلمه بهذه الصفة لم يعلمه ظلماً بدليل ما ذكرناه في قيود الحد فثبت أن عقاب من لا يستحق العقاب ظلم، والظلم قبيح بدليل أن من علمه ظلماً علمه قبيحاً ومن لم يعلمه ظلماً لم يعلمه قبيحاً والله تعالى لا يفعل القبيح وقد جاء السمع بتصحيح ما ذكرنا قال الله تعالى{ولا تزر وازرة وزر أُخرى}(الإسراء:15) وقوله {وأن ليس للإنسان إلاَّ ما سعى}(النجم:39) وقوله تعالى{فكلا أخذنا بذنبه}(العنكبوت:40) ولا شك أن الطفل لا ذنب له فلا يجوز تعذيبه بذنب أبيه. وقوله تعالى{إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون}(يونس:44) ولا ذنب أعظم من تعذيب من لا ذنب له فيجب نفيه عن الله تعالى كما نفاه عن نفسه، ويدل على ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى في بعض الغزوات عن قتل (أولاد المشركين) فقيل يا رسول الله أوليسوا أولاد المشركين فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(أوليس خياركم أولاد المشركين كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعزب عنها لسانها إما شاكراً و إما كفوراً) وفي بعض الأحاديث(إنما أبواه يهودانه (ويمجسانه وينصرانه) ) قوله أوليس خياركم أولاد المشركين قال الدواري: يعني بذلك نفسه
المقدسة صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت:في ذلك تردد إذ الرواية مخنلفة في كون بعض آباء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ملل صحيحة فيكون كل آبائه مسلمين أو على الكفر فيكون بعضهم كفاراً وقد بسطنا القول في ذلك بعض البسط في شرح التكملة، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم على الفطرة المراد بها الخلقة الدَّالة على توحيد الله كما قال{فطر السموات والأرض}(الأنعام:79) أي خلقهما فيكون معنى الخبر كل نسمة تولد على الخلقة الدالة على توحيد الله تعالى وعدله، وإنما تؤتى في إيمانها وكفرها من جهة نفسها أو من جهة الأبوين لا من جهة الخلقة.
وأما الأصل الثاني: فأخذ في بيان دليله فقال: وأما أنه تعالى لا يفعل القبيح فقد تقدم بيانه وإقامة البرهان عليه، فثبت بذلك الدليل القطعي ما ذهبنا إليه من أن الله تعالى لا يثيب أحداً إلاَّ بعمله ولا يعاقبه إلاَّ بذنبه وبطل ما قاله المخالف.
المسألة السادسة عشرة (( في الإرادة ))
اعلم أنه لا خلاف بين المسلمين أن الباري يوصف بأنه مريد وكاره وقد نطق به القرآن الكريم ومن خالف في ذلك فقد كفر، ولكن اختلفوا. فقال جمهور أئمتنا عليهم السلام والبلخي والنظام وأبو الهذيل: المرجع بكونه تعالى مريداً لأفعاله إلى أنه أوجد أفعاله وهو عالم غير ساه ولاممنوع، والمرجع بكونه مريداً لأفعال غيره أنه أمر بها، والمرجع بكونه كارهاً لأفعال غيره أنه ناهٍ عنها وهو معنى قول أئمتنا عليهم السلام إن إرادة الله تعالى مراده وقد زعم الدواري أن القائل إن إرادة الله مراده هو قول المطرفيَّة إلاَّ أن هناك صفة له، ولا معنى غير المراد وكلامه ظاهر الدلالة على أن قولهم يخالف قول من تقدم، قال وتمسكوا بلفظة رووها عن الهادي عليه السلام وهي قوله إن إرادة الله مراده، قال إن صح ذلك عن الهادي عليه السلام فالمعنى كمراده.
قلت: وهو خلاف الظاهر، وأما أبو الحسين وابن الملاحمي فإنهما قالا: المرجع بكون المريد مريداً إلى أن له داعياً والمرجع بكون الكاره كارهاً إلى أن له صارفاً، ثم افترقا بعد ذلك، فابن الملاحمي أطلق ذلك شاهداً وغائباً، وأبو الحسين قال: ذلك في الغائب فقط وفي الشاهد كمذهب جمهور المعتزلة كما نبينه الآن. وقالت الأشعرية: المرجع بكونه كارهاً إلى أنه غير مريد. وقال بعض الزيدية وجمهور المعتزلة بل هو تعالى مريد على حد إرادة الواحد منَّا فهو مريد بإرادة خلقها الله تعالى مقارنة لخلق المراد غير مراده في نفسها ولا محل لها وهي عرض لا في محل إذ الباري لا يحله العرض ولو حلت في غيره كان إذاً هو المريد فاختصت به على أبلغ الوجوه لأن الباري لا في محل، وقالوا لم يُردها فراراً من التسلسل ،وقالوا: مقارنة إذ لا يجوز تقدمها على المراد لأن أحدنا لا يتقدم إرادته إلاَّ لتوطين النفس على تحمل المشقة أو لتعجيل المسرة وكلاهما مستحيل على الله تعالى.
قلنا:قولكم مبني على أصل باطل وهو أنكم على زعمكم اعتمدتم ذلك بطريقة سبر وهو أن الباري لا يخلو إمَّا أن يكون مريداً لذاته أو لغيره، باطل أن يكون مريداً لذاته للزوم أن توجد جميع المرادات إذ لا اختصاص لبعضها حينئذٍ، فإن كان لغيره فلا يخلو إما أن يكون فاعلاً أو علَّة، باطل أن يكون فاعلاً وإلاَّ لزم أن يكون الباري من جنس المقدورات وقد مرَّ بطلانه، فإن كان علَّة فلا يخلو إما أن تكون قديمة أو محدثة باطل أن تكون قديمة إذ لا قديم غير الله تعالى كما مرَّ بيانه، بقي أن تكون لعلة محدثة وهو العرض الذي لا محل له المخلوق بغير إرادة، ونقول رُمْتُمْ حصر الأقسام فما استوفيتموها ما لكم لا تقولون أولاً لذاته ولا لغيره فإن هذا القسم المعتمَد الذي قام عليه الدليل وذهب إليه أئمة العترة لأنه كما أنه فاعل لا بحركة فهو مريد لا بإرادة لوجوب كونه سبحانه في ذلك بخلاف المخلوق، وقولهم أنه خلقها ولم يردها باطل إذ المعلوم عند كل عاقل أن الفاعل إذا فعل شيئاً لا يريده فهو إما زائل العقل أو ساهٍ أو ملجأ والله يتعالى عن هذه الأوصاف، وقولهم أنها مختصة بالباري على أبلغ الوجوه لأجل كون الباري موجوداً لا في محل، باطل أيضاً لأنه إذا لم يجز أن يؤدي الدليل إلى إثبات عرض لا في محل في حق المخلوق لم يجز أن يؤدي إلى ذلك في حق الباري أولى وأحرى وهم مجمعون مع الأئمة على أنه يستحيل في الشاهد وجود عرض لا في محل ولم يستحل إلاَّ لكونه عرضاً ولا مخصص في ذلك العرض دون ماعداه وإلاَّ لزم تجويز وجود حركة لا في متحرك وذلك باطل، وقولهم إن الدليل أدَّاهم إلى ذلك في حق الباري لأجل كونه لا في محل باطل أيضاً لأن جملة العالم لا في محل فيلزم اختصاصه بعرض لا في محل إذ
العلة قائمة، ثم إنه لو جاز أن يُثبت للباري إرادة لا في محل جاز أن نثبت له حركة لا في محل وشهوة لا في محل ونحو ذلك من المحالات، ومما يشهد بصحة هذه الجملة من أقوال الأئمة قول أمير المؤمنين علي عليه السلام: بقول ولا يلفظ، ويحفظ ولا يتحفظ، ويريد ولا يضمر، ويحب ويرضى من غير رقة، ويغضب ويبغض من غير مشقة. وقوله عليه السلام ومشيئته الإنفاذ لحكمه، وإرادته الإمضاء لأموره. وقول علي بن الحسين عليهما السلام في توحيده: فاعل لا باضطراب، إلاه مقدِّر لا بجولان فكرة، مدبر لا بحركة، مريد لا بهمامة، وقول جعفر بن محمد الصادق عليهم السلام في كتاب الإهليلجة: الإرادة من العباد الضمير وما بعد ذلك من الفعل فأما عن الله عز وجل فالإرادة للفعل إحداثه لأنه لا يَرى ولا يتفكر. وقول الهادي إلى الحق عليه السلام في كتاب المسترشد: ألا ترى أن الفاعل لما لا يريد فجاهل مذموم من العبيد فكيف يقال ذلك (في الله) الواحد الحميد وقوله لا فرق بين إرادة الله ومراده وأن الإرادة منه هي المراد وأن مراده هو الموجود الكائن المخلوق.
قلت: كلامه هذا أوضح دليل على بطلان تأويل بعض المتأخرين لكلامه. وقول ابنه المرتضى لدين الله عليه السلام في كتاب الشرح والبيان: العرض لا يقوم بنفسه ولابد له من شبح يقوم فيه وبه. وقول أخيه الناصر عليهما السلام في كتاب النجاة: لا يقوم عرض إلا في جسم ولا جسم إلا في عرض.وقول القاسم بن علي عليهما السلام في كتاب التجريد: فإن قال السائل فلا أرى لله إرادة إذا كان مراده وجود فعله، فإنَّا نقول إن مراده لو لم يكن وجود فعله لكانت صفاته كصفات خلقه. وقول ابنه الحسين بن القاسم عليهما السلام في كتاب الرد على الملحدين: ولو كانت إرادته قبل فعله لكانت كإرادة المخلوقين ولكانت عرضاً من جسم ولو كان جسماً لأشبه الأجسام، وإنما إرادته فعله وفعله مراده وليس ثم إرادة غير المراد فيكون مشابهاً للعباد. وذكر الإمام المنصور بالله عليه السلام في الرسالة الناصحة: إن من جملة محالات المطرفيَّة قولهم في الإحالة أنها لا حالَّة ولا محلولة محال وذلك يدل على أن قول من قال في الإرادة أنها لا حالَّة ولا محلولة محال كالقول في الإحالة. نعم وفي الناس من يزعم أن الباري مريد بإرادة قديمة وهؤلاء هم الكلابيَّة والأشعرية من المجبرة بناء منهم على أصلهم في سائر الصفات وقد مر إبطاله. وقالت النجارية من المجبرة: بل هو تعالى مريد لذاته وكلامهم باطل لأنه يلزم أن تكون متقدمة على المراد، والإرادة المتقدمة توطين النفس وذلك لا يصح على الباري ويلزم أن تكون ذاته مختلفة لأن إرادته الصيام في رمضان خلاف إرادته تركه يوم الفطر لأن التخالف لا يكون إلاَّ بين شيئين فصاعداً. وقال هشام بن الحكم ومتابعوه من الرافضة: إرادته تعالى حركة لا هي هو ولا هي غيره، وقولهم هذا غير معقول
ويحتمل أن يريدوا الحركة على حقيقتها على القول بالتجسيم وأن يريدوا بها صفة المريدية التي أثبتها غيرهم فيكون خطأ في العبارة فقط. وقال الحضرمي وعلي بن مُتيَّم: بل حركة في غيره.
قلنا: إذاً فالمريد غيره وإن سلم لزم الحاجة إليه وأن يكون أول مخلوق غير مراد لعدم وجود غيره تعالى وذلك يستلزم نحو العبث كما مرَّ.
واعلم أنه يرادف الإرادة في اللفظ الرضى والمحبة والولاية، فإذا قيل رضي الله عن فلان أو والاه أو أحبه فمعناه أراد نفعه منه ومن غيره وكره ضره منه ومن غيره.
وتحقيق ذلك المعنى الحكم باستحقاق الثواب قبل وقته وإيصاله إليه (في وقته) والكراهة ضد المحبة ومعناها الحكم باستحقاق العذاب قبل وقته وإيصاله إليه في وقته، والسخط بمعنى الكراهة.
ثم اعلم أن كل فعل يصدر منه تعالى فهو مريد له عندنا خلافاً لمن قال خَلَقَ إرادة ولم يردها وهو تعالى مريد لفعل الطاعات وترك المقبحات لا فعل المباح إذ لا ترجيح لفعله على تركه خلافاً للبلخي، ومريد لأكل أهل الجنة إذ هو أكمل للنعمة، وإذ لا خلاف
بين العقلاء أن الموفر العطاء من أهل المروة والسخاء يريد أن يقبل المعطى ما وفر إليه والله جل وعلا أولى بذلك وهذا مذهب أبي هاشم خلافاً لأبي علي، وأما فعل المعاصي فقالت العدلية: إن الله تعالى منزه عن إرادته فهو تعالى لا يريد الظلم ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد بل ذلك حادث بإرادة العباد وهي منهم توطين النفس على الفعل أو الترك وقد يكون مقارنة للمراد. وقالت المجبرة: بل هو تعالى مريد لكل واقع إذ لا يقع في ملك الله إلاَّ ما يريده ويرضاه ويحبه.
والدليل على ذلك المذهب الصحيح وهو مذهب العدلية أن الرضى والمحبة يرجعان إلى الإرادة كما ذكرنا أنها أسماء مترادفة بدليل أنه لا يصح نفي بعضها وإثبات الآخر ومعلوم أن إرادة القبيح قبيحة والله تعالى لا يفعل القبيح هذا الأصل قد قام الدليل عليه، وأما الأصل الذي قبله وهو أن إرادة القبيح قبيحة فقد أخذ في بيان دليله فقال: والذي يدل على أن إرادة القبيح قبيحة هو ما نعلمه في الشاهد مما لا خلاف فيه ولهذا إن العقلاء يذمون من أراد القبيح كما يذمون من فعله وتسقط منزلة المريد للقبيح كما تسقط منزلة من فعله فلو أخبر عن نفسه مخبر وهو من أهل العفة والصلاح أنه يريد القبائح ويحبها لا على معنى أنه يشتهيها بل على معنى الإرادة الحقيقية، تبادرت العقلاء إلى ذمه وسقطت منزلته عندهم وذلك ظاهر لكل عاقل وقد جاء السمع بتأييد ما ذهبنا إليه في أصل المسألة قال تعالى{ولا يرضى لعباده الكفر}(الزمر:07) وقال تعالى{وما الله يريد ظلماً للعباد}(غافر:31) وقال تعالى{والله لا يحب الفساد}(البقرة:205) فنفى عن نفسه إرادة ما ذكر فلا يجوز إثبات ما نفاه (الله تعالى) لأنه يكون تكذيباً للصادق وذلك لا يجوز، وقد أثبت لنفسه كراهة المعاصي فقال تعالى{كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً}(الإسراء:38) ،فإذا كان كارهاً لها بطل أن يكون مريداً لها.
ويدل على ذلك قول النبي صلى الله علي وآله وسلم:(إن الله كره لكم العبث في الصلاة والرفث في الصيام والضحك بين المقابر)، فإذا كان الله تعالى كارهاً لهذه الأفعال فكيف يجوز لمن يدعي الإسلام أن ينسب إلى الله إرادة قتل الأنبياء عليهم السلام وسائر الفواحش تعالى الله (عما يقولون) علواً كبيراً، ومن أنصف من نفسه كفاه الدليل ومن كابر فضحه الدليل.
دليل آخر على أن الله لا يريد القبائح أنه قد ثبت أن الشياطين يريدون القبائح من العباد وثبت أن الأنبياء عليهم السلام كارهون لها فلو كان الله تعالى مريداً للقبائح كما تزعمه المجبرة لكانت الشياطين موافقين لله تعالى في إرادته ولكان الأنبياء عليهم السلام مخالفين لله سبحانه في إرادته وكل مذهب أدى إلى أن يكون الشيطان موافقاً لله والنبي مخالفاً له وجب القضاء بفساده. وأما ما يتعلق به المخالف من قوله لو وقع في ملك الله مالا يريده لكان ضعيفاً عاجزاً فذلك لايصح، لأنا نقول له إنما يدل على عجزه لو وقع على سبيل المغالبة ولاشك أن الله تعالى قادر على منع العصاة من القبيح لكن لو منعهم بالقهر لبطل التكليف، ولأن الله تعالى قد أمر بالطاعة ونهى عن المعصية فوجد في ملكه ما نهى عنه ولم يوجد في ملكه ما أمر به، وكما أن ذلك لا يدل على عجزه وضعفه كذلك في مسألتنا، وكذلك ما يتعلقون به من لفظ المشيئة نحو قوله تعالى{ولو شاء ربك ما فعلوه}(الأنعام:112) وقوله تعالى{ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً}(يونس:99) وغير ذلك، فنقول المراد بهذا كله وما أشبهه مشيئة الإكراه لأنه قادر على أن يجبر العباد على الإيمان وعلى أن يمنعهم من العصيان لكن لو منعهم من ذلك لبطل التكليف لأن من شرائط حسن التكليف زوال المنع
والإلجاء وإذا منعهم الله تعالى لم يستحقوا على الحسن مدحاً ولا ثواباً ولا على القبيح ذماً ولا عقاباً. يؤيد ذلك قول الله تعالى{سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون}(الأنعام:148) وقوله تعالى{وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا} إلى قوله{فهل على الرسل إلا البلاغ المبين}(النحل:35) فحكى الله عن المشركين أنه شاء شركهم وأكذبهم ووبخهم على ذلك وأخبر أنهم يتبعون الظن وقد قال {إن الظن لا يغني من الحق شيئاً}(يونس:36) وأخبر أنهم يخرصون: والخرص هو الكذب ثم قال تعالى{قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا}(الأنعام:148) وهذا لا يقال إلاَّ للمبطل. فثبت بهذه الجملة مذهبنا أن الله تعالى لا يريد الظلم ولا يرضى الكفر ولا يحب الفساد وبطل ما قاله المخالف.
المسألة السابعة عشرة ((في الآلام))
في الآلام وما في حكمها وما يتعلق بها من الأعواض وغيرها، والألم هو المعنى المدرك بمحل الحياة فيه مع النفرة عنه، والذي في حكمه الغم وهو علم الواحد منا أو ظنه أو اعتقاده بنزول مخوف في المستقبل به أو بمن يحب، وإنما قلنا إن الغم في حكم الألم لأن العوض يستحق عليهما معاً،وقد يقال المرجع به عند أبي الحسين والإمام يحي وهو مقتضى ما روي عن القاسم والهادي إلى صفة للمتألم وهي كونه متألماً وهذه صفة بالفاعل فما وقع من ذلك باختيارنا فالصفة حاصلة منا وما كان بغير اختيارنا فهو صفة من جهة (الله تعالى) . واعلم أن الآلام مضرة عاجلة وإنما تحسن لوجوه خفيَّة حتى أن الجهل بوجوه حسنها أصل في ضلال فرق كثيرة كالدهرية فإنهم قالوا لو كان للعالم صانع مختار لما صدر عنه هذه الآلام الضارة التي لا غرض فيها أصلاً، والثنوية فإنهم جعلوا لها فاعلاً غير فاعل الخير لاعتقادهم كونها شراً محضاً وقد مرَّ إبطال مقالة هاتين الفرقتين الضالتين. والتناسخية لما لم يروا بداً من القول بحسنها ارتكبوا لتصحيح ذلك أن أرواح الأطفال والبهائم قد عصت في هياكل غير هذه فعوقبت في هذه، وقولهم لم يدل عليه دليل وكان يلزم أن يحسن سب الطفل والبهيمة عند ألمهما. والبكريَّة لمَّا لم يصح لهم ذلك التناسخ نفوا تألم الأطفال والبهائم أصلاً وقالوا إنها لا تدرك ألماً البتة وكلامهم مخالف لما هو معلوم من شاهد الحال من تضررهما ضرورة. والمجبرة لما جهلوا حسنها قالوا: لا يقبح من الله قبيح وأنه يفعل في ملكه ما يشاء ولو وقع مثل ذلك منا لقبح، فهؤلاء كلهم قد ضلوا بسبب جهلهم وجه حسن الألم فتعين حينئذ وجوب معرفة ذلك الوجه.
ونقول: الآلام لا تكون إلاَّ من فعل فاعل لبطلان تأثير غير الفاعل وهو من المقدورات المشتركة بيننا وبين الباري على ما يجيء بيانه إنشاء الله.
وقالت الطبائعيَّة وسائر المطرفية: بل من الطبائع وإحالات الأجسام.
وقالت المنجِّمة: بل من النجوم.
قلنا: حادث مع الجواز وإلاَّ لم يكن وقت أولى به من وقت فلا بد له من محدث قادر لما مر في إثبات محدث العالم، ثم إن طبع الطبائعي غير معقول في نفسه، ثم نقول له لو كان موجباً عن الطبع على حد إيجاب العلل لم يختلف الحال فكان يجب فيمن صار في ذلك الموضع ومن أتى عليه ذلك الزمان أن ينزل به ذلك الألم ومعلوم أن أحوال الناس تختلف في ذلك، وأما اختلافه باختلاف الزمان والمكان فذلك باختيار الله تعالى وإحداثه وإجرائه العادة في استمرار ذلك في الغالب لمصلحة يعلمها الله تعالى كما في حصول المولود من ذكر وأنثى وحصول النبات عند البذر والسقي وكون (الحيوان والنبات) بعضها من جنس ما هو أصل فيها. وأما ما رواه جهلة المطرفيَّة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:(حاذروا بلاد الأسدام فإنها تحث في الآجال).
فجوابه: من وجوه: أحدها أن هذا خبر آحادي ومسألتنا قطعية. الثاني أنه معارض بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(لا عدوى ولا طيرة في الإسلام) (ومن أعدى الأول). الثالث أن الخبر إن صح فمعناه أنه لا يمتنع أن يعلم الله تعالى أن الصلاح بإماتة كثير ممن دخلها ومرضه بخلاف غيرها كما علم أن الصلاح متعلق بالموت عند تناول السم وإن كان تناول السم غير مؤثر في الموت ولا موجب له. فإن قيل إن كانت الأمراض النازلة بنا في بلاد الوباء والأسدام من فعله تعالى فَلِمَ أمرنا بالتوقي لذلك ونهانا عن السكون في بلاد الأسدام، وإن كان في المرض الذي يصيبنا فيه مصلحة؟.
قلنا: من حيث أن ذلك ضرر ودفع الضرر النازل بنا من الله تعالى ومن غيره واجب
كما أمرنا تعالى وقضى العقل بدفع ما نزل بنا من الأمراض وإن كانت مصلحة لنا لو دامت ثم إذا ارتفعت بالدواء تبين أنه لم يكن لنا مصلحة فيما رفعه الله منها أو أن لنا في رفع المرض مصلحة أكثر من مصلحة المرض كذلك الحكم في الألم في بلاد الأسدام والتوقي منه، إذا عرفت ذلك فاعلم أن جميع الآلام والنقائص النازلة بالأطفال والمجانين وسائر الممتحنين من المكلفين وغيرهم اللاتي من الله حسنة لا قبح فيها. والخلاف في ذلك مع من يقر بحدوثها ثم ينفيها عن الله تعالى، فإنهم يقولون إنها قبيحة ولهذا نفوها عن الله وقد بينا فيما سلف إبطال مقالتهم من أنه قد ثبت بالدليل القطعي أنها من فعل الله وأفعاله كلها حسنة. ونقول: ما كان منها مستحقاً فوجه حسنه الإستحقاق، ومالم يكن منها مستحقاً فنقطع أنه لابد فيها من مجموع الأمرين العوض للمؤلَم والاعتبار له إن كان مكلفاًُ ولغيره إن كان غير مكلف ولا يحسن منه بمجرد العوض لأنه يمكن إيصاله من دون ألم فيكون الإيلام عبثاً ولا لمجرد الاعتبار لأنه لا يتصور في البهائم والأطفال فيكون إيلامها لاعتبار غيرها ظلماً،وقال عباد بن سليمان: بل يحسن منه تعالى للاعتبار فقط. وقال أصحاب اللطف وهم بشر بن المعتمر وأصحابه: بل يحسن منه لأجل العوض فقط. وقالت المجبرة: يحسن خالياً عنهما، واختلفوا، فبعضهم قال: لا يعلل حسنه، وبعضهم يعلل بكونه تعالى مالكاً ورباً أو ليس منهياً.
والدليل على ذلك القول الصحيح وهو أنه لا بد من مجموع الأمرين وإلاَّ قبحت الآلام أنها لو خلت من العوض لكانت ظلماً لأنه يكون ضرراً عارياً عن جلب نفع ودفع ضرر أو استحقاق وهذه هي صفة الظلم أي حقيقته كما قدمنا، والظلم قبيح بالضرورة والله تعالى لا يفعل القبيح كما تقدم. نعم حقيقة العوض هو المنافع المستحقة لا على وجه الإجلال والتعظيم.قلت: هكذا قيل وهو مبني على القول بوجوبه على الباري تعالى لا على القول بأنه تفضل وهو الصحيح، واختلف فيه هل يدوم كالثواب أولا. فقال جمهور أئمتنا عليهم السلام وأبو الهذيل وأحد قولي أبي علي وهو القديم منهما وجماعة من المعتزلة كالصاحب الكافي وبعض البغداذية: أنه يدوم،وقال بعض أئمتنا عليهم السلام منهم المهدي عليه السلام والبهشمية: بل يجوز انقطاعه لأنه كالأروش المستحقة بالجنايات في الشاهد فكما لا يجب دوامها لا يجب دوامه.
قلنا: انقطاعه يستلزم تضرر المعوض (أو فناؤه) وحصول أيهما بلى عوض لا يجوز على الله تعالى وبعوض آخر يستلزم أن تكون الآخرة دار امتحان و بلاء لا دار جزاء فقط والإجماع على خلاف ذلك.
فإن قيل: يتفضل عليه بعد انقطاعه.
قلنا: قد استحق بوعد الله الذي لا يبدل القول لديه أن يبعث للتنعيم فلا وجه للتخصيص بجعل بعضه مستحقاً وبعضه غير مستحق، ويتفرع على القول بالدوام القول بانحباط العوض بالمعصية لمنافاته العقاب كالثواب، وعلى القول بعدمه عدم الانحباط، والقول بأن لا منافاة بين العوض والعقاب فافهم ولو خلت الآلام عن الاعتبار لكانت عبثاً لأن العبث هو الفعل الواقع من العالم به عارياً عن غرض مثله بإضافة غرض إلى مثله إذ الأغراض تختلف باختلاف الأفعال وهذا المعنى حاصل في الألم لو خلى عن الاعتبار لأنه كان يمكن ويحسن اتصال نفع العوض إلى المؤلم من دون الألم، ولا شك في أن العبث قبيح وقبحه معلوم ضرورة وهو تعالى لا يفعل القبيح كما مرَّ،ويدل على ثبوت الاعتبار وهو ما يدعو المكلف إلى فعل الطاعة وترك المعصية قول الله تعالى{أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون}(التوبة:126) والمراد بالفتنة في هذه الآية الامتحان بالمرض وغيره فأخبر الله أنه امتحنهم وأن غرضه أن يتوبوا وأن يذكروا، وإنما قلنا أن الفتنة هي الامتحان لأنها لفظة مشتركة بين معانٍ أربعة أحدها ما ذكرنا ويدل عليه قول الله تعالى{الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقو لوا آمنا وهم لا يفتنون}(العنكبوت:1،2) معناه يمتحنون. وثانيها: بمعنى العذاب والتحريق قال الله تعالى{يوم هم على النار يفتنون}(الذاريات:13) أي يعذبون، وقال تعالى{إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات}(البروج:10) معناه حرقوهم، وثالثها: بمعنى الإغواء عن الدين قال تعالى{يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة}(الأعراف:27) معناه لأغوينكم عن الدين. ورابعها بمعنى الكفر والضلال قال تعالى{وقاتلوهم حتى
لا تكون فتنة}(البقرة:193) معناه حتى لا يكون كفر وضلال ولا يجوز في الآية التي ذكرنا شيء من هذه المعاني سوى الامتحان. فثبت بهذه الجملة أن جميع الآلام والنقائص لابد فيها من العوض والاعتبار وبطل ما قاله المخالف.
تنبيه:
لا بأس بعد تقرير كلام الكتاب أن نأتي بتحصيل القول في الألآم على تأسيس صاحب الأساس أمير المؤمنين أيده الله. فنقول: الألآم لا تخلوا إما أن تكون من الباري تعالى أو من المخلوق، إن كان من الباري فلا يخلو إما أن ينزله على غير مكلَّف أو على مكلَّف، إن كان الأول حسن منه تعالى لمصلحة يعلمها الله تعالى لأنه عدل حكيم لا ينزل الألم إلاَّ لمصلحة لذلك المؤلَّم وذلك يكون تفضلاً والعوض تفضل لا يجب عليه تعالى.
قلت: والعوض من المصلحة التي يعلمها الله تعالى فإن كان إنزال الألم له فهو يفعله قطعاً لا أنه واجب عليه، وعلى هذا فالاعتبار والعوض غير معتبرين في إنزال الآلام خلافاً لما في الكتاب وهو الذي اعتمده المهدي (عليه السلام) وجمهور البصرية، وإن كان الثاني فلا يخلو إما أن يكون الذي نزل به الألم مؤمناً أو غير مؤمن، إن كان مؤمناً حسن إيلامه لاعتبار نفسه فقط إذ هو نفع كالتأديب ولتحصيل سبب الثواب فقط وهو الصبر عليه والرضى به لأن ذلك عمل لا حصر للثواب عليه كما قال تعالى{إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}(الزمر:10) ولحطِّ الصغائر عنه وفاقاً للزمخشري إذ هو دفع ضرر كالفصد، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم(من وعك ليلة كفر الله عنه ذنوب سنة) هذا لفظ الحديث أو معناه. وفي نهج البلاغة لأمير المؤمنين عليه السلام الآلام تحط الأوزار وتحتها كما تحت أوراق الشجر أو كما قال، وكقوله عليه السلام جعل الله ما تجد من شكواك حطاً لسيئاتك أو كما قال، والأدلة السمعية في ذلك متواترة معنى ولمصلحة له يعلمها كما مرَّ في إيلام غير المكلَّف ولمجموعها لجميع ما مرَّ من الأدلة، ويمكن أن يكون إيلام من قد كفَّر الله عنه جميع سيئاته كالأنبياء (عليهم السلام) تعريضاً للصبر والرضى إذ هو حسن كالتأديب، وأما إذا كان غير مؤمن بل صاحب كبيرة فإيلامه إما لتعجيل عقوبة فقط وقيل لا عقاب قبل الموافاة.
حجتنا قوله تعالى{وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم }(الشورى:30) ولا خلاف في أن الحد عقوبة ولقوله تعالى{وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}(النور:02) ونحوه، وإما لاعتبار نفسه فقط كما ذكرنا أنه كالتأديب ولقوله تعالى{أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولاهم يذكرون}(التوبة:126) وأما لمجموعهما أعني لتعجيل العقوبة والاعتبار ولا يجوز أن يكون إيلامه للعوض لمنافاته العقاب فينحبط كالثواب كما قررناه أولا خلافاً لرواية المهدي (عليه السلام) عن المعتزلة وعليه بنى وهو مقتضى كلام الكتاب لأنهم يقولون لو خلت الآلام عن العوض والاعتبار قبحت خلافاً للمجبرة.
حجتنا: على المهدي (عليه السلام) والمعتزلة قوله تعالى{ولا يخفف عنهم من عذابها}(فاطر:36) وقوله تعالى{ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط}(الأعراف:40) فلا عوض حينئذٍ،وأما إذا كان الإيلام من المخلوق فقد يكون حسناً وقد يكون غير حسن،فالحسن هو ما وقع على جهة العقوبة كالقصاص أو ظن حصول منفعة كالتأديب أو دفع مضرة كالفصد أو لإباحة الله تعالى كذبح الأضاحي أو نحو ذلك،والقبيح ما كان على خلاف ذلك وهو ما وقع على جهة الجناية وتحصيل القول في ذلك أن نقول لا يخلو الجاني إما أن يكون مكلَّفاً أو غير مكلَّف، إن كان مكلَّفاً فإما أن يوقعه بمكلف أو غير مكلَّف، إن كان أوقعه بمكلف فلا يخلو إما أن يكون عدواناً أولاً، إن كان عدواناً ولم يتب قال الهادي عليه السلام: زِيْدَ في عذابه بقدر جنايته وأُخبر المجني عليه بذلك فإن كان مؤمناً أثيب على صبره.
قال إمام زماننا أيده الله تعالى: ويحط بالألم من سيئاته بسبب التخلية لقول الوصي عليه السلام: فأما السب فسبوني فهو لي زكاة أي تطهرة أي كفارة، وإن كان ذا كبيرة فلا يزاد على إخباره لانحباط العوض لمنافاته العقاب عندنا كما مرَّ، ويمكن أن يجعله الله تعالى تعجيل عقوبة في حقه فلا يخبر كما فعل الله ببني إسرائيل حين سلط عليهم بخت نصَّر فقال تعالى{فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً}(الإسراء:05) ونحوها، وإن تاب جاز أن يقضي الله عنه لأن التوبة صيرت الفعل كأن لم يكن فيبطل كل ما هو فرع عليه من عوض وعقاب، فكما لا يعاقبه لا ينقص من عوضه وهذا الوجه هو الذي اعتمده أبو القاسم البلخي وجاز أن ينقص من أعواضه إن كان له أعواض.
قالت البهاشمة: واعتمده المهدي عليه السلام هذا هو الوجه وما ذكره أبو القاسم غير سديد لأن ذلك تفضل لا إنصاف ولابد من الإنصاف.
قلت: (المحكي عن) قاضي القضاة وغيره من المعتزلة وعول عليه المهدي عليه السلام أنه لا يجوز أن يمكن الله حيواناً من إيلام غيره إلاَّ حيث علم من حال ذلك الحيوان أنه يوافى في الآخرة وله من العوض ما يوافي ذلك الغير وإلاَّ منعه منه وقبح منه تمكينه، وخالفهم في هذا أبو هاشم وقال يجوز تمكينه ويكون الذي يوفِّي عنه هو الله، وردوا على أبي هاشم قوله بأن ذلك تفضل لا إنصاف.
قال إمام زماننا أيده الله تعالى: أنه يجوز الوجهان (ويجوز أن يقضى أيضاً) من أحد نوعي الثواب وهو التنعيم دون التعظيم ولا مانع من تفضله بالقضاء كالمتفضل بقضاء الأرش وقد حصل الانصاف لأنه عن الجناية فلا وجه لقول البهاشمة، وإذا وجد ما يقضى عنه من عوض أو نحوه فلا موجب لاستحقاق أن يقضى عنه فلا وجه لما قاله أبو القاسم، وإن كان المجني عليه غير مكلف فلمصلحة يعلمها الله تعالى كما مرَّ للتخلية، ويجوز ذلك مع عدم أعواض الجاني فيوفِّي الله عنه وفاقاً لأبي هاشم وخلافاً للقاضي وغيره.
قالوا:لأن ذلك تفضل لا إنصاف.
قلنا: قد حصل الإنصاف مع الحكم بالزيادة في عذاب الجاني كما قدمنا فيكون كالقصاص، فإن كانت الجانية على جهة الخطأ كانت كجناية التائب في الوجهين، أعني حيث يكون المجني عليه مكلَّفاً وغير مكلف وسواء كان الجاني مؤمناً أو ذا كبيرة لعموم أدلة العفو عن الخطأ. واعلم أن الله تعالى يبعث البهائم يوم القيامة ويتفضل عليها بما شاء من الأعواض لقوله تعالى{وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون}وقال تعالى{وإذا الوحوش حشرت}(التكوير:05) ولا يمتنع أن يديم الله التفضل عليها بدوام الجنة والنار، قال بعضهم: يجوز أن يدخل الله النار منها ما كان مبغضاً منفوراً عنه كالحيات والسباع مع كونها متلذذة بذلك، ويدخل الجنة منها ما كان حسن الصورة محبوب النظر، وقال أبو هاشم: يجوز أن تعوض في الدنيا فلا تعاد، وقال عبَّاد بل تحشر ثم تبطل بمصيرها تراباً كما قال بعض المفسرين في قوله تعالى{ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً}(النبأ:40) أو غير ذلك، لنا ما مرَّ. نعم قد دلَّ على ثبوت الانتصاف للمظلومين من الظالمين قوله تعالى{ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفساً شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين}(الأنبياء:47) وإذا كان تعالى لا يضيع مثقال حبة من خردل فكيف يضيع عنده ما هو أكثر من ذلك. ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(ينادي منادٍ يوم القيامة يسمعه جميع من حضر الموقف أنا الملك الديَّان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وعليه لأحد من أهل النار مظلمة حتى أقتصها منه ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وعليه لأحد من أهل الجنة مظلمة حتى
أقتصها منه) وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إنَّ الله ينتصف للشاة الجمَّا من ذي القرنين).
المسألة الثامنة عشرة في الكلام
وحدّه ما انتظم من حرفين فصاعداً وكان مسموعاً مميزاً، فقولنا وكان مسموعاً يخرج الكتابة، وقولنا مميزاً يخرج الصراخ ونحوه. قال أكثر العدليّة: المرجع به إلى هذه الأصوات المقطعة المميزة التي نسمعها فليس بمعنى زائد على الصوت. وقال النظام: الصوت جسم والكلام حركة اللسان. وقال أبو الحسين وابن الملاحمي: المرجع به إلى صفة للجسم. وقال أبو علي: هو معنى زائد على الحروف والأصوات يسمع معها تقارن الملفوظ والمكتوب والمحفوظ وهو باقٍ ويصح وجوده في المحال المتعددة وغير ذلك من الأحكام التي تخالف بها هذا الملفوظ. وقالت الأشعرية: بل الكلام معنىً في نفس المتكلم شاهداً وغائباً وهذه الحروف والأصوات عبارة عنه، قالوا: والكلام النفساني هو المعنى عند أهل اللغة لقولهم في نفسي كلام ونحو ذلك. والصحيح هو القول الأول.
والذي يدل عليه أنَّا متى علمنا أصواتاً أو حروفاً متقطعة متميزاً بعضها من بعض سميناها كلاماً وسمينا الفاعل لها متكلماً، فلو كان الكلام أمر غير الذي ذكرناه لصح انفصال أحدهما عن الآخر فيكون الكلام مع فقد هذه الأصوات أو لا يكون الكلام مع وجود هذه الأصوات إذ لا علقة بين هذه الأصوات وبين الكلام الذي تزعمونه ، فلو علمنا أن الكلام يقف العلم به على العلم بهذه الأصوات نفياً وإثباتاً علمنا أنها هي الكلام، فاحتجاج الأشعرية بقولهم في نفسي كلام باطل، لأن ذلك من قبيل المجاز، إذ لا دليل على ذلك الكلام النفساني لأن أحدنا لا يجد من نفسه حال التكلم ولا قبله إلاَّ العلم بترتيبه أو التفكر فيه، فإن عنوا بالكلام النفسي ذلك العلم والتفكر فخطأ في العبارة وغلط في الإطلاق وإن أرادوا غير ذلك فغير معقول وإلاَّ لزم أن نسمي الساكت متكلماً وكذا الأخرس وقد بينا بطلانه. واعلم أن الناس مختلفون في هذا القرآن المتلو في المحاريب الموجود بين المسلمين المحفوظ في الصدور وله أسماء ثمانية قرآن، وفرقان، وكتاب، وذكر، وروح قال الله تعالى{وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا}(الشورى:52) ونور قال تعالى{فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا}(التغابن:08) وهدىً قال تعالى{وهدىً للناس}(الأنعام:91) هل هو كلام الله أو غيره، فالذي ذهب إليه أكثر أهل العدل وهو قول كثير من الفرق أنه كلام الله@ دون أن يكون كلاماً لغيره وطريقنا إلى ذلك أنه لا يمكن القادرون بالقدرة إيجاده على ذلك الحد من الترتيب والنظم وكونه في أعلى طبقات البلاغة لا يوجد مثله في فصاحته إلا بزيادة علم من الله تعالى يعرف هذا من عرف السير والتواريخ حيث عجزت العرب- وهم حينئذ الصميم- عن الإتيان ببعض
منه وكذا من عرف قوانين البلاغة وهي مدوّنة في علوم العربية فنعم الوسيلة هي فتكون حينئذ كالكلام الذي يوجد في الأشجار والأحجار في خروج كل عن طاقة البشر.
وقال بعضهم: كلام الله هو الله، وقيل هو بعضه.
وقالت الأشعرية: هو معنى قديم قائم بذاته لا هو الله ولا هو غيره كما يقولونه في سائر المعاني.
وقالت الكلابيّة: هو معنى أزلي قائم بذاته ليس بحروف ولا أصوات وهو يعود إلى قول الأشعرية سوى أن الكلابية فرّوا عن التعبير بالقديم وهم منغمسون فيما هربوا منه. قال الدواري: إذ معنى القديم والأزلي واحد.
قالت المطرفيّة: بل هو صفة ضرورية قائمة بقلب ملك يقال له ميخائيل.
قالت الفرق الثلاث: والكلام الذي بيننا عبارة عنه فقط.
وقالت الباطنية: هذا الذي نتلوه كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعانيه حصلت له بالفيض من النفس الكلية وهي نفس التالي إلى نفسه وهي النفس الجزئية فصاغ هذه الحروف والقرآن كلامه.
والدليل على ذلك المذهب الصحيح وهو أن كلام الله هو الذي نتلوه المتواتر لدينا، إنَّ المتكلم فاعل الكلام قطعاً وذلك دليل على أن كلام الله فعله، وقد ثبت بما مرَّ أن الكلام هو الحروف والأصوات، والحروف والأصوات غيره تعالى لأنها أعراض وهو ليس بجسم ولا عرض، ويقال لمن أثبت الكلام النفسي هو، إمَّا الحروف والأصوات فيلزم حدوثه كهذا الذي هو عبارة عنه أو غيرهما فلا يصح أن يكون هذا عبارة عنه لاختلاف الماهيتين.
قال السيد أبو طالب: وأيضاً فإن كلامه تعالى لا يخلو من أن يكون من جنس الكلام المعقول فيما بيننا وهو أن يتركب من جنس الأصوات والحروف أو مخالفاً لذلك، فإن كان من جنس الأصوات والحروف فلا شبهة في حدوثه، وإن كان مخالفاً لذلك لم يصح أن يكون كلاماً وأن يفهم به شيء، والمثبت لكلام مخالف للكلام المعقول فيما بيننا وأنه في حكم من يثبت جسماً مخالفاً للأجسام المعقولة فيما بيننا ويثبت مع الله جسماً قديماً مخالفاً لسائر الأجسام، ومن يزعم أن الكلام معنى في النفس وأن الحروف المسموعة دلالة عليه فهو في التجاهل بمنزلة من يزعم أن الصوت معنى في النفس وأن المسموع منه دلالة عليه وأن اللون معنى في النفس والمرئي منه دلالة عليه، وأيضاً فإنه يلزم أن يكون هاذراً أو عابثاً فيما لم يزل ومخاطباً للمعدوم فهو يقول فيما لم يزل يا موسى يا عيسى يا إبراهيم وغير ذلك مما احتوى عليه القرآن من التهديد والوعيد والقصص والمواعظ كل ذلك يحدث به نفسه ويهذوا به ولا ينفك عن التكلم به وقد علم أن مثل ذلك هذيان ولا يحسن في رجل موصوف برزانة العقل وجودة الوقار فكيف نجعل لازمه لملك الملوك وعلام الغيوب المنزه عن دقائق النقائص وصغائر العيوب تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدين بذلك أي بأنه كلام الله تعالى ويخبر به وهو صلى الله عليه وآله وسلم لا يدين إلاَّ بالحق ولا يخبر إلاَّ بالصدق، فهذان أصلان نبه على كونهما مقطوعاً بهما بقوله وذلك معلوم ضرورة عند كل من عرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم (وروى آثاره وعرف أخباره) و لا فرق بين الأثر والخبر، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم قد شهد له المعجز بالصدق وإصابة ما اعتقده
بظهوره على يديه لأن ظهوره على من لم يكن كذلك قبيح والله تعالى لا يفعل القبيح لما تقدم بيانه.وإذا ثبت ذلك وجب علينا تصديقه فيما قال واتباعه فيما أدان به، ومعلوم بالضرورة أنه كان يرى ويعتقد أن القرآن الذي أتى به كلاماً الله دون أن يكون كلاما له عليه السلام أو لغيره من المتكلمين ويخبر الناس بذلك واستمر على هذا إجماع المسلمين بعده صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن حدث مذهب هذه الطوائف التي ضلت وأضلت فيكون الإجماع حجة عليهم ، ونقل ما ذكر عن النبي صلى الله عليه آله وسلم وإن كان بالآحاد فمعناه متواتر شبيه بأخبار سخاء حاتم وفصاحة امرؤ القيس وشجاعة عنترة فإن كل خبر منها وإن كان آحادياً إلاَّ أن معناه قد صار متواتراً فيفيد القطع إذ المعنى هو المقصود وقد جاء السمع بتأييد ما ذهبنا إليه أيضاً قال (الله) تعالى{وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه}(التوبة:06) ولا شك أن الكلام المسموع هو القرآن والمعنى غير مسموع.
فإن قالوا:ذلك مجاز.
قلنا:خلاف المجمع عليه عن أهل اللسان العربي ولعدم الاحتياج إلى نصب القرينة عند إطلاقه على المسموع، ولو سلم لزم جُعل للتفاسير ماله من الأحكام إذ هي عبارة عنه، وقال تعالى{وإذا قرءَ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}(الأعراف:204) وقال تعالى{إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد}وقوله تعالى{إنَّا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى}(الأحقاف:30) وقوله {إنا لمَّا سمعنا الهدى آمنا به}(الجن:13) إلى غير ذلك من الآيات، ثم نقول لهم أخبرونا عن الكلام الذي سمعه موسى من الشجرة هل سمع الشجرة ولم يسمع الكلام أو سمع الكلام؟ فإن قالوا سمع الشجرة ولم يسمع الكلام، أحالوا وخالفوا جميع الأئمة والأمة ويلزم أن تكون الشجرة هي الحجة دون الكلام فلم يبق إلاَّ أن يكون المسموع هو الكلام الذي خلقه الله وجعل محله الشجرة وذلك هو الحجة. وقال (رسول الله) صلى الله عليه وآله وسلم(إني تارك فيكم ماإن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) وقال صلى الله عليه وآله وسلم(زينوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً) إلى غير ذلك من الأخبار، وأما قولهم أن كلام الله تعالى معنى قديم و أزلي، فذلك قول باطل لأنَّا قد بينا أنه لا قديم سوى الله تعالى، وأما قولهم أنه قائم بذات الباري تعالى ،
فإن أرادوا بذلك أنه حال فيه كما يقال الكون قائم بالجسم أي حال فيه، فذلك قول باطل لأن الحلول لا يجوز إلاَّ على المحدثات وإن أرادوا بالقيام بالذات الحفظ كما قال تعالى{أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت}(الرعد:33) أي حافظ، فذلك لا يجوز على مذهبهم لأنه متى كان قديماً لم يحتج إلى من يحفظه.
وإن قالوا: أنَّا نريد أنه موجود به.
قيل لهم: إن أردتم بذلك أنه فاعل له كما يقال السماوات والأرض موجودة بالله تعالى بمعنى أنه الفاعل لهما فذلك هو الذي نقول لكنه يبطل مذهبكم من القول بقدمه، وإن أردتم أنه لولا الله لما وجد القرآن فهو أيضاً يحصل منه غرضنا وهو القول بحدوثه لكن هذا اللفظ لا يصح إطلاقه لأنه ليس يلزم فيما وقف وجوده على وجود غيره أن يقال أنه قائم بذاته، ألا ترى أن العلم يحتاج في وجوده إلى الحياة ولا يصح أن يقال أن العلم قائم بذات الحياة فيبطل قولهم بإثبات كلام قائم بذات الباري. فثبت بذلك الذي قررناه من الأدلّة ونفي شبه المخالفين، أن القرآن كلام الله دون أن يكون كلاماً لغيره وبطل ما قاله المخالف.
المسألة التاسعة عشرة أن هذا القرآن
الذي هو بقيام الأدلّة القطعية كلام الله محدَث هذا هو مذهب أهل العدل وغيرهم. وقالت الحشوية: بل القرآن هو الذي نقرؤه في المصاحف ونتلوه في المحاريب قديم. وأمَّا الأشعرية والكراميّة فإنهم يوافقوننا في أن هذا المتلو فيما بيننا محدَث وإنما يخالفوننا في إثبات الكلام النفساني القائم بذات القديم ويجعلونه قديماً كما تقدم من حكاية مذهبهم وإبطال مقالتهم. وأما المطرفيّة فعندهم أن هذا القرآن ليس بمحدَث ولاقديم ويقولون: أنه حدوث وكذلك قولهم في سائر الأعراض . قال الجمهور من القائلين بأنه محدَث: ويوصف أيضاً بأنه مخلوق. وقال محمد بن شجاع من علماء المعتزلة وبه قالت الأشعرية والكراميّة: لا يوصف بأنه مخلوق وإن كان معنى الخلق حاصلاً فيه لإيهامه أنه مكذوب لأن الخلق قد يستعمل في اللغة بمعنى الكذب نحو {وتخلقون إفكاً}(العنكبوت:17) ونحو {إن هذا إلاَّ اختلاق}.
الذي يدل على ذلك المذهب الصحيح وهو القول بأنه محدث مخلوق أنه حروف وأصوات وهي غير باقية فضلاً على أن تكون قديمة وأنه متعدد مرتب، أما التعدد فلأنه حروف وكلمات ذات كثرة وتعدد، وأما الترتيب فلتقدم بعض حروفه على بعض وتأخر بعضها عن بعض وإذا قطعنا بأنه متعدد ومرتب منظوم في الوجود يوجد بعضه في أثر بعض وجب القطع بأنه محدث لأن المرتب على هذا الوجه يجب أن يكون محدَثاً وذلك ظاهر، فإن وجوب ترتيبه من ضروريات إفادته ألا ترى أن قوله تعالى{ الحمد لله}(يونس:10) حروف وقد تقدم بعضها على بعض فلو لا أن اللام متقدمة على الحاء والحاء متقدمة على الميم والميم متقدمة على الدال لم تكن كلمة مفيدة لهذا المعنى بل كان يجب لو وجدت معاً أن لا تكون حمداً أولى من أن تكون دمحاً فبان أنه مرتب في الوجود وأن بعضه متقدم على بعض والذي يدل أن ماذاك حاله يجب أن يكون محدثاً أن المسبوق من حروفه يجب أن يكون محدثاً لأنه قد تقدم غيره وهو السابق له في الوجود وما تقدمه غيره فهو محدث وكذلك السابق على المحدث بوقت واحد أو أوقات محصورة محدث أيضاً لأنه قد صار لوجوده أول يشار إليه، وقد جاء السمع بتأييد ما ذهبنا إليه قال تعالى{ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلاَّ استمعوه وهم يلعبون}(الأنبياء:02) وقال تعالى{وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث … الآية}(الشعراء:05) وجه الاستدلال: بالآية الأولى أن الكفار كانوا يلعبون ويلغون عند استماع القرآن ونزوله فنزلت هذه الآية ذماً لهم وإخباراً عن حالهم وأن قلوبهم لاهية عن ذلك فكان ذلك معهوداً يصرف الخطاب إليه ويثبت بهذه الآية حدوث الذكر لأن القرآن يسمى ذكراً لقول الله تعالى{وإنه لذكر لك ولقومك}(الزخرف:44) وقوله تعالى{إنَّا
نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}(الحجر:09) وهكذا وجه الدلالة في الآية الثانية.وغير ذلك من الأدلة السمعية كقوله تعالى{الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً}(الزمر:23) وهذه الآية تدل على حدوث القرآن من وجوه:
أحدها:أنه وصفه الله بأنه منزل والقديم لا يجوز عليه النزول.
وثانيها: بأنه وصفه الله بأنه حسن والحسن من صفات المحدث .
وثالثها: بأنه وصفه بأنه حديث والحديث يناقض القديم.
ورابعها: بأنه وصفه بأنه كتاب والكتاب هو المجتمع ولذلك سميَّت الكتيبة كتيبة لاجتماعها والاجتماع من صفات المحدثات.
وخامسها:أنه وصفه بأنه متشابه والمراد بذلك أن بعضه يشبه البعض في جزالة الفاظه وجودة معانيه والقديم لا يشبهه غيره. فثبت أن قول الحشوية بأن هذا القرآن الذي نتلوه في المحاريب قديم في غاية السقوط ونهاية البطلان، وأما القائل بالكلام النفساني بأنه هو القديم وهذا محدث فقد تقدم الجواب عليه في المسألة الأولى ولا كلام عليه في هذه المسألة إذ هو موافق في أن هذا القرآن محدث، وأما ما يقوله محمد بن شجاع ومن وافقه من أن القرآن ليس بمخلوق فذلك باطل لأن المخلوق في أصل اللغة هو المحدث مقدراً، يقولون خلقت الأديم هل يحيي منه مطهرة أي قدرته.قال الشاعر:-
ولا أنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
وقال تعالى{وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير}(المائدة:110) أي مقدر، وإنما لم يوصف أحدنا الآن بأنه الخالق إذا أوجد منه فعل مقدر لأن الشرع منع من ذلك ولا يسمى خالقاً إلاَّ الله تعالى.وإذا ثبت ذلك:فالقرآن محدث مقدر ومعنى التقدير فيه وجوده بحسب المصلحة وعلى قدر الحاجة من غير زيادة ولا نقصان وقد قال تعالى{إنَّا جعلناه قرآناً عربياً}(الزخرف:03) معناه خلقناه بدليل قوله تعالى{وجعل الظلمات والنور}(الأنعام:01) أي خلقهما. وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(كان الله ولا شيء ثم خلق الذِّكر)وقد بينا أن القرآن يسمى ذكراً فصح وصفه بأنه مخلوق. وأما ما تقوله المطرفية من أنه ليس بمحدث ولا قديم فهو تجاهل وخروج عن قضايا العقول لأن كل عاقل يعلم أن الموجود لايخلو من قدم أو حدوث وقد ثبت أن القرآن موجود وبطل أن يكون قديماً، فيجب أن يكون محدثاً، فصح بهذه الجملة ماذهبنا إليه وبطل ماقاله المخالفون.
تنبيه:
جميع ماذكرنا من الأحكام الثابتة للقرآن في المسألتين فهو في سائر الكتب المنزلة كذلك، والكتب التي أنزلت على الأنبياء مائة كتاب وأربعة كتب، أُنزل منها على شيث عليه السلام خمسين كتاباً، وأُنزل على إدريس عليه السلام ثلاثين كتاباً، واسم إدريس بلغة الأعاجم أخنوخ وهو أول من خط بالقلم، وأُنزل على إبراهيم عليه السلام عشرة كتب، وأنزل على موسى عليه السلام قبل التوراة عشرة، وأُنزل الزبور على داود عليه السلام، وأنزلت التوراة على موسى عليه السلام، والإنجيل على عيسى عليه السلام، والقرآن على نبيئنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وروي أن صحف إبراهيم عليه السلام أُنزلت أول ليلة من رمضان، وأُنزلت التوراة لست ليال من رمضان بعد صحف إبراهيم بسبعمائة عام، وأُنزل الزبور لاثنتي عشرة ليلة من رمضان بعد التوراة بخمسمائة عام، وأُنزل الإنجيل لثماني عشرة ليلة من رمضان بعد الزبور بألف عام ومائتي عام، وأنزل الفرقان لأربع وعشرين ليلة من رمضان بعد الإنجيل بستمائة وعشرين عاماً، وكل هذه الكتب مخلوقة قبل بعثة من أُنزلت عليه من النبيئين قضى بذلك الأثر النبوي، وللقرآن خاصة نزولان نزول إلى السماء الدنيا وذلك في شهر رمضان أنزل جملة في ليلة القدر كما قال تعالى{شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن}(البقرة:185) وقد قال تعالى{إنَّا أنزلناه في ليلة القدر}(القدر:01) النزول الثاني نزوله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكان نزوله من سماء الدنيا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابتداؤه في رمضان وأنزل شيئاً فشيئاً
وكان تمام نزوله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة لثلاث وعشرين سنة أو اثنتين وعشرين وكان جبريل عليه السلام ينزله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحسب الحوادث والمصلحة بأمر الله تعالى، قيل وكيفية ذلك أن يعرف معناه فيحفظه أو يسمعه سماعاً فيحفظه وينزله ثم يبلغه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى المكلفين هكذا ذكره الدواري، وقال في موضع آخر في الآثار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتلقى الوحي عن جبريل عليه السلام مشافهة وجبريل يتلقاه كذلك من ملك آخر فوقه قيل هو ميكائيل والملك الآخر يتلقاه كذلك من ملك فوقه وفي بعض الآثار مايدل على أنه إسرافيل وسيأتي.
قلت: وقد ذكر الهادي عليه السلام ما يدل على ذلك لأنه قال وقد سأله الرازي كيف يأخذ جبريل الوحي؟ وكيف يعلمه؟ وكيف السبيل فيه حتى يفهمه؟ فقال الهادي عليه السلام: اعلم هداك الله أن القول فيه عندنا كما قد روي فيه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه سأل جبريل عليه السلام عن ذلك فقال آخذه من ملك فوقي ويأخذه الملك من ملك فوقه فقال صلى الله علي وآله وسلم كيف يأخذه ذلك الملك ويعلمه فقال جبريل عليه السلام يُلقى في قلبه إلقاءً ويلهَمَه إلهاماً، قال الهادي عليه السلام وكذلك هو عندنا أنه يلهِمه الملك الأعلى إلهاماً فيكون ذلك الإلهام من الله وحياً كما ألهم الله تبارك وتعالى النحل لما تحتاج وعرفها سبيلها. قلت: وفي رواية صححها الدواري أن الملك الأعلى يأخذه من اللوح المحفوظ والقلم يكتبه بأمر الله له وهذه الرواية معارضة لرواية الهادي عليه السلام، ويقع من كلام أئمتنا عليهم السلام عدم صحة القول بإثبات القلم واللوح وهذه الكيفية تجري في سائر الكتب.وفي الثعلبي: أن الله تعالى أودع جميع ما أنزل من الكتب في هذه الكتب الأربعة المتأخرة ثم أودع ما في التوراة والإنجيل والزبور في القرآن ثم أودع ما في القرآن من العلوم المفصل ثم أودع علوم المفصل الفاتحة، وفي الأثر عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه يتمكن من تفسيرها بما يكتب في أوراق تُوقر سبعين بعيراً، وكانت صحف إبراهيم عليه السلام أمثالاً مضروبة وعبراً منها: أيها الملك المسلط إني لم أبعثك لجمع الدنيا بعضها إلى بعض ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم، وفيها: وعلى العاقل أن يكون له أربع ساعات ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يتفكر في صنع الله وساعة يخلو فيها لحاجته من
المطعم والمشرب ونحو ذلك، وكانت صحف موسى عليه السلام عبراً منها: عجباً لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح وعجباً لمن أيقن بالقدر ثم ينصب وعجباً لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم اطمأن إليها، إلى نحو ذلك فرع: القرآن كله عربي وقال قوم منهم بن الحاجب وابن عباس وعكرمة والباقلاني فيه رومي وهو القسطاس، وفارسي وهو سجِّيل، ومشكاة للطاقة الغير النافذة فإنها هندية وهذا لا يصح عندنا بل هي عربية طابقت لغة الروم والفرس والهند لقوله تعالى{بلسان عربي مبين}(الشعراء:195) وقوله تعالى{قرآناً عربياً}(الزمر:28).
واعلم أن نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس هو على النحو المرسوم في المصحف في السور والآيات بل من السور ما هو متأخر في كتابة المصحف وهو متقدم في النزول وكذلك الآيات وإنما كان تسوير السور وترتيبها وترتيب الآيات بتوقيف من النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمرهم بوضع الآيات مواضعها وإن نزل منها شيء بعد شيء وكان يأمر في السور كذلك، رتبه صلى الله عليه وآله وسلم في حياته، كذلك قال الدواري:ما خلى سورة التوبة فمات صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبين موضعها وكانت قصتها (تشبهة بقصة) الأنفال فقرنت إليها.
قلت: في عموم كلام لإمامنا أيده الله تعالى ذكره في بعض جواباته ما يشعر بنفي التخصيص وما يقوله المفسرون هكذا ذكر في المصحف والأثر يعنون بذلك مصحف عثمان وما نسخ عليه ولم يخالفه في رسم ولا قراءة وفيه ما يخالف اصطلاح النحاة، والسبب في نسبته إلى عثمان أن الصحابة كثر اختلافهم في المصاحف في ولاية عثمان.
قال إمام زماننا أيده الله تعالى:بل لأن بعض الصحابة كتب التفسير بين كلام القرآن كابن مسعود كالتفاسير في زماننا فجمعت الصحابة المصاحف في ولاية عثمان ووقع اتفاق من علي عليه السلام ومن الصحابة على مصحف أمر عثمان باتباعه وشدد في النهي عن خلافه وهي كلها متفقة في السور لكن كان في بعضها اختلاف في شيء من الإعراب وقراءة القراء ومواضع في فصل الآيات ونحو ذلك، وأمر عثمان بأن يكتب على تلك النسخة ست نسخ وفرقت في النواحي وأمر باتباعها وشدد في ذلك، وأما ماروي أن عثمان هو المؤلف فذلك باطل، لأنه لا دليل صحيح يدل على ذلك ولعل الراوي لذلك من الذين مردوا على النفاق وورد في الأثر أنهم يُجلون عن الحوض ويطردون ولو سلمنا صحة الرواية فهي من رواية الآحاد والقرآن شرفه الله تعالى ولا يثبت بالآحاد وكذلك ترتيبه وإلاَّ لجوزنا تعكيسه وتحويل كلماته التي تحتمل بذلك التحويل والتعكيس معانيها وقوله تعالى{اليوم أكملت لكم دينكم}(المائدة:03) وقوله تعالى{وإنا له لحافظون}(الحجر:09) يقضي ببطلان ذلك، هكذا ذكره إمامنا أيده الله تعالى.
فائدة:
في فضل تلاوة القرآن، قال الدواري: روى عثمان بن عفان العسقلاني عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن جبريل عن ميكائيل عن إسرافيل عن اللوح عن القلم عن الله(من قرأ آية معربة من كتاب الله تعالى كتب الله له مائة حسنة ولمستمعها عشر حسنات فإن كانت غير معربة كتب الله لقارئها عشر حسنات ولمستمعها حسنة، الحسنة ألف ومئتا قنطار، القنطار ألف ومئتا بهار، البهار ألف ومئتا مدلاة، المدلاة ألف ومئتا رطل، الرطل ألف ومئتا أوقية، الأوقية ألف ومئتا قيراط، القيراط مثل جبل أحد) قال الدواري: هذا الخبر موثوق به ولا أعلم خبراً في مقدار الحسنة إلاَّ ما ورد في هذا الخبر، فيحتمل أن يكون تفسير الحسنة هكذا في كل حسنة تذكر، ويحتمل أن هذا تفسير حسنة التلاوة للقرآن وسماعه فأما حسنة غير ذلك فمقدارها مما يستأثر الله تعالى العلم به.
قلت: قد مرَّ أن رواية الهادي عليه السلام تخالف شيئاً (كاللوح والقلم) مما دلت عليه هذه الرواية.
المسألة العشرون في النبوءة
وهذه المسألة أصل لجميع القواعد الشرعية وعليها تنمو أغصانها وهي أم مسائل أصول الدين بعد معرفة الله وعدله، فينبغي الاهتمام بتهذيب أدلتها وتحقيق فصولها ووجه اتصالها بباب العدل، إنها بيان لحال المؤدي عن الله تعالى ما نشكره به في مقابلة النعمة وذلك من العدل والحكمة إذ لو أراد منَّا شكره بغير ما نعلمه كان تكليفاً بما لا يعلم
وذلك لا يصح عند أهل العدل، وهذا على القول بأن الطاعات شكر.
قال إمام زماننا أيده الله : وذلك هو أصل قدماء العترة وقد صرح بذلك الهادي عليه السلام لأنه قال: لابد من رسول لينبي عن الله ببيان أداء شكره بما شاء من الشرائع على ما منَّ به من النعم ويميز بذلك من يشكره ممن لا يشكره، إذ قد ثبت أنه تعالى ليس بجسم فامتنع أن يلقى مشافهة، والحكيم لا يترك ما شأنه كذلك هملاً. وذهب المهدي عليه السلام وكثير من المعتزلة وبعض صفوة الشيعة: أنه يجب على الله تعالى إرسال الرسل لأن البعثة لطف للرسول والمرسل إليه وهو يجب على الله تعالى، والشرائع ليست شكراً وإنما هي ألطاف في العقليات، والشكر الاعتراف فقط، وقد قدمنا في بطلان مقالتهم ما يغني عن الإعادة. والنبوءة: تستعمل في اللغة بالهمز وغير الهمز فبالهمز من الإنباء وهو الإخبار، وبغير الهمز من نبا ينبوا إذا ارتفع، فالنبي إما بالتشديد فهو فعيل بمعنى فاعل كعليم وسميع، وأما بالهمز فهو فعيل بمنى مفعل بكسر العين كنذير أو بفتحها كالقرآن الحكيم وقد منع أبو علي أن يسمى نبيئنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيئاً بالهمز من الإنباء وهو الإخبار لأنه حين قال له الأعرابي يا نبي الله بالهمز قال لست نبيءَ الله وإنما (نبي الله أنا) ، وكلامه ضعيف لأن قواعد اللغة تقتضي صحة الإطلاق بحصول المعنى وورد في القراءات السبع وهي متواترة في قول كثير من العلماء (خلاف الزمخشري) والإمام يحي (عليه السلام) وغيرهما. ومعتمد أئمتنا عليهم السلام قراءة أهل المدينة.
قال الهادي عليه السلام: ولم يتواتر غيرها، وقول من قال أنها كلها آحادية باطل لأن الله تعالى يقول{لاريب فيه}(البقرة:02) وخبر الواحد لايفيد القطع إذ من الجائز في الواحد أن يسمعه خبراً فيتوهمه قرآناً فلابد من التواتر إذ لايجوز الكذب فيما نقل تواتراً عادة. وإذا ثبت أن القرآت متواترة وقد ورد فيها استعمال نبيء بالهمز بطل قول أبي علي. وفي الاصطلاح: هي وحي الله إلى أزكى البشر عقلاً وطهارة من ارتكاب القبيح وأعلاهم منصباً بشريعة. والرسالة لغة: القول المبلغ، وشرعاً كالنبوة إلا أنه يقال موضع بشريعة لتبليغ شريعة لم يسبقه بتبليغ جميعها أحد، وهذا مبني على أن النبي أعم من الرسول وهذا مذهب (الهادي والقاسم) والزمخشري وقاضي القضاة فالرسول من أتى بشريعة جديدة من غير واسطة رسول، وذهب الإمام المهدي عليه السلام والبلخي: إلى أنهما مترادفان.
حجتنا قوله تعالى{وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي}(الحج:52) فعطف العام على الخاص وذلك يقتضي المغايرة، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سئل عن عدد الأنبياء فقال(هم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً) وسئل عن عدد الرسل فقال(هم ثلاثمائة وثلاثة عشر)، وقولنا في الحد إلى أزكى البشر إلى آخره، إشارة إلى الصفة التي تجب أن يكون الأنبياء (عليهم السلام) عليها فيكون الناس أقرب إلى قبول كلامهم، وهذه الصفة على ضربين، ضرب من جهة الله، وضرب من جهة النبي ، فالذي من جهة الله أربعة أشياء :
الأول: حسن الخلقة فلا تكون صورته من الصور المستنكرة الشنيعة.
الثاني: أن يكون سليم الأعضاء عن النقصان.
الثالث: أن يكون سليماً عن العاهات كالجذام والبرص.
الرابع: أن يكون أوفر العقل، وقد جرت العادة من الله تعالى بخلقه النبيين على أتم ما يكون من أهل زمانهم وبالخصال المحمودة من أفعالهم، وأما التي ترجع إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) فأمور ثلاثة:
الأول: أن يكون مجتنباً للكبائر قبل البعثة وبعدها.
الثاني: أن يكون مجتنباً للمعاصي مطلقاً المتعلقة بإبلاغ الرسالة.
الثالث: أن يكون مجتنباً للمباحات المنفرة كالمداعبة المنفرة والأكل في الأسواق ومجامع الناس منفرداً بذلك دون غيره، وكذلك سائر الخلال التي ينسب فاعلها أو تاركها إلى
خلاف مكارم الأخلاق بل ينسب إلى الخلق الذميم. وأما الصغائر فإنها جائزة على الأنبياء بشرطين : أحدهما أن لا تكون منفرة. الثاني أن لا تكون متعلقة بإبلاغ الرسالة وتأدية الشرائع فأما ما كان كذلك فإنه لا يجوز عليهم عمداً ولا خطأً، واشترط أبو علي شرطاً ثالثاً وهو أن يكون فعلها بتأويل وهو يأتي على مذهب قدماء أئمتنا عليهم السلام، وإمام زماننا أيده الله تعالى أن وقوعها منهم إما على جهة التأويل أو السهو لا على جهة التعمد كما سيأتي بيانه إنشاء الله تعالى به قال أكثر العقلاء وبعثة الأنبياء عليهم السلام حسنة غير قبيحة ولا ممتنعة لما قررنا أنها من العدل والحكمة. وقالت البراهمة: إنها قبيحة لا تحسن إذ العقل كاف في إدراك القبيح والحسن، فنحن نعمل به ولا نقبل ما خالفه فإنا نعلم بعقولنا ضرورة قبل الأنبياء قبح ذبح البهائم، كما نعلم قبح كل ظلم وبعد ذلك من علوم العقل، فلو قبلنا من الأنبياء الحكم بحسنه لكنا قد أبطلنا حكم العقل الذي لا يصح رفعه ولا يجوز نسخه ولكنا نجوِّز أن يأتي بعض الأنبياء بحسن الظلم والكذب وجميع القبائح العقلية فيبطل العقل أصلاً وهو محال.
الجواب: أنا لم نجعل الشرع مثبتاً لما قد أدركه العقل فإن في العقل غنية عنه، بل لأنا لا نهتدي إلى أمر المنعم ونهيه بما شاء أن يستأدي منا شكره إلاَّ بالأنبياء، وأما ما ذكروه
في نحو ذبح البهائم فإن العقل لم يحكم بقبحه إلا لاندراجه تحت ماهية الظلم الذي هو ماهية القبح، وإنما كان ظلماً لتعريه عن النفع والاستحقاق فلما أباحه الشرع علمنا أنه قد ضمن لها عوضاً يقابله فارتفع عنه حقيقة الظلم فزال القبح لزوال علته وهذا غير مصادم للعقل وإنما يكون مصادماً له لو رفع قبح الظلم أصلاً الذي قضى به العقل وليس كذلك فهذا كلام في النبوءة جملة . وأما نبوة نبيئنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاعلم أن من أنكر الصانع أنكر نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأما المُقِّرّون بالصانع فاختلفوا، فالذي عليه أهل الإسلام قاطبة وكثير من الفرق الخارجة عن الإسلام (أن النبي) صلى الله عليه وآله وسلم نبي صادق وأنه يجب علينا تصديقه واتباع ما جاء به من قول أو فعل أو تقرير. والخلاف في ذلك مع اليهود والنصارى والباطنية والمطرفيّة، واشتهر إنكار عبدة الأوثان وغيرهم من كفار الجاهلية نبوته صلى الله عليه وآله وسلم، أما النصارى فإنهم يقولون: أنه لم يظهر عليه معجزة فلم يكن نبياً. وأما اليهود فهم أكثر من خالفنا في هذه المسألة ولهم أقوال، منهم من قال: أنه لم يكن نبياً لأنه أتى بنسخ شريعة موسى ونسخ الشرائع لم يقض به العقل ولا السمع. ومنهم من قال: لم يكن نبياً لأنه أتى بنسخ شريعة موسى وقد قضى السمع بعدم جواز ذلك لما يروونه من قول موسى عليه السلام شريعتي لا تنسخ أبداً وإن أجاز ذلك العقل. ومنهم من قال: لم يكن نبياً لعدم ظهور المعجزة عليه، ومنهم من قال: أنه مرسل إلى العرب دون العجم وهؤلاء يسمون العيسوية وهم من أماثلهم، ولليهود شريعة مخالفة لشريعة الإسلام، منها أنهم لا يزوجون إلاَّ بحضرة (ثلاثة شهود) ولا يزوجون إلا على مائتي قفلة
للبكر والثيب لها النصف من ذلك، ولهم طهور مخصوص وهو أن الواحد منهم إذا أراد الطهور غسل بدنه ثلاثاً واستنشق ثلاثاً واستنثر واحدة وغسل وجهه ثلاثاً وذراعيه واحدة واحدة وتمضمض ثلاثاً وغسل رجله اليسرى ثلاثاً ورجله اليمنى ثلاثاً وغسل يديه ثلاثاً، ولهم صيام من غروب الشمس إلى غروبها، ولهم تكليف في يوم السبت إذا عصى الواحد منهم فيه لم يكن له حد إلا القتل. وأما المطرفية: فإنهم وإن تظاهروا بالإقرار بنبوته فهم منكرون كونه مبعوثاً بعثه الله على الحد الذي نقوله لأن منهم من يقول إن النبوة يفعلها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لنفسه فمن شاء كان نبياً، ومنهم من قال هي جزاء على العمل، ومنهم من قال هي حكمة وتسمية. وأما الباطنية: فعندهم أن النبوءة مادة ترد من السابق على قلب من وقعت للتالي به عناية وأن المعجزات ظهرت على يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما اختص به من العلم بطبائع الأشياء وخواصها وأنها من قبيل الحِيَل.
والدليل على ذلك المذهب الصحيح وهو القول بصحة نبؤة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن المعجز على كثرة اختلاف أجناسه ظهر على يديه عقيب دعوى النبوءة.
قال في الأساس: حقيقة المعجز ما لا يطيقه بشر ولا يمكن التعلم لإحضار مثله ابتداءً سواء دخل جنسه في مقدورنا كالكلام أم لا كحنين الجذع. وقال في الخلاصة: حقيقته هو الفعل الناقض للعادة المتعلق بدعوى المدّعي للنبؤة ومجموع الحدين قد أفاد شروطه الأربعة:
الأول أن يكون من فعل الله كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وأما فتق الحبل ونحوه فالمعجز في الحقيقة هو إقداره على ذلك وهو من فعل الله .
الثاني أن يتعذر مثله عنَّا عادة ولو دخل جنسه في مقدورنا كالقرآن لحصول المقصود وهو العجز عن الإتيان بمثله.
الثالث أنه لابد أن يقع عقيب الدعوى للنبؤة لانتفاء تجويز وقوعه على سبيل الاتفاق حينئذ، والمراد بعقيب الدعوى الوقت الذي يطلب منه ظهوره فيه ويعد به لأن في عدم
ظهوره حينئذ دلالة على كذبه وتكذيب الصادق لا يجوز من الحكيم .
الرابع أن يكون ظهوره والتكليف باقٍ وإلاَّ لجوزناه خارقاً للعادة من جملة الخوارق الحادثة كطلوع الشمس من المغرب وخروج الدابة ونحو ذلك، وفي الحقيقة لا حاجة إلى هذا الشرط لأن الكلام هو في المعجز الدال على صدق المدّعي للنبؤة المستلزمة لبقاء التكليف بل لابد فيه من تكليف جديد فهذا أصل أول وهو أنه ظهر المعجز على يده عقيب دعوى النبوءة، وأما الأصل الثاني فقد نبَّه عليه بقوله وكل من ظهر (على يديه المعجز) عقيب دعوى النبوءة فهو نبي صادق، والذي يدل على هذا الأصل أن المعجز يجري مجرى التصديق بالقول لمن ظهر عليه وتصديق الكاذب كذب والكذب قبيح والله تعالى لا يفعل القبيح، فإذا بطل أن يكون من ظهر عليه المعجز كاذباً ثبت أنه صادق إذ لا واسطة بينهما. وبيان ذلك بالقسمة المفيدة للقطع الدائرة بين النفي والإثبات وهي أن يقال المخبر عن الشيء لا يخلو إما أن يكون ما أخبر به على ما هو به أو لا يكون فإن كان فهو الصدق والمخبر صادق، وإن لم يكن فهو الكذب والمخبر كاذب، وقد بطل أن يكون محمد صلى الله عليه وآله وسلم كاذباً فوجب أن يكون صادقاً وعلى هذا فلا يصح نبي إلاَّ بمعجز، خلافاً للحشوية فقالوا: يصح بغيره.
قلنا: المعجز شاهد بصدقه وإذا عدم الشاهد لم يحصل التمييز بين الصادق الأمين ونحو مسيلمة اللعين والله عدل حكيم (لا يلبس) خطابه بالكذب والافتراء فبطل ما قالوا.
قال جمهور أئمتنا عليهم السلام والبهشميّة ولا يجوز ظهوره لغير نبي إذ فيه (حط مرتبة) الأنبياء (عليهم السلام) حيث يحصل الاستواء بينهم وبين غيرهم بظهوره على يدي كل. وقالت الإماميّة: بل يجب للأئمة بناءً منهم على أنهم كالأنبياء، وقال عبَّاد بن سليمان: يجوز ظهوره على حجج الله تعالى في كل زمان على أهله ليكون حجة على وجوب اتباعهم. وقالت الملاحمية والحشوية: بل يجوز ظهوره للصالحين وبه قال أبو رشيد وأبو الحسين البصري وهو اختيار المؤيد بالله عليه السلام والمنصور بالله ورجحه الدواري، وهو قريب من قول عبّاد. وقالت الأشعرية: يجوز ظهوره للصالحين وللكفرة أيضاً من ادعى الربوبيّة كفرعون والنمرود ومن لم يدعها كعبدة الأوثان لقيام البراهين العقلية على كذبه، لا لمن يدعي النبوءة كاذباً لأن في ذلك هدماً للشرائع وهو نقص لا يجوز على الحكيم، وكل أقوال هؤلاء باطلة سواء القول بأنه لا يجوز ظهوره على غير نبي لما ذكرنا من لزوم التسوية بين الأنبياء وبين سائر الناس، وفي ذلك هدم للشرائع المعلوم وجوبها من الدين ضرورة، إذ الكفار يقولون للنبي لا نصدقك لأنه قد أتى بهذا من ادعى الربوبية وهو كاذب ومن ادعى الإمامة وهو كاذب أو الصلاح أو كونه محقاً في حجته فلعل المعجزة كانت لبعضها لكنك تجرأت الكذب طمعاً في نيل الدرجة العليا وهي النبوءة والله تعالى حكيم لا يفعل ذلك، وأيضاً لا يكون معجزاً إلاَّ إذا كان معرفاً بالنبوءة ولم يقع تعريف أو بعد الدعوى والدعوى لا تكون إلاَّ بعد الوحي أن سيفعل ذلك وليس الوحي إلاَّ للأنبياء إجماعاً.
قال أئمتنا (عليهم السلام) : فأما الكرامات التي تحصل للصالحين نحو إنزال الغيث وإشفاء المريض وتعجيل عقوبة بعض الظالمين الحاصلة بسبب دعائهم فليست بمعجزات لعدم حصول شرط المعجز وإنما هي إجابة من الله تعالى لدعائهم لأن الله تعالى قد تكفل لهم بالإجابة.
قلت:وهم يعنون بالكرامات ما ليس من الخوارق الناقضة للعادة كفلق البحر وقلب العصا حيَّة إذ في ظهورها عليهم حط لمرتبة الأنبياء وقد صرَّح بذلك المهدي عليه السلام.والذي يدل على الأصل الأول وهو أن المعجز ظهر على يده عقيب دعوى النبوءة أنه جاء بالقرآن.ذلك معلوم ضرورة عند من عرف الأخبار وروى السير والآثار وجعله معجزاً له وذلك معلوم ضرورة كما مرَّ ولم يسمع من غيره قبله وإنما جعل القرآن عمدة من بين سائر المعجزات لكونه منقولاً بالتواتر بلى خلاف وغيره وإن كان قد تواتر كحنين الجِذْع عند أئمتنا عليهم السلام والبغداذية إلاَّ أن شهرة تواتر القرآن أكثر، ولهذا خالف أبو علي وأبو هاشم في تواتر غيره ولما تضمن من العلوم الغيبية ولأنه في كل وقت يفصح بالتحدي والدلالة على العجز عن معارضته والإقرار بأنه معجز، ووجه إعجازه عند أئمتنا (عليهم السلام) والجمهور بلاغته الخارقة للعادة لأنه تحدى به فصحاء العرب فلم يأتوا بشيء من ذلك،ومعنى التحدي هو طلب الفعل ممن عرف الطالب عجزه عنه (إظهار لعجزه) عنه وإنما لم يأتوا به لعجزهم عنه فوجب أن يكون القرآن معجزة ظاهرة على يديه عقيب دعوى النبوءة صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك ظاهره أن الإشارة راجعة إلى الأصول الثلاثة وهي:أنه جاء بالقرآن، وأنه جعله معجزة له، وأنه تحدى به العرب، فتكون كلها محتاجة إلى الفحص والتفتيش، وصاحب الخلاصة
جعل الأولين مما لا يحتاج إلى فحص وتفتيش بخلاف الثالث مع الاشتراك في أنها معلومة بالضرورة.قال الدواري:بل هي محتاجة إلى ذلك إلاَّ أنه في الآخِر أكثر. والحاصل أن لنا في بيان ذلك طريقين.أحدهما:أنه معلوم ضرورة لمن كان له أدنى فحص وتفتيش، فمن عرف أحواله عليه السلام وسمع سِيَرَه وأخباره، علم أنه كان يغشى به مجامع العرب ومشاهدهم، ويتلوه عليهم ويحدثهم به والأمر في ذلك ظاهر،والطريق الثاني أن القرآن مشحون بآيات التحدّي وقد رتب الله التحدي في ثلاث مراتب. الأولى أنه تحدّاهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن قال تعالى{أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين}(الطور:33،34) ثم أخبر أنهم لا يأتون بمثله قال تعالى{قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً}(الإسراء:88) فلما لم يأتوا بشيء من ذلك أنزلهم مرتبة ثانية فتحدّاهم أن يأتوا بعشر سور مثله فقال تعالى{فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين}(هود:13) فلمّا لم يأتوا بشيء من ذلك أنزلهم الله مرتبة ثالثة فتحدّاهم أن يأتوا بسورة من مثله قال تعالى{وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين}(البقرة:23) فلمّا لم يأتوا بشيء من ذلك توعدهم وتهددهم فقال{فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين}(البقرة:24) (وهذا) غاية التحدي الباعث على المعارضة ولاشك أنهم كانوا يستمعون هذه الآيات كما كانوا يستمعون سائر القرآن، فهذه ثلاثة أصول مقطوع بها. وأما الأصل الرابع وهو أنهم بعد التحدي لم يأتوا بشيء
من ذلك فقد بينه بقوله{فلم يأتوا بحديث مثله}(الطور:34) علم ذلك ضرورة وإلاَّ لَنُقِل لِعِلْمِنَا ضرورة أن العرف يقتضي ذلك في كل متعارضين ألا ترى إلى نقائض جرير والفرزدق كيف استوى نقلهما في الاستفاضة والظهور، وكان الموجب لذلك أن ما يدعوا إلى نقل أحدهما من تعجب وتعصب هو بعينه يدعوا إلى نقل الآخر وهذه القضية في القرآن ألزم لعظم خطره في نفسه من حيث اقتضى إثبات نبؤة ونسخ شريعة، فكانت معارضته تقوى بحسب قوته وكانت دواعي المتمسِّكين به متوفرة إلى نقل المعارضة لو كانت ليثبتوا به أن المعارضة غير قادحة فيه وأن المكذبين له لم يعدم منهم الإتيان بمثله إلاَّ لعجزهم عنه لأن حالهم كحال المتمسِّكين به في أن دواعيهم كانت متوفرّة قويَّة إلى معارضته ليبطلوا به نبؤته صلى الله عليه وآله وسلم وذلك لأنه ادعى عليهم المرتبة العظمى، وهو أنه أولى بهم من أنفسهم وله التصرف في أرواحهم وأموالهم بسبب ما جاء به من القرآن الذي جعل عجزهم عن معارضته دليلاً على صدقه فلم يعارضوه بل عَدَلوا إلى القتال حتى ذهب كثير منهم قتلاً وأسراً، فلو قدروا على المعارضة لم يعدلوا عنها لسهولتها وعلمهم أن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبطل بها، فلما عدلوا إلى المحاربة الشاقة الصعبة وتحملوا خطوبها وأخطارها وتلك المحاربة من الأمور التي لا تدل على صحة صحيح و لا بطلان باطل دل ذلك على عجزهم عن معارضة القرآن لعلمنا أن العاقل (لا يقدم على) الأمر الشاق الذي فيه هلاك نفسه وذهاب أمواله وأولاده مع القدرة على تحصيل غرضه بالأمر الذي لا مشقة فيه ولا خطر معه، فثبت بتقرير هذه الأصول أنه أي القرآن معجز دال على نبؤة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدقه.
وأما احتجاج اليهود بقول موسى عليه السلام تمسكوا بالسبت أبداً، وشريعتي لا تنسخ أبداً فذلك مما لا يلتفت إليه ولا يعول عليه لأن الأدلة القطعية قد انتهضت على صحة نبؤة نبيئنا صلى الله عليه وآله وسلم وصدقه فيما جاء به ومن جملة ما جاء به إبطال التمسك بالسبت
والخبر المروي عن موسى عليه السلام، نقطع بكذبه لأنه آحادي لا يقاوم القطعي بل يبطل، سلمنا فمعناه ما لم يأتكم نبي مصدَّق بالمعجز وذِكْر التأبيد مجاز يجب حمله على غير الدوام للدلالة الموجبة لذلك ولهذا قال (الله) تعالى{ولن يتمنوه أبداً}(البقرة:95) ثم أخبر أنهم يتمنونه.
ومما يؤيد ما ذهبنا إليه: البشارات الواردة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة فإن يعقوب عليه السلام قال لا يزول الملك من يهوذا والوحي من بين رحيله حتى يأتي الذي له الملك وإياه تنتظر الأمم محمرةٌ عيناه كشارب الخمر بيضاء أسنانه كشارب اللبن، وقد روي أن بَحيراً@ تأمل حمرة عيني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبياض أسنانه فوجده كما ذكر في التوراة وكان ذلك سبباً لإسلامه، وكذلك عبدالله بن سلام لمَّا عرف العلامات المذكورة في التوراة الدالة على نبؤته كان ذلك سبباً لإسلامه، وكذلك فإن في التوراة في السِّفْر الثاني البشارة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم (وهو قول الله) تعالى{{جاء الرب من سيناء وأشرق من ساعير وأنور واستعلن من جبال فاران}} والمراد بذلك أمر الرب وهي البشارة بموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن جبال مكة هي جبال فاران، وإذا تظاهرت الأدلة على نبؤته صلى الله عليه وآله وسلم وهو ما قدمنا من ظهور المعجز عليه والبشارات الواردة في الكتب المتقدمة، (ثبت بهذه) الجملة أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نبي صادق. ووجب الإقرار بذلك والمتابعة له فيما جاء به كما لزم فيمن تقدم من الأنبياء عليهم السلام.
تنبيه:
يشتمل على ثلاث فوائد:
الأولى في أنه صلى الله عليه وآله وسلم مرسل إلى الثقلين الإنس والجن وذلك معلوم ضرورة من دينه صلى الله عليه وآله وسلم، ومعلوم من إجماع المسلمين وعليه من الكتاب قوله تعالى{وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً}(سبأ:28) وقال تعالى{يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً}(الأعراف:158) وقال تعالى{وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن}إلى قوله تعالى{يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به… الآيات}(الأحقاف:29-31) وقال تعالى حاكياً عن الجن{إنّا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به}(نوح:1،2) وقررهم على ذلك فدلّ على أنهم مكلفون بما فيه، وفي الأثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (بعثت إلى الأحمر والأسود) والأسود عبارة عن السودان والعرب لتقارب ألوانهم، والأحمر عبارة عن الترك والروم ونحوهم مما لا خضرة في ألوانهم، فأمَّا غير نبيئنا صلى الله عليه وآله وسلم فلا نقطع بأنه بعث إلى الكافة وإن جاز، وحكى الشيخ أبو القاسم عن قوم أن الأنبياء كلهم مبعوثون إلى الكافة. وإذا تقررت هذه الأدلة لم يصح ما قاله بعضهم أنه يجوز أن يكون في المكلفين من لم تبلغه دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا تلزمه شريعته، لأنه إذا ثبت كونه مرسلاً إلى الكافة وجب أن يكون لهم طريق إلى العلم بنبؤته وشريعته وتوفر الدواعي إلى نقل ذلك إليهم نقلاً متواتراً، وتوفر دواعيهم إلى البحث عن ذلك وطلبه حتى يحصل لهم العلم ويتمكنوا من ذلك، ولو لم يكن كذلك كلفوا ما لم يعلموا وذلك قبيح فتعالى الله عنه، وأمّا المدة التي لا يمكن فيها بلوغ العلم إلى المبعوث إليهم فإنه لا تكليف عليهم في تلك المدة لتعذر إمكان العلم (بما كُلفوه) .
فإن قيل: إن يأجوج ومأجوج بيننا وبينهم الردم وهم من الناس فكيف يكون الاتصال بهم للتبليغ.
قلنا: ذكر الدواري في الجواب ما لفظه، ذكر في المحيط لابن مُتَّوَيهْ انتهى ولم يذكر بعد ذلك شيئاً، وفي التهذيب للحاكم يحتمل أن يكونوا غير مكلفين، ويحتمل أنها لم تبلغهم دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعدم الإمكان، ويحتمل أن الذين يتداولون الردم سمعوا ذلك فيكونون مكلفين به. قلت: وعموم الأدلة تقضي بذلك إذ هو مرسل إلى الثقلين الجن والإنس وهم من الإنس.
الثانية في طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معرفة نبؤة نفسه هو خبر جبريل مثلاً، لكن لابد أن يظهر معجز على يدي جبريل يدل على صدقه، وأمّا جبريل فطريق معرفته لرسالة نفسه هو سماع كلام من رب العزّة بخلقه في جسم ويقرنه بما يدل على أنه ليس من كلام غير الله تعالى حتى يعلم ذلك جبريل (عليه السلام) يقيناً لاشك فيه بوجه أصلاً.
الثالثة في فضل الملائكة على الأنبياء وفضل نبيئنا خاصة على سائر الأنبياء. أما فضل الملائكة على الأنبياء فذلك مختلف فيه. فعند أئمتنا عليهم السلام ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم أن الملائكة أفضل من الأنبياء ومعنى ذلك أن ثواب أدنى الملائكة لا يساويه ثواب أفضل الأنبياء. وقالت الأشعرية: بل الأنبياء أفضل.
حجتنا: قوله تعالى{لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}(التحريم:06) فدلّت على عصمتهم من جميع المعاصي صغيرها وكبيرها بخلاف الأنبياء فإنها تجوز عليهم الصغائر، وقوله تعالى مخاطباً لنبيئنا صلى الله عليه وآله وسلم{قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك}(الأنعام:50) وقوله تعالى حاكياً عن وسوسة إبليس لآدم وحوى{ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلاّ أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين}(الأعراف:20) وقريب منه قوله تعالى{لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون}(النساء:172) وبيان الاستدلال بها أن ذلك ترقٍّ من درجة إلى أعلى منها يعرف ذلك العالم بأساليب أهل اللسان العربي، يقال لا يأنف فلان من تعظيم العالم ولا من هو أعظم منه، وأما سجود الملائكة (عليهم السلام) فلم يكن لآدم على الحقيقه بل لله لإحداثِه تلك الخلقة الكريمة وكان آدم قبلةً لسجودهم فقط، ولا نسلم أن تكليف البشر أشق من تكليف الملائكة لأنا نقطع أن لهم شهوة ونفرة مع استمرارهم على الطاعة على مضي الأزمان والقرون، ولئن سلمنا ذلك لكن ربما كان التكليف الذي مدته في غاية الطول يقتضي من الثواب أكثر مما يقتضيه التكليف الشاق الذي مدته قصيرة يسيرة، وأمّا كون الملائكة كانوا من أنصار نبيئنا صلى الله عليه وآله وسلم فليس فيه ما يقتضي أفضليته (عليه الصلاة والسلام) عليهم. وأمّا فضل نبيئنا صلى الله عليه وآله وسلم خاصة على سائر الأنبياء فهو معلوم من دينه ضرورة ومن إجماع المسلمين وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:(أنا سيد ولد آدم ولافخر، آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة، وكذا أنا أول من يقرع باب الجنة، وأنا أول من تنشق عنه الأرض، وأنا
أول شافع ومشفع) ونحو ذلك، وأمّا قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(لاتفضلوني على يونس بن متَّى) فقد تؤِّل بأنه لم يكن قد علم أفضليته أو أراد لاتفضلوني في صحة النبوة ووجوب الإتباع أو قال ذلك ردعاً للجاهلين حين طعنوا على يونس لذهابه مغاضباً أو إيثاراً للتواضع كما يفعله صالح المكلفين ويجوز تفاضل سائر الأنبياء خلافاً لضرار.
حجتنا قوله تعالى{ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض}(الإسراء:55) ولامانع منه من جهة العقل.
باب الوعد والوعيد
وحقيقة الوعد الخبر عن إيصال النفع أو دفع الضرر إلى الغير في مستقبل الزمان من جهة المخبِر إلى المخبَر، فقولنا الخبر جنس الحد، وقولنا عن إيصال النفع أو دفع الضرر احترازاً من الخبر عن إيصال الضرر فإن ذلك لايسمى وعداً بل وعيداً كما سيأتي، وقلنا إلى الغير احترازاً عن الخبر بوصوله إلى نفسه، وقلنا في مستقبل الزمان لنخرج منه
الخبر عن الماضي والحال فإنه لايسمى وعداً، وقولنا من جهة المخبِر إلى المخبَر احترازاً من الخبر بإيصال النفع من جهة الغير فإن ذلك لايسمى وعداً (ولا فاعله) واعداً بل ذلك بشارة والفاعل يسمى بشيراً، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسمى بشيراً لنا لأنه أخبرنا بإيصال النفع إلينا من جهة الله تعالى لامن جهته. وحقيقة الوعيد هو الخبر عن إيصال الضرر وفوات النفع إلى الغير في مستقبل الزمان من جهة المخبِر إلى المخبَر، وهو في الاحترازات كما في الوعد إلاّ أن الضرر فيه يذكر في موضع النفع من الوعد وفوات النفع في موضع دفع الضرر، والوعد من الله إخبار بالثواب، والوعيد منه إخبار بالعقاب. قالت العترة وصفوة الشيعة والمعتزلة وغيرهم: وهما مستحقان عقلاً وسمعاً هكذا في الأساس.
قلت: والتعبير بالاستحقاق للثواب لايأتي على رأي جمهور الأئمة (عليهم السلام) لأنهم يقولون لايجب عليه واجب ولايستحق عليه حينئذ لأن تأدية هذه التكاليف شكر على ماأنعم به تعالى وهذه التكاليف يسيرة في شكر المنعم وغير مقاومة لها. وروى في الأساس عن المجبرة أنهما يُستحقان سمعاً فقط.
قلت: المشهور عن مذهبهم أن الثواب لايجب عليه تعالى بناءً على أصلهم وهو أنه لايجب على الله واجب ولايقبح منه قبيح، وعلى قولهم لايقبح منه قبيح يلزم منه عدم استحقاق العقاب للعاصي وقد صرح به بعضهم، وإنما الخلاف المشهور في هذه المسألة للكرامية وابن الراوندي والسيدأبي القاسم الموسوي من المعتزلة فقالوا: إن مايعلم استحقاقهما سمعاً فقط وهي أدلة الوعد والوعيد.
وحجتنا عليهم تبادر العقلاء إلى تصويب من طلب المكافأة على الإحسان ومن عاقب على الإساءة، وذلك دليل على حسنهما واستحقاقهما إذ طلب مالايستحق وفعله خارج عن تصويب العقلاء فعلمنا أن العلة في التصويب هي الاستحقاق. واختلف في
الثواب والعقاب هل يجوز استوائهما أو لابد من الرجحان. فذهب الجمهور من المعتزلة فيهم أبوعلي وأبو هاشم وقاضي القضاة إلى المنع من جواز الاستواء والذي عليه جماعة من أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم وغيرهم جواز ذلك، فمن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) زين العابدين علي بن الحسين والقاسم والمؤيد بالله (والمنصور بالله) والحقيني ومن شيعتهم القاضي جعفر والشيخ الحسن والفقيه حميد، قالوا: لأنه لامانع منه عقلاً ولاشرعاً، قال الأولون: لادليل عليه من العقل وإنما المانع السمع وهو الإجماع على أنه لابد للمكلف من الجنة أو النار، ولو استويا لم يستحق المكلف جنة ولاناراً. قال الإمام المهدي عليه السلام: في دعوى الإجماع نظر لاشتهار خلاف من ذكر أولاً، وقد قال باستوائهما أيضاً فرقة من الصوفية لكنهم يثبتون داراً ثالثة بين الجنة والنار يدخلها من المكلفين من استوى ثوابه وعقابه قالوا: وهي التي ذكرها الله تعالى بقوله{وعلى الأعراف رجال}(الأعراف:46) وقال بعض أصحابنا إن الأعراف أعالي الجنة وقيل هي أعالي الحجاب الذي بين الجنة والنار وهو المراد بقوله {وبينهما حجاب}(الأعراف:46) وأنه يحبس فيه من قصر عمله عن السبق إلى دخول الجنة أو من استوت حسناته وسيئاته على الخلاف ثم يدخلون الجنة وهم المعنيون بقوله (تعالى){ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون}(الأعراف:49).
واعلم أنه إذا فعل المكلف العاصي طاعة من دون أن يتوب من معصية الفسق فقد سقط القضاء إجماعاً. وهل تُسقط الطاعة شيئاً من عقاب المعصية أو لا خلاف؟
فذهب الشيخ أبو علي إلى أن الإحباط وهو إسقاط العقاب لجميع الثواب والتكفير وهو اسقاط الثواب لجميع العقاب يقعان بسقوط الأقل بالأكثر سواء تقدم استحقاق الثواب أو استحقاق العقاب، فمن له أحد عشر جزءً من الثواب وفعل ما يوجب عشرة أجزاء من العقاب سقط الأقل وهو العشرة وبقي الأكثر وهو الأحد عشر وكذا في العكس.
وقال المهدي عليه السلام والبهشمية: وهو إدعاء القاضي جعفر الإجماع أن الإحباط والتكفير يقعان بالموازنة فتساقط العشرتان ويبقى له جزء من الثواب وكذا في العكس وهذه تسمى مسألة الموازنة.
حجة أبي علي من وجوه ثلاثة:
أحدها: أن سقوط الثواب عقاب والعكس فيلزم في الصورتين السابقتين أن يكون مثاباً معاقباً في حالة واحدة بخلاف ما إذا أسقطنا الأقل بالأكثر فلا يلزمنا شيء.
وثانيها: أن الموازنة تقع بين الطاعة والمعصية فإذا سقط أحدهما بالآخر سقط جميع ما يستحق عليه جملة واحدة فلا يصح أن يوازن به بعد سقوطه وهذا الوجه مبني على أن الموازنة في الأفعال، والبهشمية وموافقوهم يخالفون في هذا الأصل ويقولون الموازنة بين الثواب والعقاب.
وثالثها: حجة السمع وهو قوله تعالى{وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً}(الفرقان:23) ولا يكون هباء منثورا إلاَّ إذا سقط بجملته ولم يسقط عنهم شيئاً من العقاب ومثله قوله تعالى{ولا تبطلوا أعمالكم}(محمد:33) وقوله {أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}(الحجرات:02) وقوله تعالى{لئن أشركت ليحبطن عملك}(الزمر:65) فهذه الآيات تدل على أن الثواب يذهب في جنب العقاب الذي هو أكثر منه نسياً منسياً غير مسقط شيئاً من أجزاء العقاب.
قلت: في كلام الأساس لإمام زماننا أيده الله ما يدل على انحباط الطاعة بفعل المعصية قلَّت الأجزاء أم كثرت، وحكاه أيده الله تعالى عن أبي علي والأخشيدية، ولمَّا احتج المخالف بقوله تعالى{فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره}(الزلزلة:07) وقوله {إنَّا لا نضيع أجر من أحسن عملاً}(الكهف:30) رد عليه بأن ذلك عام مخصوص بقوله تعالى {إنما يتقبل الله من المتقين}(المائدة:27) فلو كانت مسقطه كانت متقبلة وبقوله تعالى{إني لاأضيع عمل عامل منكم من ذكرٍ أو أنثى}(آل عمران:195) والخطاب للمؤمنين فقط. وقد ذكر السيد حميدان رحمه الله تعالى مايشعر بمثل كلامه أيده الله لأنه قال إن المعتزلة عارضوا آيات الإحباط بآيات الموازنة ليمكنهم تجويز السلامة في حق من خالف من الصحابة وغيرهم، قال والذي (تبطل به) هذه المعارضة هو كونها معارضة المحكم بالمتشابه والحقيقة بالمجاز.وبيان ذلك أن آيات الإحباط لا يعقل معناها إلاَّ إذا حملت على ظاهرها وذلك الذي يدل على صحة كونها محكمة حقيقة وليس كذلك آيات الموازنة فإنه لا يعقل معناها إلاَّ إذا تُؤلت على غير ما يفيده ظاهرها أو حملت على أن المراد بها ضرب المثل بدليل أنها لو حملت على ظاهرها للزم من ذلك تجويز وزن الأعراض وكون ذلك محال معلوم ضرورة و لزم تجويز كون أفعال العباد أجساماً وكونه محالاً معلوم ضرورة وذلك هو الذي يدل على كون ما كان كذلك متشابهاً أو مجازاً، وإن قيل أن الوزن يقع على ما هي مكتوبة فيه كان ذلك عدولاً عن الظاهر لكون ماهي مكتوبة فيه ليس بطاعة ولا معصية ولأن الصحيح من المذهب أن كل من كان خاتمة معاصيه التوبة النصوح فهو من أهل الجنة ومن كانت خاتمة طاعته الإصرار على معصية واحدة فهو من أهل النار وذلك مما يرجح
القول بالإحباط على القول بالموازنة.
وقد خالفت المرجئة في هذا الأصل فقالوا ببطلان التكفير والإحباط وصحة استحقاق الثواب والعقاب في وقت واحد، فمنهم من قال أنه يفعل بصاحب الذنب ما يستحقه من العقاب ثم ينقطع ويفعل به ما يستحقه من الثواب ويدوم ولا ينقطع، ومنهم من قال إن الله يوفي أقلها في الدنيا ثواباً كان أو عقاباً ويفعل الآخر في الآخرة ويدوم، ومنهم من أطلق صحة اجتماعهما وقولهم باطل لأن الثواب دائم والعقاب دائم وهما متنافيان فاستحال إجتماعهما إذ يستحيل كون الواحد معظماً مستخفاً به في حالة واحدة في وقت واحد من فاعل واحد فيتساقطا وهو معنى التكفير والإحباط، وأما إذا فعل المكلف طاعات ثم فعل معصية أحبطت ثوابه ثم تاب بعد إنحباط ثوابه على الطاعات السابقة فهل يعود أو لا؟ ففي ذلك ثلاثة أقوال.
الأول:لا يعود ثوابه مطلقاً إذ بعقاب تلك الكبيرة صار ذلك الثواب كالمعدوم لسقوطه بالموازنة فلا سبيل إلى عوده، وهذا مذهب أبي هاشم وجمهور البصرية وبنى عليه إمام زماننا أيده الله تعالى.
الثاني: يعود مطلقاً وهو مذهب بشر بن المعتمر وأبي القاسم والبخاري من البهشمية.
الثالث: التفصيل لا يعود ما كان قد اجتمع قبل فعل الكبيرة ولا الذي منعت الكبيرة عن استحقاقه من وقت فعلها إلى وقت التوبة ويعود الاستحقاق المتجدد في المستقبل وهو قول ابن الملاحمي والإمام المهدي عليه السلام، قال بعض أصحابنا وهو الموافق للقواعد والأصول إذا كان المانع من استحقاق الثواب على تلك الطاعات هو إستحقاق العقاب على تلك المعصية وعند بطلانها بالتوبة زال المانع من استحقاق الثواب إذ الطاعة باقية لم يطرأ عليها ما تصير به كالمعدومة فيعود استحقاق الثواب في المستقبل وهو أيضاً اللائق بالعدل والحكمة وإلاَّ لزم التساوي بين من قطع عمره في طاعة الله وعبادته ثم فعل كبيرة وتاب عنها قبل موته وبين من قطع عمره في عصيان الله والكفر به ثم تاب قبل موته والفرق بينهما مما لا شك فيه.
فإن قيل: فيلزم في من تاب من معصية ثم عاد إليها أن يتجدد له استحقاق عقاب الأولى لمثل ما ذكرتم هنا .
قلنا: قد قال بذلك بشر بن المعتمر وطرد قاعدته المتقدمة من الإطلاق، ونحن نقول بينهما فرق جلي فإن الطاعات المتقدمة في هذه المسألة باقية في نفسها إذ سقوط ثوابها
في الزمان الماضي إلى وقت التوبة بالموازنة بينه وبين عقاب المعصية لا بمصيرها كالمعدومة إذ الموازنة بين الثواب والعقاب فقط كما هو قول أبي هاشم، لا بين الطاعة والمعصية كما هو قول أبي علي فالطاعة غير ساقطة بل إنما منع من استحقاق ثوابها مانع وقد زال بخلاف سقوط المعصية بالتوبة في هذه المسألة فليس بالموازنة على الصحيح الحال والمآل، وهكذا القول فيمن فعل معصية (ولم يتب) ثم فعل طاعة كفرَّت عقاب بل التوبة صيَّرت تلك المعصية كالمعدومة لأنها تحتَّها حتَّاً فبطلت المعصية في تلك المعصية ثم ندم على تلك الطاعة على وجه يوجب سقوطها فعلى قول إبن الملاحمي والإمام المهدي عليه السلام يتجدد له إستحقاق العقاب على تلك المعصية في المستقبل لأن سقوطها إنما كان بموازنة تلك الطاعة فلم تصر بذلك كالمعدومة وقد بطلت تلك الطاعة فيعود إستحقاق العقاب وتصير كأنه فعلها وقت الندم على الطاعة. نعم أما من فعل طاعة ثم ندم عليها ندماً يوجب سقوطها ثم تاب بعد ذلك فإنه لا يعود شيء من ثواب طاعته تلك الماضية على قول الإمام عليه السلام وغيره، لأنها بالندم عليها صارت كالمعدومة فتبطل في الحال والمآل.
ثم اعلم أنه لا يجوز خلف الوعد على الله تعالى للمثابين لأن ذلك أخو الكذب وهو يتعالى عنه لأنه لا يفعل القبيح خلافاً للمجبرة، ويحسن منه العفو عن المعاصي إن علم إرتداعه كالتائب اتفاقاً، ولا يحسن إن علم عدم ارتداعه وفاقاً للبلخي وابن المعتمر وخلافاً للبصرية.
قلنا: يصير كالإغراء وهو قبيح عقلاً، وكذا لا يجوز خلف الوعيد من الله تعالى للمعاقبين وكل هذا سنحققه ونقيم عليه البرهان في ثلاث مسائل هي أول مسائل الوعد والوعيد (وثانيها وثالثها) ، فالأولى نبَّه عليها بقوله.
المسألة الحادية والعشرون
أنه يجب على المكلَّف أن يعلم أن من وعده الله بالجنة من المؤمنين فإنه إذا مات تائباً غير مصر على شيء من الكبائر فإنه صائر إلى الجنة ومخلد فيها دائماً. وهذه المسئلة معلومة ضرورة من الدين ولا خلاف فيها إلاَّ رواية عن جهم والبطيحي فإنهما نفيا معنى الدوام وهذا بالنظر إلى السمع، وأما الجواز فيجوز عند المجبرة أن يخلف وعده بالثواب للمؤمنين إذ لا يقبح منه قبيح وقد ذكرنا إبطال هذه القاعدة فيما مضى، ثم أخذ المصنف في بيان دليل كون ذلك معلوماً من الدين ضرورة فقال والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدين بذلك ويخبر به، لأن من المعلوم ضرورة أنه كان يدعو الخلق إلى طاعته ومتابعته ويعدهم على ذلك الجنة التي عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين والقرآن الكريم ناطق بذلك، وهو صلى الله عليه وآله وسلم لا يدين إلاَّ بالحق ولا يخبر إلاَّ بالصدق، لما تقدم من شهادة المعجز بصدقه، ودليل ثانٍ وهو الإجماع لأن الأمة أجمعت على دخول المؤمنين الجنة، والخلود وهو الدوام الذي لا انقطاع له فيها ونقل الإجماع على ذلك ظاهر مشهور فثبت بذلك أن المؤمنين يدخلون الجنة خالداً فيها أبداً.
المسألة الثانية والعشرون
أنه يجب على المكلَّف أن يعلم أن من توعده الله بالنار من الكفار فإنه إذا مات مصراً على كفره غير تائب منه فإنه يصير إلى النار ومخلد فيها خلوداً دائماً. وهذا هو الذي عليه أهل العدل بل جمهور أهل الإسلام. والخلاف في ذلك مع مقاتل بن سليمان وقوم من أهل خراسان، فإنهم قطعوا أن الكفار لا يدخلون النار ولكنهم لا يظهرون هذا المذهب لكل أحد بل يظهر ذلك منهم في حق الفاسق فقط، وقد روي مثل ذلك عن الكراميَّة، وأما دوام عقابهم فالخلاف مع جهم والبطيحي والكراميَّة، فإنهم منعوا من دوام العقاب، فأما جهم فذكر أنهم لا يخرجون من النار لكن ينقطع عذابهم ويصيرون في النار كالزبانية وديدان الخل. وأما الكرامية فذكروا أن الكفار يخرجون من النار ويقرب أن البطيحي يقول كذلك.
والدليل على ذلك المذهب الصحيح من جهة العقل ومن جهة السمع، أما العقل فهو أنا نعلم تلازم الذم والعقاب لاتحاد مقتضيهما ولأن الذم فيه إضرار واستخفاف وهو لا يحسن إلاَّ للمستحق، وإذا ثبت تلازمهما فمن المعلوم من أحوال الكفار حسن ذمهم دائماً وهذا لا خلاف فيه، فيجب أن يكون العقاب مستحقاً كذلك، وهكذا الكلام في الفساق ولكن ليست هذه المسألة مسألتهم،فأما السمع وهو ما نعلمه ضرورة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدين بذلك ويخبر به، فإن من المعلوم الذي لا شك فيه أنه كان يتوعد من كان خالفه وجحده ما جاء به بالنار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين،وهو صلى الله عليه وآله وسلم لا يدين إلاَّ بالحق ولا يخبر إلاَّ بالصدق لشهادة المعجز بصدقه كما مرَّ،
وقد ورد به القرآن الكريم قال تعالى{فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين}(البقرة:24) وقال تعالى بعد ذكر الفجار{وما هم عنها بغائبين}(الإنفطار:16) والفجار يشمل الكفار والفساق بالإجماع وهذا صريح في الدوام والتأبيد، إذ لو انقطع لكانوا قد غابوا عنها وغير ذلك من الآيات اللاتي سيأتي ذكرها في مسألة الإرجاء إنشاء الله تعالى، وكذلك السنة دالة على ذلك فإنها قد وردت به الأخبار كما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(من تحسا سماً فسمه في يده يتحساه في النار خالداً فيها مخلداً)وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(من تردى من جبل فهو يتردى من جبل في النار خالداً فيها مخلداً) وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(من وجى نفسه بحديدة فحديدته في يده يجابها بطنه في النار خالداً مخلداً ومن علق سوطاً بين يدي سلطان جائر جعل الله ذلك السوط حية طولها سبعون ذراعاً تسلط عليه في نار جهنم خالداً فيها وله عذاب أليم) وهذا على سبيل الاستظهار وإن كانت هذه الأحاديث لا تصلح حجة في هذا المقام. وهو إجماع المسلمين في الصدر الأول وفي من كان قبل هؤلاء المخالفين حتى أحدثوا هذا القول، فالإجماع حجة واجبة الاتباع لقوله تعالى{ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ماتولى}(النساء:115) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(لا تجتمع أمتي على ضلالة) والعترة مجمعة على ذلك أيضاً وإجماعهم حجة واجبة الإتباع على ما ذلك كله مقرر في مواضعه من أصول الفقه. فثبت بذلك الذي ذكرنا من الأدلة القطعية خلود الكفار في النار وبطل قول المخالفين.
المسألة الثالثة والعشرون
أنه يجب على المكلَّف أن يعلم أن من توعده الله من الفساق بالنار كمرتكبي الفواحش التي هي غير مخرجة من الملة من الزنا وشرب الخمر وتاركي الصلاة والزكاة ونحو ذلك، فإنه إذا مات مصراً على فسقه غير تائب منه فإنه صائر إلى النار ومخلد فيها خلوداً دائماً،هذه هي مسألة الإرجاء الكثيرة الأنظار العظيمة الأخطار وسنهديك فيها إنشاء الله إلى منهاج الصواب ونوقفك من براهين الحق الواضحة على ما ينفي عنك كل شك وارتياب وذلك بإعانة الله سبحانه وتوفيقه وهدايته فهو قادر على ما يشاء كريم وهاب.
فنقول: ما ذكره الشيخ مؤلف الكتاب من القول بتخليد الفساق المصرين في أنواع العقاب، فهو الذي عليه جمهور أهل العدل من (المعتزلة والزيدية) .والخلاف في ذلك مع المرجئة على طبقاتها فعندهم أن الفساق من أهل القبلة لا يقطع بخلودهم في النار وهم مجمعون على ذلك، ثم افترقوا، فمنهم من قطع على أن الفساق لا يدخلون النار وهم الكرامية ومقاتل بن سليمان والخراسانية بل قالوا ذلك في المشرك كما مرَّ.
القول الثاني: لبشر المريسي من الفقهاء فإنه قطع بدخولهم النار وخروجهم منها.
القول الثالث: لمحمد بن شبيب من المعتزلة أن الفاسق يستحق عقوبة دائمة إلاَّ أنه (في الآخرة) يجوز أن يعفو الله عنه وإذا عفى عن البعض عفى عن الكل وإلاَّ أدى إلى المحاباة وهي لا تجوز عليه تعالى.
القول الرابع: للخالدي فإنه ذهب إلى أن الفاسق الذي صدرت منه طاعة تنقطع عقوبته لأنها ترد عقوبته من الدوام إلى الانقطاع. ومنهم من قال إن آي الوعد والوعيد متعارضة فنقف (وهذا يروى) عن جماعة منهم أبي حنيفة، ومنهم من تردد في دخولهم النار وقطع على خروجهم إن دخلوا، ومنهم من قطع بدخولهم وتردد في خروجهم، والذي عليه المرجئة الخلص تجويز الدخول وعدمه وتجويز الخروج بعد الدخول وعدمه وهذا هو مذهب أبي قاسم البستي وكان من أصحاب المؤيد بالله وهذا هو الإرجاء الحقيقي لأن الإرجاء هو التردد في الأمور وهؤلاء مترددون ومذهبهم أعني المرجئة حادث بعد وفاة أمير المؤمنين عليه السلام بخلاف الخوارج فمذهبهم حادث في أيامه.
والدليل على ذلك المذهب الصحيح وهو قول جمهور العدلية قوله تعالى{ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً}(الجن:23) فتوعد الله كل عاص على سبيل العموم بالخلود في النار، والخلود هو الدوام بدليل قوله تعالى{وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفئن مت فهم الخالدون}(الأنبياء:34) فنفى تعالى في هذه الآية أن يكون لأحد من البشر خلود في هذه الدنيا ومعلوم أنه لم ينف بذلك البقاء المنقطع لأن كل واحد منهم قد بقي بقاءً منقطعاً ولا يرد ما يقال خلد السلطان فلاناً في السجن والمراد البقاء المنقطع لأنا نقول حقيقة الخلود هو الدوام فإن استعمل في غيره فعلى سبيل المجاز فيكون ذلك مجازاً. وقوله تعالى{إن الأبرار لفي نعيم، وإن الفجار لفي جحيم، يصلونها يوم الدين، وما هم عنها بغائبين}(الإنفطار:13،14،15،16) فحكم بعدم غيبوبة الفجار عن النار، والفجار يطلق على الكفار والفساق. وهاتان الآيتان عامتان كما ذكرنا، وإذا ثبت ذلك علمنا أنهما تدلان على دخول كل عاص النار وعلى دخول كل فاسق وفاجر النار وخلودهم فيها ومثلهما قوله تعالى{بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}(البقرة:81) والفاسق قد أحاطت به خطيئته إذ معنى أحاطت الخطيئة زيادة عقابها على ثوابه إذ لا معنى لها هنا إلاّ ذلك (فوجب خلوده) في النار والخلود الدوام، وقوله تعالى{ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه}(النساء:93) إلى غير ذلك من الآيات العامة بالوعيد للكافر والفاسق ولا يعلم مخصصاً صحيحاً ، وإذا كانت عامة ولا مخصص لها وجب حملها على ظاهرها، وإذا وجب حملها على ظاهرها فهي قاضية بالوعيد بتخليد العصاة في النار،
فلو جوزنا إخلافه كشف عن الكذب وهو قبيح ضرورة والله لا يفعل القبيح.
واعلم أن هذه الدلالة لا تقرر إلاّ بمقدمات أربع.
الأولى: أن في اللغة ألفاظاً موضوعة للعموم وذلك ثابت لاشك فيه بدليل أن أسماء الشرط وهي مَنْ ونحوها، والجمع المعرّف باللام ونحوها، ألفاظ عامة لسبق العموم إلى الأذهان عند إطلاقها وصحة الاستثناء منها، ألا ترى (إلى من) قال: من دخل داري أكرمته، يعم كل عاقل بدليل صحة استثناء زيد وعمرو فالمنكر كونها للعموم لا يلتفت إليه.
الثانية: أن كون تلك الألفاظ موضوعة للعموم معلوم مقطوع به فإنّا لمّا استقرأنا اللغة العربية وتتبعناها وبحثنا في مفهومات تلك الألفاظ واختبرناها وجدناها مفيدة للعموم وعلمنا ذلك علماً قطعياً لا تعتريه الشكوك، لا يقال معاني الألفاظ إنما تعرف بالنقل، فإن كان تواتراً فكيف خالف فيه كثير من الناس وهو ضروري، وإن كان آحادياً فلا يفيد القطع، لأنّا نقول نفس الألفاظ منقولة إلينا بالتواتر، وأما معانيها فإنما علمت بالبحث والاختبار فكان العمل بها نظرياً بواسطة النقل التواتري لنفس الألفاظ فاحتملت الخلاف.
الثالثة: أن دلالة تلك العمومات على مدلولاتها قطعية إذ يقطع بمدلولاتها بعد البحث عن المخصص فلم يوجد وينتفي التجويز لاستثناءٍ ونحوه. وقال أبو شمر يجوز أن يكون في عمومات الوعيد استثناء أو شرط مخصص له بالكافر تقديره إلاّ أن أعفو أو إن لم أعفُ، أو إن لم يكن مقراً بلسانه أو نحو ذلك. والدليل على بطلان ما ادعاه أنه إذا ثبت أن العموم هو مدلول تلك الألفاظ وأن الله تعالى لا يجوز أن يخاطب بخطاب ويريد به غير ظاهره وإلاَّ كان معمياً وملبسّاً، ثبت أن دلالتها على المعاني قطعيّة غير مشكوك فيها البتّة لاسيما العمومات التي لا يتعلق بها عمل، بل إنما يُطلب بها الاعتقاد فقط كما ذهب إليه المحققون من أهل أصول الفقه.
الرابعة: أن العموم بعد تخصيصه باقٍ على حجته القطعية فيما بقي بعد التخصيص وخالف في ذلك الأصم وغيره من المجبرة وبعض المعتزلة، وقالوا العموم إذا خصص بطلت حجته وصار مُجملاً يفتقر إلى البيان ودليلنا عليهم أنه إذا ثبت أن دلالة العموم على مدلوله قطعيّة ثم خصصنا منه بعض مفرداته بدليل مخصص فإنه يجب أن تكون دلالته على الباقي بعد التخصيص قطعيّة كما كانت لم يطر عليها ما يغيرها وإنما كان التغيير في المخرج لا في الباقي، وإذا تقررت هذه الأربع المقدمات بالدلالة القطعية ثبت ذلك الدليل ووجب القطع بما دل عليه.
قالوا: قد جاء في القرآن عمومات في الوعد عامة للمؤمن والفاسق كقوله تعالى{يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً}(الزمر:53) وقال تعالى{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء}(النساء:48) إلى غير ذلك من الآيات وعلى الجملة فالقرآن مملوء وإجماع المسلمين منعقد على وصف الله بأنه غافر وغفور وغفار وكثير المغفرة وواسع الرحمة وأرحم الرحَمَة وأرحم الراحمين وأكرم الأكرمين وكثير العفو والإحسان وعظيم التجاوز والامتنان ونحو ذلك من الأوصاف المشعرة بالعفو وعدم المؤاخذة، فإما أن يكون ذلك مع وجود التوبة من العبد أو تكفير ثوابه لعقابه أو يكون مع عدمهما، والأول باطل إذ المسقط لعقاب المعصية حينئذ هو التوبة والثواب وليس لله حينئذ تفضل عندكم بعد المؤاخذة إذ قبول التوبة ثابت قطعاً والمؤاخذة بعدها قبيح منه فكيف يتمدح به ويصف نفسه بغاية الكرم ونهاية الجود وأي سعة في (رحمته ومغفرته) إذا كان يفعل بالعبد كل ما يستحقه قطعاً ولا يعفو عن وزن حبة خردل إلاّ إذا سقطت بنفسها بتوبة أو تكفير ثواب، وحينئذ قد سقط حقه منها تعالى فتركه للعقاب عليها لا يكون عفواً ولا مسامحة فتعين الثاني وهو أن يكون ذلك مع عدم سقوط العقاب بتوبة أو ثواب وهو الذي نقوله ونذهب إليه ويجب حينئذ حمل آيات الوعيد التي ذكرتم على آيات الوعد.
الجواب: والله الموفق أنا قد بينا بما مهدنا من المقدمات الأربع أن عموم الوعيد أدلة قطعية ظاهرة الدلالة، وعمومات الوعد مجملة غير مبينة ، ألا ترى إلى قوله تعالى{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء}(النساء:48) فإنها مجملة من جهة الغفران والمغفور له معاً وكذلك سائرها عند التأمل، وإذا ثبت ذلك وجب الاعتماد على آيات الوعيد إذ لا يترك القطعي بما ليس بقطعي، وأيضاً فإن في عمومات الوعيد ما لم يمكن تأويله ولا إخراجه عن ظاهره بوجه من الوجوه، وقوله تعالى{ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به}(النساء:123) نزلت الآية خطاباً للمسلمين قيل سبب نزولها أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب: نبيئنا قبل نبيئكم وكتابنا قبل كتابكم. وقال المسلمون: نحن أولى منكم نبيئنا خاتم النبيئين وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبل ويشهد عليها فنزلت الآية، قال الحسن البصري ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم وقالوا: نحسن الظن بالله وكذبوا لو أحسنوا الظن بالله لأحسنوا العمل.
قال الإمام المهدي عليه السلام: لولا هذه الآية لكان الحق ما ذهب إليه أبو حنيفة من القول بالوقف لتعارض عمومات الوعد والوعيد وعدم علمنا بالمخصص منهما للآخر وهذا بناء من المهدي عليه السلام على أن الترجيح إنما يفيد الظن أو لأن العام دلالته ظنية كما هو قول الأكثر في أصول الفقه، فعدل إلى الاحتجاج بالآية هذه لأن دلالتها على نفي الإرجاء قطعية فإن العام إنما يكون ظني الدلالة عند بعضهم فيما عدا سببه، فأما في سببه فهو قطعي فيه اتفاقاً، وأما قول المخالفين إن المغفرة لا تكون مع التوبة والتكفير فقول باطل، لأن حقيقة المغفرة هي أن لا تعجل للعبد ما يستحقه من العقاب فإنه تعالى قد قابل أنواع الكفور والعصيان بسبوغ النعم والإحسان ولاشك أن ذلك أعظم الحلم وأوسع الغفران وقد سمى الله تأخير العقاب عفواً كما في قصة اليهود{ثم عفونا عنكم من بعد ذلك} {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}(الشورى:30). وأيضاً فإنا نقول أراد بذلك المغفرة مع التوبة، وقولكم لا يسمى حينئذ غفراناً.
قلنا: قد سماه الله غفراناً فإن كتاب الله مملوء بالمغفرة مع التوبة فكيف لا يسمونه غفراناً قال الله تعالى{وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى}(طه:82) وقال تعالى{يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً واستغفروا ربكم إنه كان غفاراً ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيما والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم}إلى قوله{جزاءهم مغفرة من ربهم إلاَّ الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفوراً} إلى غير ذلك مما يكثر تعداده. ثم نقول: قد وردت المغفرة في هذه الآيات ونحوها مقيدة بالتوبة ولابد من الاتفاق على ذلك ووردت فيما احتججتم به مطلقة غير مقيدة بها ومن الأصول المقررة حمل المطلق على المقيد (ولا سيما) مع كثرة المقيد وقلة المطلق كما في مسألتنا وبذلك بطل ما تمسكوا به وتم ما أردنا والحمد لله رب العالمين. فثبت بذلك الذي ذكرنا خلود كل فاسق وفاجر في النار وبطل ما قاله المخالفون.
المسألة الرابعة والعشرون ((في المنزلة بين المنزلتين))
وتسمى أيضاً مسألة الأسماء والأحكام، وحقيقة المنزلة بين المنزلتين لغة: كون الشيء بين شيئين ينحدر إلى كل واحد منهما بشبه، واصطلاحا: كون صاحب الكبيرة ممن ليس بكافر له (أسماء وأحكام) بين أحكام المؤمن والكافر وأسمائهما، والمراد بالمنزلة بين المنزلتين هو الفاسق وفسقه بسبب عصيانه بما هو كبير غير مخرج من الملة لا إن أتى صغيراً فمؤمن أو كبيراً مخرجاً من الملة فكافر وحينئذ يتوجه الكلام إلى قسمة المعاصي إلى كبائر وصغائر.
فنقول: قد نطق القرآن بذلك قال الله تعالى{لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها}(الكهف:49) وقال تعالى{وكل صغير وكبير مستطر}(القمر:53) وقال {كبائر الإثم والفواحش إلاَّ اللمم} وما ارتكبه الأنبياء عليهم السلام فنقطع بصغره لوقوعه منهم على جهة التأويل وهو إما لتفريطهم في التحرز لظنهم أنهم لا يقعون فيها، ومن ذلك خطيئة آدم عليه السلام أو لظنهم أنها غير معصية، ومن ذلك خطيئة يونس وداود عليهما السلام ولا يجوز منهم ذلك فيما يتعلق بالأداء البتة كالكذب والكتمان، إذ لو جوزنا ذلك في حقهم لم نأمن أن يكون بعض ما جاؤا به ليس عن الله أو أنهم كتموا شيئاً أمرهم الله بتبليغه إلينا وذلك خلاف الحكمة وقدح في الحكيم حيث أظهر المعجز على من ذاك حاله ولا يجوز وقوع المعصية منهم عمداً عند الهادي والناصر وبعض البغداذية خلافاً للمهدي والبصرية.
قلنا: إن تعمدوها لأجل تعريفهم أنها صغائر فذلك إغراء وهو لا يجوز على الله تعالى، وإن تعمدوها جرأة على الله من غير مبالاة بصغرها وكبرها وحاشاهم، ثم بينت من بعد فذلك مؤدٍ إلى التنفير من قبول ما أتوا به وذلك باطل، وقد قال تعالى{فنسي ولم نجد له عزماً} وقال{فظن أن لن نقدر عليه}أي لن نضيق عليه أي لانؤاخذه، وأما غير الأنبياء من المكلفين فنقطع بأن ما وقع منهم على جهة العمد فهو كبير وما وقع منهم خطأً أو نسياناً أو بإكراه فهو صغير، فالصغير متعين فيما ذكر هذا هو مذهب الناصرية وظاهر كلام الهادي عليه السلام وصريح قول المرتضى وقول القاسم بن علي العياني عليهم السلام وبعض البغداذية، وقال بعض الزيدية وبعض البغداذية والطوسي بل بعض العمد ليس بكبيرة. وحجتنا قوله تعالى{ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً} ولم بفصل ، وقوله تعالى{ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين} ولم يفصل ولم يغفر سبحانه سيئة من غير توبة إلاَّ الخطأ والنسيان والمضطر إليه لقوله تعالى{وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به}(الأحزاب:05) وقوله تعالى معلماً لعباده ومرشداً{ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}(البقرة:286) واستثنى تعالى المضطر إليه، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم(رفع عن أمتي الخطأ والنسيان…الخبر) فعلمنا بذلك أن الكبائر ما وقع عمداً من غير اضطرار.
وقالت البصرية: بل الكبيرة ما وجب فيها حداً ونص على كبره وغير ذلك محتمل وورود الوعيد لا يدل على الكبر عندهم لدخول الصغير في عموم قوله تعالى{ومن يعص الله ورسوله…الآية}(النساء:14) وخالفهم أبو القاسم وقال: إن الوعيد لا يشمل الصغيرة. قال المهدي عليه السلام: مبيناً لكلام البصرية تعيين الكبيرة بأن يصفها الله تعالى بالفحش نحو قوله تعالى في الزنا{إنه كان فاحشة…الآية}(النساء:22) أو العظم نحو قوله تعالى في القذف{وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم}(النور:15) أو الكبر نحو قوله تعالى في قتل الأولاد{إنه كان خطأً كبيرا}(الإسراء:31) أو الإحباط كما استدللنا على كبر الشرك لو وقع من الأنبياء (عليهم السلام) لقوله تعالى{لئن أشركت ليحبطن عملك}(الزمر:65) أو نحو ذلك كوصف صاحب الذنب بأن عليه غضب الله أو لعنته بالنص الصريح نحو قوله تعالى في الفرار من الزحف{ومن يولهم يومئذ دبره} إلى قوله{فقد باء بغضب من الله}(الأنفال:16) ونحوه قوله تعالى في قاتل المؤمن{وغضب الله عليه ولعنه…الآية}(النساء:93)، وكذلك كل من أمر الله بإقامة الحد عليه كالسرقة وقطع الطريق وشرب الخمر ونحو ذلك. وقد اختلف الناس في كمية ما يتعين من الكبائر، فروي عن عبد الله بن عمر أنها تسع الشرك بالله وقتل النفس بغير حق وقذف المحصنة والزنا والفرار من الزحف والسحر وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين المسلمين والإلحاد في الحرم، وزاد أبو هريرة أكل الربا، وزاد علي عليه السلام السرقة وشرب الخمر، وزاد الجمهور الخروج على الإمام وبعضهم البغي على المحق مطلقاً، وزاد بعضهم النميمة لقوله تعالى{إن جاءكم فاسق بنبأ…الآية}(الحجرات:06) وغير ذلك من الاختلافات، وإذا علم ذلك فاعلم: أن أصحاب الكبائر
من هذه الأمة كشارب الخمر والزنا ومن جرى مجراهما يسمون فساقاً وفجاراً إجماعاً، والفسق في اللغة الخروج على جهة الإضرار، ومنه قيل لِلْفَارَة فويسقه لخروجها من جحرها لطلب المضرة، وفي الاصطلاح عبارة عن معاصي مخصوصة مستحق لأجلها أحكام مخصوصة وعقاب عظيم دون العقاب الأعظم، وحقيقة الفاسق من استحق عقاباً عظيماً دون العقاب الأعظم مع أحكام دنيوية مخصوصة، ولا يسمون مؤمنين عندنا خلافاً للمرجئة بناءً منهم على أن الإيمان هو المعرفة والإقرار أو أحدهما والأعمال خارجة عنه فالفاسق مؤمن بإيمانه فاسق بفسقه، ولا يسمون منافقين خلافاً للحسن البصري وفي ذلك وقعت المناظرة بينه وبين واصل بن عطاء واحتج الحسن بوجهين: أحدهما: أن الفاسق لو كان يقطع بصدق الوعد والوعيد والجنة والنار لما ارتكب الكبيرة الموجبة المهلكة والموقعة في العذاب الدائم. وثانيهما: قوله تعالى{إن المنافقين هم الفاسقون}(التوبة:67). ولا يسمون كفاراً خلافاً للخوارج فإنهم يقولون إنه فاسق كافر ثم افترقوا، فمنهم من قال هو كافر لفظاً دون الحكم فلا يكون حكمه حكم الكافر، ومنهم من قال أصحاب الكبائر كفار لفظاً ومعنى ويجرون على من هذا حاله أحكام الكفر التي نذكرها بعد، ثم اختلف هذا الفريق فبعضهم وهم الأباضية جوزوا أن يقال فيه إنه مشرك والذي عليه أكثرهم المنع، واشتهر للناصر عليه السلام القول بأنه يسمى كافر نعمة، قال لأن فعل الطاعات واجتناب المعاصي كالشكر على نعم الباري تعالى، فإذا ارتكب العبد شيئاً من هذه المعاصي كان كمن لم يشكر نعمة الله ، وحكى في الأساس مثل هذا عن ابن عباس والصادق والقاسم والهادي وأحمد بن سليمان عليهم السلام قال فيه وروى أنه إجماع قدماء العترة والشيعة.
قلت: وهو الحق لما قدمنا من الدليل على أن الطاعات شكر، والدليل على أن الفاسق لا يسمى كافراً كما زعمت الخوارج أن الكافر له أحكام مخصوصة وأسماء معلومة لا تجوز على الفاسق، أما أحكامه فنحو حرمة المناكحة والموارثة والدفن في مقابر المسلمين. أجمعت الصحابة على أنه لا يثبت في حق الفاسق شيء من هذه الأحكام ولهذا فإنهم كانوا يقيمون الحدود على الجناة ولا يفرقون بينهم وبين أزواجهم فلو كان الجناة يسمون كفاراً لحرمت المناكحة بينهم إذ لا مناكحة بين أهل ملتين.
ويدل على ذلك أن الله شرع اللعان بين الزوجين متى قذف الزوج زوجته ورماها بالزنا فإنهما يترافعان إلى الحاكم فإذا أصرا على ذلك حلّفهما ثم يفرق بينهما بعد ذلك، فلو كان الفسق كفراً كما تقوله الخوارج لحصلت البينونة بينهما بنفس المعصية ولم يحتج إلى تفريق الحاكم لأن أحدهما يكون فاسقاً لا محالة لأن الزوج إن كان صادقاً كانت الزوجة فاسقة لأجل الزنا وإن كان كاذباً كان فاسقاً لأجل القذف الذي نص الله على أنه فسق بقوله تعالى{أولئك هم الفاسقون}(النور:04) إذ لا ملاعنة مع بطلان الزوجية كما لا ملاعنة بين الأجنبيين، فلما علمنا صحة الملاعنة بينهما دل ذلك على أن الفسق ليس بكفر. وأما الأسماء فيقال كافر وملحد لأنه جاحد لله تعالى ولرسوله ولجنته وناره ولاشك أن الفاسق لا يفعل شيئاً من ذلك. وقد بطل بما قررنا ما تقوله الخوارج، وقوله (كافر وملحد) ما كان ينبغي لأن إطلاق الكافر على الفاسق هو عين محل النزاع، وأما ملحد فهو اسم لكافر مخصوص وهو الجاحد للصانع فعدم إطلاقه على الفاسق كعدم إطلاقه على من كفر بغير ذلك فافهم.
تنبيه:
الكفر في أصل اللغة التغطية ومنه سمي الليل كافراً لتغطية ما أبانه نور النهار، ومنه سمي الزرَّاع كافراً لتغطيته البذر بالتراب، ومنه سمي المستلئم كافراً لتغطيه بلامة حربه، وفي عرفها الإخلال بالشكر قال الشاعر:-
نبئت عمراً غير شاكر نعمتي والكفر مخبثة لنفس المنعم
وفي الاصطلاح مستعمل في معاصي مخصوصة يستحق عليها العقاب الأعظم مع أحكام دنيوية مخصوصة تتبع ذلك العقاب، وحقيقة الكافر المستحق للعقاب الأعظم مع أحكام دنيوية مخصوصة ومقتضى كلام الأساس أنه المرتكب لمعصية مخرجة له من ملَّة الإسلام.
وأما الدليل على أن الفاسق لا يسمَّى منافقاً كما يزعمه الحسن البصري. فلأن المنافق بإجماع الصحابة من أبطن الكفر وأظهر الإسلام ومعلوم أن الفاسق لا يكون كذلك فكيف يكون منافقاً، وأيضاً المنافق يقدم على المعصية وهو مستحل لها غير خائف عقاباً من أجلها ولا تبعة بسببها، والفاسق ليس كذلك إذ الفاسق يفسق خائفاً من عقاب تلك الكبيرة التي أقدم عليها وإنما يسوف التوبة أو يرجي المغفرة وليس منافقاً قطعاً وبهذا عرف الجواب عمَّا تمسك به أوّلاً، وأمّا ما تمسك به ثانياً.
فجوابه: أن الذي في الآية أن المنافق فاسق ونحن كذلك نقول فمن أين لك أن الفاسق
منافق وهو محل النزاع.
تنبيه:
النفاق في أصل اللغة إظهار خلاف ما أُبطن، والمنافق من أظهر خلاف ما أبطن، وهو مأخوذ من النافقاء وهو حجر اليربوع لأنه يتخذ في بيته بابين أو أبواباً ويظهر منها واحداً ويكتم الآخر فإذ مُنع من الباب الذي أظهره لخروجه خرج من الباب المكتوم أو من أحد الأبواب الأُخر.
وقال في الأساس: النفاق في اللغة الرياء، وديناً مثل ما ذكره الشيخ، وقد حكي عن القاسم عليه السلام أنه الرياء فقط بناء على عدم النقل لقوله تعالى{هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان}(آل عمران:167) فلو كانوا كفاراً ما قال تعالى هم أقرب إليه وهم فيه.
قلنا: المراد مائلون إليه دون الإيمان لقوله تعالى فيهم{وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلاَّ أنهم كفروا بالله ورسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون}(التوبة:54) ولتصريحهم بتكذيب الله فيما حكى الله عنهم في قوله {وقالوا ما وعدنا الله ورسوله إلاَّ غروراً}(الأحزاب:12) فثبت بذلك أن المنافق كافر ولكن هل تجري عليه أحكام الكفار الدنيوية التي ذكرناها (في المنع) من المناكحة والموارثة والدفن وغير ذلك، لصاحب شرح الأصول كلامان: أحدهما أنه تجري عليه وكلام الفقيه حميد يقضي بذلك وفي موضع آخر من الشرح لا تجري عليه. قال الدواري: فأما القتل وإباحة المال فإنه لا يكون حكمه حكم الكفار في ذلك إذ المعلوم من أحكام المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حقن دمائهم وأموالهم وهم في ذلك يشبهون أهل الملّة، فأمّا عقاب الآخرة فيقرب أن عقابهم أعظم لقوله تعالى{إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار}(النساء:145) وأما الدليل على أن الفاسق لا يكون مؤمناً كما تزعمه المرجئة، أن المؤمن وإن كان في اللغة المصدق فقد نُقل إلى من أتى بالواجبات واجتنب المقبحات وهو الذي يستحق الثواب والمدح والتعظيم بدليل أنه يحسن تواسطه بين أوصاف المدح، فيقال فلان برٌّ تقي مؤمن صالح زكي فلو لم يكن مدحاً لم يحسن توسيطه بين أوصاف المدح ما ليس بمدح. وإذا تقرر ذلك فالفاسق لا يستحق المدح
والتعظيم بل يستحق الذم والإهانة بلا خلاف بين المسلمين، ولهذا فإن الصحابة كانوا يقيمون الحدود على الجناة على وجه الإهانة. وقد دل الدليل السمعي على نقل اسم المؤمن إلى من يستحق الثواب ونحوه، قال تعالى{إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقاً}(الأنفال:2،3،4) وقال تعالى في وصف المؤمن على وجه التفسير والتعريف بما يكون المؤمن مؤمناً{قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون}(الحج:1،2،3) إلى آخر الآيات، فقد أفادت أن هذه الأوصاف هي الإيمان وأن المؤمن هو الذي يستحق الثواب وهو المراد بالفلاح في هذه الآية. وقال تعالى{أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون}(السجدة:18) فنفى تعالى مساواة المؤمنين و الفاسقين فدلَّ على أن الفاسق لا يكون مؤمناً إذ لو كان كذلك لكان قد نفى مساواة الشيء لنفسه، وقال تعالى{بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان}(الحجرات:11) وهذا يقضي بأن الفاسق غير مؤمن. ومما يدل على ما قلنا قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، فإذا فعل ذلك انتزع الإيمان من قلبه وإن تاب تاب الله عليه، قيل يا رسول الله (أوَ كافر) هو قال لا قيل فما هو قال فاسق) وهذا نص فيما ذهبنا إليه. نعم وقولنا إن المؤمن اسم في الشرع لمن يستحق الثواب دليل على شمول ذلك للملائكة والأنبياء عموماً ومن له ثواب غير محبط من الإنس والجن، وخرج من التعريف الكافر والفاسق ومن ليس له ثواب ولا عقاب إما لكونه غير مكلف
أو تساوى ثوابه وعقابه على القول بجواز التساوي، فالمؤمن عندنا هو من اعتقد بقلبه وأقرَّ بلسانه وعمل بجارحته، فإن أخل بالأول فقط كان منافقاً، وإن أخل بالثاني كان كافراً،وإن أخل بالثالث كان فاسقاً، وإنما قلنا إن المؤمن من جمع الثلاثة الأمور المذكورة لما قررناه من الأدلة على ذلك.فثبت بذلك التقرير أن الفاسق لا يسمى مؤمناً ولا كافراً ولا منافقاً وبطل ما قاله المخالفون .
تنبيه:
قال أصحابنا الإسلام والإيمان والدين سواء في الشرع وهو فعل الطاعات واجتناب المحظورات والمكروهات وإن كانت في أصل اللغة مختلفة، فالإيمان التصديق، والإسلام هو الاستسلام والإنقياد، والدِّين يستعمل في اللغة بمعنى الجزاء وبمعنى العادة وبمعنى الملّة وهو ما يتخذه الإنسان له ديناً وبمعنى الطاعة لكنها قد صارت في الشرع بعد النقل
بمعنى واحد وهو ما ذكرنا.
المسألة الخامسة والعشرون ((في شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم))
ووجه اتصالها بباب الوعد والوعيد أنها إحدى شبه المرجئة في عدم خلود الفساق في النار للأثر الذي يروونه كما يأتي، وهي في أصل اللغة مأخوذة من الشفع وهو نقيض الوتر، والشفع الزوج، والوتر الفرد، ولذلك يقال شاه شافع إذا كان معها ولدها، وسمي الشفيع شفيعاً لانضمامه إلى المشفوع له ومنه سميت الشفعة شفعة لمّا كان غرض الشافع بها ضم المال المشفوع إلى ماله الأصلي. وحقيقتها في الاصطلاح: السؤال لجلب نفع الغير أو دفع الضرر عنه على وجه يكون غرض السائل حصول ما سأل لأجل سؤاله، فقولنا السؤال ليخرج بذلك ما ليس بسؤال، وقولنا لجلب نفع إلى الغير أو دفع ضرر عنه لنحترز بذلك عن السؤال لجلب الضرر أو فوت النفع وقولنا إلى الغير لنحترز بذلك عن سؤال ذلك للنفس فإنه لا يكون شفاعة (وللفاعل وجه ما يكون شفاعة وللفاعل) وقلنا على وجه يكون غرض السائل حصول ما سأل لأجل سؤاله لنحترز به عمّا إذا لم نقصد بذلك بل قصدنا نفع أنفسنا ولهذا فأنَّا نسأل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم الوسيلة والدرجة الرفيعة ولا نكون شافعين له لأنّا لم نقصد بسؤالنا ذلك حصوله له لأن الله تعالى قد أخبرنا أنه يفعل ذلك من غير سؤالنا، وإنما قصدنا بسؤالنا تحصيل الثواب لأنفسنا مع أنا متعبدون بذلك،
واعلم أنه لا خلاف بين أهل العدل قاطبة بل أهل الإسلام أن شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة ثابتة مقبولة لا يخالف في ذلك إلاّ المطرفيّة فإنهم منعوا من شفاعته صلى الله عليه وآله وسلم، قالوا: لأنه إن شفع في أمر واجب فالله يفعله وإن لم يشفع، وإن شفع في أمر لا يجب لبعض المكلفين فهذه محاباة والله منزه عنها. وقولهم باطل لما ذكرنا من إجماع الأمة قبل حدوث مذهبهم الباطل فالإجماع حجة وقوله تعالى{عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً}(الإسراء:79) وعسى في اللغة تفيد الترجي وفي كتاب الله تعالى تكون للقطع. ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم?من كذَّب بالشفاعة لم ينلها) ولكن اختلفوا لمن تكون شفاعته من أمته. فقال جمهور العدلية: إن شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا تكون لمن يستحق النار من الكفار والفساق أصلاً وإنما تكون للمؤمنين أهل الثواب فقط، واختلف أهل هذا القول في ثمرتها للمؤمنين، فالذي عليه أكثرهم أنها تكون لزيادة نعيماً إلى نعيمهم وسروراً إلى سرورهم وهو الذي عنى بقوله حتى يزيدهم الله بها شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تشريفاً ورفعة في الدرج بالتفضلات. وقال أبو الهذيل بل ثمرتها إعادة ما أحبطته المعصية من الثواب، القول الثالث أشار إليه بقوله أو تكون لمن تستوي حسناته وسيئاته على القول بصحة الاستواء فيشفع له النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليدخل الجنة تفضلاً. والخلاف في ذلك مع المرجئة فإنهم يقولون إن شفاعته تكون لفسَّاق هذه الأمة الذين استحقوا العقاب، فمنهم من يقطع بها، ومنهم من لا يجوزها،
قالوا: إذ الشفاعة موضوعة لدفع الضرر وأهل الجنة مستغنون. والدليل على أن شفاعته صلى الله عليه وآله وسلم لا تكون لأحد من الظالمين أي الفاسقين إذ لا خلاف بين المسلمين أن الفاسق ظالم وقد قال تعالى{ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه}(الطلاق:01) والفاسق من جملة من تعدى حدود الله.
واعلم أن الشفاعة لا تخلو إما أن تسقط العقاب بنفسها أو يكون المسقط له هو المشفوع إليه عندها والأول باطل إذ العقاب حق للمشفوع إليه لا للشفيع فلا يسقط بإسقاط الشفيع فيتعين الثاني وحينئذ يكون إسقاطه للعقاب إنما هو على وجه التفضل مع بقاء الاستحقاق وإسقاطه كذلك مما لا مدخل للعقل فيه بل إنما يعرف بالسمع، وأدلة السمع قد دلت على عدم الشفاعة لهم كقوله تعالى{ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع}(غافر:18) والظالمين جمع معرّف باللام وشفيع نكرة في سياق النفي فيقضي العموم في كل منهما وقد تقدم أن دلالة العام في مثله قطعية وقوله تعالى خطاباً لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم{أفأنت تنقذ من في النار}(الزمر:19) وقوله تعالى{لا تجزئ نفس عن نفس شيئاً}(البقرة:48) ثم قال تعالى{ولا تنفعها شفاعة}(البقرة:123) ثم قال{ولاهم ينصرون}(البقرة:48) ونفس وشفاعة وينصرون نكرات في سياق النفي فتكون عامة. وقوله تعالى{قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلَّة ولا شفاعة}(البقرة:254) وقوله تعالى{وما للظالمين من أنصار}(البقرة:270) وقوله تعالى{وما هم عنها بغائبين}(الإنفطار:16) ولو صحت الشفاعة لهم لغابوا عنها، وقوله تعالى{مالهم من الله من عاصم}(يونس:27) وقوله تعالى{ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون}(الأنبياء:28) وهذا عن الملائكة وقد ثبت أنهم أفضل من الأنبياء فنفى شفاعتهم إلا لمن ارتضى والفاسق غير مرضي، وقوله أيضاً عنهم{ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين
تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم}(غافر:07) فهذه أدلة قطعية لا يدخلها التشكيك على أن الشفاعة موضوعها جلب النفع كدفع الضرر كما ذكرنا ذلك في ماهيتها. ومما يؤيد ذلك ما يقال يشفع الوزير إلى الأمير ليزيد فلاناً في رواتبه وعطيته، كما يقال شفع إليه ليصفح عن جرمه وخطيئته.
وقال الشاعر:-
فذاك فتاً إن جئته لصنيعة .... إلى ماله لم تأته بشفيع
وقد دلت الدلالة القطعية على قصرها في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم على جلب النفع، ألا ترى إلى قوله تعالى{ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع}(غافر:18) ونحوها كيف نفى الله الشفاعة لهم على العموم وإثبات ما نفاه الله تعالى يكون تكذيباً له ورداً لكلامه وذلك لا يجوز بلا خلاف بين المسلمين، فلو شفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأحد من هؤلاء الظالمين لأدى ذلك إلى أحد باطلين، إما أن يطاع وتقبل شفاعته فيكون ذلك تكذيباً للآية وإبطالاً لمعناها، وإما أن لا يطاع فيكون ذلك إسقاطاً لمنزلته صلى الله عليه وآله وسلم وخرطاً للإجماع المنعقد على أن شفاعته مقبولة في ذلك اليوم ومخالفة للمقام المحمود الذي وعده الله تعالى أن يبعثه فيه. ويدل على ذلك أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(ذُخرت شفاعتي لثلاثة من أمتي رجل أحب أهل بيتي بقلبه ولسانه، ورجل قضى لهم حوائجهم لما احتاجوا إليه، ورجل ضارب بين أيديهم بسيفه) وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(من آذاني في أهل بيتي فقد آذى الله ومن أعان على أذاهم وركن إلى أعدائهم فقد أذن بحرب من الله ولا نصيب له في شفاعتي) وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي ولن أشفع لهما سلطان غشوم وغالٍ في الدين مارق) وقال صلى الله عليه وآله
وسلم:(إن أقربكم مني غدا وأوجبكم عليَّ شفاعة أصدقكم لساناً وأحسنكم خلقاً وأدَّاكم لأمانته وأقربكم من الناس) فكل ذلك يوضح ما ذهبنا إليه ويبطل ما اعتمده المخالف.
ودليل آخر عقلي: لاشك أن صاحب الكبيرة مسخوط عليه وأن الله تعالى قد تبرأ منه وعاداه ونفى الإيمان عمن يواده بقوله تعالى{لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله…الآية}(المجادلة:22)،فلو شفع له النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكان قد رضي عمن سخط الله عليه، ولكان قد والى وأحب من تبرأ الله منه وعاداه، ومن ظنَّ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً من ذلك فقد ارتكب عظيماً. ثم يقال للمرجئة هل يحسن من الإنسان أن يدعو إلى الله أن يدخله في شفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟ فإن قالوا لا، خالفوا الإجماع، وإن قالوا نعم، قلنا فهل يحسن منه أن يدعو إلى الله تعالى أن يميته فاسقاً حتى يشفع له النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ فإن قالوا: نعم خالفوا الإجماع والمعقول.
وإن قالوا: لا يحسن.
قلنا: قد ثبت أن شفاعته عليه الصلاة والسلام لا تكون لفاسق، ثم يقال لهم ما يقولون في رجل حلف بطلاق نسائه وعتق عبيده وإمائه وصدقه ماله ليفعلن ما يستحق به الشفاعة شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هل يؤمر بالبر والإحسان أم يؤمر بفعل العصيان؟ فإن قالوا بالثاني خرجوا من الدين ومما عليه جميع المسلمين، وإن قالوا بالأول ثبت ما ذهبنا إليه من أن الشفاعة لا تستحق إلاَّ بالإيمان. قالوا ورد الاستثناء في قوله تعالى{وأمّا الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها مادامت السماوات والأرض إلاّ ما شاء ربك}(هود:106،107).
قلنا: المعنى هم خالدون في النار مدة القيامة إلاّ مدة وقوفهم في المحشر للقطع بالوقوف فيه للحساب كما في الاستثناء في حق أهل الجنة في قوله تعالى{إلاّ ما شاء ربك عطاءً غير مجذوذ}(هود:108) إذ لا خلاف في ذلك أن المراد بالاستثناء قبل دخول الجنة والفرق تحكم.
قالوا: قد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال(شفاعتي لأهل الكبائر من
أمتي).
قلنا: يجب طرحه لمصادمته البراهين المتقدمة السمعية والعقلية ولمعارضته بصحيح من الأخبار وهو ما روى الحسن البصري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال(ليست شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) ثم لو صح الخبر ولم يكن فيه هذه الزيادة فإنه من (أخبار الآحاد) التي لا توصل إلى العلم ومسئلتنا هذه يجب أن يؤخذ فيها بالأدلة الموصلة إلى العلم لأنها من أصول الدين التي يجب على كل مكلف العلم بها ولا يجوز له الاقتصار فيها على التقليد، ولأنه يمكن تأويل الخبر على ما يوافق الآيات التي نفت الشفاعة عن كل ظالم.
فنقول: إن شفاعته لأهل الكبائر من أمته إذا تابوا وتكون فائدة تخصيصه لهم بالذكر وإن كانت شفاعته (صلى الله عليه وآله وسلم) للتائب وسائر المسلمين أن لا يتوهم متوهم أنه لاحظ لهم في شفاعته صلى الله عليه وآله وسلم وإن تابوا فأزال هذا التوهم ولأن الشفاعة في حق التائبين أوقع ونفعها أعظم لأنهم قد كانوا أحبطوا ما استحقوا من الثواب فصاروا في أعداد الفقراء والإحسان للفقير ليس كالإحسان إلى الغني مع اشتراكهما في أنَّ الإحسان منفعة وهذا على القول الصحيح، خلافاً لمن يقول إن بالتوبة يعود ثواب الطاعة المتقدمة، ولمن يقول إن التوبة تسقط العقوبة لكثرة ثوابها لا بمجردها.
تنبيه:
اختلف في عموم شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لسائر الأمم، فمنهم من قال شفاعته ليست عامة وإنما هي لأمته فقط، ومنهم من قال لها ولسائر الأمم. قال الدواري: وهذا هو الذي تقضي به الآية يعني قوله تعالى{عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً…الآية}. وكذلك ظواهر الآثار وهو الصحيح، ويقال هل لأحد من الأنبياء
غير نبيئنا صلى الله عليه وآله وسلم شفاعة.
قلنا: نعم لهم شفاعة مقبولة عند ربهم رفعاً لمنازلهم وإكراماً لهم بل قد ورد في الآثار للعلماء والشهداء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم(يشفع يوم القيامة ثلاثة أصناف الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء) وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(يؤتى يوم القيامة بمنابر من ذهب مرصعة بالدر والياقوت مجلجلة بالديباج والإستبرق ثم ينادي منادي الرحمن أين جلساء أمة محمد، أين من أهدى إلى أمة محمد علماً أراد به وجه الله، ثم يؤتى بالعلماء فيقعدون على تلك المنابر ثم يقال لهم اشفعوا تشفعوا ثم ادخلوا الجنة) وفي الأثر عنه صلى الله عليه وآله وسلم(يشفع الشهيد لسبعين من أهل
بيته فإن لم يكونوا فلسبعين من جيرانه) وغير ذلك من الأخبار المؤدية إلى هذا المعنى.
المسألة السادسة والعشرون ((في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر))
ووجه إلحاق هذه المسألة ومسائل الإمامة بباب الوعد والوعيد على ما هو اعتماد الشيخ وكثير من المتكلمين أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يستباح معهما القتل وغيره من العقوبات وكذلك الإمامة فإنها تراد لإقامة الحدود ودفع الكفار وأهل المعاصي بالقتل ونحوه من العقوبات، فكان لهما علقة بباب الوعيد لأنه موضوع لاستحقاق أهل الكبائر العقوبة وفعلها بهم، ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يدخلان إلاّ فيما يدخله الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب، وكذلك الإمامة لا تراد إلاَّ للقيام بما يتوجه على المكلفين من فعل ما وعدوا بالثواب على فعله وتوعدوا بالعقاب على تركه، والمراد بالأمر ما يشمل القول والفعل كالضرب ونحوه، وكذلك النهي والمعروف يشمل الفرض والنفل، والمنكر يشمل القبيح والمكروه كراهة تنزيه.
قالت الزيدية والمعتزلة: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على كل مكلف وجوب كفاية سواء كان ثم إمام أم لا على قدر الطاقة والإمكان والقدرة عليهما بالقول على مراتبه وهو القول اللين أولاَ ثم الخشن ثانياً ثم التهدد والوعيد ثالثاً، ثم بعد القول يجب القتال بالعصى ونحوها أولاً والسيف بعد ذلك جرحاً أولاً وقتلاً ثانياً إن لم ينته إلاَّ به، فعلى هذه المراتب يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا يتجاوز إلى أعلى مع حصول المقصود بالأدنى، قال بعض السادة من أهل العصر فإن كان التفكر في القدر الكافي مخلاً بالمدافعة بحيث يفعل المحظورة في مدة التفكر وجب
دفعه بغير رَوِيَّة ولو بالأضر.
قال إمام زماننا أيده الله وهو قوي لعدم حصول الانزجار لولاه ولا بد من ذكر تفصيل ها هنا.
فنقول: الأمر والنهي إما بالقول أو بالسيف، أما بالقول فإنه يجب على كل مكلف ولا كلام في ذلك لكن إذا كان المأمور به والمنهي عنه من قبيل الاعتقادات وجب على الآمر الناهي أن يبين بطلان المنهي عنه ويحل شبهته ويبين حقيقة المأمور ويظهر دليله، ولا يجوز أن يأمره بالاعتقاد مجرداً إذ الأمر بالتقليد لا يجوز، وأما بالسيف فالمأمور به أو المنهي عنه إما اجتهادي أو قطعي، فالاجتهاديات لا يجوز القتال عليها بالسيف إلاَّ للإمام فقط إذ له أن يلزم الغير اجتهاده وإن اختلف هل له ذلك مطلقاً أو فيما تقوى به شوكته فقط كما هو الأصح، وأما القطعيات فالمعروف: على ضربين عقلي وشرعي، فالعقلي يقاتل عليه بالسيف الإمام وكل أحد كقضاء الدين ورد الوديعية، وأما الشرعي فلا يقاتل عليه بالسيف إلاَّ الإمام فقط، وادعى بعضهم الإجماع على ذلك لكن منه ما يجوز للإمام الإجبار عليه كأخذ الزكاة كرهاً ونحوه ومنه ما ليس له ذلك كالصلاة والصوم لأنها متوقفة على البينة التي لا يصح الإجبار عليها ولا يقوم غيرها مقامها، لكن للإمام حبسه أو قتله بعد استتابته (ويتأنَّى به) ثلاثة أيام فإن تاب وإلاَّ قتله وقتله حدَّاً، وأما المنكر: فإنه يلزم كل مكلف القتال عليه بالسيف وقتل فاعله دونه إن لم ينته، وإنما فرقنا بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أن فاعل المنكر القطعي يمنع منه ولو بالقتل وتارك المعروف لا يجبر على فعله بالقتل من أحاد الناس لأن المنكر إذا قتل من أراد فعله فقد حصل الغرض وهو عدم وقوعه ولا كذلك الواجب.
فإن قيل:من تركه لا يحصل منه الغرض الذي هو وقوع الواجب فافترقا.
قلت: ويخرج من عموم الكتاب الأمر بالمندوب فإنه مندوب والنهي عن المكروه فإنه مندوب أيضاً. نعم وإنما يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الزيدية والمعتزلة إذا تكاملت شروطهما وهي خمسة:
الأول: أن يعلم الآمر الناهي أن الذي يأمر به معروف حسن والذي ينهي عنه منكر قبيح ولا يكفي الظن، فإن أقدم على الأمر والنهي من غير علم كان إقدامه منكراً فإن عرف جنسه والتبس عليه أفرضٌ هو أم نَفْل أو عرف كراهته والتلبس كراهة تنزية أم كراهة حضر حسن منه الأمر والنهي بالقول فقط من غير تهدد ونحوه، ويعني بكونه منكراً أو معروفاً أنه كذلك عند المأمور والمنهي وإن كان مذهب الآمر والناهي بخلافه، فإذا رأينا رجلاً يشرب المثلث لم يجب نهيه بل لم يحسن لجواز أن يكون حنفيَّاً، فإن علمنا أنه ليس حنفيَّاً وجب الإنكار عليه وسواء كان المنكِر حنفيَّاً أو غيره.
الثاني: أن يعلم أو يظن أن لأمره ونهيه تأثير وإن لم يعلم ذلك ولا يظنه فلا وجوب قطعاً، قيل لكنه يحسن لأنه دعى إلى الخير، وقيل لا يحسن لأنه عبث، وفي الأساس: يشترط ظن التأثير حيث كان المأمور والمنهي عارفين بأن المأمور به معروف والمنهي عنه منكر وإلاّ وجب التعريف وإن لم يظن التأثير لأن إبلاغ الشرائع واجب إجماعاً والأصل في ذلك قوله تعالى{إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى…الآية}(البقرة:159) ونحوها، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(من كتم علماً مما ينتفع به الناس ألجمه الله بلجام من نار).
قال إمام زماننا أيده الله : ويجب أيضاً أمر العارف بالمعروف ونهي العارف عن المنكر وإن لم يحصل الظن بالتأثير لقوله تعالى{وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً، قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون}(الأعراف:164) والمعذرة لا تكون عما لا يجب، قال عليه السلام: وإنما يجب ذلك ريثما يتحول المتمكن من الهجرة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(لا يحل لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغيرِّ أو تنتقل).
الثالث: أن لا يعلم الآمر الناهي ولا يظن أن أمره ونهيه يؤديان إلى منكر آخر وهو مثل المنكر الأول أو أعظم، وسواء علم أو ظن أنهما يؤديان إلى ذلك أم لا بل بقي شاكاً، فإذا علم أنهما يؤديان إلى ذلك أو ظنه لم يحسن أمره ولا نهيه. وفي الأساس: وحصول القدرة على التأثير مع ظن الانتقال إلى منكر غيره لا يرخص في الترك لأن هذا منكر معلوم وذلك مجوز مظنون أو مع حصول الظن بوقوع شيء من ذلك مع عدم ظن التأثير لا يجوزان لأنهما حينئذ كالإغراء، ومع ظن التأثير لا يجبان وفي حسنهما تردد.
الرابع: أن لا يعلم ولا يظن أن أمره ونهيه يؤديان إلى مضرة في نفسه من قتل أو حبس طويل أو ذهاب عضو من أعضائه أو ماله المجحف فإن علم ذلك أو ظنه سقط الوجوب قطعاً، وأما الحبس فمنهم من قال يسقط أيضاً لأنه إلقاء بالنفس إلى التهلكة وقد نهى الله عن ذلك، ومنهم من قال يحسن صبراً في الله تعالى كما صبر كثير من الصالحين لله تعالى فإنهم كانوا ينشرون بالمناشير ويقرضون بالمقاريض ونحو ذلك وهم صُبُرٌ وكان ذلك كثيراً في صالحي الأمم الماضية كسحرة فرعون لعنه الله تعالى وغيرهم، وكان في بدء الإسلام وقد مدحهم الله تعالى على ذلك وهذا هو مذهب السيد المؤيد بالله وغيره، ومنهم من فصَّل (قال وإن) كان هذا الذي يجري عليه ذلك يقتدى به ويكون سبباً لتحريك قلوب المسلمين على الصبر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسن كفعل الحسين بن علي وزيد بن علي عليهم السلام ونحوهما، وإن كان لا يقتدى به ولا يكون أسوة لم يحسن وهذا التفصيل قول الجماهير من العلماء من الزيدية والمعتزلة وغيرهم ويقرب أن خوفهم من الضرب والجرح يكون حكمه حكم الخوف على النفس أو على عضو، والذين قالوا بعدم حسن ذلك حملوا فعل الحسين بن علي وزيد بن علي عليهم السلام على أحد وجهين، إما أنهم لم يعلموا ولا غلب في ظنونهم تلفاً، أو يقال أن الحسين بن علي وزيد بن علي عليهم السلام قتلا جهاداً والجهاد مخالف حكمه حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من وجوه:
أحدها: أن الجهاد واجب وإن خشي المجاهد على نفسه التلف بخلاف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومنها: أن الجهاد يجوز فيه ترك الكافر على ما هو عليه من المعصية@ ويسلِّم الجزية أو نحوها بخلاف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه لا يجوز تقرير صاحبه عليه بحال بمال ولا بغير مال.
ومنها: أن النهي عن المنكر تقتل فيه المرأة والصبي بخلاف الجهاد فأما إن خشي أخذ شيء من المال، فمن المتكلمين من قال يجب الأمر والنهي كما يجب على المجاهد الجهاد وإن خشي قتل دابته وعلى المتوضي شراء الماء بما أمكن من المال إذا وجده، قيل وذلك رأي المنصور بالله وبه قال الفقيه حميد، ومنهم من قال لا تجب وهو ظاهر الخلاصة وقول كثير من المتكلمين، وأما السَّب وخوفه فإن كان لا يضع منزلة المسبوب لم يسقط الوجوب وإن وضع من منزلته فيقرب أن الحكم فيه كالحكم فيمن خشي على عضو من أعضاءه، وفي الأساس: وتجويز ما يقع على الآمر والناهي بسببهما من نحو قتل وتشريد وانتهاب مال غير مرخص في الترك وفاقاً بين كثير من العلماء لقوله تعالى{وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور} وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(اجعل مالك وعرضك دون دينك… الخبر) أو كما قال وكالجهاد.
قلت: وما ذهب إليه في الأساس هو مذهب المؤيد بالله ومن معه.
الخامس: أن يعلم أو يظن أنه إن لم يأمر بالمعروف ضاع وإن لم ينه عن المنكر وقع كمن شاهد غيره لم يصل الفريضة من أول الوقت إلى أن بقي ما يسع الفريضة فقط فإنه يتضيق عليه الأمر لئلا يضيع المعروف ولا يتضيق في غير ذلك، وكذا من شاهد آلات المنكر حاضرة وغلب على ظنه أنه لم ينه وقع المنكر فإنه يتضيق عليه النهي، فأما بعد ضياع المعروف وبعد الفراغ من المنكر فإنه لا يجب الأمر والنهي لعدم الفائدة اللهم إلا أن يكون ذلك على جهة التذكير والوعظ فيكون المقصود بذلك ألا يقع أمثاله في المستقبل فيكون ذلك حسناً وإن لم يكن واجباً، وقد علم أن من هذه الشروط ما هو مشروط في الوجوب والحسن ومنها ما هو مشروط في الوجوب فقط، ومنها ما يقوم الظن فيه مقام العلم ومنها ما ليس كذلك. نعم (وأما ما) ذكرناه من القول بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند تكامل شروطهما هو مذهب الزيدية والمعتزلة قاله بعض أصحابنا، وحكي عن الحشوية: أنه لا يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلقاً، والذي ذكره الدواري: أن أهل القبلة قاطبة مجمعون على وجوبهما، وإنما الخلاف في مسألة وهي هل من شرطه الإمام أم لا، فالذي عليه الأكثر أنه لا يشترط الإمام بل يجبان من دونه، وقالت الإمامية: لابد فيه من الإمام، ثم اختلفوا، فمنهم من قال: لا تجب قولاً ولا فعلاً إلا بالإمام، والذي عليه أكثرهم أنه لابد من الإمام في الفعل أما القول فالإمام غير شرط فيه.
والدليل على ذلك المذهب الصحيح من جهة العقل مختلف فيه، فذهب أبو علي إلى أنه: يجب ذلك عقلاً سواء لحق أحدنا ضرر أم لا، إذ لو جوزنا عقلاً ظهور المنكرات وانتشارها من غير نكير لجرى ذلك مجرى الإباحة والرضى بها وهو قبيح عقلاً، وذهب أبو هاشم إلى أنه: لا يجب عقلاً إلاّ في موضع واحد وهو حيث يلحق الواحد منا ضرر بذلك المنكر كأن يُرى يتيماً يُضرب أو ضعيفاً يُظلم فيلحق الرائي الغم والمضض بذلك فيجب عليه إزالة ذلك المنكر دفعاً للضرر عن نفسه، وهذا القول هو الذي رجحه المهدي عليه السلام قال: لأنه لو وجب عقلاً لم يكن وجوبه إلاّ لوجه كما هو حكم الواجبات العقلية، ولا وجه لوجوبه من جهة العقل إلاّ كونه أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر إذ لا وجه يصلح للعلة غير ذلك، ولو كان وجوبه علينا وألجأنا للمأمورين المنهيين لهذه العلة لأطرد في حق الباري تعالى وكان يلجي المكلفين إلى فعل المعروف وترك المنكر لأن ما وجب وقوعه على وجه اطرد شاهداً وغائباً، واتفق العلماء الذين قالوا بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أن السمع دليل على ذلك وهو قوله تعالى{وليكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}(آل عمران:104) فهذا أمر عام لكل مكلف وكل وقت والأمر يقتضي الوجوب لقوله تعالى{فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}(النور:63) إلاَّ أنه فرض كفاية على الكافة لأنه أمر لطائفة غير معينة، وهذه الآية لا تدل على وجوب القتال فلابد من أن تنظم إليها الآية الأخرى وهي قوله تعالى{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}(الحجرات:09) فهذه الآية
دلت على عموم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقول ثم بالسيف وهو المراد بالمقاتلة، ومما يدل على وجوبهما من السنة قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم سلطاناً جائراً لا يرحم صغيركم ولا يوقر كبيركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم).
قال في الخلاصة: ومما يدل على وجوبهما قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(وأمروا بالمعروف تخصبوا وانهوا عن المنكر تنصروا). قال الدواري: قوله صلى الله عليه وآله وسلم:وأمروا بالمعروف تخصبوا لا دلالة فيه على الوجوب لأن طلب النفع لا يجب فكذلك ما يؤدي إليه، وقوله: وانهوا عن المنكر تنصروا يدل على الوجوب لأن الانتصار إما جهاداً وإما دفع ضرر وكله واجب وما أدى إليه فهو واجب. ومما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(والذي نفسي بيده ليخرجن أقوام من أمتي من قبورهم على صورة القردة والخنازير بما داهنوا أهل المعاصي وكفوا عن نهيهم وهم يستطيعون) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(ما من رجل بين ظهراني قوم يعمل بين ظهرانيهم المعاصي ولا يأخذون على يده إلاَّ أوشك أن يعمهم الله منه بعقاب) وروي عن موسى عليه السلام أنه سأل الله تعالى عن أحب خلقه إليه قال: أسرعهم إلى رضائي كسرعة النسر إلى وكره والذي يغضب عند محارمي كغضب النمر لنفسه فإنه متى غضب لنفسه لم يبالي بالناس قلوا أم كثروا. وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير مؤمن بي ولا بالقرآن) وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(لا يحل لعين ترى الله يُعصى فتطرف حتى تغير أو تنتقل) والمراد بالانتقال هو الهجرة، وقالت المعتزلة: هو من ذلك المكان إلى مكان لا يرى فيه، وقولهم باطل لأن المراد بالتحريم لأجل العلم مع القرب بحيث يمكن أن يرى المعصية وإلاَّ لقال حتى تغير أو تغمض.
فثبت بذلك الدليل القطعي أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على كل مكلف كفاية وبطل ما قاله المخالف.
المسألة السابعة والعشرون ((في إمامة علي عليه الصلاة والسلام))
وينبغي ذكر مقدمة قبل ذلك تشتمل على ماهية الإمامة ودليلها وما يتعلق بذلك.
فنقول: الإمامة في أصل اللغة الاقتداء والإمام هو المقتدى به قال الله تعالى{واجعلنا للمتقين إماماً}(الفرقان:74) وقال تعالى{يوم ندعوا كل أناس بإمامهم}(الإسراء:71) وحقيقتها في الاصطلاح: رئاسة عامة لشخص من الأشخاص في أمور الدين والدنيا المتعلقة بالسياسة على حد لا يكون فوق يده يد، فقولنا رئاسة عامة لنحترز بذلك عن الرئاسة الخاصة كرئاسة الرجل على أهل بيته ورئاسة الولاة والقضاة ونحوهم، وقولنا لشخص واحد من الأشخاص احتراز من النبوءة فإنه يصح ثبوتها في وقت واحد لأكثر من شخص واحد بخلاف الإمامة فإنها لا تثبت في وقت واحد لأكثر من شخص واحد عند بعض أهل المذهب وهو مذهب المعتزلة والأشعرية والخوارج خلافاً للكرامية وبعض الزيدية منهم الناصر عليه السلام وهو أحد قولي المؤيد بالله ورجحه الإمام يحي وهو مذهب الجاحظ وعبّاد من المعتزلة كما كان الهادي والناصر عليهما السلام في وقت واحد وكان الناصر يقول من كان في ناحيتنا أجاب دعوتنا ومن كان في ناحية الهادي أجاب دعوته، وكثير من أهل البيت يقول لم تثبت إمامة الناصر إلاَّ بعد موت الهادي عليه السلام.
حجة الأولين: إجماع الصحابة فإن الأنصار لما قالوا للمهاجرين منا أمير ومنكم أمير قال عمر بن الخطاب سيفان في غمد لا يصلحان فانقادوا لذلك كلهم فصار إجماعاً، وقولنا في أمور الدين والدنيا نحو أخذ الزكاة ممن وجبت عليه وإقامة الحدود والجمعة وغزو ديار الحرب ونحو ذلك مثل حفظ أموال المساجد والمناهل والولاية على الأوقاف ونحو ذلك. وقولنا المتعلقة بالسياسة نحترز به مما لا يتعلق بالإمام كالصلاة والصيام ونحو ذلك وإنما تجب طاعة الإمام في أمور الدين والدنيا التي تتعلق بالسياسة وصلاحها كالجهاد والولايات والحدود وأخذ الزكاة كما ذكرنا، وقولنا على حد لا يكون فوق يده يد لنحترز بذلك عمن يجعل له الإمام ولاية عامة في جميع الأمور فإن من هذه حاله قد صارت له ولاية عامة إلاَّ أنه لا يكون إماماً لأن فوق يده يد وهي يد الإمام بدليل أنه لو وقع منه معصية يستوجب بها الحد فإن الإمام يحده.واختلف الناس في وجوبها فذهب الأكثر وهو مذهبنا إلى أنها واجبة لكن العلم بها جملة من فروض الأعيان وتفاصيلها من فروض الكفايات، وافترقوا، فمنهم من قال تجب عقلاً وسمعاً وهو مذهب بعض أئمتنا (عليهم السلام) ، منهم إمام زماننا أيده الله تعالى وبه قال البلخي وأبو الحسين والجاحظ والإمامية، وقال بعض أئمتنا (عليهم السلام) والجمهور بل سمعاً فقط، وقالت الخوارج وبعض الحشوية وهشام الفوطي من المعتزلة (وضرار والأصم) من المجبرة لا تجب الإمامة وجوباً مستمراً لا عقلاً ولا شرعاً، وإن اختلفت مقالة هؤلاء، فالأصم يقول لا تجب إلاَّ عند ظهور الظلمة وظلم الخلق فتجب لدفع الظلم، والحشوية يقولون لا تجب مطلقاً لعدم الدليل، وهشام يقول: لا يجب على الإمام القيام إذا خشي القتل وثوران
الفتنة، والصحيح عندنا وجوبهاً عقلاً وسمعاً، أما وجوبها عقلاً: فإن الناس مع رئيس ينظمهم ومدبر يدبرهم أحسن حالاً وأقرب إلى ترك التظالم وترك التظالم واجب عقلاً وما لا يتم الواجب إلاَّ به يكون واجباً كوجوبه، ولهذا فإن العرب لم تخل نفسها من زعيم ينقادون لأمره ونهيه ويهتدون بهديه وهذه الشيمة في العجم أظهر فإنهم لا ينفكون عن رئيس ينقادون له، وعليه قول الشاعر:-
لا يصلح القوم فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
وأما وجوبها سمعاً: فمن الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى{إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين}(البقرة:124) وقوله تعالى{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}(النساء:59) وأولي الأمر هم أئمة الحق من أهل البيت عليهم السلام الذين لا يجوز خلو الزمان من واحد منهم يصلح للإمامة بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(أهل بيتي كالنجوم كلما أفل نجم طلع نجم) وسيأتي بيان أنهم المرادون بأولي الأمر وقصر ذلك عليهم دون غيرهم.
وأما السنة: فقال صلى الله عليه وآله وسلم:( من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) قال الهادي عليه السلام يعني إما باسمه إن كان حاظراً وإما بصفته إن كان في زمان فترة.
قلت: وسبب الفترة قهر الظلمة المعين للمنتصب لها الذي هو شرط في وجوبها أو بخذلان الأكثر فمن عزم على الإعانة مع القهر والغلبة فهو غير مخل إذ العزم كافٍ كمن يجبر على ترك الصلاة، وكالحج فإنه لا يجب إلاّ مع التمكن من شرط وجوبه وهو الزاد والراحلة وكفاية من يمون حتى يرجع، وقد ذكر معنى ذلك إمام زماننا أيده الله تعالى، وجميع ما يدل على إمامة أهل البيت عليهم السلام مما يأتي ذكره يدل على مطلوبنا هاهنا.
وأما الإجماع: فمعلوم أن الصحابة أجمعت على أن الحد إلى الإمام والتكليف به مستمر وما لا يتم الواجب إلاَّ به يجب كوجوبه.وأول من استدل بهذا الدليل نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم عليه السلام، ثم ذكره الشيخان أبو علي وأبو هاشم، وقد اعترض بأن قيل ما أنكرتم أن وجوب الحد ونحوه مشروط بوجود الإمام كوجوب الزكاة فإنه مشروط بالنصاب والحج فإنه مشروط بالاستطاعة وهذا الاعتراض أقوى ما يرد على هذا الدليل، وقد أُجيب عنه بجوابات أقواها ما ذكره بعضهم وهو مبني على أصل وهو أن الأمر إذا ورد مطلقاً غير مقيد وجب تحصيل ما لا يتم إلاّ به، وقد ثبت أن وجوب الحد ونحوه مطلقاً فوجب علينا تحصيل شرطه لأنه شرط في الأداء لا في الوجوب بخلاف الحج والزكاة، أما الحج (فالأمر به ورد) مقيداً بالاستطاعة فكانت الاستطاعة شرط في الوجوب، والأمر بالزكاة ورد مرتباً على وجود المال نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(في مائتي درهم خمسة دراهم، وفي أربعين شاة شاة) ونحو ذلك فكان النصاب شرطاً في الوجوب فظهر الفرق بين الحد ونحوه وبين الزكاة والحج ونحوهما، واستدل المؤيد بالله على وجوب الإمامة بإجماع الصحابة فإنهم فزعوا إلى إمامة الإمام حالاً بعد حالٍ وقال أبو بكر: لا بد
لهذا الأمر ممن يقوم به فأقروه على ذلك، وإنما وقع الخلاف في محلها فقط، وإذا قد أثبتنا على ما أردنا من ذكر المقدمة فلنعد إلى ما نحن بصدده فنقول:
اختلف الناس في الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلا فصل، فقالت الزيدية قاطبة على رواية بعض أصحابنا كالسيد صاحب شرح الأصول والفقيه حميد والمنصور بالله وغيرهم، والجارودية منهم على رواية الشيخ في الواسطة وغيره،قلت أو إلى البترية منهم على رواية بعض أصحبنا المتأخرين وبه قالت الإمامية، أن الإمام بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بلا فصل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وأن طريقة إمامته النص، ثم اختلفوا ذات بينهم في النص، فذهب الزيدية إلى أن النص في إمامة علي عليه السلام نص خفي، وعند الإمامية نص جلي يكفِّرون منكره ويفسقونه ولأجل ذلك حكموا بفسق المشائخ وغيرهم.
واعلم أن الزيدية فريقان جارودية وصالحية، فالجارودية: تتفق رواية أصحابنا عنهم بتقديم علي عليه السلام في الإمامة على المشائخ وأنهم يفسقون المشائخ ونحوهم .وأما الصالحيَّة: فمن أصحابنا من يروي عنهم تقديم علي عليه السلام على المشائخ إلاَّ أنهم لا يفسقون المشائخ، ومنهم من يروي عنهم تقديم المشائخ كقول سائر الفرق.
والخلاف في ذلك مع المعتزلة والخوارج والمرجئة وسائر فرق أهل القبلة فإنهم يقولون: إن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي عليه الصلاة والسلام، وقالت العثمانية: بل الإمام بعد عثمان معاوية، ثم اختلفوا في طريقة إمامة أبي بكر، فمنهم من قال العقد والاختيار وهذا قول الأكثر منهم، ومنهم من قال بالنص وهو قول الحسن البصري والبكرية والكرامية، ثم اختلفوا، فمنهم من قال النص جلي وهو مذهب البكرية والكرامية، ومنهم من قال خفي وهو قول الحسن البصري.
والدليل على ذلك المذهب الصحيح وهو قول الزيدية ومن تابعهم، الكتاب والسنة وإجماع العترة.
أما الكتاب: فقوله تعالى{إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}(المائدة:55).
قال في الأساس: والمراد بالذين آمنوا في الآية علي عليه السلام لوقوع التواتر بذلك من المفسرين وأهل التواريخ وإطباق العترة وشيعتهم على ذلك.
وقال في الخلاصة: الأصل في ذلك الخبر المستفيض وهو أن سائلاً سأل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي يصلي فلم يعطه أحد شيئاً،فقال: اللهم اشهد إني سألت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يعطني أحد شيئاً، فأشار علي عليه السلام إلى السائل وهو راكع بخنصره اليمنى وكان يتختم فيها فأخذ السائل الخاتم، ثم نزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الآية، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد والناس بين قائم وقاعد وقارئ وراكع وساجد وبصر بالسائل فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم:( هل أعطاك أحد شيئاً؟ قال:نعم خاتماً من ذهب، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: على أي حال أعطاك ؟ قال: أعطاني وهو راكع، فكبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتلا{ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون}(المائدة:56)).وقد ضعَّف الإمام المهدي (عليه السلام) استدلال أصحابنا بهذه الآية الكريمة وما قطع بأنها نزلت في علي عليه السلام خاصة، ولا أستبعد أن يكون معنى قوله {إنما وليكم الله} إنما ناصركم الله ورسوله ومن كان من المؤمنين مقيماً للصلاة ومؤتياً للزكاة خاضعاً لله.
قلت: إذا قد صح إجماع العترة عليهم السلام على أنها نزلت في علي عليه السلام خاصة، بطل أن يكون المراد بها (غيره ولأن) إجماع العترة عليهم السلام حجة كما هو مقرر في مواضعه من أصول الفقه، وورد بلفظ الجمع زيادة في الامتحان وهو من باب إطلاق العام على الخاص فنظيره قوله تعالى{هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله…الآية}(المنافقون:07) والمعني بها عبدالله بن أُبي وحده، لنقل المسفرين ذلك ولأن الله تعالى ذكر ولياً للمؤمنين هو الله ورسوله والذين آمنوا جعله أيضاً ولياً فيجب أن يكون الولي من المؤمنين غير المولّى عليه، لأن من حق العطف التغاير، وكلمة ولي في اللغة مشتركة بين معان هي المودة والنصرة والملك للتصرف إلاَّ أن الملك للتصرف قد صار غالباً عليها (في عرف) الاستعمال بدليل أنه متى قيل هذا ولي القوم سبق إلى الأفهام أنه المالك للتصرف فيهم فيجب حملها على هذا المعنى لأجل سبقه إلى الأفهام وهذا يجري على قاعدة أئمتنا والجمهور وعلى قاعدة غيرهم أن اللفظ المشترك إذا قامت قرينة تدل على أنه أريد به أحد معانيه حمل عليه، والقرينة هنا العرف.ووجه ثانٍ يتنزل على قاعدة أئمتنا والجمهور فقط وهو أن اللفظة المشتركة يجب حملها على جميع معانيها التي هي غير ممتنعة بدليل أنها إن لم تحمل على معنى ألحقنا كلام الحكيم (تعالى) بالهذر وذلك مما لا يصح وإن حمل على بعض المعاني بغير دليل كان تخصيصاً من غير مخصص وهو لا يصح أيضاً، فلم يبق إلاَّ أن يحمل على جميع معانيه وهو ما قلنا، وإذا حمل على جميع معانيه فمن جملتها مالك التصرف فكأنه قال إنما مودكم وناصركم والذي يملك التصرف عليكم هو الله ورسوله وعلي بن أبي طالب عليه السلام، ومالك التصرف هو معنى
الإمامة قطعاً بدليل أنَّا لا نعني بقولنا فلان إمام إلاَّ أنه يملك التصرف على الكافة في أمور مخصوصة وتنفيذ أحكام شرعية، وقد بينا أن علياً عليه السلام ولي لكافة المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيجب أن يكون مالكاً للتصرف عليهم.
والدليل على إمامة علي عليه السلام من السنة: ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعلي عليه السلام صواب العبارة في علي عليه السلام لما خطب المسلمين يوم غدير خم قال:(أيها الناس ألست أولى بكم من أنفسكم قالوا:بلى يا رسول قال:
من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله)قال جمهور أصحابنا إن هذا الخبر متواتر وقد ذكر ذلك في شرح الأصول وغيره وبنى عليه إمام زماننا أيده الله تعالى في أساسه وقال صاحب الخلاصة ليس بمتواتر وإنما هو متلقى بالقبول مجمع على صحته وعلى كل حال فهو مفيد للعلم لأن المتلقى بالقبول في إفادته للقطع كالمتواتر في الأصح وإذا كان ثابت المتن عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإجماع فالخلاف إنما هو في دلالته على الإمامة أو على الفضيلة فقط فعندنا أن ذلك نص صريح على إمامته عليه الصلاة والسلام.
وبيان:ذلك أن لفظة مولى مشتركة بين معانٍ بدليل أنها متى أطلقت في الأصل لم يسبق إلى الفهم معنى من المعاني وهو معنى الاشتراك، ومعانيها عشرة المعتق والمعتق كما يقال العبد مولى لفلان أي مُعْتَقَه، والسيد مولى العبد أي معتِقِه،والمود، والناصر قال الله تعالى{ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم}(محمد:11)، وابن العم قال تعالى حاكياً عن زكريا عليه السلام{وإني خفت الموالي من ورائي}(مريم:05) أي يريد بني العم قال الشاعر:-
إذا ظلم المولى فزعت لظلمه وحرك أحشائي وهرت كلابيا
والجار والحليف ، ومنه قول بعضهم :
جزا الله خيراً والجزا بكفه كليب بن يربوع وزادهم مجداً هم خلطونا بالنفوس وألجموا إلى نصر مولاهم مسودة جردا
والمالك للتصرف كما يقال هذا مولى الدار يملك التصرف فيها قال الأخطل في عبد الملك بن مروان:-
فما وجدت فيها قريش لأمرها أعف وأوفى من أبيك وأمجدا
وأروى بزنديه ولو كان غيره غداة اختلاف الناس أكدى وأصلدا
فأصبحت مولاهم من الناس كلهم وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا
والأحق والأولى كما قال تعالى{`مأواكم النار هي مولاكم} أي أولى بكم، والصاحب قال الشاعر:-
لمَّا رأى واشق إقعاص صاحبه ولا سبيل إلى عقل ولا قود
قالت له النفس إني لا أرى طمعاً وإن مولاك لم يسلم ولم يصد
ومالك الرق قال تعالى{وهو كل على مولاه}(النحل:76) أي مالك رقه، ويستعمل في المنعم المسلم على يديه عند الدعاء إلى الإسلام.وإذا ثبت اشتراك لفظة مولى بين هذه المعاني ومن جملتها مالك التصرف أفاد معنى الإمامة قطعاً على قواعد كل مذهب، أما على قواعد أئمتنا عليهم السلام والجمهور فظاهر، وأما على قواعد غيرهم فقد أجمعوا على أن المشترك يحمل على أحد معانيه إن دلت عليه قرينة، ومعنى الإمامة قد دلت عليه قرينة وهي قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(ألست أولى بكم من أنفسكم لا أمر لكم معي) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في آخره:(وانصر من نصره واخذل من خذله) وبعض أصحابنا المتأخرين قال: أنه قد صار الملك للتصرف غالباً عليها بعرف الاستعمال لسبق الفهم عرفاً عند أن يقال فلان مولى القوم أي مالك التصرف، وملك التصرف هو معنى الإمامة لما قدمنا أنّا لا نعني بقولنا إمام إلاّ أنه مالك التصرف وقد عرف من هذا التقرير أنه يستدل بهذا الخبر على إمامته عليه السلام من وجوه أربعة:
الأول: أن المولى لفظة مشتركة في الأصل إلاّ أنه صار الغالب عليها في العرف هو المالك للتصرف فيجب أن تحمل عليه.
الثاني: أنه باقٍ على الاشتراك لكن في الخبر قرينة لفظية وهو قول صلى الله عليه وآله وسلم:(ألست أولى بكم من أنفسكم) فإنها تدل على أن المراد بالمولى هو المالك للتصرف.
الثالث: أن فيه قرينة معنوية وهو أن ماعدا المالك للتصرف لا تصح إرادته إما لأنه مستحيل كما في المعتق أو لأنه معلوم ككونه ابن عمه ومحبه وناصره فتعين أن يكون المراد هو المالك للتصرف.
الرابع: أنّا وإن سلمنا أن لا قرينة فإنه يجب الحمل على كل المعاني الصحيحة دون ما لا يصح كالمعتِق.
ومما يدل على إمامته عليه السلام من السّنة أيضاً ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :(أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي)، هذا الخبر قد روي من طرق شتى وإن كان دون خبر الغدير، وقد اختلف أصحابنا فيه، فقيل: هو خبر متواتر كخبر الغدير وهذا هو مذهب المنصور بالله ورواه في شرح الأصول عن كثير من السادات وعوّل على هذا إمام زماننا أيده الله تعالى، ومنهم من لم يقض بكونه متواتراً وإنما استدل على صحته بإجماع العترة وتلقته بالقبول من غير مناكرة فيه، بل هم بين مستدل به على إمامته ومستدل به على فضله وإلى هذا ذهب صاحب شرح الأصول، وبيان الاستدلال بهذا الخبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أثبت لعليٍّ عليه السلام جميع منازل هارون من موسى بدليل أنه استثنى النبوة وهو يدل على الاستغراق، ولاشك أن هارون خليفة على قومه لإجماع المسلمين على ذلك ولقوله تعالى{وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين}(الأعراف:142)، ولولا استحقاقه للخلافة وصلاحه لها لم يكن ليستخلفه، ومن منازله الشركة في الأمر كما حكى الله عن موسى بقوله{رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي}(طه:26،27،28) إلى قوله {قد أوتيت سؤلك يا موسى}(طه:36) ومن جملة منازل هارون من موسى كونه أفضل أمته فيجب أن تثبت جميع هذه المنازل لعلي عليه السلام لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يستثنها مع النبوة.
وإذا ثبت بهذا استحقاق علي عليه السلام الخلافة والشركة في الأمر فهو معنى الإمامة قطعا، لأنّا لا نعني بقولنا إمام إلاّ مالك التصرف فيجب أن يكون علياً عليه السلام شريكاً له في ذلك، وأولى بالتصرف في الأمة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأن الاستحقاق قد كان ثابتاً له بما قدمنا في وقت الني صلى الله عليه وآله وسلم. وبقي نفاذ التصرف موقوفاً إلى وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإجماع أنه لم يكن لأحدٍ من الأمة تصرف في هذه الأمور التي قدمنا ذكرها في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فصحَّ بذلك إمامة علي عليه السلام.
فإن قيل: هذا إنما يستقيم لو عاش هارون بعد موسى فأمّا وهو مات قبله فلا يصح. قلنا: نحن نعلم قطعاً أنه لو عاش بعده لكان خليفة، فالمنزلة ثابتة قطعاً وبطلانها بعارض الموت لا يقدح في ذلك. فثبت بذلك لعلي عليه السلام أي كونه خليفة (رسول الله) ودلّ على أنه الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلا فصل.
الدليل الرابع: على إمامته إجماع أهل البيت عليهم السلام على أنه الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإجماعهم حجة كما ثبت في موضعه. الدليل الخامس: على إمامته عليه السلام ما ثبت أنه أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وباقي الصحابة مفضولون، وإمامة المفضول لا تصح، قال بعض أصحابنا لكن هذا لا يدل على إمامته بل على بطلان إمامة من سواه فقط. ومن مشهور فضائله فضيلة القرابة، وفضيلة النجابة، وفضيلة طيب المنشأ، وفضيلة السَبْق، وفضيلة العلم، وفضيلة الصبر، وفضيلة الصدق والوفاء، وفضيلة التخصيص بالكرامات المنبهة على علو منزلته عند الله .
أمّا فضيلة القرابة: فلأنه ابن عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبيه وأمه، وشاهد ذلك قول أبي طالب:
إن علياً وجعفراً ثقة عند شدائد الأمور والكرب
لا تخذلاه وانصرا ابن عمكما أخي لأمي من بينهم وأبي
ولذلك فإنه عليه الصلاة والسلام لما علم احتجاج قريش على الأنصار بالقربى، قال: احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة، وقال في معنى ذلك:-
وإن كنت بالشورى ملكت أمورهم فكيف تليها والمشيرون غُيَّبُ
وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم فغيرك أولى بالنبي وأقرب
وأمّا فضيلة النجابة: فلأن نسبه هو نسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يفرق بينهما من الأمهات إلاّ فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي عليه السلام وفضائلها مشهورة، ومما يؤيد ذلك: حكاية الحاكم رحمه الله تعالى في كتاب تنبيه الغافلين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال(إن الله تعالى خلق روحي وروح علي قبل أن يخلق آدم عليه السلام بما شاء الله، فلما خلق آدم أودع أرواحنا في صلبه فلم يزل ننقلها من صلب طاهر إلى رحم طاهر لم يصبها دنس الشرك ولا عهر الجاهلية حتى أقرها في صلب عبد المطلب ثم أخرجها من صلبه فقسمها قسمين فجعل روحي في صلب عبد الله وروح علي في صلب أبي طالب، فعلي مني وأنا من علي نفسه كنفسي وطاعته كطاعتي، لا يحبني من يبغضه، ولا يبغضني من يحبّه).
وأما فضيلة طيب المنشأ: فلأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي كفله وآواه وأدّبه وربّاه فلم يسجد لصنم ، ولم يقع في مأثم، وقد بين عليه السلام ذلك في بعض خطبه المذكورة في نهج البلاغة فقال: وقد علمتم موضعي من (رسول الله) بالقرابة القريبة والمزية الخصيصة وضعني في حجره وأنا وليد يضمني إلى صدره ويكنفني في فراشه ويمسني جسده ويشمني عرقه وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه وما وجدلي كذبة في قول ولا خطية في فعل.
وأمّا فضيلة السَّبق: فلأنه عليه السلام أول ذكرٍ آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وصلى معه، وله مع فضيلة السبق فضيلة العصمة وفضيلة إيتاء الحكمة في حال صغره ومن شعره في معنى ذلك قوله:
سبقتكم إلى الإسلام طراً غلاماً ما بلغت أوان حلمي
وآتاني ولايته عليكم رسول الله يوم غدير خم
وأما فضيلة العلم: فلأنه عليه السلام وارث علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمخصوص بمكنون سره، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم(أنا مدينة العلم وعلي بابها) وكان كل الصحابة محتاجاً إلى علمه ولم يكن محتاجاً إلى علم أحد منهم، ومما يؤيد ذلك: حكاية الحاكم عنه عليه السلام في كتاب تنبيه الغافلين أنه قال: لو كسرت لي الوسادة ثم جلست عليها لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الزبور بزبورهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم، والله ما من آية
نزلت في بر ولا بحر ولا سماء ولا أرض ولا سهل ولا جبل ولا ليل ولا نهار إلاَّ وأنا أعلم متى نزلت وفي أي شيء نزلت، وما من رجل من قريش جرت عليه المواسي إلاَّ وأنا أعلم أي آية نزلت فيه تسوقه إلى جنة أو نار.
وأما فضيلة الصبر: فلأنه ذكر في كتاب المحن أن الله سبحانه ابتلى صبره في أربعة عشر موطناً، سبعة في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسبعة بعد وفاته، وجملة ذلك أنه بلي من المحن ما لم يبل به غيره من الصحابة، وظهر من صبره عليها ما لم يظهر من غيره مثله على ما هو دونها وذلك عند مبيته على فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم موطناً لنفسه على الصبر للقتل إلى ما كان من صبره في مواطن الزَّحف التي تزل فيها الأقدام وتبلغ القلوب الحناجر إلى ما كان من صبره على ما أبتلي به من وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإجماع أكثر الصحابة في ذلك الحال على استغنام الفرصة في أخذ حقه والاستيثار بالأمر دونه وعظم الصبر على قدر البلوى وعظم البلوى على قدر عظم حال المبتلى، وقد مدح الله الصابرين وجعل من ثواب بعضهم استحقاق الإمامة فقال سبحانه{وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا…الآية}(الأنبياء:73).
وأما فضيلة الصدق والوفاء: فلأنه عليه السلام لم ينكث عهداً، ولم يخلف موعداً، وشاهده في ذلك قول الله سبحانه {رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر}(الأحزاب:23) وهو علي كرم الله وجهه ، وقوله تعالى{يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيرا}(الإنسان:07).
وأما فضيلة التخصيص بالكرامات: المنبهة على علو مرتبته (عليه السلام) عند الله فهي أكثر من أن تحصى كما قد نظم ذلك الإمام المنصور بالله عليه السلام في شعره الذي يقول فيه:-
رُدَّت له شمس الضحى فَرَدّها مِنْ أعظم الآيات والفضائل
ولو عَدَدّت ما قضيت حقه ومن يعدّ حب رملٍ هائل
وصرفت عنه لغير موجب بل لِهَنَّات قيل أو دغايل
ومن الأخبار الدَّالة على فضله وإمامته ما روي بالسند الصحيح إلى ابن عباس رضي الله عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطوف بالكعبة إذ بدت رمانة فاخضَّر المسجد لحسن خضرتها فتناولها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم مضى في طوافه فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طوافه صلى في المقام ركعتين ثم فلق الرمانة كأنها قُدَّت نصفين فأكل نصفاً ثم ناول علياً عليه السلام فأكلا منها فزنخت أشداقهما لعذوبتها ثم التفت إلى أصحابه فقال:(إن هذا قطف من قطوف الجنة ولا يأكله إلاّ نبي أو وصي ولولا ذلك لأطعمناكم)، ومن ذلك ما روي بالسند الصحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(من آذى علياً فقد آذاني، إن علياً أولكم إيماناً وأوفاكم بعهد الله، أيها الناس من آذى علياً بعث يوم القيامة يهودياً أو نصرانياً، فقال جابر بن عبدالله رضي الله عنه وإن شهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله فقال: يا جابر كلمة يحتجرون بها أن تسفك دماؤهم وأموالهم وأن يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون)،
ومن ذلك ما روي بالسند الصحيح إلى أنس بن مالك قال :قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر وعمر:(امضيا إلى علي يحدثكما ما كان منه في ليلته، وأنا على أثركما قال أنس: فمضيا ومضيت معهما فاستأذن أبو بكر وعمر على علي عليه السلام فخرج إليهما فقال: يا أبا بكر حدث شيء، قال: لا، وما حدث إلاّ خير، قال لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولعمر امضيا إلى علي يحدثكما ما كان منه في ليلته، وجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: حدثهما ما كان منك في ليلتك، فقال: أستحي يا رسول الله فقال : حدثهما فإن الله لا يستحي من الحق، فقال علي: أردت الماء للطهور وأصبحت جنباً وخفت أن تفوتني الصلاة فوجهت الحسن في طريق والحسين في طريق في طلب الماء فأبطيا عليَّ فأحزنني ذلك فرأيت السقف قد انشق ونزل عليَّ منه سطل مغطى بمنديل فلما صار في الأرض نحيت المنديل عنه وإذا فيه ماء فتطهرت للصلاة واغتسلت وصليت ثم ارتفع السطل والمنديل والتأم السقف فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أما السطل فمن الجنة وأما الماء فمن نهر الكوثر وأما المنديل فمن استبرق الجنة من مثلك يا علي جبريل يخدمك في ليلتك)،
وروي بالسند الصحيح إلى أنس بن مالك قال: أهدي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بساط من خندف فقال لي: يا أنس ابسطه فبسطته، ثم قال: ادع لي العشرة فدعوتهم فلما دخلوا أمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجلوس على البساط ثم دعا علياً عليه السلام فناجاه طويلاً ثم رجع فجلس على البساط ثم قال: يا ريح احملينا فحملتنا الريح فإذا البساط يدفُّ بنا دفّاً، ثم قال: يا ريح ضعينا فوضعتنا، ثم قال أتدرون في أي مكان أنتم، قلنا: لا، قال: هذا موضع أصحاب الكهف والرقيم، قوموا فسلموا على إخوانكم، قال: فقمنا رجلاً رجلاً فسلمنا عليهم فلم يردوا علينا السلام ، فقام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) فقال: السلام عليكم معاشر الصديقين والشهداء، فقالوا: عليك السلام ورحمة (الله قال) : فقلت ما بالهم ردّوا عليك السلام ولم يردوا علينا فقال : ما بالكم لا تردّوا على إخواني، فقالوا: إنا معاشر الصديقين لا نكلم بعد الموت إلاّ نبياً أو وصياً، ثم قال: يا ريح احملينا فحملتنا تدّف بنا دفّاً، ثم قال: يا ريح ضعينا فوضعتنا فإذا نحن بالحرَّة قال: قال علي عليه السلام: ندرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في آخر ركعة وطوينا وأتينا وإذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في آخر ركعة{أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً}(الكهف:09).
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(من أحب أن يتمسك بالقضيب الياقوت الأحمر الذي غرسه الله في جنة عدن فليتمسك بحب علي بن أبي طالب عليه السلام).
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(تختموا بالعقيق فإنه أول حجر شهدت لله بالوحدانية ولي بالنبوءة ولعلي بالوصاية ولولديه بالإمامة ولشيعته بالجنة). وروي بالإسناد الصحيح إلى أنس بن مالك أنه قال: انقض كوكب على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:(انظروا إلى هذا الكوكب فأيكم وقع في داره فهو الخليفة من بعدي قال: فوجدناه قد انقض في دار علي بن أبي طالب فنزل قول الله تعالى{والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى}(النجم:1،2)).
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(إنما مثل علي في هذه الأمة كمثل
الوالد)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إنما مثل علي في هذه الأمة كمثل قل هو الله أحد في القرآن)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(يدخلون الجنة سبعون ألفاً لا حساب عليهم، ثم التفت إلى علي عليه السلام فقال: هم شيعتك وأنت إمامهم)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(لو أن الغياض أقلام والبحر مداد والجن كُتَّاب والإنس حُسَّاب ما أحصوا فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام).
ولنقتصر على هذا القدر الذي هو قطرة من مطرة ومجة من لجة مما يدل على أن علياً (عليه السلام) أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنه أولى الخلق بمقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم{إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}. ولعمري أن الأمر في ذلك واضح كضوء المصباح بل كفلق الصباح ولا يجد المخالف عشر المعشار في (أئمته اللذين) ادعى فضلهم وإمامتهم مما جاء في أمير المؤمنين (عليه السلام) :
ولكن تعامى وتجاهل وضل عن سواء السبيل وأضل
وليس يصح في الأفهام شيء .... إذا احتاج النهار إلى دليل
ولكن الأمر كما قيل: لهوى النفوس سريرة لا تعلم
كم حار فيه عالم ومتكلم
تنبيه:
لا بأس بذكر شبه المخالفين والرد عليها، وحكم من تقدم علياً (عليه السلام) في الإمامة، وحكم من أحربه، وحكم من توقف في إمامته، لأن هذه المسألة مما يحسن فيها التقرير لما فيها من كثرة الشقاق بين الأمة.
فنقول: احتجَّ من قال بأن النص في أبي بكر جلي بأنه صلى الله عليه وآله وسلم نصَّ على إمامته نصاً جلياً.
و الجواب: أن هذا النص إن كان آحادياً لم يصح التعلق به في هذه المسألة لأنها قطعية، وإن كان متوتراً وجب أن يكون معلوماً ظاهراً لكل من يلزمه فرض الإمامة لأن التكليف متى تعلق بشيء وجب أن يكون طريقه معلومة على الحد الذي يتناوله التكليف وإلاّ كان تكليفاً بما لا يُعلم وهو قبيح، ولا شبهة أن فرض الإمامة عام لكل المكلفين.
واحتجّ: من قال بالنص الخفي على إمامة أبي بكر بقوله تعالى{قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون}(الفتح:16).
قالوا: والداعي لهم أبو بكر لأنه أول من دعى إلى القتال بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه دعى إلى قتال أهل الردة، ولا يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الداعي لهم لأنه قد قال تعالى{فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً}(التوبة:83).
الجواب: من وجهين:
أحدهما: أنه لا طريق إلى أن المراد بالآية أبو بكر بل المراد بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو دعاؤه إلى قتال هوازن ولكن لم يخرجوا معه، والآية لم تمنع إلاّ من الخروج معه لا من الدعاء ، وقيل: المراد بها علي عليه السلام في دعائه إلى أهل الجمل وصفين والنهروان.
الثاني: أنه ليس في الآية ما يدل على ما ذكروه ولو سلمنا لهم أنها في أبي بكر إذ ليس فيها إلاّ أنهم يدعون وهو يدعو وهذا لا يقتضي بكون الداعي إماماً، لا يقال في الآية مدح له ولا مدح إلاّ على أمر له صفة زائدة على حسنه، وأيضاً فتوعدهم على التخلف وهو لا يكون إلاّ لمن إجابة دعوته واجبة وهو معنى الإمامة، لأنّا نقول: هب أن الأمر كذلك والدعاء واجب والمدعو إليه واجب فإن هذا لا يقتضي الإمامة، وذلك لأن قتال المشركين واجب والدعاء إليه واجب خصوصاً إذا قصدوا ديار المسلمين.
وتعلقوا أيضاً بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أمر أبا بكر في حال مرضه أن يؤم بالناس في الصلاة.
وقالوا: هذا منه صلى الله عليه وآله وسلم تنبيه على تقدمه في الإمامة.
الجواب: أنه لا يصح التعلق بهذا الخبر من وجوه:
أحدها: أنه لم يصح أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك وإنما كان الأمر من عائشة.
الثاني: أنه وإن صح أنه صلى الله عليه وآله وسلم الآمر فهو خبر آحادي ومسألتنا قطعية.
الثالث: أنه لا يصح قياس الإمامة الكبرى على الإمامة الصغرى، لأن إمامة الصلاة تصح ممن لا تصح إمامته كالأعمى والمملوك وولد الزنا.
الرابع: أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد قدَّم غير أبي بكر للصلاة فإنه قدَّم عبدالرحمن
وابن أم مكتوم.
احتج من قال: بأن طريق إمامة أبي بكر العقد والاختيار وذلك هو طريقة الإمامة بزعمهم مطلقاً بالإجماع من الصحابة على إمامة أبي بكر سيما في آخر الأمر فإنه قد بايعه سائر الأنصار والمهاجرين، وفي أول الأمر كان الناس بين راضٍ بها مبايع وساكت سكوت رضىً، فلو لم يكن إماماً لكان المبايع مخطئاً والساكت عن النكير مخطئاً والراضي مخطئاً وفي هذا إجماع الأمة على الخطأ.
الجواب: أنا قد بينا بالدليل القطعي أن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي (عليه السلام) ، فلو صحَّ هذا الإجماع لأدى إلى تناقض الأدلة على غير وجه النسخ وذلك لا يصح. ثم أنّا نقول: لا يصح الإجماع إلاَّ حيث لا يعتد بأكابر الصحابة الذين رأسهم علي عليه السلام، فإن المنقول عنهم والمعروف من حالهم عند من له أدنى بحث في السِّير والتواريخ المنازعة والاختلاف الشديد هذا علي عليه السلام فإنه لما قال له العباس بن عبدالمطلب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امدد يدك أبايعك فيقول الناس عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بايع ابن أخيه فلا يختلف اثنان، قال عليه السلام: لو كان أخي جعفر وعمي حمزة حيين لفعلت، وروي أنه عليه السلام قال في جوابه لمعاوية: وزعمت أني لكل الخلفاء حسدت، وعلى كلهم بغيت، فإن يكن كذلك فليس الجناية عليك ليكون العذر فيها إليك، وقلتَ أني كنتُ أُقادُ كما يُقاد الجمل المخشوش حتى أبايع، فلعمر الله لقد أردتَ أن تذم فمدحتَ، وأن تفضح فافتضحت، وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً ما لم يكن شاكاً في دينه ولا مرتاباً بيقينه، وهذه حجة إلى غيرك قصدها، ولكني أطلقت لك بقدر ما سنح في ذلك، وقال عليه السلام: لولا حضور الحاضر، ووجوب الحجة لوجود
الناصر لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، قال هذا لما طلب بالبيعة بعد قتل عثمان، وقال عليه السلام في خطبته المعروفة بالشقشقية: والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وأنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل، ولا يرقي إليَّ الطير فسدلت دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذَّاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي الحلق شجى وفي العين قذى، أرى تراثي نهباً، حتى إذا مضى الأول لسبيله، ثم أدلى بها إلى عمر بعد وفاته، فيا عجباً! بينا هو يستقبلها في حياته إذ أدلى بها إلى آخر بعد وفاته، إلى أخر ما ذكره عليه السلام.
وروى عامر بن واثلة قال: كنت على باب السقيفة يوم الشورى إذ دخل علي عليه السلام وأهل الشورى وحضرهم عبدالله بن عمر، فسمعت علياً عليه السلام يقول: بايع الناس أبا بكر فسمعت وأطعت، وبايعوا عمر فسمعت وأطعت، ويريدوا المبايعة لعثمان فإذاً أسمع وأطيع، ولكني محتج عليكم، أنشدكم الله، هل فيكم أحد أخاه رسول الله غيري؟ قالوا: اللهم لا، قال: أنشدكم الله، هل فيكم من أحد له أخ كأخي جعفر له جناحان أخضران يطير بهما في الجنة غيري؟ قالوا: اللهم لا، قال:أنشدكم الله، هل فيكم من أحد له عم كعمي حمزة سيد الشهداء؟ قالوا: اللهم لا، قال:أنشدكم الله، هل فيكم أحد له زوجة كزوجتي فاطمة سيدة نساء أهل الجنة؟ قالوا: اللهم لا، قال: أنشدكم الله، هل فيكم من له سبطان كسبطاي الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة إلاَّ ابني الخالة؟ قالوا: اللهم لا، قال: أنشدكم الله، وبحق نبيئكم، هل فيكم من أحد وحَّد الله قبلي؟ قالوا: اللهم لا ، قال: أنشدكم الله ، هل فيكم من أحد صلى إلى القبلتين غيري؟ قالوا: اللهم لا، قال: أنشدكم الله، هل فيكم من أحد ولي غسل (رسول الله) بالروح والريحان مع الملائكة المقربين غيري؟ قالوا: اللهم لا، قال: أنشدكم الله، هل فيكم من أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اغسلني أنت فإنه لا يرى أحد شيئاً من عورتي إلاَّ عمي غيرك يا علي؟ قالوا: اللهم لا، قال: أنشدكم الله، هل فيكم من أمر الله تعالى بمودته حيث يقول{قل لا أسألكم عليه أجراً إلاَّ المودة في القربى}(الشورى:23) غيري؟ قالوا: اللهم لا، قال: أنشدكم الله، هل فيكم من لم يسد بابه حين أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسد الأبواب التي إلى المسجد غيري؟ قالوا: اللهم لا، ولم قلتم للنبي
صلى الله عليه وآله وسلم سددت أبوابنا وأخرجتنا من المسجد وتركت عليَّا، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(ما أنا أخرجتكم ولا سددت أبوابكم ولا تركت علياً، ولكن الله أمرني بإخراجكم وترك علي)، قالوا: اللهم لا، إلى غير ذلك مما احتج به عليه السلام، وأورده عليهم بياناً لإمامته وفضله، ثم قال: اللهم اعلم واشهد وكفى بالله شهيداً بيني وبينكم أسمع وأطيع وأصبر حتى يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده، شأنكم فاصنعوا ما بدا لكم، ثم قال هذه الأبيات:-
محمد النبي أخي وصهري وحمزة سيد الشهداء عمي
وجعفر الذي يضحي ويمسي يطير مع الملائكة ابن أمي
وبنت محمد سكني وعرسي مسوط لحمها بدمي ولحمي
وسبطا أحمد ابناي منها فمن هذا له سهم كسهمي
سبقتكم إلى الإسلام طراً غلاماً ما بلغت أوان حلمي
وأتاني ولايته عليكم رسول الله يوم غدير خم
فويل ثم ويل ثم ويل لمن يلقى الإله غداً بظلم
فهذا كلامه عليه السلام، وقد علمت أنه لا تصح دعوى الإجماع مع مخالفته، بل لا ينبغي مساواة كلام الناس جميعاً بقوله فإنه يجب طرح أقوالهم واعتماد قوله لأن قوله
حجة، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(علي مع الحق والحق مع علي، علي مع القرآن والقرآن مع علي)، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعمار:(إذا سلك الناس وادياً وعلي وادياً فعليك بعلي وخلِّ عن الناس)، أو كما قال: ولأنه معصوم مع ذلك. وقد نُقِلَ بالسند الصحيح مخالفة غيره، فإنه لما بويع لأبي بكر حمل الناس عمر على ذلك طوعاً وكرهاً حتى أفضت الحال إلى أمور شنيعة، فمن ذلك كسر سيف الزبير بن العوام، واستخف بسلمان، وضرب عمّار بن ياسر، وأسقط سعد بن عبادة من مرتبته حتى قال قائلهم: قتلتم سعداً فقال عمر: قتله الله فإنه منافق وأخذ عمر سيفه واعترض به صخرة فقطعه، وكذلك فإن المروي أن عمر بن الخطاب قال لعلي (عليه السلام) : بايع لأبي بكر، قال: فإن لم، قال: ضربنا عنقك، وكذلك فإن المروي عن أبي بكر أنه قال لسعد بن عبادة: لئن نزعت يداً من طاعة أو فرقت جماعة لأضربن الذي فيه عيناك، إلى غير ذلك من الأمور الشنيعة. وكفى في بطلان دعوى الإجماع بما رواه الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان (عليه السلام) في حقائق المعرفة قال: لمّا بويع أبو بكر وارتقى المنبر منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان ممن قعد عن بيعته اثني عشر رجلاً ستة من المهاجرين وستة من الأنصار، فكان من المهاجرين خالد بن سعيد وأبو ذر وعمّار والمقداد وسلمان وأُبي بن كعب، وكان من الأنصار قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي وأبو الهيثم بن التيهان وسهل بن حنيف وأبو بردة الأسلمي وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين وأبو أيوب الأنصاري، فقال بعضهم لبعض: قوموا إلى هذا الرجل فأنزلوه من منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال بعضهم: إن هذا الرجل اتفقت عليه الأمة ولكن انطلقوا بنا إلى صاحب هذا
الأمر حتى نشاوره ونستطلع رأيه وانطلقوا القوم حتى أتوا أمير المؤمنين (عليه السلام علي بن أبي طالب) ، فقالوا: يا أمير المؤمنين كنا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورأينا هذا الرجل قد صعد منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأردنا أن ننزله عنه فكرهنا أن ننزله دونك ونحن نعلم أن الحق لك، فقال عليه السلام، أما أنكم لو فعلتم ما كنتم إلاَّ حرباً لهم وما كنتم إلاَّ كالكحل في العين أو كالملح في الزاد وقد اتفقت هذه الأمة التاركة قول نبيئها الذين باعوا آخرتهم بدنياهم، وقد شاورت في ذلك أهل بيتي فأبوا إلاَّ السكوت لما يعلمون من وغر صدور القوم وبغضهم لأهل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن انطلقوا إليه وأخبروه بما سمعتم من قول نبيئكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا تتركوا شبهة من أمره ليكون ذلك أوكد في الحجة وأبلغ في العقوبة إذا لقي الله وقد عصاه وخالف أمر نبيئه، فانطلق القوم في يوم جمعة في وقت صلاة الظهر حتى جثوا حول منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأقبل أبو بكر فصعد المنبر، فقال المهاجرون للأنصار: قوموا فتكلموا بما سمعتم من قول نبيئكم صلى الله عليه وآله وسلم، فقال الأنصار للمهاجرين: بل أنتم قوموا فتقدموا فإن الله قدمكم علينا في كتابه قال الله تعالى{لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار}(التوبة:117) وكان أول من تكلم خالد بن سعيد فقام قائماً على قدميه وقال: معاشر المسلمين أنشدكم الله وبحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشهدون بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لي:(هذا خالد صدِّيق قومه)؟ فقالوا : بلى والله نشهد بذلك، فقال: يا معاشر المسلمين فأنا أشهد أني سمعت رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم وهو يقول(علي قائد البررة وقاتل الكفرة وهو أحق بالأمر من بعدي) ثم جلس، وقام من بعده أبو ذر الغفاري فقال: يا معشر الناس أنشدكم بالله وبحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشهدون بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يرحمك الله يا أبا ذر تموت وحدك وتدفن وحدك وتحشر وحدك وتحاسب وحدك وتدخل الجنة وحدك (يُكرم بك) الله سبعة نفر يلون غسلك ودفنك)، قالوا: نشهد والله بذلك، قال: فأنا أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول?علي أخي وابن عمي وأبو سبطي والحجة من بعدي)، ثم جلس. وقام سلمان الفارسي فقال يا معشر المسلمين ناشدتكم بالله وبحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشهدون بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:(سلمان منّا أهل البيت) قالوا: بلى والله نشهد بذلك، قال: فأنا أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول:(علي إمام المتقين وقائد الغر المحجلين والأمير من بعدي)، ثم جلس. ثم قام من بعده المقداد بن الأسود الكندي ثم قال: معشر المسلمين أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول:(علي مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي فالفائز من تولاه والكافر من عاداه)، ثم جلس. وقام من بعده عمّار بن ياسر فقال: يا معشر المسلمين ناشدتكم الله وبحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشهدون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال(يا آل ياسر أبشروا مأواكم الجنة)، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم):(عمار مع الحق والحق مع عمار حيث ما دار دار الحق معه)، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم):(يا عمار تقتلك الفئة الباغية يكون آخر زادك من الدنيا قعب من لبن)، فقالوا: بلى
والله نشهد بذلك، ثم أقبل بوجهه إلى أبي بكر فقال: يا أبا بكر ارجع عن ظلعك واقبر شرَّك والزم منزلك وابك على خطيئتك ورد الأمر إلى من جعله الله (ورسوله له) ولا تركن إلى الدنيا ولا يغرنك من قريش أوغادها فعن قليل ترتحل عن دنياك وما ربك بظلام للعبيد، ثم جلس. وقام من بعده أبي بن كعب وقال: يا معاشر المسلمين ألستم تشهدون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رقى المنبر يوم غدير خم وقام علي عليه السلام إلى جانبه وحط يده اليمنى وشالاً أيديهما حتى رؤيَ بياض إبطيهما ثم قال : (يا معشر الناس من كنت نبيه فهذا علي وليه، ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من ولاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله) ثم جلس. وقام من بعده قيس بن سعد بن عبادة فقال: يا أبا بكر ألست تشهد أن (رسول الله) صلى الله عليه وآله وسلم يوم كنَّا بين يديه فأقبل عليك بوجهه فقال?يا أبا بكر من أحب عليَّاً فقد أحبني ومن أبغض عليَّاً فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله ومن أبغض الله كان حقيقاً على الله أن يكبه على منخريه في نار جهنم) فقال: بلى أشهد بذلك، ثم قال: يا معشر المسلمين أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول?أنا حرب لمن حارب عليَّاً وسلم لمن سالم عليَّاً)، ثم جلس. وقام من بعده أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا معاشر المسلمين ألستم تشهدون بأن (رسول الله) صلى الله عليه وآله وسلم قال:(هذا ابن التيهان ما كذبني منذ آمن بي ولا نافقني منذ صدقني)، قالوا: بلى نشهد بذلك، قال: يا معاشر المسلمين أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول:(علي سفينة من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق أو قال في النار هوى)،ثم جلس. وقام من بعده
سهل بن حنيف فقال: معشر المسلمين إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (علي باب حطة من دخل منها كان آمناً)، ثم جلس. وقام من بعده أبو بردة الأسلمي فقال: معاشر المسلمين أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :(علي أخي، وابن عمي، وحامل رايتي يوم القيامة، والخليفة من بعدي، المؤمن من تابعه والكافر من خالفه)، ثم جلس.وقام من بعده خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين وقال: يا معاشر المسلمين ألستم تشهدون بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل شهادتي وحدي ولم يزد معي غيري، قالوا: بلى نشهد بذلك، فقال: إني أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول:( ألا إن الله ربكم ومحمداً نبيئكم والقرآن إمامكم والإسلام دينكم وعليَّاً هاديكم فوالى الله من والاه وعادى من عاداه)، ثم جلس.وقام من بعده أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أبا بكر ألست تذكر هذه الآية يوم نزلت {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا}(المائدة:55) فقمت أنت وصاحبك فقبلتما بين كتفيه وقلتما: أصبحت والله مولانا ومولى كل مؤمن ومؤمنة، فقال: بلى قد كان ذلك ، فقال: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول:( علي عين الله في خلقه ولايته الصراط المستقيم والحجة على الأمة بعدي)، فلما سمع أبو بكر ذلك نزل عن المنبر ودخل منزله فمكث لا يخرج إلى الناس ثلاثة أيام، فلما أن كان في اليوم الرابع أتاه عمر وعثمان وعبدالرحمن بن عوف وسالم مولى حذيفة والأشعث بن قيس وأبو موسى الأشعري وقنفذ مولى عمر مع كل رجل منهم عشرة رجال شاهرين لأسيافهم حتى أخرجوه من منزله حتى علا المنبر فخطب وجعلوا يدورون في المدينة وهم يقولون: والله لئن عاد أحد إلى مثل (ما تكلم
به) بالأمس لنعلونه بأسيافنا، فأمسك القوم للقوم عند ذلك ولم يردوا جواباً، فهذا ما حكي عنهم، وهل تصح دعوى الإجماع مع صدور ذلك من هؤلاء، هذا باطل، وإذا قيل: هذه الروايات آحادية، قلنا: كل من روى الإجماع على البيعة التي تدَّعونها يروي هذه الأخبار، فما أجبتم فهو جوابنا، قالوا: وقع الخلاف في الابتداء ثم وقع الإجماع بعد ذلك. قلنا: إن سلمتم وقوع الاختلاف في الابتداء فعلى مدعي الاتفاق بعد ذلك إيراد الدلالة القاطعة بالاتفاق، ثم أنَّا نقول للمخالف: خبِّرنا عن إمامة أبي بكر حال الخلاف هل هي صحيحة أو غير صحيحة؟ إن قال: صحيحة، قلنا: كيف تصح مع الخلاف؟ وإن قال: باطلة، قلنا: فيلزمك استمرار البطلان، لأن من قال ببطلانها في ابتداء الأمر قال كذلك في انتهائه إذ لا قائل بالفصل بينهما، قالوا: بايع عليٌّ أبا بكر، قيل: بعد نصف سنه وقيل غير ذلك.قلنا: العترة مجمعة على أنه عليه السلام ما بايع أبا بكر بيعة عهد ورضى وإجماعهم حجة وأكثر أهل البيت (عليهم السلام) ينفي وقوعها ومن ذكرها فعلى وجه الإكراه لما روي: أنه أتى ملبياً، وقيل: في عنقه حبل وتوعده بالقتل، (وقيل: أنه قال) إن لم تبايع ضربنا عنقك مع قوله اللهم اشهد، وذلك مما لا اعتبار به فكأن لم تكن لو صح وقوعها، قالوا: مسألة الإمامة مسألة اجتهادية وكل مجتهد فيها مصيب وهذا الإيراد للحشوية ومن جرى مجراهم، قلنا: هي بمعزل عن الظن لأن طريق وجوبها وثبوتها وطريق شروطها وما لا يتم إلاَّ به إنما هي قطعيات فلا طريق للاجتهاد إليها، أما طريق وجوبها فهو إجماع الصحابة المعلوم وقد مرَّ، وأما ثبوتها حيث تثبت فإنها لا تثبت إلاَّ في منصوص عليه بنص معلوم كما في أمير المؤمنين فإن أدلة إمامته عند الإنصاف
مما لا يدخلها تشكيك أو فيمن ادعى كامل الشروط بالقطع لا بالظن، وأما طريق شروطها فكلها مجمع عليها من الصحابة والمسلمين بعدهم وعليها أدلة قطعية وسيأتي بيانها إنشاء الله تعالى، وأما الدعوة فطريق ثبوتها إجماع العترة عليها بعد بطلان قول أهل النص، فبطل أن تكون اجتهادية، وثبت كونها قطعية يقطع بخطأ المخالف فيها.
وأما حكم من تقدم على أمير المؤمنين عليه السلام في الإمامة كأبي بكر وعمر وعثمان، فالذي انعقد عليه إجماع العترة أنهم مخطئون بالتقدم عليه عاصون بذلك، لأن النصوص على إمامة علي عليه السلام قطعية متناً ودلالة كما بينا.قال الدواري: وأكثر العترة لا يفسقهم، ومنهم من يفسق، ومن لم يفسق منهم اختلفوا، فمنهم من توقف وهو قول كثير من الزيدية، ومنهم من رضّى وبه قال السيد المؤيد بالله والكني والقاضي جعفر وغيرهم.
قلت: وهو قول أكثر متأخري الزيدية. قالوا: لسابقتهم وثناء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عليهم وما جاء في القرآن من الأخبار برضى الله عنهم كقوله تعالى{لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة}(الفتح:18) وعلى الجملة فنحن من إيمانهم على يقين ولا ننتقل عنه إلاَّ بيقين.
قلت: هذا قول لولا أن يقال أن تلبسهم بالمعصية قطعاً قد نسخ العلم بإيمانهم في الظاهر وأما الثناء عليهم والإخبار بأنهم من المرضي عنهم فذلك باعتبار ما هم عليه قبل التلبس بالمعصية.
قالوا: معصيتهم محتملة للكبر والصغر فلا نسخ إذ لا تفسيق إلاَّ (بدليل قاطع) .
قلت: مع الإقرار بأن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي عليه السلام (لا احتمال) لأنهم منعوا الإمام فيما إليه التصرف فيه وهذا بغي والبغي فسق بالإجماع مع أن الأصل في كل معصية الكبر كما دل عليه الدليل القاطع وهذا مذهب عيون العترة عليهم السلام كما مرَّ.
قالوا: هي صغيرة في حقهم لكثرة ثوابهم.
قلت: إن كان ذلك بدليل فأبرزوه وإن لم يكن بدليل فهو باطل.
قال في أنوار اليقين: وروينا في تفسير الثعلبي رفعه إلى ابن المسيب عن أبي هريرة أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:(يَردُ عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيحلؤن عن الحوض فأقول يا رب أصحابي أصحابي فيقال إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى). ومن صحيح مسلم: رفعه إلى ابن عباس (رضي الله عنه) قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بموعظة فقال:(يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله عراة حُفاة غُرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين، ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) ، ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك). ومن الجمع بين الصحيحين قال: وأخرجه البخاري من حديث عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:(بينا أنا قائم إذ أقبلت زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل بيني وبينهم فقال: هلم، فقلت: إلى أين؟ فقال: إلى النار والله، قلت: ما شأنهم، قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم، فقلت: إلى أين؟ قال: إلى النار والله، قلت: ما
شأنهم قال إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى ، فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل الغنم) انتهى. فتأمل أيها المنصف فإنك لا تجد لدعوى صغر معصية الصحابة في تقدمهم على علي عليه السلام إلاّ مجرد المحاباة وإلاّ فهلم الدليل على الفارق والمخصص لما ذكرنا من الأحاديث.
قالوا: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يتولاهم ويرضى عنهم.
قلت: إن صح ذلك فمعارض بما رواه أئمة الهدى من التجرم والشكوى من أخذهم حقه والعزم على حربهم لو وجد الناصر، وقد قدمنا في ذلك من الروايات ما فيه كفاية. ثم أنّا نقول: للمعترض أخبرنا عن توليه عليه السلام لهم. هل كان مع علمه بأنه الإمام ومع عزمه على قتلهم وقتالهم فذلك باطل إذ هم عنده عاصون محادون الله ورسوله وحاشا أمير المؤمنين أن يتولى من حاد الله ورسوله، وقد قال الله تعالى{لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادّ الله ورسوله}، أو كان لأجل جهله بالدليل على إمامته واعتقاد أنهم الأئمة، فذلك خلاف مذهبك لأنك تقول باستحقاقه الإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلا فصل وخلاف ما هو المعلوم من حاله من ادعائه للإمامة وعلمه بالأدلة كيف وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم(أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها).
قال إمام زماننا أيده الله تعالى: الحق أنهم إن لم يعلموا استحقاقه عليه السلام للإمامة فلا إثم عليهم وإن أخطئوا لقوله تعالى{وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به}(الأحزاب:05) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، وإن علموا فخطيئتهم كبيرة للإجماع على أن من منع إمام الحق من تناول (الواجب منه) فقد بغي عليه وإن البغي عليه فسق ولأنه اتباع لغير سبيل المؤمنين، وقد قال تعالى{ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ماتولى ونصله جهنم وساءت مصيراً}(النساء:115).
قال أيده الله تعالى : ولعل توقف كثير من أئمتنا عليهم السلام لعدم حصول العلم بأنهم علموا أو جهلوا وأخرجنا عن تبقيتهم على الأصل، بأن الأصل في أعمال المكلفين المتعلقة بالحقوق العمد ولا يصح التولي إلاَّ مع العلم بالإيمان في الظاهر بإجماع العترة .
قلت: قد تظافرت الروايات بتعريفهم من أكابر الصحابة بإمامته عليه السلام وإخبار علي عليه السلام بأن أبا بكر يعلم أن محله منها محل القطب من الرحى ولكن العذر في ذلك أن هذه الروايات آحادية لا تفيد إلاَّ الظن ومسئلتنا قطعية فلا نقطع (أنهم أقدموا) مع علمهم أو جهلوا فلا يصح تفسبقهم مع ذلك، ولكن هذا إنما يصح إذا قلنا: بأن معرفة إمامة علي عليه السلام فرض كفاية كما هو مذهب بعضهم، أو على القول: بأنها فرض عين والمخل بها مخطئ خطأ محتملاً كما هو مذهب بعضهم، وأما على القول: بأنها فرض عين لا يعذر جاهلها فذلك لا يتأتَّى، ودليل أنها فرض عين أن أحوال إمام الزمان مقيسة عليه،
وقد قال الهادي عليه السلام: في كتاب الأحكام أن من لم يعلم ولاية أمير المؤمنين عليه السلام فلا ينجو من عذاب الرحمن ولا يتم له اسم الإيمان حتى يعتقد ذلك بأيقن الإيقان لأن الله سبحانه يقول{إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا…الآية}(المائدة:55) ثم أطال الكلام عليه السلام حتى خرج فيه كلام صريح بالتفكير والإتيان بالجرم العظيم لمن تقدم أمير المؤمنين ولم يعلم إمامته من العالمين.
قال في أنوار اليقين: انعقد إجماع أهل البيت (عليهم السلام) على أنه يجب على كل مكلف العلم بإمامة أمير المؤمنين عليه السلام وأنها واجبة على الأعيان.
وأما المنصور بالله عليه السلام: فقد حكى الدواري عنه قولين، قول بصغر معصية القوم، وقول بالتوقف.
قلت: الذي حكي عن السيد حميدان رحمه الله والإمام الحسن بن بدر الدين أنه قال في الجواب الكاشف للإشكال في الفرق بين التشيع والاعتزال وسألت عمن يُرَضِّي على الخلفاء ويحسن الظن بهم وهو من الزيدية ويقول أنا أقدم عليَّا وأرضي عن المشائخ، ما يكون حكمه وهل تجوز الصلاة خلفه؟
والجواب: عن ذلك أن هذه المسئلة غير صحيحة فيتوجه الجواب عنها لأن الزيدية على الحقيقة هم الجارودية ولا نعلم في الأئمة عليهم السلام بعد زيد بن علي عليه السلام من ليس بجارودي وأشياعهم كذلك وأكثر ما نقل وصح عن السلف هو ما (قلنا على) تلفيق واجتهاد وإن كان الطعن والسب من بعض الزيدية ظاهر إنما هذا رأي المحصلين منهم، وإنما هذا القول قول بعض المعتزلة يفضلون عليَّا ويرضون عن المشائخ فليس هذا يطلق على أحد من الزيدية لأنا نقول قد صح النص على أمير المؤمنين (عليه السلام) من (الله ورسوله) وصحت معصية القوم وظلمهم وتعديهم لأمر الله سبحانه وإن كانت جائزة المعصية والترضية فما أبعد قول الشاعر في قوله:
إن كان يجزى بالخير فاعله شراً ويجزى المسيء بالحسنى
فويل تالي القرآن في ظلم الليل وطوبى لعابد الوثن
فنهاية الأمر أن المروي عن السلف الصالح أنهم لا يسبون وهكذا قال المؤيد بالله ولم يصرح بالترضية فأما القول بالترضية فمبني على القطع لصغر معصيتهم وذلك مما يحتاج إلى برهان وصاحب هذه المقالة لا يجده أو على عصمتهم ولا قائل بذلك من الأئمة وشاهد الحال لو ادعى ذلك لفضحه لأن طلحة والزبير من أفاضلهم وقد صح فسقهما بالخروج على إمام الحق، وإنما رويت توبتهما ولم ترو عن الثلاثة توبة عما أقدموا عليه من الإمامة وتأخير علي عليه السلام من مقامه الذي أقامه الله ورسوله فيه، وأما الصلاة خلف من ذكرت ففي الصلاة خلاف طويل وقد أجازها الأكثر خلف المخالفين ما لم يكن خلافهم كفراً والأمر في ذلك يهون والاحتراز خلف من يقول بذلك أولى.
ومن شعره عليه السلام في معنى ذلك:-
فَعَدِّ عن المنازل والتصابي وهات لنا حديث غدير خم
فيالك موقفاً ما كان أسنى ولكن مرَّ في آذان صم
لقد مال الأنام معاً علينا كأن خروجنا من خلف ردم
وأما حكم من حاربه عليه السلام فلا شبهة في فسقه لمحاربته إمام الحق، والمحاربون له ثلاثة كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (تقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين) والناكثون طلحة والزبير وعائشه وقد روي توبتهم، والقاسطون معاوية وأصحابه، ومن أصحابنا من كفر معاوية لأمور منها أنه كان يدين بالجبر ويعتقده ومنها أنه كان يستشفي بالأصنام وقد وجد في عنقه حين مات صليب وقيل أنه كان منافقاً إلى غير ذلك مما يدل على كفره، والمارقون الخوارج. وأما حكم الذين تخلفوا عنه ولم يقولوا بإمامته بعد الثلاثة كابن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وكعب بن مالك وأسامة بن زيد وغيرهم فاختلف (في حكمهم) أصحابنا، فبعضهم حكم بمعصيتهم من غير فسق ومنهم من قضى بفسقهم لتركهم نصرة أمير المؤمنين وخذلانهم له، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في خبر الغدير:(وانصر من نصره واخذل من خذله) ولا شبهة أنهم من الخاذلين له ، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على من خذل أمير المؤمنين (عليه السلام) على القطع بالخذلان ومن خذله الله ودعا عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخذلان فليس من المؤمنين.
المسألة الثامنة والعشرون ((في إمامة الحسن بن علي عليهما السلام))
بعد أبيه علي كرم الله وجهه في الجنة، واختلف في ذلك، فقالت الزيدية والإمامية والمعتزلة: أن الإمام بعد علي عليه السلام ابنه الحسن عليه السلام، وأنكرت الخوارج إمامته وزعم بعض الطغام أن الحسن إمام إلى أن صالح معاوية ثم صار معاوية بعد ذلك إماماً، وكان الأولى جمع الكلام في هذه المسألة والتي بعدها بأن يقال: المسألة الثامنة والعشرون والتاسعة والعشرون أن الإمام بعد علي عليه السلام ابنه الحسن ثم الحسين لأن الدليل على إمامتهما واحد وقد نبَّه عليه بقوله: والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:(الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا وأبوهما خير منهما)، وصحة هذا الخبر إما لأنه متواتر على رأي وإما متلقى بالقبول على آخر، ولأن العترة أجمعت على صحته وإجماعهم حجة وهو نص صريح في إمامتهما وفيه أيضاً (نص صريح) بأن علياً عليه السلام إمام لورود النص فيه بأنه خير منهما، ومن حق الإمام أن يكون أفضل أهل زمانه أو من جملة أفاضلهم بإجماع الصحابة على ذلك وإجماعهم حجة، بل في الخبر ما هو كالصريح بإمامته لا لكونه أفضل بل لأنه صلى الله عليه وآله وسلم قال:(الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا وأبوهما خير منهما)وليس المراد بذلك إلاَّ أنه خير منهما في الوصف الذي وصفهما به وهو الإمامة لا في غيره، ولهذا فإن قائلاً لو قال زيد شجاع أو كريم وعمرو خير منه لم يسبق إلى الفهم إلاَّ أنه خير منه في الشجاعة أو الكرم، فهذا الخبر دال بالتصريح على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام. والدليل الثاني على إمامتهما أن كل واحد منهما قام ودعا وهو جامع لخصال الإمامة وهذه طريق الإمامة عندنا على ما يجيء إنشاء الله تعالى. الدليل الثالث: إجماع العترة على
إمامتهما وإجماعهم حجة، الدليل الرابع: أنهم أفضل الآدميين بعد أبيهما لإجماع العترة على ذلك والأفضل لا تصح إمامة غيره مع وجوده، ومتى قيل: دلالة الخبر على إمامتهما على الإطلاق فمن أين لكم هذا الترتيب الذي ادعيتم؟
قلنا: لاشك أن إمامة الحسن قبل أخيه الحسين بالإجماع، فدل الإجماع على الترتيب كما دل على عدم استحقاقهما للأمر في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن الخلق كلهم كانوا منقادين لأمره وفي زمان علي عليه السلام لانقيادهم لأمره أيضاً، فبقي ماعدا هذه الأزمنة داخلاً تحت النص فلو لم نقل بإمامتهما عليهما السلام لأجل الخبر لبطلت فائدة الخبر وذلك لا يجوز، فأما (ما قاله) الخوارج وغيرهم من القدح في إمامة الحسن لمّا هادن معاوية وأنه سلم إليه الإمامة فتلك مقالة باطلة لأن إمامته ثابتة بالنص فلا يصح الخروج عنها ولا يسلم الأمر لمعاوية بحيث يكون معاوية إماماً ويخرج عنها فإن شيئاً من ذلك لا يجوز لا الخروج من الإمامة ولا كون معاوية إماماً، وقد قال تعالى{لا ينال عهدي الظالمين}(البقرة:124) وإنما الذي كان من الحسن عليه السلام كفُّ الحرب مع بقائه على إمامته واعتقاد ذلك واعتقاد كون معاوية على الباطل وأنه غير إمام وسبب الهدنة أن الحسن قدم عبيدالله بن العباس لحرب معاوية فأرسل إليه معاوية وقال: إن الحسن قد صالح وخدع عبيدالله بن العباس بذلك فأرسل عبيدالله بن العباس إلى معاوية يطلب منه الأمان لأجل الخديعة التي دسها إليه معاوية فاضطرب عسكر الحسن بن علي عليه السلام لأجل ذلك، وحدث على الحسن عليه السلام من الخوارج ما هو معلوم من الانتهاب وطُعِنَ عليه السلام في فخذه، فلمّا رأى ذلك اضطر إلى صلح معاوية للوهن الذي لحق أصحابه وقلة
ثقته بهم فاستحسن المهادنة لعدم الأنصار وضعف عزائم من معه، والإمام يجوز له مصالحة الكفار والبغاة وغيرهم عند عدم الأنصار ولا حرج في ذلك، وروي أن الحسين عليه السلام قال لأخيه الحسن عليه السلام عند صلح معاوية: أجادٌ أنت فيما أرى من موادعة معاوية، فقال: نعم، فقال الحسين: إنا لله وإنا إليه راجعون، لو لم نكن إلاّ في ألف لكان ينبغي لنا أن نقاتل على حقنا حتى يترك أو الموت وقد أعذرنا. قال الحسن: وكيف لنا بألف من المسلمين إني أذكرك الله يا أخي أن لا ترد الأمر عليَّ أو تفسد عليَّ ما أريد فوالله ما آلوك ونفسي وأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم نصحاً غير أنك ترى ما نقاسي من الناس وما كان أبوك يقاسي منهم حتى كان يرغب إلى الله تعالى في فراقهم صباحاً ومساء، وإنَّا اليوم (لعدم الأنصار) في سعة وعذر.
المسألة التاسعة والعشرون ((أن الإمام بعد الحسن أخوه الحسين عليهما السلام))
لما ذكرنا من الإجماع على الترتيب بعد ورود الدليل الدال على إمامتهما، والقول بإمامته عليه السلام بعد أخيه الحسن عليه السلام هو مذهب الزيدية والإمامية والمعتزلة. والخلاف في ذلك مع الخوارج: فإنهم ينكرون إمامته عليه السلام كأخيه الحسن بن علي عليه السلام على مامرّ، وعند الحشوية اليزيدية أن يزيد بن معاوية هو الإمام وأن الحسين خارج عليه يجوز قتله.
قلت: قاتلهم الله لقد تسمّوا بالإسلام لفظاً لا معنىً.
والدليل على ذلك وهو القول بإمامته عليه السلام ما قدمنا من الحديث المقطوع بصحته وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا…الحديث،) وما دل على إمامة الحسن عليه السلام مما ذكرناه أولاً دل على إمامة الحسين عليه السلام وقد صرحنا بذلك فيما سلف، فثبت بذلك المذكور من الأدلة القطعية إمامتهما عليهما السلام على النحو المذكور وبطل ما قاله المخالفون. وإذا ثبتت إمامتهما عليهما السلام بما قدمنا قطعنا بفسق من حاربهما والمحارب لهما معاوية ويزيد وقد تقدم حكم معاوية، وأما يزيد فهو فاسق بلا شبهة لخروجه على إمام الحق ومحاربته له، وقد روي بالسند الصحيح إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لما نظر إلى الحسن والحسين عليهما السلام قال:(أنا حرب لمن حاربكم سلم لمن سالمكم) وفي رواية أخري :(أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم) مخاطباً بذلك عليَّاً عليه السلام وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، وقيل: إن يزيداً كافر لأنه لما جيء إليه برأس الحسين عليه السلام دعا بقضيب خيزران وجعل ينكث ثنايا الحسين عليه السلام، فقال أبو بردة الأسلمي: أتنكث ثغر الحسين أشهد أني قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبل ثناياه وثنايا الحسن أخيه ويقول:(أنتما سيدا شباب أهل الجنة فقتل الله قاتلكما وأعد له نار جهنم وساءت مصيراً)، أما أنك يا يزيد تجيء يوم القيامة وشفيعك بن زياد ويجيء هذا وشفيعه محمد صلى الله عليه وآله وسلم فغضب يزيد لما ذكر أبو بردة وأمر بإخراجه وسجنه وأقبل ينكث ثنايا الحسين وهو يقول:-
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
فأهلّوا واستهلّوا فرحاً ثم قالوا يا يزيد لا شلل
فجزيناهم ببدر مثلها وأقمنا ميل بدر فاعتدل
لست من أشياخي إن لم أنتقم من بني أحمد ما كان فعل
وهذه الأبيات قال بعضها ابن الزبعرى شاعر قريش يوم أحد وزاد يزيد البعض من أبياتها فلابن الزبعرى الأول والثالث وليزيد الثاني والرابع وكلامه هذا فيه أوفى دليل على كفره لأنه جعل ما وقع في ذلك انتقاماً بما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
المسألة الثلاثون ((في بيان من يستحق الإمامة بعد الحسنين عليهما السلام))
والذي عليه الزيدية بأسرهم أن الإمامة بعد الحسن والحسين عليهما السلام فيمن قام
ودعا من أولادهما فقط ولو بعدت درجته عنهما إذا كان ذكراً منتسباً إلى أحدهما بِذَكَرٍ لم يتخلل بين آبائه أنثى نكحها من ليس من ذرية الحسنين فولدت واحداً من آبائه، هذا إطلاق صاحب الخلاصة وشرح الأصول، والذي ذكره في الواسطة والفقيه حميدان أنّ هذا مذهب الجارودية من الزيدية دون الصالحية فإن مذهبهم كمذهب المعتزلة كما نذكره الآن. وذهبت المرجئة والمعتزلة والمجبرة إلى أن الإمامة بعدهما في سائر قريش والأكثرون منهم قالوا: لا تصلح في غيرهم، ومنهم من قال: تصح الإمامة في غيرهم. وهذا القول ظهر في أيام (المنصور بالله) ((أبو الدوانيق)) منهم والمهدي، وعند الكيسانية أنها في ولد محمد بن الحنفية دون غيرهم، وعند الخوارج أنها جائزة في جميع الناس،
وحكي عن النظام مثل ذلك حكاية ليست بالشهيرة، وبه قال قوم من قدماء الصحابة وغيرهم وكلام عمر يقضي بذلك حيث قال: لو كان سالم مولى حذيفة حياً ما خالجتني فيه الشكوك، وجماعة من المعتزلة القدماء قالوا بذلك وهو مذهب نشوان وبعض الزيدية ، وعند الإمامية أن الإمامة مقصورة في ولد الحسين عليه السلام دون ولد الحسن ويحتجون بالنص الوارد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تعيين الأئمة ويروون نصوصاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومنهم من قال نصّ عليه الصلاة والسلام على بعضهم ثم بعضهم على غيره وأكثرهم الاثنا عشرية القائلون: بأن الإمامة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لاثني عشر منهم علي عليه السلام وولداه وتسعة من ولد الحسين متناسلون بعضهم من بعض من غير واسطة، أولهم علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام، ثم ولده محمد بن علي الباقر، ثم ولده جعفر بن محمد الصادق، ثم ولده موسى بن جعفر الكاظم، ثم ولده علي بن موسى الرضا، ثم ولده محمد بن علي الباقر الصغير، ثم ولده علي بن محمد، ثم ولده الحسن بن علي، ثم ولده محمد بن الحسن وهو المنتظر عندهم، والإمامة عندهم فيمن عدا هؤلاء وإن بلغ أعلى رتبة في خصال الإمامة بل هو ظالم باغي، ومن الناس من قال بجوازها في أولاد علي عليه السلام، ومنهم من قال بجوازها في أولاد الحسن والحسين وأولاد العباس دون غيرهم، نعم وقول الشيخ: فيمن قام ودعا إشعار بأن الدعوة في غير من نص عليه هي الموجبة للإمامة في حق الإمام وطريق لغيره إلى معرفة إمامته.
ومعنى الدعوة: هي التجرد للقيام بالأمر والعزم عليه وتوطين النفس على تحمل أثقاله ومباينة الظالمين وذلك هو مذهبنا، وعند المعتزلة والصالحية والخوارج وأصحاب الحديث وكثير من الناس أن الموجب لإمامة الإمام العقد والاختيار وفي حق معرفة الغير بأنه إمام طريقها العقد والاختيار أيضاً، ثم اختلف القائلون: بالعقد في عدد العاقدين، فمنهم من قال: يعقد خمسة لسادس وهذا قول أبي علي وأبي هاشم وقاضي القضاة، وأكثر القائلين بالعقد قالوا: ذلك اعتبار إنما جرى يوم السقيفة من العقد لأبي بكر وكان العاقدون خمسة وهم عمر بن الخطاب وعبدالرحمن بن عوف وأبوعبيدة وأسيد بن حضير وبشير بن سعد وقيل سالم مولى حذيفة مكان عبدالرحمن بن عوف، واعتبر بعضهم ستة قياساً على عدد أهل الشورى، وقال بعضهم أربعة قياساً على شهود الزنا، وقال أبو القاسم ثلاثة قياساً على ما ذكر عمر في أهل الشورى وكانوا ستة إذا اختلفوا كان الرأي للنصف الذي فيهم عبدالرحمن بن عوف، وقال سليمان بن جرير اثنان قياساً على الشهادات في سائر المعاملات، وبعضهم قال يكفي في ذلك عقد واحد لواحد وهو مروي عن الشيخ أبي علي البصري، وقال أكثر المعتزلة منهم أبو هاشم الإمام إذا عهد إلى غيره بالإمامة كان إماماً، وقال أبو علي: لابد من رضى أهل العقد بذلك، وذهبت الحشوية والكرامية والنواوي إلى أن طريقها القهر والغلبة ثم ذهبوا إلى أن الحسين عليه السلام باغ على يزيد بن معاوية لعنه الله، وذهبت الراوندية والعباسية إلى أن طريقها الإرث، وذهبت المطرفية إلى أنها جزاء على الأعمال وهو قول بعض الإمامية وحكي عن الجاحظ.
نعم وأقوال هؤلاء المخالفين في الطرفين معاً في المنصب والطريق باطلة، والدليل على بطلانها يأتي بعد إثبات شروط الإمام التي لا بد أن يكون عليها كما أشار إليه بقوله وهو جامع لخصال الإمامة وهي اثني عشر ذكر الشيخ منها سته وأهمل ستة أخرى وهي أن يكون الإمام ذكراً حراً بالغاً عاقلاً وأن يكون من العترة وأن لا يكون في عصره إمام سبقت دعوته، وعذره في إغفال الأربعة الأول كونها جليَّة، وفي إغفال اشتراط كونه من العترة لكونه قد أقام الدلالة عليها فيما يأتي وقد جعل ذكره صدراً للمسألة فلم يحتج إلى عده شرطاً، وأما اشتراط كونه لم يسبقه داع في عصره فلا عذر له في إغفاله، ووجه اشتراط كونه ذكراً أن المرأة مأخوذ عليها من التستر ما يمنع من قيامها بهذا الشأن ولأن المرأة مولى عليها في النكاح فلا يصح أن تلي على غيرها ولأنه لا يصح توليها في القضاء خلافاً لأبي يوسف إلاَّ في الحدود فأحق وأولى في الإمامة ولأن الإجماع منعقد على أن إمامتها لا تجوز، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(لن يفلح قوم تملكهم امرأة)، ووجه اشتراط كونه حراً أن المملوك لا يلي أمر نفسه فكيف يلي أمر غيره ولأن قيامه بأمر الإمامة يؤدي إلى فوت المنافع التي هي ملك سيده، ووجه اشتراط كونه بالغاً عاقلاً أن الصبي والمجنون لا يليان أمر أنفسهما فيليان أمر غيرهما ولأنهما غير مميزين بين الحسن والقبيح والواجب غالباً ومع هذا يبطل الغرض بالإمامة، ووجه اشتراط كونه من أولاد الحسن والحسين سيأتي، ووجه اشتراط أن لا يسبق دعوته دعوة إمام إجماع الصحابة كما مرَّ بيانه.
والستة التي ذكرها الشيخ هي:العلم والمعتبر منه حتى يبلغ نصاب الاجتهاد إذ لا بد أن يكون مجتهداً، وعن الغزالي وغيره من الفقهاء جواز إمامة المقلد للضرورة، وبه قال الإمام يحي عليه السلام: إذا عدم المجتهد كما في الحاكم وقد (حكي ذلك عن) كثير من أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم ذكره الدواري ورجحه، والمجتهد لا يكون مجتهداً إلاَّ بعد أن أحرز علوماً ثمانية، أصول الدين ويكفيه في ذلك مختصر مفيد قال الدواري: كنابغة القاضي شمس الدين ونحوها، وأصول الفقه وعلومه الأوامر والنواهي والعموم والخصوص والمجمل والمبين والناسخ والمنسوخ وحكم أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتروكه واستبشاره والقياس والاجتهاد وصفة المفتي والمستفتي والحظر والإباحة ويكفيه في ذلك مختصر، قال الدواري: كالفائق للرصاص والتقريب للقاضي شمس الدين.
قلت: ينبغي أن يعتبر التحقيق فيه خاصة إذ هو قطب رحى الاجتهاد لأنه لا يقدر على استنباط الأحكام على الوجه المعتبر إلاَّ ذو القدم الراسخة فيه، والعلم بالآيات التي في كتاب الله المتعلقة بالأحكام الشرعية وقيل أنها إلى قدر خمسمائة آية، والعلم بأخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويكفي في ذلك كتاب مما يشمل الأحاديث المتعلقة بالأحكام كأصول الأحكام أو أحد الكتب الصحيحة المشهورة.
قال الدواري: وربما أن الذي يوجد من الحديث في كتب أصحابنا البسيطة كشرح القاضي زيد وشرح التجريد وشرح التحرير مُغْنٍ عما سواه في الحديث النبوي، والآيات الشرعية، والعلم بطرف من النحو واللغة، والعلم بطرف من المعاني والبيان وإن كان قد دخل في علم العربية، وأما علم المنطق فمنهم من اعتبره والأصح أنه لا يعتبر وهو يدور على أصلين هما الحدود وما يصح منها وما لا يصح وكيفية تركيب الأدلة وما يصح وما لا يصح، ووجه اشتراط العلم أن الغرض بالإمامة القيام بمصالح المكلفين والعلم بما أوجب الله تعالى من علم وغيره والبعث على ترك ما هو قبيح أو مكروه من علم وعمل وهذا لا يتم حتى يكون الإمام عالماً بما تقدم عليه فعلاً أو أمراً أو يحجم تركاً أو نهياً وهذا الشرط هو ملاك شروط الإمام وأصلها وليس منها ما يساويه في احتياج الإمام إليه واشتراط أن يكون ذلك عن اجتهاد لإجماع الصحابة على ذلك.
والورع: وهو الكف عن المحرمات والقيام بالفرائض الواجبات، وقالت الحشوية: لا يشترط. وهو قول باطل لقوله تعالى{لا ينال عهدي الظالمين}(البقرة:124) والمراد بالعهد الإمامة ولأن من لا يكون ورعاً لا تقع الثقة بقيامه بأعباء الإمامة وما يجب عليه من ذلك بترك ما يقبح فبطل الغرض بها، ولا يجوز أن يكون الإمام كافراً ولا فاسقاً من جهة التأويل خلافاً لبعظهم وهو قول ساقط، لأن الله قد أمر بجهاد الكفار والبغاة من غير فصل بين مصرح ومتأول فكيف تجب طاعته مع وجوب جهاده.
قال في الأساس: والإجماع منعقد على اعتبار العدالة في الإمام ولهذا اشترط اجتنابه للمهن المسترذلة خلافاً للحشوية.
والفضل: قال المنصور بالله: ليس بشرط زائد بل المراد به اجتماع الشرائط المذكورة في حق المدعي للإمامة، والذي عليه الأكثر أنه شرط زائد وأن معناه أن يكون له من المحافظة على الطاعات والتجنب للمكروهات ما يعهد لكثير من الفضلاء وأن يكون بينه وبين القبيح حاجز، وكذلك بينه وبين الإخلال بالواجب احتراز عن الإقدام والترك وهذا سمة لكثير من الصالحين يستلزمون لكثير من الطاعات غير الواجبة ويقفون عند الشبهات وإن لم يحصل لهم القطع بقبحها، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(لكل ملك حِمَى وأن حِمَى الله محارمه وأنه من دار حول الحِمَى يوشك أن يقع فيه)، ووجه اشتراط الفضل إجماع الصحابة لأنهم لمَّا اختلفوا ذهب كل فريق إلى ذكر مفاخره ومناقبه وفضائله، ولمَّا حاجَّهم أبو بكر ذكر ما اختص به المهاجرون من الفضائل، ولما دخل أمير المؤمنين عليه السلام في الشورى أورد مناقبه وفضائله وقال: فيالله متى اعترى فيَّ الشك مع الأولين حتى أقرن مع هذه النظائر، واختلف في إمامة المفضول، فالذي عليه الزيدية أنه لا تجوز إمامة المفضول بحال وهو مما نص عليه القاسم والهادي والناصر والمؤيد بالله عليهم السلام، قال الناصر: ويفسق المفضول إذا سبق الأفضل بالدعوة، والمراد بالأفضل الأجمع لخصال الفضل، والأشهر في ذلك الأكثر الثواب فلا طريق إلى ذلك وذهبت الحشوية إلى جواز إمامة المفضول مطلقاً، وإذا قام إمام ثم وجد أفضل منه بعد قيامه، فقال القاسم والناصر: يجب عليه التسليم له فإن أبى فسق إذ لا يجوز قيام المفضول مع وجود الأفضل، وقال المؤيد بالله وأبو طالب: لا يجب لأنه قد تحمل أعباء الأمر فصار أفضل، وذهبت الحشوية إلى جواز إمامة المفضول مطلقاً، وفصَّل بعض
المعتزلة فقال: تجوز إمامة المفضول إذا كان هناك عذر في إمامة الأفضل وبه قال الإمام يحي عليه السلام، قيل: وهو قول من قال من المعتزلة بأن علياً عليه السلام أفضل الصحابة إلاّ أن الإمامة في أبي بكر وعمر وعثمان جازت مع فضله عليهم لعذر وهو كونه عليه السلام كان في نفوس كثير من الناس عليه شيء لمّا كان منه في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قتل صناديد العرب والشدة في ذات الله ، وهذا عذر باطل إذ لا يجوز مخالفة النصوص لمثل هذا العذر وإلاّ أدّى إلى ترك الصلاة والصيام وكثير من الواجبات عند
حصول عذر من الأعذار ودليلنا إجماع الصحابة على اشتراط الأفضل كما قررنا.
والشجاعة: والمراد بها أن يكون له رباطة جأش يمكنه تدبير الحروب عند التحام القتال وشدة كلب العدو وبحيث لا يدهش لبّه في تلك الحال وتعمى عليه الأمور ولا يعتبر في الشجاعة مبارزة الأقران ومجادلة الفرسان، هذا ذكره الناصر وغيره، وذكر الهادي أن الشجاعة معناها أن يخلط الصفوف بالصفوف ويحمل على الألوف، ووجه اشتراط الشجاعة أنه لو لم يكن شجاعاً لم يؤمن أن يحضر في عسكره في وجه العدو ثم ينهزم فيكون في ذلك وهناً في الدين وعلواً في شنار المفسدين وهذا خلاف الغرض بالإمام ولأن الجبان لا يتمكن إذا حضر العسكر من نظم أموره على وجه يحصل به نكاية العدو، ولأن جبنه يمنعه من إقامة الحدود على أكابر الناس وكل هذا يبطل الغرض بالإمامة.
والسخاء: والمراد به أن لا يشح بوضع مال الله في أهله ولا يعتبر سماحته بماله غير ما يجب عليه من الإنفاق في سبيل الله تعالى، ووجه اشتراط السخاء وجه اشتراط الورع إذ السخاء داخل تحت الورع.
والقوة: على تدبير الأمر، والقوة على ذلك لها معنيان أحدهما أن يكون له رأي وتدبير بحيث يفزع إليه عند النوازل. الثاني أن لا يكون به علة تمنعه من مخالطة الناس كالجذام والبرص والعمى وأن يكون سليم الحواس والأطراف التي يختل القيام بثمرة الإمامة بفقدها، ووجه اشتراط القوة على تدبير الأمر بالمعنيين الذين ذكرناهما أن الغرض بالإمامة تدبير أمر الأمة في دينها ودنياها، فمهما لم يكن قوياً على ذلك لم يقع الغرض بالإمامة فلا تصح إمامته، فهذه شروط (الإمامة عندنا) ، ولا يشترط عندنا سواها، وزاد أبو العباس والإماميّة العصمة ولا دليل عليها إلاّ تقدير حصول المعصية لو لم يكن معصوماً وذلك حاصل في المعصوم لقوله تعالى{لئن أشركت ليحبطن عملك}(الزمر:15) وزاد الإمامية أن يولد عالماً، وذلك باطل، حيث لم تثبت للأنبياء صلوات الله عليهم قال تعالى{ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان}(الشورى:52) وقال تعالى{ووجدك ضالاً فهدى}(الضحى:07) وقال تعالى حاكياً عن موسى عليه السلام {قال فعلتها إذاً وأنا من الضالين}(الشعراء:20) ولما فرغ من بيان الشروط أخذ في بيان دليل حصر الإمامة في أولاد الحسن والحسين، ثم أتبعنا ذلك ببيان الدليل على أن طريق الإمامة في غير من نص عليه القيام والدعوة لا غيرهما كما زعمه المخالفون على اختلاف آرائهم. فقال: الدليل على ذلك المذهب الصحيح وهو القول بأن الإمامة محصورة في أولاد البطنين أن الأمة أجمعت على جواز الإمامة فيهم، لأن من قال إن الإمامة جائزة في سائر الناس فهم من الناس بل خيارهم، ومن قال أنها جائزة في قريش فقط فهم من قريش بل (من أخيارهم) ، ومن قال أنها في البطنين فقط فهم البطنان ولا دليل على صحتها في غيرهم، أمّا من أجازها
في سائر الناس فمذهبه باطل بإجماع الصحابة بعد منازعة الأنصار يوم السقيفة حين أرادوا أن يبايعوا سعد بن عبادة فاحتج عليهم المهاجرون بالقرب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبكونهم من قريش، فلم يكن لكلامهم منكر ولا رده راد بل انقادوا لذلك طائعين فكان إجماعاً، ومَنْ ثَمَّ قال علي عليه السلام لمّا بلغه أن الأنصار طلبوا الأمر لو كان الأمر فيهم ما كانت الوصاية بهم، وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(أطيعوا السلطان ولو عبداً حبشياً)، فمحمول على عامل الإمام للإجماع على أن العبد لا يصح تصرفه بغير إذن سيده، وأما من أجازها في سائر قريش فلا حجة له، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(الأئمة من قريش) لا يقتضي ذلك لأن مِنْ للتبعيض فوجب حينئذ الاقتصار على المجمع عليه وترك المختلف فيه.
فإن قيل: كيف ندعي الإجماع على صحتها في جميع أولاد البطنين مع خلاف الإماميّة في ذلك؟.
قلنا: إنَّا لم ندَّع الإجماع إلاّ بعد قيام الدليل القاطع على بطلان قول أصحاب النصمن الإماميّة لأن ذلك النص على الأئمة الذين ذكروا إن كان آحادياً لم يؤخذ به في مسألتنا لأنها قطعية، وعلى تقدير أنها ظنية فلا تعارض أدلتنا القاطعة،
وإن كان متواتراً وجب أن لا يختص بالعلم به فريق دون فريق لأن الإمامة من أصول الدين المهمة التي يلزم كل مكلَّف معرفتها فيجب أن تكون أدلتها ظاهرة للجميع ليتمكن كل مكلَّف من النظر فيها وإلاّ سقط التكليف عمن لم يعلم الدليل لأن تكليف ما لم يُعلم قبيح فكان يجب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يظهره لجميع الأمة وإلاّ كان كتمانه تغريراً أو تلبيساً وذلك لا يجوز عليه صلى الله عليه وآله وسلم، ولاشك أنّا إذا راجعنا أنفسنا علمنا من حالها أنها غير عالمة بذلك النص لا ضرورة ولا استدلالاً بل المعلوم أن أكثر الأمة من الزيدية والمعتزلة والجبرية والمرجئة والخوارج أنهم ما وقفوا على هذا النص المتواتر ولا تواتر لهم مع شدة البحث والحرص في طلبه وهذه الطريقة هي التي عرفنا بها عدم معارضة القرآن وعدم صلاة سادسة وحج إلى غير الكعبة، ولو جوَّزنا تواطئ الأمة على كتم ذلك النص الضروري لجوَّزنا كتمهم كثيراً من أصول الشرائع فلا تقع الثقة بشيء من التكاليف الشرعية وهذا ظاهر الفساد، فعلم بهذا الدليل أن قول الإمامية ساقط ولا يلتفت إليه ولا يُعدّ خارقاً للإجماع.
فإن قيل: مدَّعاكم هو قصرها على البطنين، فكيف يصح الاحتجاج بالإجماع عليه والإجماع إنما هو على صحتها فيهم لا على قصرها عليهم؟
قلنا: لم نحتج بالإجماع على قصرها عليهم بل القصر له طرفان صحتها فيهم ونفيها عن غيرهم، فاحتججنا على الطرف الأول بالإجماع وعلى الثاني بعدم الدليل إذ لا دليل شرعي يدل على جوازها في غيرهم فوجب نفيه.
فإن قيل: كثيراً ما يتكرر أن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول فكيف تستدلون بعدم الدليل على جوازها في غيرهم على عدم الجواز؟. قلنا: عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول في الأمور العقلية، وأما في الشرعية فيدل وإلاَّ لجوزنا تكاليف شرعية كثيرة ولا دليل عليها وفيه هدم الشرائع وبطلان التكاليف وأنه محال، وإذا علمنا إجماع الأمة على جواز الإمامة في البطنين، وأنه قد اختلف فيمن عداهم ولم يدل دليل على جوازها فيه علمنا وجوب قصرها فيهم وعدم تعديها في غيرهم لأن الأمة إجماعهم حجة واجبة الاتباع ومحرم مخالفتها لقوله تعالى{ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ماتولى ونصله جهنم وساءت مصيراً}(النساء:115)وقوله صلى الله عليه وآله وسلم(لا تجتمع أمتي على ضلالة)، إلى غير ذلك مما هو مقرر في مواضعه وذلك ظاهر لمن أنصف، فثبت بذلك الدليل القطعي حصرها فيهم عليهم السلام دون غيرهم من الناس، وبطل ما قاله المخالفون. وأما الدليل على أن طريقها الدعوة دون غيرها كما زعمه المخالفون على اختلاف أقوالهم وهو أن الأمة أجمعت على اعتبار معنى الدعوة الذي ذكرناها في حق الإمام إلاّ أصحاب النص وقد بطل قولهم فيتعين الحق في قول من عداهم ولا دليل يدل على اعتبار (أمور زائدة) على الدعوة من العقد والاختيار والإرث والجزاء والقهر، وما لم يقم عليه دليل لم يجز إثباته لأنه يفتح باب الجهالات، ثم أنّا نقول لأهل العقد والاختيار نظرنا في كتاب الله فوجدنا فيه قوله تعالى{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي}(المائدة:03)
ونظرنا في السنة فوجدنا فيها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(ما تركت شيئاً يقربكم إلى الجنة إلاّ دللتكم عليه… الخبر) ومقتضى هذا قد وجدناه فإن الشارع علمنا كل أمر حتى قضاء الحاجة، فكيف يقال بأنه ترك بيان أهم شيء في الدين وأعظمه وهو الإمامة، ولأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يهمل أمته في حال حضوره ولا تركهم بلا زعيم مختار لهم في كل غيبة فأحق وأولى أن لا يهملهم بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، ثم لو كانت بالعقد والاختيار لما جاز لأبي بكر أن يجعلها في عمر من غير شورى ولا جاز لعمر أن يجعلها في ستة مخصوصين، ولأن قولكم في أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوهم استخلاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم له، وهم يقولون هم الذين استخلفوه، ولذلك قيل أن أبا بكر لمّا كتب إلى أسامة بن زيد كتابه الذي يقول فيه: من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أسامة بن زيد، أما بعد، فإن المسلمين ولوني على أنفسهم، فإذا قرأت كتابي هذا فاقدم أنت ومن معك. أجابه أسامة بكتابه الذي يقول فيه: من أسامة بن زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبي بكر بن أبي قحافة، أما بعد، فإنك كتبت إليَّ كتاباً ينقض آخره أوله، فلو كنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم تحتج إلى ولاية المسلمين ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توفي وقد أمَّرني عليك فمن أمَّرك عليَّ بعده. فخلِّ المكان لأهله والحق بموضعك الذي أمرك به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومما يبطل قول العباسية ومن وافقهم أن طريقها الإرث، أن العباس رضي الله عنه كان أولى العصبات بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يدعها لنفسه بل روي عنه ما قدمنا من أنه قال لعلي عليه السلام: امدد يدك أبايعك، وقال العباس في ذلك شعراً:-
ما كنت أحسب أن الأمر منتقل من هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم وأعرف الناس بالمفروض والسنن
وأقرب الناس عهداً بالنبي ومن جبريل عون له بالغسل والكفن
من فيه ما فيكم من كل مكرمة وليس في كلكم ما فيه من حسن
فما الذي صدكم عنه لنعرفه ها إن بيعتكم من أول الفتن
ولو كانت تجري مجرى الوراثة لادعاها أولاد العباس كعبدالله وعبيدالله وقثم وهم لم يدّعوها بل كانوا يعتقدون أنها لعلي عليه السلام وكانوا متولين من تحت يده ومتصرفين عن أمره، واعلم، أن هذه المقالة إنما حدثت في زمان المتولين من ظلمة بني العباس، أحدثَها لهم ابن الراوندي يريد بذلك التقرب إليهم. ومما يبطل قول من قال أنها جزاء على الأعمال، أن من حق الجزاء على الأعمال الصالحة أن يكون شهياً لذيذاً
ولاشك أن الإمامة من الأمور الشاقة المتعبة بل هي من جملة التكاليف التي يجب على الإمام القيام بها، فكيف يجوز أن يجازى بتكليف على تكليف. ومما يبطل قول من يقول أن طريق الإمامة القهر والغلبة أن المبطل الظالم قد يغلب المحق العادل فلا تجوز ثبوت الإمامة له. وإلى هاهنا تم ما أردنا وكمل ما أوردنا من شرح الثلاثين مسألة الواجبة معرفتها على الأعيان على كل مكلَّف، فالحمد لله على هذه النعمة العظيمة والمنَّة الجسيمة. قال الشيخ: وهذه ثلاثون مسألة في أصول الدين يجب على المكلَّف المصير فيها إلى العلم اليقين ولا يجوز لأحد من المكلفين فيها التقليد بل لابد من النظر لما قررنا من الأدلة على وجوبه فيما سلف بعد إيراد كلام المخالفين فلا يحتاج إلى إعادة ذلك. ومن الأدلة على ذلك أن الله سبحانه قد ذم المقلدين وعاتبهم في التقليد فقال وهو أصدق القائلين{وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون}(البقرة:170) وغير ذلك من الآيات. ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم المروي عنه بالإسناد الموثوق به:(من أخذ دينه عن التفكر في آلاء الله وعن التدبر لكتابه والتفهم لسنتي زالت الرواسي ولم يزل، ومن أخذ دينه عن أفواه الرجال وقلدهم فيه ذهبت به الرجال من يمين إلى شمال وكان من دين الله على أعظم زوال)، وكفى بذلك زاجراً عن تقليد الرجال وباعثاً على النظر والاستدلال، فينبغي للعاقل أن يجتهد في خلاص نفسه من عذاب يوم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤيه ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه.
ولنختم هذا الشرح المبارك إنشاء الله تعالى ببيان الفرقة الناجية، إذ ذلك من المهمات واللوازم، فنقول: اعلم، أن الأمة قد تفرقت إلى فرق شتى وهي على كثرة مذاهبها وتباين مطالبها وتضليل بعضها لبعض لا يجوز أن تكون مصيبة كلها بل بعضها مصيب وبعضها مخطىء لا محالة بل كلها هالكة إلاَّ فرقة واحدة كما يقضي به الأثر النبوي المتلقى بالقبول المجمع عليه وهو في (الصحاح المشهورة) وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة إلاَّ فرقة واحدة)، وقد يروى أن أوله(افترقت أمة أخي موسى على إحدى وسبعين فرقة كلها هالكة إلاَّ فرقة واحدة، وافترقت أمة أخي عيسى على اثنين وسبعين فرقة كلها هالكة إلاَّ فرقة واحدة وستفترق أمتي ….. الخبر)، وروى الغزالي في كتاب التفرقة أنها ناجية إلاَّ فرقة واحدة، والرواية الأولى هي المعتمدة وقد قضى صلى الله عليه وآله وسلم فيها بأن أمته كلها هالكة إلاَّ فرقة واحدة، وهذا مما يعلم عقلاً، أعني أن الفرق المختلفة في الأصول لا يجوز أن تكون على حق فيما هي عليه بل بعضها محق وبعضها مبطل.
قال الإمام يحي عليه السلام: ومصداق الحديث أن الروافض عشرون والخوارج عشرون والمعتزلة عشرون والمرجئة ست والمجبرة أربع ثم الباطنية والحلولية والثالثة والسبعون هم الزيدية، فإذا قضى صلى الله عليه وآله وسلم بالهلاك على كل فرقة سوى واحدة، وجب على كل عاقل أن يعرف تلك الفرقة لأنها هي المحقة فيكون من جملتها ليسلم من الهلاك، ولم يكن صلى الله عليه وآله وسلم ليموت إلاَّ وقد بينها لنا لأنه بعث مُبيناً للدين وهادياً إلى طريقة الحق المبين، فلا بد أن يكون قد بين هذه الفرقة قبل وفاته صلى الله عليه وآله وسلم سيما وقد قال تعالى (فيما أنزل عليه) {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}(المائدة:03) وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(ليس شي يباعدكم من النار إلاَّ وقد ذكرته لكم ولا شيء يقربكم من الجنة إلاَّ وقد دللتكم عليه) ، فنظرنا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا هما قاضيان بأن الفرقة الناجية العترة المطهرة وهم أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال الله تعالى{إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً}(الأحزاب:33)، وقد وردت آثار كثيرة في حديث الكساء تقضي بأن أهل البيت عليهم السلام الذين أرادهم الله تعالى بالآية العترة عليهم السلام دون غيرهم.
من ذلك ما روي عن واثلة بن الأسقع، قال: طلبت عليَّاً عليه السلام في منزله، فقالت فاطمة عليها السلام: ذهب يأتي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فجاءا جميعاً فدخلا ودخلت معهما، فأجلس عليَّاً عليه السلام عن يساره وفاطمة عن يمينه والحسن والحسين بين يديه ثم التفع عليهم بثوب فقال: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً، اللهم هؤلاء أهلي، اللهم أهلي أحق، قال واثلة:فقلت من ناحية البيت وأنا من أهلك يا رسول الله،قال: أنت من أهلي، قال: فذلك من أرجا ما أرجو من عملي، إلى غير ذلك من الطرق المروية في حديث الكساء وغرضنا التنبيه دون الاستقصاء، وإذا صح إخبار الله تعالى بإرادة تطهيرهم من الرجس المراد به تطهيرهم من الأوزار لأنه ينجس منهم ما ينجس من غيرهم فلا يحمل على معناه الحقيقي الذي هو النجاسة وتطهيره لهم بألطافه وتوفيقاته، ثبت أنهم على حق في عقائدهم وأعمالهم لأنه سبحانه لا يطهر الفجرة وإنما يطهر البررة، فصح أنهم أطهار ناجون وأن ما أجمعوا عليه حجة يجب الرجوع إليه لأنه حق لا باطل. وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض) وهذا الخبر مما ظهر بين الأمة واشتهر ولم يقدح أحد منهم في صحته بل تلقوه بالقبول.
وقال في الأساس: بل هو متواتر وفيه دلالة على أن العترة عليهم السلام على حق من وجوه.
منها: أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمننا من الضلال إذا تمسكنا بهم فلو كان مذهبهم الذين يجمعون عليه خطأ وضلالاً لما حسن منه أن يؤمّنا من الضلال عند تمسكنا بهم لأن ذلك يكون كذباً وتلبيساً على العباد وتغريراً وهذا لا يجوز عليه صلى الله عليه وآله وسلم لأنه معصوم عنه، فلو جاز عليه لبطلت عصمته وانتقض الغرض ببعثته ،لأن الغرض بها إذا كان تعريف مصالح العباد فلا شبهة أن الكذب والتلبيس يبطلها وحاشا له صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك وهو أمين الله في أرضه والمتحمل لشرائعه، فإذا لم يجز عليه ذلك قضينا بأن العترة عليهم السلام على الحق الذي يجب على كل عاقل الرجوع إليه والتمسك به.
ومنها: أنه جمع عليه الصلاة والسلام بين العترة والكتاب فلولا أن التمسك بالعترة واجب كالكتاب لما جمع بينهما لأنه لا يحسن في الحكمة أن يجمع بين ما هو حجة وما ليس بحجة لاسيما وقد علق نفي الضلال عليهما.
ومنها: أنه صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أنهما لن يفترقا، أعني العترة والكتاب حتى يردا عليه الحوض، وهذا يدل على أن العترة لا تحكم بخلاف الكتاب ولا تعدل عن الصواب وإلاّ كانت قد فارقته، وإذا كان كذلك كان المتمسك بهم على يقين من إصابته وثقة من صحة ديانته وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:(مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى ومن قاتلنا في آخر الزمان فكأنما قاتل مع الدجال)، وهذا الخبر مجمع على صحته أيضاً فجعل صلى الله عليه وآله وسلم العترة بمنزلة سفينة نوح وقد علمنا أنه لم ينج من أهل الأرض في زمن نوح عليه السلام إلاّ من ركب في السفينة دون من لم يركبها، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (مثل أهل بيتي كالنجوم كلما أفل نجم طلع نجم) فشبههم في باب الهداية بالنجوم،(وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ( أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء فإذا ذهبت النجوم من السماء أتى أهل الأرض ما يوعدون )) فجعلهم صلى الله عليه وآله وسلم أماناً لأهل الأرض فلولا أنهم على حق لما جاز ذلك منه صلى الله عليه وآله وسلم، وقال صلى الله عليه وآله وسلم(أهل بيتي كالكهف لأصحاب الكهف وهم باب السلم فادخلوا في السلم كافة، وهم باب حطة من دخله غفر له)، وقد علم أنه ما نجا من أصحاب الكهف إلاّ من دخله ولا نجا من أصحاب موسى إلاّ من دخل باب حطة.
وروي عن ابن عباس (رضي الله عنهما) في قوله تعالى{سلام على آل ياسين}(الصافات:130) قال على آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وروي عن الباقر أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام في قوله عز وجل{وعمل صالحاً ثم اهتدى}(طه:82) قال إلى ولايتنا أهل البيت، وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى{ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور}(الشورى:23) قال المولاة لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم (صلَّى و) استقبل القبلة ودعا الله تعالى بما شاء ثم أكب إلى الأرض وذرفت عيناه بدموع غزيرة فعل ذلك ثلاث مرات وعنده الحسين بن علي عليه السلام فوثب إليه الحسين فضمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال له الحسين إني رأيتك يا رسول الله تصنع صنعاً لم تصنع مثله فقال : يا بني سررت بكم سروراً لم أسر مثله وإن حبيبي جبريل أتاني وأخبرني أنكم قتلى وأن مصارعكم شتى فأحزنني ذلك فدعوت الله لكم، فقال الحسين عليه السلام: يا رسول الله من يزورنا على تشتتنا وتباعد قبورنا فقال: طائفة من أمتي يريدون بذلك صلتي إذا كان يوم القيامة زرتهم بالموقف فأخذت بأعضادهم فأنجيتهم من أهوالها وشدائدها، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(الإسلام لباسه الحياء وزينته الوفاء ومروته العمل الصالح وعماده الورع ولكل شيء أساس وأساس الإسلام حبنا أهل البيت)،
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم:(ثلاثة أنا شفيعهم يوم القيامة الضارب بسيفه أمام ذريتي والقاضي لهم حوائجهم لما احتاجوا إليه والمحب لهم بقلبه ولسانه)، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم:(من مات على حب آل محمد مات شهيداً، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائباً، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مستكمل الإيمان، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير، ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله زوار قبره بالرحمة الملائكة، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وقاتلهم وعلى المعين عليهم أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم:(أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه وأحبوني لحب الله وأحبوا أهل بيتي لي ). ومما يدل على نجاتهم قصر الإمامة فيهم كما مرّ دليله، وقد قال تعالى{يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين}(الأحقاف:31،32)،وقال تعالى{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}،وداعي الله وأولي الأمر من أهل البيت قطعاً بالدليل الدال على قصر الإمامة فيهم دون غيرهم، وبدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(من سمع واعيتنا أهل البيت ولم يجبها أكبه الله على منخريه في نار جهنم) وهذا غاية الوعيد والزجر على التخلف من داعي أهل البيت، فإذا ثبت وجوب طاعتهم ثبت أنهم ناجون إذ لا يجوز من الباري تعالى أن يوجب علينا طاعة من هو هالك في الهالكين.
وعن ابن عباس (رضي الله عنهما) أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجع من سفر له وهو متغير اللون فخطب خطبة بليغة وهو يبكي ثم قال:((يا أيها) الناس إني قد خلفت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي وأرومتي (أهل بيتي) ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، ألا وإني أنتظرهما، ألا وإني أسألكم يوم القيامة في ذلك عند الحوض، ألا وإنه سيرد عليَّ يوم القيامة ثلاث رايات من هذه الأمة راية سوداء فتقف فأقول: من أنتم؟ فينسون ذكري. ويقولون: نحن أهل التوحيد من العرب. فأقول: أنا محمد نبي العرب والعجم. فيقولون: نحن من أمتك.فأقول: كيف خلفتموني في عترتي وكتاب ربي؟ فيقولون: أمّا الكتاب فضيعناه، وأمّا العترة فحرصنا على أن نبيدهم. فأولي وجهي عنهم، فيصدرون عطشى قد اسودت وجوههم. ثم تَرد راية أخرى أشد سواداً من الأولى فأقول: لهم من أنتم؟ فيقولون: كالقول الأول نحن من أهل التوحيد فإذا ذكرت اسمي قالوا: نحن من أمتك. فأقول: كيف خلفتموني في الثقلين كتاب ربي وعترتي؟ فيقولون: أمّا الكتاب فخالفنا، وأمّا العترة فخذلناهم ومزقناهم كل ممزق. فأقول: لهم إليكم عني فيصدرون عطشى مسودة وجوههم. ثم ترد عليَّ راية أخرى تلمع نوراً فأقول: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل كلمة التوحيد والتقوى نحن أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونحن بقية أهل الحق حملنا كتاب ربنا فأحللنا حلاله وحرَّمنا حرامه وأحببنا ذرية محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فنصرناهم من كل ما نصرنا به أنفسنا وقاتلنا معهم وقتلنا من ناواهم. فأقول: لهم أبشروا فأنا نبيئكم محمد لقد كنتم كما وصفتم ثم أسقيهم من حوضي فيصدرون رواة . ألا وإن جبريل أخبرني بأن أمتي تقتل ولدي الحسين بأرض كرب وبلاء، ألا ولعنة الله على قاتله وخاذله أبد الدهر أبد الدهر) ثم نزل ولم يبق أحد إلاّ وتيقن أن الحسين مقتول، وإذا تأمل المنصف هذا الخبر الشريف عرف قطعاً أن الزيدية هم أهل الراية الثالثة لأنهم
المنابذون على أهل بيت نبيئهم صلى الله عليه وآله وسلم باللسان والسيف والسنان، وعلم يقيناً أن أهل الرايتين الأولتين هم بنو أمية وبنو العباس الذين عاندوا الذرية الزكية (واجتهدوا في هلاكهم) قاتلهم الله تعالى ولعنهم وأخزاهم. ومما يدل على نجاتهم ما جاء في فضل شيعتهم ذكر بعض المفسرين في قوله تعالى{ولله جنود السماوات والأرض}، أن جنود السماء الملائكة وجنود الأرض الزيدية، وورد في شيعة أهل البيت آثار كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم(يدخلون الجنة من أمتي سبعون ألفاً لا حساب عليهم ثم التفت إلى عليٍّ عليه السلام فقال هم شيعتك وأنت إمامهم) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(يا علي إن الله قد غفر لك ولأهلك ولشيعتك ولمحبي شيعتك ولمحبي محبي شيعتك فأبشر فإنك أنت الأنزع البطين منزوع من الشرك بطين من العلم) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(يا علي إن شيعتنا يخرجون من قبورهم يوم القيامة على ما بهم من العيوب والذنوب ووجوههم كالقمر ليلة البدر وقد فرجت عنهم الشدائد وسهلت لهم الموارد وأعطوا الأمن والأمان يخاف الناس ولا يخافون ويحزن الناس ولا يحزنون شرك نعالهم يتلألأ نوراً على نوق بيض لها أجنحة قد ذُلِّلَت من غير مهابة ونجبت من غير رياضة أعناقها من ذهب أحمر ألين من الحرير لكرامتهم على الله عز وجل)، وفي الأثر عنه صلى الله عليه وآله وسلم(إن لله حرساً في السماء هم الملائكة وحرساً في الأرض هم الشيعة)، والشيعة ثمانية عشر فرقة يجمعها كلها محبة (أمير المؤمنين علي) عليه السلام وتفضيله على غيره وأنه أولى بالإمامة من أبي بكر وغيره، والتشيع اسم مدح، وقد عرفت ما ورد فيهم من الثناء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قال في الأساس: الوارد في أهل البيت عليهم السلام مما يدل على نجاتهم زهاء ألف ألف حديث من رواية الموالف والمخالف، وحكى في الأساس عن المعتزلة أنهم يقولون أنهم هم الفرقة الناجية لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(أبرها وأتقاها الفرقة المعتزلة).
قال أيده الله تعالى: إن صح الخبر فالمراد به الفرقة المعتزلة عن الباطل بشهادة ما مرّ من الأدلة. وقد ذكر الدواري أن الفرقة الناجية هم الزيدية ومن طابقها في العقائد الدينية وهم المعتزلة.
قال في السفينة: روى الحاكم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم(ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة أبرها وأتقاها الفئة المعتزلة).
قال الدواري: وهم كذلك لأنهم متبعون لعقيدة أمير المؤمنين عليه السلام وأولاده وهو مستندهم في دينهم ولم يأخذوا ما ذهبوا إليه إلاّ منه عليه السلام وأكثر علماء التابعين وتابعيهم وأئمة العلم كأبي حنيفة والشافعي ومالك وأئمة الحديث على محبة أهل البيت عليهم السلام وإمامة زيد بن علي عليه السلام لكن لم يجر عليهم اسم التشيع لتسترهم بمذهبهم في ذلك إذ كان السلطان سلطان بني أمية وبني العباس وهم أضداد لأهل البيت عليهم السلام.
وقال المهدي عليه السلام: لم يسمع عن أحد من أهل البيت عليهم السلام تكفير المعتزلة ولا تفسيقهم وإن كان في كلام الهادي عليه السلام إشارة إلى تهليك بعضهم حيث قال: ومن كل معتزلي غال، والبراءة لا تكون إلاَّ ممَن خرج من زمرة الناجين، ولكن يرد على هذا أن يقال الخبر النبوي قاضٍ بهلاك جميع الفرق إلاَّ فرقة واحدة ويلزم منه هلاك المعتزلة على اختلاف فرقها. قال عليه السلام: وقد يجاب بأن المعتزلة كلها هالكة إلاَّ من كان على صفة الزيدية في سلامة اعتقاده من الشوائب المهلكة وصار المراد بالخبر النبوي أن الفرق كلها هالكة إلاَّ فرقة واحدة وهو من كمل اعتقاده في العدل والتوحيد وسلم من أن يشوبه باعتقاد مهلك، وهذه الفرقة إنما هي الزيدية ومن وافقها.
وأما السيد حميدان فله في التشديد والإغلاظ على تجنب مذاهب المعتزلة ومنع اتباع أقوالهم كلام واسع حتى أنه ألَّف كتاباً سمَّاه كتاب الأقوال العاصمة من الاعتزال، وقال في كتاب التصريح: وأما الفصل الثامن وهو في ذكر جملة مما يعتذر به من جمع بين التشيع والاعتزال فالغرض التنبيه بذكر بعضها وبيان بطلانها على خدعهم بإظهار التشيع لمن لم يكن ليدخل معهم في مذهب الاعتزال لو لا خدعهم له بذلك فمما ينبه من ذلك على أشباهه إيهامهم أنهم (لا يجدون) للأئمة في أصول الدين وأصول الفقه من العلم مثل الذي وجد للمعتزلة في الدقة والكثرة والبيان وأنهم لم يتبعوهم في ذلك إلاَّ من طريق النظر والاستدلال لا من طريق التقليد وأنهم لو اكتفوا في ذلك بعلوم الأئمة عليهم السلام للزمهم أن يكونوا مقلدين ومفرطين واعتذارهم للأئمة فيما نسبوا إليهم من التقصير بأنهم قنعوا بالجمل واشتغلوا بالجهاد، وقولهم أن المعتزلة شيوخ لكثير من الأئمة في العلم وقول بعضهم أن لفظة الاعتزال ما وردت في الكتاب والسنة إلاَّ صفة مدح، قالوا وخطأ المعتزلة في الإمامة هين في جنب (ما وضعوا) في العدل والتوحيد وهذا بناء على القول بالموازنة.
والجواب عن هذه الشبه: أما إيهامهم أنهم لم يجدوا للأئمة في الأصولين مثل الذي وجدوا للمعتزلة فلو وقفوا على كتب الأئمة وعقلوا ما فيها لعلموا أن الذم للمعتزلة في إتيانهم بغير ما في الكتاب والسنة، وفي كتب الأئمة أولى من مدحهم لأجل إتيانهم بما لا يعقل وبما يعلم كونه محالاً على ما تقرر فيما سلف وليس أحد من العلماء المخالفين إلاَّ وفي كتبهم من البدع ما لا يوجد للأئمة مثله فلا معنى لتخصيص المعتزلة فيما خالفوا الأئمة به لأجل تسميتهم له علماً، وأما إيهامهم أنهم لم يتبعوهم في ذلك الأمر إلاَّ من طريق النظر والاستدلال لا من طريق التقليد فخلاف ذلك ظاهر لأنهم إن زعموا أنهم نظروا واستدلوا على صحة علوم المعتزلة قبل تعلمهم فيها فذلك محال إذ لا طريق لهم إلى ذلك إلاَّ أخبار الغير لهم عنه وإن زعموا أنهم نظروا في صحتها واستدلوا بعد تعلمهم فيها فقد قلدوا من علمهم في بدء أمرهم وفي حال اتباعهم له حتى أدخلهم في مذهبه، وأما إيهامهم أنهم لو اكتفوا بعلوم الأئمة للزمهم التقليد والتفريط فغلاطهم في ذلك بَيِّن لأن الأئمة لا يعلمون من اتبعهم إلاَّ في معقولٌ بيِّنةٌ أدلته أو مسموع منصوص عليه أو فيما يجب رده إليهم كما يجب رده إلى الرسول لأن الله سبحانه قد أخبر أنهم لو ردوه إليهم لعلموه وذلك يعم كل مختلف فيه معقولاً كان أو مسموعاً لأن الله أدخل حرف مِنْ الذي هو للتبعيض على اسم شيء الذي هو أعم النكرات في قوله تعالى{وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله}(الشورى:10) فوجب أن يستغرق لكونه عموماً لا مخصص له وحكم الله سبحانه وتعالى في كل مختلف فيه أن يرد إلى الكتاب أو السنة إن عدم في الكتاب، أو إلى أولي الأمر إن عدم في السنة، وأما اعتذارهم
للأئمة في التقصير عن بلوغ درجة المعتزلة في علوم الدين بأنهم قنعوا بالجمل واشتغلوا بالجهاد فذلك قول من لا يعرف الجمل ولا شروط الجهاد لأن تلك الجمل التي زعموا أنهم قنعوا بها هي منتهى ما يعقل ويجب ولا متعد بعدها لعقل مكلف من البشر إلاَّ إلى الغلو والإفراط والخوض والتوهم المنهي عن تكلفه والخوض فيه، ولأن الجهاد للنفس عن التقصير مقدم على الجهاد للغير والجهاد بالسيف فرع على الجهاد بالعلم لأن من شرط الإمام الذي يجب عليه الجهاد أن يكون سابقاً والسابق لا يوصف بأنه قانع في علوم الدين بالجمل لكون القانع بالجمل مسبوقاً ومع ذلك فإن أكثر الأئمة عليهم السلام لم يكن لهم شغل إلاَّ الجهاد بالعلم دون الجهاد بالسيف لقلة الأتباع وخذلان الأشياع.
وأما قولهم: أن المعتزلة شيوخ لكثير من الأئمة في العلم فإن أرادوا بذلك الإيهام بأن الأئمة محتاجة إلى المعتزلة في علوم الدين فذلك خلاف ما اقتضته أدلة الكتاب والسنة وانعقد عليه إجماع العترة، وإن أرادوا أن من الأئمة من قرأ في علوم المعتزلة على شيوخهم فليس لهم في ذلك حجة لأنه يجوز أن يقرأ في كل فن من سائر العلوم على شيوخ أهله إذا كان فيه صلاح، وإن أرادوا أن من العترة من اعتزل فلو صح ذلك لم يكن لهم فيه حجة لأن الله سبحانه قد أخبر أن من العترة من هو ظالم لنفسه.
وأما قول من قال منهم: إن لفظة الاعتزال ما وردت في الكتاب والسنة إلاَّ صفة مدح فذلك دليل على أنهم لم يحيطوا بعلم ألفاظ القرآن فضلاً عن معانيه لأن الله تعالى قد وصف الكفار بالاعتزال في قوله تعالى{فإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون}(الدخان:21) ونحو ذلك مما يدل أنه لا مدح في لقب الاعتزال لمن اعتزل الحق وأهله واكتفى في الدين بنفسه واعتمد فيه على رأيه.
وأما قولهم: إن خطأ المعتزلة في الإمامة صغير بالنظر إلى ما وضعوا في العدل والتوحيد فذلك مبني على القول بالموازنة دون الإحباط وقد قدمنا في إبطاله ما فيه كفاية. وحكى صاحب المسفر عن الناصر للحق الحسن بن علي عليه السلام جوابه عن تعمقات الفلاسفة ثم قال وخص بالإنكار المعتزلة لأنهم خائضون فيما دق عليهم ولم يكلفوه وهم معروفون به، فقال عليه السلام في كتاب الكفر والإيمان: ثم انصدعت من هذه الملة طائفة تحلَّت باسم الاعتزال استهواها واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد إلى قوله ولأن غرضه عليه السلام ترك الخوض فيما دق والقول على الله ما لا يعلم وقد قال تعالى{ويخلق مالاتعلمون}(النحل:08) إلى قوله وتكلموا من دقيق الكلام بما لم يكلفوا وبما لعل حواسهم خلقت مقصرة عن إدراك حقيقتها وعاجزة عن قصد السبيل فيها. وقالت المجبرة: بل هي الناجية لقوله صلى الله علي وآله وسلم:(عليكم بالسواد الأعظم)، ويقولون هم المتمسكون بالسنة والجماعة ويلقبون نفوسهم بالسنيّة.
الجواب: أن المراد بالأعظم في الخبر الأعظم عند الله وليس كذلك إلاَّ الذين حكم الله بنجاتهم وأبان أنهم على الحق وأوجب التمسك بهم كالتمسك بالكتاب وهذه صفات عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا غيرهم كما بيناه بالأدلة القطعية.
وأما قولهم: أنهم أهل السنة والجماعة فإنهم لم يعرفوا معنى هذين اللفظين، فإن معنى السنة والمراد بها سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد بالجماعة ما كان عليه أهل الحق في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يوجد في المجبرة التحلي بصفات سنة الرسول عليه الصلاة والسلام وأهل الحق، وإنما تحلى بذلك أهل البيت عليهم السلام ومن وافقهم. بيان ذلك: أنهم يدينون بأن الله عدل حكيم وعلى ذلك انعقد إجماع الصحابة وإجماع الأمة وأهل البيت عليهم السلام ثابتون على ذلك بخلافهم وذلك لأن عندنا أنه تعالى لا يخلق القبائح ولا يقضي بها، وهم يقولون بأن كل ما وجد في الدنيا من ظلم وعدوان وزور وبهتان وسفه وعبث وجور وأمر بباطل ونهي عن واجب وحسن وتخريب المساجد وقتل الأنبياء والأوصياء والأئمة والأولياء والأطفال فإن ذلك كله من الله عز وجل لا شريك له في صنعه وأنه الذي تفرد بابتداعه وإنشاءه واختراعه وأنه يرضى بذلك كله ويحبه ويشاءه، ومعلوم أن من فعل ذلك لا يكون حكيماً ولا عدلاً، فإذا كنا ننفي عن الله هذه القبائح كنا على السنة والجماعة وإذا كانوا يضيفونها إلى الله تعالى لم يكونوا كذلك، لأنّا قد علمنا أن من السنة تنزيه الله تعالى عن القبائح وتقديسه عن الفضائح، فأين هم من السنة والجماعة، فصحّ أنهم للسنة مفارقون وعن الجماعة نازحون.
وقد روينا: عن أمير المؤمنين عليه السلام أن ابن الكوَّى لمَّا سأله عن السنة والجماعة والفرقة والبدعة، فقال عليه السلام: السنة والله سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والبدعة والله ما خالفها، والجماعة والله أهل الحق وإن قلّوا، والفرقة والله متابعة أهل الباطل وإن كثروا. وهذا خلاف ما يظنونه أن الكثرة تدل على الحق وأن القلة تدل على الباطل وقد ذم الله الأكثرين ومدح الأقلين في آيات كثيرة من كتابه الكريم فقال عز وعلا{وأكثرهم للحق كارهون}(المؤمنون:70) وقال تعالى{وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين}(يوسف:103) وقال تعالى{ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم}(النساء:66) وقال تعالى{وقليل ما هم}(ص:24) وقال تعالى{وقليل من عبادي الشكور}(سبأ:13) وقال تعالى{وما آمن معه إلا قليل}(هود:40).
وقد روينا عن أمير المؤمنين عليه السلام أن الحارث بن حوط سأله فقال: أترى يا أمير المؤمنين أن أهل الشام مع كثرتهم على الباطل وأهل العراق مع قلتهم على الحق؟ فقال
له: يا حار إنه لملبوس عليك إن الحق لا يعرف بالرجال وإنما الرجال يعرفون بالحق فاعرف الحق تعرف أهله قلّوا أم كثروا، واعرف الباطل تعرف أهله قلّوا أم كثروا وإن الباطل لا يعرف بالقلّة.
وروينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سأله رجل فقال: يا رسول الله أخبرني بكلمات جوامع نوافع ، فقال:(اعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وزل مع القرآن حيث زال، قال: زدني، قال:من أتاك بالحق فاقبله وإن كان بعيداً بغيضاً ومن أتاك بالباطل فاردده وإن كان حبيباً قريباً)، ولو كانت الكثرة تدل على صحة صحيح لأرشده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ودلّه عليها. وبالإسناد الموثوق به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(واقنع بقبول الحق من حيث ورد عليك وميز بعقلك ما اشتبه عليك فإنه حجة الله عليك ووديعة عندك وبرهانه فيك)، وكيف تكون الكثرة دالة على الحق والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في ابتداء أمره في قلّة من أصحابه وهو على الحق ومن اتبعه، ومن عندَ عنه من الكفار على أنهم ملئ الأرض على ضلال، فهل كان يسعهم الاعتذار من ترك متابعته بأنهم أولى بالحق منه بمكان كثرتهم ، كلاّ بل هو صلى الله عليه وآله وسلم المحق وهم المبطلون والمهتدي وهم الضالون. ومما يوضح لك الحال: أن الغالب على أكثر أهل الدنيا أنواع الفسق من الظلم والكذب والبغي والعدوان وسائر أصناف العصيان، والعدل الثقة قليل جداً بالإضافة إلى غيره بل ربما لا يوجد العدل المرضي بالبلاد الكبيرة و على كثرة أهلها، فكيف يرجح ذوي تمييز مذهبه لكثرة القائلين به. وفيما ذكرناه كفاية لمن أنصف نفسه ولم يُعم التعصب عين بصيرته، ومن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها.
قال الشيخ رحمه الله تعالى: ونحن نسأل الله العظيم أن يجعلنا بالعلم عاملين كما جعلنا له حاملين، فقد روينا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(العلم الذي لا يعمل به كالكنز الذي لا ينفق منه أتعب (نفسه صاحبه) في جمعه ثم لم يصل إلى نفعه).
قال المؤلف أمتع الله بحياته وأشركني في صالح دعواته: وهذا حين فرغنا من نسخ هذا الكتاب وتأليفه وذلك في يوم الثلاثاء لتسع عشرة مضين من شهر رجب الأصب سنة ثمان وعشرين وألف، جعله الله وسيلة إلى رضاه، ومقدمة للفوز يوم لقاه بحق محمد وآله صلى الله عليهم أجمعين آمين.
قال في الأم:
وكان الفراغ من زبر هذا الكتاب المبارك شرح الثلاثون المسأله يوم السبت لعله سادس عشر شهر شوال من شهور سنة ستة وخمسين وثلاثمائة وألف، ختمت بخبر. بقلم أسير ذنبه ورهين كسبه الراجي من الله العفو والغفران الحقير الفقير أحمد بن إسماعيل شويل وفقه الله تعالى آمين .